انتقل إلى المحتوى

ابن حزم - الإحكام في أصول الأحكام/المجلد الأول/الجزء الثالث/الباب الثالث عشر

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة


في حمل الأمر وسائر الألفاظ كلها على العموم وإبطال قول من قال في كل ذلك بالوقفأو الخصوص إلا ما أخرجه عن العموم دليل حق

قال علي : اختلف الناس في هذا الباب .

فقالت طائفة: لا تحمل الألفاظ إلا على الخصوص، ومعنى ذلك حملها على بعض ما يقتضيه الاسم في اللغة دون بعض .

وقال بعضهم: بل نقف فلا نحملها على عموم ولا خصوص إلا بدليل .

فالقول الأول هو لبعض الحنفيين، وبعض المالكيين، وبعض الشافعيين، والثاني لبعض الحنفيين، وبعض المالكيين وبعض الشافعيين .

وقالت طائفة: الواجب حمل كل لفظ على عمومه، وهو كل ما يقع عليه لفظه المرتب في اللغة للتعبير عن المعاني الواقعة تحته، ثم اختلفوا على قولين، فقالت طائفة منهم: إنما يفعل ذلك بعد أن ينظر هل خصّ ذلك اللفظ شيء أم لا، فإن وجدنا دليلاً على ذلك صرنا إليه، وإلا حملنا اللفظ على عمومه دون أن نطلب على العموم دليلاً، وهذا قول بعض الشافعيين وبعض الحنفيين.

وقالت طائفة الواجب حمل كل لفظ على عمومه، وكل ما يقتضيه اسمه دون توقف ولا نظر، لكن إن جاءنا دليل يوجب أن نخرج عن عمومه بعض ما يقتضيه لفظه صرنا إليه حينئذ، وهذا قول جميع أصحاب الظاهر، وبعض المالكيين، وبعض الشافعيين، وبعض الحنفيين، وبهذا نأخذ، وهو الذي لا يجوز غيره، وإنما اختلف من ذكرنا على قدر ما بحضرتهم من المسائل على ما قدمنا من أقوالهم فيما خلا، فإن وافقهم القول بالخصوص قالوا به.

وإن وافقهم القول بالعموم قالوا به، فأصولهم معكوسة على فروعهم ودلائلهم مرتبة على ما توجبه مسائلهم.

وفي هذا عجب : أن يكون الدليل على القول مطلوباً بعد اعتقاد القول، وإنما فائدة الدليل، وثمرته إنتاج ما يجب اعتقاده من الأقوال، فمتى يهتدي من اعتقد قولاً بلا دليل ثم جعل يطلب الأدلة بشرط موافقة قوله، وإلا فهي مطرحة عنده.

قال علي : وكل ما ذكرنا أنه يدخل على القائلين بالوقف، أو التأويل في صرف الأوامر عن الوجوب، وصرف الألفاظ عن ظواهرها، فهو أدخل على من قال بالوقف أو الخصوص ههنا، ويدخل عليهم أيضاً أشياء زائدة.

قال علي : فما احتج به من ذهب إلى أن اللفظ لا يحمل على عمومه إلا بعد طلب دليل على الخصوص، أو إلا بدليل على أنه على العموم، أن قالوا: ليست الألفاظ مقتضية للعموم بصيغها لما وجدت أبداً إلا كذلك، كما لا يوجد اسم السواد على البياض، فلما وجدنا ألفاظاً ظاهرها العموم والمراد بها الخصوص، علمنا أنها لا تحمل على العموم إلا بدليل.

قال علي : وقد تقدم إفسادنا لهذا الاستدلال فيما خلا من القول بالوجوب وبالظاهر .

ونقول ههنا: إنه ليس وجودنا ألفاظاً منقولة عن موضوعها في اللغة بموجب أن يبطل كل لفظ، ويفسد وقوع الأسماء على مسمياتها، ولو كان ذلك لكان وجودنا آيات منسوخة، لا يجوز العمل بها موجباً لترك العمل بشيء من سائر الآيات كلها، إلا بدليل يوجب العمل بها من غير لفظها، ومن قال هذا فقد كفر بإجماع، ومن لم يقله فقد تناقض، ودلّ على فساد مذهبه .

وأما قولهم: كما لا يوضع اسم السواد على البياض، فقد يوضع أسود على غير اللون، فيقال: فلان أسود من فلان من معنى السيادة، وليس ذلك بمبطل أن يكون السواد موضوعاً لعدم الألوان، وقد يقال للأسود أبو البيضاء وليس ذلك بمبطل أن يكون البياض موضوعاً للون المفرق للبصر.

وقد احتج عليهم بعض من تقدم من القائلين بالعموم فقال ليس إلى وجود لفظ عام يراد به الخصوص سبيل البتة إلا بدليل وارد يبين أنه منقول عن مرتبته إلى غيرها، كالدليل على تخصيص قوله تعالى: {تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا فَأْصْبَحُواْ لاَ يُرَى إِلاَّ مَسَاكِنُهُمْ كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ } فصح بالنص وبالظاهر، وبمقتضى اللفظ أنها لم تدمر من الأشياء إلا ما أمرت بتدميره وهذا لفظ خصوص لبعض الأشياء، لا لفظ عموم لجميعها، لكنه عموم لما قصد به، قال: وكذلك كل لفظ عموم أريد به الخصوص، قال: فلما صح ذلك بطل ما احتجوا به من وجودهم لفظاً ظاهره العموم المطلق ويراد به الخصوص.

قال علي : واحتجوا أيضاً فقالوا: لم نجد قط خطاباً إلا خاصاً لا عامّاً، فصح أن كل خطاب فإنما قصد به من بلغه الخطاب من العاقلين البالغين خاصة دون غيرهم.

قال علي : هذا تشغيب جاهل متكلم بغير علم، ليت شعري أين كان عن قوله: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَّا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَآءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } .

وأيضاً فإن الذي ذكر من توجه الخطاب إلى البالغين العقلاء العالمين بالأمر دون غيرهم، فإنما ذلك بنص وارد فيهم، فهو عموم لهم كلهم، ولم نعن بقولنا بالعموم كل موجود في العالم، وإنما عنينا كل من اقتضاه اللفظ الوارد، وكل ما اقتضاه الخطاب، فعلى هذا قلنا بالعموم، وإنما أردنا حمل كل لفظ أتى على ما يقتضي، ولو لم يقتض إلا اثنين من النوع، فإن ذلك عموم لهما، وإنما أنكرنا تخصيص ما اقتضاه اللفظ بلا دليل أو التوقف فيه بلا دليل، مثل قوله تعالى: {وَلاَ تَقْتُلُواْ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالحَقِّ وَمَن قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَاناً فَلاَ يُسْرِف فِّي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُوراً }

فقلنا هذا عموم لكل نفس حرمها الله من إنسان ملي أو ذمي لم يأتنا ما يوجب القتل لهما، ومن قتل حيواناً نهي عن قتله، إما لتملك غيرنا له، أو لبعض الأمر، ومثل قوله تعالى: {وَلاَ تَنكِحُواْ مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِّنَ النِّسَآءِ إِلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتاً وَسَآءَ سَبِيلاً } فإنما أنكرنا استباحة نفس بلا دليل ونكاح ما نكح الآباء، ومن خالفنا لزمه ألا ينفذ تحريم قتل نفس إلا بدليل، وألا يحرم كثيراً مما نكح الآباء إلا بدليل من غير هذه الآية، مبين لكل عين في ذاتها، وهذا يخرج إلى الوسواس، وإلى إبطال التفاهم وبطلان اللغة، وبطلان الدين ومثل قول رسول الله  : «البُرُّ بِالبُرُّ رِباً، إِلاَّ هاءَ وهاءَ، وَالشَّعِيرُ بِالشَّعِيرِ رِباً، إِلاَّ هَاءَ وَهاءَ، وَالتَّمرُ بِالتَّمْرِ رِباً، إِلاَّ هَاءَ وهاءَ، وَالمِلْحُ بِالمِلْحِ رِباً إِلاَّ هَاءَ وَهاءَ، وَالذَّهَبُ بِالذَّهَبِ رِباً إِلا هاءَ وَهاءَ، وَالفِضَّةُ بِالفِضَّةِ رِباً إِلاَّ هَاء وَهاء» فوجب حمل كل ذلك على كل بُر، وكل شعير، وكل تمر، وكل ملح، وكل ذهب، وكل فضة، وكقوله : «كُلُّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ» فوجب أن يحمل على كل مسكر، وكل من تعدى هذا فقد أبطل حكم اللغة، وحكم الديانة.

قال علي : وشغبوا أيضاً بآيات الوعيد مثل قوله تعالى: {وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ } {إِنَّآ أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُواْ لِلَّذِينَ هَادُواْ وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُواْ مِن كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُواْ عَلَيْهِ شُهَدَآءَ فَلاَ تَخْشَوُاْ النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلاَ تَشْتَرُواْ بِآيَاتِي ثَمَناً قَلِيلاً وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَآ أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ } قالوا: وهي غير محمولة على عمومها.

قال علي : ولولا النصوص الواردة بقبول التوبة، وبالموازنة، وبغفران السيئات باجتناب الكبائر لوجب ضرورة حمل آيات الوعيد على ظاهرها وعمومها، ولكن صرنا إلى بيان خطاب آخر، وكذلك القول في الآية الأخرى، وفي كل آية وخطاب حديث وخبر، ونحن لا ننكر تخصيص العموم بدليل نص آخر أو ضرورة حس، وإنما أنكرنا تخصيصه بلا دليل.

قال علي : وسألونا أيضاً فقالوا: تعتقدون في أول سماعكم الآية والحديث، قبل تفهمكم فالجواب: إننا نعتقد العموم ولا بد من ذلك، وإلا أننا في أول سماعنا وقبل تفقهنا لسنا مفتين ولا حكاماً ولا منذرين، حتى نتفقه، فإذا تفقهنا حملنا حينئذ كل لفظ على ظاهره وعمومه وحكمنا بذلك، وأفتينا وتدينا إلا ما قام عليه دليل أنه ليس على ظاهره وعمومه فنصير إليه، ولو أن حاكماً، أو مفتياً لم يبلغه تخصيص ما بلغه من العموم، لكان الفرض عليهما الحكم بالذي بلغهما من العموم والفتيا به، وإلا فهما فاسقان حتى يبلغهما الخصوص فيصير إليه.

ثم نعكس عليهم هذا السؤال فنقول: ماذا تعتقدون في الآية والحديث إذا سمعتموها قبل تفقهكم، أتعتقدون في بطلان الطاعة لهما، وأنهما منسوخان، أو تعتقدون وجوب الطاعة لهما وأنهما مستعملان محكمان، ما لم يقم دليل على نسخهما ؟

فإن قالوا: نعتقد أنهما منسوخان، وأنهما على الوقف فارقوا قول جميع المسلمين، وأدى ذلك إلى إبطال جميع الشرائع ومفارقة الإسلام، لأن الدليل الذي يطلب على بطلان النسخ ليس إلا آية أخرى، أو نصّاً أو إجماعاً، ويلزمهم من الوقف في الآية الأخرى، وفي الحديث الآخر أو من القول بأنهما منسوخان ما لزم في الخطاب الأول، ولا فرق، وهكذا أبداً، ولزمهم الوقف أيضاً في دعواهم الإجماع، لعل ههنا خلافاً فبطلت الديانة على قولهم، ووجب بهذا القول ألا يعمل أحد بشيء من الدين إذ لعل ههنا شيئاً خصّه أو شيئاً نسخه، وهذا خلاف دين الإسلام، ونحن نبرأ إلى الله تعالى من كل قول أدى إلى هذا، وإن قالوا: بل على أنهما محكمان حتى يقوم دليل على أنهما منسوخان رجعوا إلى الحق، وهذا يلزمهم في القول بالوقف أو الخصوص ولا فرق.

قال علي : وشغبوا أيضاً فقالوا: نحن في الخطاب الوارد كالحاكم، شهد عنده شاهدان، فلا بد له من السؤال عنهما والتوقف حتى تصح عدالتهما.

قال علي : وهذا تشبيه فاسد، لأن الشاهدين لو صحّ عندنا قبل شهادتهما أنهما عدلان فهما على تلك العدالة، ولا يحل التوقف على شهادتهما، والفرض إنفاذ الحكم بها ساعة يشهدان، وكذلك ما أيقنَّا أنه خطاب الله تعالى، أو خطاب رسوله لنا، وإنما نتوقف في الشاهدين إذا لم نعلمهما، وكذلك نتوقف في الخبر إذا لم يصح عندنا أنه عن النبي فلا نحكم بشيء من ذلك.

قال علي : ومما احتجوا به أن قالوا قال الله تعالى: {تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا فَأْصْبَحُواْ لاَ يُرَى إِلاَّ مَسَاكِنُهُمْ كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ } قال تعالى: {مَا تَذَرُ مِن شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلاَّ جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ } وقال تعالى: {إِنِّي وَجَدتُّ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِن كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ } وقد علمنا أن الريح تدمر كل شيء في العالم، وأن بلقيس لم تؤت كل شيء، لأن سليمان عليه السلام أوتي ما لم تؤت هي.

قال علي : وهذا كله لا حجة لهم فيه أما قوله تعالى: {تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا فَأْصْبَحُواْ لاَ يُرَى إِلاَّ مَسَاكِنُهُمْ كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ }

فإنا قد قلنا إن الله تعالى لم يقل ذلك وأمسك، بل قال تعالى: {تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا فَأْصْبَحُواْ لاَ يُرَى إِلاَّ مَسَاكِنُهُمْ كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ } فصح بالنص عموم هذا اللفظ، لأنه تعالى إنما قال: إنها دمرت كل شيء على العموم من الأشياء التي أمرها الله تعالى بتدميرها فسقط احتجاجهم بهذه الآية، وأما قوله: {مَا تَذَرُ مِن شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلاَّ جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ } فهذه الآية مبطلة لقولهم، لأنه إنما أخبر أنها دمرت كل شيء أتت عليه لا كل شيء لم تأت عليه فبطل تمويههم.

وأما قوله تعالى: {إِنِّي وَجَدتُّ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِن كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ } فإنما حكى تعالى هذا القول عن الهدهد، ونحن لا نحتج بقول الهدهد، وإنما نحتج بما قاله الله تعالى مخبراً به لنا عن علمه، أو ما حققه الله تعالى من خبر من نقل إلينا خبره، وقد نقل تعالى إلينا عن اليهود والنصارى أقوالاً كثيرة، ليست مما تصح.

فإن قال قائل: فإن سليمان عليه السلام قال للهدهد: {قَالَ سَنَنظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنتَ مِنَ الْكَاذِبِينَ } قلنا نعم، ولكن لم يخبرنا الله تعالى أن الهدهد صدق في كل ما ذكر، فلا حجة لهم في هذه الآية أصلاً.

ثم نقول لهم، وبالله تعالى التوفيق: إذا احتججتم بهذه الآيات في حمل القرآن، وكلام النبي على الخصوص لا على العموم، فالتزموا ذلك، ولسنا نبعدكم عن هذه الآية التي احتججتم بها، فنقول لكم، قول الله تعالى: {وَلَقَدْ مَكَّنَاهُمْ فِيمَآ إِن مَّكَّنَّاكُمْ فِيهِ وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعاً وَأَبْصَاراً وَأَفْئِدَةً فَمَآ أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلاَ أَبْصَارُهُمْ وَلاَ أَفْئِدَتُهُمْ مِّن شَيْءٍ إِذْ كَانُواْ يَجْحَدُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَحَاقَ بِه مَّا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ } فأخبرونا على قوله تعالى، في هذه الآية، إن سمعهم وأبصارهم وأفئدتهم لم تغن عنهم شيئاً أهو على عمومه ؟

أم يقولون: إنها أغنت عنهم شيئاً ؟

فإن قلتم كذبتم ربكم، وإن لم تقولوا، تركتم مذهبكم الفاسد، ومثل هذا في القرآن كثير جداً، بل هو الذي لا يوجد غيره أصلاً في شيء من القرآن والكلام إلا في مواضع يسيرة قد قام الدليل على خصوصها، ولولا قيام الدليل على خصوصها لم يحل لأحد أن يحملها إلا على العموم، وبالله تعالى التوفيق.

قال علي : وموَّهوا أيضاً بما هو عليهم لا لهم، وهو تردد بني إسرائيل في أمره تعالى لهم بذبح البقرة.

قال علي : ومن كان هذا مقداره في العلم فحرام عليه الكلام فيه، لأن الله تعالى ذمهم بذلك التوقف أشد الذم، أفيسوغ لمسلم أن يقوي مذهبه بأنه موافق لأمر ذمَّه الله عز وجل ؟ ولو لم يكن في ترددهم إلا قولهم لموسى عليه السلام: {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُواْ بَقَرَةً قَالُواْ أَتَتَّخِذُنَا هُزُواً قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ }

جواباً لقوله: {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُواْ بَقَرَةً قَالُواْ أَتَتَّخِذُنَا هُزُواً قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ } ومن خاطبه نبي عن الله عز وجل بأمر ما، فجعله المخاطب هزواً فقد كفر.

قال علي : فحسبهم وحسبنا لهم اقتداؤهم باليهود الحاملين كلام ربهم تعالى على أنه هزء، واحتجوا بقوله: {بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَّهُ صَاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } وهو عز وجل غير مخلوق، وبقوله تعالى: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ } .

قال علي : وإنما قال ذلك لهم بعض الناس، وإنما كان الجامعون لهم بعض الناس لا كلهم.

قال علي : نحن لا ننكر أن يرد دليل يخرج بعض الألفاظ عن موضوعها في اللغة، بل أجزنا ذلك، وهاتان الآيتان قد قام البرهان الضروري على أن المراد بخلقه تعالى كل شيء: أن ذلك في كل ما دونه عز وجل على العموم، وهذا مفهوم من نص الآية، لأنه لما كان تعالى هو الذي خلق كل شيء، ومن المحال أن يحدث أحد نفسه لضرورات براهين أحكمناها في كتاب «الفصل» ، صح أن اللفظ لم يأت قط لعموم الله تعالى فيما ذكر أنه خلقه، وكذلك لما كان المخبرون لهؤلاء بأن: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ } ناساً غير الناس الجامعين، وكان الناس الجامعون لهم غير الناس المخبرين لهم، وكانت الطائفتان معاً غير المجموع لها، علمنا أن اللفظ لم يقصد به إلا ما قام في العقل، وإنما ننكر دعوى إخراج الألفاظ عن مفهومها بلا دليل، وكذلك لا ننكر نسخ الأمر كله بدليل يقوم على ذلك، وإنما ننكر دعوى النسخ بلا دليل.

قال علي : وموَّهوا أيضاً بأن قالوا: لو كان للعموم صيغة تقتضيه، ولفظ موضوع له، لما كان لدخول التأكيد عليه معنى، لأنه كان يكتفى في ذلك باللفظ الدال على العموم.

قال علي : وهذا تعليم منهم لربهم أشياء استدركوها لا ندري ما ظنهم فيها، أنسيان أم فوات أم عمد ؟

وكل هذا كفر، وهذا جري منهم على عادتهم في الحكم بالقياس في أشياء ادعوا أن ربهم تعالى لم يذكرها، ولا حكم فيها، ونحن نبرأ إلى الله تعالى من ذلك، ونقول: إنه لا علم لنا إلا ما علمنا، وأن التأكيد في اللغة موجود كثير، كتكراره تعالى ما كرر من الأخبار، وكتكراره عز وجل سورة واحدة: {فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ } وغيرها إحدى وثلاثين مرة: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَآءُ } و: {لاَ يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ } ولهذا أعظم الفائدة لأنه تعالى علم أنه سيكون في خلقه قوم أمثالهم يرومون إبطال الحقائق فحسم من دعاويهم ما شاء بالتأكيد، وليقيم بذلك الحجة عليهم وترك التأكيد فيما شاء، ليضلوا فيها ويستحق منهم من قلد وعاند العذاب الأليم، ويؤجر من أطاع وسلم الأجر الجزيل بمنّه وطوله، لا إله إلا هو.

ولو أنه تعالى لم يكرر ما كرر من أخبار الأمم السالفة، ومن أمره فأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة، في غير ما موضع، ومن أمره تعالى بالإيمان واجتناب الكفر في غير ما سورة، ومن ذكر النار والجنة في غير ما سورة فما كان ذلك مسقطاً لوجوب ما وجب من ذلك كله إذ كرره، ولكان ذلك واجباً بذكره مرة واحدة، كوجوبه إذا ذكر ألف ألف مرة ولا فرق، ولكان الشك في خبر ذكر مرة واحدة، أو تكذيبه يوجب الكفر، كوجوب الكفر بالشك فيما كرره ألف مرة، وكوجوب الكفر بتكذيبه ولا فرق، وقد ذكر تعالى قصة موسى عليه السلام في مواضع كثيرة من القرآن، ولم يذكر قصة يوسف عليه السلام إلا مرة واحدة، ولا فرق عند أحد من الأمة بين صحة قصة يوسف، وبين صحة قصة موسى عليهما السلام، ومن شك في ذلك فهو كافر مشرك حلال الدم والمال، فالتأكيد كالتكرار ولا فرق، ولو لم يؤكد تعالى ما أكد لكان واجباً وعامّاً، لا يقتضيه اسمه، كوجوبه مع التأكيد، ولا فرق، وإنما معنى التأكيد كمعنى قول القائل: أنا شهدت فلاناً، ونظرت إليه بعينيَّ هاتين، وهو يفعل أمر كذا، وقد علمنا أن النظر لا يكون إلا بالعينين، وكذلك يقول سمعت بأذني والسمع لا يكون إلا بالأذنين، ولو سكت عن ذلك لعلمنا من خبره كالذي علمنا إذا ذكر العينين والأذنين ولا فرق.

وأيضاً فإن الاستثناء جائز بعد التأكيد، كجوازه قبل التأكيد فنقول: رأيت الوجوه إلا فلاناً، فلو كان التأكيد مخرجاً للكلام عن الخصوص إلى العموم لما جاز فيه الاستثناء، فصح أنه بمنزلة التكرار ولا فرق.

قال علي : ثم نعكس عليهم سؤالهم الفاسد، فنقول لهم: لو جاز أن تكون صيغة العموم للخصوص لما جاز أن يدخل عليها للتأكيد فينقلها إلى العموم، وهذا لهم لازم، لأنهم صححوا هذا السؤال، فكل من صحح القضية فهي لازمة له، وليست لازمة لمن يصححها ولا ابتدأ السؤال.

قال علي : ولو صح قولهم لوجب أن يكون كل شيء انتقل عن حاله باطلاً، وأن يكون ذلك الانتقال دليلاً على أن المنتقل لم يكن حقّاً، لأنه يلزمهم أن الشيء لو كان حقّاً لما صار باطلاً، ولما قام دليل على بطلانه، ونحن نجد الحياة للإنسان باتصال النفس في الجسد، ثم تذهب تلك الحياة وتبطل بيقين، فيلزمهم إذ قالوا: لو كان العموم حقّاً لما انتقل لفظه إلى خصوص، أن يقولوا: لو كانت الحياة حقّاً لما انتقل حاملها إلى الموت، هذا مع افتقار دليلهم هذا إلى دليل، وأنه دعوى مجردة ساقطة، لأن دعواهم أن انتقال الشيء عن مرتبته مبطل لكونها مرتبة لها دعوى ساقطة، يشبه سؤال السوفسطائية واليهود، وقد أبطلنا استدلالهم في ذلك في كتاب «الفصل» بحمد الله تعالى.

قال علي : وقالوا أيضاً: لو كان العموم حقّاً لما حسن الاستثناء منه، وصرفه بذلك إلى الخصوص.

قال علي : وهذا غاية التمويه، لأن العموم صيغة ورود اللفظ الجامع لأشياء ركب ذلك اللفظ عليها، فإذا جاء الاستثناء، كان ذلك اللفظ مع الاستثناء معاً صيغة للخصوص، وهذا نصّ قولنا، فورود الاستثناء عبارة عن الخصوص وعدم الاستثناء عبارة عن العموم.

قال علي : ثم يعكس عليهم هذا السؤال نفسه فيقال لهم: لو كان للخصوص صيغة لما كان للاستثناء معنى، لأنه لم يكن يستفاد به فائدة أكثر مما يفهم من اللفظ قبل ورود الاستثناء، وقد قدمنا أنه إنما يلزم القضية من صححها وسأل بها، وأما نحن، فهذه كلها سؤالات فاسدة، ولكنها لهم لازمة إذا ابتدؤوا بالسؤال بها.

وقالوا أيضاً: لو كان اللفظ يقتضي العموم ما حسن فيه الاستفهام، أخصوصاً أراد أم عموماً؟ فلما حسن فيه الاستفهام علمنا أنه لا يقتضي العموم بنص لفظه.

قال علي : وهذا كالأول، وإنما يحسن الاستفهام من جاهل بحدود الكلام، واستفهام المستفهم عن الآية أو الحديث مذموم، وقد أنكر ذلك رسول الله وقال: «اتْرُكُونِي ما تَرَكْتُكُم» ، ثم نعكس عليهم هذا السؤال نفسه فنقول لهم: لو كان اللفظ يفهم منه الخصوص، لما كان للاستفهام معنى.

قالوا: ألا ترى أن السؤال والاستفهام لا يحسن في الخبر عن الواحد، لأنه مفهوم من نص لفظه.

قال علي : وهذا خطأ، لأن الاستفهام يحسن في الواحد كحسنه في العموم، وذلك أن يقول القائل: أتاني اليوم زيد، فيقول السامع: أجاءك زيد نفسه ؟

إما على سبيل الإكبار، وإما على سبيل السرور، أو على بعض الوجوه المشاهدة، وهذا أمر معلوم لا ينكره ذو عقل، وقد يحسن ذلك الشريعة أيضاً من طالب راحة أو تخفيف، كما سأل ابن أم مكتوم إذ نزلت آية المجاهدين، فطلب أن يخرج له عذر من عموم اللفظ الوارد، وقد كان له كفاية في غير هذه الآية في قوله تعالى: {لَّيْسَ عَلَى الضُّعَفَآءِ وَلاَ عَلَى الْمَرْضَى وَلاَ عَلَى الَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ مَا يُنفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُواْ للَّهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِن سَبِيلٍ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } وما أشبه ذلك، وكسؤال العباس في الإذخر فاستثنى من العموم في النهي عن أن يختلى خلا الحرم بمكة، وقد يحسن أيضاً الاستفهام في العدد، كقول القائل: أتاني عشرة من الناس في أمر كذا فيقول له السامع: أعشرة ؟ فيقول: نعم وذلك نحو قول الله عز وجل: { ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ }

فقد كنا نعلم لو لم يذكر تعالى العشرة، إن ثلاثة وسبعة عشرة، وقد كنا نعلم بقوله تعالى: {وَأَتِمُّواْ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ للَّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ وَلاَ تَحْلِقُواْ رُؤُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضاً أَوْ بِهِ أَذًى مِّن رَّأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِّن صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ فَإِذَآ أَمِنتُمْ فَمَن تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ذلِكَ لِمَن لَّمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَاتَّقُواْ اللَّهَ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ } إنها عشرة، ولكنه تعالى ذكر {وَأَتِمُّواْ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ للَّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ وَلاَ تَحْلِقُواْ رُؤُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضاً أَوْ بِهِ أَذًى مِّن رَّأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِّن صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ فَإِذَآ أَمِنتُمْ فَمَن تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ذلِكَ لِمَن لَّمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَاتَّقُواْ اللَّهَ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ } كما شاء، فلما صحّ كل ما ذكرناه وحسن الاستفهام عن اسم واحد، وعن العدد وهو لا يحتمل صرفاً عن وجهه أصلاً، ولم يكن ذلك مجيزاً لوقوع اسم الواحد على أكثر من واحد، وكذلك في العدد لم يكن أيضاً وقوع الاستفهام في العموم، موجباً لإسقاط حمله على العموم، وبالله تعالى التوفيق.

وقالوا أيضاً : أرأيتم قولكم بالعموم ؟ أبعموم قلتموه وعلمتم صحته، أم بغير عموم ؟

قال علي : وهذا من الهذيان الذي قد تقدم إبطالنا إياه في كلامنا في حجة العقل، وهو سخف أتى به بعض السوفسطائيين القاصدين إبطال الحقائق، وهو ينعكس عليهم في قولهم بالخصوص وفي قولهم بالوقف، فيقال لهم: أرأيتم قولكم بالوقف، أبِوَقْفٍ قلتموه وعلمتموه أم بغير وقف ؟ وأرأيتم قولكم بالخصوص، أبخصوص قلتموه وعلمتموه أم بغير خصوص ؟

والجواب الصحيح المبين لجهلهم: هو أننا نقول، وبالله تعالى التوفيق: إنما قلنا بالعموم استدلالاً بضرورة العقل الحاكم بأن اللغة إنما هي رتبت لكل معنى في العالم، عبارة مبينة عنه موجبة للتفاهم بين المخاطَبِ والمخاطِبِ، ولأننا وجدنا الأجناس العامة للأنواع الكثيرة، ووجدنا الأنواع العامة للأشخاص الكثيرة يخبر عنها بأخبار، وترد فيها شرائع لوازم، فلا بد ضرورة من لفظ يخبر به عن الجنس كله، وهذا لا بد منه، وإلا بطل الخبر عن الأجناس، وهذا ما لا سبيل إليه أصلاً، ولا بد أيضاً من لفظ يحضر به عن بعض ما تحت الجنس، ليفهم المخاطب بذلك ما يريد، ومبطل هذا مبطل للعيان، جاحد للضرورات.

وسألوا أيضاً فقالوا: إن كان قولكم بالعموم والظاهر حقّاً، فما قولكم فيمن سمع آية قطع يد السارق، وآية جلد الزناة، وآية تحريم المرضعات لنا، والراضعات معنا، ولم يسمع أحاديث التخصيص لكل ذلك، ولا آية التخصيص للإماء، أتأمرونه بقطع يد من سرق فلساً من ذهب، وبجلد الأمَة والعبد مائة مائة إذا زنيا، وتحرمون من أرضعت رضعتين، وتقولون إنه مأمور من عند الله تعالى بذلك؟ فلزمكم القول بأنه مأمور بما لم يأمر به، والقول بأنه مأمور بالباطل أو تأمرونه بألا ينفذ شيئاً من ذلك حتى يطلب الدليل فيتركون القول العموم بالظاهر.

قال علي : فنقول، وبالله تعالى التوفيق: إن الله تعالى لم يأمر قط بقطع سارق أقل من ربع دينار ذهباً ولا حرم قط من أرضعت أقل من خمس رضعات، ولا أمر قط بجلد العبد والأمة أكثر من خمسين، لأن الرسول قد بيَّن كل ذلك وكلامه وكلام ربه سواء، في أنه كله وحي، وفي أنه كله لازمة طاعته، فالآيات التي ذكروا، والأحاديث المبينة، لها مضموم كل ذلك بعضه إلى بعض غير مفصول منه شيء عن آخر، بل هو كله كآية واحدة أو كلمة واحدة، ولا يجوز لأحد أن يأخذ ببعض النص الوارد دون بعض، وهذه النصوص وإن فرقت في التلاوة فالتلاوة غير الحكم، ولم تفرق في الحكم قط، بل بيَّن النبي ذلك مع ورود الآي معاً، ولا يفرق بين قوله تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا جَزَآءً بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِّنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ } مع قوله  : «لاَ قَطْعَ في أَقَلِّ مِنْ رُبْعِ دِينارٍفَصَاعِداً» وبين قوله تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلاَّ خَمْسِينَ عَاماً فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ وَهُمْ ظَالِمُونَ } .

وكذلك لا فرق بين قوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالاَتُكُمْ وَبَنَاتُ الأَخِ وَبَنَاتُ الأُخْتِ وَأُمَّهَاتُكُمُ اللاَّتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُم مِّنَ الرَّضَاعَةِ وَأُمَّهَاتُ نِسَآئِكُمْ وَرَبَائِبُكُمُ اللاَّتِي فِي حُجُورِكُمْ مِّن نِّسَآئِكُمُ اللاَّتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِن لَّمْ تَكُونُواْ دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ وَحَلاَئِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلاَبِكُمْ وَأَن تَجْمَعُواْ بَيْنَ الاخْتَيْنِ إَلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُوراً رَّحِيماً } وبين نزول خمس رضعات محرمات ناسخة لعشر محرمات، وبين قول القائل: لا إله إلا الله، فلا يجوز أن يفصل شيء من ذلك في الحكم عن بيانه، كما لا يحل لأحد أن يأخذ القائل لا إله إلا الله في بعض كلامه دون بعض، فيقضي عليه بقوله: لا إله بالكفر، لكن نضم كلامه كله بعضه إلى بعض فنأخذه بكلامه. وكذلك إذا نزلت الآية المجملة أتى بعقبها الأحاديث المفسرات فكان ذلك مضموناً بعضه إلى بعض، ومستثنى بعضه من بعض، ومعطوفاً بعضه على بعض، فبطل ما راموا أن يموِّهوا به، وصح أنه سؤال فاسد، وأن الذين خوطبوا بالآيات المذكورات خوطبوا ببيانها معاً، وأما نحن فكل إنسان منا فلا يخلو من أحد وجهين: إما أن يكون لم يتفقه في الدين، أو يكون قد تفقه في الدين ولا سبيل إلى وجه ثالث، فالذي لم يتفقه في الدين وليس من الذين خاطبهم الله بقوله تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا جَزَآءً بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِّنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ } ولا من الذين خوطبوا بالفتيا والحكم في تحريم المرضعات، ولا من المأمورين بجلد الزناة، وإنما أمر بذلك كله الفقهاء والحكام العالمون باللغة والفقه، بلا خلاف من أحد من المسلمين في ذلك. وقد بيَّن تعالى ذلك بقوله: {وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُواْ كَآفَّةً فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَآئِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُواْ إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ } فصح بالنص أنه ليس كل أحد مأموراً بالتفقه في غير ما يخصه في نفسه.

فصح بما ذكرنا أن المأمورين بتنفيذ الأحكام والفتيا في الدين الفقهاء الذين قد سمعوا النصوص كلها، وعرفوها وعرفوا الإجماع والاختلاف، وأن كل من كان بخلاف هذه الصفة، فلم يأمر قط بقطع من سرق جبالاً من ذهب، ولا بأن يفتي في تحريم من أرضعت ألف رضعة، ولا بجلد زان حرّاً أو عبداً، وكل متفقِّه فقبل أن يكمل تعلم النصوص والإجماع فهو غير مأمور، ولا مخاطب بالحكم في شيء ولا بالفتيا في شيء، لكنه مأمور بالطلب والتعليم، فإذا فقه فحينئذ لزمه تنفيذ ما سمع على عمومه وظاهره، ما لم يأت نص بنسخ أو تخصيص أو تأويل، فبطل سؤالهم بطلاناً ظاهراً، والحمد لله تعالى.

ولكنا نقول: لو أن امرأً سمع هذه الآيات، ولم يسمع ما خصصها لكان حكى العمل بما يبلغه التخصيص، فيلزمه حينئذ كما قلنا في المنسوخ، سواء بسواء وليس بعد النبي من أحاط بجميع العلم، وإنما يلزم كل واحد ما بلغه، وقد رجم عثمان التي ولدت لستة أشهر، وقد أمر عمر برجم مجنونة حتى نهاه عليّ عن ذلك وأخبره بأن النبي أخبر أن القلم مرفوع عن المجنون.

قال علي : وهم تناقضوا في هذه الآيات بلا دليل، فحملوا بعضها على العموم، وبعضها على الخصوص، فتركوا قولهم بالوقف، وحملوا على العموم ما قد صحّ الخصوص فيه، واعترضوا أيضاً بأن قالوا: لما كان المعهود أن يقول القائلون: جاءني بنو تميم، وفسد الناس، ولا خير في واحد، وذهب الخلق وذهب الوفاء، ولا يكون ذلك كذباً، وقد تيقَّنا أنه لم يرد بذلك جميع بني تميم، ولا جميع الناس، ولا جميع الأحدين، ولا جميع الخير، ولا جميع الخلق ولا الوفاء كله صح الخصوص.

قال علي : وهؤلاء القوم لا ندري مع من يتكلمون، ونحن لم ننكر أن يكون في اللغة ألفاظ يقوم الدليل على أنها مخصوصات، وكل ما ذكروا فقد قام الدليل على أنه ليس على عمومه كما قام الدليل، على أن آيات كثيرة أنها منسوخة لا يحل العمل بها، فلما لم يكن كل ذلك واجباً أن تحمل النسخ من أجله على سائر الآيات، لم يكن أيضاً واجباً أن نحمل التخصيص على كل لفظ من أجل وجودنا ألفاظاً كثيرة قد قام الدليل على أنها مخصوصة، ولكن القوم يسوموننا إذا وجدنا لفظاً منقولاً عن موضوعه في اللغة أن نحكم بذلك في كل لفظ، وفي هذا إبطال اللغة كلها، وإبطال التفاهم وإيجاب للحكم بلا دليل، والدليل الذي قام على تخصيص ما ذكروا، علمنا أنه لو أراد به العموم لكان كاذباً، وأما لو أمكن أن يكون صادقاً لما انتقل عن عمومه إلا بدليل.

قال علي : وقالوا أيضاً: قد اتفقنا على وجوب استعمال الخطاب على بعض ما اقتضاه، واختلفنا في سائره، فلا يلزمنا إلا ما اتفقنا عليه.

قيل لهم وبالله تعالى التوفيق: هذا اعتراض فاسد من وجوه كثيرة أحدها: أنه خلاف النصوص والعقول والإجماع، لأن الأمة مجمعة، والعقول قاضية، والنصوص من القرآن والسنن واردة كل ذلك متفق أن ما قام عليه دليل برهاني فواجب المصير إليه، وإن اختلف الناس فيه وواجب ألا نقتصر على ما أجمع عليه دون ما اختلف فيه إلا في المسائل التي لا دليل عليها إلا الإجماع المجرد المنقول إلى النبي .

وأيضاً فقد قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً } فأمر تعالى عند التنازع بالرد إلى القرآن والسنة ودلائلهما قد قامت بوجوب حمل الألفاظ على موضوعها في اللغة.

وأيضاً فإن هذا من سؤالات اليهود إذ قالوا: قد وافقتمونا على نبوة موسى عليه السلام، وخالفناكم في نبوة محمد ، وهذا سؤال فاسد، لأن الدلائل التي أوجبت تصديق موسى عليه السلام، هي التي أوجبت تصديق محمد ، فإن لم يجب بها تصديق نبوة محمد لم يجب بها تصديق نبوة موسى عليه السلام، وكذلك الدلائل التي دلت على حمل لفظ الخصوص هي التي دلت على حمل العموم على العمل، والدلائل التي دلت على حمله على سائره الذي خالفتمونا فيه، ولا فرق.

وأيضاً، فإنهم مناقضون لهذا القول، لأنه كان يلزمهم على ذلك ألا يقتلوا مشركاً إلا مشركاً اتفقوا على قتله، وهم لا يفعلون، لأن قائل هذا إن كان مالكياً فقد ناقض، لأنه لم يقتل المرأة المرتدة، ولم يتفق على قتلها، ويقتل ولد المرتد الحادث له الردة إذا بلغ ولم يسلم، وابن ابنه كذلك، ولم يتفق على قتلهم، ويقتل المشرك إذا سب النبي ولم يتفق على قتله، وإن كان شافعياً، فكذلك أيضاً.

ويقتل زائداً على من ذكرنا من خرج من اليهودية إلى النصرانية، ومن خرج من النصرانية إلى اليهودية إلا أن يسلم، وإن كان حنفيّاً، فهم يقتلون المسلم المختلف في قتله، إذا قتل كافراً، بعموم قوله تعالى: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَآ أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالأَنْفَ بِالأَنْفِ وَالأُذُنَ بِالأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَن تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَّهُ وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَآ أنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ } وأن من تورع عن قتل كافر قد أباح الله تعالى قتله، وجاء النص بقتله، وأقدم على قتل مسلم قد حرم الله دمه عموماً وخصوصاً بعموم آية لم نخاطب بها، ولا ألزمنا الحكم بما فيها، لعظيم الجرم قليل الورع مقدم على أكبر الكبائر، وبالله تعالى التوفيق.

وكذلك إن قال: لا أقطع إلا سارقاً اتفق على قطعه، فهم أيضاً ينكرون ذلك لأنهم نعني المالكيين يقطعون في أقل من عشرة دراهم، وليس متفقاً عليه، ويقطعون في الزرنيخ والنورة والفاكهة واللحم، وليس القطع في ذلك إجماعاً، والحنفيون يقطعون من سرق شيئاً مغصوباً من مال الغاصب، وليس قطعهم إجماعاً، ويلزمهم بهذا القول إلا يقولوا إلا بما أجمع عليه.

قال علي : وهم لا يفعلون ذلك البتة، فقد أفسدوا دليلهم وبالله تعالى التوفيق، فإنه يقال لهم: أبنص صح عندكم هذا القول أم بإجماع ؟

فإن قالوا: بنص، أو ذكروا دليلاً ما، كذبوا، وادعوا ما لا يجدون أبداً، وكانوا مع كذبهم قد تركوا قولهم بألا يقولوا إلا بما أجمع عليه، لأنهم يقولون بالنص، وإن خالف الإجماع، وإن قالوا: قلنا ذلك بإجماع كذبوا وجاهروا.

وبالجملة فهذا مذهب لم يخلق له معتقد قط، وهو ألا يقول القائل بالنص حتى يوافقه الإجماع، بل قد أصبح الإجماع على أن قائل هذا القول معتقداً له كافل بلا خوف لرفضه القول بالنصوص التي لا خلاف بين أحد في وجوب طاعتها.

قال علي : وقالوا أيضاً: إن على المراد بالكلام دلائل تدل على الرضا والسخط، من تغيير اللون، وحدة الأمر والنَّجْه والبشر.

قيل لهم وبالله تعالى التوفيق: ليس هذا مما نحن فيه، ولا كون هذه الأحوال مما يمنع من إخراج الأمر على العموم، ثم نعكس عليهم هذا في قولهم بالخصوص والوقف فيلزمهم الوقف إلى أن يجتمعوا بالنبي يوم القيامة، وفي هذا إبطال الدين والخروج عن الإسلام، وتشبه هذه التساؤلات أن تكون سؤالات ملحد جاهل قليل الحياء.

وقالوا أيضاً: إنكم اعتقدتم العموم فيما أراد الله تعالى به الخصوص، فقد خالفتموه عز وجل، قيل لهم وأنتم إن أردتم الخصوص فيما أراد الله تبارك وتعالى العموم، فقد خالفتموه عز وجل، وإن اعتقدتم الوقف فيها حكم الله تعالى فيه بما حكم، من عموم أو خصوص فلا بد من أحدهما فقد خالفتم الله عز وجل بيقين لا شك فيه، ولا شك في أن الله تعالى لم يرد قط في شيء من أحكامه وقفاً، بل أنفذ تعالى الحكم بما أنفذ.

وأيضاً فنحن قاطعون على أن كل أمر لم يأت نص ولا إجماع بأنه ليس على عمومه، فهو على عمومه بلا شك ولا مرية، نقطع على ذلك عند الله عز وجل، ونقطع أيضاً بأن كل من بلغه العموم ولم يبلغه الخصوص، أو بلغه المنسوخ ولم يبلغه الناسخ، فإن الله تعالى لم يلزمه قط إلا ما بلغه لا ما لم يبلغه، قال تعالى: {قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادةً قُلِ اللَّهِ شَهِيدٌ بِيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَـذَا الْقُرْآنُ لأُنذِرَكُمْ بِهِ وَمَن بَلَغَ أَئِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللَّهِ آلِهَةً أُخْرَى قُل لاَّ أَشْهَدُ قُلْ إِنَّمَا هُوَ إِلَـهٌ وَاحِدٌ وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ } ، ونقطع بأن هذا كله هو الحق عند الله عز وجل لنصه تعالى، على أن عليه بيانه فما لم يبين على غير وجهه، فقد تيقَّنا على أنه مراد منا على اقتضاء لفظه، ولا بد.

قال علي : فهذه اعتراضاتهم كلها قد استوعبناها ونقضناها، وبيَّنا فسادها كلها وانعكاسها عليهم من فسادها بحمد الله تعالى، ونحن الآن شارعون بتوفيق الله تعالى لنا وعونه إيانا في إيراد البراهين على بطلان قولهم ووجوب حمل الألفاظ على عمومها، وبالله تعالى التوفيق.

قال علي : واحتج من سلف من القائلين بالعموم، المخالفين في ذلك فقال: لو كان الخطاب على الوقف أو الخصوص حتى يقوم الدليل على العموم، لكان ذلك الدليل لا ينفك ضرورة من أحد وجهين لا ثالث لهما :

وإما أن يكون لفظاً بخطاب أو معنى مستخرجاً من خطاب، فإن كان خطاباً فالخطاب الثاني كالأول، ولا فرق إن كان يدل بنفسه على العموم، فالأول مثله، وإن كان الأول لا يدل بنفسه على أنه على العموم، فالثاني لا يدل أيضاً، وإن كان معنى مستخرجاً من خطاب، فلا يجوز أن يكون المعنى المستخرج من الخطاب أقوى من الخطاب الذي منه استخرج وهذا يقتضي وجوب خطابات لا نهاية لها، وهذا ممتنع لا سبيل إليه، ويؤدي أيضاً إلى إبطال فهم كل خطاب أصلاً.

وقالوا أيضاً: إننا وجدنا في اللغة أسماء للواحد لا تتعداه كزيد وكرجل من شأنه وصفته فلا يعقل منه أكثر من واحد، ووجدنا فيها أسماء التثنية لا تقع على واحد ولا على أكثر من اثنين، ووجدنا أيضاً لفظاً للجمع الزائد على الاثنين، فكان ذلك واقفاً على كل ما يقتضيه الجمع إلا أن يأتي بيان باستثناء أو بصفة أو بعدد يختص بذلك بعض الجمع دون بعض فتصير إليه.

وقالوا: يقال لمن قال بالخصوص: ما معنى قولكم هذا خصوص ؟

فلا جواب لهم إلا أن يقولوا هو حمل للاسم على بعض ما يقتضيه دون بعض مثل قوله تعالى: {فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُواْ الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُواْ لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ فَخَلُّواْ سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ }

فيقولون: هذا على بعض المشركين دون بعض، فيقال لهم فبأي شيء استحق عندكم هذا البعض الذي حملتم اللفظ عليه أن يكون محمولاً عليه ذلك اللفظ دون سائر من أخرجتم عنه ؟

وما الفرق بينكم وبين من قال: بل اللفظ محمول على الذي أخرجتم عنه أنتم، وغير محمول على الذين حملتموه أنتم عليه، فإن قالوا: الدليل كذا صاروا إلى أن التخصيص إنما كان بدليل غير حمل اللفظ على بعض ما يقتضيه دون بعض بغير دليل، وهذا الأمر لا ننكره، بل نقول متى قام الدليل على التخصيص صرنا إليه، وبطل بهذا حمل الاسم على بعض ما يقتضيه دون بعض بغير دليل، فذلك ما أردنا أن نبين، وهذا ترك منهم لمذهبهم الفاسد، وإن لم يكن بأيديهم إلا الاقتصار على التخصيص لمن خصوا بلا دليل، حصلوا على التحكم والدعوى، وكل دعوى بلا دليل فهي ساقطة، وبالله تعالى التوفيق.

ابن حزم - الإحكام في أصول الأحكام/المجلد الأول/الجزء الثالث

في الأوامر والنواهي الواردة في القرآن وكلام النبي والأخذ بظاهرها وحملها على الوجوب والفور | تتمة الأوامر والنواهي الواردة في القرآن وكلام النبي والأخذ بظاهرها وحملها على الوجوب والفور | فصل في كيفية ورود الأمر | فصل في حمل الأوامر والأخبار على ظواهرها | فصل في الأوامر، أعلى الفور هي أم على التراخي | فصل في الأمر المؤقت بوقت محدود الطرفين | فصل في موافقة معنى الأمر لمعنى النهي | فصل في الأمر | فصل في التخيير | فصل في الأمر بعد الحظر ومراتب الشريعة | فصل في ورود الأمر بلفظ خطاب الذكور | فصل في الخطاب الوارد هل يخص به الأحرار دون العبيد أم يدخل فيه العبيد معهم ؟ | فصل في أمره عليه السلام واحداً هل يكون أمراً للجميع ؟ | فصل في أوامر ورد فيها ذكر حكمه عليه السلام ولم يأت فيها من لفظه السبب المحكوم فيه | فصل في ورود حكمين بنقل يدل لفظه على أنهما في أمر واحد لا أمرين | فصل في عطف الأوامر بعضها على بعض | فصل في تناقض القائلين بالوقف | حمل الأمر وسائر الألفاظ كلها على العموم | تتمة حمل الأمر وسائر الألفاظ كلها على العموم | فصل في بيان العموم والخصوص | فصل في الوجوه التي تنقل فيها الأسماء عن مسمياتها | فصل في النص يخص بعضه هل الباقي على عمومه أم لا يحل على عمومه | فصل في مسائل من العموم والخصوص | فصل من الكلام في العموم