النبذ في أصول الفقه الظاهري/الصفحة الثانية
- فصل في الكلام في حكم الاختلاف
وأما اذا لم يصح اجماع فقد وجب وقوع التنازع والاختلاف لما ذكرناه من قول الله تعالى { وأولي الأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول } الآية ولقوله تعالى { ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك }
ولما وصفناه من أنه اذا لم يكن اجماع فلا بد من الخلاف ضرورة لأنهما متنافيان اذا ارتفع احدهما وقع الآخر ولا بد واذا كان كذلك فالمرجوع اليه هو ما افترض الله تعالى علينا الرجوع اليه من القرآن والسنة بقوله عز وجل { فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر } وقال عز وجل عن نبيه ﷺ { وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى } فصح ان كلامه كله ﷺ عن وحي من الله تعالى اذا كان فيما تعبدنا به خالقنا تعالى لقوله ﷺ { أنا أعلم بأمر دينكم } الحديث وقال تعالى { وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم } .
فصح أنه لا يحل التحاكم عند الاختلاف الا الى القرآن والسنة
- فصل في النقل المتواتر
فأما القرآن فمنقول نقل الكواف والتواتر , وأما السنة فمنها ما جاء متواترا ومنها خبر الآحاد العدل عن مثله وقد يقع فيه العدل عن العدلين وعن الثلاثة والثلاثة عن الواحد وهذا كثير وهو صحيح مسلم موجود حيث طلب.
فأما ما نقل نقل الكواف فلا يختلف اثنان من المسلمين في وجوب الطاعة له وان كان بعضهم قد خالف في تفصيل ذلك فنقلوا قولهم وأخطأوا بيقين
- فصل في خبر الواحد وأنواعه
فأما ما نقله واحد عن واحد فينقسم أقساما ثلاثة:
- أحدها ما نقله الثقة عن الثقة حتى يبلغ رسول الله ﷺ (ومنه) ما ينقل كذلك وفيهم رجل مجروح أو سيء الحفظ أو مجهول (ومنه) ما نقل كذلك .
والقطع في طريقه مثل ان يبلغ الى التابع ثم يقول قال رسول الله ﷺ فهذا هو المرسل , وأن يقول تابع أو من دونه قال فلان الصاحب عن رسول الله ﷺ وذلك القائل لم يدرك ذلك الصاحب فهذا هو المنقطع .
فنظرنا في هذه الوجوه فوجدنا قوما يقولون انها كلها سواء وانها كلها يجب الآخذ بها وهذا قول جمهور الحنفيين والمالكيين وهذا خطأ لأن المرسل والمنقطع لا يدري من رواه واذا لم يعرف من رواه أثقه هو أم غير ثقه فلا يحل الحكم في الدين بنقل مجهول لا يدري من هو ولا كيف حاله في حمله للحديث , فقد يكون ثقة صالحا ويرد حديثه اذا كان مغفلا غير ضابط ولا مستقيم الحديث سيما اذا كان كاذبا او داعيا الى بدعة وكل هذا لا يؤمن في المجهول الذي يحتج به في المرسل وقد أمرنا تعالى بترك ما لم نعلم قال تعالى { وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون } وقال تعالى { ولا تقف ما ليس لك به علم }
فمن اخذ ما اخبر به عمن لا يدري من هو فقد قال علي الله وعلى رسوله ﷺ ما لا علم به وهذا لا يحل وكذلك ما رواه مجهول الحال.
وأما ما رواه المجروح فالمجروح فاسق وقد قال تعالى { يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا أن تصيبوا قوما بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين } ومن حكم برواية مجهول من مرسل او موقوف أو مجهول الحال فقد أصاب قوما بجهالة وان لم يتثبت فليصبح على ما فعل من النادمين .
- قال أبو محمد رحمه الله تعالى ومن صح عنه أنه يدلس المنكرات على الضعفاء الى الثقات فهو اما مجروح واما حكمه حكم المرسل فلا يجوز قبول روايته ولقائل ان يقول انه أدون حالا من صاحب المرسل لأنه قد يرسله عن ثقه وقد يرسله عن غير ثقة فأخذنا بالآحوط في الكشف عن حال المرسل عنه وليس المدلس للمنكرات كذلك فهو أحق بالرد منه .
وبالجمله فلا يحل أن نخبر عن الله تعالى ولا عن رسوله ﷺ إلا بما أمر الله تعالى ان يخبر عنه به ولم يأت نص قرآن ولا سنة صحيحه ولا اجماع على وجوب قبول خبر مرسل ولا منقطع ولا رواية فاسق ولا مجهول الحال عن الله تعالى ولا عن رسوله ﷺ فلم يبق الا مارواه الثقة مبلغا الى رسول الله ﷺ فنظرنا في هذا فوجنا برهانين يوجب الله تعالى بهما قبوله ولا بد :
- أحدهما قول الله تعالى { فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون }
فأسقط الله عز وجل عن جميع المؤمنين أن يتفرقوا للتفقه في الدين وانذار قومهم بما تفقهوا فيه والطائفة في لغة العرب التي بها نزل القرآن وقال تعالى , مخبرا عنه { بلسان عربي مبين } .
هي بعض الشيء ولم يخص قط بلفظ الطائفة عددا دون عدد بل هي لفظه تقع على الواحد وعلى أكثر من الواحد الى ما يمكن وجوده ولو آلاف آلاف اذا كانوا مصافين الى غيرهم .
وبيقين ندري أن الله تعالى لو أراد تخصيص عدد دون عدد لبينه واذ لم يبين عز وجل ذلك بيقين ندري أنه أراد الواحد فصاعدا اذ محال ان ينفرنا تعالى ويلبس علينا قال تعالى { تبيانا لكل شيء }.
فصح قبول نذاره الواحد الثقة النافر للثقة في الدين , والأخذ بنذارته لحذر ما يخاف من عقاب الله تعالى في المعصية وقبول النذارة ليس الا رواية ما يحمل الناذر .
- قال أبو محمد: وليس إلا فاسق او عدل فسقط قبول الفاسق بقوله تعالى { إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا أن تصيبوا قوما بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين }
فلم يبق الا العدل فصح يقينا وجوب قبول نذارته وقبول قوله فيما روى لنا مما تفقه فيه وبلغه الين عن رسول عن لله ﷺ مبلغا ثقة عن ثقة او ثقة عن اكثر من واحد او اكثر من واحد عن ثقة وبالله تعالى التوفيق .
- والبرهان الثاني هو اجماع جميع الامم مؤمنها وكافرها على ان رسول الله ﷺ بعث رسله الى القبائل والملوك داعين الى الله عز وجل وبعث الى كل جهة أمير يعلمهم دينهم وينفذ عليهم احكام الله تعالى في التعليم لهم تعليم الصلاة واحكامها والصوم واحكامه والزكاة واحكامها والحج واحكامه والجهاد واحكامه والأقضية في خصوماتهم ونكاحهم وطلاقهم وبيوعهم وما يحل من ذلك وما يحرم وما يلزم وما يحل ويحرم من المآكل والمشارب والملابس هذا مالا خلاف فيه.
فاذا قد الزمهم ﷺ طاعة اولئك الأمراء وهو ﷺ حي غائب عنهم فقد صح ان ذلك يكون باقيا الى يوم القيامة .
وبعد موته ﷺ بيقين شك فيه لأنه تخبر عدل لازم ولا فرق فان اعترض معترض بحديث ذي اليدين وأنه ﷺ لم يصدقه حتى سأل الناس فهذا لا حجة لهم فيه لأن ذا اليدين انما أخبر النبي ﷺ بخبر عن فعل النبي ﷺ لا عن غيره وأعلمه أنه ﷺ وهم ولم يقدر عليه والسلام انه وهم وامكن ان يكون ذا اليدين وهم فلهذا تثبت النبي ﷺ لا لما عدا ذلك والا فلا خلاف في أنه عليه السلام كان يأتيه الواحد عن قومه فيصقه ويعمل بخبره ويبعث معه المخاطبة والوالي ونحو ذلك وانه كان يبعث المصدق وحده او اثنين فيقوم الحجة بذلك على من أتاه المصدق ويلزمه اداء صدقته اليه وهكذا في كل شيء من الدين .
فان قيل الرسول والأمراء كانت تأتي معهم وقبلهم وبعدهم بخبرهم , قلنا وبالله التوفيق ؛ لا شك في أن الرفاق لم تأت بجميع الآحكام التي يخبرهم بها الأمراء والرسل فبطل هذا الاعتراض بيقين والحمد لله رب العالمين
- فصل العدل السيء الحفظ لا يجوز ان تقبل روايته
لأن الله تعالى أمرنا بقبول نذارة من تفقه فيما سمع ومن ساء حفظة لم يتفقه فيما سمع اذ التفقه انما هو الفهم والتدبر فيما حمله من الآمر الشرعي على صرافته حسبما حمله اذ من المحال ان يكون من ساء حفظة ولم يتيقن ما حمله تفقه فيما لم يتيقن مما لم يضبطه والمرأة والعبد والأمة في كل ما ذكرنا سواء لعموم قوله تعالى { طائفة } وقد صح الأجماع على أن النساء والعبيد والاماء يلزمهم الدين كما يلزم الآحرار والرجال ولا فرق وان اختلفت الأحكام في بعض ذلك بدليل لا بغير دليل .
- فصل في صحة الحكم بخبر الراوي الثقة عن مثله إلى رسول الله ﷺ
فاذا جاء خبر الراوي الثقة عن مثله مسندا الى رسول الله ﷺ فهو مقطوع به على أنه حق عند الله عز وجل موجب صحة الحكم به اذا كان جميع رواته متفقا على عدالتهم أو ممن ثبتت عدالتهم وان اعترض معترض في بعضهم ممن لم يصح اعتراضه أو اعترض بما لا يصح الاعتراض به برهان ذلك قول الله تعالى { إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون }
وقد صح بيقين افتراض الله علينا قبول ما رواه لنا الثقات ومن الباطل المتيقن مع حفظ الله تعالى الدين ان يلزمنا قبول شريعة باطله لم يأمر الله تعالى هو بها قط .
هذا امر قد أمناه بضمان الله تعالى ذلك لنا وهذا بخلاف شهادة الشهود لأن الله تعالى لم يضمن لنا قط ان الشهود لا يشهدون إلا بحق , بل قد بين لنا رسول الله ﷺ انهم قد يشهدون بباطل اذ يقول ﷺ {فمن قضيت له من حق أخيه بشيء فلا يأخذه فانما اقطع له قطعة من النار} .
ومن المعلوم ان كل من حاكم اليه ﷺ لم يكن بخصام اثنين فقط احدهما الحن بحجته من الآخر ابدا وانما يكون الحكم مرة بشهادة من توجب الحق شهادته ومرة يتعين الحكم بفضل لحن خطاب احدهما على الآخر.
ونحن على يقين من أنه ﷺ لا يحكم الا بحق عند الله تعالى . فصح أننا مأمورون بإنفاذ ما شهد به الشهود العدول عندنا وان كان باطلا في باطنه وان نقتل بذلك من لا يحل لنا قتله لو علمنا كذبهم أو اغفالهم وأن نحكم كذلك بالمال المحرم أخذه على الذي يعلم باطن القضية وكذلك في الفروج ولا فرق ومحرم عليهم استحلال شيء من ذلك وهذا موجود في الديانة كما ندفع المال في فداء الأسير من كافر أو ظالم لقد فرض علينا دفع المال ان لم نقدر على استنقاذه الا به وحرام على الذي يعطاه أخذه وليس هكذا قبول الشرائع لأنها ذكر مضمون حفظه من الله تعالى .
هكذا نقطع بأن كل حديث لم يأت قط إلا مرسلا او لم يروه الا مجهول لا يعرف حاله أحد من أهل العلم أو مجرح متفق على جرحته أو ثابت الجرحة فانه خبر باطل لم يقله قط رسول الله ﷺ ولا حكم به لأن من الممتنع ان يجوز أن لا ترد شريعة حق إلا من هذه الطريق مع ضمان الله تعالى حفظ الذكر النازل من عنده الذي اوحاه الى نبيه ﷺ ومع ضمانه تعالى انه قد بين علينا جميع الدين .
وبهذين البرهانين نقطع على أنه لم يضع من الدين شيء اصلا ولا يضيع ابدا ولا بد أن يكون مع كل عصر من العلماء من يضبط ما خفى عن غيره منهم ويضبط غيره ايضا ما خفى عنه فيبقى الدين محفوظا ال يوم القيامة ولا بد وبالله تعالى التوفيق
- فصل من علم حجة على من لم يعلم
وأما ما كان عندنا عدلا في ظاهر أمره وكان عند غيرنا قد صحت جرحته فهذا الذي خالفنا فيه يكون محقا عند الله تعالى وكذلك من جهلة انسان وعرف عدالته آخر فالذي عنده يقين عدالته هوالمحق عند الله تعالى وانما ينبغي أن لا يلبس الله تعالى الحق على خلقه ولا شيئا من دينه على جميع خلقه اذ لا يوقن احد مكان الحق المتيقن فيه من الباطل وهذا ما لا سبيل اليه الا بضمان الله تعالى حفظ الدين ولشهادته تعالى بكماله وأنه قد أتم النعمة علينا فيه ورضيه لنا دينا قال جل ذكره { اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا }
- فصل لايقُبل من أحد رد خبر إلا ببرهان
ومن ادعى في خبر عن النبي ﷺ قد تصح بنقل الثقات أنه خطأ لم يصدق إلا ببرهان واضح من ثقة يشهد انه حضر ذلك الراوي وقد سها فحرفه أو أن يقر الراوي على نفسه بأنه أخطأ فيه فقط وكذلك من ادعى في خبر صحيح او في آية من القرآن أنها منسوخه أو مخصوصه فقوله باطل الا أن يأتي بنص آخر شاهد على ذلك أو باجماع متيقن على ما ادعى والا فهو مبطل لأن الله تعالى يقول { يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول } فمن قال في آية أو خبر صحيح انهما منسوخان او انهما ليس على عمومهما ولا على ظاهرهما فقد قال لنا لا تطيعوا هذه الآية ولا هذا الخبر فقوله مردود وقول الله أحق وأصدق ولو أراد الله تعالى ما قال لبينه بعين دعوى هذا المدعي قال تعالى { تبيانا لكل شيء } وقال تعالى { لتبين للناس ما نزل إليهم }
- فصل لا يحال نص عن ظاهره إلا بنص آخر صحيح
ولا يحل لأحد أن يحيل آية عن ظاهرها ولا خبرا عن ظاهره لأن الله تعالى يقول { بلسان عربي مبين } وقال تعالى ذاما لقوم { يحرفون الكلم عن مواضعه } ومن حال نصا عن ظاهره في اللغة بغير برهان من آخر او اجماع فقد ادعى ان النص لا بيان فيه وقد حرف كلام الله تعالى ووحيه الى نبيه ﷺ عن موضعه وهذا عظيم جدا مع أنه لو سلم من هذه الكبائر لكان مدعيا بلا دليل .
ولا يحل أن يحرف كلام احد من الناس فكيف كلام الله تعالى وكلام رسوله ﷺ الذي هو وحي من الله تعالى , ومن شغب في هذا القول قائل من العلماء فليس قول أحد دون قول رسول الله ﷺ حجة وقد أوضحنا أن من شغب بهذا من هؤلاء فانهم أترك خلق الله تعالى لقول الصحابة رضى الله عنهم فضلا عن غيرهم وان أصحاب الظاهر من أهل الحديث رضى الله عنهم أشد اتباعا وموافقة للصحابة رضوان الله عليهم منهم . وبينا ذلك مسألة مسألة في كتابنا الموسوم ب(الإيصال الى فهم الخصال) والحمد لله رب العالمين .
فالواجب ان لا يحال نص عن ظاهره الا بنص آخر صحيح مخبر انه على غير ظاهره فتنبع في ذلك بيان الله تعالى وبيان رسوله ﷺ كما بين ﷺ قوله تعالى { ولم يلبسوا إيمانهم بظلم } أنه مراده تعالى به الكفر كما قال عز وجل { إن الشرك لظلم عظيم } أو باجماع متيقن كاجماع الأمة على أن قوله تعالى { يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين }.
أنه لم يرد بذلك العبيد ولا بنى البنات مع وجود عاصب ونحو هذا كثير أو ضرورة مانعة من حمل ذلك على ظاهره كقوله تعالى { الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم } .
فبين الضرورة والمشاهدة ندري ان جميع الناس لم يقولوا {إن الناس قد جمعوا لكم}.
وبرهان ما قلنا من حمل الألفاظ على مفهومها من ظاهرها قول الله تعالى في القرآن: { بلسان عربي مبين } وقوله تعالى { وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم }
فصح ان البيان لنا انما هو حمل لفظ القرآن والسنة على ظاهرهما وموضوعهما فمن أراد صرف شيء من ذلك الى تأويل بلا نص ولا اجماع فقد افترى على الله تعالى وعلى رسوله ﷺ وخالف القرآن وحصل في الدعاوي وحرف الكلم عن مواضعه.
وأيضا فيقال لمن أراد صرف الكلام عن ظاهره بلا برهان :
ان هذا سبب الى السفسطة وابطال الحقائق كلها لأنه كلما قلت أنت وغيرك كلاما قيل لك ليس هذا على ظاهره بل لك غرض آخر وكلما أكدت قيل لك ليس هذا ايضا على ظاهره ولم تنفك ممن يقول لك : لعل ابطال الظاهر ليس على ظاهره وهذا كما ترى وبالله التوفيق
- فصل اللفظة التي تحتمل معنيين لايقتصر على أحدهما إلا بنص أو إجماع متيقن
فاذا وقعت اللفظة في اللغة على معنيين فصاعدا وقوعا مستويا لم يجز أن يقتصر بها على احدهما بلا نص ولا اجماع , لكن يحمل على كل ما يقع عليه في اللغة ولا بد لما ذكرنا من ذم من حرف كلام الله عن مواضعه واذا جاء في القرآن لفظ عربي منقول عن موضعه في اللغة الى معنى آخر كالصلاة والزكاة والصوم والحج فان هذه الفاظ لغوية نقلت الى معاني شرعية لم تكن العرب تعرفها قبل ذلك فهذا ليس مجازا بل هي تسمية صحيحة لأن الله تعالى خالق اللغات تعبدنا بأن نسمى هذه المعاني بهذه الأسماء وأما يتعبدنا الله تعالى بتسمية ذلك المعنى فهذا هو المجاز مثل قول الله تعالى { واخفض لهما جناح الذل من الرحمة } وما أشبه ذلك
- فصل لايصح النسخ إلا بنص أو إجماع متيقن
ولا يحل أن يقال في آية أو خبر صحيح هذا منسوخ لما ذكرنا من أن قائل ذلك مسقط لطاعة ذلك النص إلا بنص آخر يبين أن هذا منسوخ أو اجماع متيقن على نسخه وألا فلا يقدر أحد على استعمال النص وأما ما دام يمكننا جمع النصوص من القرآن والسنة فلا يجوز تركهما ولا ترك أحدهما لأن كليهما سواء في وجوب الطاعة وليس بعضها في وجوب الطاعة أولى من بعض قال تعالى { من يطع الرسول فقد أطاع الله }
فالواجب حينئذ أن يستثنى الأقل من الأكثر اذ لا يوصل الى استعمالهما جميعا الا بذلك فان عجزنا عن ذلك فلا يجوز التحكم في جمعهما الا بغير ما ذكرنا لأنه تحكم بلا برهان مثل أن يقول قائل استعمل هذا النص في وجه كذا وهذا النص في وجه كذا فهذا لا يحل له لأنه شرع في الدين لم يأذن الله تعالى به .
ولا يجوز ان نخبر عن مراد الله عز وجل ولا عن مراد رسول الله ﷺ بغير خبر وارد عن الله تعالى بذلك أو عن رسول الله ﷺ ومن هذا ما قد صح من نهى رسول الله ﷺ عن استقبال القبله واستدبارها لبول او غائط من طريق أبي أيوب الآنصاري وغيره.
وعن أبي عمر انه رأى الرسول ﷺ مستقبل بيت المقدس مستدبر الكعبة لحاجته فقال قوم يستعمل النهي في الصحاري ويستعمل الأباحة في البنيان وهذا خطأ لأن النبي ﷺ لم يقل قط أني أبحث هذا في البناء وحظرته في الصحاري ولا فرق بين قول هؤلاء وبين من قال لا أبيح ذلك إلا بالمدينة اذا كان على لبنتين والا فلا .
وكل هذا لا يحل القول به لأنه شرع في الدين لم يأذن به الله تعالى ومثل هذا فالواجب فيه الأخذ فيه بالزائد على معهود الأصل ولا بد.
برهان هذا : أننا نعلم اذا ورد نصان في أحدهما اسقاط فرض وفي الآخر ايجابه بعينه أو في أحدهما اباحة شيء وفي الآخر تحريم ذلك الشيء فبيقين ندري أن المسلمين قد كانوا برهة مع نبيهم ﷺ ولم يلزمهم ذلك الفرض ولا حرم عليهم ذلك الشيء ثم بيقين ندري أنه حين نطق النبي ﷺ بايجاب ذلك الشيء أو بتحريم ما حرم فقد نسخت الحالة الأولى وارتفعت بشيء هو يقين لا شك فيه ومن الباطل ترك ما يتيقن أنه منسوخ وهذا لو جاز لجاز أن تعود الحالة الأولى التي قد تيقن نسخها وتبطل الحالة الثانية التي قد تيقن أنها ناسخة فلو كان هذا لكان ما فعلوه تركا لليقين وحكما بالظنون واالله تعالى قد أنكر هذا فقال { إن يتبعون إلا الظن وإن الظن لا يغني من الحق شيئا } وقال ﷺ {اياكم والظن فانه أكذب الحديث}
فكيف ونحن نقطع ونشهد بشهادة الله تعالى أنه قد ضمن لنا تعالى حفظ الذكر والدين وانه قد كمل فلو نسخ الناسخ لبين ذلك بيانا جليا فاذا لم يفعل تعالى ذلك فنشهد بشهادة الله تعالى ان الناسخ باق محكما الى يوم القيامة وان المنسوخ باق منسوخا الى يوم القيامة لا نشك في ذلك ولا يجوز البتة ان يشكل شيء من الدين حتى يخفى على جميع الناس موضع الحق وحتى يصيروا الى الحكم بالظن نبرأ الى الله تعالى من هذا القول كبراءتنا اليه تعالى من الشرك والحمد لله رب العالمين .
- فصل في وجوب البادرة لإنقاذ الواجبات
والمبادرة الى انفاذ الأوامر واجب لقوله تعالى { وسارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها السماوات والأرض أعدت للمتقين } ومن تأخر لم يسارع الا أن يبيح التأخير نص فيوقف عنده كما جاء في اباحة تأخير الصلاة الى آخر وقتها .