انتقل إلى المحتوى

الروضة الندية شرح الدرر البهية/كتاب الأطعمة/صفحة واحدة

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة


كتاب الأطعمة

الأصل في الأطعمة الحل

الأصل في كل شئ الحل ولا يحرم إلا ما حرمه الله ورسوله وما سكتا عنه فهو عفو لمثل قوله تعالى : قل لا أجد في ما أوحي إلي محرما على طاعم يطعمه الآية . فإن النكرة في سياق النفي تدل على العموم . ولمثل حديث سلمان الفارسي قال : سئل رسول الله () عن السمن والجبن والفراء فقال : الحلال ما أحل الله في كتابه والحرام ما حرمه الله في كتابه وما سكت عنه فهو مما عفا لكم أخرجه أبن ماجه والترمذي ، وفي إسناد أبن ماجه سيف بن هرون البرجمي وهو ضعيف ، وفي الصحيحين من حديث سعد بن أبي وقاص أن رسول الله () قال : إن أعظم المسلمين في المسلمين جرماً من سأل عن شئ لم يحرم على الناس فحرم من أجل مسألته وفيهما من حديث أبي هريرة عن النبي () قال : ذروني ماتركتكم فإنما هلك من قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم فإذا نهيتكم عن شئ فاجتنبوه وإذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم وأخرج البزار وقال : سنده صالح والحاكم وصححه من حديث أبي الدرداء ورفعه بلفظ ما أحل الله في كتابه فهو حلال وما حرم فهو حرام وما سكت عنه فهو عفو فاقبلوا من الله عافيته فإن الله لم يكن لينسى وتلا وما كان ربك نسياً وأخرج الدارقطني من حديث أبي ثعلبة رفعه أن الله فرض فرائض فلا تضيعوها وحد حدوداً فلا تعتدوها وسكت عن أشياء رحمة لكم غير نسيان فلا تبحثوا عنها وفي الكتاب والسنة مما يتقرر به هذا الأصل الكثير الطيب . فيتوجه الاقتصار في رفع الحل على ماورد فيه دليل يخصه ، ومن التخصيص قوله تعالى في آخر تلك الآية : إلا أن يكون ميتة أو دماً مسفوحاً أو لحم خنزير وكذلك قوله تعالى : حرمت عليكم الميتة إلى آخر الآية .

فيحرم ما في الكتاب العزيز وهو قوله تعالى : حرمت عليكم الميتة أي ما مات حتف أنفه والدم وهو المسفوح صرح بذلك في الآية الأخرى والمفسر قاض على المبهم ، وهذا مما ينقض به قول القائل المبهم على إبهامه والمفسر على تفسيره . فإنهم اتفقوا في هذه الآية على التقييد ولحم الخنزير وكل شئ من الخنزيز حرام ، وتخصيص اللحم بالذكر لأنه يقصد في العادة ، والخنزير حيوان مسخ بصورته قوم . ولم يزل نوح ومن بعده من الأنبياء يحرمون الخنزير ويأمرون بالتبعد عنه إلى تنزل عيسى عليه السلام فيقتله ، ويشبه أن الخنزير كان يأكله قوم فنطقت الشرائع بالنهي عنه . وهجر أمره أشد ما يكون . وما أهل لغير الله به أي ذكر اسم غير الله عند ذبحه والمنخنقة هي التي تختنق فتموت والموقوذة هي المقتولة بالعصا والمتردية هي التي تتردى من مكان عال فتموت والنطيحة هي التي تنطحها أخرى فتموت وما أكل السبع يريد ما بقي مما أكل السبع . لأنه ضبط المذبوح الطيب بما قصد إزهاق الروح باستعمال المحدد في حلفه أو لبته فجر ذلك إلى تحريم الأشياء إلا ما ذكيتم أي ما أدركتم من هذه الأشياء وفيه حياة مستقرة فذبحتموه أما ما صار إلى حالة المذبوح فهو في حكم الميتة وما ذبح على النصب قيل : مفرد كعنق ، وقيل : جمع نصاب وهو الشئ المنصوب من حجر ونحوه إمارة للطاغوت . والجمع بينه وبين ما أهل لغير الله به يدل على الفرق بينهما وذلك لأن المذبوح عند النصب قصد به تعظيم الطاغوت دلالة وإن لم يتلفظ بإسمه فهو بمنزلة ما أهل الغير الله به وأن تستقسموا بالأزلام ذلكم فسق إلى قوله فمن اضطر في مخمصة غير متجانف لإثم فإن الله غفور رحيم قلت قد اتفق المسلمون على ذلك في الجملة وإن كان لهم في التفاصيل اختلاف .

وكل ذي ناب من السباع لخروج طبيعتها من الاعتدال وبشكاسة أخلاقها وقسوة قلوبها لحديث أبي ثعلبة الخشني عند مسلم ومالك وغيره أن رسول الله () قال كل ذي ناب من السباع فأكله حرام وفي الباب أحاديث في الصحيحين وغيرهما . والمراد بالناب السن الذي خلف الرباعية جمعه أنياب . وكل ذي ناب يتقوى به ويصاد ، وقال في النهاية : هو ما يفترس الحيوان ويأكل قسراً كالأسد والذئب والنمر ونحوها . قال في القاموس : السبع بضم الباء المفترس من الحيوان انتهى . وأراد بذي ناب ما يعدو بنابه على الناس وأموالهم مثل : الذئب والأسد والكلب والفهد والنمر وعلى هذا أهل العلم . إلى أن الشافعي ذهب إلى إباحة الضبع والثعلب . وقال أبو حنيفة : هما حرامان كسائر السباع . أقول : قد قيل أنه لا ناب للضبع وأن جميع أسنانها عظم واحد كصفحة نعل الفرس كذا قال ابن رسلان في شرح السنن . وعلى تسليم أن لها ناباً فيخصصها من حديث كل ذي ناب حديث جابر فإنه قيل له : الضبع صيد قال : نعم . فقال له السائل آكلها ؟ قال نعم . فقال له : أقاله رسول الله () ؟ قال : نعم أخرجه أبو داود وأبن ماجه والنسائي والترمذي وصححه. وصححه أيضاً البخاري وابن حبان وابن خزيمة والبيهقي . ولا يعارض هذا الحديث الصحيح ما أخرجه الترمذي من حديث خزيمة بن جزء قال : سألت رسول الله () عن الضبع فقال : أو يأكل الضبع أحد وفي رواية ومن يأكل الضبع لأن في إسناده عبد الكريم أبا أمية وهو متفق على ضعفه والراوي عنه اسمعيل بن مسلم وهو ضعيف .

وكل ذي مخلب من الطير لحديث ابن عباس عند مسلم وغيره قال : نهى رسول الله () عن كل ذي ناب من السباع وكل ذي مخلب من الطير والمخلب بكسر الميم وفتح اللام . قال أهل اللغة : المراد به ما هو في الطير بمنزلة الظفر للإنسان ، ويباح منه الحمام والعصفور لأنهما من المستطاب .

و من ذلك الحمر الإنسية وكان كثير من أهل الطباع السليمة من العرب يحرمونه ، ويشبه الشياطين وهو يرى الشيطان فينهق وهو قوله () إذا سمعتم نهيق الحمار فتعوذوا بالله من الشيطان فإنه رأى شيطاناً ويضرب به المثل في الحق والهوان . وقد حرمه من العرب أذكاهم فطرة وأطيبهم نفساً كما في حديث البراء بن عازب في الصحيحين وغيرهما أنه () نهى يوم خيبر عن لحوم الحمر الإنسية وفيهما من حديث ابن عمر وأبي ثعلبة الخشني نحوه . وفي الباب غير ذلك ، وقد ذهب إلى ذلك جمهور العلماء . قلت : وأما الحمار الوحشي فاتفقوا على إباحته كذا في المسوى . وأهدي له () الحمار الوحشي فأكله كذا في الحجة البالغة .

و من ذلك الجلالة قبل الإستحالة لحديث ابن عمر عند أحمد وأبو داود وأبن ماجه والترمذي وحسنه قال : نهى رسول الله () عن أكل الجلالة وألبانها وأخرج أحمد وأبو داود والنسائي والترمذي وابن حبان والحاكم والبيهقي وصححه الترمذي وابن دقيق العيد من حديث ابن عباس النهي عن أكل الجلالة وشرب لبنها وأخرج أحمد والنسائي والحاكم والدارقطني والبيهقي من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده نحو ذلك . وفي الباب غير ذلك . وقد ذهب إلى ذلك أحمد بن حنبل والثوري والشافعي ة . وذهب بعض أهل العلم إلى الكراهة فقط . وظاهر النهي التحريم . والعلة تغير لحمها ولبنها فإذا زالت العلة بمنعها عن ذلك حتى يزول الأثر فلا وجه للتحريم لأنها حلال بيقين. إنما حرمت لمانع وقد زال . قال في الحجة البالغة : الجيفة وما تأثر منها خبيث في جميع الأمم والملل فإذا تميز الخبيث من غيره ألقي الخبيث وأكل الطيب وإن لم يكن التميز حرم أكله . ودل الحديث على حرمة كل نجس ومتنجس . ونهى () عن أكل الجلالة وألبانها لأنها لما شربت أعضاؤها النجاسة وانتشرت في أجزائها كان حكمها حكم النجاسات ، أو حكم من يتعيش بالنجاسة .

أقول : الإستحالة مطهرة والأولى أن يقال في طهارة ما استحال أن العين التي حكم الشارع بنجاستها لم تبق إسماً ولا صفة فإن حكمه بنجاسة العذرة مقيد بكونها عذرة فإذا صارت رماداً فليست بعذرة . فمن ادعى بقاء النجاسة مع ذهاب الإسم والصفة فعليه الدليل .

و من ذلك الكلاب ولا خلاف في ذلك يعتد به . وهو مستخبث وقد وقع الأمر بقتله عموماً وخصوصاً . وقد نهى النبي () عن أكل ثمنه كما تقدم وسيأتي . وتقدم أن الله إذا حرم شيئاً حرم ثمنه . وقد جعله بعضهم داخلاً في ذوات الناب من السباع . قال في الحجة البالغة : ويحرم الكلب والسنور لأنهما من السباع ويأكلان الجيف والكلب شيطان .

و من ذلك الهر لحديث جابر عن أبو داود وأبن ماجه والترمذي أن النبي () نهى عن أكل الهر وأكل ثمنها وفي إسناده عمر بن زيد الصنعاني وهو ضعيف . لكن يشد من عضده ما ثبت من النهي عن أكل ثمن الكلب والسنور وهو في الصحيح وقد تقدم . ولا فرق بين الوحشي والأهلي ، وللشافعية وجه في حل الوحشي .

و من ذلك ما كان مستخثاً لقوله تعالى : ويحرم عليهم الخبائث فما استخبثه الناس من الحيوانات لا لعلة ولا لعدم إعتياد بل لمجرد الإستخباث فهو حرام . وإن استخبثه البعض دون البعض كان الإعتبار بالأكثر ، كحشرات الأرض ، وكثير من الحيوانات التي ترك الناس أكلها ، ولم ينهض على تحريمها دليل يخصها ، فإن تركها لا يكون في الغالب إلا لكونها مستخبثة فتندرج تحت قوله ويحرم عليهم الخبائث . وقد أخرج أبو داود عن ملقام بن تلب قال صحبت النبي () فلم أسمع لحشرات الأرض تحريماً وقد قال البيهقي : أن إسناده غير قوي . وقال النسائي  : ينبغي أن يكون ملقام بن تلب ليس بالمشهور . وهذا الحديث ليس فيه ما يخالف الآية ، وغايته عدم سماعه لشئ من النبي () وهو لا يدل على العدم . وقد أخرج ابن عدي والبيهقي من حديث ابن عباس أن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم نهى عن أكل الرخمة وفي إسناده خارجة بن مصعب وهو ضعيف جداً فلا ينتهض للإحتجاج به . وأخرج أحمد وأبو داود من حديث عيسى بن نميلة الفزازي عن أبيه قال كنت عند ابن عمر فسئل عن أكل القنقذ فتلا هذه الآية قل لا أجد في ما أوحي إلي محرما على طاعم يطعمه الآية . فقال شيخ عنده : سمعت أبا هريرة يقول ذكر عند النبي () فقال : خبيثة من الخبائث . فقال ابن عمر : إن كان قاله رسول الله () فهو كما قال . وعيسى بن نميلة ضعيف فلا يصلح الحديث لتخصيص القنفذ من أدلة الحل العامة . وقد قيل أن من أسباب التحريم الأمر بقتل الشئ كالخمس الفواسق الوزغ ونحو ذلك ، والنهي عن قتله كالنملة والنحلة والهدهد والصرد والضفدع ونحو ذلك ، ولم يأت عن الشاعر ما يفيد تحريم أكل ما أمر بقتله أو نهي عن قتله حتى يكون الأمر والنهي دليلين على ذلك ، ولا ملازمة عقلية ولا عرفية . فلا وجه لجعل ذلك أصلاً من أصول التحريم بل إن كان المأمور بقلته أو المنهى عن قتله مما يدخل في الخبائب كان تحريمه بالآية الكريمة ، وإن لم يكن من ذلك كان حلالاً عملاً بما أسلفنا من أصالة الحل وقيام الأدلة الكلية على ذلك ولهذا قلنا :

وما عدا ذلك فهو حلال قال الشافعي  : ما لم يرد فيه نص تحريم ولا تحليل ولا أمر بقتله ولا نهي عن قتله فالمرجع فيه إلى العرب من سكان البلاد والقرى دون أجلاف البوادي ، فإن استطابته العرب أو سمته بإسم حيوان حلال ، فهو حلال وإن استخبثته أو سمته بإسم حيوان حرام فهو حرام . فأما ما أمر الشرع بقتله أو نهى عن قتله فلا يكون حلالاً ، فقد قال النبي () خمس يقتلن في الحل والحرم الحديث وأمر بقتل الوزغ ونهى عن قتل أربعة من الدواب النملة ، والنحلة ، والصرد ، والهدهد ، وبالجملة : فتحل الطيبات وتحرم الخبائث لقوله تعالى ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث والطيبات ما تستطيبه العرب وتستلذه من غير أن ورد بتحريمه نص من كتاب أو سنة . قال الماتن في حاشية الشفاء : أن القول بكراهية أكل الأرنب لا مستند له بخلاف الضب فإنه قد ورد النهي عن أكله كما أخرجه أبو داود . وثبت في صحيح مسلم أنه () قال : إن الله غضب على سبط من بني اسرائيل فمسخهم دواب ولا أدري لعل هذا منها والنهي حقيقة في التحريم لولا ما ثبت في الصحيحين من حديث جماعة من الصحابة أن النبي () أذن لهم بأكل الضب فقال لهم كلوه فإنه حلال ولكن ليس من طعامي فإن هذا الحديث يصرف النهي عن حقيقته إلى مجازه وهو الكراهة . وحديث تردده () في كونه ممسوخاً مؤيد لذلك وأما أكل التراب فلم يصح في المنع منه شئ لكنه من أسباب العلل الصعبة التي يتأثر عنها إنحلال البنية وقد نهى الله سبحانه عن قتل الأنفس

باب الصيد

وكان الاصطياد ديدناً للعرب وسيرة فاشية فيهم حتى كان ذلك أحد المكاسب التي عليها معاشهم فأباحه النبي () .

ما صيد بالسلاح الجارح والجوارح كان حلالاً إذا ذكر اسم الله عليه لحديث أبي ثعلبة الخشني في الصحيحين قال : قلت يا رسول الله : أنا بارض صيد أصيد بقوسي وبكلبي المعلم وبكلبي الذي ليس بمعلم فما يصلح لي ؟ فقال : ماصدت بقوسك فذكرت إسم الله عليه فكل ، وما صدت بكلبك المعلم فذكرت إسم الله عليه فكل ، وما صدت بكلبك غير المعلم فأدركت ذكائه فكل وفي الصحيحين من حديث عدي بن حاتم قال : قلت يارسول الله : إني أرسل الكلاب المعلمة فيمسكن علي وأذكر إسم الله قال : إذا أرسلت كلبك المعلم وذكرت إسم الله فكل ما أمسك عليك قلت : وأن قتلن ؟ قال : وإن قتلن ما لم يشركها كلب ليس معها قال : قلت فإني أرمي بالمعراض الصيد فأصيد قال : إذا رميت بالمعراض فخزق فكل وإن أصابه بعرضه فلا تأكل وفي رواية إذا أرسلت كلبك فاذكر إسم الله فإن أمسك عليك فأدركته حياً فاذبحه وإن أدركته قد قتل ولم يأكل منه فكله فإن أخذ الكلب ذكاة وفي لفظ من حديثه عند أحمد وأبو داود قلت : وإن قتل ؟ قال : وإن قتل ولم يأكل منه شيئاً فإنما أمسكه عليك وفي الصحيحين من حديثه فكل مما أمسكن عليك إلا أن يأكل الكلب فلا تأكل فإني أخاف أن يكون إنما أمسك على نفسه وفي حديث ابن عباس عند أحمد قال : قال رسول الله () : إذا أرسلت الكلب فأكل من الصيد فلا تأكل فإنما أمسكه على نفسه فإذا أرسلته فقتل ولم يأكل فكل إنما أمسكه على صاحبه وقد أخرج أحمد وأبو داود من حديث عبد الله بن عمر وأن أبا ثعلبة الخشبي قال : يا رسول الله إن لي كلاباً مكلبة فافتني في صيدها قال : إن كانت لك كلاب مكلبة فكل مما أمسكت عليك فقال يا رسول الله : ذكي وغير ذكي قال : ذكي وغير ذكي قال : وإن أكل منه قال يا رسول الله : أفتني في قوسي قال : كل ما أمسك عليك قوسك قال : ذكي وغير ذكي . قال وغير ذكي قال : فإن تغيب عني قال : وإن تغيب عنك ما لم يصل يعني يتغير أو تجد فيه أثر غير سهمك وقد قال ابن حجر : أنه لا بأس بإسناده وفيه نظر لأن في إسناده داود بن عمر الأودي الدمشقي وفيه مقال وخلاف . وقد أخرج نحو هذا الحديث أبو داود من حديث أبي ثعلبة نفسه ولا ينتهض هذا لمعارضة ما في الصحيحين من النهي عن أكل ما أكل منه الكلب . وأخرج أحمد وأبو داود من حديث عدي بن حاتم أن رسول الله () قال : ما علمت من كلب أو باز ثم أرسلته وذكرت إسم الله فكل ما أمسك عليك وقد أكل () من حمار الوحش الذي صاده أبو قتادة طعناً برمحه وهو في الصحيح وقد تقدم في الحج . وقد ذكر الله في كتابه العزيز تحليل ما صيد بالجوارح فقال : وما علمتم من الجوارح الآية . وأباح الأكل فقال : فكلوا مما أمسكن عليكم وقد دل ما ذكرناه من هذه الأدلة على ما اشتمل عليه المتن من أن ما صيد بالجارح والجوارح كان حلالاً إذا ذكر إسم الله عليه .

وما صيد بغير ذلك فلا بد من التذكية وقد نزل () المعراض إذا أصاب فخزق منزلة الجارح واعتبر مجرد الخزق كما في حديث عدي بن حاتم المذكور وفي لفظ لأحمد من حديث عدي قال : قلت يارسول الله : إنا قوم نرمي فما يحل لنا قال : يحل لكم ما ذكيتم وما ذكرتم إسم الله عليه فخرقتم فكلوا فدل على أن المعتبر مجرد الخزق وإن كان القتل بمثقل فيحل ما صاده. من يرمي بهذه البنادق الجديدة التي يرمي بها بالبارود والرصاص لأن الرصاص تخزق خزقاً زائداً على خزق السلاح فلها حكمه وإن لم يدرك الصائد بها ذكاة الصيد إذا ذكر إسم الله على ذلك وعبارة الماتن في حاشية الشفاء .

أقول : ومن جملة ما يحل الصيد به من الآلات هذه البنادق الجديدة التي يرمي بها بالبارود والرصاص فإن الرصاصة يحصل بها خزق زائد على خزق السهم والرمح والسيف ولها في ذلك عمل يفوق كل آلة . ويظهر لك ذلك بأنك لو وضعت ريشاً أو نحوه فوق رماد دقيق أو تراب دقيق وغرزت فيه شيئاً يسيراً من أصلها ثم ضربتها بالسيف المحدد ونحو ذلك من الآلات لم يقطعها وهي على هذه الحالة ولو رميتها بهذه البنادق لقطعتها فلا وجه لجعلها قاتلة بالصدم لا من عقل ولا من نقل . وما روي من النهي عن أكل ما رمي بالبندقة كما في رواية من حديث عدي بن حاتم عند أحمد بلفظ ولا تأكل من البندقة إلا ما ذكيت فالمراد بالبندقة هنا هي التي تتخذ من طين فيرمى بها بعد أن تيبس . وفي صحيح البخاري قال ابن عمر في المقتولة بالبندقية تلك الموقوذة وكرهه سالم والقاسم ومجاهد وإبراهيم وعطاء والحسن . وهكذا ما صيد بحصى الخذف فقد ثبت في الصحيحين وغيرهما من حديث عبد الله بن المغفل أن رسول الله () نهى عن الخذف وقال : أنها لا تصيد صيداً ولا تنكأ عدواً لكنها تكسر السن وتفقأ العين ومثل هذا ما قتل بالرمي بالحجارة غير المحدودة إذا لم تخزق فإنه وقيذ لا يحل وأما إذا خزقت حل . قال في المسوى : يحل ما اصطاد بكلبه إذا ذكر إسم الله عليه وعند إرساله وكان الكلب معلماً قال تعالى : وما علمتم من الجوارح مكلبين تعلمونهن مما علمكم الله فكلوا مما أمسكن عليكم واذكروا اسم الله عليه . والتعليم هو أن يوجد فيه ثلاثة أشياء : إذا أشليت استشلت ، وإذا أخذت الصيد أمسكت ولم تأكل . فإذا وجد ذلك منها مراراً وأقله ثلاث مرات كانت معلمة يحل صيدها . وعلى هذا كله أهل العلم في الجملة . وأكثر أهل العلم على أن المراد بالجوارح الكواسب من سباع البهائم كالفهد والكلب ، ومن سباع الطير كالبازي والصقر مما يقبل التعليم فيحل صيد جميعها . والمكلب هو الذي يغري الكلاب على الصيد ويعلمها فكلوا مما أمسكن أراد أن الجارحة المعلمة إذا جرحت بإرسال صاحبها فأخذت الصيد وقتلته كان حلالاً . قلت : وهذا هو مذهب مالك ، والقول القديم للشافعي ثم تعقبه الشافعي بحديث عدي ابن حاتم المذكور وهو مذهب أبي حنيفة ، وسمع مالك أهل العلم يقولون في البازي والعقاب والصقر وما أشبه ذلك أنه إذا كان معلماً يفقه كما تفقه الكلاب المعلمة فلا بأس بأكل ما قتلوه مما صادت إذا ذكر إسم الله على إرسالها . قال مالك : الأمر المجتمع عليه عندنا أن المسلم إذا أرسل كلب المجوسي الضاري فصاد أو قتل أنه إذا كان معلماً فأكل ذلك الصيد حلال لا بأس به وإن لم يذكه المسلم وإنما مثل ذلك مثل المسلم يذبح بشفرة المجوسي أو يرمي بقوسه أو بنبله فيقتل بها فصيده ذلك وذبيحته حلال لا بأس بأكله . قال مالك : إذا أرسل المجوسي كلب المسلم الضاري على صيد فأخذه فإنه لا يؤكل ذلك الصيد إلا أن يذكي ، وإنما مثل ذلك قوس المسلم ونبله يأخذها المجوسي فيرمي بها الصيد فيقتله ، وبمنزلة شفرة المسلم يذبح به المجوسي فلا يحل أكل شئ من ذلك انتهى .

وإذا شارك الكلب المعلم كلب آخر لم يحل صيدهما لما تقدم في حديث عدي من قوله () : ما لم يشركها كلب ليس معها وفي لفظ له في الصحيحين قال : قلت يا رسول الله إني أرسل كلبي وأسمي قال : إن أرسلت كلبك وسميت فأخذ فقتل فكل ، وإن أكل منه فلا تأكل ، فإنما أمسك على نفسه . قلت : أني أرسل كلبي أجد معه كلباً لا أدري أيهما أخذه قال فلا تأكل فإنما سميت على كلبك ولم تسم على غيره وفي لفظ له فإن وجدت مع كلبك كلباً غيره وقد قتل فلا تأكل فإنك لا تدري أيهما قتله .

وإذا أكل الكلب المعلم ونحوه من الصيد لم يحل فإنما أمسك على نفسه لما تقدم من الأدلة على ذلك وتقدم أيضاً ترجيحها على حديث عبد الله بن عمرو .

وإذا وجد الصيد بعد وقوع الرمية فيه ميتاً ولو بعد أيام في غيرماء كان حلالاً ما لم ينتن أو يعلم أن الذي قتله غير سهمه لحديث أبي ثعلبة الخشني عن النبي () قال : إذا رميت سهمك فغاب ثلاثة أيام وأدركته فكله ما لم ينتن أخرجه مسلم وغيره . وفي الصحيحين من حديث عدي بن حاتم قال سألت رسول الله () عن الصيد قال : إذا رميت سهمك فاذكر إسم الله فإن وجدته قد قتل فكل إلا أن تجده قد وقع في ماء فإنك لا تدري الماء قتله أو سهمك وفي لفظ من حديثه لأحمد والبخاري عن النبي () قال : إذا رميت الصيد فوجدته بعد يوم أو يومين ليس به إلا أثر سهمك فكل وإن وقع في الماء فلا تأكل وفي لفظ لمسلم نحوه وفي لفظ للبخاري من حديثه إنا نرمي الصيد فنقتفي أثره اليومين والثلاثة ثم نجده ميتاً وفيه سهمه قال : يأكل إن شاء وفي لفظ للترمذي وصححه قال : قلت يارسول الله : أرمي الصيد فأجد فيه سهمي من الغد قال : إذا علمت أن سهمك قتله ولم تر فيه أثر سبع فكل قلت : وعلى هذا أهل العلم في الجملة

باب الذبح

هو ما أنهر الدم أي أساله وفرى أي قطع الأوداج وهما عرقان بينهما الحلقوم .

وذكر إسم الله عليه ولو بحجر أو نحوه كخشب وغيره ما لم يكن سناً أو ظفراً لحديث رافع بن خديج في الصحيحين وغيرهما قال : قلت يارسول الله : إنا نلقى العدو غداً وليس معنا مدي فقال النبي () : ما أنهر الدم وذكر إسم الله عليه فكلوا ما لم يكن سناً أو ظفراً سأحدثكم عن ذلك أما السن فعظم وأما الظفر فمدي الحبشة وأخرج أبو داود من حديث ابن عباس وأبي هريرة قالا : نهى رسول الله () عن شريطة الشيطان ، وهي التي تذبح فتقطع الجلد ولا تفري الأوداج وفي إسناده عمرو بن عبد الله الصنعاني وهو ضعيف . وأخرج أحمد والبخاري من حديث كعب بن مالك أنها كانت لهم غنم ترعى بسلع فأبصرت جارية لنا بشاة من غنمنا موتاً فكسرت حجراً فذبحتها فقال لهم لا تأكلوا حتى أسأل رسول الله () أو أرسل إليه من يسأله عن ذلك وأنه سأل رسول الله () عن ذلك أو أرسل غليه فأمره بأكلها وفيه دليل على أن ذبح النساء والرقيق جائز وعليه أهل العلم . وأخرج أحمد والنسائي وأبن ماجه من حديث زيد بن ثابت أن ذئباً نيب في شاة فذبحوها بمروة فرخص لهم رسول الله () في أكلها وأخرج أحمد وأبو داود والنسائي وأبن ماجه والحاكم وابن حبان من حديث عدي بن حاتم قال : قلت يا رسول الله : إنا نصيد الصيد فلا نجد سكيناً إلا الظرار وشقة العصا فقال () : أمر الدم بما شئت واذكر اسم الله عليه والظرار الحجر أو المدر . وأخرج البخاري وغيره من حديث عائشة أن قوماً قالوا يارسول الله : إن قوماً يأتوننا باللحم لا ندري أذكر اسم الله عليه أم لا . فقال : سموا عليه أنتم وكلوا . قالت : وكانوا حديثي عهد بالكفر وهذا لا ينافي وجوب التسمية على الذابح بل فيه الترخيص لغير الذابح إذا شك في اللحم هل ذكر عليه إسم الله عند الذبح أم لا فإنه يجوز له أن يسمي ويأكل . وأما إستقبال القبلة فليس في السنة ما يدل على هذا فإن كان الدال على إستقبال القبلة هو قوله في الحديث فما وجههما فليس فيه أنه وجههما إلى القبلة ، بل المراد وجههما للذبح ، وقد تقرر أن حذف المتعلق مشعر بالعموم . وإن كان الإستدلال بقوله وجهت وجهي فكذلك أيضاً ليس فيه دلالة على ذلك . ولا أعلم دليلاً على مشروعية الإستقبال حال الذبح . قال الماتن في السيل الجرار : ليس على هذا دليل لا من كتاب ولا من سنة ولا من قياس . وما قيل من أن القول بندب الإستقبال في الذبح قياس على الأضحية فليس بصحيح لأنه لا دليل على الأصل حتى يصلح للقياس عليه بل النزاع فيه كائن كما هو كائن في الفرع . والندب حكم من أحكام الشرع فلا يجوز إثباته إلا بدليل تقوم به الحجة انتهى .

ويحرم تعذيب الذبيحة لحديث شداد بن أوس عن رسول الله () قال : إن الله كتب الإحسان على كل شئ فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة وليحد أحكم شفرته وليرح ذبيحته أخرجه أحمد ومسلم والنسائي وأبن ماجه . وأخرج أحمد وأبن ماجه من حديث ابن عمر أن رسول الله () أمر أن تحد الشفار وأن توارى عن البهائم. وقال : إذا ذبح أحدكم فليجهز أي يتمها . وفي إسناده ابن ليهعة وفيه مقال معروف قلت في اختيار أقرب طريق لإزهاق الروح اتباع داعية الرحمة وهي خلة يرضى بها رب العالمين ويتوقف عليها أكثر المصالح المنزلية والمدنية .

والمثلة بها لما ورد في تحريمها من الأحاديث الثابتة في الصحيح وغيره وهي عامة .

و تحريم ذبحها لغير الله لما ثبت عنه () من لعن من ذبح لغير الله كما في صحيح مسلم وغيره ، ولقوله تعالى : وما أهل به لغير الله وكان أهل الجاهلية يتقربون إلى الأصنام والنجوم بالذبح لأجلهم أما بالإهلال عند الذبح بأسمائهم ، وإما بالذبح على الأنصاب المخصوصة لهم فنهوا عن ذلك ، وهذا أحد مظان الشرك . وأما الذبح للسطان وهل هو داخل في عموم ما أهل به لغير الله أم لا ؟ فقد أجاب الماتن رحمه الله في بحث له . على ذلك بما لفظه : اعلم أن الأصل الحل كا صرحت به العمومات القرآنية والحديثية . فلا يحكم بتحريم فرد من الأفراد ، أو نوع من الأنواع إلا بدليل ينقل ذلك الأصل المعلوم من الشريعة المطهرة مثل : تحريم ما ذبح على النصب والميتة والمتردية والنطيحة والموقوذة وما أهل به لغير الله ولحم الخنزيز وكل شئ خرج من ذلك الأصل بدليل من الكتاب أو السنة المطهرة . كتحريم كل ذي ناب من السباع ومخلب من الطير وتحريم الحمر الأنسية . وقد ذهب جماعة من أهل العلم إلى أن أصول التحريم الكتاب والسنة والإجماع والقياس ، أو وقوع الأمر بالقتل أو النهي عنه ، أو الإستخباث أو التحريم على الأمم السالفة إذا لم ينسخ فلا بد للقائل بتحريم فرد من الأفراد ، أو نوع من الأنواع من إندراجه تحت أصل من هذه الأصول فإن تعذر عليه ذلك فليس له أن يتقول على الله ما لم يقل . فإن من حرم ما أحله الله كمن حلل ما حرم الله لا فرق بينهما ، وفي ذلك من الإثم ما لا يخفى على عارف . ولا شك أن البراءة الأصلية بمجردها كافية على ما هو الحق فكيف إذا انضم إليها من العمومات مثل : قوله تعالى : قل لا أجد في ما أوحي إلي محرما الآية وقوله : أحل لكم الطيبات وقوله : والطيبات من الرزق وقوله : كلوا من طيبات ما رزقناكم وقوله : هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعاً وقوله : يحل لهم الطيبات .

والحاصل : أن الواجب وقف التحريم على المنصوص على حرمته والتحليل على ما عداه . وقد صرح بذلك حديث سلمان عند الترمذي أن النبي () قال : الحلال ما أحل الله في كتابه والحرام ما حرم الله في كتابه وما سكت عنه فهو مما عفا عنه وأخرج أبو داود عن ابن عباس موقوفاً كان أهل الجاهلية يأكلون أشياء ويتركون أشياء تقذراً فبعث الله تعالى نبيه وأنزل كتابه فأحل حلاله وحرم حرامه فما أحل فهو حلال وما حرم فهو حرام وما سكت عنه فهو عفو وتلا قل لا أجد في ما أوحي إلي محرما وأخرج الترمذي وأبو داود من حديث قبيصة بن هلب عن أبيه قال سمعت رسول الله () وقد قال له رجل أن من الطعام طعاماً أتحرج منه فقال ضارعت النصرانية لا يختلجن في نفسك شئ إذا تقرر هذا فمسألة السؤال أعني ما ذبح من الأنعام لقدوم السلطان ، والإستدلال على تحريم ذلك بقول تعالى : وما أهل به لغير الله فاسد . فإن الإهلال رفع الصوت للصنم ونحوه . وذلك قول أهل الجاهلية باسم اللات والعزى كذا قال الزمحشري في الكشاف . والذابح عند قدوم السلطان لا يقول عند ذبحه بإسم السلطان ، ولو فرض وقوع ذلك كان محرماً بلا نزاع . ولكنه يقول باسم الله . وقد استدل على ذلك بما رواه أحمد و مسلم والنسائي من حديث أمير المؤمنين علي كرم الله وجهه أنه سمع النبي () يقول : لعن الله من ذبح لغير الله الحديث . وليس ذلك الإستدلال بصحيح . فإن الذبح لغير الله كما بينه شراح هذا الحديث من العلماء أن يذبح بإسم غير الله كمن ذبح للصنم أو للصليب أو لموسى أو لعيسى أو للكعبة أو نحو ذلك فكل هذا حرام ، ولا تحل هذه الذبيحة سواء كان الذابح مسلماً أو يهودياً أو نصرانياً كما نص على ذلك الشافعي وأصحابه . قال النووي في شرح مسلم : فإن قصد الذابح مع ذلك تعظيم المذبوح له وكان غير الله تعالى والعبادة له كان ذلك كفراً ، فإن كان الذابح مسلماً قبل ذلك صار بالذبح مرتداً انتهى . وهذا إذا كان الذبح بإسم أمر من تلك الأمور لا إذا كان لله وقصد به الإكرام لمن يجوز إكرامه ، فإنه لا وجه لتحريم الذبيحة ههنا كما سلف . وذكر الشيخ إبراهيم المروزي من أصحاب الشافعي أن ما يذبح عند إستقبال السلطان تقرباً إليه أفتى أهل بخارى بتحريمه لأنه مما أهل به لغير الله . قال الرافعي : هذا إنما يذبحونه استبشاراً بقدومه فهو كذبح العقيقة لولادة المولود ، ومثل هذا لا يوجب التحريم انتهى . وهذا هو الصواب . وفي روضة الإمام النووي من ذبح للكعبة تعظيماً لها لكونها بين الله أو لرسول الله لأنه رسول الله () فهذا لا يمنع الذبيحة بل تحل . قال : ومن هذا القبيل الذبح الذي يذبح عند استقبال السلطان إستبشاراً بقدومه فإنه نازل منزلة الذبح للعقيقة لولادة انتهى . وقد أشعر أول كلامه أن من ذبح للسلطان تعظيماً له لكونه سلطان الإسلام كان ذلك جائزاً مثل : الذبح له لأجل الإستبشار بقدومه إذ لا فرق بين ذلك وبين الذبح للكعبة تعظيماً لها لكونها بيت الله . وقد ذكر الدواري أن من ذبح للجن وقصد به التقرب إلى الله تعالى ليصرف عنه شرهم فهو حلال ، وإن قصد الذبح لهم فهو حرام انتهى . وهذا يستفاد منه حل ما ذبح لإ كرام السلطان بالأولى . وذلك هو الحق لما أسلفناه من أن الأصل الحل وأن الأدلة العامة قد دلت عليه وعدم وجود ناقل عن ذلك الأصل ، ولا مخصص لذلك العموم والله أعلم انتهى كلام الشوكاني وفيه دليل على التفرقة بين ما يذبح للتقرب إلى غير الله تعالى وبين ما يذبح لغيره من الإستبشار ونحوه ، كالذبح للعقيقة والوليمة والضيافة ونحوها . فالأول يحرم ، والثاني يحل . قال ابن حجر المكي في الزواجر : وجعل أصحابنا مما يحرم الذبيحة أن يقول باسم الله واسم محمد ، أو محمد رسول الله () بجر إسم الثاني ، أو محمد أن عرف النحو فيما يظهر ، أو أن يذبح كتابي لكنيسة أو لصليب أو لموسى أو لعيسى ، ومسلم للكعبة أو لمحمد () أو تقرباً لسلطان أو غيره أو للجن . فهذا كله يحرم المذبوح وهو كبيرة . قال : ومعنى ما أهل به لغير الله ما ذبح للطواغيت والأصنام قاله جمع . وقال آخرون : يعني ما ذكر عليه غير إسم الله . قال الفخر الرازي : وهذا القول أولى لأنه أشد مطابقة للفظ الآية . قال العلماء : لو ذبح مسلماً ذبيحة وقصد بذبحه التقرب بها إلى غير الله تعالى صار مرتداً وذبيحته ذبيحة مرتد انتهى كلام الزواجر . وقال صاحب الروض : إن المسلم إذا ذبح للنبي () كفر انتهى . قال الشوكاني في الدر النضيد : وهذا القائل من أئمة الشافعي ة ، وإذا كان الذبح لسيد الرسل () كفراً عنده فكيف الذبح لسائر الأموات انتهى . قال الشيخ الفاضل مفتي الديار النجدية عبد الرحمن بن حسن بن محمد عبد الوهاب بن سليمان بن علي في كتابه فتح المجيد شرح كتاب التوحيد في باب ما جاء في الذبح لغير الله : قال شيخ الإسلام تقي الدين أحمد بن تيمية رحمه الله في كتابه اقتضاء الصراط المستقيم : في الكلام على قوله تعالى : وما أهل به لغير الله أن الظاهر أنه ما ذبح لغير الله مثل أن يقال : هذا ذبيحة لكذا . وإذا كان هذا هو المقصود فسواء لفظ به أو لم يلفظ وتحريم هذا أظهر من تحريم ما ذبحه للحم وقال فيه باسم المسيح ونحوه . كما أن ما ذبحناه متقربين به إلى الله كان أزكى وأعظم مما ذبحناه للحم وقلنا عليه باسم الله . فإذا حرم ما قيل فيه باسم المسيح أو الزهرة فلأن يحرم ما قيل فيه لأجل المسيح أو الزهرة وقصد به ذلك أولى ، فإن العبادة لغير الله أعظم كفراً من الإستعانة بغير الله . وعلى هذا فلو ذبح لغير الله متقرباً إليه يحرم وإن قال فيه باسم الله كما قد يفعله طائفة من منافقي هذه الأمة الذين قد يتقربون إلى الكواكب بالذبح والبخور ونحو ذلك . وإن كان هؤلاء مرتدين لا تباح ذبيحتهم بحال لكونه يجتمع في الذبيحة ما نعان : الأول أنه مما أهل لغير الله به . والثاني أنها ذبيحة مرتد . ومن هذا الباب ما يفعله الجاهلون بمكة من الذبح للجن ، ولهذا روي عن النبي () أنه نهى عن ذبائح الجن انتهى . قال الزمخشري : كانوا إذا اشتروا داراً أو بنوها أو إستخرجوا عيناً ذبحوا ذبيحة خوفاً أن تصيبهم الجن فأضيفت إليهم الذبائح لذلك انتهى كلام فتح المجيد . وقد نقل الشوكاني أيضاً العبارة المتقدمة لشيخ الإسلام في رسالته الدر النضيد واستدل به على تحريم ما ذبح لغير الله تعالى سواء لفظ به الذابح عن الذبح أو لم يلفظ وهذا هو الحق .

وإذا تعذر الذبح لوجه جاز الطعن والرمي وكان ذلك كالذبح لحديث أبي العشراء عن أبيه قلت يا رسول الله : أما تكون الذكاة إلا في الحلق واللبة قال : لو طعنت في فخذها لا جزأك أخرجه أحمد وأهل السنن وفي إسناده مجهولون ، وأبو العشراء لا يعرف من أبوه ولم يرو عنه غير حماد بن سلمة فهو مجهول فلا تقوم الحجة بروايته . والذي يصلح للإستدلال به حديث رافع بن خديج في الصحيحين وغيرهما قال : كنا مع رسول الله () في سفر فند بعير من إبل القوم ولم يكن معهم خيل فرماه رجل بسهم فحبسه فقال رسول الله () إن لهذه البهائم أوابد كأوابد الوحش فما فعل منها هذا فافعلوا به هكذا .

وذكاة الجنين ذكاة أمه لحديث أبي سعيد عند أحمد وأبن ماجه وأبو داود والترمذي والدارقطني وابن حبان وصححه عن النبي () أنه قال في الجنين : ذكاته ذكاة أمه وللحديث طرق يقوي بعضها بعضاً . وفي الباب أحاديث عن جماعة من الصحابة تشهد له . قلت : وعليه الشافعي ووافقه محمد بن الحسن . وقال أبو حنيفة : لا يجوز حتى يخرج حياً فيذكي .

أقول : وأما التمسك بالآية الكريمة فلا يخفى أنه من معارضة الخاص بالعام وقد تقرر أن الخاص مقدم على العام . وقد قال ابن المنذر ، أنه لم يرو عن أحمد من الصحابة ولا من العلماء أن الجنين لا يؤكل إلا باستئناف الذكاة فيه إلا ماروي عن أبي حنيفة رحمه الله قال ابن القيم : وردت السنة الصحيحة الصريحة المحكمة بأن ذكاة الجنين ذكاة أمه بأنها خلاف الأصول وهو تحريم الميتة فيقال الذي جاء على لسانه تحريم الميتة استثنى السمك والجراد من الميتة فكيف وليست بميتة فإنها جزء من أجزاء الأم ، والذكاة قد أتت على جميع أعضائها فلا يحتاج أن يفرد كل جزء منها بذكاة ، والجنين تابع للأم جزء منها فهذا هو مقتضى الأصول الصحيحة ولو لم ترد السنة بالإباحة فكيف وقد ورد بالإباحة الموافقة للقياس والأصول فقد إتفق النص والأصل والقياس ولله الحمد .

وما أبين من الحي فهو ميتة لحديث ابن عمر أن النبي () قال : ما قطع من بهيمة وهي حية فما قطع منها فهو ميتة أخرجه أبن ماجه والبزار والطبراني وقد قيل : أنه مرسل هذا يدل على تحريم الأكل ولا ملازمة بينه وبين النجاسة كما عرفت غير مرة . وأخرج أحمد والترمذي وأبو داود والدارمي من حديث أبي واكد الليثي عن النبي () من قطع من البهيمة وهي حية فهو مية وأخرج أبن ماجه والطبراني وابن عدي نحوه من حديث تميم الداري . قلت : وكان أهل الجاهلية يجبون أسنمة الإبل ويقطعون أليات الغنم فنهوا عن ذلك لأنه فيه تعذيباً ومناقضة لما شرع الله تعالى من الذبح .

وتحل ميتتان ودمان السمك والجراد وعليه أهل العلم .

والكبد والطحال وهما عضوان من أعضاء بدن البهيمة لكنهما يشبهان الدم فأزاح النبي () الشبهة فيهما وليس في الحوت والجراد دم مسفوح فلذلك لم يشرع فيهما الذبح ، ووجهه حديث ابن عمر عند أحمد وأبن ماجه والدارقطني والشافعي والبيهقي قال : قال رسول الله () : أحل لنا ميتتان ودمان فأما الميتتان فالحوت والجراد وأما الدمان فالكبد والطحال وفي إسناده عبد الرحمن بن زيد بن أسلم وهو ضعيف . وفي الصحيحين وغيرهما من حديث ابن أبي أوفى قال . غزونا مع رسول الله () سبع غزوات نأكل الجراد وفيهما أيضاً من حديث جابر أن البحر ألقى حوتاً ميتاً فأكل منه الجيش فلما قدموا قالوا للنبي () فقال : كلوا رزقاً أخرج الله لكم أطعمونا منه إن كان معكم فأتاه بعضهم بشئ وفي البخاري عن عمر في قوله تعالى : أحل لكم صيد البحر قال : صيده مااصطيد وطعامه ما رمى به . وفيه عن ابن عباس قال طعامه ميتته إلا ما قذرت منها . وفيه قال ابن عباس كل من صيد البحر صيد يهودي أو نصراني أو مجوسي انتهى . وإلى هذا ذهب الجمهور فقالوا : ميتة البحر حلال سواء ماتت بنفسها أو بالإصطياد . وذهبت الحنفية إلى أنه لا يحل إلا ما مات بسبب آدمي أو بإلقاء الماء له أو جزره عنه ، وأما ما مات أو قتله حيوان غير آدمي فلا يحل . واستدلوا بما أخرجه أبو داود من حديث جابر مرفوعاً بلفظ ما ألقاء البحر أو جزر عنه فكلوه وما مات فيه فطفا فلا تأكلوه وفي إسناده يحيى بن سليم وهو ضعيف الحفظ وقد روي من غير هذا الوجه وفيه ضعف . قلت : ظاهر القرآن والحديث إباحة ميتات البحر كلها والمراد منها كل ما يعيش في البحر ، فإذا أخرج منه كان عيشه عيش المذبوح كالسمك ، فكل ذلك حلال بأنواعه ولاحاجة إلى ذبحه سواء يؤكل مثله في البر كالبقر والغنم أولا يؤكل كالكلب والخنزير ، والكل سمك وإن اختلفت الصور بخلاف ما يعيش في الماء ، فإذا أخرج دام حياً ، فإن كان طائراً كالبط فذبح فحلال ولا يحل ميتتها . وإن كان غيرها كالضفدع والسرطان والسلحفاة وذوات السموم كالحية والعقرب فحرام وعليه الشافعي .

أقول : وعلى هذا فقوله تعالى : أحل لكم صيد البحر المراد منه ما يصطاد بالقصد والإختيار وقوله : وطعامه المراد منه ميتات البحر مما لم يصد بالإختيار كنى به عن الميتة كراهية لذكر الميتة في مقام التحليل . وقوله : متاعاً لكم إباحته لأهل الحضر . وقوله : وللسيارة المراد منه إباحته لأهل السفر . وقال أبو حنيفة : جميع حيوانات البحر حرام إلا السمك المعروف .

أقول : الحق أن كل حيوان بحري حلال على أي صورة كان أحل لكم صيد البحر هو الطهور ماؤه والحل ميتته فمن جاءنا بدليل يصلح لتخصيص هذا العموم قبلناه .

وتحل الميتة للمضطر لقوله تعالى : إلا ما اضطررتم إليه وقد ثبت تحليل الميتة عن الجوع من حديث أبي وافد الليني عند أحمد والطبراني برجال ثقات ، ومن حديث جابر بن سمرة عند أحمد وأبو داود بإسناد لا مطعن فيه ، ومن حديث الفجيع العامري عند أبو داود . وقد اختلف في المقدار الذي يحل تناوله . وظاهر الآية أنه يحل ما يدفع الضرورة لأن من اندفعت ضرورته فليس بمضطر . قال في المستوى : أما ذبائح أهل الكتاب فتحل بنص الكتاب وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم وطعامكم حل لهم أقول : معنى الآية باتفاق المفسرين ذبائح اليهود والنصارى حلال لكم وذبائحكم حلال لهم . قيل : أي فائدة في الحل لهم وهم كفار ليسوا من أهل الشرع . فقال الزجاج : معناه حلال لكم أن تطعموهم . وأقول معناه : حلال لهم إذا إلتزموا شريعتنا أكلوها . وكان اليهود يزعمون أن بني اسرائيل لا يحل لهم ذبائح العرب فبين الله تعالى أن الأحكام الشرعية لا تتفاوت بالنسبة إلى قوم دون قوم . وعليه أهل العلم أن ذبائح اليهود والنصارى حلال لنا ، وذبائح المجوس لا تحل . وفي الموطأ سئل ابن عباس عن ذبائح نصارى العرب فقال : لا بأس بها وتلا هذه الآية ومن يتولهم منكم فإنه منهم قلت عليه أبو حنيفة . وقال الشافعي  : لا تحل ذبيحة المنتصر بعد التحريف والنسخ والمشكوك فيه .

أقول : ذبائح جميع المسلمين على اختلاف نحلهم وتباين طرائقهم حلال لأن الله جل جلاله إنما نهانا عن أكل ما لم يذكر عليه اسمه وكل مسلم لا يذبح إلا ذاكراً لإسم الله تحقيقاً أو تقديراً على أي مذهب كان . وذبائح أهل الكتاب تابعة لتحليل أطعمتهم إما لصدق إسم الطعام عليها أو لأنها من الأدام اللاحق للطعام . ويؤيده أكله () للشاة التي أهدتها له اليهودية من خيبر بعد طبخها لها ولا نسلم أن ذبائحهم مما لم يذكر عليه اسم الله ، فإنهم يذبحون لله وليسوا كأهل الكفر من غيرهم .

فالحاصل : أن الذبح الذي تحل به الذبيحة ما في حديث رافع بن خديج بلفظ ما أنهر الدم وذكر اسم الله عليه فكلوا أخرجه الجماعة كلهم . وذبيحة المسلم على أي مذهب كان وفي أي بدعة وقع هي مما يذكر عليه اسم الله ، ومع الإلتباس هل وقعت التسمية من المسلم أولا قد دل الدليل على الحل لما أخرجه البخاري والنسائي وأبو داود وأبن ماجه من حديث عائشة قالت يا رسول الله : إن قوماً حديثو عهد بجاهلية يأتوننا باللحمان لا ندري أذكروا اسم الله عليها أم لم يذكروا أنأكل منها أم لا ؟ فقال رسول الله () : اذكروا إسم الله وكلوا فأمره () بإعادة التسمية مشعر بأن ذبيحة من لم يسم سواء كان مسلماً أو غيره مسلم حلال . ويحمل قوله تعالى : ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه على عدم الذكر الكلي عند الذبح وعند الأكل وهو الظاهر من نفي ذكر إسم الله . فاللحم إذا سمى عليه الآكل عند الأكل والذابح كافر لم يسم يكون مما ذكر عليه إسم الله تعالى وهذا من الوضوح بمكان ، ولا عبرة بخصوص السبب وهو كون عائشة كان سؤالها عن اللحمان التي يأتي بها من المسلمين من كان حديث عهد بالجاهلية . بل الاعتبار بعموم اللفظ كما تقرر في الأصول . والحق أن ذبيحة الكافر حلال إذا ذكر عليها إسم الله ولم يهل بها لغير الله كالذبح للأوثان ونحوها . فإن قلت الكافر لا يذكر إسم الله على الذبيحة وقد قال تعالى: ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه وقال : فكلوا مما أمسكن عليكم واذكروا اسم الله عليه وقال () : ما أنهر الدم وذكر اسم الله عليه فكلوه قلت : هذا لا يتم إلا بعد العلم بأن الكافر لا يذكر إسم الله على ذبيحته . وأما الإحتجاج لعدم اشتراط التسمية بحديث اللحمان المتقدم فليس فيه دليل على عدم إشتراط التسمية مطلقاً بل عدم اشتراطها عند الذبح . وأما حديث ذبيحة المسلم حلال ذكر إسم الله أو لم يذكر فهو إما مرسل أو موقوف فكيف ينتهض لمعارضة الكتاب العزيز ثم هو خاص بالمسلم والنزاع في الكافر . وكذلك الحديث الأول خاص بالمسلم لقوله : إن قوماً حديثو عهد بالجاهلية فلا يتم الإستدلال به على عدم التسمية مطلقاً .

وحاصل البحث : أنه إذا ذبح الكافر ذاكراً لإسم الله عز وجل غير ذابح لغير الله وأنهر الدم وفرى الأوداج فليس في الآية ما يدل على تحريم هذه الذبيحة الواقعة على هذه الصفة . فمن زعم أن الكافر خارج من ذلك بعد أن ذبح لله تعالى وسمي فالدليل عليه . وأما ذبح الكافر لغير الله فهذه الذبيحة حرام ولو كانت من مسلم . وهكذا إذا ذبح غير ذاكر لإسم الله عز وجل فإن إهمال التسمية منه كإهمال التسمية من مسلم حيث ذبحا جميعاً لله عز وجل . وإذا عرفت هذا لاح لك أن الدليل على من قال باشتراط إسلام الذابح لا على من قال بأنه لا يسقط ، فلا حاجة إلى الإستدلال على عدم الإشتراط بما لا دلالة فيه على المطلوب كالإحتجاج بقوله () لم ينه عن ذبائح المنافقين فإن المنافقين كان يعاملهم () معاملة المسلمين في جميع الأحكام عملاً بما أظهروه من الإسلام وجرياً على الظاهر. وأما ما يقال من حكاية الإجماع على عدم حل ذبيحة الكافر فدعوى الإجماع غير مسلمة وعلى تقدير أن لها وجه صحة فلا بد من حملها على ذبيحة كافر ذبح لغير الله أو لم يذكر إسم الله تعالى . وأما ذبيحة أهل الذمة فقد دل على حلها القرآن الكريم وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم ومن قال أن اللحم لا يتناوله الطعام فقد قصر في البحث ولم ينظر في كتب اللغة ولا نظر في الأدلة الشرعية المصرحة بأن النبي () أكل ذبائح أهل الكتاب كما في أكله () للشاة التي طبختها يهودية وجعلت فيها سماً والقصة أشهر من أن تحتاج إلى التنبيه عليها . ولا مستند للقول بتحريم ذبائحهم إلا مجرد الشكوك والأوهام التي يبتلي بها من لم يرسخ قدمه في علم الشرع . فإن قلت قد يذبحونه لغير الله أو بغير تسمية أو على غير الصفة المشروعة في الذبح . قلت : إن صح شئ من هذا فالكلام في ذبيحته كالكلام في ذبيحة المسلم إذا وقعت على أحد هذه الوجوه ، وليس النزاع إلا في مجرد كون كفر الكتابي مانعاً لا كونه أخذ بشرط معتبر إنتهى

باب الضيافة

يجب على من وجد ما يقرى به من نزل من الضيوف أن يفعل ذلك ، وحد الضيافة إلى ثلاثة أيام وما كان وراء ذلك فصدقة ، ولا يحل للضيف أن يثوي عنده حتى يخرجه ، وإذا لم يفعل القادر على الضيافة ما يجب عليه ، كان للضيف أن يأخذ من ماله بقدر قراه لحديث عقبة بن عامر في الصحيحين قال : قلت يا رسول الله إنك تبعثنا فننزل بقوم لا يقرونا فما ترى ؟ قال : إن نزلتم بقوم فأمروا لكم بما ينبغي للضيف فاقبلوا ، وإن لم يفعلوا فخذوا منهم حق الضيف الذي ينبغي لهم وفيهما من حديث أبي شريح الخزاعي عن رسول الله () من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه جائزته قال : وما جائزته يا رسول الله ؟ قال : يوم وليلة والضيافة ثلاثة أيام فما كان وراء ذلك فهو صدقة ولا يحل له أن يثوي عنده حتى يخرجه أي يضيق صدره . وأخرج أحمد وأبو دادو من حديث المقدام أنه سمع النبي () يقول : ليلة الضيف واجبة على كل مسلم فإن أصبح بفنائه محروماً كان ديناً له عليه إن شاء اقتضاه وإن شاء تركه وإسناده صحيح . وأخرج أحمد وأبو داود والحاكم من حديث أبي هريرة نحوه وإسناده صحيح وفي الباب أحاديث . وقد ذهب الجمهور إلى أن الضيافة مندوبة لا واجبة واستدلوا بقوله فليكرمه ضيفه جائزته قالوا : والجائزة هي العيطة والصلة وأصلها الندب . ولا يخفى أن هذا اللفظ لا ينافي الوجوب ، وأدلة الباب مقتضية لذلك . لأن التغريم لا يكون للإخلال بأمر مندوب ، وكذلك قوله واجبة فإنه نص في محل النزاع ، وكذلك قوله فما كان وراء ذلك فهو صدقة قال في المسوى : وفي قوله جائزته قولان : أحدهما يتكلف له في اليوم الأول بما اتسع له . ويقدم له في اليوم الثاني والثالث ما كان بحضرته ولا يزيد على عادته . وما كان بعد الثلاثة فهو صدقة ومعروف إن شاء فعل وإن شاء ترك . والثاني أن جائزته أن يعطيه ما يجوز به مسافر يوماً وليلة .

ويحرم أكل طعام الغير بغير إذنه لقوله تعالى ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل وكل مادل على تحريم مال الغير دل على ذلك لأنه مال . وإنما خص منه ما ورد فيه دليل يخصه . كالضيف إذا حرمه من يجب عليه ضيافته كما مر .

ومن ذلك حلب ماشيته وأخذ ثمرته وزرعه لا يجوز إلا بإذنه إلى أن يكون محتاجاً إلى ذلك فليناد صاحب الإبل أو الحائط فإن أجابه وإلا فليشرب وليأكل غير متخذ خبنة للأدلة العامة والخاصة . أما العامة فظاهر كالآية الكريمة ، وحديث خطبة الوداع ونحو ذلك . وأما الأدلة الخاصة فمثل : حديث ابن عمر في الصحيحين أن رسول الله () قال : لا يحلبن أحدكم ماشية أحد إلا بإذنه أيحب أحدكم أن يؤتى مشربته فينتثل طعامه وإنما تخزن لهم ضروع مواشيهم أطعمتهم فلا يحلبن أحد ماشية أحد إلا بإذنه وأخرج أحمد من حديث عمير مولى آبى اللحم قال : أقبلت مع سادتي نريد الهجرة حتى إذا دنونا من المدينة قال : فدخلوا وخلفوني في ظهرهم فأصابتني مجاعة شديدة قال : فمر بي بعض من يخرج من المدينة فقالوا : لو دخلت المدينة فأصبت من تمر حوائطها قال : فدخلت حائطاً فقطعت منه قنوين فأتاني صاحب الحائط وأتى بي رسول الله () وأخبره خبري وعلي ثوبان فقال لي : أيهما أفضل ؟ فأشرت إلى أحدهما فقال : خذه وأعط صاحب الحائط الآخر فخلى سبيلي وفي إسناده ابن لهيعة ، وله طريق آخرى عند أحمد وفي إسناده أيضاً أبو بكر بن يزيد بن المهاجر غير معروف الحال . وقد أعل هذا الحديث بأن في إسناده عبد الرحمن بن اسحق عن محمد بن زيد وهو ضعيف . وأخرج أحمد والترمذي وابن ماجة من حديث ابن عمر قال : سئل رسول الله () عن الرجل يدخل الحائط فقال : يأكل غير متخذ خبنة وأخرج أبو داود والترمذي وصححه من حديث سمرة أن النبي () قال : إذا أتى أحدكم على ماشية فإن كان فيها صاحبها فليستأذنه فإن أذن له فليحتلب وليشرب وإن لم يكن فيها أحد فليصوت ثلاث فإن أجابه أحد فليستأذنه فإن لم يجبه أحد فليحتلب وليشرب ولا يحمل وهو من سماع الحسن عن سمرة وفيه مقال معروف . وأخرج أحمد وأبن ماجه وأبو يعلي وابن حبان والحاكم من حديث أبي سعيد أن رسول الله () قال : إذا أتى أحدكم حائطاً فأراد أن يأكل فليناد صاحب الحائط ثلاثاً فإن أجابه وإلا فليأكل وإذا مر أحدكم بابل فأراد أن يشرب من ألبانها فليناد يا صاحب الإبل أو يا راعي الغنم فإن أجابه وإلا فليشرب وأخرج الترمذي وأبو داود من حديث رافع قال : كنت أرمي نخل الأنصار فأخذوني فذهبوا بي إلى رسول الله () فقال : يارافع لم ترمي نخلهم ؟ قال : قلت يا رسول الله : الجوع . قال : لا ترم وكل ما وقع أشبعك الله وأرواك وأخرج أبو داود والنسائي من حديث شرحبيل بن عباد في قصة مثل قصة رافع وفيها فقال رسول الله () لصاحب الحائط : ما علمت إذا كان جاهلاً ولا أطعمت إذا كان جائعاً والمراد بالخبنة ما يحمله الإنسان في حضنه وهي بضم الخاء المعجمة وسكون الباء الموحدة وبعدها نون ويمكن الجمع بين الأحاديث بأن تغريم النبي () لآبي اللحم لعدم المناداة منه . ولو فرضنا عدم صحة الجمع بهذا . كانت أحاديث الأذن عند الحاجة مع المناداة أرجح

باب آداب الآكل

فقد علم النبي () آداباً يتأدبون بها في الطعام كما ستأتي

تشرع للآكل التسمية لحديث عائشة عند أحمد وأبو داود وابن ماجة والنسائي والترمذي وصححه قالت : قال رسول الله () : إذا أكل أحدكم طعاماً فليقل بسم الله فإن نسي في أوله فليقل بسم الله على أوله وآخره وأخرج مسلم وغيره من حديث جابر سمع النبي () يقول : إذا دخل الرجل بيته فذكر الله عند دخوله وعند طعامه قال الشيطان لا مبيت لكم ولا عشاء وإذا دخل فلم يذكر الله عند دخوله قال الشيطان أدركتم المبيت فإذا لم يذكر الله عند طعامه قال أدركتم المبيت والعشاء وأخرج مسلم وغيره من حديث حذيفة بن اليمان قال : قال رسول الله () : إن الشيطان ليستحل الطعام الذي لم يذكر إسم الله عليه الحديث . وأخرج الترمذي عن عائشة قالت : كان رسول الله () يأكل طعاماً في ستة من أصحابه فجاء أعرابي فأكله بلقمتين فقال رسول الله () : إما أنه لو سمى لكفى لكم وقال حسن صحيح . وفي الباب أحاديث قلت وعليه أهل العلم . قال النووي : الأفضل أن يقول بسم الله الرحمن الرحيم فإن قال بسم الله حصلت السنة .

والأكل باليمين لحديث ابن عمر عند مسلم وغيره أن النبي () قال : لا يأكل أحدكم بشماله ولا يشرب بشماله فإن الشيطان يأكل بشماله ويشرب بشماله قلت : وعليه أهل العلم

ومن حافتي الطعام لا من وسطه لحديث ابن عباس عند أحمد وابن ماجة والترمذي وصححه أن النبي () قال : البركة تنزل في وسط الطعام فكلوا من حافتيه ولا تأكلوا من وسطه وأخرجه أبو داود بلفظ إذا أكل أحدكم طعاماً فلا يأكل من أعلى الصحفة ولكن ليأكل من أسفلها فإن البركة تنزل من أعلاه

ومما يليه لحديث عمر بن أبي سلمة في الصحيحين وغيرهما قال : كنت غلاماً في حجر النبي () وكانت يدي تطيش في الصحفة فقال لي : يا غلام سم الله وكل بيمينك وكل مما يليك

ويلعق أصابعه والصحفة لحديث أنس عند مسلم وغيره أن النبي () كان إذا طعم طعاماً لعق أصابعه الثلاث وقال : إذا وقعت لقمة أحدكم ، فليمط عنها الأذى وليأكلها ولا يدعها للشيطان ، وأمرنا أن نسلت القصعة ، وقال : إنكم لا تدرون في أي طعامكم البركة وفي الصحيحين من حديث ابن عباس أن النبي () قال : إذ أكل أحدكم طعاماً فلا يمسح يده حتى يلعقها وأخرج مسلم من حديث جابر أن النبي () أمر بلعق الأصابع والصحفة وقال : إنكم لا تدرون في أي طعامكم البركة قال في الحجة البالغة وقد اتفق لنا أنه زارنا ذات يوم رجل من أصحابنا فقربنا إليه شيئاً فبينا يأكل إذا سقطت كسرة من يديه وتدهدهت في الأرض ، فجعل يتبعها وجعلت تتباعد عنه حتى تعجب الحاضرون بعض العجب وكابد هو في تتبعها بعض الجهد ، ثم أنه أخذها فأكلها فلما كان بعد أيام تخبط الشيطان إنساناً وتكلم على لسانه فكان فيما تكلم إني مررت بفلان وهو يأكل فأعجبني ذلك الطعام فلم يطعمني منه شيئاً فخطفته من يده فنازعني حتى أخذه مني . وبينا يأكل أهل بيتنا أصول الجزر إذ تدهده بعضها ، فوثب إليه إنسان فأخذه وأكله ، فأصابه وجع في صدره ومعدته ثم تخبطه الشيطان . فأخبر على لسانه أنه كان أخذ ذلك المتدهده . وقد قرع أسماعنا شئ كثير من هذا النوع حتى علمنا أن هذه الأحاديث ليست من باب إرادة المجاز وإنما أريد به حقيقتها فمن العلم الذي أعطاه الله نبيه () حال الملائكة والشياطين وإنتشارهم في الأرض انتهى .

والحمد عند الفراغ والدعاء لحديث أبي أمامة عند البخاري وغيره أن النبي () كان إذا رفع مائدته قال : الحمد لله كثيراً طيباً مباركاً فيه غير مكفي ولا مودع ولا مستغني عنه ربنا وأخرج أحمد وأبو داود والترمذي وابن ماجة والنسائي والبخاري في التاريخ من حديث أبي سعيد قال : كان النبي () إذا أكل وشرب قال الحمد لله الذي أطعمنا وسقانا وجعلنا مسلمين وأخرج أحمد وابن ماجة والترمذي وحسنه من حديث معاذ بن أنس قال : قال رسول الله () : من أكل طعاماً فقال الحمد لله الذي أطعمني هذا ورزقنيه من غير حول مني ولا قوة غفر له ما تقدم من ذنبه وأخرج أبو داود من حديث ابن عباس أن النبي () قال : إذا أكل أحدكم طعاماً فليقل اللهم بارك لنا فيه ، وأطعمنا خيراً منه . وإذا سقي لنباً ، فليقل اللهم بارك لنا فيه وزدنا منه فإنه ليس شئ يجزي من الطعام والشراب إلا اللبن وأخرجه الترمذي بنحوه وحسنه ولكن في إسناده علي بن زيد بن جدعان وفيه ضعف وقد رواه عن محمد بن حرملة . قال أبو حاتم بصري لا أعرفه .

ولا يأكل متكئاً لحديث أبي جحيفة عند البخاري وغيره قال : قال رسول الله () : أما أنا فلا آكل متكئاً قلت : لأن النبي () بعث في العرب وعاداتهم أوسط العادات ولم يكونوا يتكلفون تكلف العجم والأخذ بها أحسن ، ولا أحسن لأصحاب الملة من أن يتبعوا سيرة إمامها في كل نقير وقطمير ، وما أكل رسول الله () على خوان ولا في سكرجة ولا خبز له مرقق ولا رأى شاة سميطاً بعينه قط ، وما رأى منخلاً كانوا يأكلون الشعير غير منخول