مجلة الرسالة/العدد 7/في العيد. . .

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 7/في العيد. . .

ملاحظات: بتاريخ: 15 - 04 - 1933


في ذات مساء اشتد فيه الصراع بين بواكر الربيع وأواخر الشتاء، ارتفع من بين ضجيج القاهرة ولغط النهار الراحل، طلقات ضعيفة من مدفع عتيق. . وتألقت في شرفات المآذن الشم مصابيح الكهرباء بغتة. . فعلم الناس بمقتضى التقاليد أن غداً يوم العيد. .!

راح قوم يقضون ليلهم بين وحشة القبور ورهبة الموت، في غير إدِّكار ولا اعتبار ولا خشية! وبات آخرون يتعهدون كباش الأضاحي بالعلف، ويشحذون لصباحها المدى والسواطير. . .!

وأصبحت القاهرة دامية البيوت، حامية المطابخ، شديدة الجلبة: وبيوت الله التي نزل فيها العيد من السماء، تنتظر المؤمنين للصلاة والدعاء، فلم يغشها إلا فئات من العمال والبوابين والخدم!.

أما السراة والأوساط، فقد خرجوا من هندام الأمس، واهتمام اليوم، يستقبلون العيد في القهوات والحانات، بين لعبة النرد الصاخبة، وأحاديث الدواوين المعادة! فإذا تلاقى في الطريق صديقان، أو تراءى في القهوة قريبان، تبادلا في فتور تحية العيد، ثم مضى كل منهما لشأنه!!

ذلك هو العيد أو ما يقاربه في مصر وفي سائر البلاد العربية.! فلولا مرح طافر يقوم بالأطفال في هذا اليوم لعطلة المدارس، وجدة الملابس، وسحر النقود، وفتنة اللعب لمرَّ كسائر الأيام حائل اللون تافه الطعم بادي الكآبة!

فليت شعري ماذا حاق بنا من الأحداث والغِيَر حتى غاضت ينابيع المسرة في القلوب، وماتت أحاسيس البهجة في النفوس، وتحللت أواصر المودة بين الناس، وآل أمر العيدين (وهما كل ما بقى في أيدينا من مظاهر الوحدة الدينية والعزة القومية) إلى هذه الصورة الطامسة والحال البائسة؟!

لا نستطيع أن نتهم حسرة الحزن على الماضي، وذلة الضعف في الحاضر، فإن أعياد اليهود وإن فقدت بذلك مظهرها الاجتماعي، لم تفقد روعة الدين في الكَنيس، ومتعة الأنس في البيت، وجمال الذكرى في الخاطر.

وأعياد إخواننا في الوطن والجنس والمجد والأسى من نصارى الشرق لا ينقصها الرواء والإخاء واللذة كذلك لا نستطيع أن نتهم المادية والمدنية، فانهما (وإن جنَتا على بعض الأخلاق الكريمة كالإخاء والإخلاص والمروءة والرحمة) لم تجنيا على نزعات السرور في النفوس، ولم تقضيا على غرائز اللهو في الطباع، بل ازداد الناس بهما في ذلك شراهة وحدَّة.

والأعياد الأجنبية التي تشهدها مصر في ذكرى الميلاد ورأس السنة غاية في نعيم الروح والجسم، وآية في سلامة الذوق والطبع، وفرصة ترى فيها القاهرة (وهي متفرجة) كيف تفيض الكنائس بالجلال، وتزخر الفنادق بالجمال، وتشرق المنازل بالأنس، وتمسي الشوارع وبيوت التجارة ودور اللهو مسرحا للحسن، ومعرضاً للفن، ومهبطاً للسرور، وتصبح أعياد القلة القليلة مظهراً للفرح العام، ومصدراً للابتهاج المشترك!

وهي من وراء ذلك كله من أقوى العوامل في توثيق العلاقة بين الله والإنسان بالصدقات، وبين الأصدقاء والأقارب بالهدايا، وبين الكبار والصغار باللعب، وبين الإنسان والإنسان بالمودة.

إذن ما هي الأسباب الصحيحة التي مسخت حياتنا هذا المسخ، وشوهت أعيادنا هذا التشويه، فجعلت المظاهر فيها خروفا يذبح ولا يضحَّي، ومدافع تساعد المآذن ولا تجاب، وأياما كنقاهة المريض كل ما فيها همود ونوم وأكل؟؟

الحق أن لذلك أسباباً مختلفة، ولكنها عند الروية والتأمل ترجع إلى سبب رئيسي واحد: هو غيبة المرأة عن المجتمع الإسلامي. . . ذلك السبب هو علة ما نكابده من جفاء في الطبع، وجفاف في العيش، وجهومة في البيت، وسآمة في العمل، وفوضى في الاجتماع.

كرهنا الدور لاحتجاب المرأة، وهجرنا الأندية لغياب المرأة، وسئمنا الملاهي لبعد المرأة، وأصبحنا كالسمك في الماء، أو الهباء في الهواء، نحيا حياة الهيام والتشرد، فلا نطمئن إلى مجلس، ولا نستأنس لحديث!

فإذا لم تصبح المرأة في البهو عطر المجلس، وعلى الطعام زهر المائدة، وفي النَّدِي روح الحديث؛ وفي الحفل مجمع الأفئدة، فهيهات أن يكون لنا عيد صحيح، ومجتمع مهذب، وحياة طيبة؛ وأسرة سعيدة!.

أحمد حسن الزيات