تأويل مختلف الحديث/الكتاب
قالوا حديثان متناقضان
قالوا رويتم أن رسول الله ﷺ قال لا تستقبلوا القبلة بغائط ولا بول ورويتم عن عيسى بن يونس عن أبي عوانة عن خالد الحذاء عن عراك بن مالك عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت ذكر لرسول الله ﷺ أن قوما يكرهون أن يستقبلوا القبلة بغائط أو بول فأمر النبي ﷺ بخلائه فاستقبل به القبلة قالوا وهذا خلاف ذاك
قال أبو محمد ونحن نقول إن هذا الحديث يجوز عليه النسخ لأنه من الأمر والنهي فكيف لم يذهبوا إلى أن أحدهما ناسخ والآخر منسوخ إذ كان قد ذهب عليهم المعنى فيهما وليسا عندنا من الناسخ والمنسوخ ولكن لكل واحد منهما موضع يستعمل فيه فالموضع الذي لا يجوز أن تستقبل القبلة فيه بالغائط والبول هي الصحاري والبراحات وكانوا إذا نزلوا في أسفارهم لهيئة الصلاة استقبل بعضهم القبلة بالصلاة واستقبلها بعضهم بالغائط فأمرهم أن لا يستقبلوا القبلة بغائط ولا بول إكراما للقبلة وتنزيها للصلاة فظن قوم أن هذا أيضا يكره في البيوت والكنف المحتفرة فأمر النبي ﷺ بخلائه فاستقبل به القبلة يريد أن يعلمهم أنه لا يكره ذلك في البيوت والآبار المحتفرة التي تستر الحدث وفي الخلوات في المواضع التي لا يجوز فيها الصلاة
قالوا حديثان متناقضان
قالوا رويتم عن وكيع عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة عن النبي ﷺ أنه قال إذا انقطع شسع نعل أحدكم فلا يمش في نعل واحدة ورويتم عن مندل عن ليث عن عبد الرحمن بن القاسم عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها قالت ربما انقطع شسع رسول الله ﷺ فمشى في النعل الواحدة حتى يصلح الأخرى قالوا وهذا خلاف ذلك
قال أبو محمد ونحن نقول ليس ههنا خلاف بحمد الله تعالى لأن الرجل كان ينقطع شسع نعله فينبذها أو يعلقها بيده ويمشي في نعل واحدة إلى أن يجد شسعا وهذا يفحش ويقبح في النعلين والخفين وكل زوجين من اللباس يستعمل في اثنين فيستعمل في واحد ويترك الآخر وكذلك الرداء يلقى على أحد المنكبين ويترك الآخر فأما أن ينقطع شسع الرجل فيمشي خطوة أو خطوتين أو ثلاثا إلى أن يصلح الآخر فإن هذا ليس بمنكر ولا قبيح وحكم القليل يخالف حكم الكثير في كثير من المواضع ألا ترى أنه يجوز للمصلي أن يمشي خطوة وخطوتين وخطوات وهو راكع إلى الصف الذي بين يديه ولا يجوز له أن يمشي وهو راكع مائة ذراع ومائتي ذراع ويجوز له أن يردئ الرداء على منكبيه إذا سقط عنه ولا يجوز له أن يطوي ثوبه في الصلاة ولا أن يعمل عملا يتطاول ويبتسم فلا تنقطع صلاته ويقهقه فتنقطع
قالوا حديثان متناقضان
قالوا رويتم عن عائشة أنها قالت ما بال رسول الله ﷺ قائما قط ثم رويتم عن حذيفة أنه بال قائما وهذا خلاف ذاك
قال أبو محمد ونحن نقول ليس ههنا بحمد الله اختلاف ولم يبل قائما قط في منزله والموضع الذي كانت تحضره فيه عائشة رضي الله عنها وبال قائما في المواضع التي لا يمكن أن يطمئن فيها إما للثق في الأرض وطين أو قذر وكذلك الموضع الذي رأى فيه رسول الله ﷺ حذيفة يبول قائما كان مزبلة لقوم فلم يمكنه القعود فيه ولا الطمأنينة وحكم الضرورة خلاف حكم الاختيار
قال أبو محمد حدثني محمد بن زياد الزيادي قال أنا عيسى بن يونس قال أنا الأعمش عن أبي وائل عن حذيفة قال رأيت رسول الله ﷺ أتى سباطة قوم فبال قائما فذهبت أتنحى فقال أدن مني فدنوت منه حتى قمت عند عقبه فتوضأ ومسح على خفيه والسباطبة المزبلة وكذلك الكساحة والقمامة
قالوا حديث يخالف كتاب الله تعالى
قالوا رويتم عن سفيان بن عيينة عن الزهري عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة عن أبي هريرة وزيد بن خالد وشبل أن رجلا قام إلى النبي ﷺ فقال يا رسول الله نشدتك بالله إلا قضيت بيننا بكتاب الله تعالى فقام خصمه وكان أفقه منه فقال صدق اقض بيننا بكتاب الله وائذن لي فقال قل قال إن ابني كان عسيفا على هذا فزنى بامرأته فافتديت منه بمائة شاة وخادم ثم سألت رجالا من أهل العلم فأخبروني أن على ابني جلد مائة وتغريب عام وعلى امرأة هذا الرجم فقال والذي نفسي بيده لأقضين بينكما بكتاب الله المائة شاة والخادم رد عليك وعلى ابنك جلد مائة وتغريب عام وعلى امرأة هذا الرجم واغد يا أنيس على امرأة هذا فإن اعترفت فارجمها فغدا عليها فاعترفت فرجمها قال أبو محمد هكذا حدثنيه محمد بن عبيد عن بن عيينة قالوا وهذا خلاف كتاب الله عز وجل لأنه سأله أن يقضي بينهما بكتاب الله تعالى فقال له والذي نفسي بيده لأقضين بينكما بكتاب الله ثم قضى بالرجم والتغريب وليس للرجم والتغريب ذكر في كتاب الله تعالى وليس يخلو هذا الحديث من أن يكون باطلا أو يكون حقا وقد نقص من كتاب تعالى ذكر الرجم والتغريب
قال أبو محمد ونحن نقول إن رسول الله ﷺ لم يرد بقوله لأقضين بينكما بكتاب الله ههنا القرآن وإنما أراد لأقضين بينكما بحكم الله تعالى والكتاب يتصرف على وجوه منها الحكم والفرض كقول الله عز وجل كتاب الله عليكم وأحل لكم ما وراء ذلكم أي فرض عليكم وقال كتب عليكم القصاص أي فرض عليكم وقال وقالوا ربنا لم كتبت علينا القتال أي فرضت وقال تعالى وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس أي حكمنا وفرضنا وقال النابغة الجعدي
ومال الولاء بالبلاء فملتم
وما ذاك قال الله إذ هو يكتب أراد مالت القرابة بأحسابنا إليكم وما ذاك أوجب الله إذ هو يحكم
قالوا حديث يبطله الإجماع
قالوا رويتم عن الزهري عن عروة عن عائشة رضي الله عنها أن امرأة كانت تستعير حليا من أقوام فتبيعه فأخبر النبي ﷺ بذلك فأمر بقطع يدها قالوا وقد أجمع الناس على أنه لا قطع على المستعير لأنه مؤتمن
قال أبو محمد ونحن نقول إن هذا الحديث صحيح غير أنه لا يوجب حكما لأنه لم يقل فيه إنه قطعها وإنما قيل أمر بقطعها وقد يجوز أن يأمر ولا يفعل وهذا قد يكون من الأئمة على وجه التحذير والترهيب ولا يراد به إيقاع الفعل ومثله الحديث الذي يرويه الحسن عن سمرة بن جندب أن رسول الله ﷺ قال من قتل عبده قتلناه ومن جدع عبده جدعناه والناس جميعا على أنه لا يقتل رجل بعبده ولا يقتص منه لعبده وإنما يختلفون في عبد غيره وأراد ﷺ ترهيب السيد وتحذيره أن يقتل عبده أو يمثل به ولم يرد إيقاع الفعل وكان الحكم يجب بأن يقال إنه قتل رجلا بعبده أو اقتص منه لعبده فأما قوله من فعل فعلنا به فإن ذلك تحذير وترهيب وكذلك قوله من شرب الخمر فاجلدوه فإن عاد فاجلدوه فإن عاد فاجلدوه فإن عاد فاقتلوه إنما هو ترهيب لئلا يعاوده ويدلك على ذلك أنه أتي به في المرة الرابعة فجلده ولم يقتله وهكذا نقول في الوعيد كله أنه جائز أن يقع وأن لا يقع على حديث أبي هريرة عن النبي ﷺ من وعده الله على عمل ثوابا فهو منجزه له ومن أوعده عقابا فهو فيه بالخيار
قالوا حديث يدفعه النظر وحجة العقل
قالوا رويتم عن الزهري عن أبي سلمة عن أبي هريرة عن النبي ﷺ أنه قال أنا أحق بالشك من أبي إبراهيم ورحم الله لوطا إن كان ليأوي إلى ركن شديد ولو دعيت إلى ما دعي إليه يوسف لأجبت قالوا وهذا طعن على إبراهيم وطعن على لوط وطعن على نفسه عليهم السلام
قال أبو محمد ونحن نقول إنه ليس فيه شيء مما ذكروا بحمد الله تعالى ونعمته فأما قوله أنا أحق بالشك من أبي إبراهيم عليه السلام فإنه لما نزل عليه وإذا قال إبراهيم رب أرني كيف تحيي الموتى قال أولم تؤمن قال بلى ولكن ليطمئن قلبي قال قوم سمعوا الآية شك إبراهيم ﷺ ولم يشك نبينا ﷺ فقال رسول الله ﷺ أنا أحق بالشك من أبي إبراهيم عليه السلام تواضعا منه وتقديما لإبراهيم على نفسه يريد أنا لم نشك ونحن دونه فكيف يشك هو وتأويل قول إبراهيم عليه السلام ولكن ليطمئن قلبي أي يطمئن بيقين النظر واليقين جنسان أحدهما يقين السمع والاخر يقين البصر ويقين البصر أعلى اليقينين ولذلك قال رسول الله ﷺ ليس المخبر كالمعاين حين ذكر قوم موسى وعكوفهم على العجل قال أعلمه الله تعالى أن قومه عبدوا العجل فلم يلق الألواح فلما عاينهم عاكفين غضب وألقى الألواح حتى انكسرت وكذلك المؤمنون بالقيامة والبعث والجنة والنار مستيقنون أن ذلك كله حق وهم في القيامة عند النظر والعيان أعلى يقينا فأراد إبراهيم عليه السلام أن يطمئن قلبه بالنظر الذي هو أعلى اليقينين وأما قوله رحم الله لوطا إن كان ليأوي إلى ركن شديد فإنه أراد قوله لقومه لو أن لي بكم قوة أو آوي إلى ركن شديد يريد سهوه في هذا الوقت الذي ضاق فيه صدره واشتد جزعه بما دهمه من قومه حتى قال أو آوي إلى ركن شديد وهو يأوي إلى الله تعالى أشد الأركان قالوا فما بعث الله نبيا بعد لوط إلا في ثروة من قومه وأما قوله لو دعيت إلى ما دعي إليه يوسف لأجبت يعني حين دعى للاطلاق من الحبس بعد الغم الطويل فقال للرسول ارجع إلى ربك فاسأله ما بال النسوة اللاتي قطعن أيديهن ولم يخرج من الحبس في وقته يصفه بالأناة والصبر وقال لو كنت مكانه ثم دعيت إلى ما دعي إليه من الخروج إلى الحبس لأجبت ولم أتلبث وهذا أيضا جنس من تواضعه لا أنه كان عليه لو كان مكان يوسف فبادر وخرج أو على يوسف لو خرج من الحبس مع الرسول نقص ولا إثم وإنما أراد أنه لم يكن يستثقل محنة الله عز وجل له فيبادر ويتعجل ولكنه كان صابرا محتسبا
قالوا حديث يكذبه العيان
قالوا رويتم عن أبي سعيد الخدري وجابر بن عبد الله وأنس بن مالك أن النبي ﷺ قال وذكر سنة مائة إنه لا يبقى على ظهرها يومئذ نفس منفوسة قالوا وهذا باطل بين للعيان ونحن طاعنون في سني ثلاثمائة والناس أكثر مما كانوا
قال أبو محمد ونحن نقول إن هذا حديث قد أسقط الرواة منه حرفا إما لأنهم نسوه أو لأن رسول الله ﷺ أخفاه فلم يسمعوه ونراه بل لا نشك أنه قال لا يبقى على الأرض منكم يومئذ نفس منفوسة يعني ممن حضره في ذلك المجلس أو يعني الصحابة فأسقط الراوي منكم وهذا مثل قول بن مسعود في ليلة الجن ما شهدها أحد منا غيري فأسقط الراوي غيري ومما يشهد على ما أقول أن أبا كدينة روى عن مطرف عن المنهال بن عمرو أن عليا رضي الله عنه قال لأبي مسعود إنك تفتي الناس قال أجل وأخبرهم أن الآخر شر قال فأخبرني هل سمعت منه قال سمعته يقول لا يأتي على الناس سنة مائة وعلى الأرض عين تطرف فقال علي أخطأت أستك الحفرة إنما قال ذلك يومئذ لمن حضره وهل الرجا إلا بعد المائة ونحو من هذا الحديث مما وقع فيه الغلط حديث حدثنيه محمد بن خالد بن خداش قال أنا أبي عن حماد بن زيد عن أيوب عن الحسن عن صخر بن قدامة العقيلي قال قال رسول الله ﷺ لا يولد بعد سنة مائة مولود لله فيه حاجة قال أيوب فلقيت صخر بن قدامة فسألته عن الحديث فقال لا أعرفه قال أبو محمد وهذا هو ذاك الحديث وقع فيه الغلط واختلفت فيه الروايات
قالوا حديث يدفعه النظر وحجة النظر
قالوا رويتم عن عبد العزيز بن المختار الأنصاري عن عبد الله الداناج قال شهدت أبا سلمة بن عبد الرحمن في مسجد البصرة وجاء الحسن فجلس إليه فحدث عن أبي هريرة عن النبي ﷺ أنه قال إن الشمس والقمر ثوران مكوران في النار يوم القيامة فقال الحسن وما ذنبهما قال إني أحدثك عن رسول الله ﷺ فسكت قالوا قد صدق الحسن ما ذنبهما وهذا من قول الحسن رد عليه أو على أبي هريرة
قال أبو محمد ونحن نقول إن الشمس والقمر لم يعذبا بالنار حين أدخلاها فيقال ما ذنبهما ولكنهما خلقا منها ثم ردا إليها وقد قال رسول الله ﷺ في الشمس حين غربت في نار الله الحامية لولا ما يزعها من أمر الله تعالى لأهلكت ما على الأرض وقال ما ترتفع في السماء قصمة إلا فتح لها باب من أبواب النار فإذا قامت الظهيرة فتحت الأبواب كلها وهذا يدلك على أن شدة حرها من فوح جهنم ولذلك قال أبردوا بالصلاة فإن شدة الحر من فوح جهنم فما كان من النار ثم رد إلى النار لم يقل إنه يعذب وما كان من المسخر المقصور على فعل واحد كالنار والفلك المسخر الدوار والبحر المسجور وأشباه ذلك لا يقع به تعذيب ولا يكون له ثواب وما مثل هذا إلا مثل رجل سمع بقول الله تعالى فاتقوا النار التي وقودها الناس والحجارة فقال ما ذنب الحجارة
قالوا حديثان متناقضان
قالوا رويتم عن رسول الله ﷺ أنه قال لا عدوى ولا طيرة وأنه قيل له إن النقبة تقع بمشفر البعير فتجرب لذلك الإبل فقال فما أعدى الأول قال هذا أو معناه ثم رويتم في خلاف ذلك لا يوردن ذو عاهة على مصح وفر من المجذوم فرارك من الأسد وأتاه رجل مجذوم ليبايعه بيعة الإسلام فأرسل إليه بالبيعة وأمره بالانصراف ولم يأذن له عليه وقال الشؤم في المرأة والدار والدابة قالوا وهذا كله مختلف لا يشبه بعضه بعضا
قال أبو محمد ونحن نقول إنه ليس في هذا اختلاف ولكل معنى منها وقت وموضع فإذا وضع بموضعه زال الاختلاف والعدوى جنسان أحدهما عدوى الجذام فإن المجذوم تشتد رائحته حتى يسقم من أطال مجالسته ومؤاكلته وكذلك المرأة تكون تحت المجذوم فتضاجعه في شعار واحد فيوصل إليها الأذى وربما جذمت وكذلك ولده ينزعون في الكثير إليه وكذلك من كان به سل ودق ونقب والأطباء تأمر بأن لا يجالس المسلول ولا المجذوم لا يريدون بذلك معنى العدوى إنما يريدون به تغير الرائحة وأنها قد تسقم من أطال اشتمامها والأطباء أبعد الناس من الإيمان بيمن أو شؤم وكذلك النقبة تكون بالبعير وهي جرب رطب فإذا خالطها الإبل وحاكها وأوى في مباركها أوصل إليها بالماء الذي يسيل منه والنطف نحوا مما به وهذا هو المعنى الذي قال فيه رسول الله ﷺ لا يوردن ذو عاهة على مصح كره أن يخالط المعيوه الصحيح فيناله من نطفه وحكته نحو مما به وقد ذهب قوم إلى أنه أراد بذلك أن لا يظن أن الذي نال إبله من ذوات العاهة فيأثم قال وليس لهذا عندي وجه لأنا نجد الذي أخبرتك به عيانا وأما الجنس الآخر من العدوى فهو الطاعون ينزل ببلد فيخرج منه خوفا من العدوى قال أبو محمد حدثني سهل بن محمد قال نا الأصمعي عن بعض البصريين أنه هرب من الطاعون فركب حمارا ومضى بأهله نحو سفوان فسمع حاديا يحدو خلفه وهو يقول
لن يسبق الله على حمار ** ولا على ذي ميعة مطار
أو يأتي الحتف على مقدار ** قد يصبح الله أمام الساري
وقال رسول الله ﷺ إذا كان بالبلد الذي أنتم به فلا تخرجوا منه وقال أيضا إذا كان ببلد فلا تدخلوه يريد بقوله لا تخرجوا من البلد إذا كان فيه كأنكم تظنون أن الفرار من قدر الله تعالى ينجيكم من الله ويريد بقوله وإذا كان ببلد فلا تدخلوه أن مقامكم بالموضع الذي لا طاعون فيه أسكن لأنفسكم وأطيب لعيشكم ومن ذلك تعرف المرأة بالشؤم أو الدار فينال الرجل مكروه أو جائحة فيقول أعدتني بشؤمها فهذا هو العدوى الذي قال فيه رسول الله ﷺ لا عدوى وأما الحديث الذي رواه أبو هريرة عن النبي ﷺ أنه قال الشؤم في المرأة والدار والدابة فإن هذا حديث يتوهم فيه الغلط على أبي هريرة وأنه سمع فيه شيئا من رسول الله ﷺ فلم يعه قال أبو محمد حدثني محمد بن يحيى القطعي قال نا عبد الأعلى عن سعيد عن قتادة عن أبي حسان الأعرج أن رجلين دخلا على عائشة رضي الله عنها فقالا إن أبا هريرة يحدث عن رسول الله ﷺ أنه قال إنما الطيرة في المرأة والدابة والدار فطارت شفقا ثم قالت كذب والذي أنزل القرآن على أبي القاسم من حدث بهذا عن رسول الله ﷺ إنما قال رسول الله ﷺ كان أهل الجاهلية يقولون إن الطيرة في الدابة والمرأة والدار ثم قرأت ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل أن نبرأها وحدثني أحمد بن الخليل قال نا موسى بن مسعود النهدي عن عكرمة بن عمار عن إسحاق عن بن عبد الله بن أبي طلحة عن أنس بن مالك قال جاء رجل منا إلى النبي ﷺ فقال يا رسول الله إنا نزلنا دارا فكثر فيها عددنا وكثرت فيها أموالنا ثم تحولنا عنها إلى أخرى فقلت فيها أموالنا وقل فيها عددنا فقال رسول الله ﷺ ارحلوا عنها وذروها وهي ذميمة قال أبو محمد وليس هذا بنقض للحديث الأول ولا الحديث الأول بنقض لهذا وإنما أمرهم بالتحول منها لأنهم كانوا مقيمين فيها على استثقال لظلها واستيحاش بما نالهم فيها فأمرهم بالتحول وقد جعل الله تعالى في غرائز الناس وتركيبهم استثقال ما نالهم السوء فيه وإن كان لا سبب له في ذلك وحب من جرى على يده الخير لهم وإن لم يردهم به وبغض من جرى على يده الشر لهم وإن لم يردهم به وكيف يتطير ﷺ والطيرة من الجبت وكان كثير من أهل الجاهلية لا يرونها شيئا ويمدحون من كذب بها قال الشاعر يمدح رجلا
وليس بهياب إذا شد رحله ** يقول عداني اليوم واق وحاتم
ولكنه يمضي على ذاك مقدما ** إذا صد عن تلك الهنات الخثارم
قال أبو محمد الخثارم هو الذي يتطير والواق الصرد والحاتم الغراب وقال المرقش
ولقد غدوت وكنت لا ** أغدو على واق وحاتم
فإذا الأشائم كالأيامن ** والأيامن كالأشائم
وكذاك لا خير ولا ** شر على أحد بدائم
وحدثنا إسحاق بن راهويه قال أخبرنا عبد الرزاق عن معمر عن إسماعيل بن أمية قال قال رسول الله ﷺ ثلاثة لا يسلم منهن أحد الطيرة والظن والحسد قيل فما المخرج منهن قال إذا تطيرت فلا ترجع وإذا ظننت فلا تحقق وإذا حسدت فلا تبغ هذه الألفاظ أو نحوها وحدثني أبو حاتم قال نا الأصمعي عن سعيد بن مسلم عن أبيه أنه كان يعجب ممن يصدق بالطيرة ويعيبها أشد العيب وقال فرقت لنا ناقة وأنا بالطف فركبت في أثرها فلقيني هانئ بن عبيد من بني وائل وهو مسرع يقول
والشر يلفى مطالع الأكم ثم لقيني رجل آخر من الحي فقال
ولئن بغيت لنا بغاة ** ما البغاة بواجدينا
ثم دفعنا إلى غلام قد وقع في صغره في نار فأحرقته فقبح وجهه وفسد فقلت له هل ذكرت من ناقة فارق قال ههنا أهل بيت من الأعراب فانظر فنظرت فإذا هي عندهم وقد أنتجت فأخذتها وولدها قال أبو محمد الفارق التي قد حملت ففارقت صواحبها وقال عكرمة كنا جلوسا عند بن عباس فمر طائر يصيح فقال رجل من القوم خير خير فقال بن عباس لا خير ولا شر وكان رسول الله ﷺ يستحب الاسم الحسن والفأل الصالح وحدثني الرقاشي قال نا الأصمعي قال سألت بن عون عن الفأل فقال هو أن يكون مريضا فيسمع يا سالم أو يكون باغيا فيسمع يا واجد قال أبو محمد وهذا أيضا مما جعل في غرائز الناس استحبابه والأنس به كما جعل على ألسنتهم من التحية بالسلام والمد في الأمنية والتبشير بالخير وكما يقال أنعم واسلم وأنعم صباحا وكما تقول الفرس عش ألف نوروز والسامع لهذا يعلم أنه لا يقدم ولا يؤخر ولا يزيد ولا ينقص ولكن جعل في الطباع محبة الخير والارتياح للبشرى والمنظر الأنيق والوجه الحسن والاسم الخفيف وقد يمر الرجل بالروضة المنورة فتسره وهي لا تنفعه وبالماء الصافي فيعجب به وهو لا يشربه ولا يورده وفي بعض الحديث أن رسول الله ﷺ كان يعجب بالأترج ويعجبه الحمام الأحمر وتعجبه الفاغية وهي نور الحناء
وهذا مثل إعجابه بالاسم الحسن والفأل الحسن وعلى مثل هذا كانت كراهته للاسم القبيح كبني النار وبني حراق وبني زنية وبني حزن وأشباه هذا
قالوا حديثان متناقضان
قالوا رويتم أن خباب بن الأرت قال شكونا إلى رسول الله ﷺ الرمضاء فلم يشكنا يعني أنهم شكوا إليه شدة الحر وما ينالهم من الرمضاء وسألوه الإبراد بالصلاة فلم يشكهم أي لم يجبهم إلى تأخيرها ثم رويتم أن رسول الله ﷺ قال أبردوا بالصلاة فإن شدة الحر من فوح جهنم قالوا وهذا اختلاف لا خفاء به وتناقض
قال أبو محمد ونحن نقول إنه ليس ههنا بنعمة الله تعالى اختلاف ولا تناقض لأن أول الأوقات رضوان الله وآخر الأوقات عفو الله والعفو لا يكون إلا عن تقصير فأول الأوقات أوكد أمرا وآخرها رخصة وليس يجوز لرسول الله ﷺ أن يأخذ في نفسه إلا بأعلى الأمور وأقربها إلى الله تعالى وإنما يعمل في نفسه بالرخصة مرة أو مرتين ليدل بذلك الناس على جوازها فأما أن يدوم على الأمر الأخس ويترك الأوكد والأفضل فذلك مالا يجوز فلما شكا إليه أصحابه الذين يصلون معه الرمضاء وأرادوا منه التأخير إلى أن يسكن الحر لم يجبهم إلى ذلك إذ كانوا معه ثم أمر بالإبراد من لم يحضره توسعة على أمته وتسهيلا عليهم وكذلك تغليسه بالفجر وقوله أسفروا بالفجر ومما يدل على أنه كان يصلي الظهر للزوال ولا يؤخرها حديث إسماعيل بن علية عن عوف عن المنهال عن أبي برزة أن رسول الله ﷺ كان يصلي الهجير التي يسمونها الأولى حين تدحض الشمس يعني حين تزول
قالوا حديثان متناقضان
قالوا رويتم أن رسول الله ﷺ قال ما كفر بالله نبي قط وأنه بعث إليه ملكان فاستخرجا من قلبه وهو صغير علقة ثم غسلا قلبه ثم رداه إلى مكانه ثم رويتم أنه كان على دين قومه أربعين سنة وأنه زوج ابنتيه عتبة بن أبي لهب وأبا العاص بن الربيع وهما كافران قالوا وفي هذا تناقض واختلاف وتنقص لرسول الله ﷺ
قال أبو محمد ونحن نقول إنه ليس لأحد فيه بنعمة الله متعلق ولا مقال إذا عرف معناه لأن العرب جميعا من ولد إسماعيل بن إبراهيم عليهما السلام خلا اليمن ولم يزالوا على بقايا من دين أبيهم إبراهيم ﷺ ومن ذلك حج البيت وزيارته والختان والنكاح وإيقاع الطلاق إذا كان ثلاثا وللزوج الرجعة في الواحدة والاثنتين ودية النفس مائة من الإبل والغسل من الجنابة واتباع الحكم في المبال في الخنثى وتحريم ذوات المحارم بالقرابة والصهر والنسب وهذه أمور مشهورة عنهم وكانوا مع ذلك يؤمنون بالملكين الكاتبين قال الأعشى وهو جاهلي
فلا تحسبني كافرا لك نعمة ** على شاهدي يا شاهد الله فاشهد
يريد على لساني يا ملك الله فاشهد بما أقول ويؤمن بعضهم بالبعث والحساب قال زهير بن أبي سلمى وهو جاهلي لم يلحق الإسلام في قصيدته المشهورة التي تعد من السبع
يؤخر فيوضع في كتاب فيدخر ** ليوم الحساب أو يعجل فينقم
وكانوا يقولون في البلية وهي الناقة تعقل عند قبر صاحبها فلا تعلف ولا تسقى حتى تموت إن صاحبها يجيء يوم القيامة راكبها وإن لم يفعل أولياؤه ذلك بعده جاء حافيا راجلا وقد ذكرها أبو زبيد فقال
كالبلايا رؤوسها في الولايا ** ما نحات السموم حر الخدود
والولايا البراذع وكانوا يقورون البرذعة ويدخلونها في عنق تلك الناقة فقال النابغة
محلتهم ذات الإله ودينهم ** قويم فما يرجون غير العواقب
يريد الجزاء بأعمالهم ومحلتهم الشام وكان رسول الله ﷺ على دين قومه يراد على ما كانوا عليه من الإيمان بالله والعمل بشرائعهم في الختان والغسل والحج والمعرفة بالبعث والقيامة والجزاء وكان مع هذا لا يقرب الأوثان ولا يعيبها وقال بغضت إلي غير أنه كان لا يعرف فرائض الله تعالى والشرائع التي شرعها لعباده على لسانه حتى أوحي إليه وكذلك قال الله تعالى ألم يجدك يتيما فآوى ووجدك ضالا فهدى يريد ضالا عن تفاصيل الإيمان والإسلام وشرائعه فهداك الله عز وجل وكذلك قوله تعالى ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان يريد ما كنت تدري ما القرآن ولا شرائع الإيمان ولم يرد الإيمان الذي هو الإقرار لأن آباءه الذين ماتوا على الكفر والشرك كانوا يعرفون الله تعالى ويؤمنون به ويحجون له ويتخذون آلهة من دونه يتقربون بها إليه تعالى وتقربه فيما ذكروا منه ويتوقون الظلم ويحذرون عواقبه ويتحالفون على أن لا نبغي على أحد ولا نظلم وقال عبد المطلب لملك الحبشة حين سأله حاجته فقال إبل ذهبت لي فعجبه منه كيف لم يسأله الانصراف عن البيت فقال إن لهذا البيت من يمنع منه أو كما قال فهؤلاء كانوا يقرون بالله تعالى ويؤمنون به فكيف لا يكون الطيب المطهر قبل الوحي يؤمن به وهذا لا يخفى على أحد ولا يذهب عليه أن مراد الله تعالى في قوله ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان أن الإيمان شرائع الإيمان قال أبو محمد ومعنى هذا الحديث أنه كان على دين إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام وقومه هؤلاء لا أبو جهل وغيره من الكفار لأن الله تعالى حكى عن إبراهيم فمن تبعني فإنه مني ومن عصاني فإنك غفور رحيم وقال لنوح إنه ليس من أهلك يعني ابنه لما كان على غير دينه وأما تزويجه ابنتيه كافرين فهذا أيضا من الشرائع التي كان لا يعلمها وإنما تقبح الأشياء بالتحريم وتحسن بالإطلاق والتحليل وليس في تزويجهما كافرين قبل أن يحرم الله تعالى عليه إنكاح الكافرين وقيل أن ينزل عليه الوحي ما يلحق به كفرا بالله تعالى
قالوا حديثان متناقضان
قالوا رويتم أن رسول الله ﷺ قال مثل أمتي مثل المطر لا يدرى أوله خير أم آخره ثم رويتم إن الإسلام بدأ غريبا وسيعود غريبا وأنه قال خير أمتي القرن الذي بعثت فيه قالوا وهذا تناقض واختلاف
قال أبو محمد ونحن نقول إنه ليس في ذلك تناقض ولا اختلاف لأنه أراد بقوله إن الإسلام بدأ غريبا وسيعود غريبا أن أهل الإسلام حين بدأ قليل وهم في آخر الزمان قليل إلا أنهم خيار ومما يشهد لهذا ما رواه معاوية بن عمرو عن أبي إسحاق عن الأوزاعي عن يحيى أو عروة بن رويم أن رسول الله ﷺ قال خيار أمتي أولها وآخرها وبين ذلك ثبج أعوج ليس منك ولست منه والثبج الوسط وقد جاءت في هذا آثار منها أنه ذكر آخر الزمان فقال المتمسك منهم يومئذ بدينه كالقابض على الجمر ومنها حديث آخر ذكر فيه أن الشهيد منهم يومئذ كشهيد بدر وفي حديث آخر أنه سئل عن الغرباء فقال الذين يحيون ما أمات الناس من سنتي وأما قوله خير أمتي القرن الذي بعثت فيه فلسنا نشك في أن صحابته خير ممن يكون في آخر الزمان وأنه لا يكون لأحد من الناس مثل الفضل الذي أوتوه وإنما قال مثل أمتي مثل المطر لا يدرى أوله خير أم آخره على التقريب لهم من صحابته كما يقال ما أدري أوجه هذا الثوب أحسن أم مؤخره ووجهه أفضل إلا أنك أردت تقريب منه وكما تقول ما أدري أوجه هذه المرأة أحسن أم قفاها ووجهها أحسن إلا أنك أردت تقريب ما بينهما في الحسن ومثل هذا قوله في تهامة إنها كبديع العسل لا يدرى أوله خير أم آخره والبديع الزق وإذا كان العسل في زق ولم يختلف اختلاف اللبن في الوطب فيكون أوله خيرا من آخره ولكنه يتقارب فلا يكون لأوله كبير فضل على آخره
قالوا حديثان متناقضان
قالوا رويتم عن رسول الله ﷺ أنه قال لا تفضلوني على يونس بن متى ولا تخايروا بين الأنبياء ثم رويتم أنه قال أنا سيد ولد آدم ولا فخر وأنا أول من تنشق عنه الأرض ولا فخر قالوا وهذا اختلاف وتناقض
قال أبو محمد ونحن نقول إنه ليس ههنا اختلاف ولا تناقض وإنما أراد أنه سيد ولد آدم يوم القيامة لأنه الشافع يومئذ والشهيد وله لواء الحمد والحوض وهو أول من تنشق عنه الأرض وأراد بقوله لا تفضلوني على يونس طريق التواضع وكذلك قول أبي بكر رضي الله عنه وليتكم ولست بخيركم وخص يونس لأنه دون غيره من الأنبياء مثل إبراهيم وموسى وعيسى صلى الله عليهم وسلم أجمعين يريد فإذا كنت لا أحب أن أفضل على يونس فكيف غيره ممن هو فوقه وقد قال الله تعالى فاصبر لحكم ربك ولا تكن كصاحب الحوت أراد أن يونس لم يكن له صبر كصبر غيره من الأنبياء وفي هذه الآية ما دلك على أن رسول الله ﷺ أفضل منه لأن الله تعالى يقول له لا تكن مثله وذلك على أن النبي ﷺ أراد بقوله لا تفضلوني عليه طريق التواضع ويجوز أن يريد لا تفضلوني عليه في العمل فلعله أكثر عملا مني ولا في البلوى والامتحان فإنه أعظم مني محنة وليس ما أعطى الله تعالى نبينا ﷺ يوم القيامة من السؤدد والفضل على جميع الأنبياء والرسل بعمله بل بتفضيل الله تعالى إياه واختصاصه له وكذلك أمته أسهل الأمم محنة بعثه الله تعالى إليها بالحنيفية السهلة ووضع عنها الإصر والأغلال التي كانت على بني إسرائيل في فرائضهم وهي مع هذا خير أمة أخرجت للناس بفضل الله تعالى
قالوا حديثان متناقضان
قالوا رويتم عن النبي ﷺ أنه قال لا يدخل الجنة من في قلبه مثقال حبة من خردل من كبر ولا يدخل النار من كان في قلبه مثقال حبة من خردل من إيمان ثم رويتم من قال لا إله إلا الله دخل الجنة وإن زنى وإن سرق والزنا والسرق أعظم عند الله من مثقال حبة من خردل من كبر قالوا وهذا اختلاف
قال أبو محمد ونحن نقول إنه ليس ههنا اختلاف وهذا الكلام خرج مخرج الحكم يريد ليس حكم من كان في قلبه مثقال حبة من خردل من إيمان أن يدخل النار ولا من كان في قلبه مثقال حبة من خردل من كبر أن يدخل الجنة لأن الكبرياء لله تعالى ولا تكون لغيره فإذا نازعها الله تعالى لم يكن حكمه أن يدخل الجنة والله تعالى يفعل بعد ذلك ما يشاء ومثل هذا من الكلام قولك في دار رأيتها صغيرة لا ينزل في هذا الدار أمير تريد حكمها وحكم أمثالها أن لا ينزلها الأمراء وقد يجوز أن ينزلوها وقولك هذا بلد لا ينزله حر تريد ليس حكمه أن ينزله الأحرار وقد يجوز أن ينزلوه وكذلك قوله من صام الدهر ضيقت عليه جهنم لأنه رغب عن هدية الله تعالى وصدقته ولم يعمل برخصته ويسره والراغب عن الرخصة كالراغب عن العزم وكلاهما مستحق للعقوبة إن عاقبه الله عز وجل وكذلك قوله ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم أي حكمه أن يجزيه بذلك والله يفعل ما يشاء وهو على حديث أبي هريرة من وعده الله تعالى على عمل ثوابا فهو منجزه له ومن أوعده على عمل عقابا فهو فيه بالخيار وحدثني إسحاق بن إبراهيم الشهيدي قال نا قريش بن أنس قال سمعت عمرو بن عبيد يقول يؤتى بي يوم القيامة فأقام بين يدي الله عز وجل فيقول لي لم قلت إن القاتل في النار فأقول أنت قلته يا رب ثم تلا هذه الآية ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم خالدا فيها فقلت له وما في البيت أصغر مني أرأيت إن قال لك فإني قد قلت إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء من أين علمت أني لا أشاء أن أغفر له قال فما استطاع أن يرد علي شيئا
قالوا حديث يبطله القرآن
قالوا رويتم أن رجلا قال لبنيه إذا أنا مت فأحرقوني ثم اذروني في اليم لعلي أضل الله ففعلوا ذلك فجمعه الله ثم قال له ما حملك أو كلاما هذا معناه على ما فعلت قال مخافتك يا رب فغفر الله له قالوا وهذا كافر والله لا يغفر للكافر وبذلك جاء القرآن
قال أبو محمد ونحن نقول في أضل الله إنه بمعنى أفوت الله تقول ضللت كذا وكذا وأضللته ومنه قول الله تعالى في كتاب لا يضل ربي ولا ينسى أي لا يفوت ربي وهذا رجل مؤمن بالله مقر به خائف له إلا أنه جهل صفة من صفاته فظن أنه إذ أحرق وذري الريح أنه يفوت الله تعالى فغفر الله تعالى له بمعرفته تأنيبه وبمخافته من عذابه جهله بهذه الصفة من صفاته وقد يغلط في صفات الله تعالى قوم من المسلمين ولا يحكم عليهم بالنار بل ترجأ أمورهم إلى من هو أعلم بهم وبنياتهم
قالوا حديث يبطله القرآن
قالوا رويتم أنه قال عليه السلام من ترك قتل الحيات مخافة الثأر فقد كفر والله تعالى يقول إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم وهذا إن كان ذنبا فهو من الصغائر فكيف نكفره وأنتم تروون من زنى ومن سرق إذا قال لا إله إلا الله فهو مؤمن وهو في الجنة ثم تكفرون بترك قتل الحيات وفي هذا اختلاف وتناقض
قال أبو محمد ونحن نقول إنه ليس ههنا اختلاف ولا تناقض ولم يكن القصد لترك قتل الحيات ولا أن ذلك يكون عظيما من الذنوب يخرج به الرجل إلى الكفر وإنما العظيم أن يتركها خشية الثأر وكان هذا أمرا من أمور الجاهلية وكانوا يقولون إن الجن تطلب بثأر الجان إذا قتل فربما قتلت قاتله وربما أصابته بخبل وربما قتلت ولده فأعلمهم رسول الله ﷺ أن هذا باطل وقال من صدق بهذا فقد كفر يريد بما أتينا به من بطلانه والكفر عندنا صنفان أحدهما الكفر بالأصل كالكفر بالله تعالى أو برسله أو ملائكته أو كتبه أو بالبعث وهذا هو الأصل الذي من كفر بشيء منه فقد خرج عن جملة المسلمين فإن مات لم يرثه ذو قرابته المسلم ولم يصل عليه والآخر الكفر بفرع من الفروع على تأويل الكفر بالقدر والإنكار للمسح على الخفين وترك إيقاع الطلاق الثلاث وأشباه هذا وهذا لا يخرج به عن الإسلام ولا يقال لمن كفر بشيء منه كافر كما أنه يقال للمنافق آمن ولا يقال مؤمن
قالوا حديث يكذبه النظر والعيان والخبر والقرآن
قالوا رويتم أن النبي ﷺ قال منبري هذا على ترعة من ترع الجنة وما بين قبري ومنبري روضة من رياض الجنة والله عز وجل يقول عند سدرة المنتهى عندها جنة المأوى ويقول تعالى وجنة عرضها السماوات والأرض أعدت للمتقين ورويتم في غير حديث أن الجنة في السماء السابعة قالوا وهذا اختلاف وتناقض
قال أبو محمد ونحن نقول إنه ليس ههنا اختلاف ولا تناقض فإنه لم يرد بقوله ما بين قبري ومنبري روضة من رياض الجنة أن ذلك بعينه روضة وإنما أراد أن الصلاة في هذا الموضع والذكر فيه يؤدي إلى الجنة فهو قطعة منها ومنبري هذا هو على ترعة من ترع الجنة والترعة باب المشرعة إلى الماء أي إنما هو باب إلى الجنة قال أبو محمد وحدثنا أبو الخطاب قال نا بشر بن المفضل قال نا عمر بن عبد الله مولى غفرة عن أيوب بن خالد الأنصاري قال قال جابر بن عبد الله الأنصاري خرج علينا رسول الله ﷺ فقال ارتعوا في رياض الجنة قالوا وأين رياض الجنة يا رسول الله قال مجالس الذكر وهذا كما قال في حديث آخر عائد المريض على مخارف الجنة والمخارف الطرق واحدها مخرفة ومنه قول عمر بن الخطاب رضي الله عنه تركتكم على مثل مخرفة النعم أي طريقها وإنما أراد أن عيادة المريض تؤدي إلى الجنة فكأنه طريق إليها وكذلك مجالس الذكر تؤدي إلى رياض الجنة فهي منها وكذلك قول عمار بن يأس الجنة تحت البارقة يعني السيوف والجنة تحت ظلال السيوف يريد أن الجهاد يؤدي إلى الجنة فكأن الجنة تحته وقد يذهب قوم إلى أن ما بين قبره ومنبره حذاء روضة من رياض الجنة وأن منبره حذاء ترعة من ترع الجنة فجعلهما من الجنة إذا كانا في الأرض حذاء ذينك في السماء والأول أحسن عندي والله أعلم
قالوا حديثان متناقضان
قالوا رويتم عن النبي ﷺ أنه قال الأئمة من قريش ورويتم أن أبا بكر الصديق احتج بذلك على الأنصار يوم سقيفة بني ساعدة
ثم رويتم عن عمر رضي الله عنه أنه قال عند موته لو كان سالم مولى أبي حذيفة حيا ما تخالجني فيه الشك وسالم ليس مولى لأبي حذيفة وإنما هو مولى لامرأة من الأنصار وهي أعتقته وربته ونسب إلى أبي حذيفة بحلف فجعلتم الإمامة تصلح لموالي الأنصار ولو كان مولى لقريش لأمكن أن تحتجوا بأن مولى القوم منهم ومن أنفسهم قالوا وهذا تناقض واختلاف
قال أبو محمد ونحن نقول إنه ليس في هذا القول تناقض وإنما كان يكون تناقضا لو قال عمر لو كان سالم حيا ما تخالجني الشك في توليته عليكم أو في تأميره فأما قوله ما تخالجني الشك فيه فقد يحتمل غير ما ذهبوا إليه وكيف يظن بعمر رضي الله عنه أنه يقف في خيار المهاجرين والذين شهد لهم رسول الله ﷺ بالجنة فلا يختار منهم ويجعل الأمر شورى بينهم ولا يتخالجه الشك في توليته سالما عليهم رضي الله عنه هذا خطأ من القول وضعف في الرأي ولكن عمر لما جعل الأمر شورى بين هؤلاء ارتاد للصلاة من يقوم بها أن يختاروا الإمام منهم وأجلهم في الاختيار ثلاثا وأمر عبد الله ابنه أن يأمرهم بذلك فذكر سالما فقال لو كان حيا ما تخالجني فيه الشك وذكر الجارود العبدي فقال لو كان أعيمش بني عبد القيس حيا لقدمته وقوله لقدمته دليل على أنه أراد في سالم مثل ذلك من تقديمه للصلاة بهم ثم أجمع على صهيب الرومي فأمره بالصلاة إلى أن يتفق القوم على اختيار رجل منهم
قالوا حديث يكذبه النظر والخبر
قالوا رويتم عن النبي ﷺ أنه قال إن الشمس تطلع من بين قرني شيطان فلا تصلوا لطلوعها قالوا فجعلتم للشيطان قرونا تبلغ السماء وجعلتم الشمس التي هي مثل الأرض مرات تجري بين قرنيه وأنتم مع هذا تزعمون أن الشيطان يجري من بن آدم مجرى الدم فهو في هذه الحال ألطف من كل شيء وهو في تلك الحال أعظم من كل شيء وجعلتم علة ترك الصلاة في وقت طلوع الشمس طلوعها من بين قرنيه وما على المصلي لله تعالى إذا جرت الشمس بين قرني الشيطان وما في هذا مما يمنع من الصلاة لله تعالى
قال أبو محمد ونحن نقول إن إنكارهم لهذا الحديث إن كان من أجل أنهم لا يؤمنون بخلق الشياطين والجن وبأن الله تعالى جعل في تركيبها أن تتحول من حال إلى حال فتتمثل مرة في صورة شيخ ومرة في صورة شاب ومرة في مثال نار ومرة في مثال كلب ومرة في مثال جان ومرة تصل إلى السماء ومرة تصل إلى القلب ومرة تجري مجرى الدم فهؤلاء مكذبون بالقرآن وبما تواطأت عليه الأخبار عن رسول الله ﷺ والأنبياء المتقدمين وكتب الله تعالى المتقدمة والأمم الخالية لأن الله تعالى قد أخبرنا في كتابه أن الشياطين يقعدون من السماء مقاعد للسمع وأنهم يرمون بالنجوم وأخبرنا الله تعالى عن الشيطان أنه قال ولأضلنهم ولأمنينهم ولآمرنهم فليبتكن آذان الأنعام ولآمرنهم فليغيرن خلق الله وهو لا يظهر لنا فكيف يأمرنا بهذه الأشياء لولا أنه يصل إلى القلوب بالسلطان الذي جعله الله تعالى له فيوسوس بذلك ويزين ويمني كما قال الله جل وعز وكما روي في الحديث أنه رئي مرة في صورة شيخ نجدي ومرة في صورة ضفدع ومرة في صورة جان وقد سمى الله تعالى الجن رجالا كما سمانا رجالا فقال تعالى وأنه كان رجال من الإنس يعوذون برجال من الجن وقال في الحور العين لم يطمثهن إنس قبلهم ولا جان فدل ذلك على أن الجن تطمث كما يطمث الإنس والطمث الوطء بالتدمية قال أبو محمد ونحن لم نرد في هذا الكتاب أن نرد على الزنادقة ولا المكذبين بآيات الله عز وجل ورسله وإنما كان غرضنا الرد على من ادعى على الحديث التناقض والاختلاف واستحالة المعنى من المنتسبين إلى المسلمين وإن كان إنكاره لهذا الحديث لأنه رآه لا يقوم في وهمه ولأنه لا معنى لترك الصلاة من أجل أن الشمس تطلع بين قرني شيطان فنحن نريه المعنى حتى يتصور في وهمه له بإذن الله تعالى ويحسن عنده ولا يمتنع على نظره وإنما أمرنا بترك الصلاة مع طلوع الشمس لأنه الوقت الذي كانت فيه عبدة الشمس يسجدون فيه للشمس وقد درج كثير من الأمم السالفة على عبادة الشمس والسجود لها فمن ذلك ما قص الله تبارك وتعالى علينا في نبأ ملكة سبأ أن الهدهد قال لسليمان عليه السلام إني وجدتها وقومها يسجدون للشمس من دون الله وزين لهم الشيطان أعمالهم وكان في العرب قوم يعبدون الشمس ويعظمونها ويسمونها الإلاهة قال الأعشى
فلم أذكر الرهب حتى انفتلت ** قبيل الإلاهة منها قريبا
يعني الشمس وكان بعض القراء يقرأ أتذر موسى وقومه ليفسدوا في الأرض ويذرك وإلهتك يريد ويذرك والشمس التي تعبد فكره لنا رسول الله ﷺ أن نصلي في الوقت الذي يسجد فيه عبدة الشمس للشمس وأعلمنا أن الشياطين حينئذ أو أن إبليس في ذلك الوقت في جهة مطلع الشمس فهم يسجدون له بسجودهم للشمس ويؤمونه ولم يرد بالقرن ما تصوروا في أنفسهم من قرون البقر وقرون الشاء وإنما القرن ههنا حرف الرأس وللرأس قرنان أي حرفان وجانبان ولا أرى القرن الذي يطلع في ذلك الموضع سمي قرنا إلا باسم موضعه كما تسمي العرب الشيء باسم ما كان له موضعا أو سببا فيقولون رفع عقيرته يريدون صوته لأن رجلا قطعت رجله فرفعها واستغاث من أجلها فقيل لمن رفع صوته رفع عقيرته ومثل هذا كثير في كلام العرب وكذلك قوله في المشرق من ههنا يطلع قرن الشيطان لا يريد به ما يسبق إلى وهم السامع من قرون البقر وإنما يريد من ههنا يطلع رأس الشيطان وكان وهب بن منبه يقول في ذي القرنين إنه رجل من أهل الإسكندرية واسمه الإسكندروس وأنه كان حلم حلما رأى فيه أنه دنا من الشمس حتى أخذ بقرنيها في شرقها وغربها فقص رؤياه على قومه فسموه ذي القرنين وأراد بأخذه بقرنيها أنه أخذ بجانبيها والقرون أيضا خصل الشعر كل خصلة قرن ولذلك قيل للروم ذات القرون يراد أنهم يطولون الشعور فأراد ﷺ أن يعلمنا أن الشيطان في وقت طلوع الشمس وعند سجود عبدتها لها مائل مع الشمس فالشمس تجري من قبل رأسه فأمرنا أن لا نصلي في هذا الوقت الذي يكفر فيه هؤلاء ويصلون للشمس وللشيطان وهذا أمر مغيب عنا لا نعلم منه إلا ما علمنا والذي أخبرتك به شيء يحتمله التأويل ويباعده عن الشناعة والله أعلم ولم يأت أهل التكذيب بهذا وأشباهه إلا لردهم الغائب عنهم إلى الحاضر عندهم وحملهم الأشياء على ما يعرفون من أنفسهم ومن الحيوان والموات واستعمالهم حكم ذوي الجثث في الروحانيين فإذا سمعوا بملائكة على كواهلها العرش وأقدامها في الأرض السفلى استوحشوا من ذلك لمخالفته ما شاهدوا وقالوا كيف تخرق جثث هؤلاء السماوات وما بينهما والأرضين وما فوقها من غير أن نرى لذلك أثرا وكيف يكون خلق له هذه العظمة وكيف تكون أرواحا ولها كواهل وأقدار وإذا سمعوا بأن جبريل عليه السلام مرة أتى النبي ﷺ في صورة أعرابي ومرة في صورة دحية الكلبي ومرة في صورة شاب ومرة سد بجناحيه ما بين المشرق والمغرب قالوا كيف يتحول من صورة إلى صورة وكيف يكون مرة في غاية الصغر ومرة في غاية الكبر من غير أن يزاد في جسمه ولا جثته وأعراضه لأنهم لا يعاينون إلا ما كان كذلك وإذا سمعوا بأن الشيطان يصل إلى قلب بن آدم حتى يوسوس له ويخنس قالوا من أين يدخل وهل يجتمع روحان في جسم وكيف يجري مجرى الدم قال أبو محمد ولو اعتبروا ما غاب عنهم بما رأوه من قدرة الله جل وعز لعلموا أن الذي قدر على أن يفجر مياه الأرض كلها إلى البحر منذ خلق الله الأرض وما عليها فهي تفضي إليه من غير أن يزيد فيه أو ينقص منه ولو جعل لنهر منها مثل دجلة أو الفرات أو النيل سبيل إلى ما على وجه الأرض من المدائن والقرى والعمارات والخراب شهرا لم يبق على ظهرها شيء إلا هلك هو الذي قدر على ما أنكروا وأن الذي قدر أن يحرك هذه الأرض على عظمها وكثافتها وبحارها وأطوادها وأنهارها حتى تتصدع الجبال وحتى تغيض المياه وحتى ينتقل جبل من مكان إلى مكان هو الذي لطف لما قدر وأن الذي وسع إنسان العين مع صغره وضعفه لإدراك نصف الفلك على عظمه حتى رأى النجم من المشرق ورقيبه من المغرب وما بينهما وحتى خرق من الجو مسيرة خمسمائة عام هو الذي خلق ملكا ما بين شحمة أذنه إلى عاتقه مسيرة خمسمائة عام فهل ما أنكر إلا بمنزلة ما عرف وهل ما رأى إلا بمنزلة ما لم يره فتعالى الله أحسن الخالقين
قالوا حديثان متناقضان
قالوا رويتم عن النبي ﷺ كل مولود يولد على الفطرة حتى يكون أبواه يهودانه وينصرانه ثم رويتم الشقي من شقي في بطن أمه والسعيد من سعد في بطن أمه وأن النطفة إذا انعقدت بعث الله عز وجل إليها ملكا يكتب أجله ورزقه وشقي أو سعيد وأنه مسح على ظهر آدم فقبض قبضة فقال إلى الجنة برحمتي وقبض أخرى فقال إلى النار ولا أبالي قالوا وهذا تناقض واختلاف فرق بين المسلمين واحتج به أهل القدر وأهل الإثبات
قال أبو محمد ونحن نقول إنه ليس ههنا تناقض ولا اختلاف بنعمة الله تعالى ولو عرفت المعتزلة ما معناه ما فارقت المثبتة إن لم يكن الاختلاف إلا لهذا الحديث والفطرة ههنا الابتداء والإنشاء ومنه قوله تعالى الحمد لله فاطر السماوات والأرض أي مبتدئهما وكذلك قوله فطرة الله التي فطر الناس عليها يريد جبلته التي جبل الناس عليها وأراد بقوله كل مولود يولد على الفطرة أخذ الميثاق الذي أخذه عليهم في اصلاب آبائهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى فلست واجدا أحدا إلا وهو مقر بأن له صانعا ومدبرا وإن سماه بغير اسمه أو عبد شيئا دونه ليقربه منه عند نفسه أو وصفه بغير صفته أو أضاف إليه ما تعالى عنه علوا كبيرا قال الله تعالى ولئن سألتهم من خلقهم ليقولن الله فكل مولود في العالم على ذلك العهد والإقرار وهي الحنيفية التي وقعت في أول الخلق وجرت في فطر العقول قال رسول الله ﷺ يقول الله تبارك وتعالى إني خلقت عبادي جميعا حنفاء فاجتالتهم الشياطين عن دينهم ثم يهود اليهود أبناءهم ويمجس المجوس أبناءهم أي يعلمونهم ذلك وليس الإقرار الأول مما يقع به حكم أو عليه ثواب ألا ترى أن الطفل من أطفال المشركين ما كان بين أبويه فهو محكوم عليه بدينهما لا يصلى عليه إن مات ثم يخرج عن كنفهما إلى مالك من المسلمين فيحكم عليه بدين مالكه ويصلى عليه إن مات ومن وراء ذلك علم الله تعالى فيه وفرق ما بين أهل القدر وأهل الإثبات في هذا الحديث أن الفطرة عند أهل القدر الإسلام فتناقض عندهم الحديثان والفطرة عند أهل الإثبات العهد الذي أخذه عليهم حين فطروا فاتفق الحديثان ولم يختلفا وصار لكل واحد منهما موضع
قالوا حديث يفسد أوله آخره
قالوا رويتم عن النبي ﷺ أنه قال إذا قام أحدكم من منامه فلا يغمس يده في الإناء حتى يغسلها ثلاثا فإنه لا يدري أين باتت يده قالوا وهذا حديث جائز لولا قوله فإنه لا يدري أين باتت يده وما منا أحد إلا وقد درى أن يده باتت حيث بات بدنه وحيث باتت رجله وأذنه وأنفه وسائر أعضائه وأشد الأمور أن يكون مس بها فرجه في نومه ولو أن رجلا مس فرجه في يقظته لما نقض ذلك طهارته فكيف بأن يمسه وهو لا يعلم والله لا يؤاخذ الناس بما لا يعلمون فإن النائم قد يهجر في نومه فيطلق ويكفر ويفتري ويحتلم على امرأة جاره وهو عند نفسه في نومه زان ثم لا يكون بشيء من ذلك مؤاخذا في أحكام الدنيا ولا في أحكام الآخرة
قال أبو محمد ونحن نقول إن هذا النظار علم شيئا وغابت عنه أشياء أما علم أن كثيرا من أهل الفقه قد ذهبوا إلى ان الوضوء يجب من مس الفرج في المنام واليقظة بهذا الحديث وبالحديث الآخر من مس فرجه فليتوضأ وإن كنا نحن لا نذهب إلى ذلك ونرى أن الوضوء الذي أمر به من مس فرجه غسل اليد لأن الفروج مخارج الحدث والنجاسات وكذلك الوضوء عندنا مما مست النار إنما هو غسل اليد من الزهم والأطبخة والشواء وقد بينا ذلك في غير موضع وأتينا بالدلائل عليه فإذا كان الوضوء من مس الفرج هو غسل اليدين تبين أن رسول الله ﷺ أمر المستيقظ من منامه أن يغسل يده قبل أن يدخلها الإناء لأنه لا يدري أين باتت يده يقول لعله في منامه مس بها فرجه أو دبره وليس يؤمن أن يصيب يده قاطر بول أو بقية مني إن كان جامع قبل المنام فإذا أدخلها في الإناء قبل أن يغسلها أنجس الماء وأفسده وخص النائم بهذا لأن النائم قد تقع يده على هذه المواضع وعلى دبره وهو لا يشعر فأما اليقظان فإنه إذا لمس شيئا من هذه المواضع فأصاب يده منه أذى علم به ولم يذهب عليه فغسلها قبل أن يدخلها في الإناء أو يأكل أو يصافح
قالوا حديث يفسد أوله آخره
قالوا رويتم أن النبي ﷺ نهى عن الصلاة في أعطان الإبل لأنها خلقت من الشياطين ونهيه عن الصلاة في أعطان الإبل لا ينكر وهو جائز في التعبد فلما وصلتم ذلك بأنها خلقت من الشياطين علمنا أن النبي ﷺ يعلم أن الإبل خلقت من الإبل كما أن البقر خلقت من البقر والخيل من الخيل والأسد من الأسد والذباب من الذباب
قال أبو محمد ونحن نقول إن النبي ﷺ وغير النبي يعلم أن البعير تلده الناقة وأنه لا يجوز أن تكون شيطانة تلد جملا ولا أن ناقة تلد شيطانا وإنما أعلمنا أنها في أصل الخلقة خلقت من جنس خلقت منه الشياطين ويدلك على ذلك قوله في حديث آخر إنها خلقت من أعنان الشياطين يريد من جوانبها ونواحيها كما يقال بلغ فلان أعنان السماء أي نواحيها وجوانبها ولو كانت من نسلها لقال فإنها خلقت من نسلها أو بطونها أو اصلابها وأما يشبه هذا ولم تزل العرب تنسب جنسا من الإبل إلى الحوش فتقول ناقة حوشية وإبل حوشية وهي أنفر الإبل وأصعبها ويزعمون أن للجن نعما ببلاد الحوش وأنها ضربت في نعم الناس فنتجت هذه الحوشية قال رؤبة
جرت رحانا من بلاد الحوش
وقد يجوز على هذا المذهب أن تكون في الأصل من نتاج نعم الجن لا من الجن أنفسها ولذلك قال من أعنان الشياطين أي من نواحيها وهذا شيء لا ينكره إلا من أنكر الجن أنفسها والشياطين ولم يؤمن إلا بما رأته عينه وأدركته حواسه وهو من عقد قوم من الزنادقة والفلاسفة يقال لهم الدهرية وليس من عقد المسلمين
قالوا حديث يفسد بعضه بعضا
قالوا رويتم أن رسول الله ﷺ قال لولا أن الكلاب أمة من الأمم لأمرت بقتلها ولكن اقتلوا منها كل أسود بهيم وقال الأسود شيطان قالوا فكأنه إنما قتله لأنه أسود أو لأنه شيطان مع عفوه عن جماعة الكلاب لأنها أمة وليس في كونها أمة علة تمنع من القتل ولا توجبه قالوا ثم رويتم أنه عليه السلام أمر بقتل الكلاب حتى لم يبق بالمدينة كلب فكيف قتلها وهي أمة أولا منعه ذلك من قتلها قالوا وقد صارت العلة التي بها عفا عنها هي العلة التي قتلها لها
قال أبو محمد ونحن نقول إن كل جنس خلقه الله تعالى من الحيوان أمة كالكلاب والأسد والبقر والغنم والنمل والجراد وما أشبه هذا كما أن الناس أمة وكذلك الجن أمة يقول الله تعالى وما من دابة في الأرض ولا طائر يطير بجناحيه إلا أمم أمثالكم يريد أنها مثلنا في طلب الغذاء والعشاء وابتغاء الرزق وتوقي المهالك وكذلك الجن قد خاطبهم الله تعالى كما خاطبنا إذ يقول يا معشر الجن والإنس ألم يأتكم رسل منكم ولو أمر النبي ﷺ بقتل الكلاب على كل حال لأفنى أمة وقطع أثرها وفي الكلاب منافع للناس في حراسة منازلهم وحفظ نعمهم وحرثهم مع الارتفاق بصيدها فإن كثيرا من الأعراب ونازلة القفر لا غذاء لهم ولا معاش إلا بها والله تعالى يقول فكلوا مما أمسكن عليكم وفي ذلك دليل على أنه تعالى خلقها لمنافعنا وقد كان أبو عبيدة يذكر أن رجلين سافرا ومع أحدهما كلب له فوقع عليهما اللصوص فقاتل أحدهما حتى غلب وأخذ فدفن وترك رأسه بارزا وجاءت الغربان وسباع الطير فحامت حوله تريد أن تنهشه وتقلع عينيه ورأى ذلك كلب كان معه فلم يزل ينبش التراب عنه حتى استخرجه ومن قبل ذلك قد فر صاحبه وأسلمه قال ففي ذلك يقول الشاعر
يعرد عنه جاره ورفيقه
وينبش عنه كلبه وهو ضاربه وليس لشيء من الحيوان مثل محاماته على أهله وذبه عنهم مع الإساءة إليه والطرد والضرب والأخبار عن الكلاب في هذا كثيرة صحاح ونكره الإطالة بذكرها وليست تخلو الكلاب من أن تكون أمة من أمم السباع أو تكون أمة من الجن كما قال بن عباس الكلاب أمة من الجن وهي ضعفة الجن فإذا غشيتكم عند طعامكم فألقوا لها فإن لها أنفسا يعني أن لها عيونا تصيب بها والنفس العين يقال أصابت فلانا نفس أي عين وقال أيضا الجان مسيخ الجن كما مسخت القردة من بني إسرائيل ولا يبعد أيضا أن تكون الكلاب كذلك وهذه الأمور لا تدرك بالنظر والقياس والعقول وإنما ينتهى فيها إلى ما قاله الرسول ﷺ أو ما قاله من سمع منه وشاهده فإنهم لا يقضون على مثله إلا بسماع منه أو سماع ممن سمعه أو بخبر صادق من خبر الكتب المتقدمة وليس هو من أمور الفرائض والسنن وليس علينا وكف ولا نقص من أن تكون الكلاب من السباع أو الجن أو الممسوخ فإن كانت من السباع فإنما أمر بقتل الأسود منها وقال هو شيطان لأن الأسود البهيم منها أضرها وأعقرها والكلب إليه أسرع منه إلى جمعها وهو مع هذا أقلها نفعا وأسوؤها حراسة وأبعدها من الصيد وأكثرها نعاسا وقال هو شيطان يريد أنه أخبثها كما يقال فلان شيطان وما هو إلا شيطان مارد وما هو إلا أسد عاد وما هو إلا ذئب عاد يراد أنه شبيه بذلك وإن كانت الكلاب من الجن أو كانت ممسوخا من الجن فإنما أراد أن الأسود منها شيطانها فاقتلوه لضره والشيطان هو مارد الجن والجن هم الضعفة والجن أضعف من الجن وأما قتله كلاب المدينة فليس فيه نقض لقوله لولا أن الكلاب أمة من الأمم لأمرت بقتلها لأن المدينة في وقته ﷺ مهبط وحي الله تعالى مع ملائكته والملائكة لا تدخل بيتا فيه كلب ولا صورة روي عن رسول الله ﷺ حدثني محمد بن خالد بن خداش قال حدثني مسلم بن قتيبة عن يونس بن أبي إسحاق عن مجاهد عن أبي هريرة عن النبي ﷺ قال قال لي جبريل عليه السلام لم يمنعني من الدخول عليك البارحة إلا أنه كان على باب بيتك ستر فيه تصاوير وكان في بيتك كلب فمر به فليخرج وكان الكلب جروا للحسن والحسين تحت نضد لهم وهذا دليل على أنها كما تكره الكلاب في البيوت تكره أيضا في المصر فأمر النبي ﷺ بقتلها أو بالتخفيف منها فيما قرب منها وأمسك عن سائرها مما بعد من مهبط الملائكة ومنزل الوحي قال أبو محمد النضد السرير لأن الثياب تنضدد فوقه
قالوا حديث يفسد أوله آخره
قالوا رويتم أنه قال خمس فواسق يقتلن في الحل والحرم الغراب والحدأة والكلب والحية والفأرة قال فلو قال اقتلوا هذه الخمسة وخمسة معها لجاز ذلك في التعبد فأما أن تقتل لأنها فواسق فهذا لا يجوز لأن الفسق والهدى لا يجوز على شيء من هذه الأشياء والهوام والسباع والطير غير الشياطين وغير الجن والإنس الذين يكون منهم الفسق والهداية
قال أبو محمد ونحن نقول إن المعتقد أن الهوام والسباع والطير لا يجوز عليها عصيان ولا طاعة مخالف لكتاب الله جل وعز وأنبيائه ورسله وكتب الله المتقدمة لأن الله تعالى قد أخبرنا عن نبيه سليمان عليه السلام أنه تفقد الطير فقال مالي لا أرى الهدهد أم كان من الغائبين لأعذبنه عذابا شديدا أو لأذبحنه أو ليأتيني بسلطان مبين أي بعذر بين وحجة في غيبته وتخلفه ولا يجوز أن يعذبه إلا على ذنب ومعصية والذنوب والمعاصي تسمى فسوقا وما جاز أن يسمى عاصيا جاز أن يسمى فاسقا ثم حكى الله تعالى عن الهدهد بعد أن اعتذر إلى سليمان فقال أحطت بما لم تحط به وجئتك من سبأ بنبأ يقين إني وجدت امرأة تملكهم وأوتيت من كل شيء ولها عرش عظيم وجدتها وقومها يسجدون للشمس من دون الله وزيه لهم الشيطان أعمالهم فصدهم عن السبيل فهم لا يهتدون ألا يسجدوا لله الذي يخرج الخبء في السماوات والأرض ويعلم ما تخفون وما تعلنون وهذا لو كان من أقاويل الحكماء بل لو كان من كلام الأنبياء لكان كلاما حسنا وعظة بليغة وحجة بينة فكيف لا يجوز على هذا مطيع وعاص وفاسق ومهتد وقد حكى الله تعالى أيضا عن النمل ما حكاه في هذه السورة فقال وورث سليمان داود وقال يا أيها الناس علمنا منطق الطير فجعلها تنطق كما ينطق الناس وقال حتى أتوا على واد النمل قالت نملة يا أيها النمل الآية فجعلها تنطق كما ينطق الناس وقال وإن من شيء إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم وقال يا جبال أوبي معه والطير أي سبحي قال أبو محمد وقرأت في التوراة أن نوحا ﷺ لما كان بعد أربعين يوما فتح كوة الفلك التي صنع ثم أرسل الغراب فخرج ولم يرجع حتى يبس الماء على وجه الأرض وأرسل الحمامة مرة بعد مرة فرجعت حين أمست وفي منقارها ورقة زيتون فعلم أن الماء قد قل عن وجه الأرض فدعا الله تعالى لها بالطوق في عنقها والخضاب في رجليها قال أبو محمد وقرأت أيضا في التوراة أن الله جل وعز قال لآدم حين خلقه كل ما شئت من شجر الفردوس ولا تأكل من شجرة علم الخير والشر فإنك يوم تأكل منها تموت يريد أنك تتحول إلى حال من يموت وكانت الحية أعزم دواب البر فقالت للمرأة إنكما لا تموتان أن أكلتما منها ولكن أعينكما تنفتح وتكونان كالإلاهة تعلمان الخير والشر فأخذت المرأة من ثمرتها فأكلت وأطعمت بعلها فانفتحت أبصارهما وعلما أنهما عريانان فوصلا من ورق التين واصطنعاه إزارا ثم سمعا صوت الله تعالى في الجنة حين تورك النهار فاختبأ آدم وامرأته في شجر الجنة فدعاهما فقال آدم سمعت صوتك في الفردوس ورأيتني عريانا فاختبأت منك فقال ومن أراك أنك عريان لقد أكلت من الشجرة التي نهيتك عنها فقال إن المرأة أطعمتني وقالت المرأة إن الحية أطغتني فقال الله جل وعز للحية من أجل فعلك هذا فأنت ملعونة وعلى بطنك تمشين وتأكلين التراب وسأغري بينك وبين المرأة وولدها فيكون يطأ رأسك وتكونين أنت تلدغينه بعقبه وقال للمرأة وأما أنت فأكثر أوجاعك وإحبالك وتلدين الأولاد بالألم وتردين إلى بعلك حتى يكون مسلطا عليك وقال لآدم ﷺ ملعونة الأرض من اجلك وتنبت الحاج والشوك وتأكل منها بالشقاء ورشح جبينك حتى تعود إلى التراب من أجل أنك تراب قال أبو محمد أفما ترى أن الحية أطغت واختدعت فلعنها الله تعالى وغير خلقها وجعل التراب رزقها أفما يجوز أن تسمى هذه فاسقة وعاصية وكذلك الغراب بمعصيته نوحا ﷺ ويرى أهل النظر أنه إنما سمي غراب البين لأنه بان عن نوح عليه السلام فذهب ولذلك تشاءموا به وزجروا في نعيقه بالفراق والاغتراب واستخرجوا من اسمه الغربة وقالوا قذفته نوى غربة وهذا شاء مغرب وهذه عنقاء مغرب أي جائية من بعد يعنون العقاب وكل هذا مشتق من اسم الغراب لمفارقته نوحا ﷺ ومباينته قال أبو محمد ومن الدليل أيضا حديث محمد بن سنان العوفي عن عبد الله بن الحارث بن أبزى المكي عن أمه رائطة بنت مسلم عن أبيها أنه قال شهدت مع رسول الله ﷺ حنينا فقال لي ما اسمك قلت غراب فقال أنت مسلم كره أن يكون اسمه غرابا لفسق الغراب ومعصيته فسلماه مسلما ذهب إلى ضد معنى الغراب لأن الغراب عاص والمسلم مطيع مأخوذ من الاستسلام وهو الانقياد والطاعة وكان عليه السلام يحب الاسم الحسن ويكره الاسم القبيح على ما قدمنا من القول في هذا الكتاب ولو أنا تركنا هذا المذهب الذي عليه المسلمون في تجويز الطاعة والمعصية على الحية والغراب والفأرة إلى ما يجوز في كلام العرب وفي اللغة لجاز لنا أن نسمي كل واحد من هذه فاسقا لأن الفسق الخروج على الناس والإيذاء عليهم يقال فسقت الرطبة إذا خرجت عن قشرها وكل خارج عن شيء فهو فاسق قال الله تعالى إلا إبليس كان من الجن ففسق عن أمر ربه أي خرج عن أمر ربه وطاعته فالحية تخرج على الناس من جحرها فتعبث بطعام الناس وتنهش وتكرع في شرابهم وتمج فيه ريقها والفأرة أيضا تخرج من جحرها فتفسد أطعمتهم وتقرض ثيابهم وتضرم بالذبالة على أهل البيت بيتهم ولا شيء من حشرات الأرض أعظم منها ضررا والغراب يقع على دآء البعير الدبر فينقره حتى يقتله ولذلك تسميه العرب بن داية وينزع عن الخير ويختلس أطعمة الناس والكلب يعقر ويجرح وكذلك السباع العادية وكل هذه قد يجوز أن تسمى فواسق لخروجها على الناس واعتراضها بالمضار عليهم فأين كانوا عن هذا المخرج إذ قبح عندهم أن ينسبوا شيئا من هذه إلى طاعة أو معصية
قالوا حديث يكذبه النظر
قالوا رويتم أن رسول الله ﷺ توفي ودرعه مرهونة عند يهودي بأصواع من شعير فيا سبحان الله أما كان في المسلمين مواس ولا مؤثر ولا مقرض وقد أكثر الله عز وجل الخير وفتح عليهم البلاد وجبوا ما بين أقصى اليمن إلى أقصى البحرين وأقصى عمان ثم بياض نجد والحجاز وهذا مع أموال الصحابة كعثمان وعبد الرحمن وفلان وفلان فأين كانوا قالوا وهذا كذب وقائله أراد مدحة النبي ﷺ بالزهد وبالفقر وليس هكذا تمدح الرسل وكيف يجوع من يجهز الجيوش ومن يسوق المئين من البدن وله مما أفاء الله عليه مثل فدك وغيرها وذكر مالك بن أنس عن أبي الزبير عن جابر قال نحر النبي ﷺ بالحديبية سبعين بدنة كل بدنة عن سبعة واستاق في عمرة القضاء مكان عمرته التي صده المشركون ستين بدنة وكيف يجوع من وقف سبع حوائط متجاورة بالعالية ثم لا يجد مع هذا من يقرضه أصواعا من شعير حتى يرهن درعه
قال أبو محمد ونحن نقول إنه ليس في هذا ما يستعظم بل ما ينكر لأن النبي ﷺ كان يؤثر على نفسه بأمواله ويفرقها على المحقين من أصحابه وعلى الفقراء والمساكين وفي النوائب التي تنوب المسلمين ولا يرد سائلا ولا يعطي إذا وجد إلا كثيرا ولا يضع درهما فوق درهم وقالت له أم سلمة يا رسول الله أراك ساهم الوجه أمن علة فقال لا ولكنها السبعة الدنانير التي أتينا بها أمس نسيتها في خصم الفراس فبت ولم أقسمها وكانت عائشة رضي الله عنها تقول في بكائها عليه بأبي من لم ينم على الوثير ولم يشبع من خبز الشعير وليس يخلو قولها هذا من أحد أمرين إما أن يكون يؤثر بما عنده حتى لا يبقى عنده ما يشبعه وهذا بعض صفاته والله عز وجل يقول ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة أو يكون لا يبلغ الشبع من الشعير ولا من غيره لأنه كان يكره إفراط الشبع وقد كره ذلك كثير من الصالحين والمجتهدين وهو ﷺ أولاهم بالفضل وأحراهم بالسبق وحدثنا أبو الخطاب قال أنا أبو عاصم عبيد الله بن عبد الله قال أنا المحبر بن هارون عن أبي يزيد المدني عن عبد الرحمن بن المرقع قال قال رسول الله ﷺ إن الله تعالى لم يخلق وعاء ملئ شرا من بطن فإن كان لا بد فاجعلوا ثلثا للطعام وثلثا للشراب وثلثا للريج وقد قال مالك بن دينار إنما مثل المؤمن مثل المأبورة يريد أكلت في العلف إبرة فهي لا تأكل إذا أكلت في العلف إلا قليلا ولا ينجع فيها العلف وقد قيل لابن عمر في الجوارشن شيء فقال وما أصنع به وأنا لم أشبع منذ كذا يريد أنه كان يدع الطعام وبه إليه الحاجة وقال الحسن لرجل دخل عليه وهو يأكل كل فقال قد أكلت فما أشتهي شيئا قال يا سبحان الله وهل يأكل أحد حتى لا يشتهي شيئا وقال مالك بن دينار أو غيره لوددت أن رزقي في حصاة أمصها ولقد استحييت من الله تعالى لكثرة دخولى إلى الخلاء وقال بكر بن عبد الله لم أجد طعم العيش حتى استبدلت الخمص بالكظة وحتى لم ألبس من ثيابي ما يستخدمني وحتى لم آكل إلا ما لا أغسل يدي منه فلما بكته ﷺ عائشة رضي الله عنها فقالت بأبي من يشبع من خبز الشعير وقد كان يأكل خبز الحنطة وخبز الشعير غير أنه لا يبلغ الشبع منه إما للحال الأولى أو للحال الأخرى فذكرت أخس الطعامين وأرادت أنه إذا كان لا يشبع منه على خساسته فغيره أحرى أن لا يشبع منه وقد قال عمر رضي الله عنه لو شئت لدعوت بصلاء وصناب وكراكر وأسنمة وقال لو شئت لأمرت بفتية فذبحت وأمرت بدقيق فنخل وأمرت بزبيب فجعل في سعن حتى يصير كدم الغزال هذا وأشباهه ولكني سمعت الله تعالى يقول لقوم أذهبتم طيباتكم في حياتكم الدنيا واستمتعتم بها فاليوم تجزون عذاب الهون وقد يأتي على البخيل الموسى تارات لا يحضره فيها مال وله الضيعة والأثاث والديون فيحتاج إلى أن يقترض وإلى أن يرهن فكيف بمن لا يبقى له درهم ولا يفضل عن مواساته ونوائبه زاد وكيف يعلم المسلمون وأهل اليسار من صحابته بحاجته إلى الطعام وهو لا يعلمهم ولا ينشط في وقته ذلك إليهم وقد نجد هذا بعينه في أنفسنا وأشباهنا من الناس ونرى الرجل يحتاج إلى الشيء فلا ينشط فيه إلى ولده ولا إلى أهله ولا إلى جاره ويبيع العلق ويستقرض من الغريب والبعيد وإنما رهن درعه عند يهودي لأن اليهود في عصره كانوا يبيعون الطعام ولم يكن المسلمون يبيعونه لنهيه عن الاحتكار فما الذي أنكروه من هذا حتى أظهروا التعجب منه وحتى رمى بعض المرقة الأعمش بالكذب من أجله
قالوا حديث يبطله القياس
قالوا رويتم عن النبي ﷺ أنه أمر عمرو بن العاص أن يقضي بين قوم وأن عمرا قال له أقضي يا رسول الله وأنت حاضر فقال له اقض بينهم فإن أصبت فلك عشر حسنات وإن أخطأت فلك حسنة واحدة قالوا وهذا الحكم لا يجوز على الله تبارك وتعالى وذلك أن الاجتهاد الذي يوافق الصواب من عمرو هو الاجتهاد الذي يوافق الخطأ وليس عليه أن يصيب إنما عليه أن يجتهد وليس يناله في موافقة الصواب من العمل والقصد والعناية واحتمال المشقة إلا ما يناله مثله في موافقته الخطأ فبأي معنى يعطى في أحد الاجتهادين حسنة وفي الآخر عشرا
قال أبو محمد ونحن نقول إن الاجتهاد مع موافقة الصواب ليس كالاجتهاد مع موافقة الخطأ ولو كان هذا على ما أسس كان اليهود والنصارى والمجوس والمسلمون سواء وأهل الآراء المختلفة سواء إذا اجتهدوا وآراءهم وأنفسهم فأدتهم عقولهم أنهم على الحق وأن مخالفيهم على الخطأ قال أبو محمد ولكنا نقول إن من وراء اجتهاد كل امرء توفيق الله تعالى وفي هذا كلام يطول وليس هذا موضعه ولو أن رجلا وجه رسولين في بغاء ضالة له وأمرهما بالاجتهاد والجد في طلبها ووعدهم الثواب إن وجداها فمضى أحدها خمسين فرسخا في طلبها وأتعب نفسه وأسهر ليله ورجع خائبا ومضى الاخر فرسخا وادعا ورجع واجدا لم يك أحقهما بأجزل العطية وأعلى الحباء الواجد وإن كان الآخر قد احتمل من المشقة والعناء أكثر مما احتمله الآخر فكيف بهما إذا استويا وقد يستوي الناس في الأعمال ويفضل الله عز وجل من يشاء فإنه لا دين لأحد عليه ولا حق له قبله قال أبو محمد وقرأت في الإنجيل أن المسيح عليه السلام قال للحواريين مثل ملكوت السماء مثل رجل خرج غلسا يستأجر عمالا لكرمه فشرط لكل عامل دينارا في اليوم ثم أرسلهم إلى كرمه ثم خرج في ثلاث ساعات فرأى قوما بطالين في السوق فقال اذهبوا أنتم أيضا إلى الكرم فإني سوف أعطيكم الذي ينبغي لكم فانطلقوا ثم خرج في ست ساعات وفي تسع ساعات وفي إحدى عشر ساعة ففعل مثل ذلك فلما أمسى قال لأمينه أعط العمال أجورهم ثم ابدأ بآخرهم حتى تبلغ أولهم فأعطاهم فسوى بينهم في العطية فلما أخذوا حقوقهم سخطوا على رب الكرم وقالوا إنما عمل هؤلاء ساعة واحدة فجعلتهم أسوتنا في الأجرة فقال إني لم أظلمكم أعطيتكم الشرط وجدت لهؤلاء والمال مالي أصنع به ما أشاء كذلك يكون الأولون الآخرين والاخرون الأولين
قالوا حديثان مختلفان
قالوا رويتم أن النبي ﷺ قال من هم بحسنة ولم يعملها كتبت له حسنة واحدة ومن عملها كتبت له عشرا ثم رويتم نية المرء خير من عمله فصارت النية في الحديث الأول دون العمل وصارت في الحديث الثاني خيرا من العمل وهذا تناقض واختلاف
قال أبو محمد ونحن نقول إنه ليس ههنا تناقض بحمد الله تعالى والهام بالحسنة إذا لم يعملها خلاف العامل لها لأن الهام لم يعمل والعامل لم يعمل حتى هم ثم عمل وأما قوله ﷺ نية المرء خير من عمله فإن الله تعالى تخلد المؤمن في الجنة بنيته لا بعمله ولو جوزي بعمله لم يستوجب التخليد لأنه عمل في سنين معدودة والجزاء عليها يقع بمثلها وبأضعافها وإنما يخلده الله تعالى بنيته لأنه كان ناويا أن يطيع الله تعالى أبدا لو أبقاه ابدا فلما اخترمه دون نيته جزاه عليها وكذلك الكافر نيته شر من عمله لأنه كان ناويا أن يقيم على الكفر لو أبقاه أبدا فلما اخترمه الله تعالى دون نيته جزاه عليها
قالوا حديث يكذبه الكتاب والنظر
قالوا رويتم أن رسول الله ﷺ وقف على قليب بدر فقال يا عتبة بن ربيعة ويا شيبة بن ربيعة ويا فلان ويا فلان هل وجدتم ما وعدكم ربكم حقا فقد وجدنا ما وعدنا ربنا حقا فقيل له في ذلك فقال والذي نفسي بيده إنهم ليسمعون كما تسمعون وإن الله تعالى يقول وما أنت بمسمع من في القبور ويقول إنك لا تسمع الموتى ثم رويتم أن رسول الله ﷺ قال يوم الأحزاب اللهم رب الأجساد البالية والأرواح الفانية وأن بن عباس سئل عن الأرواح أين تكون إذا فارقت الأجساد وأين تذهب الأجساد إذا بليت فقال أين يذهب السراج إذا طفئ وأين يذهب البصر إذا عمي وأين يذهب لحم الصحيح إذا مرض قال لا أين قال فكذلك الأرواح إذا فارقت الأجساد وهذا لا يشبه قوله ﷺ إنهم ليسمعون كما تسمعون وما تروونه في عذاب القبر
قال أبو محمد ونحن نقول إنه إذا جاز في المعقول وصح في النظر وبالكتاب والخبر أن الله تعالى يبعث من في القبور بعد أن تكون الأجساد قد بليت والعظام قد رمت جاز أيضا في المعقول وصح في النظر وبالكتاب والخبر أنهم يعذبون بعد الممات في البرزخ فأما الكتاب فإن الله تعالى يقول النار يعرضون عليها غدوا وعشيا ويوم تقوم الساعة أدخلوا آل فرعون أشد العذاب فهم يعرضون بعد مماتهم على النار غدوا وعشيا قبل يوم القيامة ويوم القيامة يدخلون أشد العذاب والله عز وجل يقول ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون فرحين بما آتاهم الله من فضله ويستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم من خلفهم ألا خوف عليهم ولا هم يحزنون وهذا شيء خص الله تعالى به شهداء بدر رحمة الله عليهم وقد أخرجوا عند حفر القناة رطابا يتثنون حتى قال قائل لا ننكر بعد هذا شيئا وحدثني محمد بن عبيد عن بن عيينة عن أبي الزبير عن جابر قال لما أراد معاوية أن يجري العين التي حفرها قال سفين تسمى عين أبي زياد بالمدينة نادوا بالمدينة من كان له قتيل فليأت قتيله قال جابر فأتيناهم فأخرجناهم رطابا يتثنون وأصابت المسحاة رجل رجل منهم فانفطرت دما فقال أبو سعيد الخدري لا ينكر بعدها منكر أبدا ورأت عائشة بنت طلحة أباها في المنام فقال لها يا بنية حوليني من هذا المكان فقد أضر بي الندى فأخرجته بعد ثلاثين سنة أو نحوها فحولته من ذلك النز وهو طري لم يتغير منه شيء فدفن بالهجريين بالبصرة وتولى إخراجه عبد الرحمن بن سلامة التيمي وهذه أشياء مشهورة كأنها عيان فإذا جاز أن يكون هؤلاء الشهداء أحياء عند ربهم يرزقون وجاز أن يكونوا فرحين ومستبشرين فلم لا يجوز أن يكون أعداؤهم الذين حاربوهم وقتلوهم أحياء في النار يعذبون وإذا جاز أن يكونوا أحياء فلم لا يجوز أن يكونوا يسمعون وقد أخبرنا رسول الله ﷺ وقوله الحق وأما الخبر فقول النبي ﷺ في جعفر بن أبي طالب إنه يطير مع الملائكة في الجنة وتسميته له ذا الجناحين وكثرة الأخبار عنه في منكر ونكير وفي عذاب القبر وفي دعائه أعوذ بك من فتنة المحيا والممات وأعوذ بك من عذاب القبر ومن فتنة المسيح الدجال وهذه الأخبار صحاح لا يجوز على مثلها التواطؤ وإن لم يصح مثلها لم يصح شيء من أمور ديننا ولا شيء أصح من أخبار نبينا ﷺ وأما قوله تعالى إنك لا تسمع الموتى وما أنت بمسمع من في القبور فليس من هذا في شيء لأنه أراد بالموتى ههنا الجهال وهم أيضا أهل القبور يريد إنك لا تقدر على إفهام من جعله الله تعالى جاهلا ولا تقدر على إسماع من جعله الله تعالى أصم عن الهدى وفي صدر هذه الآيات دليل على ما نقول لأنه قال لا يستوي الأعمى والبصير يريد بالأعمى الكافر وبالبصير المؤمن ولا الظلمات ولا النور يعني بالظلمات الكفر وبالنور الإيمان ولا الظل ولا الحرور يعني بالظل الجنة وبالحرور النار وما يستوي الأحياء ولا الأموات يعني بالآحياء العقلاء وبالأموات الجهلاء ثم قال إن الله يسمع من يشاء وما أنت بمسمع من في القبور يعني أنك لا تسمع الجهلاء الذين كأنهم موتى في القبور ومثل هذا كثير في القرآن ولم يرد بالموتى الذين ضربهم مثلا للجهلاء شهدا بدر فيحتج بهم علينا أولئك عنده أحياء كما قال الله عز وجل وأما قوله اللهم رب الأجساد البالية والأرواح الفانية فإنه قاله على ما يعرف الناس وعلى ما شاهدوا لأنهم يفقدون الشيء فيكون مبطلا عندهم وفانيا وهو عند الله معلوم وغير فان ألا ترى أن الرجل السمين الضخم العظيم الصحيح يعتل يوما أو يومين فيذهب من جسمه نصفه أو ثلثاه ولا نعلم أين ذهب ذلك فهو عندنا فان مبطل والله تعالى يعلم أين ذهب وفي أي شيء صار وأن الإناء العظيم من الزجاج يكون فيه الماء أياما فيذهب بالحر بعضه وإن تطاولت به المدة ذهب كله والزجاج لا يجوز عليه النشف ولا الرشح ولا ندري أين ذهب ما فيه والله تعالى يعلمه وأنا نطفئ بالنفخة نار المصباح فتذهب وتكون عندنا فانية ولا ندري أين ذهبت والله تعالى يعلم كيف ذهبت وأين حلت كذلك الأرواح عندنا فانية وهي بقول الرسول ﷺ في حواصل طير خضر وفي عليين وفي سجين وتشام في الهواء وأشباه ذلك
قالوا حديثان متناقضان
قالوا رويتم أن رسول الله ﷺ قال ليؤمكم خياركم فإنهم وفدكم إلى الجنة وصلاتكم قربانكم ولا تقدموا بين أيديكم إلا خياركم ثم رويتم صلوا خلف كل بر وفاجر ولا بد من إمام بر أو فاجر وهذا تناقض واختلاف
قال أبو محمد ونحن نقول إنه ليس ههنا بنعمة الله اختلاف وللحديث الأول موضع وللثاني موضع وإذا وضع كل واحد منها موضعه زال الاختلاف أما قوله ليؤمكم خياركم فإنهم وفدكم إلى الجنة ولا تقدموا بين أيديكم إلا خياركم فإنه أراد أئمة المساجد في القبائل والمحال وأن لا تقدموا منهم إلا الخير التقي القارئ ولا تقدموا الفاجر الأمي وأما قوله صلوا خلف كل بر وفاجر ولا بد من إمام بر أو فاجر فإنه يريد السلطان الذي يجمع الناس ويؤمهم في الجمع والأعياد يريد لا تخرجوا عليه ولا تشقوا العصا ولا تفارقوا جماعة المسلمين وإن كان سلطانكم فاجرا فإنه لا بد من إمام بر أو فاجر ولا يصلح الناس إلا على ذلك ولا ينتظم أمرهم وهو مثل قول الحسن لا بد للناس من وزعة يريد سلطانا يزعهم عن التظالم والباطل وسفك الدماء وأخذ الأموال بغير حق
قالوا حديثان متناقضان
قالوا رويتم أن رسول الله ﷺ قال من قتل دون ماله فهو شهيد ثم رويتم كن حلس بيتك فإن دخل عليك فادخل مخدعك فإن دخل عليك فقل بؤ بإثمي وإثمك وكن عبد الله المقتول ولا تكن عبد الله القاتل فإن الله تعالى ضرب لكم يا بني آدم مثلا فخذوا خيرهما ودعوا شرهما قالوا وهذا خلاف الحديث الأول
قال أبو محمد ونحن نقول إن لكل حديث موضعا غير موضع الآخر فإذا وضعا بموضعيهما زال الاختلاف لأنه أراد بقوله من قتل دون ماله فهو شهيد من قاتل اللصوص عن ماله حتى يقتل في منزله وفي أسفاره ولذلك قيل في حديث آخر إذا رأيت سوادا في منزلك فلا تكن أجبن السوادين يريد تقدم عليه بالسلاح فهذا موضع الحديث الأول وأراد بقوله كن حلس بيتك فإن دخل عليك فادخل مخدعك فإن دخل عليك فقل بؤ بإثمي وإثمك وكن عبد الله المقتول ولا تكن عبد الله القاتل أي افعل هذا في زمن الفتنة واختلاف الناس على التأويل وتنازع سلطانين كل واحد منهما يطلب الأمر ويدعيه لنفسه بحجة يقول فكن حلس بيتك في هذا الوقت ولا تسل سيفا ولا تقتل أحدا فإنك لا تدري من المحق من الفريقين ومن المبطل واجعل دمك دون دينك وفي مثل هذا الوقت قال القاتل والمقتول في النار فأما قوله تعالى وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله فإنه أمر بذلك الجميع منا بعد الإصلاح وبعد البغي وأمر الواحد والاثنين والثلاثة إذا لم يجتمع ماؤنا على الإصلاح بينهما أن نلزم منازلنا ونقي أدياننا بأموالنا وأنفسنا
قالوا حديث يكذبه النظر والخبر
قالوا رويتم أن الأعمش روى عن عمرو بن مرة عن أبي البختري أن عليا رضي الله عنه قال بعثني رسول الله ﷺ إلى اليمن لأقضي بينهم فقلت له إنه لا علم لي بالقضاء فضرب بيده صدري وقال اللهم اهد قلبه وثبت لسانه فما شككت في قضاء حتى جلست مجلسي هذا ثم رويتم أنه اختلف قوله في أمهات الأولاد وقال بشيء ثم رجع عنه وقضى في الجد بقضايا مختلفة مع قوله من أحب أن يتقحم جراثيم جهنم فليقل في الجد وندم على إحراق المرتدين بعد الذي بلغه من فتيا بن عباس وجلد رجلا في الخمر ثمانين فمات فواده وقال وديته لأن هذا شيء جعلناه بيننا وهو كان أشار على عمر رضي الله عنه بجلد ثمانين في الخمر ورأى الرجم على مولاة حاطب فلما سمع قول عثمان رضي الله عنه إنما يجب الحد على من يعرفه وهذه لا تعرفه وكانت أعجمية تابعه ونازعه زيد بن ثابت في المكاتب فأفحمه وقال في أمر الحكمين
لقد عثرت عثرة لا أجتبر ** سوف أكيس بعدها وأستمر
وأجمع الرأي الشتيت المنتشر
قال وذكر داود بن أبي هند عن الشعبي أن عليا رضي الله عنه رجع عن قوله في الحرام إنها ثلاث وقطع اليد من أصول الأصابع وحك أصابع الصبيان في السرق وقبل شهادة الصبيان بعضهم على بعض والله عز وجل يقول وأشهدوا ذوي عدل منكم وقال ممن ترضون من الشهداء وجهر في قنوت الغداة بأسماء رجال وأخذ نصف دية الرجل من أولياء المقتول وأخذ نصف دية العين من المقتص من الأعور وخلف رجلا يصلي العيد بالضعفاء في المسجد الأعظم إذا خرج الإمام إلى المصلى وقالوا هذه الأشياء خلاف على جميع الفقهاء والقضاة وجميع الأمراء من نظرائه ولا يشبه هذا قوله ما شككت في قضاء حتى جلست مجلسي هذا ولا يشبه دعاء النبي ﷺ له أن يثبت الله لسانه وقلبه بل يشبه دعاءه عليه بضد ما قال
قال أبو محمد ونحن نقول إن النبي ﷺ حين دعا له بتثبيت اللسان والقلب لم يرد أن لا يزل أبدا ولا يسهو ولا ينسى ولا يغلط في حال من الأحوال لأن هذه الصفات لا تكون لمخلوق وإنما هي من صفات الخالق سبحانه جل وعز والنبي ﷺ أعلم بالله تعالى وبما يجوز عليه وبما لا يجوز من أن يدعو لأحد بأن لا يموت وقد قضى الله تعالى الموت على خلقه وبأن لا يهرم إذا عمره وقد جعل الهرم في تركيبه وفي أصل جبلته وكيف يدعو له بهذه الأمور فينالها بدعائه والنبي ﷺ نفسه ربما سها وكان ينسى الشيء من القرآن حتى قال الله تعالى سنقرئك فلا تنسى وقبل الفدية في يوم بدر فنزل لولا كتاب من الله سبق لمسكم فيما أخذتم عذاب عظيم وقال لو نزل عذاب ما نجا إلا عمر وذلك لأنه أشار عليه بالقتل وترك أخذ الفداء وأراد يوم الأحزاب أن يتقي المشركين ببعض ثمار المدينة حتى قال له بعض الأنصار ما قال وكاد يجيب المشركين إلى شيء مما أرادوه يتألفهم بذلك فأنزل الله عز وجل ولولا أن ثبتناك لقد كدت لتركن إليهم شيئا قليلا إذا لأذقناك ضعف الحياة وضعف الممات ثم لا تجد لك علينا نصيرا وهكذا الأنبياء المتقدمون عليهم السلام في السهو والنسيان وتعداد هذا يطول ويكثر وليس به خفاء على من علمه وإنما دعا النبي ﷺ له بأن يكون الصواب أغلب عليه والقول بالحق في القضاء أكثر منه ومثل هذا دعاؤه لابن عباس بأن يعلمه الله التأويل ويفقهه في الدين وكان بن عباس مع دعائه لا يعرف كل القرآن وقال لا أعرف حنانا ولا الأواه ولا الغسلين ولا الرقيم وله أقاويل في الفقه منبوذة مرغوب عنها كقوله في المتعة وقوله في الصرف وقوله في الجمع بين الأختين الأمتين ومع هذا فإنه ليس كل ما دعا به الأنبياء صلى الله عليهم وسلم وسألوه أجيبوا إليه فقد كان نبينا ﷺ يدعو لأبي طالب ويستغفر له حتى نزلت عليه ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ولو كانوا أولي قربى من بعد ما تبين لهم أنهم أصحاب الجحيم وكان يقول اللهم اهد قومي فإنهم لا يعلمون فأنزل الله تعالى عليه إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء وبعد فإن أقاويل علي رضي الله عنه هذه كلها ليست منبوذة يقضى عليه بالخطأ فيها ومن أغلظها بيع أمهات الأولاد وقد كن يبعن على عهد رسول الله ﷺ وفي خلافة أبي بكر رضي الله عنه في الدين وعلى حال الضرورة حتى نهى عن ذلك عمر رضي الله عنه من أجل أولادهن ولئلا تلحقهم السبة ويرجع عليهم الشين بأسباب كثيرة من الأمهات جهة إذا ملكن والناس مجمعون على أن الأمة لا تخرج عن ملك سيدها إلا ببيع أو هبة أو عتق وأم الولد لم ينلها شيء من ذلك وأحكام الإماء جارية عليها إلى أن يموت سيدها فبأي معنى يزيل الولد عنها البيع وإنما هو شيء استحسنه عمر رضي الله عنه بما أراد النظر للأولاد ولسنا نذهب إلى هذا ولا نعتقده ولكنا أردنا به التنبيه على حجة علي رضي الله عنه فيه وحجة من تقدمه في إطلاق ذلك وترك النهي عنه فأين هؤلاء عن قضايا علي رضي الله عنه اللطيفة التي تغمض وتدق وتعجز عن أمثالها اجلة الصحابة كقضائه في العين إذا لطمت أو بخصت أو أصابها مصيب بما يضعف معه البصر بالخطوط على البيضة وكقضائه في اللسان إذا قطع فنقص من الكلام شيء فحكم فيه بالحروف المقطعة وكقضائه في القارصة والقامصة والواقصة وهن ثلاث جوار كن يلعبن فركبت إحداهن صاحبتها فقرصتها الثالثة فقمصت المركوبة فوقعت الراكبة فوقصت عنقها فقضى علي رضي الله عنه بالدية أثلاثا وأسقط حصة الراكبة لأنها أعانت على نفسها وكقضائه في رجلين اختصما إليه في بن امرأة وقعا عليها في طهر واحد فادعياه جميعا أنه ابنهما جميعا يرثهما ويرثان وهو للباقي منهما وقد روى حماد عن إبراهيم عن عمر أنه قضى بمثل ذلك موافقا له عليه وكان عمر رضي الله عنه ينزل القرآن بحكمه ويفرق الشيطان من حسه والسكينة تنطق على لسانه وذكرته عائشة رضي الله عنها فقالت كان والله أحوذيا نسيج وحده قد أعد للأمور أقرانها تريد حسن السياسة وذكر المغيرة فقال كان والله أفضل من أن يخدع وأعقل من أن يخدع وقال فيه الأحنف بن قيس والله لهو بما يكون أعلم منا بما كان يريد أنه يصيب بظنه فلا يخطئ وقال فيه رسول الله ﷺ إن لكل أمة محدثين أو مروعين فإن يكن في هذه الأمة أحد منهم فهو عمر وقال لسارية بن زنيم الدؤلي يا سارية الجبل الجبل وسارية في وجه العدو فوقع في نفس سارية ما قال فاستند إلى الجبل فقاتل العدو من جانب واحد وعمر مع هذا يقول في قضية نبهه علي رضي الله عنه عليها لولا قول علي لهلك عمر ويقول أعوذ بالله من كل معضلة ليس لها أبو حسن حدثنا الزيادي قال أنا عبد الوارث عن يونس عن الحسن أن عمر رضي الله عنه أتي بامرأة وقد ولدت لستة أشهر فهم بها فقال له علي قد يكون هذا قال الله تعالى وحمله وفصاله ثلاثون شهرا وقال تعالى والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين
قالوا حديثان متناقضان
قالوا رويتم عن النبي ﷺ أنه قال في المسافر وحده شيطان وفي الإثنين شيطانان وفي الثلاثة ركب ثم رويتم أن النبي ﷺ كان يبرد البريد وحده وأنه خرج وأبو بكر مهاجرين قالوا كيف يكون الواحد شيطانا إذا سافر ولا يخلو أن يكون أراد بمنزلة الشيطان أو يتحول شيطانا وهذا لا يجوز
قال أبو محمد ونحن نقول إنه أراد بقوله المسافر وحده شيطان معنى الوحشة بالانفراد وبالوحدة لأن الشيطان يطمع فيه كما يطمع فيه اللصوص ويطمع فيه السبع فإذا خرج وحده فقد تعرض للشيطان وتعرض لكل عاد عليه من السباع أو اللصوص كأنه شيطان ثم قال والاثنان شيطانان لأن كل واح منهما متعرض لذلك فهما شيطانان فإذا تناموا ثلاثة زالت الوحشة ووقع الأنس وانقطع طمع كل طامع فيهم وكلام العرب إيماء وإشارة وتشبيه يقولون فلان طويل النجاد والنجاد حمائل السيف وهو لم يتقلد سيفا قط وإنما يريدون أنه طويل القامة فيدلون بطول نجاده على طوله لأن النجاد القصير لا يصلح على الرجل الطويل ويقولون فلان عظيم الرماد ولا رماد في بيته ولا على بابه وإنما يريدون أنه كثير الضيافة فناره وارية أبدا وإذا كثر وقود النار كثر الرماد والله تعالى يقول في كتابه ما المسيح بن مريم إلا رسول قد خلت من قبله الرسل وأمه صديقة كنا يأكلان الطعام فدلنا بأكلهما الطعام على معنى الحدث لأن من أكل الطعام فلا بد له من أن يحدث وقال تعالى حكاية عن المشركين في النبي ﷺ وقالوا ما لهذا الرسول يأكل الطعام ويمشي في الأسواق فكنى بمشيه في الأسواق عن الحوائج التي تعرض للناس فيدخلون لها الأسواق كأنهم رأوا أن النبي ﷺ إذا بعثه الله تعالى أغناه عن الناس وعن الحوائج إليهم وأما قولهم كان يبرد البريد وحده والبريد الرسول يبعث به من بلد إلى بلد ويكتب معه وهو الفيج فإنه كان يبعث به من بلد إلى بلد وحده ويأمره أن ينضم في الطريق إلى الرفيق يكون معهم ويأنس بهم وهذا شيء يفعله الناس في كل زمان ومن أراد أن يكتب كتابا وينفذه مع رسول إلى بلد شاسع فإنه لا يجب عليه أن يكتري ثلاثة لقول النبي ﷺ الواحد شيطان والاثنان شيطانان والثلاثة ركب وإنما يجب هذا على الرسول إذا هو خرج أن يلتمس الصحبة ويتوقى الوحدة وأما خروج النبي ﷺ مع أبي بكر حين هاجر فإنهما كانا في ذلك الوقت خائفين على أنفسهما من المشركين فلم يجدا بدا من الخروج ولعلهما أملا أن يوافقا ركبا كما أن الرجل يخرج من منزله وحده على تأميل وجدان الصحابة في الطريق فلما أمكنهما أن يتزيدا في العدد استأجر أبو بكر رضي الله عنه هاديا من بني الديل واستصحب عامر بن فهيرة مولاه فدخلوا المدينة وهم أربعة أو خمسة
قالوا حديثان متناقضان
قالوا رويتم أن النبي ﷺ قال لعن الله السارق يسرق البيضة فتقطع يده ويسرق الحبل فتقطع يده ورويتم أنه قال لا قطع إلا في ربع دينار هذا والحديث الأول حجة للخوارج لأنها تقول إن القطع على السارق في القليل والكثير
قال أبو محمد ونحن نقول إن الله عز وجل لما أنزل على رسوله ﷺ والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما جزاء بما كسبا نكالا من الله قال رسول الله ﷺ لعن الله السارق يسرق البيضة فتقطع يده على ظاهر ما أنزل الله تعالى عليه في ذلك الوقت ثم أعلمه الله تعالى أن القطع لا يكون إلا في ربع دينار فما فوقه ولم يكن رسول الله ﷺ يعلم من حكم الله تعالى إلا ما علمه الله عز وجل ولا كان الله تبارك وتعالى يعرفه ذلك جملة بل ينزله شيئا بعد شيء ويأتيه جبريل عليه السلام بالسنن كما كان يأتيه بالقرآن ولذلك قال أوتيت الكتاب ومثله معه يعني من السنن ألا ترى أنه في صدر الإسلام قطع أيدي العرنيين وأرجلهم وسمل أعينهم وتركهم بالحرة حتى ماتوا ثم نهى بعد ذلك عن المثلة لأن الحدود في ذلك الوقت لم تكن نزلت عليه فاقتص منهم بأشد القصاص لغدرهم وسوء مكافأتهم بالإحسان إليهم وقتلهم رعاءه وسوقهم الإبل ثم نزلت الحدود ونهى عن المثلة ومن الفقهاء من يذهب إلى أن البيضة في هذا الحديث بيضة الحديث التي تغفر الرأس في الحرب وأن الحبل من حبال السفن قال وكل واحد من هذين يبلغ دنانير كثيرة وهذا التأويل لا يجوز عند من يعرف اللغة ومخارج كلام العرب لأن هذا ليس موضع تكثير لما يسرق السارق فيصرف إلى بيضة تساوي دنانير وحبل عظيم لا يقدر على حمله السارق ولا من عادة العرب والعجم أن يقولوا قبح الله فلانا فإنه عرض نفسه للضرب في عقد جوهر وتعرض لعقوبة الغلول في جراب مسك وإنما العادة في مثل هذا أن يقال لعنه الله تعرض لقطع اليد في حبل رث أو كبة شعر أو إداوة خلق وكلما كان من هذا أحقر كان أبلغ
قالوا حديثان متناقضان
قالوا رويتم عن النبي ﷺ أنه تعوذ بالله من الفقر وقال أسألك غناي وغنى مولاي ثم رويتم أنه قال اللهم أحيني مسكينا وأمتني مسكينا واحشرني في زمرة المساكين وقال الفقر بالمؤمن أحسن من العذار الحسن على خد الفرس وقالوا وهذا تناقض واختلاف
قال أبو محمد ونحن نقول إنه ليس ههنا اختلاف بحمد الله تعالى وقد غلطوا في التأويل وظلموا في المعارضة لأنهم عارضوا الفقر بالمسكنة وهما مختلفان ولو كان قال اللهم أحيني فقيرا وأمتني فقيرا واحشرني في زمرة الفقراء كان ذلك تناقضا كما ذكروا ومعنى المسكنة في قوله احشرني مسكينا التواضع والإخبات كأنه سأل الله تعالى أن لا يجعله من الجبارين والمتكبرين ولا يحشره في زمرتهم والمسكنة حرف مأخود من السكون يقال تمسكن الرجل إذا لان وتواضع وخشع وخضع ومنه قول النبي ﷺ للمصلي تبأس وتمسكن وتقنع رأسك يريد تخشع وتواضع لله عز وجل والعرب تقول بي المسكين نزل الأمر لا يريدون معنى الفقر إنما يريدون معنى الذلة والضعف وكذلك قول النبي ﷺ لقيلة يا مسكينة لم يرد يا فقيرة وإنما أراد معنى الضعف ومن الدليل على ما أقول أن رسول الله ﷺ لو كان سأل الله عز وجل المسكنة التي هي الفقر لكان الله تعالى قد منعه ما سأله لأنه قبضه غنيا موسرا بما أفاء الله عز وجل عليه وإن كان لم يضع درهما على درهم ولا يقال لمن ترك مثل بساتينه بالمدينة وأمواله ومثل فدك إنه مات فقيرا والله عز وجل يقول ألم يجدك يتيما فآوى ووجدك ضالا فهدى ووجدك عائلا فأغنى والعائل الفقير كان له عيال أو لم يكن والمعيل ذو العيال كان له مال أو لم يكن فحال النبي ﷺ عند مبعثه وحاله عند مماته يدلان على ما قال الله عز وجل لأنه بعث فقيرا وقبض غنيا ويدل على أن المسكنة التي كان يسألها ربه عز وجل ليست بالفقر وأما قوله إن الفقر بالمؤمن أحسن من العذار الحسن على خد الفرس فإن الفقر مصيبة من مصائب الدنيا عظيمة وآفة من آفاتها أليمة فمن صبر على المصيبة لله تعالى ورضي بقسمه زانه الله تعالى بذلك في الدنيا وأعظم له الثواب في الآخرة وإنما مثل الفقر والغنى مثل السقم والعافية فمن ابتلاه الله تعالى بالسقم فصبر كان كمن ابتلي بالفقر فصبر وليس ما جعل الله تعالى في ذلك من الثواب بمانعنا من أن نسأل الله العافية ونرغب إليه في السلامة وقد ذهب قوم يفضلون الفقر على الغنى إلى أنه كان يتعوذ بالله تعالى من فقر النفس واحتجوا بقول الناس فلان فقير النفس وإن كان حسن الحال وغني النفس وإن كان سيء الحال وهذا غلط ولا نعلم أن أحدا من الأنبياء ولا من صحابتهم ولا العباد ولا المجتهدين كان يقول اللهم أفقرني ولا أزمني ولا بذلك استعبدهم الله عز وجل بل استعبدهم بأن يقولوا اللهم ارزقني اللهم عافني وكانوا يقولون اللهم لا تبلنا إلا بالتي هي أحسن يريدون لا تختبرنا إلا بالخير ولا تختبرنا بالشر لأن الله تعالى يختبر عباده بهما ليعلم كيف شكرهم وصبرهم وقال ونبلوكم بالشر والخير فتنة أي اختبارا وكان مطرف يقول لأن أعافى فأشكر أحب إلي من أن أبتلى فأصبر قال أبو محمد وقد ذكرت هذا في كتاب غريب الحديث بأكثر من هذا الشرح ولم أجد بدا من إيداعه في هذا الكتاب أيضا ليكون جامعا للفن الذي قصدنا له
قالوا حديثان متناقضان
قالوا رويتم أن النبي ﷺ قال لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن ثم رويتم أنه قال من قال لا إله إلا الله فهو في الجنة وإن زنى وإن سرق وفي هذا تناقض واختلاف
قال أبو محمد ونحن نقول إنه ليس ههنا بنعمة الله تناقض ولا اختلاف لأن الإيمان في اللغة التصديق يقول الله تعالى وما أنت بمؤمن لنا ولو كنا صادقين أي بمصدق لنا ومنه قول الناس ما أومن بشيء مما تقول أي ما أصدق به والموصوفون بالإيمان ثلاثة نفر رجل صدق بلسانه دون قلبه كالمنافقين فيقول قد آمن كما قال الله تعالى عن المنافقين ذلك بأنهم آمنوا ثم كفروا وقال إن الذين آمنوا والذين هادوا والصابئين والنصارى ثم قال من آمن منهم بالله واليوم الآخر لأنهم لا يؤمنون بالله واليوم الآخر ولو كان أراد بالذين آمنوا ههنا المسلمون لم يقل من آمن منهم بالله واليوم الآخر لأنهم لا يؤمنون بالله واليوم الآخر وإنما أراد المنافقين الذين آمنوا بألسنتهم والذين هادوا والنصارى ولا نقول له مؤمن كما أنا لا نقول للمنافقين مؤمنون وإن قلنا قد آمنوا لأن إيمانهم لم يكن عن عقد ولا نية وكذلك نقول لعاصي الأنبياء صلى الله عليهم وسلم عصى وغوى ولا نقول عاص ولا غاو لأن ذنبه لم يكن عن إرهاص ولا عقد كذنوب أعداء الله عز وجل ورجل صدق بلسانه وقلبه مع تدنس بالذنوب وتقصير في الطاعات من غير إصرار فنقول قد آمن وهو مؤمن ما تناهى عن الكبائر فإذا لابسها لم يكن في حال الملابسة مؤمنا يريد مستكمل الإيمان ألا ترى أنه ﷺ قال لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن يريد في وقته ذلك لأنه قيل ذلك الوقت غير مصر فهو مؤمن وبعد ذلك الوقت غير مصر فهو مؤمن تائب ومما يزيد في وضوح هذا الحديث الآخر إذا زنى الزاني سلب الإيمان فإن تاب ألبسه ورجل صدق بلسانه وقلبه وأدى الفرائض واجتنب الكبائر فذلك المؤمن حقا المستكمل شرائط الإيمان وقد قال رسول الله ﷺ لم يؤمن من لم يأمن جاره بوائقه يزيد ليس بمستكمل الإيمان وقال لم يؤمن من لم يأمن المسلمون من لسانه ويده أي ليس بمستكمل الإيمان وقال لم يؤمن من بات شبعان وبات جاره طاويا أي لم يستكمل الإيمان وهذا شبيه بقوله لا وضوء لمن لم يذكر اسم الله تعالى عليه يريد لا كمال وضوء ولا فضيلة وضوء وكذلك قول عمر رضي الله عنه لا إيمان لمن لم يحج يريد لا كمال إيمان والناس يقولون فلان لا عقل له يريدون ليس هو مستكمل العقل ولا دين له أي ليس بمستكمل الدين وأما قوله ﷺ من قال لا إله إلا الله فهو في الجنة وإن زنى وإن سرق فإنه لا يخلو من وجهين أحدهما أن يكون قاله على العاقبة يريد أن عاقبة أمره إلى الجنة وإن عذب بالزنا والسرقة والآخر أن تلحقه رحمة الله تعالى وشفاعة رسوله ﷺ فيصير إلى الجنة بشهادة أن لا إله لا الله حدثني إسحاق بن إبراهيم بن حبيب بن الشهيد عن أبيه عن جده عن الحسن أنه قال لا إله إلا الله ثمن الجنة وحدثني محمد بن يحيى القطعي قال أنا عمر بن علي عن موسى بن المسيب الثقفي قال سمعت سالم بن أبي الجعد يحدث عن المعرور بن سويد عن أبي ذر عن النبي ﷺ قال يقول ربكم بن آدم إنك إن تأتني بقراب الأرض خطيئة بعد أن لا تشرك بي شيئا جعلت لك قرابها مغفرة ولا أبالي وحدثني أبو مسعود الدارمي هو من ولد خراش قال حدثني جدي عن أنس بن مالك قال قال رسول الله ﷺ خيرت بين الشفاعة وبين أن يدخل شطر أمتي الجنة فاخترت الشفاعة لأنها أعم وأكثر لعلكم ترون أن شفاعتي للمتقين لا ولكنها للمتلطخين بالذنوب
قالوا حديثان متناقضان
قالوا رويتم عن حماد عن إبراهيم عن الأسود عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت كنت أفرك المني من ثوب رسول الله ﷺ فيصلي فيه فاستجاز بروايتكم هذه قوم فرك المني من الثوب والصلاة فيه وجعلوه سنة ثم رويتم عن عمرو بن ميمون بن مهران عن سليمان بن يسار قال سمعت عائشة رضي الله عنها تقول إنها كانت تغسل أثر المني من ثوب رسول الله ﷺ قالت ثم أراه فيه بقعة أو بقعا فأبى قوم فرك المني بروايتكم هذه ولم يستجيزوا إلا غسله من الثوب إذا أرادوا الصلاة فيه وهذا تناقض واختلاف
قال أبو محمد ونحن نقول إنه ليس ههنا تناقض ولا اختلاف لأن عائشة رضي الله عنها كانت تفركه من ثوب رسول الله ﷺ إذا كان يابسا والفرك لا يقع إلا على يابس وكان ربما بقي في شعاره حتى ييبس وهو ييبس في مدة يسيرة لا سيما في الصيف وكانت تغسله إذا رأته رطبا والرطب لا يجوز أن يفرك ولا بأس على من تركه إلى أن يجف ثم فركه أخبرني إسحاق بن إبراهيم المعروف بابن راهويه أن السنة مضت بفرك المني
قالوا حديثان متناقضان
قالوا رويتم أن النبي ﷺ قال أيما إهاب دبغ فقد طهر وأنه مر بشاة ميتة فقال ألا انتفعوا بإهابها فأخذ قوم من الفقهاء بذلك وأفتوا به ثم رويتم انه قال لا تنتفعوا من الميتة بإهاب ولا عصب فأخذ قوم من الفقهاء بهذا وأفتوا به وهذا تناقض واختلاف
قال أبو محمد ونحن نقول إنه ليس ههنا بحمد الله تناقض ولا اختلاف لأن الإهاب في اللغة الجلد الذي لم يدبغ فإذا دبغ زال عنه هذا الاسم وفي الحديث أن عمر رضي الله عنه دخل على رسول الله ﷺ وفي البيت أهب عطنة يريد جلود منتنة لم تدبغ وقالت عائشة رضي الله عنها في أبيها رضي الله عنه قرر الرءوس على كواهلها وحقن الدماء في اهبها يعني في الأجساد فكنت عن الجسد بالإهاب ولو كان الإهاب مدبوغا لم يجز أن تكني به عن الجسد وقال النابغة الجعدي يذكر بقرة وحشية أكل الذئب ولدها وهي غائبة عنه ثم أتته
فلاقت بيانا عند أول معهد ** إهابا ومعبوطا من الجوف أحمرا
فقال رسول الله ﷺ أيما إهاب دبغ فقد طهر ثم مر بشاة ميتة فقال ألا انتفع أهلها بإهابها يريد ألا دبغوه فانتفعوا به ثم كتب لا تنتفعوا من الميتة بإهاب ولا عصب يريد لا تنتفعوا به وهو إهاب حتى يدبغ ويدلك على ذلك قوله ولا عصب لأن العصب لا يقبل الدباغ فقرنه بالإهاب قبل أن يدبغ وقد جاء هذا مبينا في الحديث روى بن عيينة عن الزهري عن عبيد الله بن عبد الله عن بن عباس أن رسول الله ﷺ مر بشاة لمولاة ميمونة فقال ألا أخذوا إهابها فدبغوه وانتفوا به
قالوا حديثان متناقضان
قالوا رويتم عن الأشعث عن محمد بن سيرين عن عبد الله بن شقيق عن عائشة رضي الله عنها قالت كان رسول الله ﷺ لا يصلي في شعرنا أو لحفنا ثم رويتم عن وكيع عن طلحة بن يحيى عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة عن عائشة رضي الله عنها قالت كان رسول الله ﷺ يصلي بالليل وأنا إلى جانبه وأنا حائض وعلي مرط لي وعليه بعضه وهذا تناقض واختلاف
قال أبو محمد ونحن نقول إنه ليس في هذين الحديثين اختلاف ولا تناقض لأنه قيل في الحديث الأول كان لا يصلي في شعرنا وهو جمع شعار والشعار ما ولي الجسد من الثياب ولا يسمى شعارا حتى على الجسد ويدلك على ذلك قول رسول الله ﷺ للأنصار أنتم لي شعار والناس دثار يريد أنكم أقرب الناس إلي كالشعار الذي يلي الجسد والناس دثار أي أبعد منكم كما أن الدثار فوق الشعار والشعار يصيبه المني والعرق والندى إذا كان بالمرء قاطر بول أو بدرت منه بادرة فكان لا يصلي في شعر نسائه لما لا يؤمن أن ينالها إذا هو جامع أو إذا استثقلت المرأة أو إذا حاضت من الدم وقيل في الحديث الثاني أنه كان يصلي بالليل وأنا إلى جانبه وعلي مرط لي وعليه بعضه والمرط لا يكون شعارا كما يكون الإزار شعارا لأنه كساء من صوف وربما كان من شعر وربما كان من خز وإنما يلقى فوق الإزار قال أبو محمد ومما يوضح لك هذا حديث حدثنيه عبدة بن عبد الله قال نا محمد بن بشر العبدي قال نا زكريا بن أبي زائدة عن مصعب بن شيبة عن صفية بنت شيبة عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله ﷺ خرج ذات غداة وعليه مرط مرحل من شعر أسود والمرحل الموشى ويقال لذلك العمل الترحيل
قال امرؤ القيس وذكر امرأته ** فقمت بها أمشي تجر وراءنا
على أثرينا ذيل مرط مرحل ومما يوضح لك أن المرط لم يكن شعارا لعائشة رضي الله عنها أنها قالت كان يصلي وعليه بعض المرط وعليها بعضه ولو كان شعارا لانكشفت منه لأن الشعار لطيف لا يصلح لأن يصلى فيه وتكون هي مستورة به
قالوا حديث تكذبه حجة العقل والنظر
قالوا رويتم أن رسول الله ﷺ سحر وجعل سحره في بئر ذي أروان وأن عليا كرم الله وجهه استخرجه وكلما حل منه عقدة وجد النبي ﷺ خفة فقام النبي ﷺ كأنما أنشط من عقال وهذا لا يجوز على نبي الله ﷺ لأن السحر كفر وعمل من أعمال الشيطان فيما يذكرون فكيف يصل إلى النبي ﷺ مع حياطة الله تعالى له وتسديده إياه بملائكته وصونه الوحي عن الشيطان والله تعالى يقول في القرآن لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه وأنتم تزعمون أن الباطل ههنا هو الشيطان وقال عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحدا إلا من ارتضى من رسول فإنه يسلك من بين يديه ومن خلفه رصدا أي يجعل بين يديه وخلفه رصدا من الملائكة يحفظونه ويصونون الوحي عن أن يدخل فيه الشيطان ما ليس منه وذهبوا في السحر إلى أنه حيلة يصرف بها وجه المرء عن أخيه ويفرق بها بين المرء وزوجه كالتمائم والكذب وقالوا هذه رقى ومنه السم يسقاه الرجل فيقطعه عن النساء ويغير خلقه وينثر شعره ولحيته وإلى أن سحرة فرعون خيلوا لموسى ﷺ ما أروه قالوا ومثل ذلك أنا نأخذ الزئبق فنفرغه في وعاء كالحية ثم نرسله في موضع حار فينساب انسياب الحية قالوا ومن الدليل على ذلك قول الله تعالى فإذا حبالهم وعصيهم يخيل إليه من سحرهم أنها تسعى إنما هو تخييل وليس ثم شيء على حقيقته وقالوا في قول الله تعالى واتبعوا ما تتلوا الشياطين على ملك سليمان وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر وما أنزل على الملكين ببابل هاروت وماروت هو بمعنى النفيز أي لم ينزل ذلك وقالوا الملكين بكسر اللام وذكروا عن الحسن أنه كان يقرؤها كذلك ويقول علجان من أهل بابل
قال أبو محمد ونحن نقول إن الذي يذهب إلى هذا مخالف للمسلمين واليهود والنصارى وجميع أهل الكتب ومخالف للأمم كلها الهند وهي أشدها إيمانا بالرقى والروم والعرب في الجاهلية وفي الإسلام ومخالف للقرآن معاند له بغير تأويل لأن الله جل وعز قال لرسوله ﷺ قل أعوذ برب الفلق من شر ما خلق ومن شر غاسق إذا وقب ومن شر النفاثات في العقد فأعلمنا أن السواحر ينفثن في عقد يعقدنها كما يتفل الراقي والمعوذ وكانت قريش تسمي السحر العضه ولعن رسول الله ﷺ العاضهة والمستعضهة يعني بالعاضهة الساحرة وبالمستعضهة التي تسألها أن تسحر لها وقال الشاعر
أعوذ بربي من النافثات ** في عقد العاضه المعضه
يعني السواحر وقد روى بن نمير عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها وهذا طريق مرضي صحيح أنه قال حين سحر جاءني رجلان فجلس أحدهما عند رأسي والآخر عند رجلي فقال أحدهما ما وجع الرجل قال مطبوب فقال من طبه قال لبيد بن الأعصم قال في أي شيء قال في مشط ومشاطة وجف طلعة ذكر قال وأين هو قال في بئر ذي أروان وليس هذا مما يجتر الناس به إلى أنفسهم نفعا ولا يصرفون عنها ضرا ولا يكسبون به رسول الله ﷺ ثناء ومدحا ولا حملة هذا الحديث كذا بين ولا متهمين ولا معادين لرسول الله ﷺ وما ينكر أن يكون لبيد بن الأعصم هذا اليهودي سحر رسول الله ﷺ وقد قتلت اليهود قبله زكريا بن آذن في جوف شجرة قطعته قطعا بالمناشير وذكر وهب بن منبه أو غيره أنه عليه السلام لما وصل المنشار إلى أضلاعه أن فأوحى الله تعالى إليه إما أن تكف عن أنينك وإما أن أهلك الأرض ومن عليها وقتلت بعده ابنه يحيى بقول بغي واحتيالها في ذلك وادعت يعني اليهود أنها قتلت المسيح وصلبته ولو لم يقل الله تعالى وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبه لهم لم نعلم نحن أن ذلك شبهه لأن اليهود أعداؤه وهم يدعون ذلك والنصارى أولياؤه وهم يقرون لهم به وقتلت الأنبياء وطبختهم وعذبتهم أنواع العذاب ولو شاء الله جل وعز لعصمهم منهم وقد سم رسول الله ﷺ في ذراع شاة مشوية سمته يهودية فلم يزل السم يعاده حتى مات وقال ﷺ ما زالت أكلة خيبر تعادني فهذا أوان انقطاع أبهري فجعل الله تعالى لليهودية عليه السبيل حتى قتلته ومن قبل ذلك ما جعل الله لهم السبيل على النبيين والسحر أيسر خطبا من القتل والطبخ والتعذيب فإن كانوا إنما أنكروا ذلك لأن الله تعالى لا يجعل للشيطان على النبي ﷺ سبيلا ولا على الأنبياء فقد قرؤوا في كتاب الله تعالى وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته يريد إذا تلا ألقى الشيطان في تلاوته يعزيه عما ألقاه الشيطان على لسانه حين قرأ في الصلاة تلك الغرانيق العلى وإن شفاعتهن ترتجى غير أنه لا يقدر أن يزيد فيه أو ينقص منه أما تسمعه يقول فينسخ الله ما يلقي الشيطان ثم يحكم الله آياته أي يبطل ما ألقاه الشيطان ثم قال ليجعل ما يلقي الشيطان فتنة للذين في قلوبهم مرض وكذلك قوله في القرآن لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه أي لا يقدر الشيطان أن يزيد فيه أولا ولا آخرا قال أبو محمد حدثني أبو الخطاب قال نا بشر بن المفضل عن يونس عن الحسن قال قال رسول الله ﷺ إن جبريل عليه السلام أتاني فقال إن عفريتا من الجن يكيدك فإذا أويت إلى فراشك فقل الله لا إله إلا هو الحي القيوم حتى تختم آية الكرسي وقد حكى الله تعالى عن أيوب ﷺ فقال إني مسني الشيطان بنصب وعذاب قال أبو محمد وأما قولهم في السحر الذي رآه موسى ﷺ إنه تخييل إليه وليس على حقيقته فما ننكر هذا ولا ندفعه وإنا لنعلم أن الخلائق كلها لو اجتمعوا على خلق بعوضة لما استطاعوا غير أنا لا ندري أهو بالزئبق الذي ادعوا أنهم جعلوه في سلوخ الحيات حتى جرت أم بغيره ولا يعلم هذا إلا من كان ساحرا أو من سمع فيه شيئا من السحرة وأما قولهم في قول الله تبارك وتعالى واتبعوا ما تتلوا الشياطين على ملك سليمان ثم قال يعلمون الناس السحر وما أنزل على الملكين إن تأويله ولم ينزل على الملكين ببابل فليس هذا بمنكر من تأويلاتهم المستحيلة المنكوسة فإذا كان لم ينزل على الملكين ببابل هاروت وماروت صار الكلام فضلا لا معنى له وإنما يجوز بأن يدعى مدع أن السحر أنزل على الملكين ويكون فيما تقدم ذكر ذلك أو دليل عليه فيقول الله تعالى اتبعوا ذلك ولم ينزل على الملكين كما ذكروا ومثال هذا أن يقول مبتدئا علمت هذا الرجل القرآن وما أنزل على موسى عليه السلام فلا يتوهم سامع هذا أنك أردت أن القرآن لم ينزل على موسى عليه السلام لأنه لم يتقدمه قول أحد أنه أنزل على موسى عليه السلام وإنما يتوهم السامع أنك علمته القرآن والتوراة وتأويل هذا عندنا مبين بمعرفة الخبر المروي فيه وجملته على ما ذكر بن عباس أن سليمان ﷺ لما عوقب وخلفه الشيطان في ملكه دفنت الشياطين في خزانته وموضع مصلاه سحرا وأخذا ونيرنجات فما مات سليمان ﷺ جاءت الشياطين إلى الناس فقالوا ألا ندلكم على الأمر الذي سخرت به لسليمان الريح والجن ودانت له به الإنس قالوا بلى فأتوا مصلاه وموضع كرسيه فاستخرجوا ذلك منه فقال العلماء من بني إسرائيل ما هذا من دين الله وما كان سليمان ساحرا وقال سفلة الناس سليمان كان أعلم منا فسنعمل بهذا كما عمل فقال الله تعالى واتبعوا ما تتلوا الشياطين على ملك سليمان أي اتبعت اليهود ما ترويه الشياطين والتلاوة والرواية شيء واحد ثم قال وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا يعلمون السحر وما أنزل على الملكين وهما ملكان أهبطا إلى الأرض حين عمل بنو آدم بالمعاصي ليقضيا بين الناس وألقي في قلوبهما شهوة النساء وأمرا أن لا يزنيا ولا يقتلا ولا يشربا خمرا فجاءتهما الزهرة تخاصم إليهما فأعجبتهما فأراداها فأبت عليهما حتى يعلماها الاسم الذي يصعدان به إلى السماء فعلماها ثم أراداها فأبت حتى يشربا الخمر فشرباها وقضيا حاجتهما ثم خرجا فرأيا رجلا فظنا أنه قد ظهر عليهما فقتلاه وتكلمت الزهرة بذلك الاسم فصعدت فخنست وجعلها الله شهابا وغضب الله تعالى على الملكين فسماهما هاروت وماروت وخيرهما بين عذاب الدنيا وعذاب الآخرة فاختارا عذاب الدنيا فهما يعلمان الناس ما يفرقون به بين المرء وزوجه والذي أنزل الله عز وجل على الملكين فيما يرى أهل النظر والله أعلم هو الاسم الأعظم الذي صعدت به الزهرة وكانا به قبلها وقبل السخط عليهما يصعدان إلى السماء فعلمته الشياطين فهي تعلمه أولياءها وتعلمهم السحر وقد يقال إن الساحر يتكلم بكلام فيطير بين السماء والأرض ويطفو على الماء قال أبو محمد حدثني زيد بن أخزم الطائي قال نا عبد الصمد قال نا همام عن يحيى بن كثير أن عامل عمان كتب إلى عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه إنا أتينا بساحرة فألقيناها في الماء فطفت فكتب إليه عمر بن عبد العزيز لسنا من الماء في شيء إن قامت البينة وإلا فخل سبيلها وحدثني زيد بن أخزم الطائي قال نا عبد الصمد قال نا زيد بن أبي ليلى قال نا عميرة بن شكير قال كنا مع سنان بن سلمة بالبحرين فأتي بساحرة فأمر بها فألقيت في الماء فطفت فأمر بصلبها فنحتنا جذعا فجاء زوجها كأنه سفود محترق فقال مرها فلتطلق عني فقال لها أطلقي عنه فقالت نعم ائتوني بباب وغزل فقعدت على الباب وجعلت ترقى في الغزل وتعقد فارتفع الباب فأخذا يمينا وشمالا فلم يقدر عليهما وحدثنا أبو حاتم عن الأصمعي قال أخبرني محمد بن سليم الطائي في حديث ذكره إن الشياطين لا تستطيع أن تغير خلقها ولكنها تسحره وحدثني أبو حاتم قال قال الأصمعي عن أبي عمرو بن العلاء إن الغول ساحرة الجن وحدثنا أبو الخطاب قال نا المعتمر بن سليمان قال سمعت منصورا يذكر عن ربعي بن خراش عن حذيفة أن النبي ﷺ قال لأنا أعلم بما مع الدجال إن معه نارا تحرق ونهر ماء بارد فمن أدركه منكم فلا يهلكن به وليغمض عينه وليقع في التي يراها نارا فإنها نهر ماء بارد وحدثني أبو حاتم عن الأصمعي عن أبي الزناد قال جاءت امرأة تستفتي فوجدت النبي ﷺ قد توفي ولم تجد إلا امرأة من نسائه يقال إنها عائشة رضي الله عنها فقالت لها يا أم المؤمنين قالت لي امرأة هل لك أن أعمل لك شيئا يصرف وجه زوجك إليك وأظنه قال فأتت بكلبين فركبت واحدا وركبت الآخر فسرنا ما شاء الله ثم قالت أتدرين أنك ببابل ودخلت على رجل أو قالت رجلين فقالا لها بولي على ذلك الرماد قالت فذهبت فلم أبل ورجعت إليهما فقالا لي ما رأيت قالت ما رأيت شيئا قالا أنت على رأس أمرك قالت فرجعت فتشددت ثم بلت فخرج مني مثل الفارس المقنع فصعد في السماء فرجعت إليهما فقالا لي ما رأيت فأخبرتهما فقالا ذلك إيمانك قد فارقك فخرجت إلي المرأة فقلت والله ما علماني شيئا ولا قالا لي كيف أصنع قالت فما رأيت قلت كذا قالت أنت أسحر العرب عملي وتمني قالت فقطعت جداول وقالت أحقل فإذا هو زرع يهتز فقالت أفرك فإذا هو قد يبس قالت فأخذته ففركته وأعطتنيه فقالت جشي هذا واجعليه سويقا واسقيه زوجك فلم أفعل شيئا من ذلك وانتهى الشأن إلى هذا فهل لي من توبة قالت ورأت رجلا من خزاعة كان يسكن أمج فقالت يا أم المؤمنين هذا أشبه الناس بها روت وما روت قال أبو محمد وقد روى هذا بن جريج عن بن أبي مليكة عن عائشة رضي الله عنها قال أبو محمد وهذا شيء لم نؤمن به من جهة القياس ولا من جهة حجة العقل وإنما آمنا به من جهة الكتب وأخبار الأنبياء صلى الله عليهم وسلم وتواطؤ الأمم في كل زمان عليه خلا هذه العصابة التي لا تؤمن إلا بما أوجبه النظر ودل عليه القياس فيما شاهدوا ورأوا وأما قول الحسن إنهما علجان من أهل بابل وقراءته الملكين بالكسر فهذا شيء لم يوافقه أحد من القراء ولا المتأولين فيما أعلم وهو أشد استكراها وأبعد مخرجا وكيف يجوز أن ينزل على علجين شيء يفرقان به بين المرء وزوجه
قالوا حديثان متدافعان متناقضان
قالوا رويتم أن النبي ﷺ قال لا نبي بعدي ولا أمة بعد أمتي فالحلال ما أحله الله تبارك وتعالى على لساني إلى يوم القيامة والحرام ما حرمه الله تعالى على لساني إلى يوم القيامة ثم رويتم أن المسيح عليه السلام ينزل فيقتل الخنزير ويكسر الصليب ويزيد في الحلال وعن عائشة رضي الله عنها أنها كانت تقول قولوا لرسول الله ﷺ خاتم الأنبياء ولا تقولوا لا نبي بعده وهذا تناقض
قال أبو محمد ونحن نقول إنه ليس في هذا تناقض ولا اختلاف لأن المسيح ﷺ نبي متقدم رفعه الله تعالى ثم ينزله في آخر الزمان علما للساعة قال الله تعالى وإنه لعلم للساعة فلا تمترن بها وقرأ بعض القراء وإنه لعلم للساعة وإذا نزل المسيح عليه السلام لم ينسخ شيئا مما أتى به محمد رسول الله ﷺ ولم يتقدم الإمام من أمته بل يقدمه ويصلي خلفه وأما قوله ويزيد في الحلال فإن رجلا قال لأبي هريرة ما يزيد في الحلال إلا النساء فقال وذاك ثم ضحك أبو هريرة قال أبو محمد وليس قوله يزيد في الحلال أنه يحل للرجل أن يتزوج خمسا ولا ستا وإنما أراد أن المسيح عليه السلام لم ينكح النساء حتى رفعه الله تعالى إليه فإذا أهبطه تزوج امرأة فزاد فيما أحل الله له أي ازداد منه فحينئذ لا يبقى أحد من أهل الكتاب إلا علم أنه عبد الله عز وجل وأيقن أنه بشر وأما قول عائشة رضي الله عنها قولوا لرسول الله ﷺ خاتم الأنبياء ولا تقولوا لا نبي بعده فإنها تذهب إلى نزول عيسى عليه السلام وليس هذا من قولها ناقضا لقول النبي ﷺ لا نبي بعدي لأنه أراد لا نبي بعدي ينسخ ما جئت به كما كانت الأنبياء صلى الله عليهم وسلم تبعث بالنسخ وأرادت هي لا تقولوا إن المسيح لا ينزل بعده
قالوا حديثان متدافعان متناقضان
قالوا رويتم أن النبي ﷺ كان لا يصلي على المدين إذا لم يترك وفاء بدينه ثم رويتم أنه قال من ترك مالا فلأهله ومن ترك دينا فعلي وفي حديث آخر من ترك كلا فإلى الله ورسوله يعني عيالا فقراء وأطفالا لا كافل لهم فكيف يترك الصلاة على من ألزم نفسه قضاء الدين عنه والقيام بأمر ولده وعياله بعده وهذا تناقض
قال أبو محمد ونحن نقول إنه ليس في هذا بحمد الله تعالى تناقض لأن تركه الصلاة على المدين إذا لم يترك وفاء بدينه كان ذلك في صدر الإسلام قبل أن يفتح عليه الفتوح ويأتيه المال وأراد أن لا يستخف الناس بالدين ولا يأخذوا مالا يقدرون على قضائه فلما أفاء الله عز وجل عليه وفتح له الفتوح وأتته الأموال جعل للفقراء والذرية نصيبا في الفيء وقضى منه دين المسلم
قالوا حديثان متدافعان متناقضان
قالوا رويتم أن رسول الله ﷺ لم يرجم ماعزا حتى أقر عنده بالزنا أربع مرات كل ذلك يعرض عنه ثم رجمه في الرابعة فأخذ بهذا قوم من فقهائكم وقالوا لا نرجم حتى يكون إقراره في عدد الشهود عليه وبذلك كان يقول علي بن أبي طالب رضي الله عنه ثم رويتم أن رجلين تقدما إلى النبي ﷺ فقال أحدهما إن ابني كان عسيفا على هذا وأنه زنى بامرأته فافتديت منه بمائة شاة وخادم ثم إنا سألنا رجالا من أهل العلم فقالوا على ابني جلد مائة وتغريب عام وعلى امرأة هذا الرجم فقال النبي ﷺ والذي نفسي بيده لأقضين بينكما بكتاب الله المائة شاة والخادم رد عليك وعلى ابنك جلد مائة وتغريب عام وعلى امرأة هذا الرجم فقضى بينهما بذلك وقال أغد يا أنيس على امرأة هذا فإن اعترفت فارجمها فاعترفت فرجمها ولم يقل أحد إنه قال أربع مرات في مجلس ولا في مجالس وهذا مخالف لحديث ماعز
قال أبو محمد ونحن نقول إنه ليس ههنا بحمد الله تعالى اختلاف ولا تناقض لأن إعراض النبي ﷺ عن ماعز أربع مرات إنما كان كراهية منه لإقراره على نفسه بالزنا وهتكه ستر الله تعالى عليه لا لأنه أراد أن يقر عنده أربع مرات وأراد أيضا أن يستبرئ أمره ويعلم أصحيح هو أم به جنة فوافق ما أراد من استبرائه أربع مرات ولو وافق ذلك مرتين أو ثلاثا أو خمسا أو ستا ما كان فيه بينة تلزم ويدل على كراهته لإقرار الزاني عنده بالزنا رواية مالك عن زيد بن أسلم في رجل اعترف بالزنا على عهد رسول الله ﷺ فأمر به فجلد ثم قال يا أيها الناس قد آن لكم أن تنتهوا عن حدود الله تعالى فمن أتى من هذه القاذورات شيئا فليستتر بستر الله عز وجل فإنه من أبدى لنا صفحته نقم عليه كتاب الله عز وجل ويدل على أن الاعتراف قد يكون أكثر من الأربع وأقل إذا زالت الشبهة في أمر المقر حديث يحيى بن سعيد عن هشام الدستوائي عن يحيى بن أبي كثير عن أبي قلابة عن أبي المهلب عن عمران بن حصين قال كنا مع رسول الله ﷺ فأتته امرأة من جهينة وهي حامل من زنا فقالت يا رسول الله إني أصبت حدا فأقمه علي فدعا النبي ﷺ وليها فأمره أن يحسن إليها فإذا وضعت حملها أتاه بها فأتاه بها وقد وضعت فأمرها أن ترضع ولدها فإذا فطمته أتته ففعلت فأتاه بها فأمر بها فشق عليها ثيابها ثم رجمت ثم صلى عليها ولم يذكر في هذا الحديث أنها اعترفت أربع مرات وهذا شاهد للحديث الذي ذكر فيه أنه قال أغد يا أنيس على امرأة هذا فإن اعترفت فارجمها ومن الدليل أيضا أن ماعز بن مالك لما رجم جزع ففر فرجموه وأعلموا رسول الله ﷺ جزعه فقال هلا رددتموه حتى أنظر في أمره ولو كان إقراره أربع مرات هو الذي ألزمه الحد لما كان لقول النبي ﷺ هلا رددتموه معنى لأنه قد أمضى فيه حكم الله تعالى ولا يجوز بعد إقراره أربع مرات أن يقبل منه رجوعه إن رجع وإذا كان الإقرار بغير توقيت جاز له أن يرجع متى شاء وأن يقبل ذلك منه قالوا أحكام قد أجمع عليها يبطلها القرآن ويحتج بها الخوارج قالوا حكم في الرجم يدفعه الكتاب قالوا رويتم أن رسول الله ﷺ رجم ورجمت الأئمة بعده والله تعالى يقول في الإماء فإن أتين بفاحشة فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب والرجم إتلاف للنفس لا يتبعض فكيف يكون على الإماء نصفه وذهبوا إلى أن المحصنات ذوات الأزواج قالوا وفي هذا دليل على أن المحصنة حدها الجلد قال أبو محمد ونحن نقول إن المحصنات لو كن في هذا الموضع ذوات الأزواج لكان ما ذهبوا إليه صحيحا ولزمت به هذه الحجة وليس المحصنات ههنا إلا الحرائر وسمين محصنات وإن كن أبكارا لأن الإحصان يكون لهن وبهن ولا يكون بالإماء فكأنه قال فعليهن نصف ما على الحرائر من العذاب يعني الأبكار وقد تسمي العرب البقرة المثيرة وهي لم تثر من الأرض شيئا لأن إثارة الأرض تكون بها دون غيرها من الأنعام وتسمي الإبل في مراعيها هديا لأن الهدي إلى الكعبة يكون منها فتسمى بهذا الاسم وإن لم تهد ومما يشهد لهذا التأويل الذي تأولناه في المحصنات وأنهن في هذا الموضع الحرائر الأبكار قوله تعالى في موضع آخر ومن لم يستطع منكم طولا أن ينكح المحصنات المؤمنات فمما ملكت أيمانكم والمحصنات ههنا الحرائر ولا يجوز أن يكن ذوات الأزواج لأن ذوات الأزواج لا ينكحن
قالوا حكم في الوصية يدفعه الكتاب
قالوا رويتم أن رسول الله ﷺ قال لا وصية لوارث والله تعالى يقول كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت إن ترك خيرا الوصية للوالدين والأقربين والوالدان وارثان على كل حال لا يحجبهما أحد عن الميراث وهذه الرواية خلاف كتاب الله عز وجل
قال أبو محمد ونحن نقول إن هذه الآية منسوخة نسختها آية المواريث فإن قال وما في آية المواريث من نسخها فإنه قد يجوز أن يعطى الأبوان حظهما من الميراث ويعطيا أيضا الوصية التي يوصى بها لهما قلنا له لا يجوز ذلك لأن الله تعالى جعل حظهما من ذلك الميراث المقدار الذي نالهما بالوراثة وقال عز وجل بعد آية المواريث تلك حدود الله ومن يطع الله وسوله يدخله جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها وذلك الفوز العظيم ومن يعص الله ورسوله ويتعد حدوده يدخله نارا خالدا فيها وله عذاب مهين فوعد على طاعته فيما حد من المواريث أعظم الثواب وأوعد على معصيته فيما حد من المواريث بأشد العقاب فليس لأحد أن يوصل إلى وارث من المال أكثر مما حد الله تعالى وفرض وقد يقال إنها منسوخة بقول رسول الله ﷺ لا وصية لوارث وسنبين نسخ السنة للقرآن كيف يكون إن شاء الله تعالى
قالوا حكم في النكاح يدفعه الكتاب
قالوا رويتم أن رسول الله ﷺ قال لا تنكح المرأة على عمتها ولا على خالتها وأنه قال يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب والله عز وجل يقول حرمت عليكم أمهاتكم وبناتكم إلى آخر الآية ولم يذكر الجمع بين المرأة وعمتها وخالتها ولم يحرم من الرضاع إلا الأم المرضعة والأخت بالرضاع ثم قال وأحل لكم ما وراء ذلكم فدخلت المرأة على عمتها وخالتها وكل رضاع سوى الأم والأخت فيما أحله الله تعالى
قال أبو محمد ونحن نقول إن الله عز وجل يختبر عباده بالفرائض ليعلم كيف طاعتهم أو معصيتهم وليجازي المحسن والمسيء منهم من غير أن يكون فيما أحله أو حرمه علة توجب التحليل أو التحريم وإنما يقبح كل قبيح بنهي الله تعالى عنه ويحسن الحسن بأمر الله عز وجل به خلا أشياء جعل الله في الفطر استقباحها كالكذب والسعاية والغيبة والبخل والظلم وأشباه ذلك فإذا جاز أن يبعث الله عز وجل رسولا بشريعة فتستعمل حقبا من الدهر ويكون المستعملون لها مطيعين لله تعالى ثم يبعث رسولا ثانيا بشريعة ثانية تنسخ تلك الأولى ويكون المستعملون لها مطيعين لله تعالى كبعثه موسى عليه السلام بالسبت ونسخ السبت بالمسيح عليه السلام وبعثه إياه بالختان في اليوم السابع ونسخ ذلك أيضا بالمسيح عليه السلام جاز أيضا أن يفرض شيئا على عباده في وقت ثم ينسخه في وقت آخر والرسول واحد وقد قال عز وجل ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها يريد بخير منها أسهل منها وإذا جاز أن ينسخ الكتاب بالكتاب جاز أن ينسخ الكتاب بالسنة لأن السنة يأتيه بها جبريل عليه السلام عن الله تبارك وتعالى فيكون المنسوخ من كلام الله تعالى الذي هو قرآن بناسخ من وحي الله عز وجل الذي ليس بقرآن ولذلك قال رسول الله ﷺ أوتيت الكتاب ومثله معه يريد أنه أوتي الكتاب ومثل الكتاب من السنة ولذلك قال الله عز وجل وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا وقد علم الله عز وجل أنا نقبل منه ما بلغنا عنه من كلام الله تعالى ولكنه علم أنه سينسخ بعض القرآن بالوحي إليه فإذا وقع ذلك قدح في بعض القلوب وأثر في بعض البصائر فقال لنا وما آتاكم الرسول فخذوه أي ما آتاكم به الرسول مما ليس في القرآن أو مما ينسخ القرآن فاقبلوه قال أبو محمد والسنن عندنا ثلاث سنة أتاه بها جبريل عليه السلام عن الله تعالى كقوله لا تنكح المرأة على عمتها وخالتها ويحرم من الرضاع ما يحرم من النسب ولا تحرم المصة ولا المصتان والدية على العاقلة وأشباه هذه من الأصول والسنة الثانية سنة أباح الله له أن يسنها وأمره باستعمال رأيه فيها فله أن يترخص فيها لمن شاء على حسب العلة والعذر كتحريمه الحرير على الرجال وإذنه لعبد الرحمن بن عوف فيه لعلة كانت به وكقوله في مكة لا يختلى خلاها ولا يعضد شجرها فقال العباس بن عبد المطلب يا رسول الله إلا الإذخر فإنه لقيوننا فقال إلا الإذخر ولو كان الله تعالى حرم جميع شجرها لم يكن يتابع العباس على ما أراد من إطلاق الإذخر ولكن الله تعالى جعل له أن يطلق من ذلك ما رآه صلاحا فأطلق الإذخر لمنافعهم ونادى مناديه لا هجرة بعد الفتح ثم أتاه العباس شفيعا في أخي مجاشع بن مسعود ليجعله مهاجرا بعد الفتح فقال أشفع عمي ولا هجرة ولو كان هذا الحكم نزل لم تجز فيه الشفاعات وقال عادي الأرض لله ولرسوله ثم هي لكم مني فمن أحيا مواتا فهو له وقال في العمرة ولو استقبلت من أمري ما استدبرت لأهللت بعمرة وقال في صلاة العشاء لولا أن أشق على أمتي لجعلت وقت هذه الصلاة هذا الحين ونهى عن لحوم الأضاحي فوق ثلاث وعن زيارة القبور وعن النبيذ في الظروف ثم قال إني نهيتكم عن ادخار لحوم الأضاحي فوق ثلاث ثم بدا لي أن الناس يتحفون ضيفهم ويحتبسون لغائبهم فكلوا وأمسكوا ما شئتم ونهيتكم عن زيارة القبور فزوروها ولا تقولوا هجرا فإنه بدا لي أنه يرق القلوب ونهيتكم عن النبيذ في الظروف فاشربوا و لا تشربوا مسكرا
قال أبو محمد ومما يزيد في وضوح هذا حديث حدثنيه محمد بن خالد بن خداش قال حدثني مسلم بن قتيبة قال نا يونس عن مدرك بن عمارة قال دخل النبي ﷺ حائط رجل من الأنصار فرأى رجلا معه نبيذ في نقير فقال أهرقه فقال الرجل أو تأذن لي أن أشربه ثم لا أعود فقال النبي ﷺ اشربه ولا تعد فهذه الأشياء تدلك على أن الله عز وجل أطلق له ﷺ أن يحظر وأن يطلق بعد أن حظر لمن شاء ولو كان ذلك لا يجوز له في هذه الأمور لتوقف عنها كما توقف حين سئل عن الكلالة وقال للسائل هذا ما أوتيت ولست أزيدك حتى أزاد وكما توقف حين أتته المجادلة في زوجها تسأله عن الظهار فلم يرجع إليها قولا وقال يقضي الله عز وجل في ذلك وأتاه أعرابي وهو محرم وعليه جبة صوف وبه أثر طيب فاستفتاه فما رجع إليه قولا حتى تغشى ثوبه وغط غطيط الفحل ثم أفاق فأفتاه والسنة الثالثة ما سنه لنا تأديبا فإن نحن فعلناه كانت الفضيلة في ذلك وإن نحن تركناه فلا جناح علينا إن شاء الله كأمره في العمة بالتلحي وكنهيه عن لحوم الجلالة وكسب الحجام وكذلك نقول في تحريمه لحوم الحمر الأهلية وكل ذي ناب من السباع وذي مخلب من الطير مع قول الله عز وجل قل لا أجد فيما أوحي إلي محرما على طاعم يطعمه إلا أن يكون ميتة أو دما مسفوحا أو لحم خنزير فإنه رجس أو فسقا أهل لغير الله به أراد أنه لا يجد في وقت نزول هذه السورة أكثر من هذا في التحريم ثم نزلت المائدة ونزل فيها تحريم المنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة وما أكل السبع إلا ما ذكيتم فزادنا الله تعالى فيما حرم بالكتاب وزادنا في ذلك على لسان رسول الله ﷺ تحريم سباع الوحش والطير والحمر الأهلية وكذلك نقول في قصر الصلاة في الأمن مع قول الله تبارك وتعالى فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا أعلمنا أنه لا جناح علينا في قصرنا مع الخوف وأعلمنا رسول الله ﷺ أنه لا بأس بالقصر في الأمن أيضا عن الله عز وجل وكذلك المسح على الخفين مع قول الله تعالى فاغسلوا وجوهكم وايديكم إلى المرافق وامسحوا برءوسكم وأرجلكم وقد روى عيسى بن يونس عن الأوزاعي عن يحيى بن أبي كثير أنه قال السنة قاضية على الكتاب وليس الكتاب بقاض على السنة أراد أنها مبينة للكتاب منبئة عما أراد الله تعالى فيه
قالوا حكم في الغسل يوم الجمعة مختلف
قالوا رويتم عن مالك عن صفوان بن سليم عن عطاء بن يسار عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله ﷺ قال غسل يوم الجمعة واجب على كل محتلم ثم رويتم عن همام عن قتادة عن الحسن عن سمرة قال قال رسول الله ﷺ من توضأ يوم الجمعة فبها ونعمت ومن اغتسل فهو أفضل قالوا وهذا مخالف للأول
قال أبو محمد ونحن نقول إن قوله غسل يوم الجمعة واجب على كل محتلم لم يرد به أنه فرض وإنما هو شيء أوجبه على المسلمين كما يجب غسل العيدين على الفضيلة والاختيار ليشهدوا المجمع بأبدان نقية من الدرن سليمة من التفل وقد أمر مع ذلك بالتطيب وتنظيف الثوب وأن يلبس ثوبين لجمعته سوى ثوبي مهنته وهذا كله اختيار منه وإيجاب على الفضيلة لا على جهة الفرض ثم علم عليه السلام أنه قد يكون في الناس العليل والمشغول ويكون في البلد الشديد البرد الذي لا يستطاع فيه الغسل إلا بالمشقة الشديدة فقال من توضأ فبها ونعمت أي فجائز ثم بين بعد ذلك أن الغسل لمن قدر عليه أفضل كما نهى عن ادخار لحوم الأضاحي فوق ثلاث ثم قال بدا لي أن الناس كانوا يتحفون ضيفهم ويخبئون لغائبهم فكلوا وأمسكوا ما شئتم ونهى عن زيارة القبور ثم قال بدا لي أن ذلك يرق القلوب فزوروها ولا تقولوا هجرا
قالوا حديث يكذبه العيان
قالوا رويتم عن بن لهيعة عن مشرح بن عاهان عن عقبة بن عامر قال سمعت رسول الله ﷺ يقول لو جعل القرآن في إهاب ثم ألقي في النار ما احترق قالوا وهذا خبر لا نشك في بطلانه لأنا قد نرى المصاحف تحترق وينالها ما ينال غيرها من العروض والكتب
قال أبو محمد ونحن نقول إن لهذا تأويلا ذهب عليهم ولم يعرفوه وأنا مبينه إن شاء الله تعالى حدثني يزيد بن عمرو قال سألت الأصمعي عن هذا الحديث فقال يعني لو جعل القرآن في إنسان ثم ألقي في النار ما احترق وأراد الأصمعي أن من علمه الله تعالى القرآن من المسلمين وحفظه إياه لم تحرقه النار يوم القيامة إن ألقي فيها بالذنوب كما قال أبو أمامة احفظوا القرآن أو اقرءوا القرآن ولا تغرنكم هذه المصاحف فإن الله تعالى لا يعذب بالنار قلبا وعى القرآن وجعل الجسم ظرفا للقرآن كالإهاب والإهاب الجلد الذي لم يدبغ ولو كان الإهاب يجوز أن يكون مدبوغا ما جاز أن يجعله كناية عن الجسم ومثله قول عائشة رضي الله عنها حين خطبت ووصفت أباها فقالت قرر الرءوس على كواهلها وحقن الدماء في أهبها تعني في الأجساد وفيه قول آخر قال بعضهم كان هذا في عصر النبي ﷺ علما للنبوة ودليلا على أن القرآن كلام الله تعالى ومن عنده نزل أبانه الله تعالى بهذه الآية في وقت من تلك الأوقات وعند طعن المشركين فيه ثم زال ذلك بعد النبي ﷺ كما تكون الآيات في عصور الأنبياء عليهم الصلاة والسلام من ميت يحيا وذئب يتكلم وبعير يشكو ومقبور تلفظه الأرض ثم يعدم ذلك بعدهم وفيه قول آخر وهو أن يرد المعنى في قوله ما احترق إلى القرآن لا إلى الإهاب يريد أنه إن كتب القرآن في جلد ثم ألقي في النار احترق الجلد والمداد ولم يحترق القرآن كأن الله عز وجل يرفعه منه ويصونه عن النار ولسنا نشك في أن القرآن في المصاحف على الحقيقة لا على المجاز كما يقول أصحاب الكلام إن الذي في المصحف دليل على القرآن وليس به والله تبارك وتعالى يقول إنه لقرآن كريم في كتاب مكنون لا يمسه إلا المطهرون والنبي ﷺ يقول لا تسافروا بالقرآن إلى أرض العدو يريد المصحف
قالوا حديث ينقضه القرآن
قالوا رويتم عن النبي ﷺ أنه قال صلة الرحم تزيد في العمر والله تبارك وتعالى يقول فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون قالوا فكيف تزيد صلة الرحم في أجل لا يتأخر عنه ولا يتقدم
قال أبو محمد ونحن نقول إن الزيادة في العمر تكون بمعنيين أحدهما السعة والزيادة في الرزق وعافية البدن وقد قيل الفقر هو الموت الأكبر وجاء في بعض الحديث إن الله تعالى أعلم موسى ﷺ أنه يميت عدوه ثم رآه بعد يسف الخوص فقال يا رب وعدتني أن تميته قال قد فعلت قد أفقرته وقال الشاعر
ليس من مات فاستراح بميت
إنما الميت ميت الأحياء يعني الفقير فلما جاز أن يسمى الفقر موتا ويجعل نقصا من الحياة جاز أن يسمى الغنى حياة ويجعل زيادة في العمر والمعنى الآخر أن الله تعالى يكتب أجل عبده عنده مائة سنة ويجعل بنيته وتركيبه وهيئته لتعمير ثمانين سنة فإذا وصل رحمه زاد الله تعالى في ذلك التركيب وفي تلك البنية ووصل ذلك النقص فعاش عشرين أخرى حتى يبلغ المائة وهي الأجل الذي لا مستأخر عنه ولا متقدم
قالوا حديث يبطله القرآن والإجماع
قالوا رويتم أن الصدقة تدفع القضاء المبرم والله عز وجل يقول إنما قولنا لشيء إذا أردناه أن نقول له كن فيكون وأجمع الناس على أنه لا راد لقضائه ولا معقب لحكمه
قال أبو محمد ونحن نقول في تأويل ذلك إن المرء قد يستحق بالذنوب قضاء من العقوبة فإذا هو تصدق دفع عن نفسه ما قد استحق من ذلك يدلك عليه قوله صدقة السر تطفئ غضب الرب أفلا ترى أن من غضب الله عز وجل عليه تعرض عقابه فإذا أزال ذلك الغضب بصدقته أزال العقاب ومثل هذا رجل أجرمت عليه جرما عظيما فخفت بوائقه وعاجل جزائه فأهديت له هدية كففته بها وقلت الهدية تدفع العقاب المستحق
قالوا حديث يبطل أوله آخره
قالوا رويتم أنه سيكون عليكم أئمة إن أطعتموهم غويتم وإن عصيتموهم ضللتم وهذا لا يجوز في المعقول وكيف يكونون بمعصيتهم ضالين وبطاعتهم غاوين
قال أبو محمد ونحن نقول إنه ليس في هذا الحديث تناقض مع التأويل ومعناه فيما يرى أنهم إن أطيعوا في الذي يأمرون به من معصية الله تعالى وظلم الرعية وسفك الدماء بغير حقها غوى مطيعهم وإن عصوا فخرج عليهم وشقت عصا المسلمين كما فعل الخوارج ضل عاصيهم والذي يؤول إليه معنى الحديث أنه لا يعمل لهم ولا يخرج عليهم ويجوز أن يكون أراد ما يأمرون به على المنابر من الخير إن عصوا فيه ضل عاصيهم وما يأمرون به من المعاصي في غير ذلك المقام إن أطيعوا فيه غوى مطيعهم
قالوا حديث يكذبه القرآن وحجة العقل
قالوا رويتم أن النبي ﷺ قال ترون ربكم يوم القيامة كما ترون القمر ليلة البدر لا تضامون في رؤيته والله تعالى يقول لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار ويقول ليس كمثله شيء قالوا وليس يجوز في حجة العقل أن يكون الخالق يشبه المخلوق في شيء من الصفات وقد قال موسى عليه السلام رب أرني أنظر إليك قال لن تراني قالوا فإن كان هذا الحديث صحيحا فالرؤية فيه بمعنى العلم كما قال تعالى ألم تر إلى ربك كيف مد الظل وقال ألم تر أن الله على كل شيء قدير
قال أبو محمد ونحن نقول إن هذا الحديث صحيح لا يجوز على مثله الكذب لتتابع الروايات عن الثقات به من وجوه كثيرة ولو كان يجوز أن يكون مثله كذبا جاز أن يكون كل ما نحن عليه من أمور ديننا في التشهد الذي لم نعلمه إلا بالخبر وفي صدقة النعم وزكاة الناض من الأموال والطلاق والعتاق وأشباه ذلك من الأمور التي وصل إلينا علمها بالخبر ولم يأت لها بيان في الكتاب باطلا وأما قوله تعالى لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار وقول موسى عليه السلام رب أرني أنظر إليك قال لن تراني فليس ناقضا لقول رسول الله ﷺ ترون ربكم يوم القيامة لأنه أراد جل وعز بقوله لا تدركه الأبصار في الدنيا وقال لموسى عليه السلام لن تراني يريد في الدنيا لأنه جل وعز احتجب عن جميع خلقه في الدنيا ويتجلى لهم يوم الحساب ويوم الجزاء والقصاص فيراه المؤمنون كما يرون القمر في ليلة البدر ولا يختلفون فيه كما لا يختلفون في القمر ولم يقع التشبيه بها على كل حالات القمر في التدوير والمسير والحدود وغير ذلك وإنما وقع التشبيه بها على أنا ننظر إليه عز وجل كما ننظر إلى القمر ليلة البدر لا يختلف في ذلك كما لا يختلف في القمر والعرب تضرب المثل بالقمر في الشهرة والظهور فيقولون هذا أبين من الشمس ومن فلق الصبح وأشهر من القمر قال ذو الرمة
وقد بهرت فما تخفى على أحد ** إلا على أحد لا يعرف القمرا
وقوله في الحديث لا تضامون في رؤيته دليل لأن التضام من الناس يكون في أول الشهر عند طلبهم الهلال فيجتمعون ويقول واحد هو ذاك هو ذاك ويقول آخر ليس به وليس القمر كذلك لأن كل واحد يراه بمكانه ولا يحتاج إلى أن ينضم إلى غيره لطلبه وحديث رسول الله ﷺ قاض على الكتاب ومبين له فلما قال الله تعالى لا تدركه الأبصار وجاء عن رسول الله ﷺ بالصحيح من الخبر ترون ربكم تعالى في القيامة لم يخف على ذي فهم ونظر ولب وتمييز أنه في وقت دون وقت وفي قول موسى عليه السلام رب أرني أنظر إليك أبين الدلالة على أنه يرى في القيامة ولو كان الله تعالى لا يرى في حال من الأحوال ولا يجوز عليه النظر لكان موسى عليه السلام قد خفي عليه من وصف الله تعالى ما علموه ومن قال بأن الله تعالى يدرك بالبصر يوم القيامة فقد حده عندهم ومن كان الله تعالى عنده محدودا فقد شبهه بالمخلوقين ومن شبهه عندهم بالخلق فقد كفر فما يقولون في موسى عليه السلام فيما بين أن الله تعالى نبأه وكلمه من الشجرة إلى الوقت الذي قال له فيه رب أرني أنظر إليك أيقضون عليه بأنه كان مشبها لله محددا لا لعمر الله لا يجوز أن يجهل موسى عليه السلام من الله عز وجل مثل هذا لو كان على تقديرهم ولكن موسى عليه السلام علم أن الله تعالى يرى يوم القيامة فسأل الله عز وجل أن يجعل له في الدنيا ما أجله لأنبيائه وأوليائه يوم القيامة فقال له لن تراني يعني في الدنيا ولكن انظر إلى الجبل فإن استقر مكانه فسوف تراني أعلمه أن الجبل لا يقوم لتجليه حتى يصير دكا وأن الجبال إذا ضعفت عن احتمال ذلك فابن آدم أحرى أن يكون أضعف إلى أن يعطيه الله تعالى يوم القيامة ما يقوى به على النظر ويكشف عن بصره الغطاء الذي كان في الدنيا والتجلي هو الظهور ومنه يقال جلوت العروس إذا أبرزتها وجلوت المرآة والسيف إذا أظهرتهما من الصدأ وأما قولهم إن الرؤية في قوله ترون ربكم يوم القيامة بمعنى العلم كما قال تعالى ألم تر أن الله على كل شيء قدير يريد ألم تعلم فإنه يستحيل لأنا نعلمه في الدنيا أيضا فأي فائدة في هذا الخبر إذا كان الأمر في يوم القيامة وفي الدنيا واحدا وقرأت في الإنجيل أن المسيح عليه السلام حين فتح فاه بالوحي قال طوبى للذين يرحمون فعليهم تكون الرحمة طوبى للمخلصة قلوبهم فإنهم الذين يرون الله تبارك وتعالى والله تبارك وتعالى يقول وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة ويقول في قوم سخط عليهم كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون ثم إنهم لصالو الجحيم أفما في هذا القول دليل على أن الوجوه الناضرة التي هي إلى ربها ناظرة هي التي لا تحجب إذا حجبت هذه الوجوه فإن قالوا لنا كيف ذلك النظر والمنظور إليه قلنا نحن لا ننتهي في صفاته جل جلاله إلا إلى حيث انتهى إليه رسول الله ﷺ ولا ندفع ما صح عنه لأنه لا يقوم في أوهامنا ولا يستقيم على نظرنا بل نؤمن بذلك من غير أن نقول فيه بكيفية أو حد أو أن نقيس على ما جاء ما لم يأت ونرجو أن يكون في ذلك من القول والعقد سبيل النجاة والتخلص من الأهواء كلها غدا إن شاء الله تعالى
قالوا حديث في التشبيه يكذبه القرآن وحجة العقل
قالوا رويتم أن قلب المؤمن بين أصبعين من أصابع الله عز وجل فإن كنت أردتم بالأصابع ههنا النعم وكان الحديث صحيحا فهو مذهب وإن كنتم أردتم الأصابع بعينها فإن ذلك يستحيل لأن الله تعالى لا يوصف بالأعضاء ولا يشبه بالمخلوقين وذهبوا في تأويل الأصابع إلى أنه النعم لقول العرب ما أحسن إصبع قلان على ماله يريدون أثره وقال الراعي في وصف إبله
ضعيف العصا بادي العروق ترى له ** عليها إذا ما أمحل الناس أصبعا
أي ترى له عليها أثرا حسنا
قال أبو محمد ونحن نقول إن هذا الحديث صحيح وإن الذي ذهبوا إليه في تأويل الإصبع لا يشبه الحديث لأنه عليه السلام قال في دعائه يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك فقالت له إحدى أزواجه أو تخاف يا رسول الله على نفسك فقال إن قلب المؤمن بين أصبعين من أصابع الله عز وجل فإن كان القلب عندهم بين نعمتين من نعم الله تعالى فهو محفوظ بتينك النعمتين فلأي شيء دعا بالتثبيت ولم احتج على المرأة التي قالت له أتخاف على نفسك بما يؤكد قولها وكان ينبغي أن لا يخاف إذا كان القلب محروسا بنعمتين فإن قال لنا ما الإصبع عندك ههنا قلنا هو مثل قوله في الحديث الآخر يحمل الأرض على أصبع وكذا على أصبعين ولا يجوز أن تكون الإصبع ههنا نعمة وكقوله تعالى وما قدروا الله حق قدره والأرض جميعا قبضته يوم القيامة والسموات مطويات بيمينه ولم يجز ذلك ولا نقول أصبع كأصابعنا ولا يد كأيدينا ولا قبضة كقبضاتنا لأن كل شيء منه عز وجل لا يشبه شيئا منا
قالوا حديث في التشبيه
قالوا رويتم أن كلتا يديه يمين وهذا يستحيل إن كنتم أردتم باليدين العضوين وكيف تعقل يدان كلتاهما يمين
قال أبو محمد ونحن نقول إن هذا الحديث صحيح وليس هو مستحيلا وإنما أراد بذلك معنى التمام والكمال لأن كل شيء فمياسره تنقص عن ميامنه في القوة والبطش والتمام وكانت العرب تحب التيامن وتكره التياسر لما في اليمين من التمام وفي اليسار من النقص ولذلك قالوا اليمن والشؤم فاليمن من اليد اليمنى والشؤم من اليد الشؤمى وهي اليد اليسرى وهذا وجه بين ويجوز أن يريد العطاء باليدين جميعا لأن اليمنى هي المعطية فإذا كانت اليدان يمينين كان العطاء بهما وقد روي في حديث آخر أن النبي ﷺ قال يمين الله سحاء لا يغيضها شيء الليل والنهار أي تصب العطاء ولا ينقصها ذلك وإلى هذا ذهب المرار حين قال
وإن على الاوانة من عقيل
فتى كلتا اليدين له يمين
قالوا حديث في التشبيه
قالوا رويتم عن النبي ﷺ أنه قال عجب ربكم من إلكم وقنوطكم وسرعة إجابته إياكم وضحك من كذا وإنما يعجب ويضحك من لا يعلم ثم يعلم فيعجب ويضحك
قال أبو محمد ونحن نقول إن العجب والضحك ليس على ما ظنوا وإنما هو على حل عنده كذا بمحل ما يعجب منه وبمحل ما يضحك منه لأن الضاحك إنما يضحك لأمر معجب له ولذلك قال رسول الله ﷺ للأنصاري الذي ضافه ضيف وليس في طعامه فضل عن كفايته فأمر امرأته بإطفاء السراج ليأكل الضيف وهو لا يشعر أن المضيف له لا يأكل لقد عجب الله تعالى من صنيعكما البارحة أي حل عنده محل ما يعجب الناس منه وقال تعالى لنبيه ﷺ وإن تعجب فعجب قولهم لم يرد أنه عندي عجب وإنما أراد أنه عجيب عند من سمعه
قالوا حديث في التشبيه
قالوا رويتم عن النبي ﷺ أنه قال لا تسبوا الريح فإنها من نفس الرحمن وينبغي أن تكون الريح عندكم غير مخلوقة لأنه لا يكون من الرحمن جل وعز شيء مخلوق
قال أبو محمد ونحن نقول إنه لم يرد بالنفس ما ذهبوا إليه وإنما أراد أن الريح من فرج الرحمن عز وجل وروحه يقال اللهم نفس عني الأذى وقد فرج الله عن نبيه ﷺ بالريح يوم الأحزاب وقال تعالى فأرسلنا عليهم ريحا وجنودا لم تروها وكذلك قوله إني لأجد نفس ربكم من قبل اليمن قال أبو محمد وهذا من الكناية لأن معنى هذا أنه قال كنت في شدة وكرب وغم من أهل مكة ففرج الله عني بالأنصار يعني أنه يجد الفرج من قبل الأنصار وهم من اليمن فالريح من فرج الله تعالى وروحه كما كان الأنصار من فرج الله تعالى قال أبو محمد وقد بينت هذا في كتاب غريب الحديث بأكثر من هذا البيان ولم أجد بدا من ذكره ههنا ليكون الكتاب جامعا للفن الذي قصدوا له
قالوا حديث في التشبيه
قالوا رويتم أنه قال لأحد ابني ابنته والله إنكم لتجبنون وتبخلون وإنكم من ريحان الله وإن آخر وطأة وطئها الله بوج
قال أبو محمد ونحن نقول إن لهذا الحديث مخرجا حسنا قد ذهب إليه بعض أهل النظر وبعض أهل الحديث قالوا إن آخر ما أوقع الله عز وجل بالمشركين بالطائف وكانت آخر غزاة غزاها رسول الله ﷺ بوج ووج واد قبل الطائف وكان سفيان بن عيينة يذهب إلى هذا قال وهو مثل قوله في دعائه اللهم اشدد وطأتك على مضر وابعث عليهم سنين كسني يوسف فتتابع القحط عليهم سبع سنين حتى أكلوا القد والعظام وتقول في الكلام اشتدت وطأة السلطان على رعيته وقد وطئهم وطئا ثقيلا ووطء المقيد قال الشاعر
ووطئتنا وطأ على حنق ** وطء المقيد ثابت الهرم
والمقيد أثقل شيء وطئا لأنه يرسف في قيده فيضع رجليه معا والهرم نبت ضعيف فإذا وطئه كسره وفته وهذا المذهب بعيد من الاستكراه قريب من القلوب غير أني لا أقضي به على مراد رسول الله ﷺ لأني قرأت في الإنجيل الصحيح أن المسيح عليه السلام قال للحواريين ألم تسمعوا أنه قيل للأولين لا تكذبوا إذا حلفتم بالله تعالى ولكن اصدقوا وأنا أقول لكم لا تحلفوا بشيء لا بالسماء فإنها كرسي الله تعالى ولا بالأرض فإنها موطئ قدميه ولا بأورشليم بيت المقدس فإنها مدينة الملك الأكبر ولا تحلف برأسك فإنك لا تستطيع أن تزيد فيه شعرة سوداء ولا بيضاء ولكن ليكن قولكم نعم نعم ولا لا وما كان سوى ذلك فإنه من الشيطان قال أبو محمد هذا مع حديث حدثنيه يزيد بن عمرو قال حدثنا عبد الله بن الزبير المكي قال حدثنا عبد الله بن الحارث عن أبي بكر بن عبد الرحمن عن كعب قال إن وجا مقدس منه عرج الرب إلى السماء يوم قضاء خلق الأرض
قالوا حديث في التشبيه
قالوا رويتم أن النبي ﷺ قال ضرس الكافر في النار مثل أحد وكثافة جلده أربعون ذراعا بباع الجبار
قال أبو محمد ونحن نقول إن لهذا الحديث مخرجا حسنا إن كان النبي ﷺ أراده وهو أن يكون الجبار ههنا الملك قال الله تبارك وتعالى وما أنت عليهم بجبار أي بملك مسلط والجبابرة الملوك وهذا كما يقول الناس هو كذا وكذا ذراعا بذراع الملك يريدون بالذراع الأكبر وأحسبه ملكا من ملوك العجم كان تام الذراع فنسب إليه
قالوا حديث في التشبيه
قالوا رويتم أن بن عباس قال الحجر الأسود يمين الله تعالى في الأرض يصافح بها من شاء من خلقه
قال أبو محمد ونحن نقول إن هذا تمثيل وتشبيه وأصله أن الملك كان إذا صافح رجلا قبل الرجل يده فكأن الحجر لله تعالى بمنزلة اليمين للملك تستلم وتلثم وبلغني عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت إن الله تبارك وتعالى حين أخذ الميثاق من بنى آدم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى جعل ذلك في الحجر الأسود وقال أما سمعتم إذا استلموه يقولون إيمانا بك ووفاء بعهدك أي قد وفينا بعهدك أنك أنت ربنا وذلك أن الجاهلية قد استلموه وكانوا مشركين لم يستلموه بحقه لأنهم كانوا كفارا
قالوا حديث في التشبيه
قالوا رويتم أن النبي ﷺ قال رأيت ربي في أحسن صورة ووضع كفه بين كتفي حتى وجدت برد أنامله بين ثندوتي
قال أبو محمد ونحن نقول إن الله لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار يعني في الدنيا فإذا كان يوم القيامة رآه المؤمنون كما يرون القمر ليلة البدر
وقد سأله موسى ﷺ فقال رب أرني أنظر إليك
يريد أن يتعجل من الرؤية ما أجله الله تعالى له ولأمثاله من أوليائه
فقال لن تراني ولذلك يقول قوم إن نبينا ﷺ لم يره إلا في المنام وعند تغشي الوحي له وأن الإسراء ليلة الإسراء كان بروحه دون جسمه إلا تسمع إلى قول الله عز وجل وما جعلنا الرؤيا التي أريناك إلا فتنة للناس والشجرة الملعونة في القرآن
يعني بالرؤيا ما رآه ليلة أسري به فأخبر بذلك فارتد به قوم وقالوا كيف يذهب إلى بيت المقدس ثم يصعد إلى السماء ثم يهبط إلى الأرض في ليلة وتوهموا أنه ادعى الإسراء بجسمه وكان أبو بكر رضي الله عنه ممن صدق بذلك وحاج فيه فسمي الصديق
قالوا وقد قالت إحدى أزواجه في ليلة الإسراء إنا ما فقدنا جسمه
وحدثنا أبو الخطاب قال نا مالك بن سعيد قال نا الأعمش قال سمعت الوليد بن العيزار يذكر عن أبي الأحوص في قوله تعالى ولقد رآه بالأفق المبين قال رأى جبريل عليه السلام في صورته وله سبعمائة جناح
قالوا ومما يدل على ذلك أيضا حديث رواه عبد الله بن وهب عن عمرو بن الحارث عن سعيد بن أبي هلال عن مروان بن عثمان عن عمارة بن عامر عن أم الطفيل امرأة أبي بن كعب أنها سمعت النبي ﷺ يذكر أنه رأى ربه في المنام في صورة شاب موفر في خضرة على فراشه فراش من ذهب في رجليه نعلان من ذهب
قال أبو محمد ونحن لم نذكر قول من تأول هذا التأويل في هذا الحديث أننا رأيناه صوابا وإنما ذكرناه ليعلم أن الحديث قد تأوله قوم واحتجوا له بهذين الحديثين اللذين ذكرناهما وكيف يكون ذلك كما تأولوا والله جل وعز يقول سبحان الذي أسرى بعبده ليلا الآية وهذا لا يجوز أن يتأول فيه هذا التأويل ولا يدفع بمثل هذه الأحاديث ونحن نعوذ بالله أن نتعسف فنتأول فيما جعله الله فضيلة لمحمد ونحن نسلم للحديث ونحمل الكتاب على ظاهره
قالوا حديث في التشبيه
قالوا رويتم عن النبي ﷺ أن الله عز وجل خلق آدم على صورته والله تبارك وتعالى يجل عن أن يكون له صورة أو مثال
قال أبو محمد ونحن نقول كما قالوا إن الله تعالى وله الحمد يجل عن أن يكون له صورة أو مثال غير أن الناس ألفوا الشيء وأنسوا به فسكتوا عنده وأنكروا مثله ألا ترى أن الله تعالى يقول في وصفه نفسه ليس كمثله شيء وهو السميع البصير وظاهر هذا يدل على أن مثله لا يشبهه شيء ومثل الشيء غير الشيء فقد صار على هذا الظاهر لله تعالى مثل ومعنى ذلك في اللغة أنه يقام المثل مقام الشيء نفسه فيقول القائل مثلي لا يقال له هذا الكلام ومثلي لا يفتات عليه لا يريد أن نظيري لا يقال له ولا يفتات عليه وإنما يريد أنا نفسي لا يقال لي كذا وكذا وكذلك قوله وتعالى ليس كمثله شيء يريد ليس كهو شيء فخرج هذا مخرج كلام العرب ويجوز أن تكون الكاف زائدة كما تقول في الكلام كلمني بلسان كمثل السنان ولها بنان كمثل العنم وكقول الراجز
وصاليات ككما يؤثفين
فأدخل الكاف على الكاف وهي بمعنى مثل وقد اضطرب الناس في تأويل قول رسول الله ﷺ إنه خلق آدم عليه السلام على صورته فقال قوم من أصحاب الكلام أراد خلق آدم على صورة آدم لم يزد على ذلك ولو كان المراد هذا ما كان في الكلام فائدة ومن يشك في ان الله تعالى خلق الإنسان على صورته والسباع على صورها والأنعام على صورها وقال قوم إن الله تعالى خلق آدم على صورة عنده وهذا لا يجوز لأن الله عز وجل لا يخلق شيئا من خلقه على مثال وقال قوم في الحديث لا تقبحوا الوجه فإن الله تعالى خلق آدم على صورته يريد أن الله جل وعز خلق آدم على صورة الوجه وهذا أيضا بمنزلة التأويل الأول لا فائدة فيه والناس يعلمون أن الله تبارك وتعالى خلق آدم على خلق ولده ووجهه على وجوههم وزاد قوم في الحديث إنه عليه السلام مر برجل يضرب وجه رجل آخر فقال لا تضربه فإن الله تعالى خلق آدم عليه السلام على صورته أي صورة المضروب وفي هذا القول من الخلل ما في الأول ولما وقعت هذه التأويلات المستكرهة وكثر التنازع فيها حمل قوما اللجاج على أن زادوا في الحديث فقالوا روى بن عمر عن النبي ﷺ فقالوا إن الله عز وجل خلق آدم على صورة الرحمن يريدون أن تكون الهاء في صورته لله جل وعز وأن ذلك يتبين بأن يجعلوا الرحمن مكان الهاء كما تقول إن الرحمن خلق آدم على صورته فركبوا قبيحا من الخطأ وذلك أنه لا يجوز أن نقول إن الله تعالى خلق السماء بمشيئة الرحمن ولا على إرادة الرحمن وإنما يجوز هذا إذا كان الاسم الثاني غير الاسم الأول أو لو كانت الرواية لا تقبحوا الوجه فإنه خلق على صورة الرحمن فكان الرحمن غير الله أو الله غير الرحمن فإن صحت رواية بن عمر عن النبي ﷺ بذلك فهو كما قال رسول الله ﷺ فلا تأويل ولا تنازع فيه قال أبو محمد ولم أر في التأويلات شيئا أقرب من الاطراد ولا أبعد من الاستكراه من تأويل بعض أهل النظر فإنه قال فيه أراد أن الله تعالى خلق آدم في الجنة على صورته في الأرض كأن قوما قالوا إن آدم كان من طوله في الجنة كذا ومن حليته كذا ومن نوره كذا ومن طيب رائحته كذا لمخالفة ما يكون في الجنة ما يكون في الدنيا فقال النبي ﷺ إن الله خلق آدم يريد في الجنة على صورته يعني في الدنيا ولست أحتم بهذا التأويل على هذا الحديث ولا أقضي بأنه مراد رسول الله ﷺ فيه لأني قرأت في التوراة أن الله جل وعز لما خلق السماء والأرض قال نخلق بشرا بصورتنا فخلق آدم من أدمة الأرض ونفخ في وجهه نسمة الحياة وهذا لا يصلح له ذلك التأويل وكذلك حديث بن عباس أن موسى صلى الله تعالى عليه وسلم ضرب الحجر لبني إسرائيل فتفجر وقال اشربوا يا حمير فأوحى الله تبارك وتعالى إليه عمدت إلى خلق من خلقي خلقتهم على صورتي فشبهتهم بالحمير فما برح حتى عوقب هذا معنى الحديث قال أبو محمد والذي عندي والله تعالى أعلم أن الصورة ليست بأعجب من اليدين والأصابع والعين وإنما وقع الإلف لتلك لمجيئها في القرآن ووقعت الوحشة من هذه لأنها لم تأت في القرآن ونحن نؤمن بالجميع ولا نقول في شيء منه بكيفية ولا حد
قالوا حديث في التشبيه
قالوا رويتم في حديث أبي رزين العقيلي من رواية حماد بن سلمة أنه قال للنبي ﷺ أين كان ربنا قبل أن يخلق السماوات والأرض فقال كان في عماء فوقه هواء وتحته هواء قالوا وهذا تحديد وتشبيه
قال أبو محمد ونحن نقول إن حديث أبي رزين هذا مختلف فيه وقد جاء من غير هذا الوجه بألفاظ تستشنع أيضا والنقلة له أعراب ووكيع بن حدس الذي روى عنه حديث حماد بن سلمة أيضا لا يعرف غير أنه قد تكلم في تفسير هذا الحديث أبو عبيد القاسم بن سلام حدثنا عنه أحمد بن سعيد اللحياني أنه قال العماء السحاب وهو كما ذكر في كلام العرب إن كان الحرف ممدودا وإن كان مقصورا كأنه كان في عمى فإنه أراد كان في عمى عن معرفة الناس كما تقول عميت عن هذا الأمر فأنا أعمى عنه عمى إذا أشكل عليك فلم تعرفه ولم تعرف جهته وكل شيء خفي عليك فهو في عمى عنك وأما قوله فوقه هواء وتحته هواء فإن قوما زادوا فيه ما فقالوا ما فوقه هواء وما تحته هواء استيحاشا من أن يكون فوقه هواء وتحته هواء ويكون بينهما والرواية هي الأولى والوحشة لا تزول بزيادة ما لأن فوق وتحت باقيان والله أعلم
قالوا حديث في التشبيه
قالوا رويتم أن النبي ﷺ قال لا تسبوا الدهر فإن الله تعالى هو الدهر فوافقتم في هذه الرواية الدهرية
قال أبو محمد ونحن نقول إن العرب في الجاهلية كانت تقول أصابني الدهر في مالي بكذا ونالتني قوارع الدهر وبواثقه ومصايبه ويقول الهرم حناني الدهر فينسبون كل شيء تجري به أقدار الله عز وجل عليهم من موت أو سقم أو ثكل أو هرم إلى الدهر ويقولون لعن الله هذا الدهر ويسمونه المنون لأنه جالب المنون عليهم عندهم والمنون المنية قال أبو ذؤيب
أمن المنون وريبه تتوجع ** والدهر ليس بمعتب من يجزع
قال أبو محمد هكذا أنشدنيه الرياشي عن الأصمعي عن بن أبي طرفة الهذلي عن أبي ذؤيب والناس يروونه وريبها تتوجع ويجعلون المنون المنية وهذا غلط ويدلك على ذلك قوله والدهر ليس بمعتب من يجزع كأنه قال أمن الدهر وريبه تتوجع والدهر ليس بمعتب من يجزع وقال الله عز وجل تتربص به ريب المنون أي ريب الدهر وحوادثه وكانت العرب تقول لا ألقاك آخر المنون أي آخر الدهر وقد حكى الله عز وجل عن أهل الجاهلية ما كانوا عليه من نسب أقدار الله عز وجل وأفعاله إلى الدهر فقال وقالوا إن هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا وما يهلكنا إلا الدهر وما لهم بذلك من علم إن هم إلا يظنون فقال رسول الله ﷺ لا تسبوا الدهر إذا أصابتكم المصايب ولا تنسبوها إليه فإن الله عز وجل هو الذي أصابكم بذلك لا الدهر فإذا سببتم الفاعل وقع السب بالله عز وجل ألا ترى أن الرجل منهم إذا أصابته نائبة أو جائحة في مال أو ولد أو بدن فسب فاعل ذلك به وهو ينوي الدهر أن المسبوب هو الله عز وجل وسأمثل لهذا الكلام مثالا أقرب به عليك ما تأولت وإن كان بحمد الله تعالى قريبا كأن رجلا يسمى زيدا أمر عبدا له يسمى فتحا أن يقتل رجلا فقتله فسب الناس فتحا ولعنوه فقال هم قائل لا تسبوا فتحا فإن زيدا هو فتح يريد أن زيدا هو القاتل لأنه هو الذي أمره كأنه قال إن القاتل زيد لا فتح وكذلك الدهر تكون فيه المصايب والنوازل وهي بأقدار الله عز وجل فيسب الناس الدهر لكون تلك المصايب والنوازل فيه وليس له صنع فيقول قائل لا تسبوا الدهر فإن الله هو الدهر
قالوا حديث في التشبيه
قالوا رويتم عن أبي ذر وأبي هريرة عن النبي ﷺ أنه قال يقول الله عز وجل من تقرب إلي شبرا تقربت منه ذراعا ومن تقرب مني ذراعا تقربت منه باعا ومن أتاني يمشي أتيته هرولة
قال أبو محمد ونحن نقول إن هذا تمثيل وتشبيه وإنما أراد من أتاني مسرعا بالطاعة أتيته بالثواب أسرع من إتيانه فكنى عن ذلك بالمشي وبالهرولة كما يقال فلان موضع في الضلال والإيضاع سير سريع لا يراد به أنه يسير ذلك السير وإنما يراد أنه يسرع إلى الضلال فكنى بالوضع عن الإسراع وكذلك قوله والذين سعوا في آياتنا معاجزين والسعي الإسراع في المشي وليس يراد أنهم مشوا دائما وإنما يراد أنهم أسرعوا بنياتهم وأعمالهم والله أعلم
قالوا حديث يبطله الإجماع والكتاب
قالوا رويتم أن بن أم مكتوم استأذن على رسول الله ﷺ وعنده امرأتان من أزواجه فأمرهما بالاحتجاب فقالتا يا رسول الله إنه أعمى فقال أفعمياوان أنتما والناس مجمعون على أنه لا يحرم على النساء أن ينظرن إلى الرجال إذا استترن وقد كن يخرجن في عهد رسول الله ﷺ إلى المسجد ويصلين مع الرجال وقلتم في تفسير قول الله عز وجل ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها إنه الكحل والخاتم
قال أبو محمد ونحن نقول إن الله عز وجل أمر أزواج رسول الله ﷺ بالاحتجاب إذا أمرنا أن لا نكلمهن إلا من وراء حجاب فقال وإذا سألتموهن متاعا فاسألوهن من وراء حجاب وسواء دخل عليهن الأعمى والبصير من غير حجاب بينه وبينهن لأنهما جميعا يكونان عاصيين لله عز وجل ويكن أيضا عاصيات لله تعالى إذا أذن لهما في الدخول عليهن وهذه خاصة لأزواج رسول الله ﷺ كما خصصن بتحريم النكاح على جميع المسلمين فإذا خرجن عن منازلهن لحج أو غير ذلك من الفروض أو الحوائج التي لا بد من الخروج لها زال فرض الحجاب لأنه لا يدخل عليهن حينئذ داخل فيحجب أن يحتجبن منه إذا كن في السفر بارزات وكان الفرض إنما وقع في المنازل التي هن بها نازلات
قالوا حديثان متناقضان
قالوا رويتم أن النبي ﷺ قضى أن الخراج بالضمان يريد العبد يشتريه مشتريه فيستغله حينا ثم يظهر على عيب به فيرده بالعيب إنه لا يرد ما صار إليه من غلته وهو الخراج لأنه كان ضامنا له ولو مات مات من ماله ثم رويتم أنه قال من اشترى مصراة فهو بالخيار ثلاثة أيام إن شاء ردها ورد معها صاعا من طعام قالوا وهذا مخالف للحكم الأول لأن الذي أخذه من لبنها غلة ولأنه كانا ضامنا لو ماتت الشاة ماتت من ماله فهو والخراج بالضمان سواء لا فرق بينهما
قال أبو محمد ونحن نقول إن بينهما فرقا بينا لأن المصراة من الشاة والمحفلة شيء واحد وهي التي جمع اللبن في ضرعها فلم تحلب أياما حتى عظم الضرع لاجتماع اللبن فيه فإذا اشتراها مشتر واحتلب ما في ضرعها استوعبه في حلبة أو حلبتين فإذا انقطع اللبن بعد ذلك وظهر على أنها كانت محفلة ردها ورد معها صاعا من طعام لأن اللبن الذي اجتمع في ضرعها كان في ملك البائع لا في ملكه فرد عليه قيمته والعبد إذا بيع وبه عيب ولم يظهر على ذلك العيب لا يباع ومعه غلة وإنما تكون الغلة في ملك المشتري فلا يجب أن يرد عليه منها شيئا
قالوا حديثان متناقضان
قالوا رويتم أن عمرو بن الشريد سمع أبا رافع عن النبي ﷺ أنه قال الجار أحق بصقبه وعن قتادة عن الحسن عن سمرة عن النبي ﷺ قال جار الدار أحق بدار الجار أو الأرض ثم رويتم عن الزهري عن أبي سلمة بن عبد الرحمن عن جابر قال إنما جعل رسول الله ﷺ الشفعة في كل مال لم يقسم فإذا وقعت الحدود وصرفت الطرق فلا شفعة قالوا وهذا خلاف الأول
قال أبو محمد ونحن نقول في هذا الحديث الثاني إنه لا يدل على أن جابرا سمع ما قال من رسول الله ﷺ ألا تراه يقول إنما جعل رسول الله ﷺ الشفعة في كل مال لم يقسم فهو حكم منه وظن منه أو سماع من رجل عنه والحديثان الأولان متصلان وعلى أنهما جميعا يرجعان إلى تأويل واحد أما الأول فمعناه الجار أحق بملاصقه من دار جاره والصقب الدنو بالملاصقة قال الشاعر
كوفية نازح محلتها ** لا أمم دارها ولا صقب
يريد بقوله لا أمم دارها أي لا قريب ولا صقب لا ملاصقة والحديث الثاني إنما جعل رسول الله ﷺ الشفعة في كل مال لم يقسم فإذا وقعت الحدود فلا شفعة كأن ربعا فيه منازل وهو لأقوام عشرة مشتركين فيه فإن باع واحد منهم حصة من تلك المنازل كانت الشفعة لجميعهم في الحصة وصار لكل واحد منهم تسعها فإن قسمت تلك المنازل قبل أن يبيع واحد منهم شيئا فصار لكل واحد منهم منزل بعينه فإذا أراد أحدهم أن يبيع منزله لم يكن للقوم شفعة وإنما تجب الشفعة لجاره الملاصق له فدلنا بهذا الحديث على أن القسمة إذا وقعت زال حكم المشاع
قالوا حديث يكذبه النظر
قالوا رويتم أن النبي ﷺ قال إذا وقع الذباب في إناء أحدكم فامقلوه فإن في أحد جناحيه سما وفي الآخر شفاء وأنه يقدم السم ويؤخر الشفاء قالوا كيف يكون في شيء واحد سم وشفاء وكيف يعلم الذباب بموضع السم فيقدمه وبموضع الشفاء فيؤخره
قال أبو محمد ونحن نقول إن هذا الحديث صحيح وقد روي أيضا بغير هذه الألفاظ حدثنا أبو الخطاب قال نا أبو عتاب قال نا عبد الله بن المثنى قال حدثني ثمامة قال وقع ذباب في إناء فقال أنس بأصبعه فغمزه في الماء وقال بسم الله فعل ذلك ثلاثا وقال إن رسول الله ﷺ أمرهم أن يفعلوا ذلك وقال في أحد جناحيه سم وفي الآخر شفاء قال أبو محمد ونقول إن من حمل أمر الدين على ما شاهد فجعل البهيمة لا تقول والطائر لا يسبح والبقعة من بقاع الأرض لا تشكو إلى أختها والذباب لا يعلم موضع السم وموضع الشفاء واعترض على ما جاء في الحديث مما لا يفهمه فقال كيف يكون قيراط مثل أحد وكيف يتكلم بيت المقدس وكيف يأكل الشيطان بشماله ويشرب بشماله وأي شمال له وكيف لقي آدم موسى صلى الله تعالى عليهما وسلم حتى تنازعا في القدر وبينهما أحقاب وأين تنازعا فإنه منسلخ من الإسلام معطل غير أنه يستعد بمثل هذا وشبهه من القول واللغو والجدال ودفع الأخبار والآثار مخالف لما جاء به الرسول ﷺ ولما درج عليه الخيار من صحابته والتابعون ومن كذب ببعض ما جاء به رسول الله ﷺ كان كمن كذب به كله ولو أراد أن ينتقل عن الإسلام إلى دين لا يؤمن فيه بهذا وأشباهه لم يجد منتقلا لأن اليهود والنصارى والمجوس والصابئين والوثنية يؤمنون بمثل ذلك ويجدونه مكتوبا عندهم وما علمت أحدا ينكر هذا إلا قوما من الدهرية وقد اتبعهم على ذلك قوم من أهل الكلام والجهمية وبعد فما ينكر من أن يكون في الذباب سم وشفاء إذا نحن تركنا طريق الديانة ورجعنا إلى الفلسفة وهل الذباب في ذلك إلا بمنزلة الحية فإن الأطباء يذكرون أن لحمها شفاء من سمها إذا عمل منه الترياق الأكبر ونافع من لدغ العقارب وعض الكلاب الكلبة والحمى الربع والفالج واللقوة والارتعاش والصرع وكذلك قالوا في العقرب إنها إذا شق بطنها ثم شدت على موضع اللسعة نفعت وإذا أحرقت فصارت رمادا ثم سقي منها من به الحصاة نفعته وربما لسعت المفلوج فأفاق وتلقى في الدهن حينا فيكون ذلك الدهن مفرقا للأورام الغليظة والأطباء القدماء يزعمون أن الذباب إذا ألقي في الإثمد وسحق معه ثم اكتحل به زاد ذلك في نور البصر وشد مراكز الشعر من الأجفان في حافات الجفون وحكوا عن صاحب المنطق أن قوما من الأمم كانوا يأكلون الذباب فلا يرمدون وقالوا في الذباب إذا شدخ ووضع على موضع لسعة العقرب سكن الوجع وقالوا من عضه الكلب احتاج إلى أن يستر وجهه من سقوط الذباب عليه لئلا يقتله وهذا يدل على طبيعة فيه شفاء أو سم قال أبو محمد وكيف تكون البهائم والحشرات لا تفهم إذا نحن تركنا طريق الديانة وقلنا بالفلسفة وبما يلحقه العيان ونحن نرى الذرة تدخر في الصيف للشتاء فإذا خافت العفن على ما ادخرت من الحب أخرجته إلى ظاهر الأرض فنشرته ليلا في القمر وإذا خافت نبات الحب نقرت وسط الحبة لئلا تنبت وقال بن عيينة ليس شيء يدخر إلا الإنسان والنملة والفأرة وهذه الغربان لا تقرب نخلة موقرة فإذا صرمت النخلة سقطت عليها فلقطت ما في القلبة يعني الكرب وقالت الفلاسفة إذا نهشت الإبل حية أكلت السراطين وقال بن ماسويه فلذلك نظن السراطين صالحة للمنهوشين قالوا والسلحفاة إذا أكلت أفعى أكلت سعترا جبليا وابن عرس إذا قاتل الحية أكل السذاب والكلاب إذا كان في أجوافها دود أكلت سنبل القمح قال أبو محمد فأرى هذه على مذاهب الفلاسفة تفهم وتحسن الطب أيضا وهذا أعجب من معرفة الذباب بالسم والشفاء في جناحيه وكيف لا يعجبون من حجر يجذب الحديد من بعد ويطيعه حتى يذهب به يمينا وشمالا بذهابه وهذا حجر المغناطيس وكيف صدقوا بقول أرسطاطا ليس في حجر السنفيل إنه إذا ربط على بطن صاحب الاستسقاء نشف منه الماء وإن الدليل على ذلك أنه يوزن بعد أن يشد على بطنه فيوجد قد زاد في وزنه وذاكرت أيوب المتطبب بهذا أو حنينا فعرفه وقال هذا الحجر مذكور في التوراة أو قال في غيرها من كتب الله عز وجل وبقوله في حجر يسبح في الخل كأنه سمكة وخرزة تصير في حقو المرأة فلا تحبل وحجر يوضع على حرف التنور فيتساقط خبز التنور كله وحجر يقبض عليه القابض بكفيه فيلقي كل شيء في جوفه وبالصعيد من أرض مصر شجرة تعرف بالسنطة يشهر عليها السيف وتتوعد بالقطع فتذبل وحدثني شيخ لنا عن علي بن عاصم عن خالد الحذاء عن محمد بن سيرين قال اختصم رجلان إلى شريح فقال أحدهما إني استودعت هذا وديعة فأبى أن يردها علي فقال له شريح رد على الرجل وديعته فقال يا أبا أمية إنه حجر إذا رأته الحبلى ألقت ولدها وإذا وقع في الحل غلي وإذا وضع في التنور برد فسكت شريح ولم يقل شيئا حتى قاما وهذه الأشياء رحمك الله لا يضبطها وهم ولا يعرف أكثرها بقياس ولو تتبعنا مثل هذا من عجائب الخلق لكثر وطال
قالوا حديث يحتج به الروافض في إكفار أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم تسليما
قالوا رويتم أن النبي ﷺ قال ليردن علي الحوض أقوام ثم ليختلجن دوني فأقول يا رب أصيحابي أصيحابي فيقال لي إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك إنهم لم يزالوا مرتدين على أعقابهم منذ فارقتهم قالوا وهذه حجة للروافض في إكفارهم أصحاب رسول الله ﷺ إلا عليا وأبا ذر والمقداد وسلمان وعمار بن ياسر وحذيفة
قال أبو محمد ونحن نقول إنهم لو تدبروا الحديث وفهموا ألفاظه لاستدلوا على أنه لم يرد بذلك إلا القليل يدلك على ذلك قوله ليردن علي الحوض أقوام ولو كان أرادهم جميعا إلا من ذكروا لقال لتردن علي الحوض ثم لتختلجن دوني ألا ترى أن القائل إذا قال أتاني اليوم أقوام من بني تميم وأقوام من أهل الكوفة فإنما يريد قليلا من كثير ولو أراد أنهم اتوه إلا نفرا يسيرا قال أتاني بنو تميم وأتاني أهل الكوفة ولم يجز أن يقول قوم لأن القوم هم الذين تخلفوا ويدلك أيضا قوله يا رب أصيحابي بالتصغير وإنما يريد بذلك تقليل العدد كما تقول مررت بأبيات متفرقة ومررت بجميعه ونحن نعلم أنه قد كان يشهد مع رسول الله ﷺ المشاهد ويحضر معه المغازي المنافق لطلب المغنم والرقيق الدين والمرتاب والشاك وقد ارتد بعده أقوام منهم عيينة بن حصن ارتد ولحق بطليحة بن خويلد حين تنبأ وآمن به فلما هزم طليحة هرب فأسره خالد بن الوليد وبعث به إلى أبي بكر رضي الله عنه في وثاق فقدم به المدينة فجعل غلمان المدينة ينخسونه بالجريد ويضربونه ويقولون أي عدو الله كفرت بالله بعد إيمانك فيقول عدو الله والله ما كنت آمنت فلما كلمه أبو بكر رضي الله عنه رجع إلى الإسلام فقبل منه وكتب له أمانا ولم يزل بعد ذلك رقيق الدين حتى مات وهو الذي كان أغار على لقاح رسول الله ﷺ بالغابة فقال له الحارث بن عوف ما جزيت محمدا ﷺ أسمنت في بلاده ثم غزوته فقال هو ما ترى وفيه قال رسول الله ﷺ هذا الأحمق المطاع ولعيينة بن حصن أشباه ارتدوا حين ارتدت العرب فمنهم من رجع وحسن إسلامه ومنهم من ثبت على النفاق وقد قال الله تبارك وتعالى وممن حولكم من الأعراب منافقون ومن أهل المدينة مردوا على النفاق لا تعلمهم نحن نعلمهم الآية فهؤلاء هم الذين يختلجون دونه وأما جميع أصحابه إلا الستة الذين ذكروا فكيف يختلجون وقد تقدم قول الله تبارك وتعالى فيهم محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم إلى آخر السورة وقوله تعالى لقد رضي الله عن المؤمنين إذا يبايعونك تحت الشجرة قال أبو محمد وحدثني زيد بن أخزم الطائي قال أنا أبو داود قال نا قرة بن خالد عن قتادة قال قلت لسعيد بن المسيب كم كانوا في بيعة الرضوان قال خمس عشرة مائة قال قلت فإن جابر بن عبد الله قال كانوا أربع عشرة مائة قال أوهم رحمه الله هو الذي حدثني أنهم كانوا خمس عشرة مائة فكيف يجوز أن يرضى الله عز وجل عن أقوام ويحمدهم ويضرب لهم مثلا في التوراة والإنجيل وهو يعلم أنهم يرتدون على أعقابهم بعد رسول الله ﷺ إلا أن يقولوا إنه لم يعلم وهذا هو شر الكافرين
قالوا حديث في القدر
قالوا رويتم أن موسى عليه السلام كان قدريا وحاج آدم عليه السلام فحجه وأن أبا بكر كان قدريا وحاج عمر فحجه عمر
قال أبو محمد ونحن نقول إن هذا تخرص وكذب على الخبر ولا نعلم أنه جاء في شيء من الحديث أن موسى عليه السلام كان قدريا ولا أن أبا بكر رضي الله عنه كان قدريا حدثنا أبو الخطاب قال نا بشر بن المفضل قال نا داود بن أبي هند عن عامر عن أبي هريرة عن النبي ﷺ قال لقي موسى آدم صلى الله عليهما وسلم فقال أنت آدم أبو البشر الذي أشقيت الناس وأخرجتهم من الجنة قال نعم فقال ألست موسى الذي اصطفاك الله على الناس برسالاته وبكلامه قال بلى قال أفليس تجد فيما أنزل عليك أنه سيخرجني منها قبل أن يدخلنيها قال بلى قال فخصم آدم موسى صلى الله عليهما وسلم قال أبو محمد فأي شيء في هذا القول يدل على أن موسى عليه السلام كان قدريا ونحن نعلم أن كل شيء بقدر الله وقضائه غير أنا ننسب الأفعال إلى فاعليها ونحمد المحسن على إحسانه ونلوم المسيء بإساءته ونعتد على المذنب بذنوبه وأما قولهم إن أبا بكر رضي الله عنه كان قدريا فهو أيضا تحريف وزيادة في الحديث وإنما تنازعا في القدر وهما لا يعلمان فلما علما كيف ذلك اجتمعا فيه على أمر واحد كما كانا لا يعلمان أمورا كثيرة من أمر الدين وأمر التوحيد حتى أعلمهما رسول الله ﷺ ونزل الكتاب وحدت السنن فعلما بعد ذلك على أن الحديث عن أبي بكر وعمر رضي الله عنهما عند أهل الحديث ضعيف يرويه إسماعيل بن عبد السلام عن زيد بن عبد الرحمن عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده ويرويه رجل من أهل خراسان عن مقاتل بن حيان عن عمرو بن شعيب وهؤلاء لا يعرف أكثرهم
قالوا حديث يكذبه النظر
قالوا رويتم أن النبي ﷺ قال الحياء شعبة من الإيمان قالوا والإيمان اكتساب والحياء غريزة مركبة في المرء فكيف تكون الغريزة اكتسابا
قال أبو محمد ونحن نقول إن المستحيي ينقطع بالحياء عن المعاصي كما ينقطع بالإيمان عنها فكأنه شعبة منه والعرب تقيم الشيء مقام الشيء إذا كان مثله أو شبيها به أو كان سببا له ألا تراهم سموا الركوع والسجود صلاة وأصل الصلاة الدعاء وسموا الدعاء صلاة كما قال الله تعالى وصل عليهم أي ادع لهم وقال تعالى لولا دعاؤكم أي لولا صلاتكم وقال بن عمر إنه كان إذا دعي عليه السلام إلى وليمة فإن كان مفطرا أكل وإن كان صائما صلى أي دعا وأصل الصلاة الدعاء قال الله تعالى وصل عليهم إن صلاتك سكن لهم أي ادع لهم وقال الله عز وجل إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما أي ادعوا له وما جاء في هذا كثير فلما كان الدعاء يكون في الصلاة سميت الصلاة به وكذلك الزكاة وهي تطهير المال ونماؤه فلما كان النماء يقع بإخراج الصدقة عن المال سمي زكاة ومثل هذا كثير حدثني أبو الخطاب قال نا المعتمر بن سليمان قال سمعت الليث بن أبي سليم يحدث عن واصل بن حيان عن أبي وائل عن بن مسعود قال كان آخر ما حفظ من كلام النبوة إذا لم تستحي فاصنع ما شئت يراد به أنه من لم يستحي وكان فاسقا ركب كل فاحشة وقارف كل قبيح لأنه لا يحجزه عن ذلك دين ولا حياء أفما ترى أن الحياء قد صار والإيمان يعملان عملا واحدا فكأنهما شيء واحد
قالوا أحاديث في الصلاة متناقضة
قالوا رويتم عن شعبة عن يعلى بن عطاء عن جابر بن يزيد بن الأسود عن أبيه أنه صلى مع رسول الله ﷺ وإذا رجلان لم يصليا في ناحية المسجد فدعا بها فجاءا ترعد فرائصهما فقال عليه السلام ما منعكما أن تصليا معنا قالا قد صلينا في رحالنا قال عليه السلام فلا تفعلوا إذا صلى أحدكم في رحله ثم أدرك الإمام ولم يصل فليصل معه فإنها له نافلة ثم رويتم عن معن بن عيسى عن سعيد بن السائب الطائفي عن نوح بن صعصعة عن يزيد بن عامر قال جئت والنبي ﷺ في الصلاة فجلست ولم أدخل معهم فانصرف رسول الله ﷺ فقال ألم تسلم يا يزيد قلت بلى يا رسول الله قال فما منعك أن تدخل مع الناس في صلاتهم قلت إني كنت صليت في منزلي وأنا أحسب أن قد صليتم فقال إذا جئت للصلاة فوجدت الناس يصلون فصل معهم وإن كنت قد صليت تكن لك نافلة وهذه مكتوبة ثم رويتم عن يزيد بن زريع عن حسين عن عمرو بن شعيب عن سليمان مولى ميمونة قال أتيت بن عمر وهو على البلاط وهم يصلون فقلت ألا تصلي معهم قال قد صليت أوما سمعت رسول الله ﷺ يقول لا تصلوا صلاة في يوم مرتين قالوا وهذا تناقض واختلاف وكل حديث منها يوجب غير ما يوجبه الآخر
قال أبو محمد ونحن نقول إنه ليس في هذه الأحاديث تناقض ولا اختلاف أما الحديث الأول فإنه قال إذا صلى أحدكم في رحله ثم أدرك الإمام ولم يصل فليصل معه فإنها له نافلة يريد أن الصلاة التي صلى مع الإمام نافلة والأولى هي الفريضة لأن النية قد تقدمت بأدائها حتى كملت وتقضت والأعمال بالنيات وأما الحديث الثاني فقال إذا جئت للصلاة فوجدت الناس يصلون فصل معهم وإن كنت قد صليت تكن لك نافلة وهذه مكتوبة كأنه قال تكن لك هذه الصلاة التي صليت مع الإمام نافلة وهذه الأخرى التي صليتها في بيتك مكتوبة ولو جعل مكان قوله هذه وتلك مكتوبة كان أوضح للمعنى ولا فرق بينهما وإنما يشكل بقوله وهذه فأغفل بعض الرواة هذه في الموضع الأول وذكره في الموضع الثاني وجعله مكان تلك وقد ذكرت لك مثل هذا من إغفال النقلة للحرف والشيء اليسير يتغير به المعنى وأما الحديث الثالث الذي ذكر فيه بن عمر أن رسول الله ﷺ قال لا تصلوا صلاة في يوم مرتين فإن رسول الله ﷺ قال لا تصلوا فريضة في يوم مرتين كأنك صليت في منزلك الظهر مرة ثم صليتها مرة أخرى أو صليتها مع إمام ثم أعدتها مع إمام آخر فاستعمل ما سمع من هذا الحديث في الموضع الذي أطلق فيه رسول الله ﷺ أن يصلي الرجل ويجعله نافلة ولعله لم يكن سمع هذا ولم يبلغه ومن صلى في منزله الفريضة وصلى مع الإمام تلك الصلاة وجعلها نافلة لم يصل صلاة في يوم مرتين لأن هاتين صلاتان مختلفتان إحداهما فريضة والأخرى نافة
قالوا أحاديث في الوضوء متناقضة
قالوا رويتم عن سفيان عن الزهري عن أبي سلمة عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله ﷺ كان إذا أراد أن ينام وهو جنب توضأ وضوءه للصلاة ثم رويتم عن شعبة عن الحكم عن إبراهيم عن الأسود عن عائشة رضي الله عنها أن النبي ﷺ كان إذا أراد أن يأكل أو ينام توضأ تعني وهو جنب ثم رويتم عن سفيان عن أبي إسحاق عن الأسود عن عائشة رضي الله عنها قالت كان رسول الله ﷺ ينام وهو جنب من غير أن يمس ماء
قال أبو محمد ونحن نقول إن هذا كله جائز فمن شاء أن يتوضأ وضوءه للصلاة بعد الجماع ثم ينام ومن شاء غسل يده وذكره ونام ومن شاء نام من غير أن يمس ماء غير أن الوضوء أفضل وكان رسول الله ﷺ يفعل هذا مرة ليدل على الفضيلة وهذا مرة ليدل على الرخصة ويستعمل الناس ذلك فمن أحب أن يأخذ بالأفضل أخذ ومن أحب أن يأخذ بالرخصة أخذ
قالوا حديثان متناقضان
قالوا رويتم عن سفيان عن الزهري عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة أن الأعرابي بال في المسجد فقال النبي ﷺ صبوا عليه سجلا من ماء أو قال ذنوبا من ماء ثم رويتم عن جرير بن حازم قال سمعت عبد الملك بن عمير يحدث عن عبد الله بن معقل بن مقرن أنه قال في هذه القصة خذوا ما بال عليه من التراب فألقوه وأهريقوا على مكانه ماء قالوا وهذا خلاف الأول
قال أبو محمد ونحن نقول إن الخلاف وقع في هذا من قبل الراوي وحديث أبي هريرة أصح لأنه حضر الأمر ورآه وعبد الله بن معقل بن مقرن ليس من الصحابة ولا ممن أدرك النبي ﷺ فلا نجعل قوله مكافئا لقول من حضر ورأى وكان أبوه معقل بن مقرن أبو عمرة المزني يروي عن النبي ﷺ فأما عبد الله ابنه فلا نعلمه
قالوا حديثان في الصوم متناقضان
قالوا رويتم في غير حديث أن رسول الله ﷺ سئل عن الصوم في السفر فقال إن شئت فصم وإن شئت فأفطر ثم رويتم عن عبيد الله بن موسى عن أسامة بن زيد عن بن شهاب عن أبي سلمة عن أبيه قال قال رسول الله ﷺ صيام رمضان في السفر كفطره في الحضر
قال أبو محمد ونحن نقول إن هذا من قول رسول الله ﷺ كان لقوم رغبوا عن رخصة الله تعالى وما وهب لهم من الرفاهة في السفر وتجشموا المشقة والشدة فأعلمهم أن إثمهم في الصيام في السفر كإثمهم في الفطر في الحضر وسماهم في حديث آخر عصاة لتركهم قبول ما أنعم الله تعالى به ويسر فيه ومن رغب عن يسر الله تعالى كان كمن قصر في عزائمه ولذلك قال رسول الله ﷺ في صائم الدهر لا صام ولا أفطر وقال من صام الدهر ضيقت عليه جهنم وأما من سافر في الزمن البارد والأيام القصار أو كان في كن وسعة وكان مخدوما فالصوم عليه سهل فذلك الذي خيره النبي ﷺ بين الصوم والفطر فقال إن شئت فصم وإن شئت فأفطر
قالوا حديثان في الصوم متناقضان
قالوا رويتم في غير حديث أن رسول الله ﷺ كان يقبل وهو صائم ثم رويتم عن أبي نعيم عن إسرائيل عن زيد بن جبير عن أبي يزيد الضبي عن ميمونة بنت سعد مولاة النبي ﷺ أن النبي ﷺ سئل عن رجل قبل امرأته وهو صائم فقال قد أفطر
قال أبو محمد ونحن نقول إن القبلة للصائم تفسد الصوم لأنها تبعث الشهوة وتستدعي المذي وكذلك نقول في المباشرة فأما رسول الله ﷺ فإنه معصوم وتقبيله في الصوم أهله كتقبيل الوالد ولده والأخ أخاه ويدلك على ذلك قول عائشة رضي الله عنها وأيكم يملك إربه كما كان رسول الله ﷺ يملك إربه وكذلك نقول في نوم رسول الله ﷺ إنه لا يوجب الوضوء لقوله إن عيني تنام ولا ينام قلبي ولذلك كان ينام حتى يسمع فخيخه ثم يصلي من غير أن يتوضأ وأحكام رسول الله ﷺ تخالف أحكام أمته في غير موضع
قالوا حديث يبطله النظر
قالوا رويتم أن النبي ﷺ قال استوصوا بالمعزى خيرا فإنه مال رقيق وهو في الجنة قالوا كيف يكون من الجنة وهو عندنا يولد وإن كان في الجنة معزى فينبغي أن يكون فيها بقر وإبل وحمير وخيل
قال أبو محمد ونحن نقول إنه لم يرد أن هذه المعزى بأعيانها في الجنة وكيف تكون في الجنة وهي عندنا وإنما أراد في الجنة معزى وقد خلق الله تعالى هذه في الدنيا لها مثالا وكذلك أيضا الضأن والإبل والخيل ليس منها شيء إلا ولها في الجنة مثال وإنما تخلو الجنة من الخبائث كالقرود والخنازير والعقارب والحيات وإذا جاز أن يكون في الجنة لحم جاز أن يكون فيها معزى وضأن وإذا جاز أن يكون فيها طير يؤكل جاز أن يكون فيها نعم يؤكل قال الله تعالى ولحم طير مما يشتهون قال أبو محمد وحدثني أحمد بن الخليل قال نا الأصمعي قال نا أبو هلال الراسبي عن عبد الله بن بريدة عن أبيه بريدة الأسلمي أن رسول الله ﷺ قال سيد إدام أهل الدنيا والآخرة اللحم وسيد ريحان أهل الدنيا وأهل الجنة الفاغية ومما يدل على ما قلت أنه قال في حديث آخر امسحوا الرغام عن أنوفها فإنها من دواب الجنة يريد أنها من الدواب التي خلقت في الجنة
قالوا حديث يكذبه القرآن من جهتين
قالوا رويتم أن النبي ﷺ قال إن الميت يعذب ببكاء الحي عليه وهذا يبطل من وجهين أحدهما بقول الله جل وعز ولا تزر وازرة وزر أخرى والآخر بقول الله تعالى قل الله يحييكم ثم يميتكم ثم يجمعكم إلى يوم القيامة ثم قال تعالى يذكر أحوال المخلوق منذ كان طينا إلى أن يبعثه ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين ثم جعلناه نطفة في قرار مكين ثم خلقنا النطفة علقة فخلقنا العلقة مضغة فخلقنا المضغة عظاما فكسونا العظام لحما ثم أنشأناه خلقا آخر فتبارك الله أحسن الخالقين ثم إنكم بعد ذلك لميتون ثم إنكم يوم القيامة تبعثون قالوا ولم يذكر الله تعالى أنه يحييه فيما بين الموت والبعث ولا أنه يعذبه ولا أنه يثيبه حين أجمل ولا حين فصل
قال أبو محمد ونحن نقول إن كتاب الله تعالى يأتي بالإيجاز والاختصار وبالإشارة والإيماء ويأتي بالصفة في موضع ولا يأتي بها في موضع آخر فيستدل على حذفها من أحد المكانين بظهورها في المكان الاخر وحديث رسول الله ﷺ مبين للكتاب ودال على ما أريد فيه فمن المحذوف في كتاب الله جل وعز قوله تعالى فمن كان منكم مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر وظاهر هذا يدل على أن من كان مريضا أو على سفر صام عدة من أيام أخر وإن صام في السفر وعلى حال المرض وإنما أراد فمن كان منكم مريضا أو على سفر فأفطر فعليه عدة من أيام أخر فحذف فأفطر وكذلك قوله جل وعز فمن كان منكم مريضا أو به أذى من رأسه ففدية من صيام أو صدقة أو نسك وظاهر هذا الكلام يدل على أن المريض أو القمل في رأسه تجب عليه الفدية وإنما أراد فمن كان منكم مريضا أو به أذى من رأسه فحلق فعليه فدية من صيام أو صدقة أو نسك وأشباه هذا كثير ومما أتت فيه الصفة ولم تأت في مثله فاستدل بأحدهما على الآخر قوله تعالى وأشهدوا ذوي عدل منكم وقال تعالى في موضع آخر واستشهدوا شهيدين من رجالكم ولم يقل عدلين اقتصارا على ما وصف في المكان الآخر وقال في موضع فتحرير رقبة مؤمنة وفي موضع آخر فتحرير رقبة من قبل أن يتماسا ولم يقل مؤمنة وأما ما استدل عليه بحديث رسول الله ﷺ فصفات الصلوات وكيف الركوع والسجود والتشهد وكم العدد وما في المال من الصدقات والزكوات ومقدار ما يقطع فيه السارق وما يحرم من الرضاع وأشباه هذا كثير وقد أعلمنا الله تعالى في كتابه أنه يعذب قوما قبل يوم القيامة إذ يقول النار يعرضون عليها غدوا وعشيا ويوم تقوم الساعة أدخلوا آل فرعون أشد العذاب ولا يجوز أن يعرض هؤلاء على النار غدوا وعشيا في الدنيا ولا في يوم القيامة لقوله تعالى ويوم تقوم الساعة أدخلوا آل فرعون أشد العذاب ولأن يوم القيامة ليس فيها غدو ولا عشي إلا على مجاز في قوله جل وعز ولهم رزقهم فيها بكرة وعشيا يجوز في ذلك الموضع ولا يجوز في هذا الموضع وقد أخبرت به في كتابي المؤلف في تأويل مشكل القرآن وقال في موضع آخر بعد أن ذكر عذاب يوم القيامة وإن للذين ظلموا عذابا دون ذلك ولكن أكثرهم لا يعلمون وقد تتابعت الروايات عن النبي ﷺ من جهات كثيرة بنقل الثقات أنه كان يتعوذ بالله من عذاب القبر ومن ذلك حديث مالك عن أبي الزبير عن طاوس عن بن عباس أن النبي ﷺ كان يقول اللهم إني أعوذ بك من فتنة الدجال وأعوذ بك من فتنة المحيا والممات وعذاب القبر ومن ذلك حديث شعبة عن بديل بن ميسرة عن عبد الله بن شقيق عن أبي هريرة أن النبي ﷺ كان يقول اللهم إني أعوذ بك من فتنة القبر وعذابه وفتنة الدجال ومن ذلك حديث هشام عن قتادة عن أنس ان النبي ﷺ كان يقول اللهم إني أعوذ بك من فتنة المحيا ومن فتنة الممات وعذاب القبر هذا مع أخبار كثيرة في منكر ونكير ومسألتهما منها حديث حماد بن سلمة عن عاصم عن زر عن عبد الله بن عباس قال إن أحدكم ليجلس في قبره إجلاسا فيقال له من أنت فيقول أنا عبد الله حيا وميتا وأشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا عبده ورسوله فيقال له صدقت فيفسح له في قبره ما شاء الله ويرى مكانه من الجنة وأما الاخر فيقال له من أنت فيقول لا أدري فيقال له لا دريت فيضيق عليه قبره حتى تختلف أضلاعه وهذا مما لا يعمله إلا نبي ولم يكن عبد الله ليحكيه إلا وقد سمعه من رسول الله ﷺ وروى عباد بن راشد عن داود بن أبي هند عن أبي نضرة عن أبي سعيد الخدري عن النبي ﷺ أنه ذكر أن الملك يأتي العبد إذا وضع في قبره قال فإن كان كافرا أو منافقا فيقال له ما تقول في هذا الرجل يعني محمدا ﷺ فيقول لا أدري سمعت الناس يقولون شيئا فقلته فيقول لا دريت ولا ائتليت ولا اهتديت وهذه الأخبار تدل على أن عذاب القبر للكافر وأما قولهم كيف يعذب الميت ببكاء الحي والله تعالى يقول ولا تزر وازرة وزر أخرى فإنا أيضا نظن أن التعذيب للكافر ببكاء أهله عليه وكذلك قال بن عباس إنه مر بقبر يهودي فقال إنه يعذب وإن أهله ليبكون عليه فإن كان كذلك فهذا مالا يوحش لأن الكافر يعذب على كل حال وإن كان أراد المسلم المقصر كما قال في المعذب بالغيبة والبول فإن قول الله عز وجل ولا تزر وازرة وزر أخرى إنما هو في أحكام الدنيا وكان أهل الجاهلية يطلبون بثأر القتيل فيقتل أحدهم أخاه أو أباه أو ذا رحم به فإذا لم يقدر على أحد من عصبته ولا ذوي الرحم به قتل رجلا من عشيرته فأنزل الله تبارك وتعالى ولا تزر وازرة وزر أخرى وأخبرنا أيضا أنه مما أنزل على إبراهيم ﷺ ولذلك قال رسول الله ﷺ لرجل رأى معه ابنه لا تجني عليه ولا يجني عليك فأما عقاب الله تعالى إذا هو أتى فيعم وينال المسيء والمحسن قال الله تعالى واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة يريد أنها تعم فتصيب الظالم وغيره وقال عز وجل ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس ليذيقهم بعض الذي عملوا وقالت أم سلمة يا رسول الله أنهلك وفينا الصالحون فقال نعم إذا كثر الخبث وقد تبين لهم أن الله تعالى غرق أمة نوح عليه السلام كلها وفيهم الأطفال والبهائم بذنوب البالغين وأهلك قوم عاد بالريح العقيم وثمود بالصاعقة وقوم لوط بالحجارة ومسخ أصحاب السبت قردة وخنازير وعذب بعذابهم الأطفال وأخبرني رجل من الكوفيين قرأ في الكتب المتقدمة من كتب الله تعالى فوجد في كتاب منها أنا الله الحقود آخذ الأبناء بذنوب الآباء وروى بن عباس أن دانيال عليه السلام قال يحق لكم يا بني إسرائيل أني بذنوبكم أعذب وقال أنس بن مالك إن الضب في جحره ليموت هزلا بذنب بن آدم وقد دعا رسول الله ﷺ على مضر فقال اللهم اشدد وطأتك على مضر وابعث عليهم سنين كسني يوسف فتتابعت عليهم الجدوبة والقحط سبع سنين حتى أكلوا القد والعظام والعلهز فنال ذلك الجدب رسول الله ﷺ وأصحابه وبدعائه عوقبوا حتى شد وشد المسلمون على بطونهم الحجارة من الجوع قال أبو محمد وقد رأينا بعيوننا ما أغنى عن الأخبار فكم من بلد فيه الصالحون والأبرار والأطفال والصغار أصابته الرجفة فهلك به البر والفاجر والمسيء والمحسن والطفل والكبير كقومس ومهرجان وقذق والري ومدن كثيرة من مدن الشام واليمن وهذا شيء يعرفه كل من عرف الله عز وجل من أهل الديانات وإن اختلفوا قال أبو محمد وحدثني رجل من أصحاب الأخبار أن المنصور سمر ذات ليلة فذكر خلفاء بني أمية وسيرتهم وأنهم لم يزالوا على استقامة حتى أفضى أمرهم إلى أبنائهم المترفين فكان همهم من عظيم شأن الملك وجلالة قدره قصد الشهوات وإيثار اللذات والدخول في معاصي الله عز وجل ومساخطه جهلا منهم باستدراج الله تعالى وأمنا من مكره تعالى فسلبهم الله تعالى الملك والعز ونقل عنهم النعمة فقال له صالح بن علي يا أمير المؤمنين إن عبيد الله بن مروان لما دخل أرض النوبة هاربا فيمن اتبعه سأل ملك النوبة عنهم فأخبر فركب إلى عبيد الله فكلمه بكلام عجيب في هذا النحو لا أحفظه وأزعجه عن بلده فإن رأى أمير المؤمنين أن يدعو به من الحبس بحضرتنا في هذه الليلة ويسأله عن ذلك فأمر المنصور بإحضاره وسأله عن القصة فقال يا أمير المؤمنين قدمت أرض النوبة بأثاث سلم لي فافترشته بها وأقمت ثلاثا فأتاني ملك النوبة وقد خبر أمرنا فدخل علي رجل طوال أقنى حسن الوجه فقعد على الأرض ولم يقرب الثياب فقلت ما يمنعك أن تقعد على ثيابنا فقال إني ملك وحق على كل ملك أن يتواضع لعظمة الله جل وعز إذ رفعه الله ثم أقبل علي فقال لي لم تشربون الخمور وهي محرمة عليكم في كتابكم فقلت اجترأ على ذلك عبيدنا وسفهاؤنا قال فلم تطؤون الزرع بدوابكم والفساد محرم عليكم في كتابكم قلت يفعل ذلك جهالنا قال فلم تلبسون الديباج والحرير وتستعملون الذهب والفضة وهو محرم عليكم فقلت زال عنا الملك وقل أنصارنا فانتصرنا بقوم من العجم دخلوا في ديننا فلبسوا ذلك على الكره منا فأطرق مليا وجلع يقلب يده وينكت في الأرض ثم قال ليس ذلك كما ذكرت بل أنتم قوم استحللتم ما حرم عليكم وركبتم ما عنه نهيتم وظلمتم فيما ملكتم فسلبكم الله تعالى العز وألبسكم الذل بذنوبكم ولله تعالى فيكم نقمة لم تبلغ نهايتها وأخاف أن يحل بكم العذاب وأنتم ببلدي فيصيبني معكم وإنما الضيافة ثلاث فتزودوا ما احتجتم إليه وارتحلوا عن بلدي ففعلت ذلك وقد أخبرنا الله تعالى في كتابه أنه يحفظ الأبناء في الآباء فقال عز وجل وأما الجدار فكان لغلامين يتيمين في المدينة وكان تحته كنز لهما وكان أبوهما صالحا فأراد ربك أن يبلغا أشدهما ويستخرجا كنزهما رحمة من ربك وقال عمر رضي الله عنه في خطبته يوم استسقى بالعباس اللهم إنا نتقرب إليك بعم نبيك ﷺ وبقية آبائه وكبراء رجاله فإنك تقول وقولك الحق وأما الجدار فكان لغلامين يتيمين في المدينة وكان تحته كنز لهما وكان أبوهما صالحا فأراد ربك أن يبلغا أشدهما ويستخرجا كنزهما فحفظتهما لصلاح أبيهما فاحفظ اللهم نبيك في عمه فقد دلونا به إليك مستشفعين ومستغفرين وقد يجوز كما حفظ أبناء أوليائه لآبائهم أن لا يحفظ أبناء أعدائه لآبائهم وهو الفعال لما يشاء وقد كانت عائشة رضي الله عنها تنكر هذا الحديث وتقول من قال به فقد فجر وهذا ظن من عائشة وتأويل ولا يجوز حديث رسول الله ﷺ لظنها ولو كانت حكت عن رسول الله ﷺ شيئا في مخالفته كان قولها مقبولا ولو كان عبد الله بن عمر نقله وحده توهم عليه كما قالت الغلط ولكن قد نقله جماعة من الصحابة فيهم عمر وعمران بن حصين وابن عمر وأبو موسى الأشعري فإن قالوا فإن هذا ظلم وقد تبرأ الله عز وجل من الظلم إذ يقول وما أنا بظلام للعبيد أجبناهم بقول إياس بن معاوية فإنه قال قلت لبعضهم ما الظلم في كلام العرب فقال أن يأخذ الرجل ما ليس له قلت فإن الله تعالى له كل شيء
قالوا حديث يبطله النظر
قالوا رويتم أن أبا ذر قال لرسول الله ﷺ في مباضعة الرجل أهله يلذ يا رسول الله ويؤجر قال أرأيت لو وضعته في حرام ألست تأثم قال نعم قال فكذلك تؤجر في وضعك إياه في الحلال قالوا والوضع في الحرام معصية والوضع في الحلال إباحة فكيف يجوز أن يؤجر في الإباحة ولو جاز هذا لجاز أن يؤجر على أكل الطعام إذا جاع وعلى شرب الماء إذا عطش وكيف يقول هذا رسول الله ﷺ وهو أعلم الخلق بالكلام وبما يجوز وبما لا يجوز
قال أبو محمد ونحن نقول إن الرجل قد تكون له المرأة العجوز أو القبيحة فتطمح نفسه إلى غيرها من الحرام وهو له معترض وممكن فيدعه طاعة لله عز وجل فيكون في إتيان الحلال وهو له غير مشته مأجورا وتكون له المرأتان إحداهما سوداء شوهاء والأخرى بيضاء حسناء فيسوي بينهما وهو في الواحدة منهما راغب ولما يأتيه إلى الأخرى متجشم فيؤجر في ذلك ولو أن رجلا أكل خبز الشعير الحلال وترك النقي الحرام وهو يقدر عليه كان عند الناس مأجورا على أكل خبز الشعير بل لو قال قائل إن المؤمن مأجور على أكله وشربه وجماعه مع قول رسول الله ﷺ إن المؤمن ليؤجر في كل شيء حتى في رفع اللقمة إلى فيه ما كان فيما أرى إلا مصيبا
قالوا حديث يكذبه النظر
قالوا رويتم أن قرودا رجمت قردة في زنا فإن كانت القرود إنما رجمتها في الإحصان فذلك أظرف للحديث وعلى هذا القياس فإنكم لا تدرون لعل القرود تقيم من أحكام التوراة أمورا كثيرة ولعل دينها اليهودية بعد وإن كانت القرود يهودا فلعل الخنازير نصارى
قال أبو محمد ونحن نقول في جواب هذا الاستهزاء إن حديث القرود ليس عن رسول الله ﷺ ولا عن أصحابه وإنما هو شيء ذكر عن عمرو بن ميمون حدثني محمد بن خالد بن خداش قال نا مسلم بن قتيبة عن هشيم عن حصين عن عمرو بن ميمون قال زنت قردة في الجاهلية فرجمتها القرود ورجمتها معهم قال أبو محمد وقد يمكن أن يكون رأي القرود ترجم قردة فظن أنها ترجمها لأنها زنت وهذا لا يعلمه أحد إلا ظنا لأن القرود لا تنبئ عن أنفسها والذي يراها تتسافد لا يعلم أزنت أم لم تزن هذا ظن ولعل الشيخ عرف أنها زنت بوجه من الدلائل لا نعلمه فإن القرود أزنى البهائم والعرب تضرب بها المثل فتقول أزنى من قرد ولولا أن الزنا منه معروف ما ضربت به المثل وليس شيء أشبه بالإنسان في الزواج والغيرة منه والبهائم قد تتعادى ويثب بعضها على بعض ويعاقب بعضها بعضا فمنها ما يعض ومنها ما يخدش ومنها ما يكسر ويحطم والقرود ترجم بالأكف التي جعلها الله لها كما يرجم الإنسان فإن كان إنما رجم بعضها بعضا لغير زنا فتوهمه الشيخ لزنا فليس هذا ببعيد وإن كان الشيخ استدل على الزنا منها بدليل وعلى أن الرجم كان من أجله فليس ذلك أيضا ببعيد لأنها على ما أعلمتك أشد البهائم غيرة وأقربها من بني آدم أفهاما قال أبو محمد وأنا أظن أنها الممسوخ بأعيانها توالدت واستدللت على ذلك بقول الله عز وجل قل هل أنبئكم بشر من ذلك مثوبة عند الله من لعنه الله وغضب عليه وجعل منهم القردة والخنازير فدخول الألف واللام في القردة والخنازير يدل على المعرفة وعلى أنها هي القردة التي نعاين ولو كان أراد شيئا انقرض ومضى لقال وجعل منهم قردة وخنازير إلا أن يصح حديث أم حبيبة في الممسوخ فيكون كما قال النبي ﷺ ولسنا نقول إنها فعلت ذلك لأنها علمت بحكم التوراة كما يقول المستهزئ ولكنا نقول إنها عاقبت بالرجم إما على الزنا أو على غير ذلك من أجل أكفها كما يخدش غيرها ويعض ويكسر إذا كانت أكفها كأكف بني آدام وكان بن آدم لا ينال ما يريد أذاه إذا بعد عنه إلا بالرجم ومما يزيد في الدلالة على أن القرود هي الممسوخ بأعيانها إجماع الناس على تحريمها بغير كتاب ولا أثر كما أجمعوا على تحريم لحوم الناس بغير كتاب ولا أثر
قالوا أحاديث تدل على خلق القرآن
قالوا رويتم قلب القرآن يس وسنام القرآن البقرة وتجيء البقرة وآل عمران يوم القيامة كأنهما غمامتان أو غيايتان أو خرقان من طير صواف ويأتي القرآن الرجل في قبره فيقول له كيت وكيت وهذا كله يدل على أن القرآن مخلوق ولا يجوز أن يكون ماله قلب وسنام وما كان غمامة أو غياية غير مخلوق
قال أبو محمد ونحن نقول إنه قد كان ينبغي لهؤلاء إذا كانوا أصحاب كلام وقياس أن يعلموا أن القرآن لا يكون حسما ولا ذا حدود وأقطار وإنما أراد بقوله سنام القرآن البقرة أعلاه كما أن السنام من البعير أعلاه وأراد بقوله قلب القرآن يس أنها من القرآن كمحل القلب من البدن وأراد بقوله تجيء البقرة وآل عمران كأنهما غمامتان أن ثوابهما يأتي قارئهما حتى يظله يوم القيامة ويأتي ثوابه الرجل في قبره ويأتي الرجل يوم القيامة حتى يجادل عنه ويجوز أن يكون الله تعالى يجعل له مثالا يحاج عنه ويستنقذه قال أبو محمد حدثنا أبو الخطاب بن زياد يحيى قال حدثنا عبد الأعلى قال حدثنا محمد بن إسحاق عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال قال رسول الله ﷺ يمثل القرآن يوم القيامة برجل ويؤتى بالرجل قد كان يضيع فرائضه ويتعدى حدوده ويخالف طاعته ويركب معصيته قال فينتتل خصما له فيقول أي رب حملت إياي شر حامل تعدى حدودي وضيع فرائضي وترك طاعتي وركب معصيتي فما يزال يقذف بالحجج عليه حتى يقال له فشأنك به قال فيأخذ بيده فلا يفارقه حتى يكبه على منخره في النار ويؤتى بالرجل قد كان يحفظ حدوده ويعمل بفرائضه ويأخذ بطاعته ويجتنب معصيته فينتتل خصما له فيقول أي رب حملت إياي خير حامل اتقى حدودي وعمل بفرائضي واتبع طاعتي وترك معصيتي فما يزال يقذف له بالحجج عليه حتى يقال فشأنك به قال فيأخذ بيده فما يرسله حتى يكسوه حلة الإستبرق ويعقد على رأسه تاج الملك ويسقيه بكأس الخلد أفما في قوله يمثل القرآن دليل على أنه يجعل له مثال ليعلم صاحبه التالي له والعامل به أن القرآن هو المستنقذ له والقرآن نفسه لا يكون رجلا ولا جسما ولا يتكلم لأنه كلام ولو أمعن هؤلاء النظر وأوتوا طرفا من التوفيق لعلموا أنه لا يجوز أن يكون القرآن مخلوقا لأنه كلام الله تعالى وكلام الله من الله وليس من الله عز وجل شيء مخلوق ويعتبر ذلك برد الأمر إلى ما يفهمون من كلامنا لأن كلامنا ليس عملا لنا إنما هو صوت وحروف مقطعة وكلاهما لا يجوز أن يكون لنا فعلا لأنهما جميعا خلق الله وإنما لنا من العمل فيهما الأداء والثواب من الله تعالى يقع عليه ومثل ذلك مثل رجل أودعته مالا ثم استرجعته منه فأداه إليك بيده فليس له في المال ولا في اليد ثواب وإنما الثواب في تأدية المال وكذلك الثواب لك في تأدية القرآن بالصوت والحروف المقطعة والقرآن بهذا النظم وهذا التأليف كلام الله تعالى ومنه بدا وكل من أداه فهو مؤد لكلام الله تعالى لا يزيل ذلك عنه أن يكون هو القارئ له ولو أن رجلا ألف خطبة أو عمل قصيدة ثم نقل ذلك عنه لم يكن الكلام ولا الشعر عملا للناقل وإنما يكون الشعر للمؤلف وليس للناقل منه إلا الأداء
قالوا أحاديث يخالفها الإجماع
قالوا رويتم عن أيوب عن بن سيرين عن عمرو بن وهب الثقفي عن المغيرة بن شعبة أن النبي ﷺ تبرز لحاجته فأتبعته بماء فتوضأ ومسح على عمامته ثم صلى الغداة ورويتم عن أبي معاوية عن الأعمش عن الحكم عن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن كعب بن عجرة عن بلال أن النبي ﷺ مسح على الخمار ورويتم عن الوليد بن مسلم عن الأوزاعي عن يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة بن عبد الرحمن عن عمرو بن أمية الضمري قال رأيت رسول الله ﷺ توضأ فمسح على العمامة قالوا وهذه طرق جياد عندكم وقد تركتم العمل بها من غير أن ترووا لذلك عن رسول الله ﷺ ناسخا
قال أبو محمد ونحن نقول إن الحق يثبت عندنا بالإجماع أكثر من ثبوته بالرواية لأن الحديث قد تعترض فيه عوارض من السهو والإغفال وتدخل عليه الشبه والتأويلات والنسخ ويأخذه الثقة عن غير الثقة وقد يأتي بأمرين مختلفين وهما جميعا جائزان كالتسليمة الواحدة والتسليمتين وقد يحضر الأمر يأمر به النبي ﷺ رجل ثم يأمر بخلافه ولا يحضره هو فينقل إلينا الأمر الأول ولا ينقل إلينا الثاني لأنه لم يعلمه والإجماع سليم من هذه الأسباب كلها ولذلك كان مالك رحمه الله يروي عن رسول الله ﷺ الحديث ثم يقول والعمل ببلدنا على كذا لأمر يخالف ذلك الحديث لأن بلده بلد رسول الله ﷺ وإذا كان العمل في عصره على أمر من الأمور صار العمل في العصر الثاني عليه وكذلك في العصر الثالث والرابع وما بعده ولا يجوز أن يكون الناس جميعا ينتقلون عن شيء كانوا عليه في بلده وعصره إلى غيره فقرن عن قرن أكثر من واحد عن واحد وقد روى الناس أحاديث متصلة وتركوا العمل بها منها حديث سفيان وحماد بن زيد عن عمرو بن دينار عن جابر عن بن عباس أن رسول الله ﷺ جمع بين الظهر والعصر والمغرب والعشاء بالمدينة آمنا لا يخاف والفقهاء جميعا على ترك العمل بهذا إما لأنه منسوخ أو لأنه فعله في حال ضرورة إما لمطر أو شغل ومنها حديث سفيان عن عمرو بن دينار عن عوسجة عن بن عباس أن رجلا توفي على عهد رسول الله ﷺ ولم يدع وارثا إلا مولى هو أعتقه فأعطاه رسول الله ﷺ ميراثه والفقهاء على خلاف ذلك إما لاتهامهم عوسجة بهذا وأنه ممن لا يثبت به فرض أو سنة وإما لتحريف في التأويل كأن تأويله لم يدع وارثا إلا مولى هو أعتق الميت فيجوز على هذا التأويل أن يكون وارثا لأنه مولى المتوفى وإما النسخ ومنها حديث شعبة عن عمرو بن مرة عن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن البراء أن رسول الله ﷺ كان يقنت في صلاة الصبح والمغرب والناس يتنازعون في القنوت في الصبح ولا يختلفون في تركه في المغرب ومثل هذا كثير وكذلك المسح على العمامة والخمار وقد أجمع الفقهاء على تركه ولم يجمعوا على ذلك مع مجيئه من الطريق المرتضى عندهم إلا لنسخ أو لأنه رئي يمسح على العمامة وعلى الرأس تحت العمامة فنقل الناقل أغرب الخبرين لأن المسح على الرأس لا ينكر ولا يستغرب إذ كان الناس جميعا عليه وإنما يستغرب الخمار واستشهدوا على ذلك بحديث آخر للمغيرة رواه الوليد بن مسلم عن ثور عن رجاء بن حيوة عن وراد عن المغيرة أن النبي ﷺ مسح بناصيته وعمامته والمسح بالناصية فرض في الكتاب فلا يزول بحديث مختلف في لفظه ونحو هذا رواية بعضهم أنه مسح على النعلين ورواية آخر أنه مسح على الجوربين وإنما مسح على الجوربين في النعلين فنقل كل واحد أحد الأمرين
قالوا حديثان مختلفان في ذراري المشركين
قالوا رويتم أن الصعب بن جثامة قال يا رسول الله ذراري المشركين تطؤهم خيلنا في ظلم الليل عند الغارة قال هم من آبائهم قالوا ثم رويتم أنه بعث سرية فقتلوا النساء والصبيان فأنكر ذلك رسول الله ﷺ إنكارا شديدا فقالوا يا رسول الله إنهم ذراري المشركين قال أو ليس خياركم ذراري المشركين
قال أبو محمد ونحن نقول إنه ليس بين الحديثين اختلاف لأن الصعب بن جثامة أعلمه أن خيل المسلمين تطؤهم في ظلم الليل عند الغارة فقال هم من آبائهم يريد أن حكمهم في الدنيا حكم آبائهم فإذا كان الليل وكانت الغارة ووقعت الفرصة في المشركين فلا تكفوا من أجل الأطفال لأن حكمهم حكم آبائهم من غير أن تتعمدوا قتلهم ثم أنكر في الحديث الثاني على السرية قتلهم النساء والصبيان لأنهم تعمدوا ذلك لشرك آبائهم فقال أوليس خياركم ذراري المشركين يريد فلعل فيهم من يسلم إذا بلغ ويحسن إسلامه
قالوا حديث ينقض بعضه بعضا
قال رويتم أن النبي ﷺ قال في سعد بن معاذ لقد اهتز لموته العرش ولقد تبادر إلى غسله سبعون ألف ملك وما كدت أصل إلى جنازته ثم رويتم أنه قال لو نجا أحد من عذاب القبر لنجا سعد بن معاذ ولقد ضغط ضغطة اختلفت لها أضلاعه قالوا كيف يتحرك عرش الله تعالى لموت أحد وإن كان هذا جائزا فالأنبياء أولى به وقد رويتم عن النبي ﷺ أن الشمس والقمر لا ينكسفان لموت أحد ولا لحياته وإذا كانت الشمس وكان القمر وهما على ما رويتم ثوران مكوران في النار فكيف بالعرش المجيد وعلى أن العرش لو تحرك لتحرك بحركته السماوات والأرض وكيف يتحرك العرش لموت من يعذبه الله تعالى ويضم عليه قبره حتى تختلف فيه أضلاعه وكيف يعذب من يغسله سبعون ألف ملك ولا يصل النبي ﷺ إلى جنازته لازدحام الملائكة عليها
قال أبو محمد ونحن نقول إنه قد تأول هذا الحديث قوم فذهبوا فيه إلى أن الاهتزاز من العرش إنما هو الحركة كما يهتز الرمح وكما تهتز الشجرة إذا حركتها الريح وإذا كان التأويل على هذا وقعت الشناعة ووجبت الحجة التي احتج بها هؤلاء وقال قوم العرش ههنا السرير الذي حمل عليه سعد بن معاذ تحرك وإذا كان التأويل على هذا لم يكن لسعد في هذا القول فضيلة ولم يكن في الكلام فائدة لأن كل سرير من سرر الموتى لا بد من أن يتحرك لتجاذب الناس إياه وبعد فكيف يجوز أن يكون العرش السرير الذي حمل عليه سعد بن معاذ وقد روي في حديث آخر اهتز عرش الرحمن لموته وليس الاهتزاز ما ذهبوا إليه من الحركة ولا العرش ما ذهب إليه الآخرون بل الاهتزاز الاستبشار والسرور يقال إن فلانا ليهتز للمعروف أي يستبشر ويسر وإن فلانا لتأخذه للثناء هزة أي ارتياح وطلاقة ومنه قيل في المثل إن فلانا إذا دعي اهتز وإذا سئل ارتز والكلام لأبي الأسود الدؤلي يري أنه إذا دعي إلى طعام يأكله اهتز أي ارتاح وسر وإذا سئل الحاجة ارتز أي ثبت على حاله ولم يطلق فهذا معنى الاهتزاز في هذا الحديث وأما العرش فعرش الرحمن جل وعز على ما جاء في الحديث وإنما أراد باهتزازه استبشار الملائكة الذين يحملونه ويحفون حوله بروح سعد بن معاذ فأقام العرش مقام من يحمله ويحيط به من الملائكة كما قال الله عز وجل فما بكت عليهم السماء والأرض يريد ما بكى عليهم أهل السماء ولا أهل الأرض فأقام السماء والأرض مقام أهلهما وكما قال واسأل القرية أي سل أهلها وكما قال النبي ﷺ في أحد هذا جبل يحبنا ونحبه يريد يحبنا أهله يعني الأنصار ونحبه أي نحب أهله كذلك أقام العرش مقام حملته والحافين من حوله وقد جاء في الحديث أن الملائكة تستبشر بروح المؤمن وأن لكل مؤمن بابا في السماء يصعد فيه عمله وينزل منه رزقه ويعرج فيه بروحه إذا مات ثم يرد ويدل على هذا التأويل أيضا قول النبي ﷺ لقد تبادر إلى غسله سبعون ألف ملك وهذا التأويل بحمد الله تعالى سهل قريب كأنه قال لقد استبشر حملة العرش والملائكة حوله بروح سعد وأما قولهم كيف يعذب من تبادر إلى غسله سبعون ألف ملك فإن للموت وللبعث والقيامة زلازل شداد وأهوالا لا يسلم منها نبي ولا ولي يدلك أن رسول الله ﷺ كان يتعوذ بالله من عذاب القبر ولو كان يستحيل ما تعوذ منه ولكنه خاف ما قضى الله عز وجل من ذلك على جميع عباده وأخفاه عنهم فلم يجعل منهم أحدا على أمن ولا طمأنينة ويدلك قول الأنبياء صلوات الله عليهم يوم القيامة يا رب نفسي نفسي وقول نبينا ﷺ يا رب أمتي أمتي ويدلك قول الله عز وجل وإن منكم إلا واردها كان على ربك حتما مقضيا أعلمنا أنه ليس من أحد إلا يرد النار ثم ينجي الله الذين اتقوا ويذر الظالمين فيها جثيا وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه لو كان لي طلاع الأرض ذهبا لافتديت به من هول المطلع وقال بن عباس في قول الله عز وجل يوم يجمع الله الرسل فيقول ماذا أجبتم قالوا لا علم لنا إنك أنت علام الغيوب تدخلهم دهشة من أهوال يوم القيامة
قالوا حديث يكذبه النظر
قالوا رويتم عن عبد الله بن نمير عن عبيد الله عن نافع عن بن عمر عن النبي ﷺ أنه قال في الضب لا آكله ولا أنهى عنه ولا أحله ولا أحرمه وقالوا إذا كان هو عليه السلام لا يأكل ولا ينهى ولا يحلل ولا يحرم فإلى من المفزع في التحليل والتحريم والأعراب تأكل الضباب وتعجب بها قال أبو وائل ضبة مكون أحب إلي من دجاجة سمينة وقد أكله خالد بن الوليد معه وأكله عمر ولا يجوز أن يكون هؤلاء أقدموا على الشبهة
قال أبو محمد ونحن نقول إن هذا الحديث قد وقع فيه سهو من بعض النقلة وكان لا آكله ولا أنهى عنه حسب فظن أنه لا يحله ولا يحرمه كما أنه لايأكله ولا ينهى عنه وبين الأمرين فرق لأنه لم يتركه من جهة التحريم وإنما تركه لأنه عافه وكذلك قال عمر رضي الله عنه حين أتي بضب فوضع يده في كشيته وقال إن رسول الله ﷺ لم يحرمه ولكنه قذره ويوضح لك هذا أيضا أن وهب بن جرير روى عن شعبة عن توبة العنبري عن الشعبي عن بن عمر قال كان ناس من أصحاب النبي ﷺ يأكلون شيئا وفيهم سعد بن مالك فنادتهم امرأة من أزواج النبي ﷺ إنه ضب فأمسكوا فقال النبي ﷺ كلوا فإنه حلال لا بأس به ولكنه ليس من طعام قومي وهذا الحديث يدل على غلط الناقل عن بن عمر لأنه لا يجوز أن يروي الحديثين جميعا وهما متنافيان وأما تركه أكله وهو حلال عنده فليس كل الحلال تطيب النفوس به ولا يحسن بالمرء أن يفعله فقد أحل الله تعالى لنا الشاء ولم يحرم علينا منها إلا الدم المسفوح وكان رسول الله ﷺ يكره منها المثانة والغدة والمصران والأنثيين والطحال وقد روي في الخبر ذكاة الجنين ذكاة أمه والنفوس لا تطيب بأكله ومن المحرم شيء لم ينزل بتحريمه تنزيل ولا سنة وكل الناس فيه إلى فطرهم وما جبلوا عليه كلحم الإنسان ولحم القرد ولحوم الحيات والأبارص والعظاء والفأر وأشباه ذلك وليس من هذا شيء إلا والنفوس تعافه وقد أعلمنا الله تبارك وتعالى في كتابه أن رسول الله ﷺ يحرم علينا الخبائث وهذه كلها خبيثة في الفطر وأما ما لا يحسن بالمرء أن يفعله من الحلال فعدو الكهل في الطريق من غير أن يحفزه أمر والخصومة في مهر الأم وإلقاء الرداء عن المنكبين وغزل القطن على الطريق والتحلي بالشيء من حلي المرأة والأكل في الأسواق قال أبو محمد حدثني أبو الخطاب قال نا أبو عتاب عن محمد بن الفرات عن سعيد بن لقمان عن عبد الرحمن الأنصاري عن أبي هريرة قال سمعت رسول الله ﷺ يقول الأكل في السوق دناءة وفي بعض الحديث إن الله تعالى يحب معالي الأمور ويكره سفسافها
قالوا حديث في التشبيه يكذبه القرآن والإجماع
قالوا رويتم أن الله تبارك وتعالى ينزل إلى السماء الدنيا في الثلث الأخير من الليل فيقول هل من داع فأستجيب له أو مستغفر فأغفر له وينزل عشية عرفة إلى أهل عرفة وينزل في ليلة النصف من شعبان وهذا خلاف لقوله تعالى ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم ولا خمسة إلا هو سادسهم ولا أدنى من ذلك ولا أكثر إلا هو معهم أينما كانوا وقوله جل وعز وهو الذي في السماء إله وفي الأرض إله وقد أجمع الناس على أنه بكل مكان ولا يشغله شأن عن شأن
قال أبو محمد ونحن نقول في قوله ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم ولا خمسة إلا هو سادسهم ولا أدنى من ذلك ولا أكثر إلا هو معهم أينما كانوا إنه معهم بالعلم بما هم عليه كما تقول للرجل وجهته إلى بلد شاسع ووكلته بأمر من أمورك احذر التقصير والإغفال لشيء مما تقدمت فيه إليك فإني معك تريد أنه لا يخفى علي تقصيرك أو جدك للإشراف عليك والبحث عن أمورك وإذا جاز هذا في المخلوق الذي لا يعلم الغيب فهو في الخالق الذي يعلم الغيب أجوز وكذلك هو بكل مكان يراد لا يخفى عليه شيء مما في الأماكن فهو فيها بالعلم بها والإحاطة وكيف يسوغ لأحد أن يقول إنه بكل مكان على الحلول مع قوله الرحمن على العرش استوى أي استقر كما قال فإذا استويت أنت ومن معك على الفلك أي استقررت ومع قوله تعالى إليه يصعد الكلم الطيب والعلم الصالح يرفعه وكيف يصعد إليه شيء هو معه أو يرفع إليه عمل وهو عنده وكيف تعرج الملائكة والروح إليه يوم القيامة وتعرج بمعنى تصعد يقال عرج إلى السماء إذا صعد والله عز وجل ذو المعارج والمعارج الدرج فما هذه الدرج وإلى من تؤدي الأعمال الملائكة إذا كان بالمحل الأعلى مثله بالمحل الأدنى ولو أن هؤلاء رجعوا إلى فطرهم وما ركبت عليه خلقتهم من معرفة الخالق سبحانه لعلموا أن الله تعالى هو العلي وهو الأعلى وهو بالمكان الرفيع وأن القلوب عند الذكر تسمو نحوه والأيدي ترفع بالدعاء إليه ومن العلو يرجى الفرج ويتوقع النصر وينزل الرزق وهنالك الكرسي والعرش والحجب والملائكة يقول الله تبارك وتعالى إن الذين عند ربك لا يستكبرون عن عبادته ولا يستحسرون يسبحون الليل والنهار لا يفترون وقال في الشهداء أحياء عند ربهم يرزقون وقيل لهم شهداء لأنهم يشهدون ملكوت الله تعالى واحدهم شهيد كما يقال عليم وعلماء وكفيل وكفلاء وقال تعالى لو أردنا أن نتخذ لهوا لاتخذناه من لدنا أي لو أردنا أن نتخذ امرأة وولدا لاتخذنا ذلك عندنا لا عندكم لأن زوج الرجل وولده يكونان عنده وبحضرته لا عند غيره والأمم كلها عربيها وعجميها تقول إن الله تعالى في السماء ما تركت على فطرها ولم تنقل عن ذلك بالتعليم وفي الحديث إن رجلا أتى رسول الله ﷺ بأمة أعجمية للعتق فقال لها رسول الله ﷺ أين الله تعالى فقالت في السماء قال فمن أنا قالت أنت رسول الله ﷺ فقال عليه الصلاة والسلام هي مؤمنة وأمره بعتقها هذا أو نحوه وقال أمية بن أبي الصلت
مجدوا الله وهو للمجد أهل ** ربنا في السماء أمسى كبيرا
بالبناء الأعلى الذي سبق الناس ** وسوى فوق السماء سريرا
شرجعا ما يناله بصر العين ** ترى دونه الملائك صورا
وصور جمع أصور وهو المائل العنق وهكذا قيل في الحديث إن حملة العرش صور وكل من حمل شيئا ثقيلا على كاهله أو على منكبه لم يجد بدا من أن يميل عنقه وفي الإنجيل الصحيح إن المسيح عليه السلام قال لا تحلفوا بالسماء فإنها كرسي الله تعالى وقال للحواريين إن أنتم غفرتم للناس فإن ربكم الذي في السماء يغفر لكم ظلمكم انظروا إلى طير السماء فإنهن لا يزرعن ولا يحصدن ولا يجمعن في الأهواء وربكم الذي في السماء هو يرزقهن أفلستم أفضل منهن ومثل هذا من الشواهد كثير يطول به الكتاب وأما قوله وهو الذي في السماء إله وفي الأرض إله فليس في ذلك ما يدل على الحلول بهما وإنما أراد به أنه إله السماء وإله من فيها وإله الأرض وإله من فيها ومثل هذا من الكلام قولك هو بخراسان أمير وبمصر أمير فالإمارة تجتمع له فيهما وهو حال بإحداهما أو بغيرهما وهذا واضح لا يخفى فإن قيل لنا كيف النزول منه جل وعز قلنا لا نحتم على النزول منه بشيء ولكنا نبين كيف النزول منا وما تحتمله اللغة من هذا اللفظ والله أعلم بما أراد والنزول منا يكون بمعنيين أحدهما الانتقال عن مكان إلى مكان كنزولك من الجبل إلى الحضيض ومن السطح إلى الدار والمعنى الآخر إقبالك على الشيء بالإرادة والنية وكذلك الهبوط والارتقاء والبلوغ والمصير وأشباه هذا من الكلام ومثال ذلك أن يسألك سائل عن محال قوم من الأعراب وهو لا يريد المصير إليهم فتقول له إذا صرت إلى جبل كذا فانزل منه وخذ يمينا وإذا صرت إلى وادي كذا فاهبط فيه ثم خذ شمالا وإذا صرت إلى أرض كذا فاعتل هضبة هناك حتى تشرف عليهم وأنت لا تريد في شيء مما تقوله افعله ببدنك إنما تريد افعله بنيتك وقصدك وقد يقول القائل بلغت إلى الأحرار تشتمهم وصرت إلى الخلفاء تطعن عليهم وجئت إلى العلم تزهد فيه ونزلت عن معالى الأخلاق إلى الدناءة وليس يراد في شيء من هذا انتقال الجسم وإنما يراد به القصد إلى الشيء بالإرادة والعزم والنية وكذلك قوله جل وعز إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون لا يريد أنه معهم بالحلول ولكن بالنصرة والتوفيق والحياطة وكذلك قوله تعالى من تقرب مني ذراعا تقربت منه باعا ومن أتاني يمشي أتيته هرولة قال أبو محمد وحدثنا عن عبد المنعم عن أبيه عن وهب بن منبه أن موسى ﷺ لما نودي من الشجرة اخلع نعليك أسرع الإجابة وتابع التلبية وما كان ذلك إلا استئناسا منه بالصوت وسكونا إليه وقال إني أسمع صوتك وأحس وجسك ولا أرى مكانك فأين أنت فقال أنا فوقك وأمامك وخلفك ومحيط بك وأقرب إليك من نفسك يريد أني أعلم بك منك بنفسك لأنك إذا نظرت إلى ما بين يديك خفي عنك ما وراءك وإذا سموت بطرفك إلى ما فوقك ذهب عنك علم ما تحتك وأنا لا تخفى علي خافية منك في جميع أحوالك ونحو هذا قول رابعة العابدة شغلوا قلوبهم عن الله عز وجل بحب الدنيا ولو تركوها لجالت في الملكوت ثم رجعت إليهم بطرف الفوائد ولم ترد أن أبدانهم وقلوبهم تجول في السماء بالحلول ولكن تجول هناك بالفكرة والقصد والإقبال وكذلك قول أبي مهدية الأعرابي اطلعت في النار فرأيت الشعراء لهم كصيص يعني التواء وأنشد
جنادبها صرعى لهن كصيص
أي التواء ولو قال قائل في قول رسول الله ﷺ اطلعت في الجنة فرأيت أكثر أهلها البله واطلعت في النار فرأيت أكثر أهلها النساء إن اطلاعه فيهما كان بالفكر والإقبال كان تأويلا حسنا
قالوا حديث يكذبه النظر
قالوا رويتم عن حماد بن سلمة عن عمار بن أبي عمار عن أبي هريرة عن النبي ﷺ أن موسى عليه السلام لطم عين ملك الموت فأعوره فإن كان يجوز على ملك الموت العور جاز عليه العمى ولعل عيسى بن مريم عليه السلام قد لطم الأخرى فأعماه لأن عيسى عليه السلام كان أشد للموت كراهية من موسى عليه السلام وكان يقول اللهم إن كنت صارفا هذه الكأس عن أحد من الناس فاصرفها عني
قال أبو محمد ونحن نقول إن هذا الحديث حسن الطريق عند أصحاب الحديث وأحسب له أصلا في الأخبار القديمة وله تأويل صحيح لا يدفعه النظر والذي نذهب إليه فيه أن ملائكة الله تعالى روحانيون والروحاني منسوب إلى الروح نسبة الخلقة فكأنهم أرواح لا جثث لهم فتلحقها الأبصار ولا عيون لها كعيوننا ولا أبشار كأبشارنا ولسنا نعلم كيف هيأهم الله تعالى لأنا لا نعرف من الأشياء إلا ما شاهدنا وإلا ما رأينا له مثالا وكذلك الجن والشياطين والغيلان هي أرواح ولا نعلم كيفيتها وإنما تنتهي في صفاتها إلى حيث ما وصف الله جل وعز لنا ورسوله ﷺ قال الله جل وعز جاعل الملائكة رسلا أولي أجنحة مثنى وثلاث ورباع ثم قال يزيد في الخلق ما يشاء كأنه يزيد في تلك الأجنحة ما يشاء وفي غيرها وكانت العرب تدعو الملائكة جنا لأنهم اجتنوا عن الأبصار كما اجتنت الجن قال الأعشى يذكر سليمان بن داود عليهما السلام
وسخر من جن الملائك تسعة ** قياما لديه يعملون بلا أجر
وقد جعل الله سبحانه للملائكة من الاستطاعة أن تتمثل في صور مختلفة وأتى رسول الله ﷺ جبريل عليه السلام في صورة دحية الكلبي وفي صورة أعرابي ورآه مرة قد سد بجناحيه ما بين الأفقين وكذلك جعل للجن أن تتمثل وتتخيل في صور مختلفة كما جعل للملائكة قال الله جل وعز فأرسلنا إليها روحنا فتمثل لها بشرا سويا وليس ما تنتقل إليه من هذه الأمثلة على الحقائق إنما هي تمثيل وتخييل لتلحقها الأبصار وحقائق خلقها أنها أرواح لطيفة تجري مجرى الدم وتصل إلى القلوب وتدخل في الثرى وترى ولا ترى قال الله تعالى في إبليس إنه يراكم هو وقبيله من حيث لا ترونهم يريد أنا لا نراهم في حقائق هيئآتهم وقال أيضا وقالوا لولا أنزل عليه ملك ولو أنزلنا ملكا لقضي الأمر ثم لا ينظرون ولو جعلناه ملكا لجعلناه رجلا يريد لو أنزلنا ملكا لم تدركه حواسهم لأنها لا تلحق حقائق هيئآت الملائكة فكنا نجعله رجلا مثلهم ليروه ويفهموا عنه وقد ذكر بن عباس في قصة الزهرة أن الله تعالى لما أهبط الملكين إلى الأرض ليحكما بين أهلها نقلهما إلى صور الناس وركب فيهما الشهوة لأنه لا يجوز أن يقضي بين الناس إلا من يرونه ويسمعون كلامه وإلا من شاكلهم وأشبههم ولما تمثل ملك الموت لموسى عليه السلام وهذا ملك الله وهذا نبي الله وجاذبه لطمه موسى لطمة أذهبت العين التي هي تخييل وتمثيل وليست حقيقة وعاد ملك الموت عليه السلام إلى حقيقة خلقته الروحانية كما كان لم ينتقص منه شيء
قالوا حديث يكذبه النظر
قالوا رويتم أن عوجا اقتلع جبلا قدره فرسخ في فرسخ على قدر عسكر موسى فحمله على رأسه ليطبقه عليهم فصار طوقا في عنقه حتى مات وأنه كان يخوض البحر فلا يجاوز ركبتيه وكان يصيد الحيتان من لججه ويشويها في عين الشمس وأنه لما مات وقع على نيل مصر فجسر للناس سنة أي صار جسرا لهم يعبرون عليه من جانب إلى جانب وأن طول موسى عليه السلام كان عشرة أذرع وطول عصاه عشرة أذرع ووثب من الأرض عشرة ليضربه فلم يبلغ عرقوبه قالوا وهذا كذب بين لا يخفى على عاقل ولا على جاهل وكيف صار في زمن موسى عليه السلام من خالف أهل الزمان هذه المخالفة وكيف يجوز أن يكون من ولد آدم من يكون بينه وبين آدم هذا التفاوت وكيف يطيق آدمي حمل جبل على رأسه قدره فرسخ في فرسخ
قال أبو محمد ونحن نقول إن هذا حديث لم يأت عن رسول الله ﷺ ولا عن صحابته وإنما هو خبر من الأخبار القديمة التي يرويها أهل الكتب سمعه قوم منهم على قديم الأيام فتحدثوا به والحديث يدخله الشوب والفساد من وجوه ثلاثة منها الزنادقة واجتيالهم للإسلام وتهجينه بدس الأحاديث المستشنعة والمستحيلة كالأحاديث التي قدمنا ذكرها من عرق الخيل وعيادة الملائكة وقفص الذهب على جمل أورق وزغب الصدر ونور الذراعين مع أشياء كثيرة ليست تخفى على أهل الحديث منهم بن أبي العوجاء الزنديق وصالح بن عبد القدوس الدهري والوجه الثاني القصاص على قديم الأيام فإنهم يميلون وجوه العوام إليهم ويستدرون ما عندهم بالمناكير والغريب والأكاذيب من الأحاديث ومن شأن العوام القعود عند القاص ما كان حديثه عجيبا خارجا عن فطر العقول أو كان رقيقا يحزن القلوب ويستغزر العيون فإذا ذكر الجنة قال فيها الحورآء من مسك أو زعفران وعجيزتها ميل في ميل ويبوئ الله تعالى وليه قصرا من لؤلؤة بيضاء فيه سبعون ألف مقصورة في كل مقصورة سبعون ألف قبة في كل قبة سبعون ألف فراش على كل فراش سبعون ألف كذا فلا يزال في سبعين ألف كذا وسبعين ألفا كأنه يرى أنه لا يجوز أن يكون العدد فوق السبعين ولا دونها ويقول لأصغر من في الجنة منزلة عند الله من يعطيه الله تعالى مثل الدنيا كذا وكذا ضعفا وكلما كان من هذا أكثر كان العجب أكثر والقعود عنده أطول والأيدي بالعطاء إليه أسرع والله تبارك وتعالى يخبرنا في كتابه بما في جنته بما فيه مقنع عن أخبار القصاص وسائر الخلق حين وصف الجنة بأن عرضها السماوات والأرض يريد سعتها والعرب تكني عن السعة بالعرض لأن الشيء إذا اتسع عرض وإذا دق واستطال ضاق وتقول ضاقت علي الأرض العريضة أي الواسعة وفي الأرض العريضة مذهب أي الواسعة وقال رسول الله ﷺ للمنهزمين يوم أحد لقد ذهبتم فيها عريضة أي واسعة وقال الله تعالى فذو دعاء عريض أي كثير فكيف يكون عرضها السماوات والأرض ويعطي الله تعالى أخس من فيها منزلة فيها مثل الدنيا أضعافا ويقول تعالى حين شوقنا إليها فيها ما تشتهي الأنفس وتلذ الأعين وقال حين ذكر المقربين على سرر موضونة متكئين عليها متقابلين يطوف عليهم ولدان مخلدون بأكواب وأبرايق وكأس من معين لا يصدعون عنها ولا ينزفون وفاكهة مما يتخيرون ولحم طير مما يشتهون وحور عين كأمثال اللؤلؤ المكنون وقال تعالى في أصحاب اليمين في سدر مخضود وطلح منضود وظل ممدود وماء مسكوب وفاكهة كثيرة لا مقطوعة ولا ممنوعة وقال تعالى يحلون فيها من أساور من ذهب ولؤلؤا ولباسهم فيها حرير ومثل هذا كثير في القرآن العظيم ليس منه شيء إلا وهو شبيه بما يناله الناس في الدنيا ويتنعم به المترفون خلا ما فضل الله تعالى به ما في الجنة وخلا الخلود ثم يذكر آدم عليه السلام ويصفه فيقول كان رأسه يبلغ السحاب أو السماء ويحاكها فاعتراه لذلك الصلع ولما هبط إلى الأرض بكى على الجنة حتى بلغت دموعه البحر وجرت فيها السفن ويذكر داود عليه السلام فيقول سجد لله تعالى أربعين ليلة وبكى حتى نبت العشب بدموع عينيه ثم زفر زفرة هاج له ذلك النبات ويذكر عصا موسى عليه السلام فيقول كان نابها كنخلة سحوق وعينها كالبرق الخاطف وعرفها كذا والله تعالى يقول كأنها جان والجان خفيف الحيات وذكرها في موضع آخر فقال ثعبان مبين فإذا هي ثعبان ويذكر عبادا أتاهم يونس عليه السلام في جبل لبنان فيخبرهم عن الرجل منهم أنه كان يركع ركعة في سنة ويسجد نحو ذلك ولا يأكل إلا في كذا وكذا من الزمان وقد ذكر الله تبارك وتعالى الذين قبلنا فقال كانوا أشد منكم قوة وأكثر أموالا وأولادا وقال تعالى وزاده بسطة في العلم والجسم وقال تعالى أتبنون بكل ريع آية تعبثون وتتخذون مصانع لعلكم تخلدون وإذا بطشتم بطشتم جبارين وليس في شيء مما وصف الله تعالى به من قبلنا ما يقارب هذا الإفراط وقد نعلم أنهم كانوا أعظم منا أجساما وأشد قوة غير أن المقدار فيما بيننا وبينهم مقدار ما جعله الله بين أعمارنا وأعمارهم فهذا آدم أبو البشر ﷺ إنما عمر ألف سنة بذلك تتابعت الأخبار ووجدته في التوراة وهذا نوح ﷺ لبث في قومه ألف سنة إلا خمسين عاما ثم انتقصت الأعمار بعد نوح عليه السلام إلا ما جاءت به الأخبار في عمر لقمان صاحب النسور فإنهم ذكروا أنه عاش أعمار سبعة أنسر وكان مقدار ذلك ألفي سنة وأربع مائة سنة ونيفا وخمسين سنة وهذا شيء متقادم لم يأت فيه كتاب ولا ثقة وليس له إسناد وإنما هو شيء يحكيه عبيد بن شرية الجرهمي وأشباهه من النساب وكذلك أعمار ملوك اليمن المتقدمين ثم ملوك العجم وقد عمر قوم قربوا من زماننا أعمارا ليس بينها وبين ما صح من عمر آدم ونوح صلى الله عليهما وسلم تفاوت شديد كتفاوت هذا الخلق حدثنا أبو حاتم قال نا الأصمعي قال نا أبو عمرو بن العلاء قال مر المستوغر بن ربيعة في سوق عكاظ ومعه بن ابنه خرفا ومستوغر يقوده فقال له قائل يا هذا أحسن إليه فطالما أحسن إليك قال ومن هو قال أبوك أو جدك فقال المستوغر هو والله بن ابني فقال الرجل تالله ما رأيت كاليوم ولا مستوغر بن ربيعة قال فأنا مستوغر قال أبو عمرو عاش مستوغر ثلاثمائة سنة وعشرين سنة قال أبو محمد وقد جعل الله تعالى لنا معتبرا بآثارهم على الأرض وما بنوه من مدنهم وحصونهم ونقبوه في الجبال الصم من أبوابهم ونحتوه من درجهم وليس في ذلك من التفاوت بيننا وبينهم إلا كما بين أعمارنا وأعمارهم وكذلك الخلق ولا أعلمني سمعت في التفاوت بأشد من شيء حدثنيه الرياشي عن مسلم بن إبراهيم قال نا نوح بن قيس قال نا عبد الواحد بن نافع قال ولاني خالد بن عبد الله حفر المبارك فجاءني العمال بضرس فوزنته فإذا فيه تسعة أرطال ولسنا ندري أهو ضرس إنسان أو ضرس جمل أو فيل وحدثني الرياشي قال نا عبد الله بن مسلمة عن أنس بن عياض عن زيد بن أسلم قال وجد في حجاج رجل من العماليق ضبع وجراؤها قال وهذا قد يمكن أن يكون حجاج جمل أو غيره فظنه الرائي له أنه حجاج رجل وعلى أنه لو كان حجاج رجل ما وقع فيه التفاوت لأن الحجاج من الإنسان إذا خلا واسع ثم هو يفضي إلى القحف ولا ينكر في قدر أجسام المتقدمين أن يكون في الحجاج والقحف ما ذكر وأما الوجه الثالث الذي يقع فيه فساد الحديث فأخبار متقادمة كان الناس في الجاهلية يروونها تشبه أحاديث الخرافة كقولهم إن الضب كان يهوديا عاقا فمسخه الله تعالى ضبا ولذلك قال الناس أعق من ضب ولم تقل العرب أعق من ضب لهذه العلة وإنما قالوا ذلك لأنه يأكل حسوله إذا جاع قال الشاعر
أكلت بنيك أكل الضب حتى ** تركت بنيك ليس لهم عديد
وكقولهم في الهدهد إن أمه ماتت فدفنها في رأسه فلذلك أنتنت ريحه وقد ذكر هذه أمية بن أبي الصلت فقال
غيم وظلماء وفضل سحابة ** أيام كفن واستزاد الهدهد
يبغي القرار لأمه ليجنها ** فبنى عليها في قفاه يمهد
فيزال يدلج ما مشى بجنازة ** منها وما اختلف الحديث المسند
وكقولهم في الديك والغراب إنهما كانا متنادمين فلما نفد شرابهما رهن الغراب الديك عند الخمار ومضى فلم يرجع إليه وبقي الديك عند الخمار حارسا قال أمية بن أبي الصلت
بآية قام ينطق كل شيء ** وخان أمانه الديك الغراب
وكقولهم في السنور إنها عطسة الأسد وفي الخنزير إنه عطسة الفيل وفي الإربيانة أنها خياطة كانت تسرق الخيوط فمسخت وأن الجري كان يهوديا فمسخ وحديث عوج عندنا من هذه الأحاديث والعجب أن عوجا هذا كان في زمن موسى ﷺ عندهم وله هذا الطول العجيب وفرعون في زمنه وهو ضده في القصر على ما ذكر الحسن حدثنا أبو حاتم أو رجل عنده قال نا أبو زيد الأنصاري النحوي قال نا عمرو بن عبيد عن الحسن قال ما كان طول فرعون إلا ذراعا وكانت لحيته ذراعا
قالوا أحاديث متناقضة
قالوا رويتم عن همام عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عن أبي سعيد الخدري قال قال رسول الله ﷺ لا تكتبوا عني شيئا سوى القرآن فمن كتب عني شيئا فليمحه ثم رويتم عن بن جريج عن عطاء عن بن عمرو قال قلت يا رسول الله أقيد العلم قال نعم قيل وما تقييده قال كتابته ورويتم عن حماد بن سلمة عن محمد بن إسحاق عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال قلت يا رسول الله أكتب كل ما أسمع منك قال نعم قلت في الرضا والغضب قال نعم فإني لا أقول في ذلك كله إلا الحق قالوا وهذا تناقض واختلاف
قال أبو محمد ونحن نقول إن في هذا معنيين أحداهما أن يكون من منسوخ السنة بالسنة كأنه نهى في أول الأمر عن أن يكتب قوله ثم رأى بعد لما علم أن السنن تكثر وتفوت الحفظ أن تكتب وتقيد والمعنى الاخر أن يكون خص بهذا عبد الله بن عمرو لأنه كان قارئا للكتب المتقدمة ويكتب بالسريانية والعربية وكان غيره من الصحابة أميين لا يكتب منهم إلا الواحد والاثنان وإذا كتب لم يتقن ولم يصب التهجي فلما خشي عليهم الغلط فيما يكتبون نهاهم ولما أمن على عبد الله بن عمرو ذلك أذن له قال أبو محمد حدثنا إسحاق بن راهويه قال نا وهب بن جرير عن أبيه عن يونس بن عبيد عن الحسن عن عمرو بن تغلب عن النبي ﷺ قال من أشراط الساعة أن يفيض المال ويظهر القلم ويفشو التجار قال عمرو إن كنا لنلتمس في الحواء العظيم الكاتب ويبيع الرجل البيع فيقول حتى أستأمر تاجر بني فلان
قالوا حديثان متناقضان
قالوا رويتم عن حماد بن سلمة عن عطاء بن السائب عن سعيد بن جبير عن بن عباس أنه قال الحجر الأسود من الجنة وكان أشد بياضا من الثلج حتى سودته خطايا أهل الشرك ثم رويتم أن بن الحنفية سئل عن الحجر الأسود فقال إنما هو من بعض هذه الأودية قالوا وهذا اختلاف وبعد فكيف يجوز أن ينزل الله تعالى حجرا من الجنة وهل في الجنة حجارة وإن كانت الخطايا سودته فقد ينبغي أن يبيض لما أسلم الناس ويعود إلى حالته الأولى
قال أبو محمد ونحن نقول إنه ليس بمنكر أن يخالف بن الحنفية بن عباس ويخالف علي عمر وزيد بن ثابت بن مسعود في التفسير وفي الأحكام وإنما المنكر أن يحكوا عن النبي ﷺ خبرين مختلفين من غير تأويل فأما اختلافهم فيما بينهم فكثير فمنهم من يعمل على شيء سمعه ومنهم من يستعمل ظنه ومنهم من يجتهد رأيه ولذلك اختلفوا في تأويل القرآن وفي أكثر الأحكام غير أن بن عباس قال في الحجر بقول سمعه ولا يجوز غير ذلك لأنه يستحيل أن يقول كان أبيض وهو من الجنة برأي نفسه وإنما الظان بن الحنفية لأنه رآه بمنزلة غيره من قواعد البيت فقضى عليه بأنه أخذ من حيث أخذت والأخبار المقوية لقول بن عباس في الحجر وأنه من الجنة كثيرة منها أنه يأتي يوم القيامة وله لسان وشفتان يشهد لمن استلمه بحق ومنها أنه يمين الله عز وجل في الأرض يصافح بها من شاء من خلقه وقد تقدم ذكر هذا ومنها ما ذكره وهب بن منبه فإنه قال كان لؤلؤة بيضاء فسوده المشركون وأما قولهم هل في الجنة حجارة فما الذي أنكروه من أن يكون في الجنة حجارة وفيها الياقوت وهو حجر والزمرد حجر والذهب والفضة من الحجارة وما الذي أنكروه من تفضيل الله تعالى حجرا حتى لثم واستلم والله تعالى يستعبد عباده بما شاء من العمل والفعل ويفضل بعض ما خلق على بعض فليلة القدر خير من ألف شهر ليست فيها ليلة القدر والسماء أفضل من الأرض والكرسي أفضل من السماء والعرش أفضل من الكرسي والمسجد الحرام أفضل من المسجد الأقصى والشام أفضل من العراق وهذا كله مبتدأ بالتفضيل لا بعمل عمله ولا بطاعة كانت منه كذلك الحجر أفضل من الركن اليماني والركن اليماني أفضل من قواعد البيت والمسجد أفضل من الحرم والحرم أفضل من بقاع تهامة وأما قولهم إن كانت الخطايا سودته فقد يجب أن يبيض لما أسلم الناس فمن الذي أوجب أن يبيض بإسلام الناس ولو شاء الله تعالى لفعل ذلك من غير أن يجب وبعد فإنهم أصحاب قياس وفلسفة فكيف ذهب عليهم أن السواد يصبغ ولا ينصبغ والبياض ينصبغ ولا يصبغ
قالوا أحاديث متناقضة
قالوا رويتم أن النبي ﷺ قال ما أنا من دد ولا الدد مني وأن عبد الله بن عمرو قال له أكتب كل ما أسمع منك في الرضا والغضب فقال نعم إني لا أقول في ذلك كله إلا الحق ثم رويتم أنه كان يمزح وأنه استدبر رجلا من ورائه فأخذ بعينيه وقال من يشتري مني هذا العبد ووقف على وفد الحبشة فنظر إليهم وهم يزفنون وعلى أصحاب الدركلة وهم يلعبون وسابق عائشة رضي الله عنها فسبقها تارة وسبقته أخرى
قال أبو محمد ونحن نقول إن الله عز وجل بعث رسوله ﷺ بالحنيفية السمحة ووضع عنه وعن أمته الإصر والأغلال التي كانت على بني إسرائيل في دينهم وجعل ذلك نعمة من نعمه التي عددها وأوجب الشكر عليها وليس من أحد فيه غريزة إلا ولها ضد في غيره فمن الناس الحليم ومنهم العجول ومنهم الجبان ومنهم الشجاع ومنهم الحيي ومنهم الوقاح ومنهم الدمث ومنهم العبوس وفي التوراة أن الله تعالى قال إني حين خلقت آدم ركبت جسده من رطب ويابس وسخن وبارد وذلك لأني خلقته من تراب وماء ثم جعلت فيه نفسا وروحا فيبوسة كل جسد خلقته من التراب ورطوبته من قبل الماء وحرارته من قبل النفس وبرودته من قبل الروح ومن النفس حدته وخفته وشهوته ولهوه ولعبه وضحكه وسفهه وخداعه وعنفه وخرقه ومن الروح حلمه ووقاره وعفافه وحياؤه وفهمه وتكرمه وصدقه صبره أفما ترى أن اللعب واللهو من غرائز الإنسان والغرائز لا تملك وإن ملكها المرء بمغالبة النفس وقمع المتطلع منها لم يلبث إلا يسيرا حتى يرجع إلى الطبع وكان يقال الطبع أملك وقال الشاعر
ومن يبتدع ما ليس من سوس نفسه ** يدعه ويغلبه على النفس خيمها
وقال آخر
يا أيها المتحلي غير شيمته ** ومن خليقته الإقصاد والملق
ارجع إلى خلقك المعروف ديدنه ** إن التخلق يأبى دونه الخلق
وقال أخر
كل امرئ راجع يوما لشيمته ** وإن تخلق أخلاقا إلى حين
وأنشد الرياشي
لا تصحبن أمرا على حسب ** إني رأيت الأحساب قد دخلت
مالك من أن يقال إن له ** أبا كريما في أمة سلفت
بل فاصحبنه على طبائعه ** فكل نفس تجري كما طبعت
والله عز وجل يقول إن الإنسان خلق هلوعا إذا مسه الشر جزوعا وإذا مسه الخير منوعا وقال تعالى خلق الإنسان من عجل وكان الناس يأتسون برسول الله ﷺ ويقتدون بهديه وشكله لقول الله تعالى لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة فلو ترك رسول الله ﷺ طريق الطلاقة والهشاشة والدماثة إلى القطوب والعبوس والزماتة أخذ الناس أنفسهم بذلك على ما في مخالفة الغريزة من المشقة والعناء فمزح ﷺ ليمزحوا ووقف على أصحاب الدركلة وهم يلعبون فقال خذوا يا بني أرفدة ليعلم اليهود أن في ديننا فسحة يريد ما يكون في العرسات لإعلان النكاح وفي المآدب لإظهار السرور وأما قوله ما أنا من دد ولا الدد مني فإن الدد اللهو والباطل وكان يمزح ولا يقول إلا حقا وإذا لم يقل في مزاحه إلا حقا لم يكن ذلك المزاح ددا ولا باطلا قال لعجوز إن الجنة لا يدخلها العجز يريد أنهن يعدن شواب وقال ﷺ لأخرى زوجك في عينيه بياض يريد ما حول الحدقة من بياض العين فظنت هي أنه البياض الذي يغشى الحدقة واستدبر رجلا من ورائه وقال من يشتري مني العبد يعني أنه عبد الله ودين الله يسر ليس فيه بحمد الله ونعمته حرج وأفضل العمل أدومه وإن قل قال أبو محمد حدثنا الزيادي قال نا عبد العزيز الدراوردي قال نا محمد بن طحلا عن أبي سلمة بن عبد الرحمن عن عائشة رضي الله عنها قالت قال رسول الله ﷺ اكلفوا من العمل ما تطيقون فإن الله لا يمل حتى تملوا وإن أفضل العمل أدومه وإن قل وحدثني محمد بن يحيى القطعي قال نا عمر بن علي بن مقدم عن معن الغفاري عن المقبري عن أبي هريرة قال رسول الله ﷺ إن الدين يسر ولن يشاد هذا الدين أحد إلا غلبه فسددوا وقاربوا وأبشروا حدثني محمد بن عبيد قال حدثنا معاوية بن عمرو عن أبي إسحاق عن خالد الحذاء عن أبي قلابة عن مسلم بن يسار أن رفقة من الأشعريين كانوا في سفر فلما قدموا قالوا يا رسول الله ما رأينا أحدا بعد رسول الله ﷺ أفضل من فلان يصوم النهار فإذا نزلنا قام يصلي حتى نرتحل قال من كان يمهن له ويكفيه أو يعمل له قالوا نحن قال كلكم أفضل منه وقد درج الصالحون والخيار على أخلاق رسول الله ﷺ في التبسم والطلاقة والمزاح بالكلام المجانب للقدع والشتم والكذب فكان علي رضي الله عنه يكثر الدعابة وكان بن سيرين يضحك حتى يسيل لعابه وقال جرير في الفرزدق
لقد أصبحت عرس الفرزدق ناشزا ** ولو رضيت رمح استه لاستقرت
وقال الفرزدق وتمثل به بن سيرين
نبئت أن فتاة كنت أخطبها ** عرقوبها مثل شهر الصوم في الطول
أسنانها مائة أو زدن واحدة ** وسائر الخلق منها بعد مبطول
وسأله رجل عن هشام بن حسان فقال توفي البارحة أما شعرت فجزع الرجل واسترجع فلما رأى جزعه قرأ الله يتوفى الأنفس حين موتها والتي لم تمت في منامها وكان زيد بن ثابت من أزمت الناس إذا خرج وأفكههم في بيته وقال أبو الدرداء إني لاستجم نفسي ببعض الباطل كراهة أن أحمل عليها من الحق ما يملها وكان شريح يمزح في مجلس الحكم وكان الشعبي من أفكه الناس وكان صهيب مزاحا وكان أبو العالية مزاحا وكل هؤلاء إذا مزح لم يفحش ولم يشتم ولم يغتب ولم يكذب وإنما يذم من المزاح ما خالطته هذه الخلال أو بعضها وأما الملاعب فلا بأس بها في المآدب قال رسول الله ﷺ أعلنوا النكاح واضربوا عليه بالغربال قال أبو محمد حدثنا أبو الخطاب قال نا مسلم بن قتيبة قال نا شريك عن جابر عن عكرمة قال ختن بن عباس بنيه فأرسلني فدعوت اللعابين فلعبوا فأعطاهم أربعة دراهم وحدثني أبو حاتم عن الأصمعي عن بن أبي الزناد عن أبيه قال قلت لخارجة بن زيد هل كان الغناء يكون في العرسات قال قد كان ذاك ولا يحضر بما يحضر به اليوم من السفه دعانا أخوالنا بنو نبيط في مدعاة لهم فشهد المدعاة حسان بن ثابت وابنه عبد الرحمن وإذا جاريتان تغنيان
أنظر خليلي بباب جلق هل ** تونس دون البلقاء من أحد
فبكى حسان وهو مكفوف وجعل يومي إليهما عبد الرحمن أن زيدا فلا أدري ماذا يعجبه من أن يبكيا أباه حدثنا أبو حاتم عن الأصمعي قال كان طويس يتغنى في عرس فدخل النعمان بن بشير العرس وطويس يقول
أجد بعمرة غنيانها ** فتهجر أم شأننا شأنها
وعمرة أم النعمان فقيل له اسكت اسكت فقال النعمان إنه لم يقل بأسا إنما قال
وعمرة من سروات النسا ** ء تنفح بالمسك أردانها
قالوا أحاديث متناقضة
قالوا رويتم أن رسول الله ﷺ قال إن الله يحب الحيي العيي المتعفف وأن الله يبغض البليغ من الرجال ثم رويتم أن العباس سأله فقال ما الجمال فقال في اللسان وأنه قال إن من البيان لسحرا وقد قال الله عز وجل خلق الإنسان علمه البيان فجعل البيان نعمة من نعمه التي عددها وذكر النساء بقلة البيان فقال أومن ينشأ في الحلية وهو في الخصام غير مبين فدل على نقص النساء بقلة البيان وهذه أشياء مختلفة
قال أبو محمد ونحن نقول إنه ليس ههنا اختلاف بنعمة الله تعالى ولكل شيء منها موضع فإذا وضع به زال الاختلاف أما قوله إن الله يحب الحيي العيي المتعفف فإنه يريد السليم الصدر القليل الكلام القطيع عن الحوائج لشدة الحياء ويدل على ذلك أنه قال بعقب هذا الكلام ويبغض الفاحش السئال الملحف وهذا ضد الأول والله سبحانه لا يحب عباده على فضل اللد وطول اللسان ولطف الحيلة وإن كانت في ذلك منافع وفي بعضه زينة وجاء في الحديث أكثر أهل الجنة البله يراد الذين سلمت صدورهم للناس وغلبت عليهم الغفلة وأنشدنا للنمر بن تولب
ولقد لهوت بطفلة ميالة ** بلهاء تطلعني على أسرارها
وذكر علي رضي الله عنه زمانا فقال خير أهل ذلك الزمان كل نومة يعني الميت الداء أولئك أئمة الهدى ومصابيح العلم ليسوا بالعجل المذاييع البذر وقال معاذ بن جبل عن رسول الله ﷺ إن الله يحب الأخفياء الأتقياء الأبرياء الذين إذا غابوا لم يفتقدوا وإذا حضروا لم يعرفوا وقال علي رضي الله عنه في خطبة له ألا إن لله عبادا كمن رأى أهل الجنة في الجنة مخلدين وأهل النار في النار معذبين شرورهم مأمونة وقلوبهم محزونة وأنفسهم عفيفة وحوائجهم خفيفة صبروا أياما يسيرة لعقبى راحة طويلة أما الليل فصافون أقدامهم تجري دموعهم على خدودهم مما يجأرون إلى ربهم ربنا ربنا وأما النهار فحلماء علماء بررة أتقياء كأنهم القداح ينظر إليهم الناظر فيقول مرضى وما بالقوم من مرض وخولطوا ولقد خالط القوم أمر عظيم وذكر بن عباس أن الفتى الذي كلم أيوب عليه السلام في بلائه فقال له يا أيوب أما علمت أن لله عبادا أسكتتهم خشية الله من غير عي بهم ولا بكم وأنهم لهم النبلاء النطقاء الفصحاء العالمون بالله عز وجل وايامه ولكنهم كانوا إذا ذكروا عظمة الله تعالى تقطعت قلوبهم وكلت ألسنتهم وطاشت عقولهم فرقا من الله عز وجل وهيبة له فهذه الخلال هي التي يحبها الله عز وجل وهي المؤدية إلى الفوز في الآخرة ولا ينكر مع هذا أن يكون الجمال في اللسان ولا أن تكون المروءة في البيان ولا أنه زينة من زين الدنيا وبهاء من بهائها ما صحبه الاقتصاد وساسه العقل ولم يمل به الاقتدار على القول إلى أن يصغر عظيما عند الله تعالى أو يعظم صغيرا أو ينصر الشيء وضده كما يفعل من لا دين له وهذا هو البليغ الذي يبغضه الله عز وجل هو الذي قال فيه رسول الله ﷺ أبغضكم إلي الثرثارون المتفيهقون المتشدقون وإن أبغض الناس إلى الله تعالى من اتقاه الناس للسانه وإن من البيان لسحرا يريد أن منه ما يقرب البعيد ويباعد القريب ويزين القبيح ويعظم الصغير فكأنه سحر وما قام مقام السحر أو أشبهه أو ضارعه فهو مكروه كما أن السحر محرم قال أبو محمد حدثني حسين بن الحسن المروزي قال نا عبد الله بن المبارك قال نا معمر عن يحيى بن المختار عن الحسن قال إذا شئت لقيته أبيض بضا حديد النظر ميت القلب والعمل أنت أبصر به من نفسه ترى أبدانا ولا قلوب وتسمع الصوت ولا أنيس أخصب ألسنة وأجدب قلوبا
قالوا حديث ينقضه القرآن
قالوا رويتم أن النبي ﷺ قال إنا معشر الأنبياء لا نورث ما تركنا صدة وهذا خلاف قول الله عز وجل حكاية عن زكريا وإني خفت الموالي من ورائي وكانت امرأتي عاقرا فهب لي من لدنك وليا يرثني ويرث من آل يعقوب واجعله رب رضيا يا زكريا إنا نبشرك بغلام اسمه يحيى لم نجعل له من قبل سميا وخلاف قوله عز وجل وورث سليمان داود قالوا وقد طالبت فاطمة رضي الله عنها أبا بكر رضي الله عنه بميراث أبيها رسول الله ﷺ فلما لم يعطها إياه حلفت لا تكلمه أبدا وأوصت أن تدفن ليلا لئلا يحضرها فدفنت ليلا واختصم علي والعباس رضي الله عنهما إلى أبي بكر رضي الله عنه في ميراث رسول الله ﷺ
قال أبو محمد ونحن نقول إن قول النبي ﷺ إنا معشر الأنبياء لا نورث ليس مخالفا لقول زكريا عليه السلام فهب لي من لدنك وليا يرثني ويرث من آل يعقوب لأن زكريا عليه السلام لم يرد يرثني مالي فيكون الأمر على ما ذهبوا إليه وأي مال كان لزكريا عليه السلام يضن به عن عصبته حتى يسأل الله تعالى أن يهب له ولدا يرثه لقد جل هذا المال إذا وعظم عنده قدره ونافس عليه منافسة أبناء الدنيا الذين لها يعملون وللمال يكدحون وإنما كان زكريا بن آذن نجارا وكان حبرا كذلك قال وهب بن منبه وكلا هذين الأمرين يدل على أنه لا مال له وكذلك المشهور عن يحيى وعيسى عليهما السلام أنه لم يكن لهم أموال ولا منازل يأويان إليها وإنما كانا سياحين في الأرض ومن الدليل أيضا على أن يحيى لم يرثه مالا أن يحيى عليه السلام دخل بيت المقدس وهو غلام صغير فكان يخدم فيه ثم اشتد خوفه فساح ولزم أطراف الجبال وغيران الشعاب قال أبو محمد وبلغني عن الليث بن سعد عن بن لهيعة عن أبي قبيل عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال دخل يحيى بن زكريا بيت المقدس وهو بن ثماني حجج فنظر إلى عباد بيت المقدس قد لبسوا من مدارع الشعر وبرانس الصوف ونظر إلى متهجديهم قد خرقوا التراقي وسلكوا فيها السلاسل وشدوها إلى حنايا بيت المقدس فهاله ذلك ورجع إلى أبويه فمر بصبيان يلعبون فقالوا يا يحيى هلم فلنلعب قال إني لم أخلق للعب فذلك قوله تعالى وآتيناه الحكم صبيا فأتى أبويه فسألهما أن يدرعاه الشعر ففعلا ثم رجع إلى بيت المقدس فكان يخدم فيه نهارا ويسبح فيه ليلا حتى أتت له خمس عشرة حجة وأتاه الخوف فساح ولزم أطراف الأرض وغيران الشعاب وخرج أبواه في طلبه فوجداه حين نزلا من جبال البثنية على بحيرة الأردن وقد قعد على شفير البحيرة وأنقع قدميه في الماء وقد كاد العطش يذبحه وهو يقول وعزتك لا أذوق بارد الشراب حتى أعلم أين مكاني منك فسأله أبواه أن يأكل قرصا من الشعير كان معهما ويشرب من ذلك الماء ففعل ذلك وكفر عن يمينه فمدح بالبر قال الله تعالى وبرا بوالديه ولم يكن جبارا عصيا ورده أبواه إلى بيت المقدس فكان إذا قام في صلاته بكى ويبكى زكريا لبكائه حتى يغمى عليه فلم يزل كذلك حتى خرقت دموعه لحم خديه فقالت له أمه يا يحيى لو أذنت لي لاتخذت لك لبدا يواري هذا الخرق قال أنت وذاك فعمدت إلى قطعتي لبود فألصقتهما على خديه فكان إذا بكى استنقعت دموعه في القطعتين فتقوم أمه فتعصرهما فكان إذا نظر إلى دموعه تجري على ذراعي أمه قال اللهم هذه دموعي وهذه أمي وأنا عبدك وأنت الرحمن فأي مال على ما تسمع ورثه يحيى وأي مال ورثه زكريا وإنما كان نجارا وحبرا وقد قال بن عباس في رواية أبي صالح عنه في قوله جل وعز هب لي من لدنك وليا يرثني أي يرثني الحبورة وكان حبرا ويرث من آل يعقوب أي يرث الملك وكان من ولد داود من سبط يهوذا بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم عليهم السلام فأجابه الله جل وعز إلى وراثة الحبورة ولم يجبه إلى وراثة الملك وكان زكريا عليه السلام كره أن يرثه ذلك عصبته وأحب أن يهب الله تعالى له ولدا يقوم مقامه ويرثه علمه وقال الله جل وعز وزكريا إذ نادى ربه رب لا تذرني فردا وأنت خير الوارثين فاستجبنا له ووهبنا له يحيى وأصلحنا له زوجه وأما قوله وورث سليمان داود فإنه أراد ورثه الملك والنبوة والعلم وكلاهما كان نبيا وملكا والملك السلطان والحكم والسياسة لا المال ولو كان أراد وراثة ماله ما كان في الخبر فائدة لأن الناس يعلمون أن الأبناء يرثون الآباء أموالهم ولا يعلمون أن كل بن يقوم مقام أبيه في العلم والملك والنبوة ومن الدليل أيضا على أن رسول الله ﷺ لا يورث أنه كان لا يرث بعد أن أوحى الله تعالى إليه وإنما كانت وراثته أبويه قبل الوحي قال أبو محمد حدثنا زيد بن أخزم الطائي قال ثنا عبد الله بن داود أن أم أيمن مما ورثه رسول الله ﷺ عن أمه وشقران مما ورثه عن أبيه وكيف يأكل رسول الله ﷺ التراث وهو يسمع الله جل وعز يذم قوما فقال كلا بل لا تكرمون اليتيم ولا تحاضون على طعام المسكين وتأكلون التراث أكلا لما وتحبون المال حبا جما حدثنا إسحاق بن راهويه قال نا وكيع قال نا مسعر عن عبد الرحمن بن الأصبهاني عن مجاهد بن وردان عن عروة بن الزبير عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله ﷺ أتي في ميراث مولى له وقع من نخلة فسأل هل ترك ولدا قالوا لا قال فهل ترك حميما قالوا لا قال فأعطوه رجلا من أهل قريته وكأنه تنزه ﷺ عن أكل ميراثه فآثر به رجلا من أهل قريته وأما منازعة فاطمة أبا بكر رضي الله عنهما في ميراث النبي ﷺ فليس بمنكر لأنها لم تعلم ما قاله رسول الله ﷺ وظنت أنها ترثه كما يرث الأولاد آباءهم فلما أخبرها بقوله كفت وكيف يسوغ لأحد أن يظن بأبي بكر رضي الله عنه أنه منع فاطمة حقها من ميراث أبيها وهو يعطي الأحمر والأسود حقوقهم وما معناه في دفعها عنه وهو لم يأخذ لنفسه ولا لولده ولا لأحد من عشيرته وإنما أجراه مجرى الصدقة وكان دفع الحق إلى أهله أولى به وكيف يركب مثل هذا ويستحله من فاطمة رضي الله عنها وهو يرد إلى المسلمين ما بقي في يديه من أموالهم مذ ولي وإنما أخذه على جهة الأجرة فجعل قيامه لهم صدقة عليهم وقال لعائشة رضي الله عنها انظري يا بنية فما زاد في مال أبي بكر مذ ولي هذا الأمر فرديه على المسلمين فوالله ما نلنا من أموالهم إلا ما أكلنا في بطوننا من جريش طعامهم ولبسنا على ظهورنا من خشن ثيابهم فنظرت فإذ بكر وجرد قطيفة لا تساوي خمسة دراهم وحبشية فلما جاء به الرسول إلى عمر رضي الله عنه قال رحم الله أبا بكر لقد كلف من بعده تعبا ولو كان ما فعله أبو بكر من هذا الأمر ظلما لفاطمة رضي الله عنها لرده علي رضي الله عنه حين ولي على ولدها وأما مخاصمة علي والعباس إلى أبي بكر رضي الله عنهم في ميراث رسول الله ﷺ فليس يصح لي معناه وكيف يتخاصمان في شيء لم يدفع إليهما أو يتحاقان شيئا قد منعاه وكلاهما لا يخفى عليه أنهما إذا ورثا كان بعد ثمن نسائه لعلي من حق فاطمة رضي الله عنها النصف وللعباس رضي الله عنه النصف مع فاطمة ففي أي شيء اختصما وإنما كان الوجه في هذا أن يخاصما أبي بكر وقد اختصما إلى عمر رضي الله عنه لما ولاهما القيام بذلك وإلى عثمان بعد وهذا تنازع له وجه وسبب رحمة الله عليهم أجمعين
قالوا أحاديث متناقضة
قالوا رويتم عن النبي ﷺ أنه قال لا رضاع بعد فصال وقال انظرن ما إخوانكن فإنما الرضاعة من المجاعة يريد ما رضعه الصبي فعصمه من الجوع ثم رويتم عن بن عيينة عن عبد الرحمن بن القاسم عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها قالت جاءت سهلة بنت سهيل بن عمرو إلى رسول الله ﷺ فقالت إني أرى في وجه أبي حذيفة من دخول سالم علي كراهة فقال أرضعيه قالت أرضعه وهو رجل كبير فضحك ثم قال ألست أعلم أنه رجل كبير وقلتم قال مالك عن الزهري إن عائشة رضي الله عنها كانت تفتي بأن الرضاع يحرم بعد الفصال حتى ماتت تذهب إلى حديث سالم قالوا وهذا طريق عندكم مرتضى صحيح لا يجوز أن يرد ولا يدفع
قال أبو محمد ونحن نقول إن الحديث صحيح وقد قالت أم سلمة وغيرها من أزواج رسول الله ﷺ إنه كان لسالم خاصة غير أنهن لم يبين من أي وجه جعل رسول الله ﷺ هذا لسالم ونحن مخبرون عن قصة أبي حذيفة وسالم والسبب بينهما إن شاء الله أما أبو حذيفة فهو بن عتبة بن ربيعة بن عبد شمس بن عبد مناف وكان من مهاجرة الحبشة في الهجرتين جميعا وهناك ولد له محمد بن أبي حذيفة وقيل في خلافة أبي بكر رضي الله عنه يوم اليمامة ولا عقب له وأما سالم مولى أبي حذيفة فإنه بدري وآخى رسول الله ﷺ بينه وبين أبي بكر وكان خيرا فاضلا ولذلك قال عمر رضي الله عنه عند وفاته لو كان سالم حيا ما تخالجني فيه الشك يريد لقدمته للصلاة بالناس إلى أن يتفق أصحاب الشورى على تقديم رجل منهم ثم قدم صهيبا وكان سالم عبدا لامرأة أبي حذيفة من الأنصار واختلفوا في اسمها فقال بعضهم هي سلمى من بني خطمة وقال آخرون هي ثبيتة وكلهم مجمع على أنها أنصارية فأعتقته فتولى أبا حذيفة وتبناه فنسب إليه بالولاء واستشهد سالم يوم اليمامة فورثته المعتقة له لأنه لم يكن له عقب ولا وارث غيرها وهذا الذي أخبرت به دليل على تقدم أبي حذيفة وسالم في الإسلام وجلالتهما ولطف محلهما من رسول الله ﷺ فلما ذكرت له سهلة بنت سهيل ما تراه في وجه أبي حذيفة من دخول سالم عليه وكان يدخل على مولاته المعتقة له ويدخل عليها كما يدخل العبد الناشئ في منزل سيده ثم يعتق فيدخل أيضا بالإلف المتقدم والتربية وهذا مالا ينكره الناس من مثل سالم وممن هو دون سالم لأن الله عز وجل رخص للنساء في دخول من ملكهن عليهن ودخول من لا إربة له في النساء كالشيخ الكبير والطفل والخصي والمجبوب والمخنث وسوى بينهم في ذلك وبين ذوي المحارم فقال تعالى ولا يبدين زينتهن إلا لبعولتهن أو آبائهن أو آباء بعولتهن أو أبنائهن أو أبناء بعولتهن أو إخوانهن أو بني إخوانهن أو بني أخواتهن أو نسائهن يعني المسلمات أو ما ملكت أيمانهن يعني العبيد أو التابعين غير أولي الإربة من الرجال يعني من يتبع الرجل ويكون في حاشيته كالأجير والمولى والحليف وأشباه هؤلاء وليس يخلو سالم من أن يكون من التابعين غير أولي الإربة في النساء ولعله كان كذلك لأنه لم يعقب أو يكون بما جعله الله عليه من الورع والديانة والفضل وما خصه به حتى رآه رسول الله ﷺ لذلك أهلا لأخوة أبي بكر رضي الله عنه مأمونا عنده بعيدا عن تفقد النساء وتتبع محاسنهن بالنظر وقد رخص للنساء أن يسفرن عند الحاجة إلى معرفتهن للقاضي والشهود وصلحاء الجيران ورخص للقواعد من النساء وهن الطاعنات في السن أن يضعن ثيابهن غير متبرجات بزينة وقد كان سالم يدخل عليها وترى هي الكراهة في وجه أبي حذيفة ولولا أن الدخول كان جائزا ما دخل ولكان أبو حذيفة ينهاه فأراد رسول الله ﷺ بمحلها عنده وما أحب من ائتلافهما ونفي الوحشة عنهما أن يزيل عن أبي حذيفة هذه الكراهة ويطيب نفسه بدخوله فقال لها أرضعيه ولم يرد ضعي ثديك في فيه كما يفعل بالأطفال ولكن أراد احلبي له من لبنك شيئا ثم ادفعيه إليه ليشربه ليس يجوز غير هذا لأنه لا يحل لسالم أن ينظر إلى ثدييها إلى أن يقع الرضاع فكيف يبيح له ما لا يحل له وما لا يؤمن معه من الشهوة ومما يدل على هذا التأويل أيضا أنها قالت يا رسول الله أرضعه وهو كبير فضحك وقال ألست أعلم أنه كبير وضحكه في هذا الموضع دليل على أنه تلطف بهذا الرضاع لما أراد من الائتلاف ونفي الوحشة من غير أن يكون دخول سالم كان حراما أو يكون هذا الرضاع أحل شيئا كان محظورا أو صار سالم لها به ابنا ومثل هذا من تلطفه ﷺ ما رواه عبد الواحد بن زياد عن عاصم الأحول عن الحسن أن رجلا أتاه برجل قد قتل حميما له فقال له أتأخذ الدية قال لا قال أفتعفو قال لا قال فاذهب فاقتله قال فلما جاوز به الرجل قال رسول الله ﷺ إن قتله فهو مثله فخبر الرجل بما قال فتركه فولى وهو يجر نسعه في عنقه ولم يرد أنه مثله في المأثم واستيجاب النار إن قتله وكيف يريد هذا وقد أباح الله قتله بالقصاص ولكنه كره له أن يقتص وأحب له العفو فأوهمه أنه إن قتله كان مثله في الإثم ليعفو عنه وكان مراده أنه يقتل نفسا كما قتل الأول نفسا فهذا قاتل وذاك قاتل فقد استويا في قاتل وقاتل إلا أن الأول ظالم والأخر مقتص
قالوا حديث يدفعه الكتاب وحجة العقل
قالوا رويتم عن محمد بن إسحاق عن عبد الله بن أبي بكر عن عمرة عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت لقد نزلت آية الرجم ورضاع الكبير عشر فكانت في صحيفة تحت سريري عند وفاة رسول الله ﷺ فلما توفى وشغلنا به دخلت داجن للحي فأكلت تلك الصحيفة قالوا وهذا خلاف قول الله تبارك وتعالى وإنه لكتاب عزيز لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه فكيف يكون عزيزا وقد أكلته شاة وأبطلت فرضه وأسقطت حجته وأي أحد يعجز عن إبطاله والشاة تبطله وكيف قال اليوم أكملت لكم دينكم وقد أرسل عليه ما يأكله وكيف عرض الوحي لأكل شاة ولم يأمر بإحرازه وصونه ولم أنزله وهو لا يريد العمل به
قال أبو محمد ونحن نقول إن هذا الذي عجبوا منه كله ليس فيه عجب ولا في شيء مما استفظعوا منه فظاعة فإن كان العجب من الصحيفة فإن الصحف في عصر رسول الله ﷺ أعلى ما كتب به القرآن لأنهم كانوا يكتبونه في الجريد والحجارة والخزف وأشباه هذا قال زيد بن ثابت أمرني أبو بكر رضي الله عنه بجمعه فجعلت أتتبعه من الرقاع والعسب واللخاف والعسب جمع عسيب النخل واللخاف حجارة رقاق واحدها لخفة وقال الزهري قبض رسول الله ﷺ والقرآن في العسب والقضم والكرانيف والقضم جمع قضيم وهي الجلود والكرانيف أصول السعف الغلاظ واحدها كرنافة وكان القرآن متفرقا عند المسلمين ولم يكن عندهم كتاب ولا آلات يدلك أن رسول الله ﷺ كان يكتب إلى ملوك الأرض في أكارع الأديم وإن كان العجب من وضعه تحت السرير فإن القوم لم يكونوا ملوكا فتكون لهم الخزائن والأقفال وصناديق الآبنوس والساج وكانوا إذا أرادوا إحراز شيء أو صونه وضعوه تحت السرير ليأمنوا عليه من الوطء وعبث الصبي والبهيمة وكيف يحرز من لم يكن في منزله حرز ولا قفل ولا خزانة إلا بما يمكنه ويبلغه وجده ومع النبوة التقلل والبذاذة كان رسول الله ﷺ يرقع ثوبه ويخصف نعله ويصلح خفه ويمهن أهله ويأكل بالأرض ويقول إنما أنا عبد آكل كما يأكل العبد وعلى ذلك كانت الأنبياء عليهم السلام وكان سليمان عليه السلام وقد آتاه الله من الملك ما لم يؤت أحدا قبله ولا بعده يلبس الصوف ويأكل خبز الشعير ويطعم الناس صنوف الطعام وكلم الله موسى عليه السلام وعليه مدرعة من شعر أو صوف وفي رجليه نعلان من جلد حمار ميت فقيل له اخلع نعليك إنك بالوادي المقدس طوى وكان يحيى عليه السلام يحتبل بحبل من ليف وهذا أكثر من أن نحصيه وأشهر من أن نطيل الكتاب به وإن كان العجب من الشاة فإن الشاة أفضل الأنعام وقرأت في مناجاة عزير ربه أنه قال اللهم إنك اخترت من الأنعام الضائنة ومن الطير الحمامة ومن النبات الحبلة ومن البيوت بكة وأيلياء ومن أيلياء بيت المقدس وروى وكيع عن الأسود بن عبد الرحمن عن أبيه عن جده قال قال رسول الله ﷺ ما خلق الله دابة أكرم عليه من النعجة فما يعجب من أكل الشاة تلك الصحيفة وهذا الفأر شر حشرات الأرض يقرض المصاحف ويبول عليها وهذا العث يأكلها ولو كانت النار أحرقت الصحيفة أو ذهب بها المنافقون كان العجب منهم أقل والله تعالى يبطل الشيء إذا أراد إبطاله بالضعيف والقوي فقد أهلك قوما بالذر كما أهلك قوما بالطوفان وعذب قوما بالضفادع كما عذب آخرين بالحجارة وأهلك نمروذ ببعوضة وغرق اليمن بفأرة وأما قولهم كيف يكمل الدين وقد أرسل عليه ما أبطله فإن هذه الآية نزلت عليه ﷺ يوم حجة الوداع حين أعز الله تعالى الإسلام وأذل الشرك وأخرج المشركين عن مكة فلم يحج في تلك السنة إلا مؤمن وبهذا أكمل الله تعالى الدين وأتم النعمة على المسلمين فصار كمال الدين ههنا عزه وظهوره وذل الشرك ودروسه لا تكامل الفرائض والسنن لأنها لم تزل تنزل إلى أن قبض رسول الله ﷺ وهكذا قال الشعبي في هذه الآية ويجوز أن يكون الإكمال للدين برفع النسخ عنه بعد هذا الوقت وأما إبطاله إياه فإنه يجوز أن يكون أنزله قرآنا ثم أبطل تلاوته وأبقى العمل به كما قال عمر رضي الله عنه في آي الرجم وكما قال غيره في أشياء كانت من القرآن قبل أن يجمع بين اللوحين فذهبت وإذا جاز أن يبطل العمل به وتبقى تلاوته جاز أن تبطل تلاوته ويبقى العمل به ويجوز أن يكون أنزله وحيا إليه كما كان تنزل عليه أشياء من أمور الدين ولا يكون ذلك قرآنا كتحريم نكاح العمة على بنت أخيها والخالة على بنت أختها والقطع في ربع دينار ولا قود على والد ولا على سيد ولا ميراث لقاتل وكقوله ﷺ يقول الله تعالى إني خلقت عبادي جميعا حنفاء وكقوله يقول الله عز وجل من تقرب إلي شبرا تقربت منه ذراعا وأشباه هذا وقد قال عليه السلام أوتيت الكتاب ومثله معه يريد ما كان جبريل عليه السلام يأتيه به من السنن وقد رجم رسول الله ﷺ ورجم الناس بعده وأخذ بذلك الفقهاء فأما رضاع الكبير عشرا فنراه غلطا من محمد بن إسحاق ولا نأمن أيضا أن يكون الرجم الذي ذكر أنه في هذه الصحيفة كان باطلا لأن رسول الله ﷺ قد رجم ماعز بن مالك وغيره قبل هذا الوقت فكيف ينزل عليه مرة أخرى ولأن مالك بن أنس روى هذا الحديث بعينه عن عبد الله بن أبي بكر عن عمرة عن عائشة رضي الله عنها قالت كان فيما أنزل من القرآن عشر رضعات معلومات يحرمن ثم نسخن بخمس معلومات يحرمن فتوفي رسول الله ﷺ وهن مما يقرأ من القرآن وقد أخذ بهذا الحديث قوم من الفقهاء منهم الشافعي وإسحاق وجعلوا الخمس حدا بين ما يحرم وما لا يحرم كما جعلوا القلتين حدا بين ما ينجس من الماء وما لا ينجس وألفاظ حديث مالك خلاف ألفاظ حديث محمد بن إسحاق ومالك أثبت عند أصحاب الحديث من محمد بن إسحاق قال أبو محمد حدثنا أبو حاتم قال نا الأصمعي قال نا معمر قال قال لي أبي لا تأخذن عن محمد بن إسحاق شيئا فإنه كذاب وقد كان يروى عن فاطمة بنت المنذر بن الزبير وهي امرأة هشام بن عروة فبلغ ذلك هشاما فأنكره وقال أهو كان يدخل على امرأتي أم أنا وأما قول الله تبارك وتعالى لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه فإنه تعالى لم يرد بالباطل أن المصاحف لا يصيبها ما يصيب سائر الأعلاق والعروض وإنما أراد أن الشيطان لا يستطيع أن يدخل فيه ما ليس منه قبل الوحي وبعده
قالوا حديث يبطله القرآن وحجة العقل
قالوا رويتم أن يوسف عليه السلام أعطي نصف الحسن والله تعالى يقول وشروه بثمن بخس دراهم معدودة وكانوا فيه من الزاهدين ولا يجوز أن يباع من أعطي نصف الحسن بثمن بخس وبدراهم تعد من قلتها ولا أن يكون المشتري له مع قلة هذا الثمن أيضا زاهدا فيه ويقول في رجوع إخوته إليه مرة بعد مرة إنه عرفهم وهم له منكرون وكيف ينكر من أعطي نصف الحسن ولم يجعل له في العالم نظير وهم كانوا بأن يعرفوه وينكرهم هو أولى
قال أبو محمد ونحن نقول إن الناس يذهبون في نصف الحسن الذي أعطيه يوسف عليه السلام إلى أن الله سبحانه أعطاه نصف الحسن وأعطى العباد أجمعين النصف الآخر وفرقه بينهم وهذا غلط بين لا يخفى على من تدبره إذا فهم ما قلناه والذي عندي في ذلك أن الله تبارك وتعالى جعل للحسن غاية وحدا وجعله لمن شاء من خلقه إما للملائكة أو للحور العين فجعل ليوسف عليه السلام نصف ذلك الحسن ونصف ذلك الكمال وقد يجوز أن يكون جعل لغيره ثلثه ولآخر ربعه ولآخر عشره ويجوز أن لا يجعل لآخر منه شيئا وكذلك لو قال قائل إنه أعطي نصف الشجاعة لم يجز أن يكون أعطي نصفها وجعل للخلق كلهم النصف الآخر ولو كان هذا هو المعنى لوجب أن يكون الذي أعطي نصف الشجاعة يقاوم العباد جميعا وحده ولكن معناه أن للشجاعة حدا يعلمه الله تعالى ويجعله لمن شاء من خلقه ويعطي غيره النصف من ذلك ويعطي لآخر الثلث أو الربع أو العشر وما أشبه ذلك وأما قولهم كيف يشترونه بثمن بخس ويكونون أيضا فيه من الزاهدين وهو بهذه المنزلة من الحسن فإن الحسن إذا كان على ما ذهبنا إليه لا يتفاوت التفاوت الذي ظنوه ولكنه يكون مقاربا لما عليه الحسان الوجوه وقد ذكر وهب بن منبه أن يوسف عليه السلام كان نزع في الحسن إلى سارة وهذا شاهد لما تأولناه في نصف الحسن فإن احتجوا بقول الله تعالى فلما سمعت بمكرهن أرسلت إليهن وأعتدت لهن متكأ وآتت كل واحدة منهن سكينا وقالت اخرج عليهن فلما رأينه أكبرنه وقطعن أيديهن وقلن حاش لله ما هذا بشرا إن هذا إلا ملك كريم وقالوا لم يقطعن أيديهن حين رأينه ولم يقلن إنه ملك كريم إلا لتفاوت حسنه وبعده مما عليه حسن الناس قلنا في تأويل الآية إنها لما سمعت بقول النسوة أن امرأة العزيز تراود فتاها عن نفسه قد شغفها حبا إنا لنراها في ضلال مبين أرادت أن يرينه ليعذرنها في الفتنة به فاعتدت لهن متكأ أي طعاما وقد قرئ متكا وهو طعام يقطع بالسكين وقيل في بعض التفسير إنه الأترج وفي بعضه الزماورد وأيا ما كان فإنه لا يأكل حتى يقطع وأصل المتك والبتك واحد وهو القطع والميم تبدل من الباء كثيرا وتبدل الباء منها لتقارب المخرجين ثم قالت ليوسف اخرج عليهن فلما رأينه أكبرنه أي أعظمن أمره وأجللنه ووقع في قلوبهن مثل الذي وقع في قلبها من محبته فبهتن وتحيرن وأدمن النظر إليه حتى حززن أيديهن بتلك السكاكين التي كن يقطعن بها طعامهن وقلن ما هذا بشرا إن هذا إلا ملك كريم ولم يردن بهذا القول أنه ليس من البشر على الحقيقة وأنه من الملائكة على الحقيقة وإنما قلنه على التشبيه كما يقول القائل في رجل يصفه بالجمال ما هو إلا الشمس وما هو إلا القمر وفي آخر يصفه بالشجاعة ما هو إلا الأسد وكيف يردن أنه ليس من الناس وأنه من الملائكة وهن يردن منه مثل الذي أرادت امرأة العزيز ويشرن بحبسه والملائكة لا تطأ النساء ولا تحبس في السجون وليس بعجيب أن يقطعن أيديهن إذا رأين وجها حسنا رائعا مع المحبة والشهوة وأن يتحيرن ويبهتن فقد يصيب الناس مثل ذلك وأكثر منه قال عروة بن حزام
وإني لتعروني لذكراك روعة ** لها بين جلدي والعظام دبيب
وما هو إلا أن أراها فجاءة ** فأبهت حتى ما أكاد أجيب
وأصرف عن رأيي الذي كنت أرتئي ** وأنسى الذي عددت حين تغيب
وقد جن قيس بن الملوح المعروف بالمجنون وذهب عقله وهام مع الوحش وكان لا يفهم شيئا إلا أن تذكر ليلى وقال
أيا ويح من أمسى تخلس عقله ** فأصبح مذهوبا به كل مذهب
إذا ذكرت ليلى عقلت وراجعت ** روائع عقلي من هوى متشعب
ولما خرج به أبوه إلى مكة ليعوذ بالبيت ويستشفى له به سمع بمنى قائلا يقول يا ليلى فخر مغشيا عليه فلما أفاق قال
وداع دعا إذ نحن بالخيف من منى ** فهيج أحزان الفؤاد وما يدري
دعا باسم ليلى غيرها فكأنما ** أطار بليلى طائرا كان في صدري
وقد مات بالوجد أقوام منهم عروة بن حزام والنهدي عبد الله بن عجلان قال أبو محمد حدثني عبد الرحمن بن عبد الله بن قريب قال حدثني عمي الأصمعي قال عبد الله بن عجلان من عشاق العرب المشهورين الذين ماتوا عشقا وقد ذكره بعض الشعراء فقال
إن مت من الحب ** فقد مات بن عجلان
وحدثنا أبو حاتم قال نا الأصمعي عن عبد العزيز بن أبي سلمة عن أيوب عن محمد بن سيرين قال قال عبد الله بن عجلان صاحب هند
ألا إن هندا أصبحت منك محرما ** وأصحبت من أدنى حموتها حما
وأصبحت كالمغمود جفن سلاحه ** يقلب بالكفين قوسا وأسهما
قال ومد بها صوته ثم خر فمات
وفيما روى نقلة الأخبار أن الحارث بن حلزة اليشكري قام بقصيدته التي أولها
آذنتنا ببينها أسماء
بين يدي عمرو بن هند ارتجالا وكانت كالخطبة فارتزت العنزة التي كان يتوكأ ويخطب عليها في صدره وهو لا يشعر وهذا أعجب من قطعهن أيديهن والسبب الذي قطعن له أيديهن أوكد من السبب الذي ارتزت له العنزة في صدر الحارث بن حلزة وأما شراء السيارة له بالثمن البخس وزهدهم فيه مع ذلك فإنهم اشتروه على الإباق وبالبراءة من العيوب واستخرجوه من جوف بئر قد ألقاه سادته فيها بذنوب كانت منه وجنايات عظام ادعوها وشرطوا عليهم مع ذلك أن يقيدوه ويغلوه إلى أن يأتوا به مصر وفي دون هذه الأمور ما يخسس الثمن ويزهد المشتري وهذه القصة مذكورة في التوراة وأما قولهم كيف تنكره إخوته مع ما أعطي من الحسن فقد أعلمتك أن الذي أعطيه يوسف عليه السلام وإن كان فوق ما أعطيه أحد من الناس فليس ببعيد مما عليه الحسن منهم وأنه وإن كان أعطي نصف الحسن فقد أعطي غيره الثلث والربع وما قارب النصف وليس يقع في هذا تفاوت شديد وكانوا فارقوه طفلا ورأوه كهلا ودفعوه أسيرا ضريرا وألفوه ملكا كبيرا وفي أقل من هذه المدة واختلاف هذه الأحوال تتغير الحلى وتختلف المناظر
قالوا حديث يبطله النظر
قالوا رويتم عن شعبة عن محمد بن جحادة عن أبي حازم عن أبي هريرة قال نهى رسول الله ﷺ عن كسب الإماء قالوا وكسب الإماء حلال ولو أن رجلا آجر أمته أو عبده فعملا لم يكن ما كسبا حراما بإجماع الناس فكيف ينهى عنه رسول الله ﷺ
قال أبو محمد ونحن نقول إن الكسب الذي نهى عنه رسول الله ﷺ هو أجر البغاء وكان أهل الجاهلية يأمرون إماءهم بالبغاء ويأخذون أجورهن وكان لعبد الله بن جدعان إماء يساعين وهو في الجاهلية سيد تيم فأنزل الله عز وجل ولا تكرهوا فتياتكم على البغاء إن أردن تحصنا لتبتغوا عرض الحياة الدنيا ونهى ﷺ عن كسب الزمارة وهي الزانية يعني هذه الأمة التي يغتلها سيدها قال أبو محمد حدثنا أبو الخطاب قال نا أبو بحر قال نا هشام بن حسان عن محمد بن سيرين عن أبي هريرة قال ثمن الكلب وأجر الزمارة من السحت
قالوا حديثان متناقضان
قالوا رويتم عن مالك عن سالم أبي النضر عن بن جرهد عن أبيه أن رسول الله ﷺ مر عليه وهو كاشف فخذه فقال غطها فإن الفخذ من العورة ثم رويتم عن إسماعيل بن جعفر عن محمد بن أبي حرملة وعن عطاء بن يسار وأبي سلمة بن عبد الرحمن عن عائشة رضي الله عنها قالت كان رسول الله ﷺ مضطجعا في بيته كاشفا فخذه فاستأذن أبو بكر رضي الله عنه فأذن له وهو كذلك ثم استأذن عمر رضي الله عنه فأذن له وهو كذلك ثم استأذن عثمان رضي الله عنه فجلس وسوى ثيابه فلما خرج قالت له عائشة في ذلك فقال ألا أستحي من رجل تستحي منه الملائكة قالوا وهذا خلاف الحديث الأول
قال أبو محمد ونحن نقول إنه ليس ههنا اختلاف ولكل واحد من الحديثين موضع فإذ وضع بموضعه زال ما توهموه من الاختلاف أما حديث جرهد فإن رسول الله ﷺ مر به وهو كاشف فخذه على طريق الناس وبين ملئهم فقال عليه السلام له وار فخذك فإنها من العورة في هذا الموضع ولم يقل فإنها عورة لأن العورة غيرها والعورة صنفان أحدهما فرج الرجل والمرأة والدبر منهما وهذا هو عين العورة والذي يجب عليهما أن يستراه في كل وقت وكل موضع وعلى كل حال والعورة الأخرى ما داناهما من الفخذ ومن مراق البطن وسمى ذلك عورة لإحاطته بالعورة ودنوه منها وهذه العورة هي التي يجوز للرجل أن يبديها في الحمام وفي المواضع الخالية وفي منزله وعند نسائه ولا يحسن به أن يظهرها بين الناس وفي جماعاتهم وأسواقهم وليس كل شيء حل للرجل يحسن به أن يظهره في المجامع فإن الأكل على الطريق وفي السوق حلال وهو قبيح ووطء الرجل أمته حلال ولا يجوز ذلك بحيث تراه الناس والعيون وكانوا يكرهون الوجس وهو أن يطأ الرجل أهله بحيث تحس أهله الأخرى الحركة وتسمع الصوت وكان رسول الله ﷺ في بيته خاليا فأظهر فخذه لنسائه ثم دخل عليه من يأنس به فلم يستره فلما صاروا ثلاثة كره باجتماعهم ما كرهه لجرهد من إبدائه لفخذه بين عوام الناس واستتر منهم
قالوا حديث يبطله الإجماع والكتاب
قالوا رويتم عن الحجاج الصواف عن يحيى بن أبي كثير عن عكرمة عن حجاج بن عمرو الأنصاري أنه سمع رسول الله ﷺ يقول من كسر أو عرج فقد حل وعليه حجة أخرى قال فحدثت بن عباس وأبا هريرة بذلك فقالا صدق قالوا والناس على خلاف هذا لأنه قال الله تعالى وأتموا الحج والعمرة لله فإن أحصرتم فما استيسر من الهدي ولا تحلقوا رءوسكم حتى يبلغ الهدي محله فلم يجعل له أن يحل دون أن يصل الهدي وينحر عنه
قال أبو محمد ونحن نقول إن رسول الله ﷺ قال هذا في الرجل من أهل مكة يهل بالحج منها ويطوف ويسعى ثم يكسر أو يعرج أو يمرض فلا يستطيع حضور المواقف أنه يحل في وقته وعليه حج قابل والهدي وكذلك الرجل يقدم مكة معتمرا في أشهر الحج ويقضي عمرته ثم يهل بالحج من مكة ويكسر أو يصيبه أمر لا يقدر معه على أن يحضر مع الناس المواقف إنه يحل وعليه حج قابل والهدي والذين أمرهم الله تعالى إذا أحصروا بما استيسر من الهدي وأن لا يحلقوا رءوسهم حتى يبلغ الهدي محله هم الذين أحصروا قبل أن يدخلوا مكة وحكم أولئك خلاف حكم أهل مكة والمهلين بالحج منها لأن حكم الذي كسر في الطريق أو عرج فلم يقدر على السفر أو مرض وقد أهل بالحج أن لا يحل إلا بالبيت وعليه أن يحج في السنة الثانية والذي كسر بمكة من أهلها أو المتمتعين مقيم بمكة وعند البيت فيحل وعليه الحج من قابل
قالوا حديث يبطله حجة العقل
قالوا رويتم أن النبي ﷺ قال لرجل كل بيمينك فإن الشيطان يأكل بشماله قالوا والشيطان روحاني كالملائكة فكيف يأكل ويشرب وكيف يكون له يد يتناول بها
قال أبو محمد ونحن نقول إن الله جل وعز لم يخلق شيئا إلا جعل له ضدا كالنور والظلمة والبياض والسواد والطاعة والمعصية والخير والشر والتمام والنقصان واليمين والشمال والعدل والظلم وكل ما كان من الخير والتمام والعدل والنور فهو منسوب إليه جل وعز لأنه أحبه وأمر به وكل ما كان من الشر والنقص والظلام فهو منسوب إلى الشيطان لأنه الداعي إلى ذلك والمسول له وقد جعل الله تعالى في اليمين الكمال والتمام وجعلها للأكل والشرب والسلام والبطش وجعل في الشمال الضعف والنقص وجعلها للاستنجاء والاستنثار وإماطة الأقذار وجعل طريق الجنة ذات اليمين وأهل الجنة أصحاب اليمين وطريق النار ذات الشمال وأهل النار أصحاب الشمال وجعل اليمن من اليمين والشؤم من اليد الشؤمى وهي الشمال وقالوا فلان ميمون ومشئوم وإنما ذلك من اليمين والشمال وليس يخلو الشيطان في أكله بشماله من أحد معنيين إما أن يكون يأكل على حقيقة ويكون ذلك الأكل تشمما واسترواحا لا مضغا وبلعا فقد روي ذلك في بعض الحديث وروي أن طعامها الرمة وهي العظام وشرابها الجدف وهو الرغوة والزبد وليس ينال من ذلك إلا الروائح فتقوم لها مقام المضغ والبلع لذوي الجثث ويكون استرواحه من جهة شماله وتكون بذلك مشاركته من لم يسم الله على طعامه أو لم يغسل يده أو وضع طعاما مكشوفا فتذهب بركة الطعام وخيره وأما مشاركته في الأموال فبالإنفاق في الحرام وفي الأولاد فبالزنا أو يكون يأكل بشماله على المجاز يراد أن أكل الإنسان بشماله إرادة الشيطان له وتسويله فيقال لمن أكل بشماله هو يأكل أكل الشيطان لا يراد أن الشيطان يأكل وإنما يراد أنه يأكل الأكل الذي يحبه الشيطان كما قيل في الحمرة إنها زينة الشيطان لا يراد أن الشيطان يلبس الحمرة ويتزين بها وإنما يراد أنها الزينة التي يخيل بها الشيطان وكذلك روي في الاقتعاط وهو أن يلبس العمامة ولا يتلحى بها أنها عمة الشيطان لا يراد بذلك أن الشيطان يعتم وإنما يراد أنها العمة التي يحبها الشيطان ويدعو إليها وكذلك نقول في قوله للمستحاضة إنها ركضة الشيطان والركضة الدفعة إنه لا يخلو من أحد معنيين إما أن يكون الشيطان يدفع ذلك العرق فيسيل منه دم الاستحاضة ليفسد على المرأة صلاتها بنقض طهورها وليس بعجيب أن يقدر على إخراج ذلك الدم بدفعته من يجري من بن آدم مجرى الدم أو تكون تلك الدفعة من الطبيعة فنسبت إلى الشيطان لأنها من الأمور التي تفسد الصلاة كما نسب إليه الأكل بالشمال والعمة على الرأس دون التلحي والحمرة قال أبو محمد حدثني زياد بن يحيى قال نا بشر بن المفضل عن يونس عن الحسن قال قال رسول الله ﷺ الحمرة من زينة الشيطان والشيطان يحب الحمرة ولهذا كره رسول الله ﷺ المعصفر للرجال قال إبراهيم إني لألبس المعصفر وأنا أعلم أنه زينة الشيطان وأتختم الحديث وأنا أعلم أنه حلية أهل النار وجعل الحديد حلية أهل النار وأهل النار لا يتحلون بالحلي وإنما أراد أن لهم مكان الحلية السلاسل والأغلال والقيود فالحديد حليتهم وكان إبراهيم يفعل ذلك يريد به إخفاء نفسه وستر عمله
قالوا حديثان مختلفان
قالوا رويتم أن رسول الله ﷺ قال لم يتوكل من اكتوى واسترقى ثم رويتم أنه كوى أسعد بن زرارة وقال إن كان في شيء مما تداوون به خير ففي بزغة حجام أو لذعة بنار قالوا وهذا خلاف الأول
قال أبو محمد ونحن نقول إنه ليس ههنا خلاف ولكل واحد موضع فإذا وضع به زال الاختلاف والكي جنسان أحدهما كي الصحيح لئلا يعتل كما يفعل كثير من أمم العجم فإنهم يكوون ولدانهم وشبانهم من غير علة بهم يرون أن ذلك الكي يحفظ لهم الصحة ويدفع عنهم الأسقام قال أبو محمد ورأيت بخراسان رجلا من أطباء الترك معظما عندهم يعالج بالكي وأخبرني وترجم ذلك عنه مترجمه أنه يشفى بالكي من الحمى والبرسام والصفار والسل والفالج وغير ذلك من الأدواء العظام وأنه يعمد إلى العليل فيشده بالقمط شدا شديدا حتى يضطر العلة إلى موضع من الجسد ثم يضع المكوى على ذلك الموضع فيلذعه به وأنه أيضا يكوي الصحيح لئلا يسقم فتطول صحته وكان مع هذا يدعي أشياء من استنزال المطر وإنشاء السحاب في غير وقته وإثارة الريح مع أكاذيب كثيرة وحماقات ظاهرة بينة وأصحاب يؤمنون بذلك ويشهدون له على صدق ما يقول وقد امتحناه في بعض ما ادعى فلم يرجع منه إلى قليل ولا كثير وكانت العرب تذهب هذا المذهب في جاهليتها وتفعل شبيها بذلك في الإبل إذا وقعت النقبة فيها وهو جرب أو العر وهو قروح تكون في وجوهها ومشافرها فتعمد إلى بعير منها صحيح فتكويه ليبرأ منها ما به العر أو النقبة وقد ذكر ذلك النابغة في قوله للنعمان
فحملتني ذنب امرئ وتركته ** كذي العر يكوى غيره وهو راتع
وهذا هو الأمر الذي أبطله رسول الله ﷺ وقال فيه لم يتوكل من اكتوى لأنه ظن أن اكتواءه وإفزاعه الطبيعة بالنار وهو صحيح يدفع عنه قدر الله تعالى ولو توكل عليه وعلم أن لا منجى من قضائه لم يتعالج وهو صحيح ولم يكو موضعا لا علة به ليبرأ العليل وأما الجنس الآخر فكي الجرح إذا نغل وإذا سأل دمه فلم ينقطع وكي العضو إذا قطع أو حسمه وكي عروق من سقي بطنه وبدنه قال بن أحمر يذكر تعالجه حين شفي
شربت الشكاعى والتددت ألدة ** وأقبلت أفواه العروق المكاويا
وهذا هو الكي الذي قال النبي ﷺ إن فيه الشفاء وكوى أسعد بن زرارة لعلة كان يجدها في عنقه وليس هذا بمنزلة الأمر الأول ولا يقال لمن يعالج عند نزول العلة به لم يتوكل فقد أمر النبي ﷺ بالتعالج وقال لكل داء دواء لا على أن الدواء شاف لا محالة وإنما يشرب على رجاء العافية من الله تعالى به إذ كان قد جعل لكل شيء سببا ومثل هذا الرزق قد تضمنه الله عز وجل لعباده إذ يقول وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها ثم أمرنا رسول الله ﷺ بطلبه وبالاكتساب والاحتراف وقال الله تعالى كلوا من طيبات ما كسبتم ومثله توقي المهالك مع العلم بأن التوقي لا يدفع ما قدره الله جل وعز وحفظ المال في الخزائن وبالأقفال مع العلم بأنه لا ضيعة على ما حفظه الله سبحانه ولا حفظ لما أتلفه الله تعالى ومثل هذا كثير مما يجب علينا أن لا ننظر فيه إلى المغيب عنا ويستعمل فيه الحزم وقال رسول الله ﷺ اعقل وتوكل وقال لرجل سمعه يقول حسبي الله أبلى عذرا فإذا أعجزك أمر فقل حسبي الله ومما يشبه الكي في حالتيه الترياق قال رسول الله ﷺ ما أبالي ما أتيت إن أنا شربت ترياقا أو تعلقت تميمة أو قلت الشعر من نفسي وكانت العرب تسمع بالترياق الأكبر وأنه يكون في خزائن ملوك فارس والروم وأنه من أنفع الأدوية وأصلحها العظام الأدواء فقضت عليه بأنه شفاء لا محالة فكنوا به عن كل نفع وقضوا بأنه يدفع المنية حينا ويزيد في العمر ويقي العاهات قال الشاعر يصف خمرا
سقتني بصهباء درياقة ** متى ما تلين عظامي تلن
فكنى عن الشفاء بالدرياق كأنه قال سقتني بخمر شفاء من كل داء كأنها درياق وشبه المتشببون ريق النساء بالدرياق يريدون أنه شفاء من الوجد كالدرياق ومما يدل على هذا أنه قرن شرب الدرياق بتعليق التمائم والتمائم خرز رقط كانت الجاهلية تجعلها في العنق والعضد تسترقي بها وتظن أنها تدفع عن المرء العاهات وتمد في العمر قال الشاعر
إذا مات لم تفلح مزينة بعده ** فنوطي عليه يا مزين التمائما
يقول علقي عليه هذا الخرز لتقيه المنية وقال عروة بن حزام
جعلت لعراف اليمامة حكمة ** وعراف نجد إن هما شفياني
فما تركا من رقية يعلمانها ** ولا سلوة إلا بها سقياني
فقالا شفاك الله والله مالنا ** بما حملت منك الضلوع يدان
والسلوة حصاة كانوا يقولون إن العاشق إذا سقي الماء الذي تكون فيه سلا وذهب عنه ما هو به فهذا هو الترياق الذي كرهه رسول الله ﷺ إذا نوى فيه هذه النية وذهب به هذا المذهب فأما من شربه وهو عنده بمنزلة غيره من الدواء يؤمل نفعه ويخاف ضره ويستشفى الله تعالى به فلا بأس عليه إذا لم يكن في الترياق لحوم الحيات فإن بن سيرين كان يكرهه إذا كانت فيه الحمة يعني السم الذي يكون في لحومها ومما يشبه ذلك الرقى يكره منها ما كان بغير اللسان العربي وبغير أسماء الله تعالى وذكره وكلامه في كتبه وأن يعتقد أنها نافعة لا محالة وإياها أراد بقوله ما توكل من استرقى ولا يكره ما كان من التعوذ بالقرآن وبأسماء الله جل وعز ولذلك قال رسول الله ﷺ لرجل من صحابته رقى قوما بالقرآن وأخذ على ذلك أجرا من أخذ أجرا برقية باطل فقد أخذت برقية حق
قالوا حديثان متناقضان في شرب الماء
قالوا رويتم عن بن المبارك عن معمر عن قتادة عن أنس قال نهى رسول الله ﷺ أن يشرب الرجل قائما قلت فالأكل قال الأكل أشد منه ثم رويتم عن عبد الرزاق عن معمر عن أيوب عن نافع عن بن عمر أن رسول الله ﷺ كن يشرب وهو قائم وهذا نقض لذاك
قال أبو محمد ونحن نقول إنه ليس ههنا تناقض لأنه في الحديث الأول نهى أن يشرب الرجل أو يأكل ماشيا يريد أن يكون شربه وأكله على طمأنينة وأن لا يشرب إذا كان مستعجلا في سفر أو حاجة وهو يمشي فيناله من ذلك شرق أو تعقد من الماء في صدره والعرب تقول قم في حاجتنا لا يريدون أن يقوم حسب وإنما يريدون امش في حاجتنا اسع في حاجتنا ومن ذلك قول الأعشى
يقوم على الوغم قومه
فيعفو إذا شاء أو ينتقم يريد بقوله يقوم على الوغم أنه يطالب بالذحل ويسعى في ذلك حتى يدركه ولم يرد أنه يقوم من غير أن يمشي ومنه قول الله جل وعز ومنهم من إن تأمنه بدينار لا يؤده إليك إلا ما دمت عليه قائما يريد ما دمت مواظبا عليه بالاختلاف والاقتضاء والمطالبة ولم يرد القيام وحده وفي الحديث الثاني كان يشرب وهو قائم يراد غير ماش ولا ساع ولا بأس بذلك لأنه يكون على طمأنينة فهو بمنزلة القاعد
قالوا حديثان متناقضان فيما ينجس من الماء
قالوا رويتم عن النبي ﷺ أنه قال في غير حديث الماء لا ينجسه شيء ثم رويتم عنه ﷺ أنه قال إذا بلغ الماء قلتين لم يحمل نجسا وهذا دليل على أن ما لم يبلغ قلتين حمل النجس وهذا خلاف الحديث الأول
قال أبو محمد ونحن نقول إنه ليس بخلاف للأول وإنما قال رسول الله ﷺ الماء لا ينجسه شيء على الأغلب والأكثر لأن الأغلب على الآبار والغدران أن يكثر ماؤها فأخرج الكلام مخرج الخصوص وهذا كما يقول السيل لا يرده شيء ومنه ما يرده الجدار وإنما يريد الكثير منه لا القليل وكما يقول النار لا يقوم لها شيء ولا يريد بذلك نار المصباح الذي يطفئه النفخ ولا الشرارة وإنما يريد نار الحريق ثم بين لنا بعد هذا بالقلتين مقدار ما تقوى عليه النجاسة من الماء الكثير الذي لا ينجسه شيء
قالوا حديثان في الحج متناقضان
قالوا رويتم عن إسماعيل بن علية عن أيوب قال قال لي عبد الله بن أبي مليكة حدثني القاسم عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت أهللت بحج قال عبد الله وحدثني عروة أنها قالت أهللت بعمرة
قال أبو محمد ونحن نقول إن لهذين الحديثين مخرجا إن لم يكن وقع فيه غلط من القاسم أو عروة وذلك أن أصحاب رسول الله ﷺ قدموا مكة وقد لبوا بالحج فأمرهم رسول الله ﷺ أن يطوفوا ويسعوا ثم يحلوا ويجعلوها عمرة فحل القوم وتمتعوا وقال النبي ﷺ لولا أن معي الهدي لحللت وكان أبو ذر يقول إن هذا من فسخ الحج لهم خاصة وإليه ذهب كثير من الفقهاء فيجوز أن تكون عائشة رضي الله عنها أهلت أولا بالحج فقالت للقاسم إني أهللت بالحج ثم فسخته وجعلته عمرة وقالت لعروة إني أهللت بعمرة وهي صادقة في الأمرين لأن الحج الذي أهلت به صار عمرة بأمر رسول الله ﷺ
قالوا حديث يبطله حجة العقل
قالوا رويتم عن النبي ﷺ أنه قال كادت العين تسبق القدر ودخل عليه بابني جعفر بن أبي طالب رضي الله عنهما وهما ضارعان فقال مالي أراهم ضارعين قالوا تسرع إليهما العين فقال استرقوا لهما وقد نهى في غير حديث عن الرقى قالوا وكيف تعمل العين من بعد حتى تعل وتسقم هذا لا يقوم في وهم ولا يصح على نظر
قال أبو محمد ونحن نقول إن هذا قائم في الوهم صحيح في النظر من جهة الديانة ومن جهة الفلسفة التي يرتضون بها ويردون الأمور إليها والناس يختلفون في طبائعهم فمنهم من تضر عينه إذا أصاب بها ومنهم من لا تضر عينه ومنهم من يعض فتكون عضته كعضة الكلب الكلب في المضرة أو كنهشة الأفعى لا يسلم جريحها ومنهم من تلسعه العقرب فلا تؤذيه وتموت العقرب وقد جيء إلى المتوكل بأسود من بعض البوادي يأكل الأفاعي وهي أحياء ويتلقاها بالنهش من جهة رؤوسها ويأكل بن عرس وهو حي ويتلقاه بالأكل من جهة رأسه وأتي بآخر يأكل الجمر كما يأكله الظليم فلا يمضه ولا يحرقه وفقراء الأعراب الذين يبعدون عن الريف يأكلون الحيات وكل ما دب ودرج من الحشرات ومنهم من يأكل الأبارص ولحمها أقتل من الأفاعي والتنين وأنشد أبو زيد
والله لو كنت لهذا خالصا ** لكنت عبدا يأكل الأبارصا
فأخبرك أن العبيد يأكلونها فما الذي ينكر من أن يكون في الناس ذو طبيعة في نفسه ذات سم وضرر فإذا نظر بعينه فأعجبه ما يراه فصل من عينه في الهواء شيء من تلك الطبيعة أو ذلك السم حتى يصل إلى المرئي فيعله وقد زعم صاحب المنطق إن رجلا ضرب حية بعصا فمات الضارب وأن من الأفاعي ما ينظر إلى الإنسان فيموت الإنسان بنظره وما يصوت فيموت السامع بصوته فهذا قول أهل الفلسفة وقد حدثنا مع هذا عن النضر بن شميل عن أبي خيرة أنه قال الأبتر من الحيات خفيف أزرق مقطوع الذنب يفر من كل أحد ولا يراه أحد إلا مات ولا تنظر إليه حامل إلا ألقت ما في بطنها وهو الشيطان من الحيات وهذا قول يوافق ما قاله صاحب المنطق أفما تعلم أن هذه الحية إذا قتلت من بعد فإنما تقتل بسم فصل من عينها في الهواء حتى أصاب من رأته وكذلك القاتلة بصوتها تقتل بسم فصل من صوتها فإذا دخل السمع قتل وقد ذكر الأصمعي مثل هذا بعينه في الذي يعتان وبلغني عنه أنه قال رأيت رجلا عيونا فدعي عليه فعور وكان يقول إذا رأيت الشيء يعجبني وجدت حرارة تخرج من عيني ومما يشبه هذا القول أن المرأة الطامث تدنو من إناء اللبن لتسوطه وهي منظفة الكف والثوب فيفسد اللبن وهذا معروف مشهور وليس ذلك إلا لشيء فصل عنها حتى وصل إلى اللبن وقد تدخل البستان فتضر بكثير من الغروس فيه من غير أن تمسها وقد يفسد العجين إذا قطع في البيت الذي فيه البطيخ وناقف الحنظل تدمع عيناه وكذلك موخف الخردل وقاطع البصل وقد ينظر الإنسان إلى العين المحمرة فتدمع عينه وربما احمرت وليس ذلك إلا لشيء وصل في الهواء إليها من العين العليلة وقد يتثاءب الرجل فيتثاءب غيره والعرب تقول أسرع من عدوى الثؤباء وما أكثر ما يختدع الراقون بالتثاؤب فإنهم إذا رقوا عليلا تثاءبوا فتثاءب العليل بتثاؤبهم وأكثروا وأكثر فيوهمون العليل أن ذلك فعل الرقية وأنه تحليل منها للعلة وقد يكون في الدار جماعة من الصبيان ويجدر أحدهم فيجدر الباقون وليس ذلك إلا لشيء فصل من العليل في الهواء إلى من كان مثله ممن لم يجدر قط وليس هو من العدوى في شيء إنما هو سم ينفذ من واحد إلى آخر وهذا من أمر العين صحيح وأما من يدعيه قوم من الأعراب أن العائن منهم يقتل من أراد ويسقم من أراد بعينه وأن الرجل منهم كان يقف على مخرفة النعم وهو طريقها إلى الماء فيصيب ما أراد من تلك الإبل بعينه حتى يقتله فهذا ليس بصحيح وقد قال الفراء في قول الله سبحانه وإن يكاد الذين كفروا ليزلقونك بأبصارهم لما سمعوا الذكر أراد يعتانونك أي يصيبونك بعيونهم كما يعتان الرجل الإبل إذا صدرت عن الماء وليس هو عندنا على ما تأول وإنما أراد أنهم ينظرون إليك بالعداوة والبغضاء نظرا يكاد يزلقك من شدته حتى تسقط ويدلك على ذلك قول الشاعر
يتقارضون إذا التقوا في موطن ** نظرا يزيل مواطئ الأقدام
أي يكاد يزيلها عن مواطئها من شدته وصلابته وهذا نظر العدو المبغض تقول الناس نظر إلي شزرا ونظر إلي محدقا وأريته لمحا باصرا ونحوه قول الله تعالى ينظرون إليك نظر المغشي عليه من الموت لأن المغشي عليه عند الموت يشخص بصره ولا يطرف ويقول الله جل وعز فإذا برق البصر في قراءة من قرأه بفتح الراء يريد بريقه ولو كان ما ادعاه الأعراب من ذلك صحيحا لأمكنهم قتل من أرادوا قتله وإسقام من أرادوا إسقامه ولم يجعل الله سبحانه هذا لأحد على أحد وأحسب أن العين إذا خاف أن يصيب الآخر بعينه إذا أعجبه أردفها التبريك والدعاء كما قال النبي ﷺ إذا أعجب أحدكم أخوه فليبرك عليه وإنما يصح من العين أن يكون العائن يصيب بعينه إذا تعجب من شيء أو استحسنه فيكون الفعل لنفسه بعينه ولذلك سموا العين نفسا لأنها تفعل بالنفس وجاء في الحديث لا رقية إلا من عين أو حمة أو نملة أو نفس فالنفس العين والحمة الحيات والعقارب وأشباهها من ذوات السموم والنملة قروح تخرج في الجنب وقال النبي ﷺ للشفاء علمي حفصة رقية النملة والنفس والعين وقال بن عباس في الكلاب إنها من الحن وهي ضعفة الجن فإذا غشيتكم عند طعامكم فألقوا لها فإن لها أنفسا يريد أن لها عيونا تضر بنظرها إلى من يطعم بحضرتها
قالوا حديثان في البيوع متناقضان
قالوا رويتم عن حماد عن قتادة عن الحسن عن سمرة أن النبي ﷺ نهى عن بيع الحيوان بالحيوان نسيئة ثم رويتم عن محمد بن إسحاق عن يزيد بن أبي حبيب عن مسلم بن جبير عن أبي سفيان عن عمرو بن حريش عن عبد الله بن عمرو أن رسول الله ﷺ أمره أن يجهز جيشا فنفدت إبل الصدقة فأمره أن يأخذ البعير بالبعيرين إلى إبل الصدقة قالوا وهذا خلاف الأول
قال أبو محمد ونحن نقول إنه ليس بين الحديثين اختلاف بحمد الله تعالى لأن الحديث الأول نهى عن بيع الحيوان بالحيوان نسيئة وليس يجوز أن يشتري شيئا ليس عند البائع لنهي رسول الله ﷺ عن ذلك وهو بيع المواصفة وإذا أنت بعت حيوانا بحيوان نسيئة فقد دفعت ثمنا لشيء ليس هو عند صاحبك فلم يجز ذلك والحديث الثاني أمرني أن آخذ البعير بالبعيرين إلى إبل الصدقة يريد سلفا وقد مضت السنة في السلف بأن يدفع الورق أو الذهب أو الحيوان سلفا في طعام أو تمر أو حيوان على صفة معلومة وإلى وقت محدود وليس ذلك عند المستسلف في الوقت الذي دفعت إليه الثمن وعليه أن يأتيك به عند محل الأجل فصار حكم السلف خلاف حكم البيع إذ كان البيع لا يجوز فيه أن تشتري ما ليس عند صاحبك في وقت المبايعة وكان السلف يجوز فيه أن تسلف فيما ليس عند صاحبك في وقت الاستسلاف ولما نفدت الإبل أمره النبي ﷺ أن يستسلف البعير البازل والعظيم والقوي من الإبل بالبعيرين من إبل الصدقة الحقاق والجذاع التي لا تصلح للغزو ولا للسفر وربما كان الواحد من الإبل البوازل الشداد خيرا من اثنين وثلاثة وأربعة من إبل الصدقة
قالوا حديثان في الحيض متناقضان
قالوا رويتم عن جرير عن الشيباني عن عبد الرحمن بن الأسود عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها قالت كان رسول الله ﷺ يأمرنا في فوح حيضنا أن نأتزر ثم يباشرنا وأيكم يملك إربه كما كان رسول الله ﷺ يملكه ثم رويتم عن عبد العزيز بن محمد عن أبي اليمان عن أم ذرة عن عائشة رضي الله عنها قالت كنت إذا حضت نزلت عن المثال إلى الحصير فلم نقرب رسول الله ﷺ ولم ندن منه حتى نطهر قالوا وهذا خلاف الأول
قال أبو محمد ونحن نقول إن الحديث الأول هو الصحيح وقد رواه شعبة عن منصور عن إبراهيم عن الأسود عن عائشة رضي الله عنها قالت كان رسول الله ﷺ يأمر إحدانا إذا كانت حائضا أن تتزر ثم يضاجعها وهذه الطريقة خلاف أبي اليمان عن أم ذرة عن عائشة رضي الله عنها ولا يجوز على عائشة رضي الله عنها أن تقول كنت أباشره في الحيض مرة ثم تقول مرة أخرى كنت لا أباشره في الحيض وأنزل عن الفراش إلى الحصير فلا أقربه حتى أطهر لأن أحد الخبرين يكون كذبا والكاذب لا يكذب نفسه فكيف يظن ذلك بالصادق الطيب الطاهر وليس في مباشرة الحائض إذا ائتزرت وكف ولا نقص ولا مخالفة لسنة ولا كتاب وإنما يكره هذا من الحائض وأشباهه من المعاطاة المجوس
قالوا حديث يبطله حجة العقل
قالوا رويتم أن النبي ﷺ قال الرؤيا على رجل طائر ما لم تعبر فإذا عبرت وقعت قالوا كيف تكون الرؤيا على رجل طائر وكيف تتأخر عما تبشر به أو تنذر منه بتأخر العبارة لها وتقع إذا عبرت وهذا يدل على أنها إن لم تعبر لم تقع
قال أبو محمد ونحن نقول إن هذا الكلام خرج مخرج كلام العرب وهم يقولون للشيء إذا لم يستقر هو على رجل طائر وبين مخاليب طائر وعلى قرن ظبي يريدون أنه لا يطمئن ولا يقف قال رجل في الحجاج بن يوسف
كأن فؤادي بين أظفار طائر ** من الخوف في جو السماء محلق
حذار امرئ قد كنت أعلم أنه ** متى ما يعد من نفسه الشر يصدق
وقال المرار يذكر فلاة تنزو من مخافتها قلوب الأدلاء
كأن قلوب أدلائها ** معلقة بقرون الظباء
يريد أنها تنزو وتجب فكأنها معلقة بقرون الظباء لأن الظباء لا تستقر وما كان على قرونها فهو كذلك وقال امرؤ القيس
ولا مثل يوم في قدار ظللته ** كأني وأصحابي على قرن أعفرا
يريد أنا لا نستقر ولا نطمئن فكأنا على قرن ظبي وكذلك الرؤيا على رجل طائر ما لم تعبر يراد أنها تجول في الهواء حتى تعبر فإذا عبرت وقعت ولم يرد أن كل من عبرها من الناس وقعت كما عبر وإنما أراد بذلك العالم بها المصيب الموفق وكيف يكون الجاهل المخطئ في عبارتها لها عابرا وهو لم يصب ولم يقارب وإنما يكون عابرا لها إذا أصاب يقول الله عز وجل إن كنتم للرؤيا تعبرون يريد إن كنتم تعلمون عبارتها ولا أراد أن كل رؤيا تعبر وتتأول لأن أكثرها أضغاث أحلام فمنها ما يكون عن غلبة الطبيعة ومنها ما يكون عن حديث النفس ومنها ما يكون من الشيطان وإنما تكون الصحيحة التي يأتي بها الملك ملك الرؤيا عن نسخة أم الكتاب في الحين بعد الحين قال أبو محمد حدثني يزيد بن عمرو بن البرآء قال نا عبيد الله بن عبد المجيد الحنفي قال نا قرة بن خالد قال سمعت محمد بن سيرين يحدث عن أبي هريرة أن رسول الله ﷺ قال الرؤيا ثلاثة فرؤيا بشرى من الله تعالى ورؤيا تحزين من الشيطان ورؤيا يحدث بها الإنسان نفسه فيراها في النوم وحدثني سهل بن محمد قال نا الأصمعي عن أبي المقدام أو قرة بن خالد قال كنت أحضر بن سيرين يسأل عن الرؤيا فكنت أحزره يعبر من كل أربعين واحدة أو قال أحزوه وهذه الصحيحة هي التي تجول حتى يعبرها العالم بالقياس الحافظ للأصول الموفق للصواب فإذا عبرها وقعت كما عبر
قالوا حديث يكذبه النظر
قالوا رويتم أن رسول الله ﷺ قال إكلفوا من العمل ما تطيقون فإن الله تعالى لا يمل حتى تملوا فجعلتم الله تعالى يمل إذا ملوا والله تعالى لا يمل على كل حال ولا يكل
قال أبو محمد ونحن نقول إن التأويل لو كان على ما ذهبوا إليه كان عظيما من الخطأ فاحشا ولكنه أراد فإن الله سبحانه لا يمل إذا مللتم ومثال هذا قولك في الكلام هذا الفرس لا يفتر حتى تفتر الخيل لا تريد بذلك أنه يفتر إذا فترت ولو كان هذا هو المراد ما كان له فضل عليها لأنه يفتر معها فأية فضيلة له وإنما تريد أنه لا يفتر إذا افترت وكذلك تقول في الرجل البليغ في كلامه والمكثار الغزير فلان لا ينقطع حتى تنقطع خصومه تريد أنه لا ينقطع إذا انقطعوا ولو أردت أنه ينقطع إذا انقطعوا لم يكن له في هذا القول فضل على غيره ولا وجبت له به به مدحة وقد جاء مثل هذا بعينه في الشعر المنسوب إلى بن أخت تأبط شرا ويقال إنه لخلف الأحمر
صليت مني هذيل بخرق ** لا يمل الشر حتى يملوا
لم يرد أنه يمل الشر إذا ملوه ولو أراد ذلك ما كان فيه مدح له لأنه بمنزلتهم وإنما أراد أنهم يملون الشر وهو لا يمله