انتقل إلى المحتوى

البداية والنهاية/الجزء العاشر/صفحة واحدة

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة


خلافة الوليد بن يزيد بن عبد الملك

قال الواقدي: بويع له بالخلافة يوم مات عمه هشام بن عبد الملك يوم الأربعاء لست خلون من ربيع الآخر سنة خمس وعشرين ومائة.

وقال هشام بن الكلبي: بويع له يوم السبت في ربيع الآخر، وكان عمره إذ ذاك أربعا وثلاثين سنة.

وكان سبب ولايته أن أباه يزيد بن عبد الملك كان قد جعل الأمر من بعده لأخيه هشام، ثم من بعده لولده الوليد هذا، فلما ولي هشام أكرم ابن أخيه الوليد حتى ظهر عليه أمر الشراب وخلطاء السوء ومجالس اللهو، فأراد هشام أن يقطع ذلك عنه فأمره على الحج سنة ست عشر ومائة، فأخذ معه كلاب الصيد خفية من عمه، حتى يقال: إنه جعلها في صناديق، فسقط منها صندوق فيه كلب، فسمع صوته فأحالوا ذلك على الجمال، فضرب على ذلك.

قالوا: واصطنع الوليد قبة على قدر الكعبة، ومن عزمه أن ينصب تلك القبة فوق سطح الكعبة ويجلس هو وأصحابه هنالك، واستصحب معه الخمور وآلات الملاهي وغير ذلك من المنكرات، فلما وصل إلى مكة هاب أن يفعل ما كان قد عزم عليه من الجلوس فوق ظهر الكعبة خوفا من الناس ومن إنكارهم عليه ذلك، فلما تحقق عمه ذلك منه نهاه مرارا فلم ينته، واستمر على حاله القبيح، وعلى فعله الرديء.

فعزم عمه على خلعه من الخلافة - وليته فعل - وأن يولي بعده مسلمة بن هشام، وأجابه إلى ذلك جماعة من الأمراء، ومن أخواله، ومن أهل المدينة ومن غيرهم، وليت ذلك تم.

ولكن لم ينتظم حتى قال هشام يوما للوليد: ويحك ! والله ما أدري أعلى الإسلام أنت أم لا، فإنك لم تدع شيئا من المنكرات إلا أتيته غير متحاش ولا مستتر، فكتب إليه الوليد:

يا أيها السائل عن ديننا * ديني على دين أبي شاكر

نشربها صرفا وممزوجةً * بالسخن أحيانا وبالفاتر

فغضب هشام على ابنه مسلمة، وكان يسمى: أبا شاكر، وقال له: تشبه الوليد بن يزيد وأنا أريد أن أرقيك إلى الخلافة.

وبعثه على الموسم سنة تسع عشر ومائة فأظهر النسك والوقار، وقسم بمكة والمدينة أموالا، فقال مولى لأهل المدينة:

يا أيها السائل عن ديننا * نحن على دين أبي شاكر

الواهب الجرد بأرسانها * ليس بزنديق ولا كافر

ووقعت بين هشام وبين الوليد بن يزيد وحشة عظيمة بسبب تعاطي الوليد ما كان يتعاطاه من الفواحش والمنكرات.

فتنكر له هشام وعزم على خلعه وتولية ولده مسلمة ولاية العهد، ففر منه الوليد إلى الصحراء، وجعلا يتراسلان بأقبح المراسلات، وجعل هشام يتوعده وعيدا شديدا، ويتهدده، ولم يزل كذلك حتى مات هشام والوليد في البرية، فلما كانت الليلة التي قدم في صبيحتها عليه البرد بالخلافة، قلق الوليد تلك الليلة قلقا شديدا وقال لبعض أصحابه: ويحك ! قد أخذني الليلة قلق عظيم، فاركب لعلنا نبسط.

فسارا ميلين يتكلمان في هشام وما يتعلق به، من كتبه إليه بالتهديد والوعيد، ثم رأيا من بعد رهجا وأصواتا وغبارا، ثم انكشف ذلك عن برد يقصدونه بالولاية فقال لصاحبه: ويحك ! إن هذه رسل هشام، اللهم أعطنا خيرها.

فلما اقتربت البرد منه وتبينوه ترجلوا إلى الأرض وجاؤا فسلموا عليه بالخلافة، فبهت وقال: ويحكم ! أمات هشام ؟

قالوا: نعم !

قال: فمن بعثكم ؟

قالوا: سالم بن عبد الرحمن صاحب ديوان الرسائل، وأعطوه الكتاب فقرأه، ثم سألهم عن أحوال الناس، وكيف مات عمه هشام، فأخبروه.

فكتب من فوره بالاحتياط على أموال هشام وحواصله بالرصافة وقال:

ليت هشاما عاش حتى يرى * مكياله الأوفر قد طبعا

كلناه بالصاع الذي كاله * وما ظلمناه به إصبعا

وما أتيناه ذاك بدعة * أحله الفرقان إلى أجمعا

وقد كان الزهري يحث هشاما على خلع الوليد هذا، ويستنهضه في ذلك، فيحجم هشام عن ذلك، خوف الفضيحة من الناس، ولئلا تتنكر قلوب الأجناد من أجل ذلك، وكان الوليد يفهم ذلك من الزهري ويبغضه ويتوعده ويتهدده، فيقول له الزهري: ما كان الله ليسلطك عليَّ يا فاسق !

ثم مات الزهري قبل ولاية الوليد، ثم فر الوليد من عمه إلى البرية، فلم يزل بها حتى مات فاحتاط على أموال عمه ثم ركب من فوره من البرية وقصد دمشق، واستعمل العمال وجاءته البيعة من الآفاق، وجاءته الوفود، وكتب إليه مروان بن محمد - وهو إذ ذاك نائب أرمينية - يبارك له في خلافة الله له على عباده، والتمكين في بلاده، ويهنئه بموت هشام وظفره به، والتحكم في أمواله وحواصله، ويذكر له أنه جدد البيعة له في بلاده، وأنهم فرحوا واستبشروا بذلك.

ولولا خوفه من الثغر لاستناب عليه وركب بنفسه شوقا إلى رؤيته، ورغبة في مشافهته.

ثم إن الوليد سار في الناس سيرة حسنة بادي الرأي وأمر بإعطاء الزمنى والمجذومين والعميان، لكل إنسان خادما، وأخرج من بيت المال الطيب والتحف لعيالات المسلمين، وزاد في أعطيات الناس، ولاسيما أهل الشام والوفود، وكان كريما ممدحا شاعرا مجيدا، لا يسأل شيئا قط فيقول: لا !

ومن شعره قوله: - يمدح نفسه بالكرم -

ضمنت لكم إن لم تعقني عوائق * بأن سماء الضر عنكم ستقلع

سيوشك إلحاق معا وزيادة * وأعطية مني إليكم تبرّع

محرَّمكم ديوانكم وعطاؤكم * به يكتب الكتّاب شهرا وتطبع

وفي هذه السنة عقد الوليد البيعة لابنه الحكم ثم عثمان، على أن يكونا وليي العهد من بعده، وبعث البيعة إلى يوسف بن عمر أمير العراق وخراسان، فأرسلها إلى نائب خراسان نصر بن سيار، فخطب بذلك نصر خطبة عظيمة بليغة طويلة، ساقها ابن جرير بكمالها.

واستوثق للوليد الممالك في المشارق والمغارب، وأخذت البيعة لولديه من بعده في الآفاق.

وكتب الوليد إلى نصر بن سيار بالاستقلال بولاية خراسان، ثم وفد يوسف بن عمر على الوليد فسأله أن يرد إليه ولاية خراسان فردها إليه كما كانت في أيام هشام، وأن كان يكون نصر بن سيار ونوابه من تحت يده، فكتب عند ذلك يوسف بن عمر إلى نصر بن سيار يستوفده إلى أمير المؤمنين بأهله وعياله، وأن يكثر من استصحاب الهدايا والتحف.

فحمل نصر بن سيار ألف مملوك على الخيل، وألف وصيفة وشيئا كثيرا من أباريق الفضة والذهب، وغير ذلك من التحف.

وكتب إليه الوليد يستحثه سريعا ويطلب منه أن يحمل معه طنابير وبرابط ومغنيات وبازات وبراذين فره، وغير ذلك من آلات الطرب والفسق، فكره الناس ذلك منه وكرهوه.

وقال المنجمون لنصر بن سيار: إن الفتنة قريبا ستقع بالشام، فجعل يتثاقل في سيره، فلما أن كان ببعض الطريق جاءته البرد فأخبروه بأن الخليفة الوليد قد قتل وهاجت الفتنة العظيمة في الناس بالشام، فعدل بما معه إلى بعض المدن فأقام بها.

وبلغه أن يوسف بن عمر قد هرب من العراق، واضطربت الأمور وذلك بسبب قتل الخليفة على ما سنذكره، وبالله المستعان.

وفي هذه السنة ولى الوليد يوسف بن محمد بن يوسف الثقفي ولاية المدينة ومكة والطائف، وأمره أن يقيم إبراهيم ومحمدا ابني هشام بن إسماعيل المخزومي بالمدينة مهانين لكونهما خالي هشام، ثم يبعث بهما إلى يوسف بن عمر نائب العراق، فبعثهما إليه.

فما زال يعذبهما حتى ماتا، وأخذ منهما أموالا كثيرة.

وفي هذه السنة ولى يوسف بن محمد يحيى بن سعيد الأنصاري قضاء المدينة.

وفيها: بعث الوليد بن يزيد إلى أهل قبرص جيشا مع أخيه، وقال: خيِّرهم فمن شاء أن يتحول إلى الشام، ومن شاء أن يتحول إلى الروم، فكان منهم اختار جوار المسلمين بالشام، ومنهم من انتقل إلى بلاد الروم.

قال ابن جرير: وفيها قدم سليمان بن كثير، ومالك بن الهيثم، ولاهز بن قريظ، وقحطبة بن شبيب مكة، فلقوا - في قول بعض أهل السير - محمد بن علي فأخبروه بقصة أبي مسلم فقال: أحر هو أم لا ؟

فقالوا: أما هو فيزعم أنه حر، وأما مولاه فيزعم أنه عبده.

فاشتروه فاعتقوه، ودفعوا إلى محمد بن علي مائتي ألف درهم وكسوة بثلاثين ألفا.

وقال لهم: لعلكم لا تلقوني بعد عامكم هذا، فإن مت فإن صاحبكم إبراهيم بن محمد - يعني: ابنه - فإنه ابني فأوصيكم به.

ومات محمد بن علي في مستهل ذي القعدة في هذه السنة، بعد أبيه بسبع سنين.

وفيها: قتل يحيى بن يزيد بن علي بخراسان.

وحج الناس فيها يوسف بن محمد الثقفي أمير مكة والمدينة والطائف.

وأمير العراق ويوسف بن عمر، وأمير خراسان نصر بن سيار وهو في همة الوفود إلى الوليد بن يزيد أمير المؤمنين بما معه من الهدايا والتحف، فقتل الوليد قبل أن يجتمع به.

و ممن توفي فيها من الأعيان:

محمد بن علي

ابن عبد الله بن عباس، أبو عبد الله المدني، وهو أبو السفاح والمنصور.

روى عن: أبيه، وجده، وسعيد بن جبير، وجماعة.

وحدث عنه جماعة، منهم: ابناه الخليفتان، أبو العباس عبد الله السفاح، وأبو جعفر عبد الله المنصور.

وقد كان عبد الله بن محمد بن الحنفية أوصى إليه بالأمر من بعده، وكان عنده علم بالأخبار، فبشره بأن الخلافة ستكون في ولدك، فدعا إلى نفسه في سنة سبع وثمانين، ولم يزل أمره يتزايد حتى توفي في هذه السنة.

وقيل: في التي قبلها.

وقيل: في التي بعدها عن ثلاث وستين سنة.

وكان من أحسن الناس شكلا، فأوصى بالأمر من بعده لولده إبراهيم، فما أبرم الأمر إلا لولده السفاح، فاستلب من بني أمية الأمر في سنة ثنتين وثلاثين، كما سيأتي.

وأما يحيى بن زيد

ابن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب، فإنه لما قتل أبوه زيد في سنة إحدى وعشرين ومائة، لم يزل يحيى مختفيا في خراسان عند الحريش بن عمرو بن داود ببلخ، حتى مات هشام، فكتب عند ذلك يوسف بن عمر إلى نصر بن سيار يخبره بأمر يحيى بن زيد، فكتب نصر بن سيار إلى نائب بلخ مع عقيل بن معقل العجلي، فأحضر الحريش فعاقبه ستمائة سوط، فلم يدل عليه، وجاء ولد الحريش فدلهم عليه فحبس، فكتب نصر بن سيار إلى يوسف بذلك، فبعث إلى الوليد بن يزيد يخبره بذلك.

فكتب الوليد إلى نصر بن سيار يأمره بإطلاقه من السجن وإرساله إليه صحبة أصحابه، فأطلقهم وأطلق لهم وجهزهم إلى دمشق، فلما كانوا ببعض الطريق توسم نصر منه غدرا، فبعث إليه جيشا عشرة آلاف فكسرهم يحيى بن زيد، وإنما معه سبعون رجلا، وقتل أميرهم واستلب منهم أموالا كثيرةً، ثم جاء جيش آخر فقتلوه واحتزوا رأسه وقتلوا جميع أصحابه، رحمهم الله.

ثم دخلت سنة ست وعشرين ومائة فيها كان مقتل الوليد بن يزيد بن عبد الملك

وهذه ترجمته هو الوليد بن يزيد بن عبد الملك بن مروان بن الحكم، أبو العباس، الأموي الدمشقي.

بويع له بالخلافة بعد عمه هشام في السنة الخالية بعهد من أبيه كما قدمنا.

وأمه أم الحجاج بنت محمد بن يوسف الثقفي.

وكان مولده سنة تسعين.

وقيل: ثنتين وتسعين.

وقيل: سبع وثمانين.

وقتل يوم الخميس لليلتين بقيتا في جمادى الآخرة سنة ست وعشرين ومائة، ووقعت بسبب ذلك فتنة عظيمة بين الناس بسبب قتله، ومع ذلك إنما قتل لفسقه، وقيل: وزندقته.

وقد قال الإمام أحمد: حدثنا أبو المغيرة، ثنا ابن عياش، حدثني الأوزاعي وغيره، عن الزهري، عن سعيد بن المسيب، عن عمر بن الخطاب، قال: ولد لأخي أم سلمة زوج النبي غلام فسموه الوليد فقال النبي : «سميتموه باسم فراعينكم، ليكونن في هذه الأمة رجل يقال له: الوليد، لهو أشد فسادا لهذه الأمة من فرعون لقومه».

قال الحافظ ابن عساكر: وقد رواه الوليد بن مسلم ومعقل بن زياد ومحمد بن كثير وبشر بن بكر، عن الأوزاعي، فلم يذكروا عمر في إسناده وأرسلوه، ولم يذكر ابن كثير سعيد بن المسيب، ثم ساق طرقه هذه كلها بأسانيدها وألفاظها.

وحكي عن البيهقي أنه قال: هو مرسل حسن.

ثم ساق من طريق محمد، عن محمد بن عمر بن عطاء، عن زينب بنت أم سلمة، عن أمها، قالت: دخل النبي وعندي غلام من آل المغيرة اسمه الوليد فقال: «من هذا يا أم سلمة؟».

قالت: هذا الوليد !

فقال النبي : «وقد اتخذتم الوليد خنانا حسانا غيروا اسمه، فإنه سيكون في هذه الأمة فرعون يقال له: الوليد».

وروى ابن عساكر من حديث عبد الله بن محمد بن مسلم، ثنا محمد بن غالب الأنطاكي، ثنا محمد بن سليمان بن أبي داود، ثنا صدقة، عن هشام بن الغاز، عن مكحول، عن أبي ثعلبة الخشني، عن أبي عبيدة بن الجراح، عن النبي قال: «لا يزال هذا الأمر قائما بالقسط حتى يثلمه رجل من بني أمية».

مقتله وزوال دولته

كان هذا الرجل مجاهرا بالفواحش مصرا عليها، منتهكا محارم الله عز وجل، لا يتحاشى من معصية.

وربما اتهمه بعضهم بالزندقة والانحلال من الدين، فالله أعلم.

لكن الذي يظهر أنه كان عاصيا شاعرا ماجنا متعاطيا للمعاصي، لا يتحاشاها من أحد، ولا يستحي من أحد، قبل أن يلي الخلافة وبعد أن ولي.

وقد روي أن أخاه سليمان كان من جملة من سعى في قتله، قال: أشهد أنه كان شروبا للخمر، ماجنا فاسقا، ولقد أرادني على نفسي الفاسق.

وحكى المعافى بن زكريا، عن ابن دريد، عن أبي حاتم، عن العتبي: أن الوليد بن يزيد نظر إلى نصرانية من حسان نساء النصارى اسمها: سفرى فأحبها، فبعث يراودها عن نفسها، فأبت عليه، فألح عليها وعشقها، فلم تطاوعه.

فاتفق اجتماع النصارى في بعض كنائسهم لعيد لهم، فذهب الوليد إلى بستان هناك فتنكر وأظهر أنه مصاب، فخرج النساء من الكنيسة إلى ذلك البستان، فرأينه فأحدقن به، فجعل يكلم سفرى ويحادثها وتضاحكه ولا تعرفه، حتى اشتفى من النظر إليها، فلما انصرفت قيل لها: ويحك ! أتدرين من هذا الرجل ؟

فقالت: لا !

فقيل لها: هو الوليد.

فلما تحققت ذلك حنت عليه بعد ذلك، وكانت عليه أحرص منه عليها، قبل أن تحن عليه.

فقال الوليد في ذلك أبياتا:

أضحك فؤادك يا وليد عميدا * صبا قديما للحسان صيودا

في حب واضحة العوارض طفلة * برزت لنا نحو الكنيسة عيدا

ما زلت أرمقها بعيني وامق * حتى بصرت بها تقبِّل عودا

عود الصليب فويح نفسي من رأى * منكم صليبا مثله معبودا

فسألت ربي أن أكون مكانه * وأكون في لهب الجحيم وقودا

وقال فيها أيضا: لما ظهر أمره وعلم بحال الناس.

وقيل: أن هذا وقع قبل أن يلي الخلافة:

ألا حبذا سفري و إن قيل إنني * كلفت بنصرانية تشرب الخمرا

يهون علينا أن نظل نهارنا * إلى الليل لا ظهرا نصلِّي ولا عصرا

قال القاضي أبو الفرج المعافى بن زكريا الجريري المعروف: بابن طرار النهرواني بعد إيراده هذه الأشياء: للوليد في نحو هذا من الخلاعة والمجون وسخافة الدين، وما يطول ذكره، وقد ناقضناه في أشياء من منظوم شعره المتضمن ركيك ضلاله وكفره.

وروى ابن عساكر بسنده أن الوليد سمع بخمار صلف بالحيرة فقصده حتى شرب منه ثلاثة أرطال من الخمر، وهو راكب على فرسه، ومعه اثنان من أصحابه، فلما انصرف أمر للخمار بخمسمائة دينار.

وقال القاضي أبو الفرج: أخبار الوليد كثيرة قد جمعها الأخباريون مجموعة ومفردة، وقد جمعت شيئا من سيرته وأخباره، ومن شعره الذي ضمنه ما فجر به من جرأته وسفاهته وحمقه وهزله ومجونه وسخافة دينه، وما صرح به من الإلحاد في القرآن العزيز، والكفر بمن أنزله وأنزل عليه، وقد عارضت شعره السخيف بشعر حصيف، وباطله بحق نبيه شريف، وترجيت رضاء الله عز وجل، واستيجاب مغفرته.

وقال أبو بكر بن أبي خيثمة: ثنا سليمان بن أبي شيخ، ثنا صالح بن سليمان، قال: أراد الوليد بن يزيد الحج، وقال: أشرب فوق ظهر الكعبة الخمر، فهموا أن يفتكوا به إذا خرج، فجاؤوا إلى خالد ابن عبد الله القسري فسألوه أن يكون معهم فأبى.

فقالوا له: فاكتم علينا.

فقال: أما هذا فنعم.

فجاء إلى الوليد فقال: لاتخرج فإني أخاف عليك.

فقال: ومن هؤلاء الذين تخافهم عليَّ ؟

قال: لا أخبرك بهم.

قال: إن لم تخبرني بهم بعثت بك إلى يوسف بن عمر.

قال: وإن بعثت بي إلى يوسف بن عمر.

فبعثه إلى يوسف فعاقبه حتى قتله.

وذكر ابن جرير أنه لما امتنع أن يعلمه بهم سجنه ثم سلمه إلى يوسف بن عمر، يستخلص منه أموال العراق فقتله.

وقد قيل: إن يوسف لما وفد إلى الوليد اشترى منه خالد بن عبد الله القسري بخمسين ألف ألف يخلصها منه، فما زال يعاقبه ويستخلص منه حتى قتله، فغضب أهل اليمن من قتله، وخرجوا على الوليد.

قال الزبير بن بكار: حدثنا مصعب بن عبد الله، قال: سمعت أبي يقول: كنت عند المهدي فذكر الوليد بن يزيد فقال رجل: في المجلس كان زنديقا.

فقال المهدي: خلافة الله عنده أجل من أن يجعلها في زنديق.

وقال أحمد بن عمير بن حوصاء الدمشقي: ثنا عبد الرحمن بن الحسن، ثنا الوليد بن مسلم، ثنا حصين بن الوليد، عن الأزهري بن الوليد، قال: سمعت أم الدرداء، تقول: إذا قتل الخليفة الشاب من بني أمية بين الشام والعراق مظلوما لم يزل طاعة مستخف بها ودم مسفوك على وجه الأرض بغير حق.

قال الإمام أبو جعفر بن جرير الطبري:

قتل يزيد بن الوليد الناقص للوليد بن يزيد

قد ذكرنا بعض أمر الوليد بن يزيد وخلاعته ومجانته وفسقه، وما ذكر عن تهاونه بالصلوات واستخفافه بأمر دينه قبل خلافته وبعدها، فإنه لم يزدد في الخلافة إلا شرا ولهوا ولذةً وركوبا للصيد وشرب المسكر ومنادمة الفساق، فما زادته الخلافة على ما كان قبلها إلا تماديا وغرورا، فثقل ذلك على الأمراء والرعية والجند، وكرهوه كراهة شديدة، وكان من أعظم ما جنى على نفسه حتى أورثه ذلك هلاكه، إفساده على نفسه بني عميه هشام والوليد بن عبد الملك مع إفساده اليمانية، وهي أعظم جند خراسان، وذلك أنه لما قتل خالد بن عبد الله القسري وسلمه إلى غريمه يوسف بن عمر الذي هو نائب العراق إذ ذاك، فلم يزل يعاقبه حتى هلك، انقلبوا عليه وتنكروا له وساءهم قتله، كما سنذكره في ترجمته.

ثم روى ابن جرير بسنده أن الوليد بن يزيد ضرب ابن عمه سليمان بن هشام مائة سوط وحلق رأسه ولحيته وغرَّبه إلى عمان فحبسه بها، فلم يزل هناك حتى قتل الوليد وأخذ جارية كانت لآل عمه الوليد بن عبد الملك، فكلمه فيها عمر بن الوليد، فقال: لا أردها.

فقال: إذا تكثر الصواهل حول عسكرك.

وحبس الأفقم يزيد بن هشام، وبايع لولديه الحكم وعثمان، وكانا دون البلوغ، فشق ذلك على الناس أيضا، ونصحوه فلم ينتصح، ونهوه فلم يرتدع ولم يقبل.

قال المدائني في روايته: ثقل ذلك على الناس ورماه بنو هاشم وبنو الوليد بالكفر والزندقة وغشيان أمهات أولاد أبيه وباللواط وغيره، وقالوا: اتخذ مائة جامعة على كل جامعة اسم رجل من بني هاشم ليقتله بها، ورموه بالزندقة وكان أشدهم فيه قولا يزيد بن الوليد بن عبد الملك، وكان الناس إلى قوله أميل، لأنه أظهر النسك والتواضع، ويقول: ما يسعنا الرضا بالوليد حتى حمل الناس على الفتك به.

قالوا: وانتدب للقيام عليه جماعة من قضاعة واليمانية وخلق من أعيان الأمراء وآل الوليد بن عبد الملك، وكان القائم بأعباء ذلك كله والداعي إليه يزيد بن الوليد بن عبد الملك، وهو من سادات بني أمية، وكان ينسب إلى الصلاح والدين والورع، فبايعه الناس على ذلك، وقد نهاه أخوة العباس بن الوليد، فلم يقبل.

فقال: والله لولا إني أخاف عليك لقيدتك وأرسلتك إليه.

واتفق خروج الناس من دمشق من وباء وقع بها، فكان ممن خرج الوليد بن يزيد أمير المؤمنين في طائفة من أصحابه نحو المائتين، إلى ناحية مشارف دمشق، فانتظم إلى يزيد بن الوليد أمره وجعل أخوه العباس ينهاه عن ذلك أشد النهي، فلا يقبل، فقال العباس ذلك:

إني أعيذكم بالله من فتن * مثل الجبال تسامى ثم تندفع

إن البرية قد ملت سياستكم * فاستمسكوا بعمود الدين وارتدعوا

لا تلحمن ذئاب الناس أنفسكم * إن الذباب إذا ما ألحمت رتعوا

لا تبقرنَّ بأيديكم بطونكم * فثم لا حسرة تغني ولا جزع

فلما استوثق ليزيد بن الوليد أمره، وبايعه من الناس، قصد دمشق فدخلها في غيبة الوليد فبايعه أكثر أهلها في الليل، وبلغه أن أهل المزة قد بايعوا كبيرهم معاوية بن مَصَاد، فمضى إليه يزيد ماشيا في نفر من أصحابه، فأصابهم في الطريق خطر شديد، فأتوه فطرقوا بابه ليلا ثم دخلوا فكلمه يزيد في ذلك فبايعه معاوية بن مصاد.

ثم رجع يزيد من ليلته إلى دمشق على طريق القناة وهو على حمار أسود، فحلف أصحابه أنه لا يدخل دمشق إلا في السلاح، فلبس سلاحا من تحت ثيابه فدخلها.

وكان الوليد قد استناب على دمشق في غيبته عبد الملك بن محمد بن الحجاج بن يوسف الثقفي، وعلى شرطتها أبو العاج كثير بن عبد الله السلمي.

فلما كان ليلة الجمعة اجتمع أصحاب يزيد بين العشائين عند باب الفراديس، فلما أذن العشاء الآخرة دخلوا المسجد، فلما لم يبق في المسجد غيرهم بعثوا إلى يزيد بن الوليد، فجاءهم فقصدوا باب المقصورة، ففتح لهم خادم، فدخلوا فوجدوا أبا العاج وهو سكران، فأخذوا خزائن بيت المال وتسلموا الحواصل، وتقووا بالأسلحة.

وأمر يزيد بإغلاق أبواب البلد، وأن لا يفتح إلا لمن يعرف، فلما أصبح الناس قدم أهل الحواضر من كل جانب فدخلوا من سائر أبواب البلد كل أهل محلة من الباب الذي يليهم، فكثرت الجيوش حول يزيد بن الوليد بن عبد الملك في نصرته، وكلهم قد بايعه بالخلافة.

وقد قال فيه بعض الشعراء في ذلك:

فجاءتهم أنصارهم حين أصبحوا * سكاسكها أهل البيوت الصنادد

وكلب فجاؤهم بخيل وعدة * من البيض والأبدان ثم السواعد

فأكرم بها أحياء أنصار سنة * هم منعوا حرماتها كل جاحد

وجاءتهم شيبان والأزد شرعا * وعبس ولخم بين حام وذائد

وغسان والحيَّان قيس وثعلب * وأحجم عنها كل وان وزاهد

فما أصبحوا إلا وهم أهل ملكها * قد استوثقوا من كل عات ومارد

وبعث يزيد بن الوليد عبد الرحمن بن مصاد في مائتي فارس إلى قطنا، ليأتوه بعبد الملك بن محمد بن الحجاج نائب دمشق وله الأمان، وكان قد تحصن هناك، فدخلوا عليه فوجدوا عنده خرجين في كل واحد منهما ثلاثون ألف دينار، فلما مروا بالمزة قال أصحاب ابن مصاد: خذ هذا المال فهو خير من يزيد بن الوليد.

فقال: لا والله، لا تحدث العرب أني أول من خان.

ثم أتوا به يزيد بن الوليد فاستخدم من ذلك المال جندا للقتال قريبا من ألفي فارس، وبعث به مع أخيه عبد العزيز بن الوليد بن عبد الملك خلف الوليد بن يزيد ليأتوا به، وركب بعض موالي الوليد فرسا سابقا فساق به حتى انتهى إلى مولاه من الليل، وقد نفق الفرس من السوق، فأخبره الخبر فلم يصدقه وأمر بضربه، ثم تواترت عليه الأخبار فأشار عليه بعض أصحابه أن يتحول من منزله إلى حمص فإنها حصينة.

وقال الأبرش سعيد بن الوليد الكلبي: أنزل على قومي بتدمر، فأبى أن يقبل شيئا من ذلك، بل ركب بمن معه وهو في مائتي فارس، وقصد أصحاب يزيد فالتقوا بثقلة في أثناء الطريق، فأخذوه وجاء الوليد فنزل حصن البخراء الذي كان للنعمان بن بشير، وجاءه رسول العباس بن الوليد إني آتيك - وكان من أنصاره - فأمر الوليد بإبراز سريره فجلس عليه وقال: أعليَّ يتوثب الرجال وأنا أثب على الأسد وأتخصر الأفاعي ؟

وقدم عبد العزيز بن الوليد بمن معه، وإنما كان قد خلص معه من الألفي فارس ثمان مائة فارس، فتصافوا فاقتتلوا قتالا شديدا فقتل من أصحاب العباس جماعة حملت رؤسهم إلى الوالي، وقد كان جاء العباس بن الوليد لنصرة الوليد بن يزيد، فبعث إليه أخوه عبد العزيز فجيء به قهرا حتى بايع لأخيه يزيد بن الوليد واجتمعوا على حرب الوليد بن يزيد، فلما رأى الناس اجتماعهم فروا من الوليد إليهم، وبقي الوليد في ذل وقل من الناس، فلجأ إلى الحصن، فجاؤا إليه وأحاطوا به من كل جانب يحاصرونه، فدنا الوليد من باب الحصن فنادى ليكلمني رجل شريف، فكلمه يزيد بن عنبسة السكسكي.

فقال الوليد: ألم أدفع الموت عنكم؟ ألم أعط فقرائكم؟ ألم أخدم نساءكم ؟

فقال يزيد: إنما ننقم عليك انتهاك المحارم وشرب الخمور ونكاح أمهات أولاد أبيك، واستخفافك بأمر الله عز وجل.

فقال: حسبك يا أخا السكاسك، لقد أكثرت وأغرقت، وإن فيما أحل الله لي لسعة عما ذكرته.

ثم قال: أما والله لئن قتلتموني لا ترتقن فتنتكم، ولا يلم شعثكم، ولا تجتمع كلمتكم.

ورجع إلى القصر فجلس ووضع بين يديه مصحفا فنشره، وأقبل يقرأ فيه وقال: يوم كيوم عثمان، واستسلم، وتسور عليه أولئك الحائط، فكان أول من نزل إليه يزيد بن عنبسة، فتقدم إليه وإلى جانبه سيف، فقال: نحه عنك.

فقال الوليد: لو أردت القتال به لكان غير هذا، فأخذ بيده وهو يريد أن يحبسه حتى يبعث به إلى يزيد بن الوليد.

فبادره عليه عشرة من الأمراء، فأقبلوا على الوليد يضربونه على رأسه ووجهه بالسيوف، حتى قتلوه، ثم جروه برجله ليخرجوه، فصاحت النسوة، فتركوه واحتز أبو علاقة القضاعي رأسه.

واحتاطوا على ما كان معه مما كان خرج به في وجهه ذلك، وبعثوا به إلى يزيد مع عشرة نفر منهم: منصور بن جمهور، وروح بن مقبل، وبشر مولى كنانة من بني كلب، وعبد الرحمن الملقب: بوجه الفلس، فلما انتهوا إليه بشروه بقتل الوليد، وسلموا عليه بالخلافة، فأطلق لكل رجل من العشرة عشرة آلاف.

فقال له روح بن بشر بن مقبل: أبشر يا أمير المؤمنين بقتل الوليد الفاسق، فسجد شكرا لله.

ورجعت الجيوش إلى يزيد، فكان أول من أخذ يده للمبايعة يزيد بن عنبسة السكسكي فانتزع يده من يده، وقال: اللهم إن كان هذا رضى لك فأعني عليه.

وكان قد جعل لمن جاءه برأس الوليد مائة ألف درهم، فلما جيء به وكان ذلك ليلة الجمعة - قيل: يوم الأربعاء - لليلتين بقيتا من جمادى الآخرة سنة ست وعشرين ومائة، فأمر يزيد بنصب رأسه على رمح وأن يطاف به في البلد.

فقيل له: إنما ينصب رأس الخارجي.

فقال: والله لأنصبنه.

فشهره في البلد على رمح ثم أودعه عند رجل شهرا ثم بعث به إلى أخيه سليمان بن يزيد فقال أخوه: بعدا له، أشهد أنك كنت شروبا للخمر، ماجنا فاسقا، ولقد أرادني على نفسي هذا الفاسق وأنا أخوه لم يأنف من ذلك.

وقد قيل: إن رأسه لم يزل معلقا بحائط جامع دمشق الشرقي مما يلي الصحن حتى انقضت دولة بني أمية.

وقيل: إنما كان ذلك أثر دمه، وكان عمره يوم قتل ستا وثلاثين سنة.

وقيل: ثمانيا وثلاثين.

وقيل: إحدى وثلاثين.

وقيل: ثنتان، وقيل: خمس، وقيل: ست وأربعون سنة.

ومدة ولايته سنة وست أشهر على الأشهر.

وقيل: ثلاثة أشهر.

قال ابن جرير: كان شديد البطش، طويل أصابع الرجلين، كانت تضرب له سكة الحديد في الأرض ويربط فيها خيط إلى رجله ثم يثب على الفرس فيركبها ولا يمس الفرس، فتنقلع تلك السكة من الأرض مع وثبته.

خلافة يزيد بن الوليد بن عبد الملك بن مروان

وهو الملقب: بالناقص لنقصه الناس من أعطياتهم ما كان زاده الوليد بن يزيد في أعطياتهم، وهي عشرة عشرة، ورده إياهم إلى ما كانوا عليه في زمن هشام.

ويقال: إن أول من لقبه بذلك مروان بن محمد.

بويع له بالخلافة بعد مقتل الوليد بن يزيد، وذلك ليلة الجمعة لليلتين بقيتا من جمادى الآخرة من هذه السنة - حتى سنة ست وعشرين ومائة - وكان فيه صلاح وورع قبل ذلك، فأول ما عمل انتقاصه من أرزاق الجند ما كان الوليد زادهم، وذلك في كل سنة عشرة عشرة، فسمي الناقص لذلك.

ويقال في المثل الأشج والناقص أعدل خلفاء بني مروان - يعني: عمر بن عبد العزيز وهذا - ولكن لم تطل أيامه، فإنه توفي من آخر هذه السنة، واضطربت عليه الأمور، وانتشرت الفتن، واختلفت كلمة بني مروان.

فنهض سليمان بن هشام، وكان معتقلا في سجن الوليد بعمان، فاستحوز على أموالها وحواصلها، وأقبل إلى دمشق، فجعل يلعن الوليد ويعيبه ويرميه بالكفر، فأكرمه يزيد ورد عليه أمواله التي كان أخذها من الوليد، وتزوج يزيد أخت سليمان، وهي أم هشام بنت هشام.

ونهض أهل حمص إلى دار العباس بن الوليد التي عندهم فهدموها، وحبسوا أهله وبنيه، وهرب هو من حمص، فلحق بيزيد بن الوليد إلى دمشق، وأظهر أهل حمص الأخذ بدم الوليد بن يزيد، وأغلقوا أبواب البلد، وأقاموا النوائح والبواكي على الوليد، وكاتبوا الأجناد في طلب الأخذ بالثأر، فأجابهم إلى ذلك طائفة كبيرة منهم، على أن يكون الحكم بن الوليد بن يزيد الذي أخذ له العهد هو الخليفة، وخلعوا نائبهم، وهو مروان بن عبد الله بن عبد الملك بن مروان، ثم قتلوه وقتلوا ابنه وأمروا عليهم معاوية بن يزيد بن حصين.

فلما انتهى خبرهم إلى يزيد بن الوليد كتب إليهم كتابا مع يعقوب بن هانئ ومضمون الكتاب: أنه يدعوا إلى أن يكون الأمر شورى.

فقال عمرو بن قيس: فإذا كان الأمر كذلك فقد رضينا بولي عهدنا الحكم بن الوليد، فأخذ يعقوب بلحيته، وقال: ويحك ! و كان هذا الذي تدعو إليه يتيما تحت حجرك لم يحل لك أن تدفع إليه ماله فكيف أمر الأمة، فوثب أهل حمص على رسل يزيد بن الوليد، فطردوهم عنهم وأخرجوهم من بين أظهرهم، وقال لهم أبو محمد السفياني: لو قدمت دمشق لم يختلف علي منهم اثنان، فركبوا معه وساروا نحو دمشق، وقد أمروا عليهم السفياني، فتلقاهم سليمان بن هشام في جيش كثيف قد جهزهم معه يزيد، وجهز أيضا عبد العزيز بن الوليد في ثلاثة آلاف يكونون عند ثنية العقاب، وجهز هشام بن مصاد المزي في ألف وخمسمائة ليكونوا على عقبة السلمية، فخرج أهل حمص، فساروا وتركوا جيش سليمان ابن هشام ذات اليسار، وتعدوه فلما سمع بهم سليمان ساق في طلبهم فلحقهم عند السليمانية، فجعلوا الزيتون عن إيمانهم والجبل عن شمائلهم، والحيات من خلفهم، ولم يبق تخلص إليهم إلا من جهة واحدة، فاقتتلوا هنالك في قبالة الحر قتالا شديدا، فقتل طائفة كبيرة من الفريقين، فبينما هم كذلك إذ جاء عبد العزيز بن الوليد بمن معه، فحمل على أهل حمص، فاخترق جيشهم حتى ركب التل الذي في وسطهم، وكانت الهزيمة، فهرب أهل حمص وتفرقوا فأتبعهم الناس يقتلون ويأسرون ثم تنادوا بالكف عنهم، على أن يبايعوا ليزيد بن الوليد وأسروا منهم جماعة، منهم أبو محمد السفياني، ويزيد بن خالد بن معاوية، ثم ارتحل سليمان وعبد العزيز فنزلا عذراء، ومعهم الجيوش وأشراف الناس وأشراف أهل حمص من الأساري، ومن استجاب من غير أسر، بعد ما قتل منهم ثلاثمائة نفس، فدخلوا بهم على يزيد بن الوليد، فأقبل عليهم، وأحسن إليهم، وصفح عنهم، وأطلق الأعطيات لهم، لاسيما لأشرافهم وولى عليهم الذي اختاروه وهو معاوية بن يزيد بن الحصين، وطابت عليه أنفسهم، وأقاموا عنده في دمشق سامعين مطيعين له.

وفيها: بايع أهل فلسطين يزيد بن سليمان بن عبد الملك، وذلك أن بني سليمان كانت لهم أملاك هناك، وكانوا يتركونها يبدلونها لهم، وكان أهل فلسطين يحبون مجاورتهم، فلما قتل الوليد بن يزيد كتب سعيد بن روح بن زنباغ - وكان رئيس تلك الناحية - إلى يزيد بن سليمان بن عبد الملك يدعوهم إلى المبايعة له فأجابوه إلى ذلك، فلما بلغ أهل الأردن خبرهم بايعوا أيضا محمد بن عبد الملك بن مروان وأمروه عليهم، فلما انتهى خبرهم إلى يزيد بن الوليد أمير المؤمنين بعث إليهم الجيوش مع سليمان بن هشام في الدماشقة وأهل حمص، الذين كانوا مع السفياني فصالحهم أهل الأردن أولا ورجعوا إلى الطاعة، وكذلك أهل فلسطين، وكتب يزيد بن الوليد ولاية الإمرة بالرملة وتلك النواحي إلى أخيه إبراهيم بن الوليد، واستقرت الممالك هنالك، وقد خطب أمير المؤمنين يزيد بن الوليد الناس بدمشق فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله ثم قال:

أما بعد أيها الناس أما والله ما خرجت أشرا ولا بطرا، ولا حرصا على الدنيا ولا رغبة في الملك، وما بي إطراء نفسي إني لظلوم لنفسي، إن لم يرحمني ربي فإني هالك، ولكني خرجت غضبا لله ورسوله ولدينه، وداعيا إلى الله وكتابه وسنة نبيه محمد لما هدمت معالم الدين، وأطفئ نور أهل التقوى، وظهر الجبار العنيد المستحل لكل حرمة، والراكب كل بدعة، مع أنه والله ما كان مصدقا بالكتاب، ولا مؤمنا بيوم الحساب، وإنه لابن عمي في النسب، وكفوي بالحسب، فلما رأيت ذلك استخرت الله في أمره، وسألته أن لا يكلني إلى نفسي، ودعوت إلى ذلك من أجابني من أهل ولايتي، وسعيت فيه حتى أراح الله منه العباد والبلاد بحول الله وقوته لا بحولي ولا بقوتي.

أيها الناس: إن لكم علي أن لا أضع حجرا على حجر، ولا لبنة على لبنة، ولا أكرى نهرا، و لا أكثر مالا ولا أعطية زوجة، ولا ولدا ولا أنقل مالا من بلد إلى بلد حتى أسد ثغر ذلك البلد وخصاصة أهله بما يغنيهم، فإن فضل عن ذلك فضل نقلته إلى البلد الذي يليه ممن هو أحوج إليه، ولا أجمركم في ثغوركم فأفتنكم وأفتن أهليكم، ولا أغلق بابي دونكم، فيأكل قويكم ضعيفكم ولا أحمل على أهل جزيتكم ما يجليهم عن بلادهم، ويقطع سبلهم وإن لكم عندي أعطياتكم في كل سنة وأرزاقكم في كل شهر حتى تستدر المعيشة بين المسلمين، فيكون أقصاهم كأدناهم، فإن أنا وفيت لكم بما قلت فعليكم السمع والطاعة وحسن المؤازرة، وإن أنا لم أوف لكم فلكم أن تخلعوني وإلا أن تستتيبوني فإن تبت قبلتم مني، وإن علمتم أحدا من أهل الصلاح والدين يعطيكم من نفسه ما مثل ما أعطيكم، فأردتم أن تبايعوه، فأنا أول من يبايعه، ويدخل في طاعته.

أيها الناس ! إنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، إنما الطاعة طاعة الله فمن أطاع الله فأطيعوه ما أطاع الله، فإذا عصى أو دعا إلى معصية فهو أهل أن يعصى ولا يطاع، بل يقتل ويهان، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.

وفي هذه السنة: عزل يزيد ين الوليد يوسف بن عمر عن إمرة العراق، لما ظهر منه من الحنق على اليمانية، وهم قوم خالد بن عبد الله القسري، حتى قتل الوليد بن يزيد، وكان قد سجن غالب من ببلاده منهم، وجعل الأرصاد على الثغور خوفا من جند الخليفة، فعزله عنها أمير المؤمنين يزيد بن الوليد، وولى عليها منصور بن جمهور مع بلاد السند وسجستان وخراسان.

وقد كان منصور بن جمهور أعرابيا جلفا وكان يدين بمذهب الغيلانية القدرية، ولكن كانت له آثار حسنة، وعناء كثير في مقتل الوليد بن يزيد، فحظي بذلك عند يزيد بن الوليد.

ويقال: إنه لما فرغ الناس من الوليد ذهب من فوره إلى العراق فأخذ البيعة من أهلها إلى يزيد، وقرر بالأقاليم نوابا وعمالا وكر راجعا إلى دمشق في آخر رمضان، فلذلك ولاه الخليفة ما ولاه، والله أعلم.

وأما يوسف بن عمر فإنه فر من العراق فلحق ببلاد البلقاء، فبعث إليه أمير المؤمنين يزيد فأحضره إليه، فلما وقف بين يديه أخذ بلحيته - وكان كبير اللحية جدا، ربما كانت تجاوز سرته وكان قصير القامة - فوبخه وأنبه ثم سجنه وأمر باستخلاص الحقوق منه.

ولما انتهى منصور بن جمهور إلى العراق قرأ عليهم كتاب أمير المؤمنين إليهم في كيفية مقتل الوليد، وأن الله أخذه أخذ عزيز مقتدر، وأنه قد ولى عليهم منصور بن جمهور لما يعلم من شجاعته ومعرفته بالحرب، فبايع أهل العراق ليزيد بن الوليد، وكذلك أهل السند وسجستان.

وأما نصر بن سيار نائب خراسان فإنه امتنع من السمع والطاعة لمنصور بن جمهور، وأبى أن ينقاد لأوامره، وقد كان نصر هذا جهز هدايا كبيرة للوليد بن يزيد فاستمرت له.

وفي هذه السنة: كتب مروان الملقب: بالحمار كتابا إلى عمر بن يزيد أخي الوليد بن يزيد، يحثه على القيام بطلب دم أخيه الوليد، وكان مروان يومئذ أميرا على أذربيجان وأرمينية، ثم إن يزيد بن الوليد عزل منصور بن جمهور عن ولاية العراق وولى عليها عبد الله بن عمر بن عبد العزيز، وقال له: إن أهل العراق يحبون أباك فقد وليتكها.

وذلك في شوال، وكتب له إلى أمراء الشام الذين بالعراق يوصيهم به خشية أن يمتنع منصور بن جمهور من تسليم البلاد إليه، فسلم إليه وأطاع وسلم.

وكتب الخليفة إلى نصر بن سيار باستمراره بولاية خراسان مستقلا بها، فخرج عليه رجل يقال له: الكرماني، لأنه ولد بكرمان، وهو: أبو علي جديع بن علي بن شبيب المغني، واتبعه خلق كثير بحيث إنه كان يشهد الجمعة في نحو من ألف وخمسمائة، وكان يسلم على نصر بن سيار ولا يجلس عنده، فتحير نصر بن سيار وأمراؤه فيما يصنع به، فاتفق رأيهم بعد جهد على سجنه، فسجن قريبا من شهر.

ثم أطلقه فاجتمع إليه ناس كثير، وجم غفير، وركبوا معه، فبعث إليهم نصر من قاتلهم فقتلهم وقهرهم وكسرهم واستخف جماعات من أهل خراسان بنصر بن سيار وتلاشوا أمره وحرمته، وألحوا عليه في أعطياتهم وأسمعوه غليظ ما يكره وهو على المنبر، بسفارة سلم بن أحوز أدى إليه ذلك، وخرجت الباعة من المسجد الجامع وهو يخطب، وانفض كثير من الناس عنه.

فقال لهم نصر فيما قال: والله لقد نشرتكم وطويتكم وطويتكم ونشرتكم فما عندي عشرة منكم على دين، فاتقوا الله فوالله لئن اختلف فيكم سيفان ليتمنين الرجل منكم أن ينخلع من أهله وماله وولده، ولم يكن رآها، ثم تمثل بقول النابغة:

فإن يغلب شقاؤكم عليكم * فإني في صلاحكم سعيت

وقال الحارث بن عبد الله بن الحشرج بن الورد بن المغيرة الجعد:

أبيت أرعى النجوم مرتفقا * إذا استقلت نحوي أوائلها

من فتنة أصبحت مجللة * قد عم أهل الصلاة شاملها

من بخراسان والعراق ومن * بالشام كل شجاه شاغلها

يمشي السفيه الذي يعنف بالـ * ـجهل سواء فيها وعاقلها

فالناس منها في لون مظلمة * دهماء ملتجة غياطلها

والناس في كربة يكاد لها * تنبذ أولادها حواملها

يغدون منها في كل مبهمة * عمياء تمنى لهم غوائلها

لا ينظر الناس من عواقبها * إلا التي لا يبين قائلها

كرغوة البكر أو كصيحة حبـ * ـلى طرقت حولها قوابلها

فجاء فينا تزري بوجهته * فيها خطوب حمر زلازلها

وفي هذه السنة: أخذ الخليفة البيعة من الأمراء وغيرهم بولاية العهد من بعده لأخيه إبراهيم بن الوليد بن عبد الملك، ثم من بعد إبراهيم لعبد العزيز بن الحجاج بن عبد الملك بن مروان، وذلك بسبب مرضه الذي مات فيه.

وكان ذلك في شهر ذي الحجة منها، وقد حرضه على ذلك جماعة من الأمراء والأكابر والوزراء.

وفيها: عزل يزيد عن إمرة الحجاز يوسف بن محمد الثقفي وولى عليها عبد العزيز بن عمر بن عبد العزيز، فقدمها في أواخر ذي القعدة منها.

وفيها: أظهر مروان الحمار الخلاف ليزيد بن الوليد، وخرج من بلاد أرمينية يظهر أنه يطلب بدم الوليد بن يزيد، فلما وصل إلى حران أظهر الموافقة، وبايع لأمير المؤمنين يزيد بن الوليد.

وفيها: أرسل إبراهيم بن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس، أبا هاشم بكر بن ماهان إلى أرض خراسان، فاجتمع بجماعة من أهل خراسان بمرو، فقرأ عليهم كتاب إبراهيم بن محمد الإمام إليه وإليهم، ووصيته، فتلقوا ذلك بالقبول، وأرسلوا معه ما كان عندهم من النفقات.

وفي سلخ ذي القعدة: وقيل: في سلخ ذي الحجة، وقيل: لعشر مضين منه، وقيل: بعد الأضحى منها كان وفاة أمير المؤمنين.

يزيد بن الوليد بن عبد الملك بن مروان

هو: يزيد بن الوليد بن عبد الملك بن مروان بن الحكم بن أبي العاص بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف بن قصي، أبو خالد الأموي، أمير المؤمنين.

بويع بالخلافة أول ما بويع بها في قرية المزة، من قرى دمشق، ثم دخل دمشق فغلب عليها، ثم أرسل الجيوش إلى ابن عمه الوليد بن يزيد فقتله، واستحوذ على الخلافة في أواخر جمادى الآخرة من هذه السنة، وكان يلقب: بالناقص لنقصه الناس العشرات التي زادهم إياها الوليد بن يزيد.

وقيل: إنما سماه بذلك مروان الحمار، وكان يقول: الناقص بن اليد، وأمه شاهفرند بنت فيروز بن يزدجرد بن كسرى، كسروية.

وقال ابن جرير: وأمه شاه آفريد بنت فيروز بن يزدجرد بن شهريار بن كسرى، وهو القائل:

أنا ابن كسرى وأبي مروان * وقيصر جدي وجدي خاقان

وإنما قال ذلك لأن جده فيروز، وأم أمه بنت قيصر، وأمه شيرويه وهي بنت خاقان ملك الترك، وكانت قد سباها قتيبة بن مسلم، هي وأخت لها فبعثهما إلى الحجاج، فأرسل بهذه إلى الوليد واستبقى عنده الأخرى، فولدت هذه الوليد بن يزيد الناقص هذا، وهذه أخذها الحجاج فكانت عنده بالعراق.

وكان مولده في سنة تسعين، وقيل: في سنة ست وتسعين.

وقد روى عنه الأوزاعي مسألة السلم.

وقد ذكرنا كيفية ولايته فيما سلف في هذه السنة، وأنه كان عادلا ديِّنا محبا للخير مبغضا للشر، قاصدا للحق.

وقد خرج يوم عيد الفطر من هذه السنة إلى صلاة العيد بين صفين من الخيالة والسيوف مسللة عن يمينه وشماله، ورجع من المصلى إلى الخضراء كذلك.

كان رجلا صالحا، يقال في المثل: الأشج والناقص أعدلا بني مروان، والمراد عمر بن عبد العزيز وهذا.

وقد قال أبو بكر بن أبي الدنيا: حدثني إبراهيم بن محمد المروزي، عن أبي عثمان الليثي، قال: قال يزيد بن الوليد الناقص: يا بني أمية إياكم والغناء فإنه ينقص الحياء ويزيد في الشهوة ويهدم المروءة، وإنه لينوب عن الخمر ويفعل ما يفعل المسكر، فإن كنتم لابد فاعلين فجنبوه النساء فإنه داعية الزنا.

وقال ابن عبد الحكيم: عن الشافعي لما ولي يزيد بن الوليد بن عبد الملك بن مروان الذي يقال له: الناقص، دعا الناس إلى القدر، وحملهم عليه، وقرب غيلان. قاله ابن عساكر.

قال: ولعله قرب أصحاب غيلان، لأن غيلان قتله هشام بن عبد الملك.

وقال محمد بن المبارك: آخر ما تكلم به يزيد بن الوليد الناقص: واحزناه واشقاآه.

وكان نقش خاتمه: العظمة لله.

وكانت وفاته بالخضراء من طاعون أصابه، وذلك يوم السبت لسبع مضين من ذي الحجة، وقيل: يوم الأضحى منه، وقيل: بعده بأيام، وقيل: لعشر بقين منه، وقيل: في سلخه، وقيل: في سلخ ذي القعدة من هذه السنة.

وأكثر ما قيل في عمره: ست وأربعون سنة، وقيل: ثلاثون سنة، وقيل: غير ذلك، فالله أعلم.

وكانت مدة ولايته ستة أشهر على الأشهر، وقيل: خمسة أشهر وأيام.

وصلى عليه أخوه إبراهيم بن الوليد، وهو ولي العهد من بعده - رحمه الله -.

وذكر سعيد بن كثير بن عفير أنه دفن بين باب الجابية وباب الصغير، وقيل: إنه دفن بباب الفراديس.

وكان أسمر نحيفا حسن الجسم حسن الوجه.

وقال علي بن محمد المديني: كان يزيد أسمر طويلا صغير الرأس، بوجهه خال، وكان جميلا، وفي فمه بعض السعة، وليس بالمفرط.

وحج بالناس فيها عبد العزيز بن عمر بن عبد العزيز، وهو نائب الحجاز، وأخوه عبد الله نائب العراق، ونصر بن سيار على نيابة خراسان، والله سبحانه أعلم.

وممن توفي في هذه السنة من الأعيان:

خالد بن عبد الله بن يزيد

ابن أسد بن كرز بن عامر بن عبقري، أبو الهيثم، البجلي القسري الدمشقي، أمير مكة والحجاز للوليد ثم لسليمان، وأمير العراقين لهشام خمس عشرة سنة.

قال ابن عساكر: كانت داره بدمشق في مربعة القز، وتعرف اليوم بدار الشريف اليزيدي، وإليه ينسب الحمام الذي داخل باب توما.

روى عن أبيه، عن جده، أن رسول الله قال له: «يا أسد أتحب الجنة؟». قال: نعم !

قال: «فأحب للمسلمين ما تحب لنفسك».

رواه أبو يعلى، عن عثمان بن أبي شيبة، عن هيثم، عن سيار بن أبي الحكم، أنه سمعه على المنبر يقول ذلك.

وممن روى عنه: إسماعيل بن أوسط، وإسماعيل بن أبي خالد، وحبيب بن أبي حبيب، وحميد الطويل.

وروي أنه روى عن جده، عن النبي في تكفير المرض الذنوب.

وكانت أمه نصرانية، وذكره أبو بكر بن عياش في الأشراف فيمن أمه نصرانية.

وقال المدائني: أول ما عرف من رياسته أنه وطأ صبيا بدمشق بفرسه فحمله فأشهد طائفة من الناس أنه هو صاحبه، فإن مات فعليه ديته.

وقد استنابه الوليد على الحجاز من سنة تسع وثمانين إلى أن توفي الوليد ثم سليمان، وفي سنة ست ومائة استنابه هشام على العراق إلى سنة عشرين ومائة، وسلمه إلى يوسف بن عمر الذي ولاه مكانه فعاقبه وأخذ منه أموالا ثم أطلقه، وأقام بدمشق إلى المحرم من هذه السنة فسلمه الوليد بن يزيد إلى يوسف بن عمر يستخلص منه خمسين ألف ألف، فمات تحت العقوبة البليغة، كسر قدميه ثم ساقيه ثم فخذيه، ثم صدره، فمات ولا يتكلم كلمة واحدة، ولا تأوه حتى خرجت روحه - رحمه الله -.

قال الليثي: عن أبيه، خطب خالد القسري يوما فأرتج عليه، فقال: أيها الناس ! إن هذا الكلام يجيء أحيانا ويعزب أحيانا، فيتسبب عند مجيئه سببه، ويتعذر عند عزوبه مطلبه، وقد يرد إلى السليط بيانه، ويثيب إلى الحصر كلامه، وسيعود إلينا ما تحبون، ونعود لكم كما تريدون.

وقال الأصمعي وغيره: خطب خالد القسري يوما بواسط فقال: يا أيها الناس ! تنافسوا في المكارم، وسارعوا إلى المغانم، واشتروا الحمد بالجود، ولا تكتسبوا بالمطل ذما، ولا تعتدُّوا بمعروف لم تعجلوه، ومهما تكن لأحد منكم نعمة عند أحد لم يبلغ شكرها فالله أحسن له جزاء، وأجزل عطاء، واعلموا أن حوائج الناس إليكم نعم فلا تملوها فتحول نقما، فإن أفضل المال ما كسب أجرا وأورث ذكرا.

ولو رأيتم المعروف لرأيتموه رجلا حسنا جميلا يسر الناس إذا نظروا إليه، ويفوق العالمين.

ولو رأيتم البخل لرأيتموه رجلا مشوها قبيحا تنفر منه القلوب، وتغض دونه الأبصار.

إنه من جاد ساد، ومن بخل ذل، وأكرم الناس من أعطى من لا يرجوه، ومن عفا عن قدرة، وأفضل الناس من وصل عن قطيعة، ومن لم يطب حرثه لم يزك نبته، والفروع عند مغارسها تنمو، وبأصولها تسمو.

وروى الأصمعي، عن عمر بن الهيثم، أن أعرابيا قدم على خالد فأنشده قصيدة امتدحه بها يقول فيها:

إليك ابن كرز الخير أقبلت راغبا * لتجبر مني ما وها وتبدَّدا

إلى الماجد البهلول ذي الحلم والندى * وأكرم خلق الله فرعا ومحتدا

إذا ما أناس قصروا بفعالهم * نهضت فلم تلقى هنالك مفقدا

فيالك بحرا يغمر الناس موجه * إذا يسأل المعروف جاش وأزبدا

بلوت ابن عبد الله في كل موطن * فألفيت خير الناس نفسا وأمجدا

فلو كان في الدنيا من الناس خالد * لجود بمعروف لكنت مخلدا

فلا تحرمني منك ما قد رجوته * فيصبح وجهي كالح اللون أربدا

قال: فحفظها خالد، فلما اجتمع الناس عند خالد قام الأعرابي ينشدها، فابتدره إليها خالد فأنشدها قبله وقال: أيها الشيخ ! إن هذا شعر قد سبقناك إليه.

فنهض الشيخ فولَّى ذاهبا فاتبعه خالد من يسمع ما يقول فإذا هو ينشد هذه الأبيات:

ألا في سبيل الله ما كنت أرتجي * لديه وما لاقيت من نكد الجهد

دخلت على بحر يجود بماله * ويعطي كثير المال في طلب الحمد

فخالفني الجد المشوم لشقوتي * وقاربني نحسي وفارقني سعدي

فلو كان لي رزق لديه لنلته * ولكن أمر من الواحد الفرد

فرده إلى خالد وأعلمه بما كان يقول فأمر له بعشرة آلاف درهم.

وقال الأصمعي: سأل أعرابي خالدا القسري أن يملأ له جرابه دقيقا فأمر بملئه له دراهم، فقيل للأعرابي حين خرج: ما فعل معك ؟

فقال: سألته بما أشتهي فأمر لي بما يشتهي هو.

وقال بعضهم: بينما خالد يسير في موكبه إذ تلقاه أعرابي فسأله أن يضرب عنقه، فقال: ويحك ! ولم؟ أقطعت السبيل؟ أأخرجت يدا من طاعة ؟

فكل ذلك يقول: لا !

قال: فلم ؟

قال: من الفقر والفاقة.

فقال: سل حاجتك.

قال: ثلاثين ألفا.

فقال خالد: ما ربح أحد مثل ما ربحت اليوم، إني وضعت في نفسي أن يسألني مائة ألف، فسأل ثلاثين فربحت سبعين.

ارجعوا بنا اليوم، وأمر له بثلاثين ألفا.

وكان إذا جلس يوضع المال بين يديه ويقول: إن هذه الأموال ودائع لابد من تفرقتها.

وسقط خاتم لجاريته رابعة يساوي ثلاثين ألفا، في بالوعة الدار، فسألت أن تؤتى بمن يخرجه، فقال: إن يدك أكرم علي من أن تلبسه بعد ما صار إلى هذا الموضع القذر.

وأمر لها بخمسة آلاف دينار بدله، وقد كان لرابعة هذه من الحلي شيء عظيم، من جملة ذلك ياقوتة وجوهرة، كل واحدة بثلاثة وسبعين ألف دينار.

وقد روى البخاري في كتاب أفعال العباد، وابن أبي حاتم في كتاب السنة، وغير واحد ممن صنف في كتب السنة، أن خالد بن عبد الله القسري خطب الناس في عيد أضحى فقال: أيها الناس ! ضحوا يقبل الله ضحاياكم، فإني مضح بالجعد بن درهم، إنه زعم أن الله لم يتخذ إبراهيم خليلا، ولم يكلم موسى تكليما، تعالى الله عما يقول الجعد بن درهم علوا كبيرا. ثم نزل فذبحه في أصل المنبر.

قال غير واحد من الأئمة: كان الجعد بن درهم من أهل الشام، وهو مؤدب مروان الحمار، ولهذا يقال له: مروان الجعدي، فنسب إليه، وهو شيخ الجهم بن صفوان الذي تنسب إليه الطائفة الجهمية، الذين يقولون: إن الله في كل مكان بذاته تعالى الله عما يقولون علوا كبيرا.

وكان الجعد بن درهم قد تلقى هذا المذهب الخبيث عن رجل يقال له: أبان بن سمعان، وأخذه أبان عن طالوت بن أخت لبيد بن أعصم، عن خاله لبيد بن أعصم اليهودي الذي سحر النبي في مشط وماشطه وجف طلعة ذكر له، وتحت راعوفة ببئر ذي أروان الذي كان ماؤها نقاعة الحناء.

وقد ثبت الحديث بذلك في الصحيحين وغيرهما.

وجاء في بعض الأحاديث: أن الله تعالى أنزل بسبب ذلك سورتي المعوذتين.

وقال أبو بكر بن أبي خيثمة: حدثنا محمد بن يزيد الرفاعي، سمعت أبا بكر بن عياش، قال: رأيت خالدا القسري حين أتي بالمغيرة وأصحابه، وقد وضع له سرير في المسجد، فجلس عليه، ثم أمر برجل من أصحابه فضرب عنقه ثم قال للمغيرة: أحيه - وكان المغيرة يزعم أنه يحيي الموتى -.

فقال له: والله أصلحك الله ما أحيي الموتى.

قال: لتحيينه أو لأضربن عنقك.

قال: والله ما أقدر على ذلك.

ثم أمر بطن قصب فأضرموا فيه نارا ثم قال للمغيرة: أعتنقه.

فأبى، فعدا رجل من أصحابه فأعتنقه، قال أبو بكر: فرأيت النار تأكله وهو يشير بالسبابة.

قال خالد: هذا والله أحق بالرياسة منك.

ثم قتله وقتل أصحابه.

وقال المدائني: أتي خالد بن عبد الله برجل تنبأ بالكوفة فقيل له: ما علامة نبوتك ؟

قال: قد نزل عليَّ قرآن.

قال: إنا أعطياك الكماهر، فصل لربك ولا تجاهر، ولا تطع كل كافر وفاجر.

فأمر به فصلب، فقال وهو يصلب: إنا أعطيناك العمود، فصل لربك على عود، فأنا ضامن لك ألا تعود.

وقال المبرد: أتي خالد بشاب قد وجد في دار قوم وادعي عليه السرقة، فسأله فاعترف، فأمر بقطع يده، فتقدمت حسناء فقالت:

أخالد قد أوطأت والله عثرة * وما العاشق المسكين فينا بسارق

أقرَّ بما لم يجنه غير أنه * رأى القطع أولى من فضيحة عاشق

فأمر خالد بإحضار أبيها فزوجها من ذلك الغلام، وأمهرها عنه عشرة آلاف درهم.

وقال الأصمعي: دخل أعرابي على خالد فقال: إني قد مدحتك ببيتين ولست أنشدهما إلا بعشرة آلاف وخادم.

فقال: نعم !

فأنشأ يقول:

لزمت نعم حتى كأنك لم تكن * سمعت من الأشياء شيئا سوى نعم

وأنكرت لا حتى كأنك لم تكن * سمعت بها في سالف الدهر والأمم

قال: فأمر له بعشرة آلاف درهم وخادم يحملها.

قال: ودخل عليه أعرابي فقال له: سل حاجتك.

فقال: مائة ألف.

فقال: أكثرت حط منها.

قال: أضع تسعين ألفا.

فتعجب منه خالد فقال: أيها الأمير ! سألتك على قدرك، ووضعت على قدري.

فقال له: لن تغلبني أبدا، وأمر له بمائة ألف.

قال: ودخل عليه أعرابي، فقال: إني قد قلت فيك شعرا وأنا أستصغره فيك.

فقال: قل.

فأنشأ يقول:

تعرضت لي بالجود حتى نعشتني * وأعطيتني حتى ظننتك تلعب

فأنت الندى وابن الندى وأخو الندى * حليف الندى ما للندى عنك مذهب

فقال: سل حاجتك.

قال: عليَّ خمسون ألف دينار.

فقال: قد أمرت لك بها وأضعفتها لك، فأعطاه مائة ألف.

قال أبو الطيب محمد بن إسحق بن يحيى الوساي: دخل أعرابي على خالد القسري فأنشده:

كتبت نعم ببابك فهي تدعو * إليك الناس مسفرة النقاب

وقلت للا عليك بباب غيري * فإنك لن تري أبدا ببابي

قال: فأعطاه على كل بيت خمسين ألفا.

وقد قال فيه ابن معين: كان رجل سوء يقع في علي بن أبي طالب - رضي الله عنه -.

وذكر الأصمعي، عن أبيه: أن خالدا حفر بئرا بمكة ادَّعى فضلها على زمزم، وله في رواية عنه: تفضيل الخليفة على الرسول، وهذا كفر إلا أن يريد بكلامه غير ما يبدو منه، والله أعلم.

والذي يظهر أن هذا لا يصح عنه، فإنه كان قائما في إطفاء الضلال والبدع كما قدمنا من قتله للجعد بن درهم وغيره من أهل الإلحاد، وقد نسب إليه صاحب العقد أشياء لا تصح، لأن صاحب العقد كان فيه تشيع شنيع ومغالاة في أهل البيت، وربما لا يفهم أحد من كلامه ما فيه من التشيع، وقد أغتر به شيخنا الذهبي فمدحه بالحفظ وغيره.

وقد ذكر ابن جرير وابن عساكر وغيرهما أن الوليد بن يزيد كان قد عزم على الحج في إمارته فمن نيته أن يشرب الخمر على ظهر الكعبة، فلما بلغ ذلك جماعة من الأمراء اجتمعوا على قتله وتولية غيره من الجماعة، فحذر خالد أمير المؤمنين منهم، فسأله أن يسميهم فأبى عليه فعاقبه عقابا شديدا، ثم بعث به إلى يوسف بن عمر فعاقبه حتى مات شر قتلة وأسوئها، وذلك في محرم من هذه السنة - أعني سنة ست وعشرين ومائة -.

وذكره القاضي ابن خلكان في الوفيات، وقال: كان متهما في دينه، وقد بنى لأمه كنيسة في داره.

قال فيه بعض الشعراء وقال صاحب الأعيان: كان في نسبه يهود فانتموا إلى القرب، وكان يقرب من شق و سطيح.

قال القاضي بن خلكان: وقد كانا ابني خالة، وعاش كل منهما ستمائة، وولدا في يوم واحد، وذلك يوم ماتت طريفة بنت الحر بعد ما تفلت في فم كل منهما وقالت: إنه سيقوم مقامي في الكهانة، ثم ماتت من يومها.

وممن توفي في هذه السنة: جبلة بن سحيم، ودارج أبو السمح، وسعيد بن مسروق، في قول، وسليمان بن حبيب المحاربي، قاضي دمشق، وعبد الرحمن بن قاسم، شيخ مالك، وعبيد الله بن أبي يزيد، وعمرو بن دينار، وقد ذكرنا تراجمهم في كتابنا التكميل.

ثم دخلت سنة سبع وعشرين ومائة

استهلت هذه السنة والخليفة إبراهيم بن الوليد بن عبد الملك بوصية أخيه يزيد الناقص إليه، وبايعه الأمراء بذلك، وجميع أهل الشام إلا أهل حمص فلم يبايعوه.

وقد تقدم أن مروان بن محمد الملقب: بالحمار كان نائبا بأذربيجان وأرمينية، وتلك كانت لأبيه من قبله، وكان نقم على يزيد بن الوليد في قتله الوليد بن يزيد، وأقبل في طلب دم الوليد، فلما انتهى إلى حران أناب وبايع يزيد بن الوليد، فلم يلبث إلا قليلا حتى بلغه موته.

فأقبل في أهل الجزيرة حتى وصل قنسرين فحاصر أهلها فنزلوا على طاعته، ثم أقبل إلى حمص وعليها عبد العزيز بن الحجاج من جهة أمير المؤمنين إبراهيم بن الوليد فحاصرهم حتى يبايعوا لإبراهيم بن الوليد، وقد أصروا على عدم مبايعته، فلما بلغ عبد العزيز قرب مروان بن محمد ترحل عنها، وقدم مروان إليها فبايعوه وساروا معه قاصدين دمشق، ومعهم جند الجزيرة وجند قنسرين.

فتوجه مروان إلى دمشق في ثمانين ألفا، وقد بعث إبراهيم بن الوليد بن هشام بن عبد الملك في مائة وعشرين ألفا، فالتقى الجيشان عند عين الجر من البقاع، فدعاهم مروان إلى الكف عن القتال وأن يتخلوا عن ابني الوليد بن يزيد وهما الحكم وعثمان اللذان قد أخذ العهد لهما، وكان يزيد قد سجنهما بدمشق، فأبوا عليه ذلك، فاقتتلوا قتالا شديدا من حين ارتفاع النهار إلى العصر، وبعث مروان سرية تأتي جيش ابن هشام من ورائهم، فتم لهم ما أرادوه، وأقبلوا من ورائهم يكبرون، وحمل الآخرون من تلقاهم عليهم.

فكانت الهزيمة في أصحاب سليمان، فقتل منهم أهل حمص خلقا كثيرا، واستبيح عسكرهم، وكان مقدار ما قتل من أهل دمشق في ذلك اليوم قريبا من سبعة عشر ألفا أو ثمانية عشر ألفا وأسر منهم مثلهم، فأخذ عليهم مروان البيعة للغلامين ابني الوليد، الحكم وعثمان، وأطلقهم كلهم سوى رجلين، وهما: يزيد بن العقار والوليد بن مصاد الكلبيان، فضربهما بين يديه بالسياط وحبسهما فماتا في السجن، لأنهما كانا ممن باشر قتل الوليد بن يزيد حين قتل.

وأما سليمان وبقية أصحابه فإنهم استمروا منهزمين، فما أصبح لهم الصبح إلا بدمشق، فأخبروا أمير المؤمنين إبراهيم بن الوليد بما وقع، فاجتمع معهم رؤس الأمراء في ذلك الوقت وهم: عبد العزيز بن الحجاج، ويزيد بن خالد بن عبد الله القسري، وأبو علاقة السككي، والأصبغ بن ذؤالة الكلبي، ونظراؤهم، على أن يعمدوا إلى قتل ابني الوليد: الحكم وعثمان، خشية أن يلي الخلافة فيهلكا من عاداهما وقتل أباهما.

فبعثوا إليهما يزيد بن خالد بن عبد الله القسري، فعمد إلى السجن وفيه الحكم وعثمان ابنا الوليد وقد بلغا، ويقال: ولد لأحدهما ولد فشدخها بالعمد، وقتل يوسف بن عمر - وكان مسجونا معهما - وكان في سجنهما أيضا أبو محمد السفياني فهرب فدخل في بيت داخل السجن وجعل وراء الباب ردما، فحاصروه فامتنع، فأتوا بنار ليحرقوا الباب.

ثم اشتغلوا عن ذلك بقدوم مروان بن محمد وأصحابه إلى دمشق في طلب المنهزمين.

ذكر دخول مروان الحمار دمشق وولايته الخلافة

لما أقبل مروان بمن معه من الجنود من عين الجر واقترب من دمشق وقد انهزم أهلها بين يديه بالأمس، هرب إبراهيم بن الوليد، وعمد سليمان بن هشام إلى بيت المال ففتحه وأنفق ما فيه على أصحابه ومن اتبعه من الجيوش، وسار موالي الوليد بن يزيد إلى دار عبد العزيز بن الحجاج فقتلوه فيها، وانتهبوها ونبشوا قبر يزيد بن الوليد وصلبوه على باب الجابية، ودخل مروان بن محمد دمشق فنزل في أعاليها، وأتي بالغلامين الحكم وعثمان وهما مقتولان وكذلك يوسف بن عمر فدفنوه.

وأتي بأبي محمد السفياني وهو في حبوله فسلم على مروان بالخلافة فقال مروان: مه.

فقال: إن هذين الغلامين جعلاها لك من بعدهما.

ثم أنشد قصيدة قالها الحكم في السجن وهي طويلة منها قوله:

ألا من مبلغ مروان عني * وعمي الغمر طال بذا حنينا

بأني قد ظلمت وصار قومي * على قتل الوليد متابعينا

فإن أهلك أنا وولي عهدي * فمروان أمير المؤمنينا

ثم قال أبو محمد السفياني لمروان: ابسط يدك.

فكان أول من بايعه بالخلافة، فمعاوية بن يزيد بن حصين بن نمير ثم بايعه رؤس أهل الشام من أهل دمشق وحمص وغيرهم، ثم قال لهم مروان: اختاروا أمراء نوليهم عليكم.

فاختار أهل كل بلد أميرا فولاه عليهم، فعلى دمشق: زامل بن عمرو الجبراني، وعلى حمص: عبد الله بن شجرة الكندي، وعلى الأردن: الوليد بن معاوية بن مروان، وعلى فلسطين: ثابت بن نعيم الجذامي.

ولما استوت الشام لمروان بن محمد رجع إلى حران وعند ذلك طلب منه إبراهيم بن الوليد الذي كان خليفة وابن عمه سليمان بن هشام الأمان فأمنهما، وقدم عليه سليمان بن هشام في أهل تدمر فبايعوه، ثم لما استقر مروان في حران أقام فيها ثلاثة أشهر فانتقض عليه ما كان انبرم له من مبايعة أهل الشام، فنقض أهل حمص وغيرهم، فأرسل إلى أهل حمص جيشا فوافوهم ليلة عيد الفطر من هذه السنة، وقدم مروان إليها بعد الفطر بيومين، فنازلها مروان في جنود كثيرة، ومعه يومئذ إبراهيم بن الوليد المخلوع، وسليمان بن هشام، وهما عنده مكرمان خصيصان لا يجلس إلا بهما وقت الغداء والعشاء، فلما حاصر حمص نادوه إنا على طاعتك.

فقال: افتحوا باب البلد، ففتحوه.

ثم كان منهم بعض القتال فقتل منهم نحو الخمسمائة أو الستمائة، فأمر بهم فصلبوا حول البلد، وأمر بهدم بعض سورها.

وأما أهل دمشق فأما: أهل الغوطة فحاصروا أميرهم زامل بن عمر، وأمَّروا عليهم يزيد بن خالد القسري، وثبت في المدينة نائبها، فبعث إليه أمير المؤمنين مروان من حمص عسكرا نحو عشرة آلاف، فلما اقتربوا من دمشق خرج النائب فيمن معه، والتقوا هم والعسكر بأهل الغوطة فهزموهم، وحرقوا المزة وقرى أخرى معها، واستجار يزيد بن خالد القسري وأبو علاقة الكلبي برجل من أهل المزة من لخم، فدل عليهم زامل بن عمرو فقتلهما وبعث برأسيهما إلى أمير المؤمنين مروان وهو بحمص.

وخرج ثابت بن نعيم في أهل فلسطين على الخليفة وأتوا طبرية فحاصروها، فبعث الخليفة إليهم جيشا فأجلوهم عنها واستباحوا عسكرهم، وفر ثابت بن نعيم هاربا إلى فلسطين فاتبعه الأمير أبو الورد فهزمه ثانية وتفرق عنه أصحابه، وأسر أبو الورد ثلاثة من أولاده فبعث بهم إلى الخليفة وهم جرحى فأمر بمداواتهم.

ثم كتب أمير المؤمنين إلى نائب فلسطين وهو الرماحس بن عبد العزيز الكناني يأمره بطلب ثابت بن نعيم حيث كان، فما زال يتلطف به حتى أخذه أسيرا، وذلك بعد شهرين، فبعثه إلى الخليفة وأمر بقطع يديه ورجليه، وكذلك جماعة كانوا معه، وبعث بهم إلى دمشق فأقيموا على باب مسجدها، لأن أهل دمشق كانوا قد أرجفوا بأن ثابت بن نعيم ذهب إلى ديار مصر فتغلب عليها وقتل نائب مروان فيها، فأرسل إليهم مقطع اليدين والرجلين ليعرفوا بطلان ما كانوا به أرجفوا.

وأقام الخليفة مروان بدير أيوب عليه السلام مدة حتى بايع لابنه عبد الله ثم عبيد الله وزوجهما ابنتي هشام، وهما: أم هشام وعائشة، وكان مجمعا حافلا وعقدا هائلا، ومبايعةً عامةً، ولكن لم تكن في نفس الأمر تامة.

وقدم الخليفة إلى دمشق، وأمر بثابت وأصحابه بعد ما كانوا تقطعوا أن يصلبوا على أبواب البلد، ولم يستبق منهم أحد إلا واحدا وهو: عمر بن الحارث الكلبي، وكان عنده فيما زعم علم بودايع كان ثابت بن نعيم أودعها عند أقوام.

واستوسق أمر الشام لمروان ماعدا تدمر، فسار من دمشق فنزل القسطل من أرض حمص، وبلغه أن أهل تدمر قد غوروا ما بينه وبينهم من المياه، فاشتد غضبه عليهم ومعه حجافل من الجيوش، فتكلم الأبرش بن الوليد وكانوا قومه فسأل منه أن يرسل إليهم أولا ليعذر إليهم.

فبعث عمرو بن الوليد أخا الأبرش، فلما قدم عليهم لم يلتفتوا إليه ولا سمعوا له قولا فرجع، فهمَّ الخليفة أن يبعث الجنود فسأله الأبرش أن يذهب إليهم بنفسه فأرسله، فلما قدم عليهم الأبرش كلمهم واستمالهم إلى السمع والطاعة، فأجابه أكثرهم وامتنع بعضهم، فكتب إلى الخليفة يعلمه بما وقع، فأمره الخليفة أن يهدم بعض سورها، وأن يقبل بمن أطاعه منهم إليه، ففعل.

فلما حضروا عنده سار بمن معه من الجنود نحو الرصافة على طريق البرية، ومعه من الرؤوس: إبراهيم بن الوليد المخلوع، وسليمان بن هشام، وجماعة من ولد الوليد، ويزيد، وسليمان، فأقام بالرصافة أياما ثم شخص إلى البرية.

فاستأذنه سليمان بن هشام أن يقيم هناك أياما ليستريح ويجم ظهره فأذن له، فانحدر مروان فنزل عند واسط على شط الفرات فأقام ثلاثا، ثم مضى إلى قرقيسيا وابن هبيرة بها ليبعثه إلى العراق لمحاربة الضحاك بن قيس الشيباني الخارجي الحروري، واشتغل مروان بهذا الأمر.

وأقبل عشرة آلاف فارس ممن كان مروان قد بعثهم في بعض السرايا، فاجتازوا بالرصافة وفيها سليمان بن هشام بن عبد الملك الذي كان استأذن الخليفة في المقام هناك للراحة، فدعوه إلى البيعة له وخلع مروان بن محمد ومحاربته، فاستزله الشيطان فأجابهم إلى ذلك، وخلع مروان وسار بالجيوش إلى قنسرين، وكاتب أهل الشام فانفضوا إليه من كل وجه.

وكتب سليمان إلى ابن هبيرة الذي جهزه مروان لقتال الضحاك بن قيس الخارجي يأمره بالمسير إليه، فالتفت إليه نحو من سبعين ألفا، وبعث مروان إليهم عيسى بن مسلم في نحو من سبعين ألفا، فالتقوا بأرض قنسرين فاقتتلوا قتالا شديدا، وجاء مروان والناس في الحرب فقاتلهم أشد قتال فهزمهم، وقتل يومئذ إبراهيم بن سليمان بن هشام، وكان أكبر ولده، وقتل منهم نيفا وثلاثين ألف.

وذهب سليمان مغلوبا فأتى حمص فالتف عليه من انهزم من الجيش فعسكر بهم فيها، وبنى ما كان مروان هدم من سورها.

فجاءهم مروان فحاصرهم بها ونصب عليهم نيفا وثمانين منجنيقا، فمكث كذلك ثمانية أشهر يرميهم ليلا ونهارا، ويخرجون إليه كل يوم ويقاتلون ثم يرجعون.

هذا وقد ذهب سليمان وطائفة من الجيش معه إلى تدمر وقد اعترضوا جيش مروان في الطريق وهموا بالفتك به وأن ينتهبوه فلم يمكنهم ذلك، وتهيأ مروان فقاتلهم فقتلوا من جيشه قريبا من ستة آلاف وهم تسعمائة، انصرفوا إلى تدمر، ولزم مروان محاصرة حمص كمال عشرة أشهر.

فلما تتابع عليهم البلاء، ولزمهم الذل، سألوه أن يؤمنهم فأبى إلا أن ينزلوا على حكمه، ثم سألوه الأمان على أن يمكنوه من سعيد بن هشام، وابنيه مروان وعثمان ومن السكسكي الذي كان حبس معه، ومن حبشي كان يفتري عليه ويشتمه.

فأجابهم إلى ذلك فأمنهم وقتل أولئك، ثم سار إلى الضحاك، وكان عبد الله بن عمر بن عبد العزيز نائب العراق قد صالح الضحاك الخارجي على ما بيده من الكوفة وأعمالها.

وجاءت خيول مروان قاصدة إلى الكوفة، فتلقاهم نائبها من جهة الضحاك - ملحان الشيباني - فقاتلهم فقتل ملحان، واستناب الضحاك عليها المثنى بن عمران من بني عائذة، وسار الضحاك في ذي القعدة إلى الموصل، وسار ابن هبيرة إلى الكوفة فانتزعها من أيدي الخوارج، وأرسل الضحاك جيشا إلى الكوفة فلم يجد شيئا.

وفي هذه السنة: خرج الضحاك بن قيس الشيباني، وكان سبب خروجه أن رجلا يقال له: سعيد بن بهدل - وكان خارجيا - اغتنم غفلة الناس واشتغالهم بمقتل الوليد بن يزيد، فثار في جماعة من الخوارج بالعراق، فالتف عليه أربعة آلاف - ولم تجتمع قبلها لخارجي - فقصدتهم الجيوش فاقتتلوا معهم، فتارة يكسرون وتارة يُكسرون.

ثم مات سعيد بن بهدل في طاعون أصابه، واستخلف على الخوارج من بعده الضحاك بن قيس هذا، فالتف أصحابه عليه، والتقى هو وجيش كثير فغلبت الخوارج وقتلوا خلقا كثيرا، منهم عاصم بن عمر بن عبد العزيز - أخو أمير العراق عبد الله بن عمر بن عبد العزيز - فرثاه بأشعار.

ثم قصد الضحاك بطائفة من أصحابه مروان فاجتاز الكوفة، فنهض إليه أهلها فكسرهم ودخل الكوفة فاستحوذ عليها، واستناب بها رجلا اسمه: حسان، ثم استناب ملحان الشيباني في شعبان من هذه السنة، وسار هو في طلب عبد الله بن عمر بن عبد العزيز نائب العراق، فالتقوا فجرت بينهم حروب كثيرة يطول ذكرها وتفصيلها.

وفي هذه السنة: اجتمعت جماعة من الدعاة إلى بني العباس عند إبراهيم بن محمد الإمام ومعهم أبو مسلم الخراساني، فدفعوا إليه نفقات كثيرة، وأعطوه خمس أموالهم، ولم ينتظم لهم أمر في هذه السنة لكثرة الشرور المنتشرة، والفتن الواقعة بين الناس.

وفي هذه السنة: خرج بالكوفة معاوية بن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب، فدعا إلى نفسه، وخرج إلى محاربة أمير العراق عبد الله بن عمر بن عبد العزيز، فجرت بينهما حروب يطول ذكرها، ثم أجلاه عنها فلحق بالجبال فتغلب عليها.

وفي هذه السنة: خرج الحارث بن سريج الذي كان لحق ببلاد الترك ومالأهم على المسلمين فمنَّ الله عليه بالهداية ووفقه حتى خرج إلى بلاد الشام، وكان ذلك عن دعاء يزيد بن الوليد إلى الرجوع إلى الإسلام وأهله فأجابه إلى ذلك، وخرج إلى خراسان فأكرمه نصر بن سيار نائب سورة، واستمر الحارث بن سريج على الدعوة إلى الكتاب والسنة وطاعة الإمام، وعنده بعض المناوأة لنصر بن سيار.

قال الواقدي وأبو معشر: وحج بالناس في هذه السنة عبد العزيز بن عمر بن عبد العزيز أمير الحجاز ومكة والمدينة والطائف، وأمير العراق نضر بن سعيد الحرشي، وقد خرج عليه الضحاك الحروري، وعبد الله بن عبد العزيز.

وأمير خراسان نصر بن سيار، وقد خرج عليه الكرماني والحارث بن سريج.

وممن توفي هذه السنة: بكر بن الأشج، وسعد بن إبراهيم، وعبد الله بن دينار، وعبد الملك بن مالك الجزري، وعمير بن هانئ، ومالك بن دينار، ووهب بن كيسان، وأبو إسحاق السبيعي.

ثم دخلت سنة ثمان وعشرين ومائة

فيها: كان مقتل الحارث بن سريج، وكان سبب ذلك أن يزيد بن الوليد الناقص كان قد كتب إليه كتاب أمان، حتى خرج من بلاد الترك وصار إلى المسلمين ورجع عن موالاة المشركين إلى نصرة الإسلام وأهله.

وأنه وقع بينه وبين نصر بن سيار نائب خراسان وحشة ومنافسات كثيرة يطول ذكرها، فلما صارت الخلافة إلى مروان بن محمد استوحش الحارث بن سريج من ذلك.

وتولى ابن هبيرة نيابة العراق، وجاءت البيعة لمروان، فامتنع الحارث من قبولها وتكلم في مروان، وجاءه مسلمة بن أحوز أمير الشرطة، وجماعة من رؤس الأجناد والأمراء، وطلبوا منه أن يكف لسانه ويده، وأن لا يفرق جماعة المسلمين، فأبى وبرز ناحية عن الناس، ودعا نصر بن سيار إلى ما هو عليه من الدعوة إلى الكتاب والسنة فامتنع نصر من موافقته، واستمر هو على خروجه على الإسلام.

وأمر الجهم بن صفوان مولى بني راسب ويكنى: بأبي محرز - وهو الذي نسبت إليه الفرقة الجهمية - أن يقرأ كتابا فيه سيرة الحارث على الناس، وكان الحارث يقول: أنا صاحب الرايات السود.

فبعث إليه نصر يقول: لئن كنت ذاك فلعمري إنكم الذين تخربون سور دمشق وتزيلون بني أمية، فخذ مني خمسمائة رأس ومائة بعير، وإن كنت غيره فقد أهلكت عشيرتك.

فبعث إليه الحارث يقول: لعمري إن هذا لكائن.

فقال له نصر: فابدأ بالكرماني أولا، ثم سر إلى الري، وأنا في طاعتك إذا وصلتها.

ثم تناظر نصر والحارث ورضيا أن يحكم بينهما مقاتل بن حيان والجهم بن صفوان، فحكما أن يعزل نصر ويكون الأمر شورى.

فامتنع نصر من قبول ذلك، ولزم الجهم بن صفوان وغيره قراءة سيرة الحارث على الناس في الجامع والطرق، فاستجاب له خلق كثير وجمع غفير، فعند ذلك انتدب لقتاله جماعات من الجيوش عن أمر نصر بن سيار، فقصدوه فحارب دونه أصحابه، فقتل منهم طائفة كثيرة منهم الجهم بن صفوان طعنه رجل في فيه فقتله، ويقال: بل أسر الجهم فأوقف بين يدي سلم بن أحوز فأمر بقتله، فقال: إن لي أمانا من أبيك.

فقال: ما كان له أن يؤمنك، ولو فعل ما أمنتك، ولو ملأت هذه الملاءة كواكب، وأنزلت عيسى بن مريم، ما نجوت، والله ولو كنت في بطني لشققت بطني حتى أقتلك.

وأمر ابن ميسر فقتله.

ثم اتفق الحارث بن سريج والكرماني على نصر ومخالفته، والدعوة إلى الكتاب والسنة واتباع أئمة الهدى وتحريم المنكرات إلى غير ذلك مما جاءت به الشريعة، ثم اختلفا فيما بينهما واقتتلا قتالا شديدا، فغلب الكرماني وانهزم أصحاب الحارث.

وكان راكبا على بغل فتحول إلى فرس فحرنت أن تمشي، وهرب عنه أصحابه ولم يبق معه منهم سوى مائة، فأدركه أصحاب الكرماني فقتلوه تحت شجرة زيتون، وقيل: تحت شجرة عبيرا.

وذلك يوم الأحد لست بقين من رجب من هذه السنة، وقتل معه مائة من أصحابه، واحتاط الكرماني على حواصله وأمواله، وأخذ أموال من خرج معه أيضا، وأمر بصلب الحارث بلا رأس على باب مرو، ولما بلغ نصر بن سيار مقتل الحارث قال في ذلك:

يا مدخل الذل على قومه * بعدا وسحقا لك من هالك

شؤمك أردى مضرا كلها * وغض من قومك بالحارك

ما كانت الأزد وأشياعها * تطمع في عمر ولا مالك

ولا بني سعد إذ ألجموا * كلَّ طمرٍّ لونه حالك

وقد أجابه عباد بن الحارث بن سريج فيما قال:

ألا يا نصر قد برح الخفاء * وقد طال التمني والرجاء

وأصبحت المزون بأرض مرو * تقضي في الحكومة ما تشاء

يجوز قضاؤها في كل حكم * على مضر وإن جار القضاء

وحمير في مجالسها قعود * ترقرق في رقابهم الدماء

فإن مضر بذا رضيت وذلت * فطال لها المذلة والشقاء

وإن هي أعتبت فيها وإلا * فخل على عساكرها العفاء

وفي هذه السنة: بعث إبراهيم بن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس أبا مسلم الخراساني إلى خراسان، وكتب معه كتبا إلى شيعتهم بها: إن هذا أبا مسلم فاسمعوا له وأطيعوا، وقد وليته على ما غلب عليه من أرض خراسان.

فلما قدم أبو مسلم خراسان وقرأ على أصحابه هذا الكتاب، لم يلتفتوا إليه ولم يعملوا به وأعرضوا عنه ونبذوه وراء ظهورهم، فرجع إلى إبراهيم بن محمد أيام الموسم، فاشتكاهم إليه وأخبره بما قابلوه من المخالفة، فقال له: يا عبد الرحمن ! إنك رجل منا أهل البيت، ارجع إليهم وعليك بهذا الحي من اليمن فأكرمهم وانزل بين أظهرهم فإن الله لا يتمم هذا الأمر إلا بهم.

ثم حذره من بقية الأحياء وقال له: إن استطعت أن لا تدع بتلك البلاد لسانا عربيا فافعل، ومن بلغ من أبنائهم خمسة أشبار واتهمته فاقتله، وعليك بذاك الشيخ فلا تقصه - يعني: سليمان بن كثير -.

وسيأتي ما كان من أمر أبي مسلم الخراساني فيما بعد إن شاء الله تعالى.

وفي هذه السنة: قتل الضحاك بن قيس الخارجي في قول أبي مخنف، وكان سبب ذلك أن الضحاك حاصر عبد الله بن عمر بن عبد العزيز بواسط ووافقه على محاصرته منصور بن جمهور، فكتب عبد الله بن عمر بن عبد العزيز إليه: إنه لا فائدة لك في محاصرتي ولكن عليك بمروان بن محمد فسر إليه، فإن قتلته اتبعتك.

فاصطلحا على مخالفة مروان بن محمد أمير المؤمنين، فلما اجتاز الضحاك بالموصل كاتبه أهلها فمال إليهم فدخلها، وقتل نائبها واستحوذ عليها، وبلغ ذلك مروان وهو محاصر حمص، ومشغول بأهلها وعدم مبايعتهم إياه، فكتب إلى ابنه عبد الله بن مروان - وكان الضحاك قد التف عليه مائة ألف وعشرون ألفا، فحاصروا نصيبين - وساق مروان في طلبه فالتقيا هنالك، فاقتتلا قتالا شديدا فقتل الضحاك في المعركة وحجز الليل بين الفريقين، وفقد أصحاب الضحاك الضحاك وشكوا في أمره حتى أخبرهم من رآه قد قتل، فبكوا عليه وناحوا.

وجاء الخبر إلى مروان فبعث إلى المعركة بالمشاعل ومن يعرف مكانه بين القتلى، وجاء الخبر إلى مروان وهو مقتول، وفي رأسه ووجهه نحو عشرين ضربة، فأمروا برأسه فطيف به في مدائن الجزيرة.

واستخلف الضحاك على جيشه من بعده رجلا يقال له: الخبيري، فالتف عليه بقية جيش الضحاك، والتف مع الخبيري سليمان بن هشام بن عبد الملك وأهل بيته ومواليه، والجيش الذي كانوا قد بايعوه في السنة الماضية على الخلافة، وخلعوا مروان بن محمد عن الخلافة لأجله، فلما أصبحوا اقتتلوا مع مروان، فحمل الخبيري في أربعمائة من شجعان أصحابه على مروان، وهو في القلب، فكرَّ منهزما واتبعوه حتى أخرجوه من الجيش، ودخلوا عسكره وجلس الخبيري على فرشه.

هذا وميمنة مروان ثابتة وعليها ابنه عبد الله، وميسرته أيضا ثابتة وعليها إسحق بن مسلم العقيلي.

ولما رأى عبد الله العسكر فارِّين مع الخبيري، وأن الميمنة والميسرة من جهتهم باقيتان، طمعوا فيه فأقبلوا إليه بعمد الخيام فقتلوه بها، وبلغ قتله مروان وقد سار عن الجيش نحوا من خمسة أميال أو ستة، فرجع مسرورا وانهزم أصحاب الضحاك، وقد ولوا عليهم شيبان، فقصدهم مروان بعد ذلك بمكان يقال له: الكراديس فهزمهم.

وفيها: بعث مروان الحمار على إمارة العراق يزيد بن عمر بن هبيرة ليقاتل من بها من الخوارج.

وفي هذه السنة: حج بالناس عبد العزيز بن عمر بن عبد العزيز وهو نائب المدينة ومكة والطائف، وأمير العراق يزيد بن عمر بن هبيرة، وأمير خراسان نصر بن سيار.

وممن توفي في هذه السنة: بكرة بن سوادة، وجابر الجعفي، والجهم بن صفوان مقتولا كما تقدم، والحارث بن سريج أحد كبراء الأمراء، وقد تقدم شيء من ترجمته، وعاصم بن عبدلة، وأبو حصين عثمان بن عاصم، ويزيد بن أبي حبيب، وأبو التياح يزيد بن حميد، وأبو حمزة النعنبعي، وأبو الزبير المكي، وأبو عمران الجوني، وأبو قبيل المغافري، وقد ذكرنا تراجمهم في التكميل.

ثم دخلت سنة تسع وعشرين ومائة

فيها: اجتمعت الخوارج بعد الخبيري على شيبان بن عبد العزيز بن الحليس اليشكري الخارجي، فأشار عليهم سليمان بن هشام أن يتحصنوا بالموصل ويجعلوها منزلا لهم، فتحولوا إليها وتبعهم مروان بن محمد أمير المؤمنين، فعسكروا بظاهرها وخندقوا عليهم مما يلي جيش مروان.

وقد خندق مروان على جيشه أيضا من ناحيتهم، وأقام سنة يحاصرهم ويقتتلون في كل يوم بكرة وعشية، وظفر مروان بابن أخ لسليمان بن هشام، وهو: أمية بن معاوية بن هشام، أسر بعض جيشه فأمر به فقطعت يداه ثم ضرب عنقه، وعمه سليمان والجيش ينظرون إليه، وكتب مروان إلى نائبه بالعراق يزيد بن عمر بن هبيرة يأمره بقتال الخوارج الذين في بلاده.

فجرت له معهم وقعات عديدة، فظفر بهم ابن هبيرة، وأباد خضراءهم، ولم يبق لهم بقية بالعراق، واستنقذ الكوفة من أيدي الخوارج وكان عليها المثنى بن عمران العائذي - عائذة قريش - في رمضان من هذه السنة، وكتب مروان إلى ابن هبيرة لما فرغ من الخوارج أن يمده بعمار بن صبارة - وكان من الشجعان - فبعثه إليه في سبعة آلاف أو ثمانية آلاف، فأرسلت إليه سرية في أربعة آلاف فاعترضوه في الطريق فهزمهم ابن صبارة وقتل أميرهم الجون بن كلاب الشيباني الخارجي، وأقبل نحو الموصل، ورجع فل الخوارج إليهم.

فأشار سليمان بن هشام عليهم أن يرتحلوا عن الموصل، فإنه لم يكن يمكنهم الإقامة بها، ومروان من أمامهم وابن صبارة من ورائهم، وقد قطع عنهم الميرة حتى يجدوا شيئا يأكلونه، فارتحلوا عنها وساروا على حلوان إلى الأهواز، فأرسل مروان ابن صبارة في آثارهم في ثلاثة ألف، فأتبعهم يقتل من تخلف منهم ويلحقهم في مواطن فيقاتلهم، ومازال وراءهم حتى فرق شملهم شذر مذر، وهلك أميرهم شيبان بن عبد العزيز اليشكري بالأهواز في السنة القابلة، قتله خالد بن مسعود بن جعفر بن خيلد الأزدي، وركب سليمان بن هشام في مواليه وأهل بيته السفن، وساروا إلى السند، ورجع مروان من الموصل فأقام بمنزله بحران وقد وجد سرورا بزوال الخوارج ولكن لم يتم سروره، بل أعقبه القدر من هو أقوى شوكة وأعظم اتباعا، وأشد بأسا من الخوارج، وهو ظهور أبي مسلم الخرساني الداعية إلى دولة بني عباس.

أول ظهور أبي مسلم الخراساني

وفي هذه السنة: رد كتاب إبراهيم بن محمد الإمام العباسي بطلب أبي مسلم الخراساني من خراسان، فسار إليه في سبعين من النقباء لا يمرون ببلد إلا سألوهم: إلى أين تذهبون ؟

فيقول أبو مسلم: نريد الحج.

وإذا توسم أبو مسلم من بعضهم ميلا إليهم دعاهم إلى ما هم فيه فيجيبه إلى ذلك، فلما كان ببعض الطريق جاء كتاب ثان من إبراهيم الإمام إلى أبي مسلم: إني بعثت إليك براية النصر فارجع إلى خراسان وأظهر الدعوة، وأمر قحطبة بن شيب أن يسير بما معه من الأموال والتحف إلى إبراهيم الإمام فيوافيه في الموسم.

فرجع أبو مسلم بالكتاب فدخل خراسان في أول يوم من رمضان فرفع الكتاب إلى سليمان بن كثير وفيه: أن أظهر دعوتك ولا تتربص.

فقدموا عليهم أبا مسلم الخراساني داعيا إلى بني العباس، فبعث أبو مسلم دعاته في بلاد خراسان، وأمير خراسان - نصر بن سيار - مشغول بقتال الكرماني، وشيبان بن سلمة الحروري، وقد بلغ من أمره أنه كان يسلم عليه أصحابه بالخلافة في طوائف كثيرة من الخوارج، فظهر أمر أبي مسلم وقصده الناس من كل جانب، فكان ممن قصده في يوم واحد أهل ستين قرية، فأقام هناك اثنين وأربعين يوما ففتحت على يديه أقاليم كثيرة.

ولما كان ليلة الخميس لخمس بقين من رمضان في هذه السنة: عقد أبو مسلم اللواء الذي بعثه إليه الإمام، ويدعى: الظل، على رمح طوله أربعة عشر ذراعا، وعقد الراية التي بعث بها الإمام أيضا، وتدعى: السحاب، على رمح طوله ثلاثة عشر ذراعا، وهما سوداوان، وهو يتلو قوله تعالى: { أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ } [الحج: 39] .

ولبس أبو مسلم وسليمان بن كثير ومن أجابهم إلى الدعوة السواد، وصارت شعارهم، وأوقدوا في هذه الليلة نارا عظيمة يدعون بها أهل تلك النواحي، وكانت علامة بينهم فتجمعوا.

ومعنى تسمية إحدى الرايتين بالسحاب: أن السحاب كما يطبق جميع الأرض كذلك بنو العباس تطبق دعوتهم أهل الأرض، ومعنى تسمية الأخرى بالظل: أن الأرض كما أنها لا تخلو من الظل فكذلك بنو العباس لا تخلو الأرض من قائم منهم.

وأقبل الناس إلى أبي مسلم من كل جانب، وكثر جيشه.

ولما كان يوم عيد الفطر أمر أبو مسلم سليمان بن كثير أن يصلي بالناس، ونصب له منبرا، وأن يخالف في ذلك بني أمية، ويعمل بالسنة، فنودي للصلاة: الصلاة جامعة، ولم يؤذن ولم يقم خلافا لهم، وبدأ بالصلاة قبل الخطبة، وكبر ستا في الأولى قبل القراءة لا أربعا، وخمسا في الثانية لا ثلاثا خلافا لهم.

وابتدأ الخطبة بالذكر والتكبير وختمها بالقراءة، وانصرف الناس من صلاة العيد وقد أعدَّ لهم أبو مسلم طعاما فوضعه بين يدي الناس، وكتب إلى نصر بن سيار كتابا بدأ فيه بنفسه ثم قال:

إلى نصر بن سيار. بسم الله الرحمن الرحيم: أما بعد فإن الله عيَّر أقواما في كتابه فقال: { وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدَى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ } إلى قوله { تَحْوِيلا } [فاطر: 42-43] .

فعظم على نصر أن قدَّم اسمه على اسمه، وأطال الفكر، وقال: هذا كتاب له جواب.

قال ابن جرير: ثم بعث نصر بن سيار خيلا عظيمةً لمحاربة أبي مسلم، وذلك بعد ظهوره بثمانية عشر شهرا، فأرسل أبو مسلم إليهم مالك بن الهيثم الخزاعي، فالتقوا فدعاهم مالك إلى الرضا عن آل رسول الله فأبوا ذلك فتصافَّوا من أول النهار إلى العصر، فجاء إلى مالك مدد فقوي فظفر بهم مالك، وكان هذا أول موقف اقتتل فيه جند بني العباس وجند بني أمية.

وفي هذه السنة: غلب حازم بن خزيمة على مرو الروذ، وقتل عاملها من جهة نصر بن سيار، وهو: بشر بن جعفر السعدي، وكتب بالفتح إلى أبي مسلم، وكان أبو مسلم إذ ذاك شابا حدثا قد اختاره إبراهيم لدعوتهم، وذلك لشهامته وصرامته وقوة فهمه وجودة ذهنه، وأصله من سواد الكوفة، وكان مولى لإدريس بن معقل العجلي، فاشتراه بعض دعاة بني العباس بأربعمائة درهم، ثم أخذه محمد بن علي ثم آل ولاؤه لآل العباس، وزوجه إبراهيم الإمام بابنة أبي النجم إسماعيل بن عمران، وأصدقها عنه، وكتب إلى دعاتهم بخراسان والعراق أن يسمعوا منه، فامتثلوا أمره، وقد كانوا في السنة الماضية قبل هذه السنة ردوا عليه أمره لصغره فيهم، فلما كانت هذه السنة أكَّد الإمام كتابه إليهم في الوصاة به وطاعته، وكان في ذلك الخير له ولهم، { وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرا مَقْدُورا } [الأحزاب: 38] .

ولما فشا أمر أبي مسلم بخراسان تعاقدت طوائف من العرب الذين بها على حربه ومقاتلته، ولم يكره الكرماني وشيبان لأنهما خرجا على نصر وأبو مسلم مخالف لنصر كحالهما، وهو مع ذلك يدعو إلى خلع مروان الحمار، وقد طلب نصر من شيبان أن يكون معه على حرب أبي مسلم، أو يكف عنه حتى يتفرغ لحربه، فإذا قتل أبا مسلم عادا إلى عداوتهما، فأجابه إلى ذلك، فبلغ ذلك أبا مسلم فبعث إلى الكرماني يعلمه بذلك فلام الكرماني شيبان على ذلك، وثناه عن ذلك، وبعث أبو مسلم إلى هراة النضر بن نعيم، فأخذها من عاملها عيسى بن عقيل الليثي، وكتب إلى أبي مسلم بذلك، وجاء عاملها إلى نصر هاربا، ثم إن شيبان وادع نصر بن سيار سنة على ترك الحرب بينه وبينه، وذلك عن كره من الكرماني، فبعث ابن الكرماني إلى أبي مسلم: أني معك على قتال نصر.

وركب أبو مسلم في خدمة الكرماني، فاتفقا على حرب نصر ومخالفته.

وتحول أبو مسلم إلى موضع فسيح وكثر جنده وعظم جيشه، واستعمل على الحرس والشرط والرسائل والديوان وغير ذلك مما يحتاج إليه الملك عمالا.

وجعل القاسم بن مجاشع التميمي - وكان أحد النقباء - على القضاء وكان يصلي بأبي مسلم الصلوات، ويقص بعض القصص فيذكر محاسن بني هاشم ويذم بني أمية، ثم تحول أبو مسلم إلى قرية يقال لها: بالين، وكان في مكان منخفض، فخشي أن يقطع عنه نصر بن سيار الماء، وذلك في سادس ذي الحجة من هذه السنة، وصلى بهم يوم النحر القاضي القاسم بن مجاشع.

وصار نصر بن سيار في جحافل كالسحاب قاصدا قتال أبي مسلم، واستخلف على البلاد نوابا وكان من أمرهما ما سنذكره في السنة الآتية.

مقتل ابن الكرماني

ونشبت الحرب بين نصر بن سيار وبين ابن الكرماني - وهو: جديع بن علي الكرماني - فقتل بينهما من الفريقين خلق كثير، وجعل أبو مسلم يكاتب كلا من الطائفتين ويستميلهم إليه، يكتب إلى نصر وإلى ابن الكرماني: إن الإمام قد أوصاني بكم خيرا ولست أعدو رأيه فيكم.

وكتب إلى الكور يدعو إلى بني العباس فاستجاب له خلق كثير وجم غفير، وأقبل أبو مسلم فنزل بين خندق نصر وخندق ابن الكرماني، فهابه الفريقان جميعا، وكتب نصر بن سيار إلى مروان يعلمه بأمر أبي مسلم وكثرة من معه، وأنه يدعو إلى إبراهيم بن محمد، وكتب في جملة كتابه:

أرى بين الرماد وميض جمر * وأحرى أن يكون له ضرام

فإن النار بالعيدان تذكى * وإن الحرب مبدؤها الكلام

فقلت من التعجب ليت شعري * أيقاظ أمية أمْ نيام

فكتب إليه مروان: الشاهد يرى ما لا يراه الغائب.

فقال نصر: إن صاحبكم قد أخبركم أن لا نصر عنده.

وبعضهم يرويها بلفظ آخر:

أرى خلل الرماد وميض نار * فيوشك أن يكون لها ضرام

فإن النار بالعيدان تذكى * وإن الحرب أولها كلام

فإن لم يطفها عقلاء قوم * يكون وقودها جثث وهام

أقول من التعجب ليت شعري * أيقاظ أمية أمْ نيام

فإن كانوا لحينهم نياما * فقل قوموا فقد حان القيام

قال ابن خلكان: وهذا كما قال بعض علوية الكوفة حين خرج محمد وإبراهيم ابنا عبد الله بن الحسن على المنصور أخي السفاح:

أرى نارا تشب على بقاع * لها في كل ناحية شعاع

وقد رقدت بنو العباس عنها * وباتت وهي آمنة رتاع

كما رقدت أمية ثم هبت * تدافع حين لا يغني الدفاع

وكتب نصر بن سيار أيضا إلى نائب العراق يزيد بن عمر بن هبيرة يستمده وكتب إليه:

أبلغ يزيد وخير القول أصدقه * وقد تحققت أن لا خير في الكذب

بأن أرض خراسان رأيت بها * بيضا إذا أفرخت حُدثتَ بالعجب

فراخ عامين إلا أنها كبرت * ولم يطرن وقد سربلن بالزغب

فإن يطرن ولم يحتل لهن بها * يلهبن نيران حرب أيما لهيب

فبعث ابن هبيرة بكتاب نصر إلى مروان، واتفق في وصول الكتاب إليه، أن وجدوا رسولا من جهة إبراهيم الإمام ومعه كتاب منه إلى أبي مسلم، وهو يشتمه فيه ويسبه، ويأمره أن يناهض نصر بن سيار وابن الكرماني، ولا يترك هناك من يحسن العربية.

فعند ذلك بعث مروان وهو مقيم بحران كتابا إلى نائبه بدمشق وهو الوليد بن معاوية بن عبد الملك، يأمر فيه أن يذهب إلى الحميمة، وهي البلدة التي فيها إبراهيم بن محمد الإمام، فيقيده ويرسله إليه.

فبعث نائب دمشق إلى نائب البلقاء فذهب إلى مسجد البلدة المذكورة فوجد إبراهيم الإمام جالسا فقيده وأرسل به إلى دمشق، فبعثه نائب دمشق من فوره إلى مروان، فأمر به فسجن ثم قتل كما سيأتي.

وأما أبو مسلم فإنه لما توسط بين جيش نصر وابن الكرماني، كاتب ابن الكرماني: إني معك.

فمال إليه، فكتب إليه نصر: ويحك ! لا تغتر فإنه إنما يريد قتلك وقتل أصحابك، فهلم حتى نكتب كتابا بيننا بالموادعة، فدخل ابن الكرماني داره ثم خرج إلى الرحبة في مائة فارس، وبعث إلى نصر: هلم حتى نتكاتب.

فأبصر نصر غرة من ابن الكرماني فنهض إليه في خلق كثير، فحملوا عليه فقتلوه وقتلوا من جماعته جماعة، وقتل ابن الكرماني في المعركة، طعنه رجل في خاصرته فخرَّ عن دابته، ثم أمر نصر بصلبه وصلب معه جماعة، وصلب معه سمكة، وانضاف ولده إلى أبي مسلم الخراساني ومعه طوائف من الناس من أصحاب ابن الكرماني، فصاروا كتفا واحدا على نصر.

قال ابن جرير: وفي هذه السنة: تغلب عبد الله بن معاوية بن عبد الله بن جعفر على فارس وكورها، وعلى حلوان وقومس وأصبهان والري، بعد حرب يطول ذكرها، ثم التقى عامر بن ضبارة معه باصطخر فهزمه ابن ضبارة وأسر من أصحابه أربعين ألفا.

فكان منهم: عبد الله بن علي بن عبد الله بن عباس، فنسبه ابن ضبارة وقال له: ما جاء بك مع ابن معاوية وقد علمت خلافة لأمير المؤمنين ؟

فقال: كان عليَّ دين فأتيته فيه.

فقام إليه حرب بن قطن بن وهب الهلالي فاستوهبه منه وقال: هو ابن أختنا فوهبه له.

وقال: ما كنت لأقدم على رجل من قريش.

ثم استعلم ابن ضبارة منه أخبار ابن معاوية فذمه ورماه هو وأصحابه باللواط، وجيء من الأسارى بمائة غلام عليهم الثياب المصبغة، وقد كان يعمل معهم الفاحشة، وحمل ابن ضبارة عبد الله بن علي على البريد لابن هبيرة ليخبره بما أخبر به ابن ضبارة عن ابن معاوية.

وقد كتب الله عز وجل أن زوال ملك بني أمية يكون على يدي هذا الرجل، وهو: عبد الله بن علي بن عبد الله بن عباس، ولا يشعر واحد منهم بذلك.

قال ابن جرير: وفي هذه السنة: ولي الموسم أبو حمزة الخارجي فأظهر التحكم والمخالفة لمروان، وتبرأ منه.

فراسلهم عبد الواحد بن سليمان بن عبد الملك وهو يومئذ أمير مكة والمدينة والطائف، وإليه أمر الحجيج في هذه السنة، ثم صالحهم على الأمان إلى يوم النفر، فوقفوا على حدة بين الناس بعرفات ثم تحيزوا عنهم، فلما كان يوم النفر الأول تعجل عبد الواحد وترك مكة فدخلها الخارجي بغير قتال، فقال بعض الشعراء في ذلك:

زار الحجيج عصابة قد خالفوا * دين الإله ففر عبد الواحد

ترك الحلائل والإمارة هاربا * ومضى يخبط كالبعير الشارد

لو كان والده تنصَّل عرقه * لصفت موارده بعرق الوارد

ولما رجع عبد الواحد إلى المدينة شرع في تجهيز السرايا إلى قتال الخارجي، وبذل النفقات وزاد في أعطية الأجناد، وسيرهم سريعا.

وكان أمير العراق يزيد بن هبيرة، وأمير خراسان نصر بن سيار، وقد استحوذ على بعض بلاده أبو مسلم الخراساني.

ممن توفي فيها من الأعيان: سالم أبو النضر، وعلي بن زيد بن جدعان، في قول، ويحيى بن أبي كثير.

وقد ذكرنا تراجمهم في التكميل، ولله الحمد.

سنة ثلاثين ومائة

في يوم الخميس لتسع خلون من جمادى الأول منها: دخل أبو مسلم الخرساني مرو ونزل دار الإمارة بها، وأنتزعها من يد نصر بن سيار، وذلك بمساعدة علي بن الكرماني، وهرب نصر بن سيار في شرذمة قليلة من الناس، نحو من ثلاثة آلاف، ومعه امرأته المرزبانة، حتى لحق سرخس وترك امرأته وراءه، ونجا بنفسه، واستفحل أمر أبي مسلم جدا، والتفت عليه العساكر.

مقتل شيبان بن سلمة الحروري

ولما هرب نصر بن سيار بقي شيبان وكان ممالئا له على أبي مسلم، فبعث إليه أبو مسلم رسلا فحبسهم، فأرسل أبو مسلم إلى بسام بن إبراهيم مولى بني ليث يأمره أن يركب إلى شيبان فيقاتله، فسار إليه فاقتتلا فهزمه بسام فقتله واتبع أصحابه يقتلهم ويأسرهم، ثم قتل أبو مسلم عليا وعثمان ابني الكرماني، ثم وجه أبو مسلم أبا داود إلى بلخ فأخذها من زياد بن عبد الرحمن القشيري، وأخذ منهم أموالا جزيلةً.

ثم إن أبا مسلم اتفق مع أبي داود على قتل عثمان بن الكرماني في يوم كذا، وفي ذلك اليوم بعينه يقتل أبو مسلم علي بن جديع الكرماني، فوقع ذلك كذلك.

وفي هذه السنة: وجه أبو مسلم قحطبة بن شبيب إلى نيسابور لقتال نصر بن سيار، ومع قحطبة جماعة من كبار الأمراء، منهم خالد بن برمك.

فالتقوا مع تميم بن نصر بن سيار وقد وجهه أبوه لقتالهم بطوس، فقتل قحطبة من أصحاب نصر نحوا من سبعة عشر ألفا في المعركة، وقد كان أبو مسلم بعث إلى قحطبة مددا نحو عشرة آلاف فارس، عليهم علي بن معقل، فاقتتلوا فقتلوا من أصحاب نصر خلقا كثيرا، وقتلوا تميم بن نصر، وغنموا أموالا جزيلةً جدا، ثم إن يزيد بن عمر بن هبيرة نائب مروان على العراق بعث سرية مددا لنصر بن سيار، فالتقى معهم قحطبة في مستهل ذي الحجة، وذلك يوم الجمعة، فاقتتلوا قتالا شديدا فانهزم جند بني أمية، وقتل من أهل الشام وغيرهم عشرة آلاف، منهم: نباتة بن حنظلة عامل جرجان، فبعث قحطبة برأسه إلى أبي مسلم.

ذكر دخول أبي حمزة الخارجي المدينة النبوية واستلائه عليها

قال ابن جرير: وفي هذه السنة: كانت وقعة بقديد بين أبي حمزة الخارجي الذي كان عام أول في أيام الموسم، فقتل من أهل المدينة من قريش خلقا كثيرا، ثم دخل المدينة وهرب نائبها عبد الواحد بن سليمان، فقتل الخارجي من أهلها خلقا، وذلك لتسع عشرة ليلة خلت من صفر من هذه السنة، ثم خطب على منبر رسول الله ، فوبخ أهل المدينة، فقال: يا أهل المدينة إني مررت بكم أيام الأحول - يعني: هشام بن عبد الملك - وقد أصابتكم عاهة في ثماركم فكتبتم إليه تسألونه أن يضع الخرص عنكم فوضعه، فزاد غنيكم غنا وزاد فقيركم فقرا، فكتبتم إليه جزاك الله خيرا، فلا جزاه الله خيرا. في كلام طويل.

فأقام عندهم ثلاثة أشهر بقية صفر وشهري ربيع وبعض جمادى الأول فيما قال الواقدي وغيره.

وقد روى المدائني أن أبا حمزة رقى يوما منبر رسول الله ثم قال: تعلمون يا أهل المدينة ! أنا لم نخرج من بلادنا بطرا ولا أشرا، ولا لدولة نريد أن نخوض فيها النار، وإنما أخرجنا من ديارنا أنا رأينا مصابيح الحق طمست، وضعف القائل بالحق، وقتل القائم بالقسط، فلما رأينا ذلك ضاقت علينا الأرض بما رحبت، وسمعنا داعيا يدعو إلى طاعة الرحمن، وحكم القرآن، فأجبنا داعي الله { وَمَنْ لَا يُجِبْ دَاعِيَ اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الْأَرْضِ } [الأحقاف: 32] ، أقبلنا من قبائل شتى، النفر منا على بعير واحد عليه زادهم وأنفسهم، يتعاورون لحافا واحدا، قليلون مستضعفون في الأرض، فآوانا الله وأيدنا بنصره، فأصبحنا والله بنعمة الله إخوانا، ثم لقينا رجالكم بقديد فدعوناهم إلى طاعة الرحمن وحكم القرآن، ودعونا إلى طاعة الشيطان وحكم بني مروان، فشتان لعمر الله بين الغي والرشد، ثم أقبلوا نحونا يهرعون قد ضرب الشيطان فيهم بجرانه، وغلت بدمائهم مراجله، وصدق عليهم ظنه فاتبعوه، وأقبل أنصار الله عصائب وكتائب، بكل مهند ذي رونق، فدارت رحانا واستدارت رحاهم، بضرب يرتاب منه المبطلون.

وأنتم يا أهل المدينة ! إن تنصروا مروان يسحتكم الله بعذاب من عنده أو بأيدنا، ويشف صدور قوم مؤمنين.

يا أهل المدينة ! أولكم خير أول، وآخركم شر آخر.

يا أهل المدينة ! الناس منا ونحن منهم، إلا مشركا عابد وثن أو كافرا أهل كتاب، أو إماما جائرا.

يا أهل المدينة ! من زعم أن الله يكلف نفسا فوق طاقتها، أو يسألها ما لم يؤتها، فهو لله عدو، وأنا له حرب.

يا أهل المدينة ! أخبروني عن ثمانية أسهم فرضها الله في كتابه على القوي والضعيف، فجاء تاسع ليس له منها ولا سهم واحد، فأخذها لنفسه، مكابرا محاربا لربه.

يا أهل المدينة ! بلغني أنكم تنتقصون أصحابي قلتم شباب أحداث، وأعراب جفاة أجلاف، ويحكم ! فهل كان أصحاب رسول الله إلا شبابا أحداثا شبابا، شبابا والله مكتهلون في شبابهم، غضة عن الشر أعينهم، ثقيلة عن السعي في الباطل أقدامهم، قد باعوا لله أنفسا تموت بأنفس لا تموت، قد خالطوا كلالهم بكلالهم، وقيام ليلهم بصيام نهارهم، منحية أصلابهم على أجزاء القرآن، كلما مروا بآية خوف شهقوا خوفا من النار، وإذا مروا بآية شوق شهقوا شوقا إلى الجنة.

فلما نظروا إلى السيوف قد انتضيت، وإلى الرماح قد شرعت، وإلى السهام قد فوقت، وأرعدت الكتيبة بصواعق الموت، استخفوا والله وعيد الكتيبة لوعيد الله في القرآن، ولم يستخفوا وعيد الله لوعيد الكتيبة، فطوبى لهم وحسن مآب، فكم من عين في مناقير الطير طال ما فاضت في جوف الليل من خشية الله، وطال ما بكت خالية من خوف الله، وكم من يد زالت عن مفصلها طال ما ضربت في سبيل الله وجاهدت أعداء الله، وطال ما اعتمد بها صاحبها في طاعة الله، أقول قولي هذا وأستغفر الله من تقصيري، وما توفيقي إلا بالله.

ثم روى المدائني، عن العباس، عن هارون، عن جده، قال: كان أبو حمزة الخارجي قد أحسن السيرة في أهل المدينة، فمالوا إليه حتى سمعوه يقول: برح الخفا أين عن بابك نذهب ؟

ثم قال: من زنا فهو كافر، ومن سرق فهو كافر.

فعند ذلك أبغضوه ورجعوا عن محبته.

وأقام بالمدينة حتى بعث مروان الحمار عبد الملك بن محمد بن عطية أحد بني سعد في خيل أهل الشام أربعة آلاف، قد أنتخبها مروان من جيشه، وأعطى كل رجل منهم مائة دينار وفرسا عربيةً، وبغلا لثقله، وأمره أن يقاتله ولا يرجع عنه، ولو لم يلحقه إلا باليمن فليتبعه إليها، وليقاتل نائب صنعاء عبد الله بن يحيى.

فسار ابن عطية حتى بلغ وادي القرى فتلقاه أبو حمزة الخارجي قاصدا قتال مروان بالشام فاقتتلوا هنالك إلى الليل، فقال له: ويحك يا ابن عطية ! إن الله قد جعل الليل سكنا فأخِّر إلى غد.

فأبى عليه أن يقلع عن قتاله، فما زال يقاتلهم حتى كسرهم فولوا ورجع فلهم إلى المدينة، فنهض إليهم أهل المدينة فقتلوا منهم خلقا كثيرا، ودخل ابن عطية المدينة، وقد انهزم جيش أبي حمزة عنها، فيقال: إنه أقام بها شهرا ثم استخلف عليها، ثم استخلف على مكة وسار إلى اليمن فخرج إليه عبد الله بن يحيى نائب صنعاء، فاقتتلا فقتله ابن عطية وبعث برأسه إلى مروان.

وجاء كتاب مروان إليه يأمره بإقامة الحج للناس في هذه السنة، ويستعجله في المسير إلى مكة.

فخرج من صنعاء في اثني عشر راكبا، وترك جيشه بصنعاء، ومعه خرجٌ فيه أربعون ألف دينار، فلما كان ببعض الطريق نزل منزلا إذ أقبل إليه أميران يقال لهما: ابنا جمانة من سادات تلك الناحية، فقالوا: ويحكم ! أنتم لصوص.

فقال: أنا ابن عطية وهذا كتاب أمير المؤمنين إلي بأمرة الحج، فنحن نعجل السير لندرك الموسم.

فقالوا: هذا باطل.

ثم حملوا عليهم فقتلوا ابن عطية وأصحابه ولم يفلت منهم إلا رجلٌ واحدٌ، وأخذوا ما معهم من المال.

قال أبو معشر: وحج بالناس في هذه السنة: محمد بن عبد الملك بن مروان، وقد جعلت إليه إمرة المدينة ومكة والطائف، ونائب العراق ابن هبيرة، وإمرة خراسان إلى نصر بن سيار، غير أن أبا مسلم قد استحوذ على مدن وقرى كثيرة من خراسان، وقد أرسل نصر إلى ابن هبيرة يستمده بعشرة آلاف قبل أن لا يكفيه مائة ألف، وكتب أيضا إلى مروان يستمده، فكتب مروان إلى ابن هبيرة يمده بما أراد.

وممن توفي فيها من الأعيان: شعيب بن الحبحاب، وعبد العزيز بن صهيب، وعبد العزيز بن رفيع، وكعب بن علقمة، ومحمد بن المكندر، والله سبحانه أعلم.

ثم دخلت سنة إحدى وثلاثين ومائة

في المحرم منها: وجَّه قحطبة بن شبيب ولده الحسن إلى قوميس لقتال نصر بن سيار، وأردفه بالأمداد، فخامر بعضهم إلى نصر ارتحل نصر فنزل الري، فأقام بها يومين ثم مرض فسار منها إلى همدان.

فلما كان بساوه قريبا من همدان توفي لمضي ثنتي عشرة ليلة خلت من ربيع الأول من هذه السنة، عن خمس وثمانين سنة.

فلما مات نصر تمكن أبو مسلم وأصحابه من بلاد خراسان، وقويت شوكتهم جدا، وسار قحطبة من جرجان، وقدَّم أمامه زياد بن زرارة القشيري، وكان قد ندم على اتباع أبي مسلم، فترك الجيش وأخذ جماعة معه وسلك طريق أصبهان ليأتي ابن ضبارة، فبعث قحطبة وراءه جيشا فقتلوا عامة أصحابه، وأقبل قحطبة وراءه فقدم قومس وقد افتتحها ابنه الحسن فأقام بها، وبعث ابنه بين يديه إلى الري، ثم ساق وراءه فوجده قد افتتحها، فأقام بها وكتب إلى أبي مسلم بذلك.

وارتحل أبو مسلم من مرو فنزل نيسابور واستفحل أمره، وبعث قحطبة بعد دخوله الري ابنه الحسن بين يديه إلى همدان، فلما اقترب منها خرج منها مالك بن أدهم وجماعة من أجناد الشام وخراسان، فنزلوا نهاوند، فافتتح الحسن همدان ثم سار وراءهم إلى نهاوند، وبعث إليه أبوه بالأمداد فحاصرهم حتى افتتحها.

وفي هذه السنة: مات عامر بن ضبارة، وكان سبب ذلك أن ابن هبيرة كتب إليه أن يسير إلى قحطبة وأمده بالعساكر، فسار ابن ضبارة حتى التقى مع قحطبة في عشرين ألفا، فلما تواجه الفريقان رفع قحطبة وأصحابه المصاحف ونادى المنادي: يا أهل الشام ! إنا ندعوكم إلى ما في هذا المصحف.

فشتموا المنادي وشتموا قحطبة، فأمر قحطبة أصحابه أن يحملوا عليهم، فلم يكن بينهم كبير قتال حتى انهزم أصحاب ابن ضبارة، واتبعهم أصحاب قحطبة فقتلوا منهم خلقا كثيرا، وقتلوا ابن ضبارة في العسكر لشجاعته فإنه لم يولي، وأخذوا من عسكرهم ما لا يحد ولا يوصف.

وفيها: حاصر قحطبة نهاوند حصارا شديدا حتى سأله أهل الشام الذين بها أن يمهل أهلها حتى يفتحوا له الباب، ففتحوا له الباب وأخذوا لهم منه أمانا، فقال لهم من بها من أهل خراسان: ما فعلتم ؟

فقالوا: أخذنا لنا ولكم أمانا.

فخرجوا ظانين أنهم في أمان، فقال قحطبة للأمراء الذين معه: كل من حصل عنده أسير من الخراسانين فليضرب عنقه وليأتنا برأسه.

ففعلوا ذلك ولم يبق ممن كان هرب من أبي مسلم أحد، وأطلق الشاميين وأوفى لهم عهدهم وأخذ عليهم الميثاق أن لا يمالئوا عليه عدوا.

ثم بعث قحطبة أبا عون إلى شهر زور، عن أمر أبي مسلم في ثلاثين ألفا فافتتحها، وقتل نائبها عثمان بن سفيان.

وقيل: لم يقتل بل تحول إلى الموصل والجزيرة وبعث إلى قحطبة بذلك.

ولما بلغ مروان خبر قحطبة وأبي مسلم وما وقع من أمرهما، تحول مروان من حرَّان فنزل بمكان يقال له: الزاب الأكبر.

وفيها: قصد قحطبة في جيش كثيف نائب العراق يزيد بن عمر بن هبيرة، فلما اقترب منه تقهقر ابن هبيرة إلى ورائه، وما زال يتقهقر إلى أن جاوز الفرات، وجاء قحطبة فجازها وراءه، وكان من أمرهما ما سنذكره في السنة الآتية إن شاء الله تعالى.

ثم دخلت سنة ثنتين وثلاثين ومائة

في المحرم منها: جاز قحطبة بن شبيب الفرات ومعه الجنود والفرسان، وابن هبيرة مخيم على فم الفرات مما يلي الفلوجة، في خلقٍ كثيرٍ وجمٍ غفيرٍ، وقد أمده مروان بجنودٍ كثيرةٍ، وانضاف إليه كل من انهزم من جيش ابن ضبارة.

ثم إن قحطبة عدل إلى الكوفة ليأخذها، فاتبعه ابن هبيرة.

فلما كانت ليلة الأربعاء لثمان مضين من المحرم: اقتتلوا قتالا شديدا وكثر القتل في الفريقين، ثم ولى أهل الشام منهزمين واتبعهم أهل خراسان، وفقد قحطبة من الناس فأخبرهم رجل أنه قتل وأوصى أن يكون أمير الناس من بعده ولده الحسن، ولم يكن الحسن حاضرا، فبايعوا حميد بن قحطبة لأخيه الحسن وذهب البريد إلى الحسن ليحضر.

وقتل في هذه الليلة: جماعة من الأمراء.

والذي قتل قحطبة معن بن زائدة، ويحيى بن حصين.

وقيل: بل قتله رجل ممن كان معه آخذا بثائر ابني نصر بن سيار، فالله أعلم.

ووجد قحطبة في القتلى فدفن هنالك، وجاء الحسن بن قحطبة فسار نحو الكوفة، وقد خرج بها محمد بن خالد بن عبد الله القسري، ودعا إلى بني العباس وسوَّد، وكان خروجه ليلة عاشوارء لمحرم من هذه السنة، وأخرج عاملها من جهة ابن هبيرة، وهو: زياد بن صالح الحارثي، وتحول محمد بن خالد إلى قصر الإمارة فقصد حوثرة في عشرين ألفا من جهة ابن هبيرة، فلما اقترب من الكوفة أصحاب حوثرة يذهبون إلى محمد بن خالد فيبايعونه لبني العباس، فلما رأى حوثرة ذلك ارتحل إلى واسط.

ويقال: بل دخل الحسن بن قحطبة الكوفة، وكان قحطبة قد جعل في وصيته أن تكون وزارة الخلافة إلى أبي سلمة حفص بن سليمان مولى السبيع الكوفي الخلال، وهو بالكوفة، فلما قدموا عليه أشار أن يذهب الحسن بن قحطبة في جماعة من الأمراء إلى قتال ابن هبيرة بواسط، وأن يذهب أخوه حميد إلى المدائن، وبعث البعوث إلى كل جانب يفتحونها، وفتحوا البصرة، افتتحها مسلم بن قتيبة لابن هبيرة، فلما قتل ابن هبيرة جاء أبو مالك عبد الله بن أسيد الخزاعي فأخذ البصرة لأبي مسلم الخراساني.

وفي هذه السنة ليلة الجمعة لثلاث عشرة حلت من ربيع الآخر: أخذت البيعة لأبي العباس السفاح، وهو: عبد الله بن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس بن عبد المطلب. قاله: أبو معشر وهشام الكلبي.

وقال الواقدي: في جمادى الأولى من هذه السنة، فالله أعلم.

ذكر مقتل إبراهيم بن محمد الإمام

قد ذكرنا في سنة تسع وعشرين ومائة أن مروان اطلع على كتاب من إبراهيم الإمام إلى أبي مسلم الخرساني، يأمر فيه بأن لا يبقي أحدا بأرض خراسان ممن يتكلم بالعربية إلا أباده، فلما وقف مروان على ذلك سأل عن إبراهيم، فقيل له: هو في بالبلقاء.

فكتب إلى نائب دمشق أن يحضره فبعث نائب دمشق بريدا ومعه صفته ونعته، فذهب الرسول فوجد أخاه أبا العباس السفاح، فاعتقد أنه هو فأخذه فقيل له: إنه ليس به، إنما أخوه.

فدل على إبراهيم فأخذه وذهب معه بأم ولد كان يحبها، وأوصى إلى أهله أن يكون الخليفة من بعده أخوه أبو العباس السفاح، وأمرهم بالمسير إلى الكوفة، فارتحلوا من يومهم إليها، منهم أعمامه الستة وهم: عبد الله، وداود، وعيسى، وصالح، وإسماعيل، وعبد الصمد، بنوا علي، وأخواه: أبو العباس السفاح، ومحمد، ابنا محمد بن علي، وابناه: محمد، وعبد الوهاب، ابنا إبراهيم الإمام الممسوك، وخلق سواهم.

فلما دخلوا الكوفة أنزلهم أبو سلمة الخلال دار الوليد بن سعد، مولى بني هاشم، وكتم أمرهم نحوا من أربعين ليلة من القواد والأمراء، ثم ارتحل بهم إلى موضع آخر، ثم لم يزل ينقلهم من مكان إلى مكان حتى فتحت البلاد، ثم بويع للسفاح.

أما إبراهيم بن محمد الإمام فإنه سير به إلى أمير المؤمنين في ذلك الزمان مروان بن محمد وهو بحرَّان فحبسه، وما زال في السجن إلى هذه السنة، فمات في صفر منها في السجن، عن ثمان وأربعين سنة.

وقيل: إنه غمّ بمرققة وضعت على وجهه حتى مات عن إحدى وخمسين سنة، وصلى عليه رجل يقال له: بهلول بن صفوان.

وقيل: إنه هدم عليه بيت حتى مات.

وقيل: بل سقي لبنا مسموما فمات.

وقيل: إن إبراهيم الإمام شهد الموسم عام إحدى وثلاثين، واشتهر أمره هنالك لأنه وقف في أبهة عظيمة، ونجائب كثيرة، وحرمة وافرة، فأنهى أمره إلى مروان وقيل له: إن أبا مسلم يدعو الناس إلى هذا ويسمونه الخليفة.

فبعث إليه في المحرم من سنة ثنتين وثلاثين وقتله في صفر من هذه السنة، وهذا أصح مما تقدم.

وقيل: إنما أخذه من الكوفة لا من حميمة البلقاء، فالله أعلم.

وقد كان إبراهيم هذا كريما وجوادا له فضائل وفواضل.

وروى الحديث عن: أبيه، عن جده، وأبي هاشم عبد الله بن محمد بن الحنيفة.

وعنه: أخواه عبد الله السفاح، وأبو جعفر عبد الله المنصور، وأبو سلمة عبد الرحمن بن مسلم الخراساني، ومالك بن هاشم.

ومن كلامه الحسن: الكامل المروءة من أحرز دينه، ووصل رحمه، واجتنب ما يلام عليه.

خلافة أبي العباس السفاح

لما بلغ أهل الكوفة مقتل إبراهيم بن محمد، أراد أبو سلمة الخلال أن يحول الخلافة إلى آل علي بن أبي طالب، فغلبه بقية النقباء والأمراء، وأحضروا أبا العباس السفاح وسلموا عليه بالخلافة، وذلك بالكوفة، وكان عمره إذ ذاك ستا وعشرين سنة.

وكان أول من سلم عليه بالخلافة: أبو سلمة الخلال، وذلك ليلة الجمعة لثلاث عشرة ليلة خلت من ربيع الآخر من هذه السنة، فلما كان وقت صلاة الجمعة خرج السفاح على برذون أبلق، والجنود ملبسة معه، حتى دخل دار الإمارة، ثم خرج إلى المسجد الجامع وصلى بالناس، ثم صعد المنبر وبايعه الناس وهو على المنبر في أعلاه، وعمه داود بن علي واقف دونه بثلاث درج.

وتكلم السفاح، وكان أول ما نطق به أن قال: الحمد لله الذي اصطفى الإسلام لنفسه دينا، وكرمه وشرفه وعظمه، واختاره لنا، وأيده بنا، وجعلنا أهله وكهفه والقوام به والذابين عنه والناصرين له، وألزمنا كلمة التقوى وجعلنا أحق بها وأهلها، خصنا برحم رسول الله وقرابته، ووضعنا بالإسلام وأهله في الموضع الرفيع، وأنزل بذلك على أهل الإسلام كتابا يتلى عليهم فقال تعالى: { إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرا } [الأحزاب: 33] .

وقال: { قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى } [الشورى: 23]

وقال: { وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ } [الشعراء: 214] .

وقال: { مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ } [الحشر: 7] الآية.

فأعلمهم عز وجل فضلنا وأوجب عليهم حقنا ومودتنا، وأجزل من الفيء والغنيمة نصيبنا تكرمة لنا، وتفضلة علينا، والله ذو الفضل العظيم.

وزعمت السبابية الضلال أن غيرنا أحق بالرياسة والسياسة والخلافة منا، فشاهت وجوههم.

أيها الناس ! بنا هدى الله الناس بعد ضلالتهم، ونصرهم بعد جهالتهم، وأنقذهم بعد هلكتهم، وأظهر بنا الحق وأدحض بنا الباطل، وأصلح بنا منهم ما كان فاسدا، ورفع بنا الخسيسة، وأتم النقيصة وجمع الفرقة، حتى عاد الناس بعد العداوة أهل تعاطف وبر ومواساة في دنياهم، وإخوانا على سرر متقابلين في أخراهم، فتح الله علينا ذلك منَّة ومنحة بمحمد ، فلما قبضه إليه قام بذلك الأمر بعده أصحابه، وأمرهم شورى بينهم، فحووا مواريث الأمم فعدلوا فيها، ووضعوها مواضعها، وأعطوها أهلها، وخرجوا خماصا منها.

ثم وثب بنو حرب ومروان فابتزوها لأنفسهم، وتداولوها.

فجاروا فيها واستأثروا بها، وظلموا أهلها، فأملى الله لهم حينا { فَلَمَّا آسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ } [الزخرف: 55] ، فانتزع منهم ما بأيديهم بأيدينا، ورد الله علينا حقنا، وتدارك بنا أمتنا، وتولى أمرنا والقيام بنصرنا ليمنَّ بنا على الذين استضعفوا في الأرض، وختم بنا كما افتتح بنا، وإني لأرجو أن لا يأتيكم الجور من حيث جاءكم الخير، ولا الفساد من حيث جاءكم الصلاح، وما توفيقنا أهل البيت إلا بالله.

يا أهل الكوفة ! أنتم محل محبتنا ومنزل مودتنا، وأنتم أسعد الناس بنا وأكرمهم علينا، وقد زدتكم في أعطياتكم مائة درهم، فاستعدوا فأنا السفاح الهائج والثائر المبير.

وكان به وعك فاشتد عليه حتى جلس على المنبر، ونهض عمه داود فقال: الحمد لله شكرا الذي أهلك عدونا، وأصار إلينا ميراثنا من بيتنا.

أيها الناس ! الآن انقشعت حنادس الظلمات وانكشف غطاؤها، وأشرقت أرضها وسماؤها، فطلعت شمس الخلافة من مطلعها، ورجع الحق إلى نصابه، إلى أهل نبيكم أهل الرأفة والرحمة والعطف عليكم.

أيها الناس ! إنا والله ما خرجنا لهذا الأمر لنكنز لجينا ولا عقيانا، ولا لنحفر نهرا ولا لنبني قصرا، ولا لنجمع ذهبا ولا فضة، وإنما أخرجتنا الأنفة من انتزاع حقنا والغضب لبني عمنا، ولسوء سيرة بني أمية فيكم، واستذلالهم لكم، واستئثاركم بفيئكم وصدقاتكم، فلكم علينا ذمة الله وذمة رسوله وذمة العباس، أن نحكم فيكم بما أنزل الله، ونعمل بكتاب الله، ونسير في العامة والخاصة بسيرة رسول الله.

تبا تبا لبني أمية وبني مروان، آثروا العاجلة على الآجلة، والدار الفانية على الدار الباقية، فركبوا الآثام وظلموا الأنام، وارتكبوا المحارم، وغشوا الجرائم، وجاروا في سيرتهم في العباد، وسنتهم في البلاد التي بها استلذوا تسربل الأوزار، وتجلبب الآصار، ومرحوا في أعنة المعاصي، وركضوا في ميادين الغي، جهلا منهم باستدراج الله، وعميا عن أخذ الله، وأمنا لمكر الله، فأتاهم بأس الله بياتا وهم نائمون، فأصبحوا أحاديث ومزقوا كل ممزق، فبعدا للقوم الظالمين.

وأدان الله من مروان، وقد غره بالله الغرور، أرسل عدو الله في عنانه حتى عثر جواده في فضل خطامه، أظنَا عدو الله أن لن يقدر عليه أحد؟ فنادى حزبه وجمع جنده، ورمى بكتائبه، فوجد أمامه ووراءه وعن يمينه وعن شماله ومن فوقه ومن تحته من مكر الله وبأسه ونقمته ما أمات باطله، ومحق ضلاله، وأحل دائرة السوء به، وأحاط به خطيئته، ورد إلينا حقنا وآوانا.

أيها الناس ! إن أمير المؤمنين نصره الله نصرا عزيزا، إنما عاد إلى المنبر بعد صلاة الجمعة لأنه كره أن يخلط بكلام الجمعة غيره، وإنما قطعه عن استتمام الكلام شدة الوعك، فادعوا الله لأمير المؤمنين بالعافية، فقد أبدلكم الله بمروان عدو الرحمن، وخليفة الشيطان، المتبع للسفلة الذين يفسدون في الأرض ولا يصلحون، المتوكل على الله، المقتدي بالأبرار الأخيار الذين أصلحوا الأرض بعد فسادها بمعالم الهدى، ومناهج التقى.

قال: فعج الناس له بالدعاء، ثم قال: واعلموا يا أهل الكوفة ! أنه لم يصعد منبركم هذا خليفة بعد رسول الله إلا أمير المؤمنين علي بن أبي طالب وأمير المؤمنين هذا - وأشار بيده إلى السفاح - واعلموا أن هذا الأمر فينا ليس بخارج عنا، حتى نسلمه إلى عيسى بن مريم عليه السلام، والحمد لله رب العالمين على ما أبلانا وأولانا.

ثم نزل أبو العباس وداود حتى دخلا القصر، ثم دخل الناس يبايعون إلى العصر، ثم من بعد العصر إلى الليل.

ثم إن أبا العباس خرج فعسكر بظاهر الكوفة واستخلف عليها عمه داود، وبعث عمه عبد الله بن علي إلى أبي عون بن أبي يزيد، وبعث ابن أخيه عيسى بن موسى إلى الحسن بن قحطبة، وهو يومئذ بواسط يحاصر ابن هبيرة، وبعث يحيى بن جعفر بن تمام بن العباس إلى حميد بن قحطبة بالمدائن، وبعث أبا اليقظان عثمان بن عروة بن محمد بن عمار بن ياسر إلى بسام بن إبراهيم بن بسام بالأهواز، وبعث سلمة بن عمرو بن عثمان إلى مالك بن الطواف.

وأقام هو بالعسكر أشهرا، ثم ارتحل فنزل المدينة الهاشمية في قصر الإمارة، وقد تنكر لأبي سلمة الخلال، وذلك لما كان بلغه عنه من العدول بالخلافة عن ابن العباس إلى آل علي بن أبي طالب، والله سبحانه وتعالى أعلم.

مقتل مروان بن محمد بن مروان

آخر خلفاء بني أمية، وتحول الخلافة إلى بني العباس مأخوذة من قوله تعالى: { وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ } [البقرة: 247] ، وقوله: { قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ } [آل عمران: 26] الآية.

وقد ذكرنا أن مروان لما بلغه خبر أبي مسلم وأتباعه وما جرى بأرض خراسان، تحول من حران فنزل على نهر قريب من الموصل، يقال له: الزاب من أرض الجزيرة ثم لما بلغه أن السفاح قد بويع له بالكوفة والتفت عليه الجنود، واجتمع له أمره، شق عليه جدا، وجمع جنوده فتقدم إليه أبو عون بن أبي يزيد في جيش كثيف وهو أحد أمراء السفاح، فنازله على الزاب وجاءته الأمداد من جهة السفاح، ثم ندب السفاح الناس ممن يلي القتال من أهل بيته، فأنتدب له عبد الله بن علي فقال: سر على بركة الله.

فسار في جنود كثيرة فقدم على أبي عون فتحول له أبو عون عن سرادقه وخلاه له وما فيه، وجعل عبد الله بن علي على شرطته حياش بن حبيب الطائي، ونصير بن المحتفز، ووجه أبو العباس موسى بن كعب في ثلاثين رجلا على البريد إلى عبد الله بن علي يحثه على مناجزة مروان، والمبادرة إلى قتاله ونزاله قبل أن تحدث أمور، وتبرد نيران الحرب.

فتقدم عبد الله بن علي بجنوده حتى واجه جيش مروان، ونهض مروان في جنوده وتصافَّ الفريقان في أول النهار، ويقال: إنه كان مع مروان يومئذ مائة ألف وخمسون ألفا.

ويقال: مائة وعشرون ألفا، وكان عبد الله بن علي في عشرين ألفا.

فقال مروان لعبد العزيز بن عمر بن عبد العزيز: إن زالت الشمس يومئذ ولم يقاتلونا كنا نحن الذين ندفعها إلى عيسى بن مريم، وإن قاتلونا قبل الزوال فإنا لله وإنا إليه راجعون.

ثم أرسل مروان إلى عبد الله بن علي يسأله الموادعة، فقال عبد الله: كذب ابن زريق، لا تزول الشمس حتى أوطئه الخيل، إن شاء الله.

وكان ذلك يوم السبت لإحدى عشر ليلة خلت من جمادى الآخرة من هذه السنة، فقال مروان: قفوا لا تبتدئون بقتال.

وجعل ينظر إلى الشمس فخالفه الوليد بن معاوية بن مروان - وهو: ختن مروان على ابنته - فحمل، فغضب مروان فشتمه فقاتل أهل الميمنة فأنحاز أبو عون إلى عبد الله بن علي، فقاتل موسى بن كعب لعبد الله بن علي، فأمر الناس فنزلوا ونودي: الأرض الأرض.

فنزلوا وأشرعوا الرماح وجثوا على الركب وقاتلوهم، وجعل أهل الشام يتأخرون كأنما يدفعون، وجعل عبد الله يمشي قدما، وجعل يقول: يا رب حتى متى نقتل فيك ؟

ونادى يا أهل خراسان ! يا شارات إبراهيم الإمام، يا محمد يا منصور، واشتد القتال جدا بين الناس، فلا تسمع إلا وقعا كالمرازب على النحاس، فأرسل مروان إلى قضاعة يأمرهم بالنزول فقالوا: قل لبني سليم فلينزلوا.

وأرسل إلى السكاسك أن احملوا فقالوا: قل لبني عامر أن يحملوا.

فأرسل إلى السكون أن احملوا فقالوا: قل إلى غطفان فليحملوا.

فقال لصاحب شرطته: انزل.

فقال: لا ! والله لا أجعل نفسي غرضا.

قال: أما والله لأسوءنك.

قال: وددت لو قدرت على ذلك.

ويقال: أنه قال ذلك لابن هبيرة.

قالوا: ثم انهزم أهل الشام واتبعتهم أهل خراسان في أدبارهم يقتلون ويأسرون، وكان من غرق من أهل الشام أكثر ممن قتل وكان في جملة من غرق إبراهيم بن الوليد بن عبد الملك المخلوع، وقد أمر عبد الله بن علي بعقد الجسر، واستخراج من غرق في الماء، وجعل يتلو قوله تعالى: { وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ فَأَنْجَيْنَاكُمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ } [البقرة: 50] .

وأقام عبد الله بن علي في موضع المعركة سبعة أيام، وقد قال رجل من ولد سعيد بن العاص في مروان وفراره يومئذ:

لج الفرار بمروان فقلت له * عاد الظلوم ظليما همه الهرب

أين الفرار وترك الملك إذ ذهبت * عنك الهوينا فلا دين ولا حسب

فراشة الحلم فرعون العقاب وإن * تطلب نداه فكلب دونه كلب

واحتاز عبد الله ما في معسكر مروان من الأموال والأمتعة والحواصل، ولم يجد فيه امرأة سوى جارية كانت لعبد الله بن مروان، وكتب إلى أبي العباس السفاح بما فتح الله عليه من النصر، وما حصل لهم من الأموال.

فصلى السفاح ركعتين شكرا لله عز وجل، وأطلق لكل من حضر الوقعة خمسمائة خمسمائة، ورفع في أرزاقهم إلى ثمانين، وجعل يتلو قوله: { فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ } [البقرة: 249] الآية.

صفة مقتل مروان

لما انهزم مروان سار لا يلوي على أحد، فأقام عبد الله بن علي في مقام المعركة سبعة أيام، ثم سار خلفه بمن معه من الجنود، وذلك عن أمر السفاح له بذلك.

فلما مر مروان بحران اجتازها وأخرج أبا محمد السفياني من سجنه، واستخلف عليها أبان بن يزيد - وهو ابن أخته، وزوج ابنته أم عثمان - فلما قدم عبد الله على حران خرج إليه أبان بن يزيد مسوِّدا فأمنه عبد الله بن علي وأقره على عمله، وهدم الدار التي سجن فيها إبراهيم الإمام، واجتاز مروان قنسرين قاصدا حمص، فلما جاءها خرج إليه أهلها بالأسواق والمعايش، فأقام بها يومين أو ثلاثة ثم شخص منها، فلما رأى أهل حمص قلة من معه اتبعوه ليقتلوه ونهبوا ما معه، وقالوا: مرعوب مهزوم.

فأدركوه بواد عند حمص فأكمن لهم أميرين، فلما تلاحقوا بمروان عطف عليهم فنانشدهم أن يرجعوا فأبوا إلا مقاتلته، فثار القتال بينهم وثار الكمينان من ورائهم، فانهزم الحمصيون، وجاء مروان إلى دمشق وعلى نيابتها من جهته زوج ابنته الوليد بن معاوية بن مروان فتركه بها واجتاز عنها قاصدا إلى الديار المصرية، وجعل عبد الله بن علي لا يمر ببلد وقد سوِّدوا فيبايعونه ويعطهيم الأمان.

ولما وصل إلى قنسرين وصل إليه أخوه عبد الصمد بن علي في أربعة آلاف، وقد بعثهم السفاح مددا له، ثم سار عبد الله حتى أتى حمص، ثم سار منها إلى بعلبك، ثم منها حتى أتى دمشق من ناحية المزة فنزل بها يومين أو ثلاثة، ثم وصل إليه أخوه صالح بن علي في ثمانية آلاف مددا من السفاح، فنزل صالح بمرج عذراء.

ولما جاء عبد الله بن علي دمشق نزل على الباب الشرقي، ونزل صالح أخوه على باب الجابية، ونزل أبو عون على باب كيسان، ونزل بسام على الباب الصغير، وحميد بن قحطبة على باب توما، وعبد الصمد ويحيى بن صفوان والعباس بن يزيد على باب الفراديس، فحاصرها أياما ثم افتتحها يوم الأربعاء لعشر خلون من رمضان هذه السنة، فقتل من أهلها خلقا كثيرا وأباحها ثلاث ساعات، وهدم سورها.

ويقال: إن أهل دمشق لما حاصرهم عبد الله اختلفوا فيما بينهم، ما بين عباسي وأموي، فاقتتلوا فقتل بعضهم بعضا، وقتلوا نائبهم ثم سلموا البلد، وكان أول من صعد السور من ناحية الباب الشرقي رجل يقال له: عبد الله الطائي، ومن ناحية الباب الصغير بسام بن إبراهيم، ثم أبيحت دمشق ثلاث ساعات حتى قيل: إنه قتل بها في هذه المدة نحوا من خمسين ألفا.

وذكر ابن عساكر في ترجمة عبيد بن الحسن الأعرج من ولد جعفر بن أبي طالب، وكان أميرا على خمسة آلاف مع عبد الله بن علي في حصار دمشق، أنهم أقاموا محاصريها خمسة أشهر.

وقيل: مائة يوم.

وقيل: شهرا ونصفا.

وأن البلد كان قد حصنه نائب مروان تحصينا عظيما، ولكن اختلف أهلها فيما بينهم بسبب اليمانية والمضرية، وكان ذلك بسبب الفتح، حتى إنهم جعلوا في كل مسجد محرابين للقبلتين حتى في المسجد الجامع منبرين، وإمامين يخطبان يوم الجمعة على المنبرين، وهذا من عجيب ما وقع، وغريب ما اتفق، وفظيع ما أحدث بسبب الفتنة والهوى والعصبية، نسأل الله السلامة والعافية.

وقد بسط ذلك ابن عساكر في هذه الترجمة المذكورة، وذكر في ترجمة محمد بن سليمان بن عبد الله النوفلي قال: كنت مع عبد الله بن علي أول ما دخل دمشق، دخلها بالسيف، وأباح القتل فيها ثلاث ساعات، وجعل جامعها سبعين يوما إسطبلا لدوابه وجماله، ثم نبش قبور بني أمية فلم يجد في قبر معاوية إلا خيطا أسود مثل الهباء، ونبش قبر عبد الملك بن مروان فوجد جمجمته، وكان يجد في القبر العضو بعد العضو، إلا هشام بن عبد الملك فإنه وجده صحيحا لم يبل منه غير أرنبة أنفه، فضربه بالسياط وهو ميت وصلبه أياما ثم أحرقه ودقَّ رماده ثم ذره في الريح، وذلك أن هشاما كان قد ضرب أخاه محمد بن علي، حين كان قد اتهم بقتل ولد له صغير، سبعمائة سوط، ثم نفاه إلى الحميمة بالبلقاء.

قال: ثم تتبع عبد الله بن علي بني أمية من أولاد الخلفاء وغيرهم، فقتل منهم في يوم واحد اثنين وتسعين ألفا عند نهر بالرملة، وبسط عليهم الأنطاع ومد عليهم سماطا فأكل وهم يختلجون تحته، وهذا من الجبروت والظلم الذي يجازيه الله عليه، وقد مضى ولم يدم له ما أراده ورجاه، كما سيأتي في ترجمته.

وأرسل امرأة هشام بن عبد الملك وهي: عبدة بنت عبد الله بن يزيد بن معاوية صاحبة الخال، مع نفر من الخراسانية إلى البرية ماشية حافية حاسرة على وجهها وجسدها وثيابها ثم قتلوها.

ثم أحرق ما وجد من عظم ميت منهم.

وأقام بها عبد الله خمسة عشر يوما.

وقد استدعى بالأوزاعي فأوقف بين يديه فقال له: يا أبا عمرو ! ما تقول في هذا الذي صنعناه ؟

قال: فقلت له: لا أدري غير أنه قد حدثني يحيى بن سعيد الأنصاري، عن محمد بن إبراهيم، عن علقمة، عن عمر بن الخطاب، قال: قال رسول الله : «إنما الأعمال بالنيات»، فذكر الحديث.

قال الأوزاعي: وانتظرت رأسي أن يسقط بين رجلي ثم أخرجت، وبعث لي بمائة دينار، ثم سار وراء مروان فنزل على نهر الكسوة، ووجه يحيى بن جعفر الهاشمي نائبا على دمشق ثم سار فنزل مرج الروم، ثم أتى نهر أبي فطرس فوجد مروان قد هرب فدخل مصر، وجاءه كتاب السفاح: ابعث صالح بن علي في طلب مروان وأقم أنت في الشام نائبا عليها.

فسار صالح يطلب مروان في ذي القعدة من هذه السنة، ومعه أبو عمرو عامر بن إسماعيل، فنزل على ساحل البحر وجمع ما هناك من السفن وبلغه أن مروان قد نزل الفرما، وقيل: الفيوم.

فجعل يسير على الساحل والسفن تقاد معه في البحر حتى أتى العريش، ثم سار حتى نزل على النيل ثم سار إلى الصعيد فعبر مروان النيل وقطع الجسر وحرق ما حوله من العلف والطعام، ومضى صالح في طلبه.

فالتقى بخيل لمروان فهزمهم، ثم جعل كلما التقوا مع خيل لمروان يهزمزنهم حتى سألوا بعض من أسروا عن مروان فدلهم عليه، وإذا به في كنيسة أبو صير فوافوه من آخر الليل، فانهزم من معه من الجند وخرج إليهم مروان في نفر يسير معه فأحاطوا به حتى قتلوه، طعنه رجل من أهل البصرة يقال له: معود، ولا يعرفه حتى قال رجل: صرع أمير المؤمنين.

فابتدره رجل من أهل الكوفة كان يبيع الرمان فاحتز رأسه، فبعث به عامر بن إسماعيل أمير هذه السرية إلى أبي عون، فبعث به أبو عون إلى صالح بن علي فبعث به صالح مع رجل يقال له: خزيمة بن يزيد بن هانئ كان على شرطته، لأمير المؤمنين السفاح.

وكان مقتل مروان يوم الأحد لثلاث بقين من ذي الحجة، وقيل: يوم الخميس لست مضين منها سنة ثنتين وثلاثين ومائة، وكانت خلافته خمس سنين وعشرة أشهر وعشرة أيام على المشهور.

واختلفوا في سنه، فقيل: أربعون سنة.

وقيل: ست، وقيل: ثمان وخمسون سنة.

وقيل: ستون.

وقيل: اثنتان، وقيل: ثلاث، وقيل: تسع وستون سنة.

وقيل: ثمانون، والله أعلم.

ثم إن صالح بن علي سار إلى الشام واستخلف على مصر أبا عون بن أبي يزيد، والله سبحانه أعلم.

وهذا شيء من ترجمة مروان الحمار

وهو: مروان بن محمد بن مروان بن الحكم بن أبي العاص بن أمية، القرشي الأموي، أبو عبد الملك، أمير المؤمنين، آخر خلفاء بني أمية، وأمه أمة كردية يقال لها: لبابة، وكانت لإبراهيم بن الأشتر النخعي، أخذها محمد بن مروان يوم قتله فاستولدها مروان هذا، ويقال: أنها كانت أولا لمصعب بن الزبير.

وقد كانت دار مروان هذا في سوق الأكافين، قاله ابن عساكر.

بويع له بالخلافة بعد قتل الوليد بن يزيد، وبعد موت يزيد بن الوليد، ثم قدم دمشق وخلع إبراهيم بن الوليد، واستمر له الأمر في نصف صفر سنة سبع وعشرين ومائة.

وقال أبو معشر: بويع له بالخلافة في ربيع الأول سنة تسع وعشرين ومائة، وكان يقال له: مروان الجعدي، نسبة إلى رأي الجعد بن درهم، وتلقب بالحمار، وهو آخر من ملك من بني أمية، وكانت خلافته خمس سنين وعشرة أشهر وعشرة أيام، وقيل: خمس سنين وشهرا.

وبقي بعد أن بويع للسفاح تسعة أشهر، وكان أبيض مشربا حمرة، أزرق العينين، كبير اللحية، ضخم الهامة، ربعة، ولم يكن يخضب.

ولاه هشام نيابة أذربيجان وأرمينية والجزيرة، في سنة أربع عشرة ومائة، ففتح بلاد كثيرة وحصونا متعددة في سنين كثيرة، وكان لا يفارق الغزو في سبيل الله، وقاتل طوائف من الناس الكفار ومن الترك والخزر واللان وغيرهم، فكسرهم وقهرهم، وقد كان شجاعا بطلا مقداما حازم الرأي لولا أن جنده خذلوه بتقدير الله عز وجل لما له من ذلك من حكمة سلب الخلافة لشجاعته وصرامته.

ولكن من يخذل الله يخذل، ومن يهن الله فما له من مكرم.

قال الزبير بن بكار، عن عمه مصعب بن عبد الله: كان بنو أمية يرون أنه تذهب منهم الخلافة إذا وليها من أمه أمة، فلما وليها مروان هذا أخذت منهم في سنة ثنتين وثلاثين ومائة.

وقد قال الحافظ بن عساكر: أخبرنا أبو محمد عبد الرحمن بن أبي الحسن، أخبرنا سهل بن بشر، أنبأ الخليل بن هبة الله بن الخليل، أنبأ عبد الوهاب الكلابي، حدثنا أبو الجهم أحمد بن الحسين، أنبأ العباس بن الوليد بن صبح، ثنا عباس بن يحيى أبو الحارث، حدثني الهيثم بن حمد، حدثني راشد بن داود، عن أسماء، عن ثوبان، قال: قال رسول الله : «لا تزال الخلافة في بني أمية يتلقفونها تلقف الغلمان الكرة فإذا خرجت من أيديهم فلا خير في عيش».

هكذا أورده ابن عساكر وهو منكر جدا.

وقد سأل الرشيد أبا بكر بن عياش: خير الخلفاء نحن أو بنوا أمية ؟

فقال: هم كانوا أنفع للناس وأنتم أقوم للصلاة، فأعطاه ستة آلاف.

قالوا: وقد كان مروان هذا كثير المروءة كثير العجب، يعجبه اللهو والطرب، ولكنه كان يشتغل عن ذلك بالحرب.

قال ابن عساكر: قرأت بخط أبي الحسين علي بن مقلد بن نصر بن منقذ بن الأمير في مجموع له: كتب مروان بن محمد إلى جارية له تركها بالرملة عند ذهابه إلى مصر منهزما:

وما زال يدعوني إلى الصبر ما أرى * فآبى ويدنيني الذي لك في صدري

وكان عزيزا أن تبيتي وبيننا * حجاب فقد أمسيت مني على عشر

وأنكاهما والله للقلب فاعلمي * إذا زدت مثليها فصرت على شهر

وأعظم من هذين والله أنني * أخاف بأن لا نلتقي آخر الدهر

سأبكيك لا مستبقا فيض عبرة * ولا طالبا بالصبر عاقبة الصبر

وقال بعضهم: اجتاز مروان وهو هارب براهب فاطلع عليه الراهب فسلم عليه فقال له: يا راهب ! هل عندك علم بالزمان ؟

قال: نعم ! عندي من تلونه ألوان.

قال: هل تبلغ الدنيا من الإنسان أن تجعله مملوكا بعد أن كان مالكا ؟

قال: نعم !

قال: فكيف ؟

قال: بحبه لها وحرصه على نيل شهواتها، وتضييع الحزم وترك انتهاز الفرص، فإن كنت تحبها فإن عبدها من أحبها.

قال: فما السبيل إلى العتق ؟

قال: ببغضها والتجافي عنها.

قال: هذا ما لا يكون.

قال الراهب: أما إنه سيكون فبادر بالهرب منها قبل أن تسلبها.

قال: هل تعرفني ؟

قال: نعم ! أنت ملك العرب مروان، تقتل في بلاد السودان، وتدفن بلا أكفان، فلولا أن الموت في طلبك لدللتك على موضع هربك.

قال بعض الناس: كان يقال في ذلك الزمان: يقتل ع بن ع بن ع م بن م بن م يعنون: يقتل عبد الله بن علي بن عباس بن مروان بن محمد بن مروان.

وقال بعضهم: جلس مروان يوما وقد أحيط به وعلى رأسه خادم له قائم، فقال مروان لبعض من يخاطبه: ألا ترى ما نحن فيه؟ لهفي على أيد ما ذكرت، ونعم ما شكرت، ودولة ما نصرت.

فقال له الخادم: يا أمير المؤمنين ! من ترك القليل حتى يكثر، والصغير حتى يكبر، والخفي حتى يظهر، وأخر فعل اليوم لغد، حل به أكثر من هذا.

فقال مروان: هذا القول أشد عليَّ من فقد الخلافة.

وقد قيل: إن مروان قتل يوم الاثنين لثلاث عشرة خلت من ذي الحجة، سنة ثنتين وثلاثين ومائة، وقد جاوز الستين وبلغ الثمانين، وقيل: إنما عاش أربعين سنة، والصحيح الأول.

وهو آخر خلفاء بني أمية به انقضت دولتهم.

ما ورد في انقضاء دولة بني أمية وابتداء بني العباس من الأخبار النبوية

قال العلاء بن عبد الرحمن، عن أبيه، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله : «إذا بلغ بنو العاص أربعين رجلا اتخذوا دين الله دغلا، وعباد الله خولا، ومال الله دولا».

ورواه الأعمش، عن عطية، عن أبي سعيد مرفوعا بنحوه.

وروى ابن لهيعة، عن أبي قبيل، عن ابن وهب، أنه كان عند معاوية فدخل عليه مروان بن الحكم فتكلم في حاجة فقال: اقض حاجتي، فإني لأبو عشرة، وأخو عشرة، وعم عشرة.

فلما أدبر مروان، قال معاوية لابن عباس وهو معه على السرير: أما تعلم أن رسول الله قال: «إذا بلغ بنو الحكم ثلاثين رجلا اتخذوا مال الله بينهم دولا، وعباد الله خولا، وكتاب الله دغلا، فإذا بلغوا سبعة وتسعين وأربعمائة، كان هلاكهم أسرع من لوك تمرة».

فقال ابن عباس: اللهم نعم ؟

فلما أدبر مروان قال معاوية: أنشدك بالله يا ابن عباس أما تعلم أن رسول الله ذكر هذا فقال: «أبو الجبابرة الأربعة».

فقال ابن عباس: اللهم نعم.

وقال أبو داود الطيالسي: حدثنا القاسم بن الفضل، ثنا يوسف بن مازن الراسبي، قال: قام رجل إلى الحسين بن علي، فقال: يا مسود وجوه المؤمنين !

فقال الحسين: لا تؤنبني رحمك الله، فإن رسول الله رأى بني أمية يخطبون على منبره رجلا رجلا فساءه ذلك فنزلت: { إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ } [الكوثر: 1] وهو نهر في الجنة، ونزلت: { إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ } السورة إلى قوله: { خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ } [القدر: 1-3] مملكة بني أمية.

قال: فحسبنا ذلك فإذا هو كما قال لا يزيد ولا ينقص.

وقد رواه الترمذي، عن محمود بن غيلان، عن أبي داود الطيالسي، ثم قال: غريب لا نعرفه إلا من حديث القاسم بن الفضل، وهو ثقة وثقه يحيى القطان وابن مهدي.

قال: وشيخه يوسف بن سعد.

ويقال: يوسف بن مازن، رجل مجهول، ولا يعرف هذا بهذا اللفظ إلا من هذا الوجه.

أخرجه الحاكم في مستدركه، من حديث القاسم بن الفضل الحداني، وقد تكلمت على نكارة هذا الحديث في التفسير بكلام مبسوط، وإنما يكون متجها إذا قيل إن دولتهم ألف شهر بأن نسقط منها أيام ابن الزبير، وذلك أن معاوية بويع به مستقلا بالملك في سنة أربعين، وهي عام الجماعة حين سلم إليه الحسن بن علي الأمر بعد ستة أشهر من قتل علي، ثم زالت الخلافة عن بني أمية في هذه السنة، وهي سنة ثنتين وثلاثين ومائة، وذلك ثنتان وتسعون سنة، وإذا أسقط منها تسع سنين من خلافة ابن الزبير بقي ثلاث وثمانون سنة، وهي مباينة لما ورد في هذا الحديث، ولكن ليس هذا الحديث مرفوعا إلى النبي ، أنه فسر هذه الآية بهذا العدد، وإنما هذا من قول بعض الرواة، وقد تكلمنا على ذلك مطولا في التفسير، وتقدم في الدلائل أيضا تقريره، والله أعلم.

وقال علي بن المديني: عن يحيى بن سعيد، عن سفيان الثوري، عن علي بن زيد، عن سعيد بن المسيب، أن رسول الله قال: «رأيت بني أمية يصعدون منبري فشق ذلك عليَّ».

فأنزلت: «إنا أنزلناه في ليلة القدر». فيه ضعف وإرسال.

وقال أبو بكر بن أبي خيثمة: ثنا يحيى بن معين، ثنا عبد الله بن نمير، عن سفيان الثوري، عن علي بن يزيد، عن سعيد بن المسيب، في قوله: { وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ } [الإسراء: 60] .

قال: رأى ناسا من بني أمية على المنابر فساءه ذلك، فقيل له: إنما هي دنيا يعطونها وتضمحل عن قليل فسري عنه.

وقال أبو جعفر الرازي، عن الربيع، قال: لما أسري برسول الله رأى فلانا وهو من بعض بني أمية على المنبر يخطب الناس فشق ذلك عليه فأنزل الله: { وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَكُمْ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ } [الأنبياء: 111] .

وقال مالك بن دينار: سمعت أبا الجوزاء يقول: والله لَيُعِزَّنَّ الله ملك بني أمية كما أعز ملك من كان قبلهم، ثم ليذلنّ ملكهم كما أذلّ ملك من كان قبلهم، ثم تلا قوله تعالى: { وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ } [آل عمران: 140] .

وقال ابن أبي الدنيا: حدثني إبراهيم بن سعيد، ثنا أبو أسامة، ثنا عمر بن حمزة، أخبرني عمر بن سيف مولى لعثمان بن عفان، قال: سمعت سعيد بن المسيب، وهو يقول لأبي بكر بن سليمان بن أبي خيثمة - وذكروا بني أمية - فقال: لا يكون هلاكهم إلا بينهم.

قالوا: كيف ؟

قال: يهلك خلفاؤهم ويبقى شرارهم فيتنافسونها، ثم يكثر الناس عليهم فيهلكونهم.

وقال يعقوب بن سفيان: أنبأ أحمد بن محمد الأزرقي، ثنا الزنجي، عن العلاء بن عبد الرحمن، عن أبيه، عن أبي هريرة، أن رسول الله قال: «رأيت في النوم بني أبي الحكم أو بني أبي العاص ينزون على منبري، كما تنزوا القردة».

قال: فما رؤي رسول الله مستجمعا ضاحكا بعدها حتى توفي.

قال أبو محمد عبد الله بن عبد الرحمن الداري - لعله الدرامي -، حدثنا مسلم بن إبراهيم، ثنا سعيد بن زيد - أخو حماد بن زيد -، عن علي بن الحكم البنائي، عن أبي الحسن - هو الحمصي -، عن عمرو بن مرة - وكانت له صحبة -، قال: جاء الحكم بن أبي العاص يستأذن على رسول الله فعرف كلامه فقال: «ائذنوا له صبت عليه لعنة الله وعلى من يخرج من صلبه إلا المؤمنين وقليل ما هم، يشرفون في الدنيا ويوضعون في الآخرة، ذوو دهاء وخديعة، يعطون في الدنيا وما لهم في الآخرة من خلاق».

وقال أبو بكر الخطيب البغدادي: أنبأ أبو عبد الله محمد بن عبد الواحد بن محمد، أنبأ محمد بن المظفر الحافظ، أنبأ أبو القاسم تمام بن خريم بن محمد بن مروان الدمشقي، أنبأ أحمد بن إبراهيم بن هشام بن ملابس، ثنا أبو النظر إسحاق بن إبراهيم بن يزيد مولى أم الحكم بنت عبد العزيز، حدثنا يزيد بن ربيعة، حدثنا أبو الأشعث الصنعاني، عن ثوبان، قال: كان رسول الله نائما واضعا رأسه على فخد أم حبيبة بنت أبي سفيان، فنحب ثم تبسم، فقالوا: يا رسول الله رأيناك نحبت ثم تبسمت.

فقال: «رأيت في منامي بني أمية يتعاورون على منبري فساءني ذلك، ثم رأيت بني العباس يتعاورون على منبري فسرني ذلك».

وقال يعقوب بن سفيان: حدثني محمد بن خالد بن العباس، ثنا الوليد بن مسلم، حدثني أبو عبد الله، عن الوليد بن هشام المعيطي، عن أبان بن الوليد، عن عقبة بن أبي معيط، قال: قدم ابن عباس على معاوية وأنا حاضر فأجازه فأحسن جائزته، ثم قال: يا أبا العباس ! هل يكون لكم دولة ؟

فقال: اعفني يا أمير المؤمنين.

فقال: لتخبرني.

قال: نعم !

قال: فمن أنصاركم ؟

قال: أهل خراسان، ولبني أمية من بني هاشم نطحات.

وقال المنهال بن عمرو، عن سعيد بن جبير: سمعت ابن عباس، يقول: يكون منا ثلاثة أهل البيت: السفاح والمنصور والمهدي.

رواه البيهقي من غير وجه، ورواه الأعمش، عن الضحاك، عن ابن عباس، مرفوعا.

وروى ابن أبي خيثمة، عن ابن معين، عن سفيان بن عيينة، عن عمرو بن دينار، عن أبي معبد، عن ابن عباس، قال: كما افتتح الله بأولنا فأرجو أن يختمه بنا.

وهذا إسناد صحيح إليه، وكذا وقع ويقع للمهدي إن شاء الله.

وروى البيهقي، عن الحاكم، عن الأصم، عن أحمد بن عبد الجبار، عن أبي معاوية، عن الأعمش، عن عطية، عن أبي سعيد، قال: قال رسول الله : «يخرج رجل من أهل بيتي عند انقطاع من الزمان وظهور من الفتن، يقال له: السفاح، يعطي المال حثيا».

وقال عبد الزراق: حدثنا الثوري، عن خالد الحذاء، عن أبي قلابة، عن أبي أسماء، عن ثوبان، قال: قال رسول الله : «يقتتل عند حرتكم هذه ثلاثة كلهم ولد خليفة لا تصير إلى واحد منهم، ثم تقبل الرايات من خراسان فيقتلونكم مقتلة لم ير مثلها. ثم ذكر شيئا فإذا كان كذلك فأتوه ولو حبوا على الثلج، فإنه خليفة الله المهدي».

ورواه بعضهم، عن ثوبان، فوقفه وهو أشبه، والله أعلم.

وقال الإمام أحمد: حدثني يحيى بن غيلان وقتيبة بن سعيد، قالا: ثنا راشد بن سعد، حدثني يونس بن يزيد، عن ابن شهاب، عن قصيبة، هو ابن ذؤيب، عن أبي هريرة، عن رسول الله أنه قال: «يخرج من خراسان رايات سود لا يردها شيء حتى تنصب بإيليا».

وقد رواه البيهقي في الدلائل من حديث راشد بن سعد المصري، وهو ضعيف.

ثم قال: قد روي قريبا من هذا عن كعب الأحبار، وهو أشبه.

ثم رواه عن كعب أيضا، قال: «تظهر رايات سود لبني العباس حتى ينزلوا الشام، ويقتل الله على أيديهم كل جبار وعدو لهم».

وروى إبراهيم بن الحسين، عن ابن أبي أويس، عن ابن أبي ذؤيب، عن محمد بن عبد الرحمن العامري، عن سهل، عن أبيه، عن أبي هريرة، أن رسول الله قال للعباس: «فيكم النبوة وفيكم المملكة».

وروى عبد الله بن أحمد، عن ابن معين، عن عبيد بن أبي قرة، عن الليث، عن أبي قبيل، عن أبي ميسرة مولى العباس، قال: سمعت العباس، يقول: كنت عند رسول الله ذات ليلة فقال: «انظر هل ترى في السماء من شيء؟».

قلت: نعم !

قال: «ما ترى؟».

قلت: الثريا !

قال: «أما إنه سيملك هذه الأمة بعددها من صلبك».

قال البخاري: عبيد بن أبي قرة لا يتابع على حديثه.

وروى ابن عدي، من طريق سويد بن سعيد، عن حجاج بن تميم، عن ميمون بن مهران، عن ابن العباس، قال: مررت برسول الله ومعه جبريل، وأنا أظنه دحية الكلبي، فقال جبريل لرسول الله : «إنه لوسخ الثياب، وسيلبس ولده من بعده السواد».

وهذا منكر من هذا الوجه، ولا شك أن بني العباس كان السواد من شعارهم، أخذوا ذلك من دخول رسول الله مكة يوم الفتح وعلى رأسه عمامة سوداء، فأخذوا بذلك وجعلوه شعارهم في الأعياد والجمع والمحافل.

وكذلك كان جندهم لا بد من أن يكون على أحدهم شيء من السواد، ومن ذلك الشربوش الذي يلبسه الأمراء إذا خلع عليهم.

وكذلك دخل عبد الله بن علي دمشق يوم دخلها وعليه السواد، فجعل النساء والغلمان يعجبون من لباسه، وكان دخوله من باب كيسان.

وقد خطب الناس يوم الجمعة وصلى بهم وعليه السواد.

وقد روى ابن عساكر عن بعض الخراسانية قال: لما صلى عبد الله بن علي بالناس يوم الجمعة صلى إلى جانبي رجل فقال: الله أكبر، سبحانك اللهم وبحمدك وتبارك اسمك وتعالى جدك ولا إله غيرك، انظروا إلى عبد الله بن علي ما أقبح وجهه وأشنع سواده ؟!

وشعارهم إلى يومك هذا، كما تراه على الخطباء يوم الجمعة والأعياد.

استقرار أبي العباس السفاح واستقلاله بالخلافة وما اعتمده في أيامه من السيرة الحسنة

قد تقدم أنه أول ما بويع له بالخلافة بالكوفة يوم الجمعة الثاني عشر من ربيع الآخر.

وقيل: الأول من هذه السنة، سنة ثنتين وثلاثين ومائة.

ثم جرد الجيوش إلى مروان فطردوه عن المملكة وأجلوه عنها، وما زالوا خلفه حتى قتلوه ببوصير من بلاد الصعيد، بأرض مصر، في العشر الأخير من ذي الحجة من هذه السنة على ما تقدم بيانه، وحينئذ استقل السفاح بالخلافة واستقرت يده على بلاد العراق وخراسان والحجاز والشام والديار المصرية، خلا بلاد الأندلس، فإنه لم يحكم عليها ولا وصل سلطانه إليها، وذلك أن بعض من دخلها من بني أمية استحوذ عليها وملكها، كما سيأتي بيانه.

وقد خرج على السفاح في هذه السنة طوائف، فمنهم: أهل قنسرين بعد ما بايعوه على يدي عمه عبد الله بن علي وأقر عليهم أميرهم مجزأة بن الكوثر بن زفر بن الحارث الكلابي، وكان من أصحاب مروان وأمرائه، فخلع السفاح ولبس البياض، وحمل أهل البلد على ذلك فوافقوه.

وكان السفاح يومئذ بالحيرة، وعبد الله بن علي مشغول بالبلقاء يقاتل بها حبيب بن مرة المزي ومن وافقه من أهل البلقاء والبثنية وحوران على خلع السفاح، فلما بلغه عن أهل قنسرين ما فعلوا صالح حبيب بن مرة وسار نحو قنسرين، فلما اجتاز بدمشق - وكان بها أهله وثقله - استخلف عليها أبا غانم، عبد الحميد بن ربعي الكناني في أربعة آلاف.

فلما جاوز البلد وانتهى إلى حمص نهض أهل دمشق مع رجل يقال له: عثمان بن عبد الأعلى بن سراقة فخلعوا السفاح وبيضوا وقتلوا الأمير أبا غانم وقتلوا جماعة من أصحابه وانتهبوا ثقل عبد الله بن علي بن وحواصله، ولم يتعرضوا لأهله.

وتفاقم الأمر على عبد الله وذلك أن أهل قنسرين تراسلوا مع أهل حمص وتزمروا واجتمعوا على أبي محمد السفياني، وهو: أبو محمد بن عبد الله بن يزيد بن معاوية بن أبي سفيان، فبايعوه بالخلافة وقام معه نحو من أربعين ألفا، فقصدهم عبد الله بن علي فالتقوا بمرج الأخرم فاقتتلوا مع مقدمة السفياني وعليها أبو الورد فاقتتلوا قتالا شديدا، وهزموا عبد الله عبد الصمد، وقتل من الفريقين ألوف، فتقدم إليهم عبد الله بن علي ومعه حميد بن قحطبة فاقتتلوا قتالا شديدا جدا، وجعل أصحاب عبد الله يفرون وهو ثابت هو وحميد.

وما زال حتى هزم أصحاب أبي الورد، وثبت أبو الورد في خمسمائة فارس من أهل بيته وقومه، فقتلوا جميعا وهرب أبو محمد السفياني ومن معه حتى لحقوا بتدمر، وأمن عبد الله أهل قنسرين وسودوا وبايعوه ورجعوا إلى الطاعة، ثم كر عبد الله راجعا إلى دمشق وقد بلغه ما صنعوا، فلما دنا منها تفرقوا عنها ولم يكن منهم قتال، فأمنهم ودخلوا في الطاعة.

وأما أبو محمد السفياني فإنه مازال مضيعا ومشتتا حتى لحق بأرض الحجاز فقاتله نائب أبي جعفر المنصور في أيام المنصور، فقتله وبعث برأسه وبابنين له أخذهما أسيرين فأطلقما المنصور في أيامه.

وقد قيل: إن وقعة السفياني يوم الثلاثاء آخر يوم من ذي الحجة سنة ثنتين وثلاثين ومائة، فالله أعلم.

وممن خلع السفاح أيضا: أهل الجزيرة حين بلغهم أن أهل قنسرين خلعوا، فوافقهم وبيضوا وركبوا إلى نائب حران من جهة السفاح - وهو: موسى بن كعب - وكان في ثلاثة آلاف قد اعتصم بالبلد، فحاصروه قريبا من شهرين.

ثم بعث السفاح أخاه أبا جعفر المنصور فيمن كان بواسطة محاصري ابن هبيرة، فمر في مسيره إلى حران بقرقيسيا وقد بيضوا فغلقوا أبوابها دونه، ثم مر بالرقة وعليها بكار بن مسلم وهم كذلك، ثم بحاجر وعليها إسحاق بن مسلم فيمن معه من أهل الجزيرة يحاصرونها فرحل إسحاق عنها إلى الرها.

وخرج موسى بن كعب فيمن معه من جند حران فتلقاه المنصور ودخلوا في جيشه، وقدم بكار بن مسلم على أخيه إسحاق بن مسلم بالرها فوجهه إلى جماعة ربيعه بدارا وماردين، ورئيسهم حروري يقال له: بريكة، فصارا حزبا واحدا، فقصد إليهم أبو جعفر فقاتلهم قتالا شديدا، فقتل بريكة في المعركة، وهرب بكار إلى أخيه بالرها، فاستخلفه بها ومضى بمعظم العسكر حتى نزل سميساط وخندق على عسكره، وأقبل أبو جعفر فحاصر بكارا بالرها، وجرت له معه وقعات.

وكتب السفاح إلى عمه عبد الله بن علي أن يسير إلى سميساط، وقد اجتمع على إسحاق بن مسلم ستون ألفا من أهل الجزيرة، فسار إليهم عبد الله واجتمع إليه أبو جعفر المنصور، فكاتبهم إسحاق وطلب منهم الأمان فأجابوه إلى ذلك، على إذن أمير المؤمنين.

وولى السفاح أخاه أبا جعفر المنصور الجزيرة وأذربيجان وأرمينية، فلم يزل عليها حتى أفضت إليه الخلافة بعد أخيه، ويقال: إن إسحاق بن مسلم العقيلي إنما طلب الأمان لما تحقق أن مروان قد قتل، وذلك بعد مضي سبعة أشهر وهو محاصر، وقد كان صاحبا لأبي جعفر المنصور فآمنه.

وفي هذه السنة: ذهب أبو جعفر المنصور عن أمر أخيه السفاح إلى أبي مسلم الخراساني وهو أميرها، ليستطلع رأيه في قتل أبي سلمة، لأنه كان يريد أن يصرف الخلافة عنهم، فيسأله هل ذلك كان عن ممالأة أبي مسلم لأبي سلمة في ذلك أم لا ؟

فسكت القوم، فقال السفاح: لئن كان هذا عن رأيه إنا لَبعَرَ بلاء عظيم، إلا أن يدفعه الله عنا.

قال أبو جعفر: فقال لي أخي: ما ترى ؟

فقلت: الرأي رأيك.

فقال: إنه ليس أحد أخص بأبي مسلم منك، فاذهب إليه فاعلم لي علمه، فإن كان عن رأيه احتلنا له، وإن لم يكن عن رأيه طابت أنفسنا.

قال أبو جعفر: فخرجت إليه قاصدا على وجل.

قال المنصور: فلما وصلت إلى الري إذا كتاب أبي مسلم إلى نائبها يستحثني إليه في المسير، فازددت وجلا فلما انتهيت إلى نيسابور إذا كتابه يستحثني أيضا.

وقال لنائبها: لا تدعه يقر ساعة واحدة.

فإن أرضك بها خوارج، فانشرحت لذلك، فلما صرت من مرو على فرسخين، خرج يتلقاني ومعه الناس، فلما واجهني ترجل فقبل يدي، فأمرته فركب.

فلما دخلت مرو نزلت في داره، فمكث ثلاثا لا يسألني في أي شيء جئت، فلما كان اليوم الرابع سألني: ما أقدمك ؟

فأخبرته بالأمر.

فقال: أفعلها أبو سلمة ؟

أنا أكفيكموه.

فدعا مرَّار بن أنس الضبي فقال: اذهب إلى الكوفة فحيث لقيت أبا سلمة فاقتله، وانته في ذلك إلى رأي الإمام.

فقدم مرَّار الكوفة الهاشمية، وكان أبو سلمة يسمر عند السفاح، فلما خرج قتله مرِّار، وشاع أن الخوارج قتلوه، وغلقت البلد.

ثم صلى عليه يحيى بن محمد بن علي أخو أمير المؤمنين، ودفن بالهاشمية، وكان يقال له: وزير آل محمد.

ويقال لأبي مسلم: أمير آل محمد.

قال الشاعر:

إن الوزير وزير آل محمد * أودى فمن يشناك كان وزيرا

ويقال: إن أبا جعفر إنما سار إلى أبي مسلم بعد قتل أبي سلمة وكان معه ثلاثون رجلا على البريد، منهم: الحجاج بن أرطأة، وإسحاق بن الفضل الهاشمي، وجماعة من السادات.

ولما رجع أبو جعفر من خراسان قال لأخيه: لست بخليفة ما دام أبو مسلم حيا حتى تقتله.

لما رأى من طاعة العساكر له، فقال له السفاح: اكتمها. فسكت.

ثم إن السفاح بعث أخاه أبا جعفر إلى قتال بن هبيرة بواسط، فلما اجتاز بالحسن بن قحطبة أخذه معه، فلما أحيط بابن هبيرة كتب إلى محمد بن عبد الله بن الحسن ليبايع له بالخلافة فأبطأ عليه جوابه، فمال إلى مصالحة أبي جعفر، فاستأذن أبو جعفر أخاه السفاح في ذلك فأذن له في المصالحة، فكتب له أبو جعفر كتابا بالصلح، فمكث ابن هبيرة يشاور فيه العلماء أربعين يوما.

ثم خرج يزيد بن عمر بن هبيرة إلى أبي جعفر في ألف وثلاثمائة من البخارية، فلما دنا من سرادق أبي جعفر همَّ أن يدخل بفرسه فقال الحاجب سلام: انزل أبا خالد. فنزل.

وكان حول السرادق عشرة آلاف من أهل خراسان، ثم أذن له في الدخول فقال: أنا ومن معي ؟

قال: لا ! بل أنت وحدك.

فدخل ووضعت له وسادة فجلس عليها، فحادثه أبو جعفر ساعة ثم خرج من عنده فأتبعه أبو جعفر بصره، ثم جعل يأتيه يوما بعد يوم في خمسمائة فارس وثلاثمائة راجل، فشكوا ذلك إلى أبي جعفر فقال أبو جعفر للحاجب: مره فليأت في حاشيته.

فكان يأتي في ثلاثين نفسا، فقال الحاجب: كأنك تأتي متأهبا ؟

فقال: لو أمرتموني بالمشي لمشيت إليكم.

ثم كان يأتي في ثلاثة أنفس، وقد خاطب ابن هبيرة يوما لأبي جعفر فقال في غبون كلامه: يا هناه - أو قال: يا أيها المرء -.

ثم اعتذر إليه بأنه قد سبق لسانه إلى ذلك، فأعذره.

وقد كان السفاح كتب إلى أبي مسلم يستشيره في مصالحة ابن هبيرة فنهاه عن ذلك.

وكان السفاح لا يقطع أمرا دونه، فلما وقع الصلح على يدي أبي جعفر لم يحب السفاح ذلك ولم يعجبه، وكتب إلى أبي جعفر يأمر بقتله، فراجعه أبو جعفر مرارا لا يفيده ذلك شيئا، حتى جاء كتاب السفاح: أن أقتله لا محالة، لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، كيف يعطي الأمان وينكث؟ هذا فعل الجبابرة.

وأقسم عليه في ذلك.

فأرسل إليه أبو جعفر طائفة من الخراسانية فدخلوا عليه وعنده ابنه داود وفي حجره صبي صغير، وحوله مواليه وحاجبه، فدافع عنه ابنه حتى قتل، وقتل خلق من مواليه، وخلصوا إليه، فألقى الصبي من حجره وخرَّ ساجدا، فقتل وهو ساجد، واضطرب الناس، فنادى أبو جعفر في الناس بالأمان إلا عبد الملك بن بشر وخالد بن سلمة المخزومي، وعمر بن ذر.

فسكن الناس ثم استؤمن لبعض هؤلاء وقتل بعضا.

وفي هذه السنة: بعث أبو مسلم الخراساني محمد بن الأشعث إلى فارس، وأمره أن يأخذ عمال أبي سلمة الخلال فيضرب أعناقهم، ففعل ذلك.

وفيها: ولى السفاح أخاه يحيى بن محمد الموصل وأعمالها، وولى عمه داود مكة والمدينة واليمن واليمامة، وعزله عن الكوفة وولى مكانه عليها عيسى بن موسى، وولى قضاءها ابن أبي ليلى، وكان على نيابة البصرة سفيان بن معاوية المهلبي، وعلى قضائها الحجاج بن أرطأة، وعلى السند منصور بن جمهور، وعلى فارس محمد بن الأشعث.

وعلى أرمينية وأذربيجان والجزيرة أبو جعفر المنصور، وعلى الشام وأعمالها عبد الله بن علي عم السفاح، وعلى مصر أبو عون عبد الملك بن يزيد.

وعلى خراسان وأعمالها أبو مسلم الخراساني، وعلى ديوان الخراج خالد بن برمك.

وحج بالناس فيها داود بن علي.

ذكر من توفي فيها من الأعيان:

مروان بن محمد

ابن مروان بن الحكم، أبو عبد الملك، الأموي، آخر خلفاء بني أمية، فقتل في العشر الأخير من ذي الحجة من هذه السنة، كما تقدم ذلك مبسوطا، وزيره عبد الحميد بن يحيى بن سعد مولى بني عامر بن لؤي، الكاتب البليغ الذي يضرب به المثل، فيقال: فتحت الرسائل بعبد الحميد، وختمت بابن العميد.

وكان إماما في الكتابة وجميع فنونها، وهو القدوة فيها.

وله رسائل في ألف ورقة، وأصله من قيسارية ثم سكن الشام، وتعلم هذا الشأن من سالم مولى هشام بن عبد الملك، وكان يعقوب بن داود وزير المهدي يكتب بين يديه، وعليه تخرج، وكان ابنه إسماعيل بن عبد الحميد ماهرا في الكتابة أيضا، وقد كان أولا يعلم الصبيان ثم تقلبت به الأحوال إلى أن صار وزيرا لمروان، وقتله السفاح ومثَّل به، وكان اللائق بمثله العفو عنه.

ومن مستجاد كلامه: العلم شجرة ثمرتها الألفاظ، والفكر بحر لؤلؤه الحكمة.

ومن كلامه وقد رأى رجلا يكتب خطا رديئا فقال: أطل جلفة قلمك وأسمنها، وحرِّف قطتك وأيمنها.

قال الرجل: ففعلت ذلك فجاد خطي.

وسأله رجل أن يكتب له كتابا إلى بعض الأكابر يوصيه به، فكتب إليه: حقُّ موصل كتابي إليك كحقه علي إذ رآك موضعا لأمله، ورآني أهلا لحاجته، وقد قضيت أنا حاجته فصدِّق أنت أمله.

وكان كثيرا ما ينشد هذا البيت:

إذا خرج الكتاب كان دويهم * قسيا وأقلام القسي لها نبلا

وأبو سلمة حفص بن سليمان

هو أول من وزر لآل العباس، قتله أبو مسلم بالأنبار عن أمر السفاح بعد ولايته بأربعة أشهر، في شهر رجب.

وكان ذا هيئة فاضلا حسن المفاكهة، وكان السفاح يأنس به ويحب مسامرته لطيب محاضرته، ولكن توهم ميله لآل علي فدس أبو مسلم عليه من قتله غيلة كما تقدم، فأنشد السفاح عند قتله:

إلى النار فليذهب ومن كان مثله * على أي شيء فاتنا منه نأسف

كان يقال له: وزير آل محمد، ويعرف بالخلال، لسنكاه بدرب الخلالين بالكوفة، وهو أول من سمي بالوزير.

وقد حكى ابن خلكان، عن ابن قتيبة: أن اشتقاق الوزير من الوزر وهو: الحمل، فكأن السلطان حمله أثقالا لاستناده إلى رأيه، كما يلجأ الخائف إلى جبل يعتصم به.

ثم دخلت سنة ثلاث وثلاثين ومائة

فيها: ولى السفاح عمه سليمان البصرة وأعمالها، وكور دجلة والبحرين وعمان.

ووجه عمه إسماعيل بن علي إلى كور الأهواز.

وفيها: قتل داود بن علي من بمكة والمدينة من بني أمية.

وفيها توفي: داود بن علي بالمدينة في شهر ربيع الأول، واستخلف ابنه موسى على عمله، وكانت ولايته على الحجاز ثلاثة أشهر، فلما بلغ السفاح موته استناب على الحجاز خاله محمد بن يزيد بن عبيد الله بن عبد الدار الحارثي، وولى اليمن لابن خاله محمد بن يزيد بن عبيد الله بن عبد الدار، وجعل إمرة الشام لعميه: عبد الله وصالح بن علي، وأقر أبا عون على الديار المصرية نائبا.

وفيها: توجه محمد بن الأشعث إلى إفريقية فقاتلهم قتالا شديدا حتى فتحها.

وفيها: خرج شريك بن شيخ المهري ببخارى على أبي مسلم وقال: ما على هذا بايعنا آل محمد، على سفك الدماء وقتل الأنفس ؟

واتبعه على ذلك نحو من ثلاثين ألفا، فبعث إليه أبو مسلم زياد بن صالح الخزاعي فقاتله فقتله.

وفيها: عزل السفاح أخاه يحيى بن محمد عن الموصل، وولى عليه عمه إسماعيل.

وفيها: ولى الصائفة من جهته صالحُ بن علي سعيدَ بن عبيد الله، وغزا ما وراء الدروب.

وحج بالناس خال السفاح زياد بن عبيد الله بن عبد الدار الحارثي.

ونواب البلاد هم الذين كانوا في التي قبلها سوى من ذكرنا أنه عزل.

ثم دخلت سنة أربع وثلاثين ومائة

فيها: خلع بسام بن إبراهيم بن بسام الطاعة وخرج على السفاح، فبعث إليه خازم بن خزيمة فقاتله فقتل عامة أصحابه، واستباح عسكره.

ورجع فمر بملأ من بني عبد الدار أخوال السفاح فسألهم عن بعض ما فيه نصرة للخليفة، فلم يردوا عليه، واستهانوا به، وأمر بضرب أعناقهم - وكانوا قريبا من عشرين رجلا ومثلهم من مواليهم - فاستعدى بنو عبد الدار على خازم بن خزيمة إلى السفاح، وقالوا: قتل هؤلاء بلا ذنب.

فهمَّ السفاح بقتله، فأشار عليه بعض الأمراء بأن لا يقتله ولكن ليبعثه مبعثا صعبا، فإن سلم فذاك، وإن قتل كان الذي أراد.

فبعثه إلى عمان وكان بها طائفة من الخوارج قد تمردوا وجهز معه سبعمائة رجل، وكتب إلى عمه سليمان بالبصرة أن يحملهم في السفن إلى عمان ففعل، فقاتل الخوارج فكسرهم وقهرهم واستحوذ على ما هنالك من البلاد، وقتل أمير الخوارج الصفرية وهو: الجُلُندي، وقتل من أصحابه وأنصاره نحوا من عشرة آلاف، وبعث برؤوسهم إلى البصرة، فبعث بها نائب البصرة إلى الخليفة.

ثم بعد أشهر كتب إليه السفاح أن يرجع فرجع سالما غانما منصورا.

وفيها: غزا أبو مسلم بلاد الصغد، وغزا أبو داود أحد نواب أبي مسلم بلاد كش، فقتل خلقا كثيرا، وغنم من الأواني الصينية المنقوشة بالذهب شيئا كثيرا جدا.

وفيها: بعث السفاح موسى بن كعب إلى منصور بن جمهور وهو بالهند في اثني عشر ألفا، فالتقاه موسى بن كعب وهو في ثلاثة آلاف فهزمه واستباح عسكره.

وفيها: مات عامل اليمن محمد بن يزيد بن عبد الله بن عبد الدار، فاستخلف السفاح عليها عمه وهو خال الخليفة.

وفيها: تحول السفاح من الحيرة إلى الأنبار.

وحج بالناس نائب الكوفة عيسى بن موسى، ونواب الأقاليم هم هم.

وفيها توفي من الأعيان: أبو هارون العبدي، وعمارة بن جوين، ويزيد بن جابر الدمشقي، والله أعلم.

ثم دخلت سنة خمس وثلاثين ومائة

فيها: خرج زياد بن صالح من وراء نهر بلخ على أبي مسلم فأظفره الله بهم فبدد شملهم واستقر أمره بتلك النواحي.

وحج بالناس فيها سليمان بن علي نائب البصرة، والنواب هم المذكورون قبلها.

وممن توفي فيها من الأعيان: يزيد بن سنان، وأبو عقيل زهرة بن معبد، وعطاء الخراساني.

ثم دخلت سنة ست وثلاثين ومائة

فيها: قدم أبو مسلم من خراسان على السفاح، وذلك بعد استئذانه الخليفة في القدوم عليه، فكتب إليه أن يقدم في خمسمائة من الجند، فكتب إليه: إني قد وترت الناس، وإني أخشى من قلة الخمسمائة.

فكتب إليه أن يقدم في ألف فقدم في ثمانية آلاف، فرقهم وأخذ معه من الأموال والتحف والهدايا شيئا كثيرا.

ولما قدم لم يكن معه سوى ألف من الجند، فلقاه القواد والأمراء إلى مسافة بعيدة.

ولما دخل على السفاح أكرمه وعظمه واحترمه وأنزله قريبا منه، وكان يأتي إلى الخلافة كل يوم، واستأذن الخليفة في الحج فأذن له، وقال: لولا أني عينت الحج لأخي أبي جعفر لأمرتك على الحج.

وكان الذي بين أبي جعفر وأبي مسلم خرابا وكان يبغضه، وذلك لما رأى ما هو فيه من الحرمة حين قدم عليه نيسابور في البيعة للسفاح وللمنصور بعده، فحار في أمره لذلك، فحقد عليه المنصور وأشار على السفاح بقتله، فأمر بكتم ذلك.

وحين قدم أمره بقتله أيضا وحرضه على ذلك، فقال له السفاح: قد علمت بلاءه معنا وخدمته لنا.

فقال أبو جعفر: يا أمير المؤمنين ! إنما ذلك بدولتنا، والله لو أرسلت سنورا لسمعوا لها وأطاعوا، وإنك إن لم تتعش به تغدى بك هو.

فقال له: كيف السبيل إلى ذلك ؟

فقال: إذا دخل عليك فحادثه ثم أجيء أنا من ورائه فأضربه بالسيف.

قال: كيف بمن معه ؟

قال: هم أذل وأقل.

فأذن له في قتله، فلما دخل أبو مسلم على السفاح ندم على ما كان أذن لأخيه فيه، فبعث إليه الخادم يقول له: إن ذاك الذي بينك وبينه ندم عليه فلا تفعله.

فلما جاءه الخادم وجده محتبيا بالسيف قد تهيأ لما يريد من قتل أبي مسلم، فلما نهاه عن ذلك غضب أبو جعفر غضبا شديدا.

وفيها: حج بالناس أبو جعفر المنصور عن ولاية أخيه السفاح، وسار معه إلى الحجاز أبو مسلم الخراساني عن أمر الخليفة، وأذن له في الحج، فلما رجعا من الحج وكانا بذات عرق جاء الخبر إلى أبي جعفر - وكان يسير قبل أبي مسلم بمرحلة - بموت أخيه السفاح، فكتب إلى أبي مسلم أن قد حدث أمر فالعجل العجل، فلما استعلم أبو مسلم الخبر عجل السير وراءه، فلحقه إلى الكوفة.

وكانت بيعة المنصور على ما سيأتي بيانه وتفصيله قريبا، والله سبحانه وتعالى أعلم.

ترجمة أبي العباس السفاح أول خلفاء بني العباس

هو: عبد الله السفاح - ويقال له: المرتضى، والقاسم أيضا - ابن محمد بن الإمام بن علي السجاد بن عبد الله الحبر بن العباس بن عبد المطلب، القرشي الهاشمي، أمير المؤمنين، وأمه: ريطة - ويقال: رايطة - بنت عبيد الله بن عبد الله بن عبد الدار الحارثي.

كان مولد السفاح بالحميمة من أرض الشراة من البلقاء بالشام، ونشأ بها حتى أخذ مروان أخاه إبراهيم الإمام فانتقلوا إلى الكوفة.

بويع بالخلافة بعد مقتل أخيه في حياة مروان يوم الجمعة الثاني عشر من ربيع الأول بالكوفة كما تقدم.

وتوفي بالجدري بالأنبار يوم الأحد الحادي عشر، وقيل: الثالث عشر من ذي الحجة، سنة ست وثلاثين ومائة.

وكان عمره ثلاثا، وقيل: ثنتين، وقيل: إحدى وثلاثين سنة، وقيل: ثمان وعشرين سنة. قاله غير واحد.

وكانت خلافته أربع سنين وتسعة أشهر، وكان أبيض جميلا طويلا، أقنى الأنف، جعد الشعر، حسن اللحية، حسن الوجه، فصيح الكلام، حسن الرأي، جيد البديهة.

دخل عليه في أول ولايته عبد الله بن حسن بن حسن بن علي ومعه مصحف وعند السفاح وجوه بني هاشم من أهل بيته وغيرهم، فقال له: يا أمير المؤمنين ! أعطنا حقنا الذي جعله الله لنا في هذا المصحف.

قال: فأشفق عليه الحاضرون أن يعجل السفاح عليه بشيء أو يترك جوابه فيبقى ذلك مسبة عليه وعليهم.

فأقبل السفاح عليه غير مغضب ولا منزعج، فقال: إن جدك عليا، كان خيرا مني وأعدل، وقد ولي هذا الأمر فأعطى جديك الحسن والحسين وكانا خيرا منك، شيئا قد أعطيتكه وزدتك عليه، فما كان هذا جزائي منك.

قال: فما رد عليه عبد الله بن حسن جوابا، وتعجب الناس من سرعة جوابه وجدته وجودته على البديهة.

وقد وقال الإمام أحمد في مسنده: حدثنا عثمان بن أبي شيبة، ثنا الأعمش، عن عطية العوفي، عن أبي سعيد الخدري، قال: قال رسول الله : «يخرج عند انقطاع من الزمان وظهور من الفتن رجل يقال له: السفاح، يكون إعطاؤه المال حثيا».

وكذا رواه زائدة وأبو معاوية، عن الأعمش، به.

وهذا الحديث في إسناده عطية العوفي وقد تكلموا فيه.

وفي أن المراد بهذا الحديث هذا السفاح نظر، والله أعلم.

وقد ذكرنا فيما تقدم عند زوال دولة بني أمية أخبارا وآثارا في مثل هذا المعنى.

وقال الزبير بن بكار: حدثني محمد بن سلمة بن محمد بن هشام، أخبرني محمد بن عبد الرحمن المخزومي، حدثني داود بن عيسى، عن أبيه، عن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس - وهو: والد السفاح - قال: دخلت على عمر بن عبد العزيز وعنده رجل من النصارى فقال له عمر: من تجدون الخليفة بعد سليمان ؟

قال له: أنت !

فأقبل عمر بن عبد العزيز عليه فقال له: زدني من بيانك.

فقال: ثم آخر، إلى أن ذكر خلافة بني أمية إلى آخرها.

قال محمد بن علي: فلما كان بعد ذلك جعلت ذلك النصراني في بالي فرأيته يوما فأمرت غلامي أن يحبسه عليَّ، وذهبت إلى منزلي فسألته عما يكون في خلفاء بني أمية فذكرهم واحدا واحدا، وتجاوز عن مروان بن محمد.

قلت: ثم من ؟

قال: ثم ابن الحارثية، وهو ابنك.

قال: وكان ابني ابن الحارثية إذ ذاك حملا.

قال: ووفد أهل المدينة على السفاح فبادروا إلى تقبيل يده غير عمران بن إبراهيم بن عبد الله بن مطيع العدوي، فإنه لم يقبل يده، إنما حياه بالخلافة فقط.

وقال: والله يا أمير المؤمنين ! لو كان تقبيلها يزيدك رفعة ويزيدني وسيلة إليك ما سبقني إليها أحد من هؤلاء، وإني لغني عما لا أجر فيه، وربما قادنا عمله إلى الوزر، ثم جلس.

قال: فوالله ما نقصه ذلك عنده حظا من حظ أصحابه، بل أحبه وزاده.

وذكر القاضي المعافى بن زكريا: أن السفاح بعث رجلا ينادي في عسكر مروان بهذين البيتين ليلا ثم رجع:

يا آل مروان إن الله مهلككم * ومبدل أمنكم خوفا وتشريدا

لا عمَّر الله من أنسالكم أحدا * وبثكم في بلاد الخوف تطريدا

وروى الخطيب البغدادي أن السفاح نظر يوما في المرآة - وكان من أجمل الناس وجها - فقال: اللهم لا أقول كما قال سليمان بن عبد الملك: أنا الخليفة الشاب، ولكن أقول: اللهم عمرني طويلا في طاعتك ممتعا بالعافية.

فما استتم كلامه حتى سمع غلاما يقول لآخر: الأجل بيني وبينك شهران وخمسة أيام.

فتطير من كلامه وقال: حسبي الله لا قوة إلا بالله عليه توكلت وبه أستعين. فمات بعد شهرين وخمسة أيام.

وذكر محمد بن عبد الله بن مالك الخزاعي: أن الرشيد أمر ابنه أن يسمع من إسحاق بن عيسى بن علي ما يرويه عن أبيه في قصة السفاح، فأخبره عن أبيه عيسى، أنه دخل على السفاح يوم عرفة بكرة فوجده صائما، فأمره أن يحادثه في يومه هذا ثم يختم ذلك بفطره عنده.

قال: فحادثته حتى أخذه النوم فقمت عنه وقلت: أقيل في منزلي ثم أجيء بعد ذلك.

فذهبت فنمت قليلا ثم قمت فأقبلت إلى داره فإذا على بابه بشير يبشر بفتح السند وبيعتهم للخليفة وتسليم الأمور إلى نوابه.

قال: فحمدت الله الذي وفقني في الدخول عليه بهذه البشارة، فدخلت الدار فإذا بشير أخر معه بشارة بفتح إفريقية، فحمدت الله فدخلت عليه فبشرته بذلك وهو يسرح لحيته بعد الوضوء، فسقط المشط من يده ثم قال: سبحان الله، كل شيء بائد سواه، نعيت والله إليَّ نفسي، حدثني إبراهيم الإمام، عن أبي هشام، عن عبد الله بن محمد بن علي بن أبي طالب، عن رسول الله أنه قال: «يقدم عليَّ في مدينتي هذه وافدان: وافد السند والآخر وافد إفريقية بسمعهم وطاعتهم وبيعتهم، فلا يمضي بعد ذلك ثلاثة أيام حتى أموت».

قال: وقد أتاني الوافدان فأعظم الله أجرك يا عم في ابن أخيك.

فقلت: كلا يا أمير المؤمنين ! إن شاء الله.

قال: بلى ! إن شاء الله، لئن كانت الدنيا حبيبة إليَّ فالآخرة أحب إلي، ولقاء ربي خير لي، وصحة الرواية عن رسول الله بذلك أحب إلي منها، والله ما كَذبت ولا كُذبت.

ثم نهض فدخل منزله وأمرني بالجلوس، فلما جاء المؤذن يعلمه بوقت الظهر خرج الخادم يعلمني أن أصلي عنه، وكذلك العصر والمغرب والعشاء، وبت هناك، فلما كان وقت السحر أتاني الخادم بكتاب معه يأمرني أن أصلي عنه الصبح والعيد ثم أرجع إلى داره، وفيه يقول: يا عم ! إذا مت فلا تعلم الناس بموتي حتى تقرأ عليهم هذا الكتاب فيبايعوا لمن فيه.

قال: فصليت بالناس ثم رجعت إليه فإذا ليس به بأس، ثم دخلت عليه من آخر النهار فإذا هو على حاله غير أنه قد خرجت في وجهه حبتان صغيرتان، ثم كبرتا، ثم صار في وجهه حب صغار بيض، يقال: إنه جدري، ثم بكرت إليه في اليوم الثاني فإذا هو قد هجر وذهبت عنه معرفتي ومعرفة غيري، ثم رجعت إليه بالعشي فإذا هو انتفخ حتى صار مثل الزق، وتوفي اليوم الثالث من أيام التشريق، فسجيته كما أمرني، وخرجت إلى الناس فقرأت عليهم كتابه فإذا فيه: من عبد الله أمير المؤمنين إلى الأولياء وجماعة المسلمين، سلام عليكم أما بعد فقد قلد أمير المؤمنين الخلافة عليكم بعد وفاته أخاه فاسمعوا وأطيعوا، وقد قلدها من بعده عيسى بن موسى إن كان.

قال: فاختلف الناس في قوله: إن كان، قيل: إن كان أهلا لها، وقال آخرون: إن كان حيا.

وهذا القول الثاني هو الصواب، ذكره الخطيب وابن عساكر مطولا. وهذا ملخص منه. وفيه ذكر الحديث المرفوع وهو منكر جدا.

وذكر ابن عساكر أن الطبيب دخل عليه فأخذ بيده فأنشأ يقول عند ذلك:

انظر إلى ضعف الحرا * ك وذله بعد السكون

ينبيك أن بيانه * هذا مقدمة المنون

فقال الطبيب: أنت صالح.

فأنشأ يقول:

يبشرني بأني ذو صلاح * يبين له وبي داء دفين

ولقد أيقنت إني غير باق * ولا شك إذا وضح اليقين

قال أهل العلم: كان آخر ما تكلم به السفاح:

الملك لله الحي القيوم، ملك الملوك، وجبار الجبابرة.

وكان نقش خاتمه: الله ثقة عبد الله.

وكان موته بالجدري في يوم الأحد الثالث عشر من ذي الحجة سنة ست وثلاثين ومائة بالأنبار العتيقة، عن ثلاث وثلاثين سنة.

وكانت خلافته أربع سنين وتسعة أشهر على أشهر الأقوال.

وصلى عليه عمه عيسى بن علي، ودفن في قصر الإمارة من الأنبار.

وترك: تسع جبات، وأربعة أقمصة، وخمس سراويلات، وأربعة طيالسة، وثلاث مطارف خز.

وقد ترجمه ابن عساكر فذكر بعض ما أوردناه، والله أعلم.

وممن توفي فيها من الأعيان: السفاح كما تقدم، وأشعث بن سوار، وجعفر بن أبي ربيعة، وحصين بن عبد الرحمن، وربيعة الراعي، وزيد بن أسلم، وعبد الملك بن عمير، وعبد الله بن أبي جعفر، وعطاء بن السائب، وقد ذكرنا تراجمهم في التكميل ولله الحمد.

خلافة أبي جعفر المنصور

واسمه: عبد الله بن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس.

قد تقدم أنه لما مات السفاح كان في الحجاز، فبلغه موته وهو بذات عرق راجعا من الحج، وكان معه أبو مسلم الخراساني، فعجل السير وعزاه أبو مسلم في أخيه، فبكى المنصور عند ذلك.

فقال له: أتبكي وقد جاءتك الخلافة؟ أنا أكفيكها إن شاء الله.

فسري عنه، وأمر زياد بن عبيد الله أن يرجع إلى مكة واليا عليها، وكان السفاح قد عزله عنها بالعباس بن عبد الله بن معبد بن عباس فأقره عليها.

والنواب على أعمالهم حتى انسلخت هذه السنة، وقد كان عبد الله بن علي قدم على ابن أخيه السفاح الأنبار فأمره على الصائفة، فركب في جيوش عظيمة إلى بلاد الروم، فلما كان ببعض الطريق بلغه موت السفاح فكر راجعا إلى حران، ودعا إلى نفسه، وزعم أن السفاح كان عهد إليه حين بعثه إلى الشام أن يكون ولي العهد من بعده، فالتفت عليه جيوش عظيمة، وكان من أمره ما سنذكره في السنة الآتية إن شاء الله تعالى.

ثم دخلت سنة سبع وثلاثين ومائة

ذكر خروج عبد الله بن علي على ابن أخيه المنصور

لما رجع أبو جعفر المنصور من الحج بعد موت أخيه السفاح، دخل الكوفة فخطب بأهلها يوم الجمعة وصلى بهم.

ثم ارتحل منها إلى الأنبار، وقد أخذت له البيعة من أهل العراق وخراسان، وسائر البلاد سوى الشام، وقد ضبط عيسى بن علي بيوت الأموال والحواصل للمنصور حتى قدم، فسلم إليه الأمر، وكتب إلى عمه عبد الله بن علي يعلمه بوفاة السفاح، فلما بلغه الخبر نادى في الناس الصلاة جامعة، فاجتمع إليه الأمراء والناس، فقرأ عليهم وفاة السفاح، ثم قام فيهم خطيبا، فذكر أن السفاح كان عهد إليه حين بعثه إلى مروان أنه إن كسره كان الأمر إليه من بعده، وشهد له بذلك بعض أمراء العراق، ونهضوا إليه فبايعوه، ورجع إلى حران فتسلمها من نائب المنصور بعد محاصرة أربعين ليلة، وقتل مقاتل العكي نائبها.

فلما بلغ المنصور ما كان من أمر عمه بعث إليه أبا مسلم الخراساني ومعه جماعة من الأمراء، وقد تحصن عبد الله بن علي بحران، وأرصد عنده مما يحتاج إليه من الأطعمة والسلاح شيئا كثيرا جدا، فسار إليه أبو مسلم الخراساني وعلى مقدمته مالك بن هيثم الخزاعي، فلما تحقق عبد الله قدوم أبي مسلم إليه خشي من جيش العراق أن لا يناصحوه، فقتل منهم سبعة عشر ألفا، وأراد قتل حميد بن قحطبة فهرب منه إلى أبي مسلم، فركب عبد الله بن علي فنزل نصيبين وخندق حول عسكره، وأقبل أبو مسلم فنزل ناحية، وكتب إلى عبد الله: إني لم أومر بقتالك، وإنما بعثني أمير المؤمنين واليا على الشام فأنا أريدها.

فخاف جنود الشام من هذا الكلام فقالوا: إنا نخاف على ذرارينا وديارنا وأموالنا، فنحن نذهب إليها نمنعهم منه.

فقال عبد الله: ويحكم ! والله إنه لم يأت إلا لقتالنا.

فأبوا إلا أن يرتحلوا نحو الشام، فتحول عبد الله من منزله ذلك وقصد ناحية الشام، فنهض أبو مسلم فنزل موضعه وغوَّر ما حوله عن المياه - وكان موضع عبد الله الذي تحول منه موضعا جيدا جدا - فاحتاج عبد الله وأصحابه فنزلوا في موضع أبي مسلم فوجدوه منزلا رديئا، ثم أنشأ أبو مسلم القتال فحاربهم خمسة أشهر.

وكان على خيل عبد الله أخوه عبد الصمد بن علي، وعلى ميمنته بكار بن مسلم العقيلي، وعلى ميسرته حبيب بن سويد الأسدي، وعلى ميمنته أبي مسلم الحسن بن قحطبة، وعلى ميسرته أبو نصر خازم بن خزيم، وقد جرت بينهم وقعات، وقتل منهم جماعات في أيام نحسات، وكان أبو مسلم إذا حمل يرتجز ويقول:

من كان ينوي أهله فلا رجع * فرَّ من الموت وفي الموت وقع

وكان يعمل له عرش فيكون فيه إذا التقى الجيشان فما رأى في جيشه من خلل أرسل فأصلحه.

فلما كان يوم الثلاثاء أو الأربعاء لسبع خلون من جمادى الآخرة: التقوا فاقتتلوا قتالا شديدا، فمكر بهم أبو مسلم ! بعث إلى الحسن بن قحطبة أمير الميمنة فأمره أن يتحول بمن معه إلا القليل إلى الميسرة، فلما رأى ذلك أهل الشام انحازوا إلى الميمنة بإزاء الميسرة التي تعمرت، فأرسل حينئذ أبو مسلم إلى القلب أن يحمل بمن بقي في الميمنة على ميسرة أهل الشام فحطموهم، فجال أهل القلب والميمنة من الشاميين فحمل الخراسانيون على أهل الشام وكانت الهزيمة.

وانهزم عبد الله بن علي بعد تلوم، واحتاز أبو مسلم ما كان في معسكرهم، وأمن أبو مسلم بقية الناس فلم يقتل منهم أحدا، وكتب إلى المنصور بذلك، فأرسل المنصور مولاه أبا الخصيب ليحصي ما وجدوا في معسكر عبد الله، فغضب من ذلك أبو مسلم الخراساني.

واستوثقت الممالك لأبي جعفر المنصور، ومضى عبد الله بن علي وأخوه عبد الصمد على وجهيهما، فلما مرَّا بالرصافة أقام بها عبد الصمد، فلما رجع أبو الخصيب وجده بها فأخذه معه مقيدا في الحديد فأدخله على المنصور فدفعه إلى عيسى بن موسى فاستأمن له المنصور.

وقيل: بل استأمن له إسماعيل بن علي.

وأما عبد الله بن علي فإنه ذهب إلى أخيه سليمان بن علي بالبصرة، فأقام عنده زمانا مختفيا، ثم علم به المنصور فبعث إليه فسجنه في بيت بني أسامة على الملح ثم أطلق عليه الماء فذاب الملح وسقط البيت على عبد الله فمات.

وهذه من بعض دواهي المنصور، والله سبحانه أعلم.

فلبث في السجن سبع سنين ثم سقط عليه في البيت الذي هو فيه فمات، كما سيأتي بيانه في موضعه، إن شاء الله تعالى.

مهلك أبي مسلم الخراساني

في هذه السنة أيضا: لما فرغ أبو مسلم من الحج سبق الناس بمرحلة فجاءه خبر السفاح في الطريق، فكتب إلى أبي جعفر يعزيه في أخيه ولم يهنئه بالخلافة، ولا رجع إليه.

فغضب المنصور من ذلك مع ما كان قد أضمر له من السوء إذا أفضت إليه الخلافة، وقيل: إن المنصور هو الذي كان قد تقدم بين يدي الحج بمرحلة وأنه لما جاء خبر موت أخيه كتب إلى أبي مسلم يستعجله في السير كما قدمنا.

فقال لأبي أيوب: اكتب له كتابا غليظا.

فلما بلغه الكتاب أرسل يهنئه بالخلافة وانقمع من ذلك.

وقال بعض الأمراء للمنصور: إنا نرى أن لا تجامعه في الطريق فإن معه من الجنود من لا يخالفه، وهم له أهيب وعلى طاعته أحرص، وليس معك أحد.

فأخذ المنصور برأيه ثم كان من أمره في مبايعته لأبي جعفر ما ذكرنا، ثم بعثه إلى عمه عبد الله فكسره كما تقدم، وقد بعث في غبون ذلك الحسن بن قحطبة لأبي أيوب كاتب رسائل المنصور يشافهه ويخبره بأن أبا مسلم متهم عند أبي جعفر، فإنه إذا جاءه كتاب منه يقرأه ثم يلوي شدقيه ويرمي بالكتاب إلى أبي نصر ويضحكان استهزاء !

فقال أيوب: إن تهمة أبي مسلم عندنا أظهر من هذا.

ولما بعث أبو جعفر مولاه أبا الخصيب يقطين ليحتاط على ما أصيب من معسكر عبد الله من الأموال والجواهر الثمينة وغيرها، غضب أبو مسلم فشتم أبا جعفر وهمَّ بأبي الخصيب، حتى قيل له: إنه رسول. فتركه ورجع.

فلما قدم أخبر المنصور بما كان وبما همَّ به أبو مسلم من قتله، فغضب المنصور وخشي أن يذهب أبو مسلم إلى خراسان فيشق عليه تحصيله بعد ذلك، وأن تحدث حوادث، فكتب إليه مع يقطين: إني قد وليتك الشام ومصر وهما خير من خراسان، فابعث إلى مصر من شئت، وأقم أنت بالشام لتكون أقرب إلى أمير المؤمنين، إذا أراد لقاءك كنت منه قريبا.

فغضب أبو مسلم وقال: قد ولاني الشام ومصر، ولي ولاية خراسان، فإذا أذهب إليها وأستخلف على الشام ومصر.

فكتب إلى المنصور بذلك فقلق المنصور من ذلك كثيرا.

ورجع أبو مسلم من الشام قاصدا خراسان وهو عازم على مخالفة المنصور.

فخرج المنصور من الأنبار إلى المدائن وكتب إلى أبي مسلم بالمسير إليه، فكتب إليه أبو مسلم وهو على الزاب عازم على الدخول إلى خراسان: إنه لم يبق لأمير المؤمنين عدو إلا أمكنه الله منه، وقد كنا نروي عن ملوك آل ساسان أن أخوف ما يكون الوزراء إذا سكنت الدهماء.

فنحن نافرون من قربك، حريصون على الوفاء بعهدك ما وفيت، حريون بالسمع والطاعة غير أنها من بعيد حيث يقارنها السلامة.

فإن أرضاك ذلك فأنا كأحسن عبيدك، وإن أبيت إلا أن تعطي نفسك إرادتها نقصت ما أبرمت من عهدك ضنا بنفسي عن مقامات الذل والإهانة.

فلما وصل الكتاب إلى المنصور وكتب إلى أبي مسلم: قد فهمت كتابك، وليست صفتك صفة أولئك الوزراء الغششة إلى ملوكهم الذين يتمنون اضطراب حبل الدولة لكثرة جرائمهم، وإنما راحتهم في تبدد نظام الجماعة، فلم سويت نفسك بهم وأنت في طاعتك ومناصحتك واضطلاعك بما حملت من أعباء هذا الأمر على ما أنت به، وليس مع الشريطة التي أوجبت منك سمع ولا طاعة، وقد حمَّل أمير المؤمنين عيسى بن موسى إليك رسالة ليسكن إليها قلبك إن أصغيت إليها، وأسأله أن يحول بين الشيطان ونزعاته وبينك، فإنه لم يجد بابا يفسد به نيتك أوكد عنده من هذا ولا أقرب من طبه من الباب الذي فتحه عليك.

ويقال: إن أبا مسلم كتب إلى المنصور: أما بعد فإني اتخذت رجلا إماما ودليلا على ما افترض الله على خلقه، وكان في محلة العلم نازلا وفي قرابته من رسول الله قريبا، فاستجهلني بالقرآن فحرفه عن مواضعه طمعا في قليل قد تعافاه الله إلى خلقه، وكان كالذي دلى بغرور، وأمرني أن أجرد السيف وأرفع المرحمة ولا أقبل المعذرة ولا أقيل العثرة، ففعلت توطيدا لسلطانكم حتى عرّفكم الله من كان يجهلكم، وأطاعكم من كان عدوكم، وأظهركم الله بي بعد الإخفاء والحقارة والذل، ثم استنقذني الله بالتوبة.

فإن يعف عني فقديما عرف به ونسب إليه، وإن يعاقبني فيما قدمت يداي، وما الله بظلام للعبيد. وذكره المدائني عن شيوخه.

وبعث المنصور إليه جرير بن يزيد بن عبد الله البجلي - وقد كان أوحد أهل زمانه - في جماعة من الأمراء، وأمره أن يكلم أبا مسلم باللين كلاما يقدر عليه، وأن يكون في جملة ما يكلمه به: أنه يريد رفع قدرك وعلو منزلتك والإطلاقات لك.

فإن جاء بهذا فذاك، وإن أبى فقل: هو بريء من العباس إن شققت العصا على وجهك ليدركنك بنفسه وليقاتلنك دون غيره، ولو خضت البحر الخضم لخاضه خلفك حتى يدركك فيقتلك أو يموت قبل ذلك. ولا تقل له هذا حتى تيأس من رجوعه بالتي هي أحسن.

فلما قدم عليه أمراء المنصور بحلوان دخلوا عليه ولاموه فيما همَّ به من منابذة أمير المؤمنين، وما هو فيه من مخالفته، ورغَّبوه في الرجوع إلى الطاعة، فشاور ذوي الرأي من أمرائه فكلهم نهاه عن الرجوع إليه، وأشاروا بأن يقيم في الري فتكون خراسان تحت حكمه، وجنوده طوعا له، فإن استقام له الخليفة وإلا كان في عز ومنعة من الجند.

فعند ذلك أرسل أبو مسلم إلى أمراء المنصور فقال لهم: ارجعوا إلى صاحبكم فلست ألقاه.

فلما استيأسوا منه قالوا ذلك الكلام الذي كان المنصور أمرهم به.

فلما سمع ذلك كسره جدا وقال: قوموا عني الساعة.

وكان أبو مسلم قد استخلف على خراسان أبا داود إبراهيم بن خالد، فكتب إليه المنصور في غيبة أبي مسلم حين أتهم: إن ولاية خراسان لك ما بقيت، فقد وليتكها وعزلت عنها أبا مسلم.

فعند ذلك كتب أبو داود إلى أبي مسلم حين بلغه ما عليه من منابذة الخليفة: إنه ليس يليق بنا منابذة خلفاء أهل بيت رسول الله ، فارجع إلى إمامك سامعا مطيعا والسلام.

فزاده ذلك كسرا أيضا فبعث إليهم أبو مسلم: إني سأبعث إليه أبا إسحاق وهو ممن أثق به.

فبعث أبا إسحاق إلى المنصور فأكرمه ووعده بنيابة العراق إن هو رده.

فلما رجع إليه أبو إسحاق قال له: ما وراءك ؟

قال: رأيتهم معظمين لك يعرفون قدرك.

فغره ذلك وعزم على الذهاب إلى الخليفة، فاستشار أميرا يقال له: نيزك، فنهاه، فصمم على الذهاب، فلما رآه نيزك عازما على الذهاب تمثل بقول الشاعر:

ما للرجال مع القضاء محالة * ذهب القضاء بحيلة الأقوام

ثم قال له: احفظ عني واحدة.

قال: وما هي ؟

قال: إذا دخلت عليه فاقتله ثم بايع من شئت بالخلافة فإن الناس لا يخالفونك.

وكتب أبو مسلم يعلمه بقدومه عليه.

قال أبو أيوب كاتب الرسائل: فدخلت على المنصور وهو جالس في خباء شعر جالس في مصلاه بعد العصر، وبين يديه كتاب فألقاه إلي فإذا هو كتاب أبي مسلم يعلمه بالقدوم عليه، ثم قال الخليفة: والله لئن ملأت عيني منه لأقتلنه.

قال أبو أيوب: فقلت: إنا لله وإنا إليه راجعون.

وبت تلك الليلة لا يأتني نوم، وأفكر في هذه الواقعة، وقلت: إن دخل أبو مسلم خائفا ربما يبدو منه شر إلى الخليفة، والمصلحة تقتضي أن يدخل آمنا ليتمكن منه الخليفة.

فلما أصبحت طلبت رجلا من الأمراء وقلت له: هل لك أن تتولى مدينة كسكر فإنها مغلة في هذه السنة ؟

فقال: ومن لي بذلك ؟

فقلت له: فاذهب إلى أبي مسلم فتلقاه في الطريق فاطلب منه أن يوليك تلك البلد، فإن أمير المؤمنين يريد أن يوليه ما وراء بابه ويستريح لنفسه.

واستأذنت المنصور له أن يذهب إلى أبي مسلم فأذن له، وقال له: سلم عليه وقل له: إنا بالأشواق إليه.

فسار ذلك الرجل - وهو: سلمة بن فلان - إلى أبي مسلم فأخبره باشتياق الخليفة إليه، فسره ذلك وانشرح، وإنما هو غرور ومكر به، فلما سمع أبو مسلم بذلك عجل السير إلى منيته، فلما قرب من المدائن أمر الخليفة القواد والأمراء أن يتلقوه، وكان دخوله على المنصور من آخر ذلك اليوم، وقد أشار أبو أيوب على المنصور أن يؤخر قتله في ساعته هذه إلى الغد، فقبل ذلك منه.

فلما دخل أبو مسلم على المنصور من العشي أظهر له الكرامة والتعظيم، ثم قال: اذهب فأرح نفسك وادخل الحمام، فإذا كان الغد فأتني.

فخرج من عنده وجاءه الناس يسلمون عليه، فلما كان الغد طلب الخليفة بعض الأمراء فقال له: كيف بلائي عندك ؟

فقال: والله يا أمير المؤمنين ! لو أمرتني أن أقتل نفسي لقتلتها.

قال: فكيف بك لو أمرتك بقتل أبي مسلم ؟

قال: فوجم ساعة ثم قال له أبو أيوب: مالك لا تتكلم ؟

فقال قولة ضعيفة: أقتله.

ثم اختار له من عيون الحرس أربعة فحرضهم على قتله، وقال لهم: كونوا من وراء الرواق فإذا صفقت بيدي فاخرجوا عليه فاقتلوه.

ثم أرسل المنصور إلى أبي مسلم رسلا تترى يتبع بعضها بعضا، فأقبل أبو مسلم فدخل دار الخلافة ثم دخل على الخليفة وهو يبتسم، فلما وقف بين يديه جعل المنصور يعاتبه في الذي صنع واحدة واحدة، فيعتذر عن ذلك كله.

ثم قال: يا أمير المؤمنين ! أرجو أن تكون نفسك قد طابت عليّ.

فقال المنصور: أما والله ما زادني هذا إلا غيظا عليك.

ثم ضرب بإحدى يديه على الأخرى فخرج عثمان وأصحابه فضربوه بالسيوف حتى قتلوه ولفوه في عباءة ثم أمر بإلقائه في دجلة، وكان آخر العهد به، وكان مقتله في يوم الأربعاء، لأربع بقين من شعبان، سنة سبع وثلاثين ومائة.

وكان من جملة ما عاتبه به المنصور أن قال: كتبت إليّ مرات تبدأ بنفسك، وأرسلت تخطب عمتي أمينة، وتزعم أنك ابن سليط بن عبد الله بن عباس إلى غير ذلك.

فقال أبو مسلم: يا أمير المؤمنين ! لا يقال لي هذا، وقد سعيت في أمركم بما علمه كل أحد.

فقال: ويلك ! لو قامت في ذلك أمة سوداء لأتمه الله لجدنا وحيطتنا.

ثم قال: والله لأقتلنك.

فقال: استبقني يا أمير المؤمنين لأعدائك.

فقال: وأي عدو لي أعدى منك ؟

ثم أمر بقتله كما تقدم، فقال له بعض الأمراء: يا أمير المؤمنين ! الآن صرت خليفة.

ويقال: إن المنصور أنشد عند ذلك:

فألقت عصاها واستقر بها النوى * كما قرّ علينا بالإياب المسافر

وذكر ابن خلكان: أن المنصور لما أراد قتل أبي مسلم تحير في أمره هل يستشير أحدا في ذلك أو يستبد هو به لئلا يشيع وينشر، ثم استشار واحدا من نصحاء أصحابه فقال: يا أمير المؤمنين ! قال الله تعالى: { لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا } [الأنبياء: 22] .

فقال له: لقد أودعتها أذنا واعيةً.

ثم عزم على ذلك.

ترجمة أبي مسلم الخراساني

هو: عبد الرحمن بن مسلم أبو مسلم صاحب دولة بني العباس، ويقال له: أمير آل بيت رسول الله .

وقال الخطيب: يقال له: عبد الرحمن بن شيرون بن اسفنديار، أبو مسلم المروزي، صاحب الدولة العباسية.

يروي عن: أبي الزبير، وثابت البناني، وإبراهيم وعبد الله ابني محمد بن علي بن عبد الله بن عباس.

زاد ابن عساكر في شيوخه: محمد بن علي، وعبد الرحمن بن حرملة، وعكرمة مولى ابن عباس.

قال ابن عساكر: روى عنه: إبراهيم بن ميمون الصائغ، وبشر والد مصعب بن بشر، وعبد الله بن شبرمة، وعبد الله بن المبارك، وعبد الله بن منيب المروزي، وقديد بن منيع صهر أبي مسلم.

قال الخطيب: وكان أبو مسلم فاتكا ذا رأي وعقل وتدبير وحزم، قتله أبو جعفر المنصور بالمدائن.

وقال أبو نعيم الأصبهاني في تاريخ أصبهان: كان اسمه: عبد الرحمن بن عثمان بن يسار، قيل: إنه ولد بأصبهان، وروي عن السدي وغيره.

وقيل: كان اسمه: إبراهيم بن عثمان بن يسار بن سندوس بن حوذون، ولد بزرجمهر، وكان يكنى: أبا إسحاق، ونشأ بالكوفة، وكان أبوه أوصى به إلى عيسى بن موسى السراج، فحمله إلى الكوفة وهو ابن سبع سنين، فلما بعثه إبراهيم بن محمد الإمام إلى خراسان قال له: غير اسمك وكنيتك.

فتسمى: عبد الرحمن بن مسلم، واكتنى: بأبي مسلم، فسار إلى خراسان وهو ابن سبع عشرة سنة راكبا على حمار بأكاف، وأعطاه إبراهيم بن محمد نفقة، فدخل خراسان وهو كذلك، ثم آل به الحال حتى صارت له خراسان بأزمتها وحذافيرها.

وذكر أنه في ذهابه إليها عدا رجل من بعض الحانات فقطع ذنب حماره، فلما تمكن أبو مسلم جعل ذلك المكان دكا، فكان بعد ذلك خرابا.

وذكر بعضهم أنه أصابه سبي في صغره، وأنه اشتراه بعض دعاة بني العباس بأربعمائة درهم، ثم أن إبراهيم بن محمد الإمام استوهبه واشتراه فانتمى إليه وزوجه إبراهيم بنت أبي النجم إسماعيل الطائي، أحد دعاتهم، لما بعثه إلى خراسان، وأصدقها عنه أربعمائة درهم، فولد لأبي مسلم بنتان: إحداهما أسماء أعقبت، وفاطمة لم تعقب.

وقد تقدم ذكر كيفية استقلال أبي مسلم بأمور خراسان في سنة تسع وعشرين ومائة، وكيف نشر دعوة بني العباس، وقد كان ذا هيبة وصرامة وإقدام وتسرع في الأمور.

وقد روى ابن عساكر بإسناده: أن رجلا قام إلى أبي مسلم وهو يخطب فقال: ما هذا السواد الذي أرى عليك ؟

فقال: حدثني أبو الزبير، عن جابر بن عبد الله: «أن رسول الله دخل مكة يوم الفتح وعليه عمامة سوداء». وهذه ثياب الهيئة وثياب الدولة. يا غلام اضرب عنقه.

وروى من حديث عبد الله بن منيب، عنه، عن محمد بن علي، عن أبيه، عن جده عبد الله بن عباس، قال: قال رسول الله : «من أراد هوان قريش أهانه الله».

وقد كان إبراهيم بن ميمون الصائغ من أصحابه وجلسائه في زمن الدعوة، وكان يعده إذا ظهر أن يقيم الحدود، فلما تمكن أبو مسلم ألح عليه إبراهيم بن ميمون في القيام بما وعده به حتى أحرجه، فأمر بضرب عنقه، وقال له: لم لا كنت تنكر على نصر بن سيار وهو يعمل أواني الخمر من الذهب فيبعثها إلى بني أمية ؟

فقال له: إن أولئك لم يقربوني من أنفسهم ويعدوني منها ما وعدتني أنت.

وقد رأى بعضهم لإبراهيم بن ميمون هذا منازل عالية في الجنة بصبره على المعروف والنهي عن المنكر، فإنه كان آمرا ناهيا قائما في ذلك، فقتله أبو مسلم رحمه الله.

وقد ذكرنا طاعة أبي مسلم للسفاح واعتناءه بأمره وامتثال مراسيمه، فلما صار الأمر إلى المنصور استخف به واحتقره، ومع هذا بعثه المنصور إلى عمه عبد الله إلى الشام فكسره واستنقذ منه الشام وردها إلى حكم المنصور.

ثم شمخت نفسه على المنصور وهمَّ بقتله، ففطن لذلك المنصور مع ما كان مبطنا له من البغضة، وقد سأل أخاه السفاح غير مرة أن يقتله كما تقدم ذلك فأبى عليه، فلما تولى المنصور ما زال يماكره ويخادعه حتى قدم عليه فقتله.

قال بعضهم: كتب المنصور إلى أبي مسلم: أما بعد فإنه يرين على القلوب ويطبع عليها المعاصي، فع ِ أيها الطائش، وأفق أيها السكران، وانتبه أيها النائم، فإنك مغرور بأضغاث أحلام كاذبة، في برزخ دنيا قد غرت من كان قبلك وسم بها سوالف القرون: { هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزا } [مريم: 98] .

وإن الله لا يعجزه من هرب، ولا يفوته من طلب، فلا تغتر بمن معك من شيعتي وأهل دعوتي، فكأنهم قد صالوا عليك بعد أن صالوا معك، إن أنت خلعت الطاعة وفارقت الجماعة وبدا لك من الله ما لم تكن تحتسب، مهلا مهلا، احذر البغي أبا مسلم ! فإنه من بغى واعتدى تخلى الله عنه، ونصر عليه من يصرعه لليدين والفم، واحذر أن تكون سنة في الذين قد خلوا من قبلك، ومثلة لمن يأتي بعدك، فقد قامت الحجة وأعذرت إليك وإلى أهل طاعتي فيك.

قال تعالى: { وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ } [الأعراف: 175] .

فأجابه أبو مسلم: أما بعد فقد قرأت كتابك فرأيتك فيه للصواب مجانبا، وعن الحق حائدا إذ تضرب فيه الأمثال على غير أشكالها، وكتبت إلي فيه آيات منزلة من الله للكافرين، وما يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون.

وإنني والله ما انسلخت من آيات الله، ولكنني يا عبد الله بن محمد كنت رجلا متأولا فيكم من القرآن آيات أوجبت لكم بها الولاية والطاعة، فأتممت بأخوين لك من قبلك ثم بك من بعدهما، فكنت لهما شيعة متدينا أحسبني هاديا مهتديا، وأخطأت في التأويل وقدما أخطأ المتأولون، وقد قال الله تعالى: { وَإِذَا جَاءكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءا بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ } [الأنعام: 54] .

وإن أخاك السفاح ظهر في صورة مهدي وكان ضالا فأمرني أن أجرد السيف، وأقتل بالظنة، وأقدم بالشبهة، وأرفع الرحمة، ولا أقيل العثرة، فوترت أهل الدنيا في طاعتكم، وتوطئة سلطانكم حتى عرّفكم الله من كان جهلكم.

ثم إن الله سبحانه تداركني منه بالندم واستنقذني بالتوبة، فإن يعف عني ويصفح فإنه كان للأوابين غفورا، وإن يعاقبني فبذنوبي وما ربك بظلام للعبيد.

فكتب إليه المنصور: أما بعد أيها المجرم العاصي، فإن أخي كان إمام هدى يدعو إلى الله على بينة من ربه، فأوضح لك السبيل، وحملك على المنهج السديد، فلو بأخي اقتديت لما كنت عن الحق حائدا، وعن الشيطان وأوامره صادرا، ولكنه لم يسنح لك أمران إلا كنت لأرشدهما تاركا، ولأغواهما راكبا، تقتل قتل الفراعنة، وتبطش بطش الجبابرة، وتحكم بالجور حكم المفسدين، وتبذر المال وتضعه في غير مواضعه فعل المسرفين.

ثم من خبري أيها الفاسق أني قد وليت موسى بن كعب خراسان، وأمرته أن يقيم بنيسابور، فإن أردت خراسان لقيك بمن معه من قوادي وشيعتي، وأنا موجه للقائك أقرانك، فاجمع كيدك وأمرك غير مسدد ولا موفق، وحسب أمير المؤمنين ومن اتبعه الله ونعم الوكيل.

ولم يزل المنصور يراسله تارة بالرغبة وتارة بالرهبة، ويستخف أحلام من حوله من الأمراء والرسل الذين يبعثهم أبو مسلم إلى المنصور ويعدهم، حتى حسنوا لأبي مسلم في رأيه القدوم عليه سوى أمير معه يقال له: نيزك، فإنه لم يوافق على ذلك، فلما رأى أبا مسلم وقد انطاع لهم أنشد عن ذلك البيت المتقدم وهو:

ما للرجال مع القضاء محالة * ذهب القضاء بحيلة الأقوام

وأشار عليه بأن يقتل المنصور ويستخلف بدله فلم يمكنه ذلك، فإنه لما قدم المدائن تلقاه الأمراء عن أمر الخليفة، فما وصل إلا آخر النهار، وقد أشار أبو أيوب كاتب الرسائل أن لا يقتله يومه هذا كما تقدم، فلما وقف بين يدي الخليفة أكرمه وعظمه وأظهر احترامه، وقال: اذهب الليلة فأذهب عنك وعثاء السفر، ثم ائتني من الغد.

فلما كان الغد أرصد له من الأمراء من يقتله منهم: عثمان بن نهيك، وشبيب بن واج، فقتلوه كما تقدم.

ويقال: بل أقام أياما يظهر له المنصور الإكرام والاحترام، ثم نشق منه الوحشة فخاف مسلم، واستشفع بعيسى بن موسى واستجار به، وقال: إني أخافه على نفسي.

فقال: لا بأس عليك، فانطلق فإني آت وراءك، أنت في ذمتي حتى آتيك - ولم يكن مع عيسى خبر بما يريد به الخليفة -.

فجاء أبو مسلم يستأذن المنصور فقالوا له: اجلس هاهنا فإن أمير المؤمنين يتوضأ، فجلس وهو يود أن يطول مجلسه ليجيء عيسى بن موسى فأبطأ، وأذن له الخليفة فدخل عليه فجعل يعاتبه في أشياء صدرت منه فيعتذر عنها جيدا، حتى قال له: فلم قتلت سليمان بن كثير، وإبراهيم بن ميمون، وفلانا، وفلانا ؟

قال: لأنهم عصوني وخالفوا أمري.

فغضب عند ذلك المنصور وقال: ويحك ! أنت تقتل إذا عصيت، وأنا لا أقتلك وقد عصيتني ؟

وصفق بيديه - وكانت الإشارة بينه وبين المرصدين لقتله - فتبادروا إليه ليقتلوه فضربه أحدهم فقطع حمائل سيفه، فقال: يا أمير المؤمنين ! استبقني لأعدائك.

فقال: وأي عدو أعدى منك ؟

ثم زجرهم المنصور فقطعوه قطعا ولفوه في عباءة، ودخل عيسى بن موسى على أثر ذلك فقال: ما هذا يا أمير المؤمنين ؟

فقال: هذا أبو مسلم.

فقال: إنا لله وإنا إليه راجعون.

فقال له المنصور: احمد الله الذي هجمت عليَّ نعمة، ولم تهجم عليَّ نقمة.

ففي ذلك يقول أبو دلامة:

أبا مسلم ما غيّر الله من نعمة * على عبده حتى يغيرها العبد

أبا مسلم خوفتني القتل فانتحى * عليك بما خوفتني الأسد الورد

وذكر ابن جرير: أن المنصور تقدم إلى عثمان بن نهيك، وشبيب بن واج، وأبي حنيفة حرب بن قيس، وآخر من الحرس أن يكونوا قريبا منه، فإذا دخل عليه أبو مسلم وخاطبه وضرب بإحدى يديه على الأخرى فليقتلوه، فلما دخل عليه أبو مسلم قال له المنصور: ما فعل السيفان اللذان أصبتهما من عبد الله بن علي ؟

فقال: هذا أحدهما.

فقال: أرنيه.

فناوله السيف فوضعه تحت ركبته.

ثم قال له: ما حملك على أن تكتب لأبي عبد الله السفاح تنهاه عن الموات، أردت أن تعلمنا الدين ؟

قال: إنني ظننت أن أخذه لا يحل، فلما جاءني كتاب أمير المؤمنين علمت أنه وأهل بيته معدن العلم.

قال: فلم تقدمت عليَّ في طريق الحج ؟

قال: كرهت اجتماعنا على الماء فيضر ذلك بالناس فتقدمت التماس الرفق.

قال: فلم لا رجعت إلي حين أتاك خبر موت أبي العباس ؟

قال: كرهت التضييق على الناس في طريق الحج، وعرفت أنا سنجتمع بالكوفة، وليس عليك مني خلاف.

قال: فجارية عبد الله بن علي أردت أن تتخذها لنفسك ؟

قال: لا ! ولكن خفت أن تضيع فحملتها في قبة ووكلت بها من يحفظها.

ثم قال له: ألست الكاتب إلي تبدأ بنفسك؟ والكاتب إلي تخطب آمنة بنت علي؟ وتزعم أنك ابن سليط بن عبد الله بن عباس؟ هذا كله ويد المنصور في يده يعركها ويقبلها ويعتذر.

ثم قال له: فما حملك على مراغمتي ودخولك إلى خراسان ؟

قال: خفت أن يكون دخلك مني شيء فأردت أن أدخل خراسان وأكتب إليك بعذري.

قال: فلم قتلت سليمان بن كثير وكان من نقبائنا ودعاتنا قبلك ؟

قال: أراد خلافي.

فقال: ويحك ! وأنت أردت خلافي وعصيتني، قتلني الله إن لم أقتلك.

ثم ضربه بعمود الخيمة وخرج إليه أولئك فضربه عثمان فقطع حمائل سيفه، وضربه شبيب فقطع رجله، وحمل عليه بقيتهم بالسيوف، والمنصور يصيح ويحكم ! اضربوه قطع الله أيديكم.

ثم ذبحوه وقطعوه قطعا قطعا، ثم ألقي في دجلة.

ويرى أن المنصور لما قتله وقف عليه فقال: رحمك الله أبا مسلم ! بايعتنا فبايعناك، وعاهدتنا وعاهدناك، ووفيت لنا فوفينا لك، وإنا بايعناك على أن لا يخرج علينا أحد في هذه الأيام إلا قتلناه، فخرجت علينا فقتلناك، وحكمنا عليك حكمك على نفسك لنا.

ويقال: إن المنصور قال: الحمد لله الذي أرانا يومك يا عدو الله.

قال ابن جرير: وقال المنصور عند ذلك:

زعمت أن الدين لا يقتضى * فاستوف بالكيل أبا مجرم

سقيت كأسا كنت تسقي بها * أمرَّ في الحلق من العلقم

ثم إن المنصور خطب في الناس بعد قتل أبي مسلم فقال: أيها الناس ! لا تنفروا أطيار النعم بترك الشكر، فتحل بكم النقم، ولا تسروا غش الأئمة فإن أحدا لا يسر منكم شيئا إلا ظهر في فلتات لسانه، وصفحات وجهه، وطوالع نظره، وإنا لن نجهل حقوقكم ما عرفتم حقنا، ولا ننسى الإحسان إليكم ما ذكرتم فضلنا، ومن نازعنا هذا القميص أوطأنا أم رأسه، حتى يستقيم رجالكم، وترتدع عمالكم.

وإن هذا الغمر أبا مسلم بايع على أنه من نكث بيعتنا وأظهر غشنا فقد أباحنا دمه، فنكث وغدر وفجر وكفر، فحكمنا عليه لأنفسنا حكمه على غيره لنا، وإن أبا مسلم أحسن مبتديا وأساء منتهيا، وأخذ من الناس بنا لنفسه أكثر مما أعطانا.

ورجح قبيح باطنه على حسن ظاهره، وعلمنا من خبث سريرته وفساد نيته ما لو علم اللائم لنا فيه لما لام، ولو اطلع على ما اطلعنا عليه منه لعذرنا في قتله، وعنفنا في إمهاله، ومازال ينقض بيعته ويخفر ذمته حتى أحل لنا عقوبته وأباحنا دمه، فحكمناه فيه حكمه في غيره ممن شق العصا، ولم يمنعنا الحق له من إمضاء الحق فيه، وما أحسن ما قال النابغة الذبياني للنعمان - يعني: ابن المنذر -:

فمن أطاعك فانفعه بطاعته * كما أطاعك والله على الرشد

ومن عصاك فعاقبه معاقبةً * تنهى الظلوم ولا تقعد على ضمد

وقد روى البيهقي، عن الحاكم، بسنده: أن عبد الله بن المبارك سئل عن أبي مسلم: أهو خير أم الحجاج ؟

فقال: لا أقول أن أبا مسلم كان خيرا من أحد، ولكن كان الحجاج شرا منه، قد اتهمه بعضهم على الإسلام، ورموه بالزندقة، ولم أر فيما ذكروه عن أبي مسلم ما يدل على ذلك، بل على أنه كان ممن يخاف الله من ذنوبه، وقد ادعى التوبة فيما كان منه من سفك الدماء في إقامة الدولة العباسية، والله أعلم بأمره.

وقد روى الخطيب، عنه، أنه قال: ارتديت الصبر، وآثرت الكفاف، وحالفت الأحزان والأشجان، وشامخت المقادير والأحكام، حتى بلغت غاية همتي، وأدركت نهاية بغيتي.

ثم أنشأ يقول:

قد نلت بالعزم والكتمان ما عجزت * عنه ملوك بني مروان إذا حشدوا

ما زلت أضربهم بالسيف فانتبهوا * من رقدة لم ينمها قبلهم أحد

وطفت أسعى عليهم في ديارهم * والقوم في ملكهم في الشام قد رقدوا

ومن رعى غنما في أرض مسبعة * ونام عنها تولى رعيها الأسد

وقد كان قتل أبي مسلم بالمدائن يوم الأربعاء لسبع خلون، وقيل: لخمس بقين، وقيل: لأربع، وقيل: لليلتين بقيتا من شعبان من هذه السنة - أعني: سنة سبع وثلاثين ومائة -.

قال بعضهم: كان ابتداء ظهوره في رمضان من سنة تسع وعشرين ومائة، وقيل: في شعبان سنة سبع وعشرين ومائة.

وزعم بعضهم أنه قتل ببغداد في سنة أربعين، وهذا غلط من قائله، فإن بغداد لم تكن بنيت بعد كما ذكره الخطيب في تاريخ بغداد، وردَّ هذا القول.

ثم إن المنصور شرع في تأليف أصحاب أبي مسلم بالأعطية والرغبة والرهبة والولايات، واستدعى أبا إسحاق - وكان من أعز أصحاب أبي مسلم - وكان على شرطة أبي مسلم، وهمَّ بضرب عنقه فقال: يا أمير المؤمنين ! والله ما أمنت قط إلا في هذا اليوم، وما من يوم كنت أدخل عليه إلا تحنطت ولبست كفني.

ثم كشف عن ثيابه التي تلي جسده فإذا هو محنط، وعليه أدراع أكفان، فرقَّ له المنصور وأطلقه.

وذكر ابن جرير: أن أبا مسلم قتل في حروبه وما كان يتعاطاه لأجل دولة بني العباس ستمائة ألف صبرا زيادة عن من قتل بغير ذلك.

وقد قال للمنصور وهو يعاتبه على ما كان يصنعه: يا أمير المؤمنين ! لا يقال لي هذا بعد بلائي وما كان مني.

فقال له: يا ابن الخبيثة ! لو كانت أمة مكانك لأجزأت ناحيتها، إنما عملت ما عملت بدولتنا وبريحنا، ولو كان ذلك إليك لما وصلت إلى فتيل.

ولما قتله المنصور لفه في كساء وهو مقطع إربا إربا، فدخل عيسى بن موسى فقال: يا أمير المؤمنين ! أين أبو مسلم ؟

قال: قد كان هاهنا آنفا.

فقال: يا أمير المؤمنين ! قد عرفت طاعته ونصيحة ورأي إبراهيم الإمام فيه.

فقال له: يا أنوك ! والله ما أعلم في الأرض عدوا أعدى لك منه، هاهو ذاك في البساط.

فقال: إنا لله وإنا إليه راجعون.

فقال له المنصور: خلع الله قلبك ! وهل كان لكم مكان أو سلطان أو أمر أو نهي مع أبي مسلم ؟

ثم استدعى المنصور برؤوس الأمراء فجعل يستشيرهم في قتل أبي مسلم قبل أن يعلموا بقتله، فكلهم يشير بقتله، ومنهم من كان إذا تكلم أسر كلامه خوفا من أبي مسلم لئلا ينقل إليه، فلما أطلعهم على قتله أفزعهم ذلك وأظهروا سرورا كثيرا.

ثم خطب المنصور الناس بذلك كما تقدم.

ثم كتب المنصور إلى نائب أبي مسلم على أمواله وحواصله بكتاب على لسان أبي مسلم أن يقدم بجميع ما عنده من الحواصل والذخائر والأموال والجواهر، وختم الكتاب بخاتم أبي مسلم، بكماله مطبوعا بكل فص الخاتم، فلما رآه الخازن استراب في الأمر، وقد كان أبي مسلم تقدم إلى خازنه: أنه إذا جاءك كتابي فإن رأيته مختوما بنصف الفص فامض لما فيه، فإني إنما أختم بنصف فصه على كتبي، وإذا جاءك الكتاب مختوما عليه بكماله، فلا تقبل ولا تمض ما فيه.

فامتنع عند ذلك خازنه أن يقبل ما بعث به المنصور، فأرسل المنصور بعد ذلك إليه من أخذ جميع ذلك وقتل ذلك الرجل الخازن، وكتب المنصور إلى أبي داود إبراهيم بن خالد بإمرة خراسان، كما وعده قبل ذلك عوضا عن أبي مسلم.

وفي هذه السنة: خرج سنباذ يطلب بدم أبي مسلم، وقد كان سنباذ هذا مجوسيا تغلب على قومس وأصبهان، ويسمى: بفيروز أصبهبذ، فبعث إليه أبو جعفر المنصور جيشا هم عشرة آلاف فارس عليهم جهور بن مرار العجلي، فالتقوا بين همذان والري بالمفازة، فهزم جهور لسنباذ وقتل من أصحابه ستين ألفا وسبى ذراريهم ونساءهم، وقتل سنباذ بعد ذلك فكانت أيامه سبعين يوما.

وأخذ ما كان استحوذ عليه من أموال أبي مسلم التي كانت بالري.

وخرج في هذه السنة أيضا: رجل يقال له: ملبَّد بن حرمة الشيباني، في ألف من الخوارج بالجزيرة، فجهز إليه المنصور جيوشا متعددةً كثيفةً كلها تنفر منه وتنكسر، ثم قاتله حميد بن قحطبة نائب الجزيرة، فهزمه ملبَّد وتحصن منه حميد في بعض الحصون، ثم صالحه حميد بن قحطبة على مائة ألف فدفعها إليه وقبلها ملبَّد وتقلع عنه.

وحج بالناس في هذه السنة عم الخليفة إسماعيل بن علي بن عبد الله بن عباس.

قال الواقدي: وكان نائب الموصل - يعني: عم المنصور - وعلى نيابة الكوفة عيسى بن موسى، وعلى البصرة سليمان بن علي، وعلى الجزيرة حميد بن قحطبة، وعلى مصر صالح بن علي، وعلى خراسان أبو داود إبراهيم بن خالد، وعلى الحجاز زياد بن عبد الله.

ولم يكن للناس في هذه السنة صائفة لشغل الخليفة بسنباذ وغيره.

ومن مشاهير من توفي فيها: أبو مسلم الخراساني كما تقدم، ويزيد بن أبي زياد أحد من تكلم فيه، كما ذكرناه في التكميل، والله سبحانه أعلم.

ثم دخلت سنة ثمان وثلاثون ومائة

فيها: دخل قسطنطين ملك الروم ملطية عنوة فهدم سورها وعفا عمن قدر عليه من مقاتليها.

وفيها: غزا الصائفة صالح بن علي نائب مصر، فبنى ما كان هدم ملك الروم من سور ملطية، وأطلق لأخيه عيسى بن علي أربعين ألف دينار، وكذلك أعطى لابن أخيه العباس بن محمد بن علي أربعين ألف دينار.

وفيها: بايع عبد الله بن علي الذي كسره أبو مسلم وانهزم إلى البصرة واستجار بأخيه سليمان بن علي، حتى بايع للخليفة في هذه السنة ورجع إلى طاعته، ولكن حبس في سجن بغداد، كما سيأتي.

وفيها: خلع جهور بن مرار العجلي الخليفة المنصور بعدما كسر سنباذ واستحوذ على حواصله وعلى أموال أبي مسلم، فقويت نفسه بذلك وظن أنه لا يقدر عليه بعد، فأرسل إليه الخليفة محمد بن الأشعث الخزاعي في جيش كثيف فاقتتلوا قتالا شديدا، فهزم جهور وقتل عامة من معه، وأخذ ما كان معه من الأموال والحواصل والذخائر، ثم لحقوه فقتلوه.

وفيها: قتل الملبّد الخارجي على يدي خازم بن خزيمة في ثمانية آلاف، وقتل من أصحاب الملبد ما يزيد على ألف وانهزم بقيتهم.

قال الواقدي: وحج بالناس فيها الفضل بن علي، والنواب فيها هم المذكورون بالتي قبلها.

وممن توفي فيها من الأعيان: زيد بن واقد، والعلاء بن عبد الرحمن، وليث بن أبي سليم في قول.

وفيها: كانت خلافة الداخل من بني أمية إلى بلاد الأندلس، وهو: عبد الرحمن بن معاوية بن هشام بن عبد الملك بن مروان الهاشمي.

قلت: ليس وهو بهاشمي إنما هو من بني أمية ويسمى: أمويا، كان قد دخل إلى بلاد المغرب فرارا من عبد الله بن علي بن عبد الله بن عباس، فاجتاز بمن معه من أصحابه الذين فروا معه بقوم يقتتلون على عصبية اليمانية والمضرية، فبعث مولاه بدرا إليهم فاستمالهم إليه فبايعوه ودخل بهم ففتح بلاد الأندلس واستحوذ عليها وانتزعها من نائبها يوسف بن عبد الرحمن بن حبيب بن أبي عبيدة بن عقبة بن نافع الفهري وقتله.

وسكن عبد الرحمن قرطبة واستمر في خلافته في تلك البلاد من هذه السنة إلى سنة ثنتين وسبعين ومائة، فتوفي فيها، وله في الملك أربع وثلاثون سنة وأشهر.

ثم قام من بعده ولده هشام ست سنين وأشهرا، ثم مات، فولي بعده الحكم بن هشام ستا وعشرين سنة وأشهرا ثم مات، ثم ولي بعده ولده عبد الرحمن بن الحكم ثلاثا وثلاثين سنة ثم مات، ثم ولي بعده محمد بن عبد الرحمن بن الحكم ستا وعشرين سنة، ثم ابنه المنذر بن محمد، ثم أخوه عبد لله بن محمد بن المنذر.

وكانت أيامه بعد الثلاثمائة بدهر، ثم زالت تلك الدولة كما سنذكره من زوال تلك السنون وأهلها وما قضوا فيها من النعيم، والعيش الرغيد، والنساء الحسان، ثم انقضت تلك السنوات وأهلها كأنهم على ميعاد، ثم أضحوا كأنهم ورق جف ألوت عليه الصبا والذبول.

ثم دخلت سنة تسع وثلاثون ومائة

فيها: أكمل صالح بن علي بناء ملطية، ثم غزا الصائفة على طريق الحدث، فوغل في بلاد الروم، وغزا معه أختاه: أم عيسى ولبابة ابنتا علي، وكانتا نذرتا إن زال ملك بني أمية أن يجاهدا في سبيل الله عز وجل.

وفيها: كان الفداء الذي حصل بين المنصور وبين ملك الروم، فاستنقذ بعض أسرى المسلمين، ثم لم يكن للناس صائفة في هذه السنة إلى سنة ست وأربعين، وذلك لاشتغال المنصور بأمر ابني عبد الله بن حسن كما سنذكره.

ولكن ذكر بعضهم أن الحسن بن قحطبة غزا الصائفة مع عبد الوهاب بن إبراهيم الإمام سنة أربعين، فالله أعلم.

وفيها: وسع المنصور المسجد الحرام، وكانت هذه السنة خصبة جدا - أي: كثيرة الخصب، فكان يقال لها: السنة الخصبة -.

وقيل: إنما كان ذلك في سنة أربعين.

وفيها: عزل المنصور عمه سليمان عن إمرة البصرة، فاختفى عبد الله بن علي وأصحابه خوفا على أنفسهم، فبعث المنصور إلى نائبه على البصرة، وهو: سفيان بن معاوية، يستحثه في إحضار عبد الله بن علي إليه، فبعثه في أصحابه فقتل بعضهم وسجن عبد الله بن علي عمه، وبعث بقية أصحابه إلى أبي داود نائب خراسان فقتلهم هناك.

وحج بالناس فيها العباس بن علي بن عبد الله بن عباس.

وفيها توفي: عمرو بن مجاهد، ويزيد بن عبد الله بن الهاد، ويونس بن عبيد، أحد العباد وصاحب الحسن البصري.

ثم دخلت سنة أربعين ومائة

فيها: ثار جماعة من الجند على أبي داود نائب خراسان، وحاصروا داره.

فأشرف عليهم، وجعل يستغيث بجنده ليحضروا إليه، واتكأ على آجرة في الحائط فانكسرت به فسقط فانكسر ظهره فمات، فخلفه على خراسان عاصم، صاحب الشرطة حتى قدم الأمير من جهة الخليفة عليها، وهو: عبد الجبار بن عبد الرحمن الأزدي، فتسلم بلاد خراسان، وقتل جماعة من الأمراء لأنه بلغه عنهم أنهم يدعون إلى خلافة آل علي بن أبي طالب، وحبس آخرين، وأخذ نواب أبي داود بجباية الأموال المنكسرة عندهم.

وفيها: حج بالناس الخليفة المنصور أحرم من الحيرة، ورجع بعد انقضاء الحج إلى المدينة، ثم رحل إلى بيت المقدس فزاره، ثم سلك الشام إلى الرقة، ثم سار إلى الهاشمية - هاشمية الكوفة - ونواب الأقاليم هم المذكورون في التي قبلها، سوى خراسان فإنه مات نائبها أبو داود، فخلفه مكانه عبد الجبار الأزدي.

وفيها توفي: داود بن أبي هند، وأبو حازم سلمة بن دينار، وسهيل بن أبي صالح، وعمارة بن غزية بن قيس السكوني.

ثم دخلت سنة إحدى وأربعون ومائة

فيها: خرجت طائفة يقال لها: الرواندية على المنصور.

ذكر بن جرير، عن المدائني: أن أصلهم من خراسان، وهم على رأي أبي مسلم الخراساني، كانوا يقولون بالتناسخ، ويزعمون أن روح آدم انتقلت إلى عثمان بن نهيك، وأن ربهم الذي يطعمهم ويسقيهم أبو جعفر المنصور، وأن الهيثم بن معاوية جبريل، قبحهم الله.

قال ابن جرير: فأتوا يوما قصر المنصور فجعلوا يطوفون به ويقولون: هذا قصر ربنا.

فأرسل المنصور إلى رؤسائهم فحبس منهم مائتين، فغضبوا من ذلك وقالوا: علام تحبسهم ؟

ثم عمدوا إلى نعش فحملوه على كواهلهم وليس عليه أحد، واجتمعوا حوله كأنهم يشيعون جنازة، واجتازوا بباب السجن، فألقوا النعش ودخلوا السجن قهرا واستخرجوا من فيه من أصحابهم، وقصدوا نحو المنصور وهم في ستمائة.

فتنادى الناس وغلقت أبواب البلد، وخرج المنصور من القصر ماشيا، لأنه لم يجد دابة يركبها، ثم جيء بدابة فركبها وقصد نحو الرواندية، وجاء الناس من كل ناحية، وجاء معن بن زائدة، فلما رأى المنصور ترجل وأخذ بلجام دابة المنصور وقال: يا أمير المؤمنين ارجع ! نحن نكفيكهم.

فأبى وقام أهل الأسواق إليهم فقاتلوهم، وجاءت الجيوش فالتفوا عليهم من كل ناحية فحصدوهم عن آخرهم، ولم يبق منهم بقية.

وجرحوا عثمان بن نهيك بسهم بين كتفيه، فمرض أياما ثم مات، فصلى عليه الخليفة، وقام على قبره حتى دفن ودعا له، وولى أخاه عيسى بن نهيك على الحرس، وكان ذلك كله بالمدينة الهاشمية بالكوفة.

ولما فرغ المنصور من قتال الرواندية ذلك اليوم صلى بالناس الظهر في آخر وقتها، ثم أتي بالطعام فقال: أين معن بن زائدة ؟

وأمسك عن الطعام حتى جاء معن فأجلسه إلى جبنه، ثم أخذ في شكره لمن بحضرته لما رأى من شهامته يومئذ.

فقال معن: والله يا أمير المؤمنين لقد جئت وإني لوجل، فلما رأيت استهانتك بهم وإقدامك عليهم قوي قلبي واطمأن، وما ظننت أن أحدا يكون في الحرب هكذا، فذاك الذي شجعني يا أمير المؤمنين.

فأمر له المنصور بعشرة آلاف ورضي عنه وولاه اليمن.

وكان معن بن زائدة قبل ذلك مختفيا، لأنه قاتل المسودة مع ابن هبيرة، فلم يظهروا إلا في هذا اليوم، فلما رأى الخليفة صدقه في قتاله رضي عنه.

ويقال: إن المنصور قال عن نفسه: أخطأت في ثلاث: قتلت أبا مسلم وأنا في جماعة قليلة، وحين خرجت إلى الشام ولو اختلف سيفان بالعراق لذهبت الخلافة، ويوم الرواندية لو أصابني سهم غرب لذهبت ضياعا. وهذا من حزمه وصرامته.

وفي هذه السنة: ولى المنصور ابنه محمدا العهد من بعده، ودعاه: بالمهدي، وولاه بلاد خراسان، وعزل عنها عبد الجبار بن عبد الرحمن، وذلك أنه قتل خلقا من شيعة الخليفة، فشكاه المنصور إلى أبي أيوب كاتب الرسائل فقال: يا أمير المؤمنين ! اكتب إليه ليبعث جيشا كثيفا إلى من خراسان إلى غزو الروم، فإذا خرجوا بعثت إليه من شئت فأخرجوه من بلاد خراسان ذليلا.

فكتب إليه المنصور بذلك، فرد الجواب: بأن بلاد خراسان قد عاثت بها الأتراك، ومتى خرج منها جيش خيف عليها وفسد أمرها.

فقال المنصور لأبي أيوب: ماذا ترى ؟

قال: فاكتب إليه: إن بلاد خراسان أحق بالمدد لثغور المسلمين من غيرها، وقد جهزت إليك بالجنود.

فكتب إليه أيضا: إن بلاد خراسان ضيقة في هذا العام أقواتها، ومتى دخلها جيش أفسدها.

فقال الخليفة لأبي أيوب: ماذا تقول ؟

فقال: يا أمير المؤمنين ! هذا رجل قد أبدى صفحته وخلع فلا تناظره.

فحينئذ بعث المنصور ابنه محمدا المهدي ليقيم بالري، فبعث المهدي بين يديه خازم بن خزيمة مقدمة إلى عبد الجبار، فما زال به يخدعه ومن معه حتى هرب من معه وأخذوه هو فأركبوه بعيرا محولا وجهه إلى ناحية ذنب البعير.

وسيروه كذلك في البلاد حتى أقدموه على المنصور ومعه ابنه وجماعة من أهله، فضرب المنصور عنقه، وسير ابنه ومن معه إلى جزيرة في طرف اليمن، فأسرتهم الهنود بعد ذلك، ثم فودي بعضهم بعد ذلك.

واستقر المهدي نائبا على خراسان، وأمره أبوه أن يغزو طبرستان، وأن يحارب الأصبهبذ بمن معه من الجنود وأمده بجيش عليهم عمر بن العلاء، وكان من أعلم الناس بحرب طبرستان، وهو الذي يقول فيه الشاعر:

فقل للخليفة إن جئته * نصيحا ولا خير في المتهم

إذا أيقظتك الحروب العدى * فنبه لها عمرا ثم نم

فتى لا ينام على دمنة * ولا يشرب الماء إلا بدم

فلما تواقفت الجيوش على طبرستان فتحوها وحصروا الأصبهبذ حتى ألجأوه إلى قلعته، فصالحهم على ما فيها من الذخائر، وكتب المهدي إلى أبيه بذلك، ودخل الأصبهبذ بلاد الديلم فمات هناك.

وكسروا أيضا ملك الترك الذي يقال له: المصمغان، وأسروا أمما من الذراري، فهذا فتح طبرستان الأول.

وفيها: فرغ بناء المصيصة على يدي جبريل بن يحيى الخراساني.

وفيها: رابط محمد بن إبراهيم الإمام ببلاد ملطية.

وفيها: عزل المنصور زياد بن عبيد الله عن إمرة الحجاز وولى المدينة محمد بن خالد القسري وقدمها في رجب.

وولى مكة والطائف الهيثم بن معاوية العكي.

وفيها توفي: موسى بن كعب، وهو على شرطة المنصور.

وعلى مصر من كان عليها في السنة الماضية، ثم ولى مصر محمد بن الأشعث، ثم عزله عنها وولى نوفل بن الفرات.

وحج بالناس فيها: صالح بن علي وهو نائب قنسرين وحمص ودمشق، وبقية البلاد عليها من ذكرنا في التي قبلها، والله أعلم.

وفيها توفي: أبان بن تغلب، وموسى بن عقبة، صاحب المغازي، وأبو إسحاق الشيباني في قول، والله سبحانه أعلم.

ثم دخلت سنة ثنتين وأربعين ومائة

فيها: خلع عيينة بن موسى بن كعب نائب السند الخليفة، فجهز إليه العساكر صحبة عمر بن حفص بن أبي صفرة، وولاه السند والهند، فحاربه عمر بن حفص وقهره على الأرض، وتسلمها منه.

وفيها: نكث أصبهبذ طبرستان العهد الذي كان بينه وبين المسلمين، وقتل طائفة ممن كان بطبرستان، فجهز إليه الخليفة الجيوش صحبة خازم بن خزيمة، وروح بن حاتم، ومعهم مرزوق أبو الخصيب، مولى المنصور، فحاصروه مدة طويلة، فلما أعياهم فتح الحصن الذي هو فيه احتالوا عليه، وذلك أن أبا الخصيب قال: اضربوني واحلقوا رأسي ولحيتي.

ففعلوا ذلك، فذهب إليه كأنه مغاضب للمسلمين قد ضربوه وحلقوا لحيته، فدخل الحصن ففرح به الأصبهبذ وأكرمه وقربه، وجعل أبو الخصيب يظهر له النصح والخدمة حتى خدعه، وحظي عنده جدا وجعله من جملة من يتولى فتح الحصن وغلقه، فلما تمكن من ذلك كاتب المسلمين وأعلمهم أنه في الليلة الفلانية يفتح لهم، فاقتربوا من الباب حتى أفتحه لكم، فلما كانت تلك الليلة فتح لهم باب الحصن فدخلوا فقتلوا من فيه من المقاتلة وسبوا الذرية وامتص الأصبهبذ خاتما مسموما فمات.

وكان فيمن أسروا يومئذ أم منصور بن المهدي، وأم إبراهيم بن المهدي، وكانتا من بنات الملوك الحسان.

وفيها: بنى المنصور لأهل البصرة قبلتهم التي يصلون عندها بالجبان، وتولى بناءها سلمة بن سعيد بن جابر نائب الفرات والأبلة.

وصام المنصور شهر رمضان بالبصرة، وصلى بالناس العيد في ذلك المصلى.

وفيها: عزل المنصور نوفل بن الفرات عن إمرة مصر وولى عليها حميد بن قحطبة.

وحج بالناس فيها: إسماعيل بن علي.

وفيها توفي: سليمان بن علي بن عبد الله بن عباس، عم الخليفة ونائب البصرة.

كان ذلك يوم السبت لسبع بقين من جمادى الآخرة، وهو ابن تسع وخمسين سنة، وصلى عليه أخوه عبد الصمد.

وروى عن: أبيه، وعكرمة، وأبي بردة بن أبي موسى.

وعنه جماعة منهم: بنوه جعفر، ومحمد، وزينب، والأصمعي.

وكان قد شاب وهو ابن عشرين سنة، وخضب لحيته من الشيب في ذلك السن، وكان كريما جوادا ممدحا.

وكان يعتق عشية عرفة في كل سنة مائة نسمة، وبلغت صلاته لبني هاشم وسائر قريش والأنصار خمسة آلاف ألف، واطلع يوما من قصره فرأى نسوة يغزلن في دار من دور البصرة، فاتفق في نظره هذا إليهن أن قالت واحدة منهن: لو أن الأمير نظر إلينا واطلع على حالنا فأغنانا عن الغزل ؟

فنهض من فوره فجعل يدور في قصره ويجمع من حلى نسائه من الذهب والجواهر وغيرها ما ملأ به منديلا كبيرا، ثم دلاه إليهن ونثر عليهن من الدنانير والدراهم شيئا كثيرا، فماتت إحداهن من شدة الفرح، فأعطى ديتها وما تركته من ذلك لورثتها.

وقد ولي الحج في أيام السفاح، وولي البصرة أيام المنصور، وكان من خيار بني العباس، وهو: أخو إسماعيل وداود وصالح وعبد الصمد وعبد الله وعيسى ومحمد، وهو: عم السفاح والمنصور.

وممن توفي فيها من الأعيان:

خالد الحذاء، وعاصم الأحول.

وعمرو بن عبيد القدري

في قول، وهو: عمرو بن عبيد بن ثوبان، ويقال: ابن كيسان، التيمي مولاهم، أبو عثمان البصري، من أبناء فارس، شيخ القدرية والمعتزلة.

روى الحديث عن: الحسن البصري، وعبيد الله بن أنس، وأبي العالية، وأبي قلابة.

وعنه: الحمادان، وسفيان بن عيينة، والأعمش - وكان من أقرانه -، وعبد الوارث بن سعيد، وهارون بن موسى، ويحيى القطان، ويزيد بن زريع.

قال الإمام أحمد بن حنبل: ليس بأهل أن يحدث عنه.

وقال علي بن المدنيي و يحيى بن معين: ليس بشيء، وزاد ابن معين وكان رجل سوء، وكان من الدهرية الذين يقولون: إنما الناس مثل الزرع.

وقال الفلاس: متروك صاحب بدعة.

كان يحيى القطان يحدثنا عنه ثم تركه، وكان ابن مهدي لا يحدث عنه.

وقال أبو حاتم: متروك.

وقال النسائي: ليس بثقة.

وقال شعبة، عن يونس بن عبيد: كان عمرو بن عبيد يكذب في الحديث.

وقال حماد بن سلمة: قال لي حميد: لا تأخذ عنه فإنه كان يكذب على الحسن البصري.

وكذا قال: أيوب، وعوف، وابن عون.

وقال أيوب: ما كنت أعدله عقلا.

وقال مطر الوراق: والله لا أصدقه في شيء.

وقال ابن المبارك: إنما تركوا حديثه لأنه كان يدعو إلى القدر.

وقد ضعفه غير واحد من أئمة الجرح والتعديل، وأثنى عليه آخرون في عبادته وزهده وتقشفه.

قال الحسن البصري: هذا سيد شباب القراء ما لم يحدث.

قالوا: فأحدث والله أشد الحدث.

وقال ابن حبان: كان من أهل الورع والعبادة إلى أن أحدث ما أحدث، واعتزل مجلس الحسن هو وجماعة معه فسموا المعتزلة، وكان يشتم الصحابة ويكذب في الحديث، وهما لا تعمدا.

وقد روي عنه أنه قال: إن كانت تبت يدا أبي لهب في اللوح المحفوظ فما تعد منه على ابن آدم حجة.

وروى له حديث ابن مسعود: حدثنا الصادق المصدوق: «أن خلق أحدكم يجمع في بطن أمه أربعين يوما».

حتى قال: «فيؤمر بأربع كلمات: رزقه، وأجله، وعمله، وشقي أم سعيد» إلى آخره.

فقال: لو سمعت الأعمش يرويه لكذبته، ولو سمعته من زيد بن وهب لما أحببته، ولو سمعته من ابن مسعود لما قبلته، ولو سمعته من رسول الله لرددته، ولو سمعت الله يقول هذا لقلت ما على هذا أخذت علينا الميثاق.

وهذا من أقبح الكفر، لعنه الله إن كان قال هذا، وإذا كان مكذوبا عليه فعلى من كذبه عليه ما يستحقه.

وقد قال عبد الله بن المبارك رحمه الله:

أيها الطالب علما * إيتِ حماد بن زيد

فخذ العلم بحلم * ثمَّ قيده بقيد

وذر البدعة من * آثار عمرو بن عبيد

وقال ابن عدي: كان عمرو يغر الناس بتقشفه، وهو مذموم ضعيف الحديث جدا، معلن بالبدع.

وقال الدار قطني: ضعيف الحديث.

وقال الخطيب البغدادي: جالس الحسن واشتهر بصحبته ثم أزاله واصل بن عطاء عن مذهب أهل السنة وقال بالقدر ودعا إليه، واعتزل أصحاب الحديث، وكان له سمت وإظهار زهد.

وقد قيل: أنه وواصل بن عطاء ولدا سنة ثمانين، وحكى البخاري: أن عمرا مات سنة ثنتين وثلاث وأربعين ومائة بطريق مكة، وقد كان عمرو محظيا عند أبي جعفر المنصور، كان المنصور يحبه ويعظمه، لأنه كان يفد المنصور مع القراء فيعطيهم المنصور فيأخذون، ولا يأخذ عمرو منه شيئا، وكان يسأله أن يقبل كما يقبل أصحابه فلا يقبل منه، فكان ذلك مما يغر المنصور ويروج به عليه حاله، لأن المنصور كان بخيلا، وكان يعجبه ذلك منه وينشد:

كلكم يمشي رويد * كلكم يطلب صيدْ * غير عمرو بن عبيدْ

ولو تبصر المنصور لعلم أن كل واحد من أولئك القراء خير من ملء الأرض مثل عمرو بن عبيد، والزهد لا يدل على صلاح، فإن بعض الرهبان قد يكون عنده من الزهد ما لا يطيقه عمرو ولا كثير من المسلمين في زمانه.

وقد روينا عن إسماعيل بن خالد القعنبني، قال: رأيت الحسن بن جعفر في المنام بعد ما مات بعبادان فقال لي: أيوب ويونس وابن عون في الجنة.

قلت: فعمرو بن عبيد ؟

قال: في النار.

ثم رآه مرة ثانية ويروى ثالثة، فيسأله فيقول له: مثل ذلك.

وقد رؤيت له منامات قبيحة، وقد أطال شيخنا في تهذيبه في ترجمته ولخصنا حاصلها في كتابنا التكميل، وأشرنا ههنا إلى نبذ من حاله ليعرف فلا يغتر به، والله أعلم.

ثم دخلت سنة ثلاث وأربعين ومائة

فيها: ندب المنصور الناس إلى غزو الديلم، لأنهم قتلوا من المسلمين خلقا، وأمر أهل الكوفة والبصرة من كان منهم يقدر على عشرة آلاف فصاعدا فليذهب مع الجيش إلى الديلم، فانتدب خلق كثير وجم غفير لذلك.

وحج بالناس عيسى بن موسى نائب الكوفة وأعمالها.

وفيها توفي: حجاج الصواف، وحميد بن رؤبة الطويل، وسليمان بن طرخان التيمي، وقد ذكرناه في التي قبلها، وعمرو بن عبيد في قول، وليث بن أبي سليم على الصحيح، ويحيى بن سعيد الأنصاري.

ثم دخلت سنة أربع وأربعين ومائة

فيها: سار محمد بن أبي العباس السفاح عن أمر عمه المنصور إلى بلاد الديلم ومعه الجيوش من الكوفة والبصرة، وواسط والموصل والجزيرة.

وفيها: قدم محمد بن أبي جعفر المنصور المهدي على أبيه من بلاد خراسان، ودخل بابنة عمه رايطة بنت السفاح بالحيرة.

وفيها: حج بالناس أبو جعفر المنصور، واستخلف على الحيرة والعسكر خازم بن خزيمة، وولى رباح بن عثمان المزني المدينة، وعزل عنها محمد بن خالد القسري، وتلقى الناس أبا جعفر المنصور إلى أثناء طريق مكة في حجه في سنة أربع وأربعين ومائة.

وكان في جملة من تلقاه عبد الله بن حسن بن حسن بن علي بن أبي طالب، فأجلسه المنصور معه على السماط، ثم جعل يحادثه بإقبال زائد بحيث إن المنصور اشتغل بذلك عن عامة غدائه، وسأله عن ابنيه إبراهيم ومحمد: لم لا جاءاني مع الناس ؟

فحلف عبد الله بن حسن أنه لا يدري أين صارا من أرض الله.

وصدق في ذلك، وما ذاك إلا أن محمد بن عبد الله بن حسن كان قد بايعه جماعة من أهل الحجاز في أواخر دولة مروان الحمار بالخلافة وخلع مروان، وكان في جملة من بايعه، على ذلك أبو جعفر المنصور، وذلك قبل تحويل الدولة إلى بني العباس، فلما صارت الخلافة إلى أبي جعفر المنصور خاف محمد بن عبد الله بن الحسن وأخوه إبراهيم منه خوفا شديدا.

وذلك لأن المنصور توهم منهما أنهما لا بد أن يخرجا عليه كما أراد أن يخرجا على مروان، والذي توهم منه المنصور وقع فيه، فذهبا هربا في البلاد الشاسعة فصارا إلى اليمن، ثم سارا إلى الهند فاختفيا بها فدل على مكانهما الحسن بن زيد فهربا إلى موضع آخر، فاستدل عليه الحسن بن زيد ودل عليهما، ثم كذلك.

وانتصب إلبا عليهما عند المنصور. والعجب منه أنه من أتباعهما.

واجتهد المنصور بكل طريق على تحصيلهما فلم يتفق له ذلك، وإلى الآن.

فلما سأل أباهما عنهما حلف أنه لا يدري أين صارا من أرض الله، ثم ألح المنصور على عبد الله في طلب ولديه فغضب عبد الله من ذلك وقال: والله لو كانا تحت قدمي ما دللتك عليهما.

فغضب المنصور وأمر بسجنه وأمر ببيع رقيقه وأمواله، فلبث في السجن ثلاث سنين، وأشاروا على المنصور بحبس بني حسن عن آخرهم فحبسهم، وجدّ في طلب إبراهيم ومحمد جدا، هذا وهما يحضران الحج في غالب السنين، ويكمنان في المدينة في غالب الأوقات، ولا يشعر بهما من ينم عليهما، ولله الحمد.

والمنصور يعزل نائبا عن المدينة ويولي عليها غيره، ويحرضه على إمساكهما والفحص عنهما، وبذل الأموال في طلبهما، وتعجزه المقادير عنهما لما يريده الله عز وجل.

وقد واطأهما على أمرهما أمير من أمراء المنصور يقال له: أبو العساكر خالد بن حسان، فعزموا في بعض الحجات على الفتك بالمنصور بين الصفا والمروة، فنهاهم عبد الله بن حسن لشرف البقعة.

وقد اطلع المنصور على ذلك وعلم بما مالأهما ذلك الأمير، فعذبه حتى أقر بما كانوا تمالؤا عليه من الفتك به.

فقال: وما الذي صرفكم عن ذلك ؟

فقال: عبد الله بن حسن نهانا عن ذلك، فأمر به الخليفة فغيب في الأرض، فلم يظهر حتى الآن.

وقد استشار المنصور من يعلم من أمرائه ووزرائه من ذوي الرأي في أمر ابني عبد الله بن حسن، وبعث الجواسيس والقصاد في البلاد فلم يقع لهما على خبر، ولا ظهر لهما على عين ولا أثر، والله غالب على أمره.

وقد جاء محمد بن عبد الله بن حسن إلى أمه فقال: يا أمه ! إني قد شفقت على أبي وعمومتي، ولقد هممت أن أضع يدي في يد هؤلاء لأريح أهلي. فذهبت أمه إلى السجن فعرضت عليهم ما قال ابنها، فقالوا: لا ولا كرامة، بل نصبر على أمره فلعل الله يفتح على يديه خيرا، ونحن نصبر وفرجنا بيد الله إن شاء فرج عنا، وإن شاء ضيق.

وتمالؤا كلهم على ذلك، رحمهم الله.

وفيها: نقل آل حسن من حبس المدينة إلى حبس بالعراق وفي أرجلهم القيود، وفي أعناقهم الأغلال.

وكان ابتداء تقييدهم من الربذة بأمر أبي جعفر المنصور، وقد أشخص معهم محمد بن عبد الله العثماني، وكان أخا عبد الله بن حسن لأمه، وكانت ابنته تحت إبراهيم بن عبد الله بن حسن، وقد حملت قريبا، فاستحضره الخليفة وقال: قد حلفت بالعتاق والطلاق إنك لم تغشني، وهذه ابنتك حامل، فإن كان من زوجها فقد حبلت منه وأنت تعلم به، وإن كان من غيره فأنت ديوث.

فأجابه العثماني بجواب أحفظه به، فأمر به فجردت عنه ثيابه فإذا جسمه مثل الفضة النقية، ثم ضربه بين يديه مائة وخمسين سوطا، منها ثلاثون فوق رأسه، أصاب أحدها عينه فسالت، ثم رده إلى السجن وقد بقي كأنه عبد أسود من زرقة الضرب، وتراكم الدماء فوق جلده، فأجلس إلى جانب أخيه لأمه عبد الله بن حسن، فاستسقى ماءً فما جسر أحد أن يسقيه حتى سقاه خراساني من جملة الجلاوزة الموكلين بهم.

ثم ركب المنصور هودجه وأركبوا أولئك في محامل ضيقة، وعليهم القيود والأغلال، فاجتاز بهم المنصور وهو في هودجه، فناداه عبد الله بن حسن: والله يا أبا جعفر ! ما هكذا صنعنا بأسرائكم يوم بدر، فأخسأ ذلك المنصور وثقل عليه ونفر عنهم.

ولما انتهوا إلى العراق حبسوا بالهاشمية، وكان فيهم محمد بن إبراهيم بن عبد الله بن حسن، وكان جميلا فتيا، فكان الناس يذهبون لينظروا إلي حسنه وجماله.

وكان يقال له: الديباج الأصغر، فأحضره المنصور بين يديه وقال له: أما لأقتلنك قتلة ما قتلتها أحدا.

ثم ألقاه بين اسطوانتين وسد عليه حتى مات.

فعلى المنصور ما يسحقه من عذاب الله ولعنته.

وقد هلك كثير منهم في السجن حتى فرج عنهم بعد هلاك المنصور على ما سنذكره.

فكان فيمن هلك في السجن عبد الله بن حسن بن حسن بن علي بن أبي طالب، وقد قيل: والأظهر أنه قتل صبرا، وأخوه إبراهيم بن الحسن وغيرهما، وقل من خرج منهم من الحبس، وقد جعلهم المنصور في سجن لا يسمعون فيه أذانا، ولا يعرفون فيه وقت صلاة إلا بالتلاوة، ثم بعث أهل خراسان يشفعون في محمد بن عبد الله العثماني، فأمر به فضربت عنقه وأرسل برأسه إلى أهل خراسان، لا جزاه الله خيرا، ورحم الله:

محمد بن عبد الله العثماني

وهو: محمد بن عبد الله بن عمرو بن عثمان بن عفان الأموي رحمه الله، أبو عبد الله المدني المعروف: بالديباج، لحسن وجهه، وأمه فاطمة بنت الحسين بن علي.

روى الحديث عن: أبيه، وأمه، وخارجة بن زيد، وطاوس، وأبي الزناد، والزهري، ونافع، وغيرهم.

وحدث عنه جماعة، ووثقه النسائي وابن حبان، وكان أخا عبد الله بن حسن لأمه، وكانت ابنته رقية زوجة ابن أخيه إبراهيم بن عبد الله، وكانت من أحسن النساء، وبسببها قتله أبو جعفر المنصور في هذه السنة.

وكان كريما جوادا ممدحا.

قال الزبير بن بكار: أنشدني سليمان بن عباس السعدي لأبي وجزة السعدي يمدحه:

وجدنا المحض الأبيض من قريش * فتى بين الخليفة والرسول

أتاك المجد من هنا وهناك * وكنت له بمعتلج السيول

فما للمجد دونك من مبيت * وما للمجد دونك من مقيل

ولا يمض وراءك يبتغيه * ولا هو قابل بك من بديل

ثم دخلت سنة خمس وأربعين ومائة

فمما كان فيها من الأحداث: مخرج محمد بن عبد الله بن حسن بالمدينة وأخيه إبراهيم بالبصرة، على ما سنبينه إن شاء الله.

أما محمد فإنه خرج على أثر ذهاب أبي جعفر المنصور بأهله بني حسن من المدينة إلى العراق على الصفة والنعت الذي تقدم ذكره، وسجنهم في مكان ساء مستقرا ومقاما، لا يسمعون فيه آذانا ولا يعرفون فيه دخول أوقات صلوات إلا بالأذكار والتلاوة.

وقد مات أكثر أكابرهم هنالك رحمهم الله.

هذا كله ومحمد الذي يطلبه مختف بالمدينة، حتى أنه في بعض الأحيان اختفى في بئر نزل في مائه كله إلا رأسه، وباقيه مغمور بالماء، وقد تواعد هو وأخوه وقتا معينا يظهران فيه، هو بالمدينة وإبراهيم بالبصرة، ولم يزل الناس - أهل المدينة وغيرهم - يؤنبون محمد بن عبد الله في اختفائه وعدم ظهوره حتى عزم على الخروج، وذلك لما أضرَّ به شدة الاختفاء وكثرة إلحاح رياح نائب المدينة في طلبه ليلا ونهارا، فلما اشتد به الأمر وضاق الحال واعد أصحابه على الظهور في الليلة الفلانية، فلما كانت تلك الليلة جاء بعض الوشاة إلى متولي المدينة فأعلمه بذلك، فضاق ذرعا وانزعج لذلك انزعاجا شديدا، وركب في جحافله فطاف المدينة وحول دار مروان، وهم مجتمعون بها، فلم يشعر بهم.

فلما رجع إلى منزله بعث إلى بني حسين بن علي فجمعهم ومعهم رؤوس من سادات قريش وغيرهم، فوعظهم وأنبهم وقال: يا معشر أهل المدينة، أمير المؤمنين يتطلب هذا الرجل في المشارق والمغارب وهو بين أظهركم، ثم ما كفاكم حتى بايعتموه على السمع والطاعة؟ والله لا يبلغني عن أحد منكم خرج معه إلا ضربت عنقه.

فأنكر الذين هم هنالك حاضرون أن يكون عندهم علم أو شعور بشيء من هذا، وقالوا: نحن نأتيك برجال مسلحين يقاتلون دونك إن وقع شيء من ذلك.

فنهضوا فجاؤوه بجماعة مسلحين فاستأذنوه في دخولهم عليه، فقال: لا إذن لهم، إني أخشى أن يكون ذلك خديعة.

فجلس أولئك على الباب ومكث الناس جلوسا حول الأمير وهو واجم لا يتكلم إلا قليلا حتى ذهبت طائفة من الليل، ثم ما فجيء الناس إلا وأصحاب محمد بن عبد الله قد ظهروا وأعلنوا بالتكبير، فانزعج الناس في جوف الليل، وأشار بعض الناس على الأمير أن يضرب أعناق بني حسين، فقال أحدهم: علام ونحن مقرون بالطاعة ؟

واشتغل الأمير عنهم بما فجأه من الأمر، فاغتنموا الغفلة ونهضوا سراعا فتسوروا جدار الدار وألقوا أنفسهم على كناسة هنالك.

وأقبل محمد بن عبد الله بن حسن في مائتين وخمسين، فمر بالسجن فأخرج من فيه، وجاء دار الإمارة فحاصرها فافتتحها ومسك الأمير رياح بن عثمان نائب المدينة فسجنه في دار مروان، وسجن معه ابن مسلم بن عقبة، وهو الذي أشار بقتل بني حسين في أول هذه الليلة فنجوا وأحيط به، وأصبح محمد بن عبد الله بن حسن وقد استظهر على المدينة ودان له أهلها، فصلى بالناس الصبح وقرأ فيها سورة إنا فتحنا لك فتحا مبينا.

وأسفرت هذه الليلة عن مستهل رجب من هذه السنة.

وقد خطب محمد بن عبد الله أهل المدينة في هذا اليوم، فتكلم في بني العباس وذكر عنهم أشياء ذمهم بها، وأخبرهم أنه لم ينزل بلدا من البلدان إلا وقد بايعوه على السمع والطاعة، فبايعه أهل المدينة كلهم إلا القليل.

وقد روى ابن جرير عن الإمام مالك: أنه أفتى الناس بمبايعته.

فقيل له: فإن في أعناقنا بيعة للمنصور.

فقال: إنما كنتم مكرهين وليس لمكره بيعة.

فبايعه الناس عند ذلك عن قول مالك، ولزم مالك بيته.

وقد قال له إسماعيل بن عبد الله بن جعفر حين دعاه إلى بيعته: يا ابن أخي إنك مقتول.

فارتدع بعض الناس عنه واستمر جمهورهم معه، فاستناب عليهم عثمان بن محمد بن خالد بن الزبير، وعلى قضائها عبد العزيز بن المطلب بن عبد الله المخزومي، وعلى شرطتها عثمان بن عبد الله بن عمر بن الخطاب، وعلى ديوان العطاء عبد الله بن جعفر بن عبد الله بن مسور بن مخرمة، وتلقب: بالمهدي، طمعا في أن يكون المذكور بالأحاديث فلم يكن به، ولا تم له ما رجاه ولا تمناه، فإنا لله.

وقد ارتحل بعض أهل المدينة عنها ليلة دخلها، فطوى المراحل البعيدة إلى المنصور في سبع ليال، فورد عليه فوجده نائما في الليل، فقال للربيع الحاجب: استأذن على الخليفة.

فقال: إنه لا يوقظ في هذه الساعة.

فقال: إنه لا بد من ذلك فأخبر الخليفة. فخرج.

فقال: ويحك ! ما وراءك ؟

فقال: إنه خرج ابن حسن بالمدينة.

فلم يظهر المنصور لذلك اكتراثا وانزعاجا، بل قال: أنت رأيته ؟

قال: نعم !

فقال: هلك والله وأهلك معه من اتبعه، ثم أمر بالرجل فسجن، ثم جاءت الأخبار بذلك فتواترت.

فأطلقه المنصور وأطلق له عن كل ليلة ألف درهم فأعطاه سبعة آلاف درهم.

ولما تحقق المنصور الأمر من خروجه ضاق ذرعا، فقال له بعض المنجمين: يا أمير المؤمنين ! لا عليك منه فوالله لو ملك الأرض بحذافيرها فإنه لا يقيم أكثر من سبعين يوما.

ثم أمر المنصور جميع رؤوس الأمراء أن يذهبوا إلى السجن فيجتمعوا بعبد الله بن حسن - والد محمد - فيخبروه بما وقع من خروج ولده ويسمعوا ما يقول لهم.

فلما دخلوا عليه أخبروه بذلك فقال: ما ترون ابن سلامة فاعلا ؟

يعني المنصور -، فقالوا: لا ندري.

فقال: والله لقد قتل صاحبكم البخل ينبغي له أن ينفق الأموال ويستخدم الرجال، فإن ظهر فاسترجاع ما أنفق سهل، وإلا لم يكن لصاحبكم شيء في الخزائن وكان ما خزن لغيره.

فرجعوا إلى الخليفة فأخبروه بذلك، وأشار الناس على الخليفة بمناجزته، فاستدعى عيسى بن موسى فندبه إلى ذلك، ثم قال: إني سأكتب إليه كتابا أنذره به قبل قتاله.

فكتب إليه: بسم الله الرحمن الرحيم ! من عبد الله بن عبد الله أمير المؤمنين، إلى محمد بن عبد الله: { إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادا } الآية إلى قوله: { فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ } [المائدة: 33-34] .

ثم قال: فلك عهد الله وميثاقه وذمته وذمة رسوله، إن أنت رجعت إلى الطاعة لأؤمننك ومن اتبعك، ولأعطينك ألف ألف درهم، ولأدعنك تقيم في أحب البلاد إليك، ولأقضين لك جميع حوائجك، في كلام طويل.

فكتب إليه محمد جواب كتابه: من عبد الله المهدي محمد بن عبد الله بن حسن: بسم الله الرحمن الرحيم { طسم * تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ * نَتْلُوا عَلَيْكَ مِنْ نَبَإِ مُوسَى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ * إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ * وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ } [القصص: 1-5] .

ثم قال: وإني أعرض عليك من الأمان ما عرضت عليّ، فأنا أحق بهذا الأمر منكم، وأنتم إنما وصلتم إليه بنا، فإن عليا كان الوصيّ وكان الإمام، فكيف ورثتم ولايته وولده أحياء ؟

ونحن أشرف أهل الأرض نسبا، فرسول الله خير الناس وهو جدنا، وجدتنا خديجة وهي أفضل زوجاته، وفاطمة ابنته أمنا وهي أكرم بناته، وإن هاشما ولد عليا مرتين، وإن حسنا ولده عبد المطلب مرتين، وهو وأخوه سيدا شباب أهل الجنة، وإن رسول الله ولد أبي مرتين، وإني أوسط بني هاشم نسبا، فأنا ابن أرفع الناس درجة في الجنة، وأخفهم عذابا في النار.

فأنا أولى بالأمر منك، وأولى بالعهد وأوفى به منك، فإنك تعطي العهد ثم تنكث ولا تفي، كما فعلت بابن هبيرة فإنك أعطيته العهد ثم غدرت به، ولا أشد عذابا من إمام غادر، وكذلك فعلت بعمك عبد الله بن علي، وأبي مسلم الخراساني.

ولو أعلم أنك تصدق لأجبتك لما دعوتني إليه، ولكن الوفاء بالعهد من مثلك لمثلي بعيد والسلام.

فكتب إليه أبو جعفر جواب ذلك في كتاب طويل حاصله: أما بعد فقد قرأت كتابك فإذا جلَّ فخرك وإدلالك قرابة النساء لتضل به الجفاة والغوغاء، ولم يجعل الله النساء كالعمومة والآباء، ولا كالعصبية والأولياء، وقد أنزل الله: { وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ } [الشعراء: 214] .

وكان له حينئذ أربعة أعمام، فاستجاب له اثنان أحدهما جدنا، وكفر اثنان أحدهما أبوك - يعني: جده أبا طالب - فقطع الله ولايتهما منه ولم يجعل بينهما إلّا ولا ذمة، وقد أنزل الله في عدم إسلام أبي طالب: { إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ } [القصص: 56] .

وقد فخرت به وأنه أخف أهل النار عذابا، وليس في الشر خيار، ولا ينبغي لمؤمن أن يفخر بأهل النار، وفخرت بأن عليا ولده هاشم مرتين.

وأن حسنا ولده عبد المطلب مرتين، فهذا رسول الله إنما ولده عبد الله مرة واحدة، وقولك إنك لم تلد أمهات أولاد، فهذا إبراهيم بن رسول الله من مارية، وهو خير منك، وعلي بن الحسن من أم ولد وهو خير منك، وكذلك ابنه محمد بن علي، وابنه جعفر بن محمد جداتهما أمهات أولاد وهما خير منك، وأما قولك بنو رسول الله فقد قال تعالى: { مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ } [الأحزاب: 40] .

وقد جاءت السنة التي لا خلاف فيها بين المسلمين أن الجد أبا الأم والخال والخالة لا يورثون، ولم يكن لفاطمة ميراث من رسول الله بنص الحديث.

وقد مرض رسول الله وأبوك حاضر فلم يأمره بالصلاة بالناس، بل أمر غيره.

ولما توفي لم يعدل الناس بأبي بكر وعمر أحدا، ثم قدموا عليه عثمان في الشورى والخلافة، ثم لما قتل عثمان اتهمه بعضهم به، وقاتله طلحة والزبير على ذلك، وامتنع سعد من مبايعته ثم بعد ذلك معاوية، ثم طلبها أبوك وقاتل عليها الرجال، ثم اتفق على التحكيم فلم يفِ به، ثم صارت إلى الحسن فباعها بخرق ودراهم، وأقام بالحجاز يأخذ مالا من غير حله، وسلم الأمر إلى غير أهله، وترك شيعته في أيدي بني أمية ومعاوية.

فإن كانت لكم فقد تركتموها وبعتموها بثمنها.

ثم خرج عمك حسين على ابن مرجانة وكان الناس معه عليه حتى قتلوه وأتوا برأسه إليه، ثم خرجتم على بني أمية فقتلوكم وصلبوكم على جذوع النخل، وحرقوكم بالنار، وحملوا نساءكم على الإبل كالسبايا إلى الشام، حتى خرجنا عليهم نحن، فأخذنا بثأركم، وأدركنا بدمائكم، وأورثناكم أرضهم وديارهم، وذكرنا فضل سلفكم، فجعلت ذلك حجة علينا، وظننت أنا إنما ذكرنا فضله على أمثاله على حمزة والعباس وجعفر، وليس الأمر كما زعمت، فإن هؤلاء مضوا ولم يدخلوا في الفتن، وسلموا من الدنيا فلم تنقصهم شيئا، فاستوفوا ثوابهم كاملا، وابتلى بذلك أبوك.

وكانت بنوا أمية تلعنه كما تلعن الكفرة في الصلوات المكتوبات، فأحيينا ذكره وذكرنا فضله وعنفناهم بما نالوا منه، وقد علمت أن مكرمتنا في الجاهلية بسقاية الحجيج الأعظم، وخدمة زمزم، وحكم رسول الله لنا بها.

ولما قحط الناس زمن عمر استسقى بأبينا العباس، وتوسل به إلى ربه وأبوك حاضر، وقد علمت أنه لم يبق أحد من بني عبد المطلب بعد رسول الله إلا العباس، فالسقاية سقايته، والوراثة وراثته، والخلافة في ولده، فلم يبق شرف في الجاهلية والإسلام إلا والعباس وارثه ومورثه، في كلام طويل فيه بحث ومناظرة وفصاحة.

وقد استقصاه ابن جرير بطوله، والله سبحانه أعلم.

فصل مقتل محمد بن عبد الله بن حسن

بعث محمد بن عبد الله بن حسن في غبون ذلك رسولا إلى أهل الشام يدعوهم إلى بيعته وخلافته فأبوا قبول ذلك منه، وقالوا: قد ضجرنا من الحروب ومللنا من القتال.

وجعل يستميل رؤوس أهل المدينة، فمنهم من أجابه ومنهم من امتنع عليه، وقال له بعضهم: كيف أبايعك وقد ظهرت في بلد ليس فيه مال تستعين به على استخدام الرجال ؟

ولزم بعضهم منزله فلم يخرج حتى قتل محمد.

و بعث محمد هذا الحسين بن معاوية في سبعين رجلا ونحوا من عشرة فوارس إلى مكة نائبا إن هو دخلها فساروا إليها، فلما بلغ أهلها قدومهم خرجوا إليهم في ألوف من المقاتلة، فقال لهم الحسين بن معاوية: علام تقاتلون وقد مات أبو جعفر ؟

فقال السري بن عبد الله زعيم أهل مكة: إن برده جاءتنا من أربع ليال وقد أرسلت إليه كتابا فأنا أنتظر جوابه إلى أربع، فإن كان ما تقولون حقا سلمتكم البلد وعلي مؤنة رجالكم وخيلكم.

فامتنع الحسن بن معاوية من الانتظار وأبى إلا المناجزة، وحلف لا يبيت الليلة إلا بمكة، إلا أن يموت.

وأرسل إلى السري: أن أبرز من الحرم إلى الحل حتى لا تراق الدماء في الحرم.

فلم يخرج، فتقدموا إليهم فصافّوهم فحمل عليه الحسن وأصحابه حملة واحدة فهزموهم وقتلوا منهم نحو سبعة، ودخلوا مكة.

فلما أصبحوا خطب الحسن بن معاوية الناس وأغراهم بأبي جعفر، ودعاهم إلى محمد بن عبد الله بن حسن المهدي.

خروج إبراهيم بن عبد الله بن حسن

وظهر بالبصرة أيضا إبراهيم بن عبد الله بن حسن، وجاء البريد إلى أخيه محمد فانتهى إليه ليلا ً فاستؤذن له عليه وهو بدار مروان فطرق بابها.

فقال: اللهم إني أعوذ بك من شر طوارق الليل والنهار إلا طارقا يطرق بخير يا رحمن.

ثم خرج فأخبر أصحابه عن أخيه فاستبشروا جدا وفرحوا كثيرا، وكان يقول للناس بعد صلاة الصبح والمغرب: ادعوا الله لإخوانكم أهل البصرة، وللحسن بن معاوية بمكة، واستنصروه على أعدائكم.

وأما ما كان من المنصور فإنه جهز الجيوش إلى محمد بن عبد الله بن حسن، صحبة عيسى بن موسى عشرة آلاف فارس من الشجعان المنتخبين، منهم: محمد بن أبي العباس السفاح، وجعفر بن حنظلة البهراني، وحميد بن قحطبة، وكان المنصور قد استشاره فيه فقال: يا أمير المؤمنين ! ادع بمن شئت ممن تثق به من مواليك فابعث بهم إلى وادي القرى يمنعونهم من ميرة الشام، فيموت هو ومن معه جوعا، فإنه ببلد ليس فيه مال ولا رجال ولا كراع ولا سلاح.

وقدم بين يديه كثير بن الحصين العبدي وقد قال المنصور لعيسى بن موسى حين ودعه: يا عيسى ! إني أبعثك إلى جنبي هذين فإن ظفرت بالرجل فشمَّ سيفك، وناد في الناس بالأمان، وإن تغيب فضمنهم إياه حتى يأتوك به، فإنهم أعلم بمذاهبه.

وكتب معه كتبا إلى رؤساء قريش والأنصار من أهل المدينة يدفعها إليهم خفية يدعوهم إلى الرجوع إلى الطاعة.

فلما اقترب عيسى بن موسى من المدينة بعث الكتب مع رجل فأخذه حرس محمد بن عبد الله بن حسن، فوجدوا معه تلك الكتب فدفعوها إلى محمد فاستحضر جماعة من أولئك فعاقبهم وضربهم ضربا شديدا، وقيدهم قيودا ثقالا، وأودعهم السجن.

ثم إن محمدا استشار أصحابه بالقيام بالمدينة حتى يأتي عيسى بن موسى فيحاصرهم بها، أو أنه يخرج بمن معه فيقاتل أهل العراق ؟

فمنهم من أشار بهذا، ومنهم من أشار بذاك، ثم اتفق الرأي على المقام بالمدينة لأن رسول الله ندم يوم أحد على الخروج منها، ثم اتفقوا على حفر خندق حول المدينة، كما فعل رسول الله يوم الأحزاب، فأجاب إلى ذلك كله، وحفر مع الناس في الخندق بيده اقتداء برسول الله ، وقد ظهر لهم لبنة من الخندق الذي حفره رسول الله ، ففرحوا بذلك وكبروا وبشروه بالنصر.

وكان محمد حاضرا عليه قباء أبيض وفي وسطه منطقة، وكان شكلا ضخما أسمر عظيم الهامة.

ولما نزل عيسى بن موسى الأعوص، واقترب من المدينة صعد محمد بن عبد الله المنبر فخطب الناس وحثهم على الجهاد - وكانوا قريبا من مائة ألف - فقال لهم جملة ما قال: إني جعلتكم في حل من بيعتي، فمن أحب منكم أن يقيم عليها فعل، ومن أحب أن يتركها فعل.

فتسلل كثير منهم أو أكثرهم عنه، ولم يبق إلا شرذمة قليلة معه، وخرج أكثر أهل المدينة بأهليهم منها لئلا يشهدوا القتال بها، فنزلوا الأعراض ورؤوس الجبال.

وقد بعث محمد أبا الليث ليردهم عن الخروج فلم يمكنه ذلك في أكثرهم، واستمروا ذاهبين.

وقال محمد لرجل: أتأخذ سيفا ورمحا وترد هؤلاء الذين خرجوا من المدينة ؟

فقال: نعم ! إن أعطيتني رمحا أطعنهم وهم بالأعراض، وسيفا أضربهم وهم في رؤوس الجبال فعلت.

فسكت محمد ثم قال لي: ويحك ! إن أهل الشام والعراق وخراسان قد بيضوا - يعني: لبسوا البياض - موافقة لي وخلعوا السواد.

فقال: وماذا ينفعني أن لو بقيت الدنيا زبدة بيضاء وأنا في مثل صوفة الدواة؟ وهذا عيسى بن موسى نازل بالأعوص.

ثم جاء عيسى بن موسى فنزل قريبا من المدينة، على ميل منها، فقال له دليله ابن الأصم: إني أخشى إذا كشفتموهم أن يرجعوا إلى معسكرهم سريعا قبل أن تدركهم الخيل.

ثم ارتحل به فأنزله الجرف على سقاية سليمان بن عبد الملك على أربعة أميال من المدينة، وذلك يوم السبت لصبح اثنتي عشرة ليلة خلت من رمضان من هذه السنة.

وقال: إن الراجل إذا هرب لا يقدر على الهرولة أكثر من ميلين أو ثلاثة فتدركه الخيل.

وأرسل عيسى بن موسى خمسمائة فارس فنزلوا عند الشجرة في طريق مكة، وقال لهم: هذا الرجل إن هرب فليس له ملجأ إلا مكة، فحولوا بينه وبينها.

ثم أرسل عيسى إلى محمد يدعوه إلى السمع والطاعة لأمير المؤمنين المنصور، وأنه قد أعطاه الأمان له ولأهل بيته إن هو أجابه، فقال محمد للرسول: لولا أن الرسل لا تقتل لقتلتك.

ثم بعث إلى عيسى بن موسى يقول له: إني أدعوك إلى كتاب الله وسنة رسوله، فاحذر أن تمتنع فأقتلك، فتكون شر قتيل، أو تقتلني فتكون قتلت من دعاك إلى الله ورسوله.

ثم جعلت الرسل تتردد بينهما ثلاثة أيام، هذا يدعو هذا، وهذا يدعو هذا، وجعل عيسى بن موسى يقف في كل يوم من هذه الأيام الثلاثة على الثنية عند سلع فينادي: يا أهل المدينة ! إن دماءكم علينا حرام فمن جاءنا فوقف تحت رايتنا فهو آمن، ومن خرج من المدينة فهو آمن، ومن دخل داره فهو آمن، ومن ألقى سلاحه فهو آمن، فليس لنا في قتالكم إرب، وإنما نريد محمدا وحده لنذهب به إلى الخليفة.

فجعلوا يسبونه وينالون من أمه، ويكلمونه بكلام شنيع، ويخاطبونه مخاطبة فظيعة، وقالوا له: هذا ابن رسول الله معنا ونحن معه، نقاتل دونه.

فلما كان اليوم الثالث أتاهم في خيل ورجال وسلاح ورماح لم ير مثلها، فناداه: يا محمد ! إن أمير المؤمنين أمرني أن لا أقاتلك حتى أدعوك إلى الطاعة، فإن فعلت أمنك وقضى دينك وأعطاك أموالا وأراضي، وإن أبيت قاتلتك فقد دعوتك غير مرة.

فناداه محمد: إنه ليس لكم عندي إلا القتال.

فنشبت الحرب حينئذ بينهم، وكان جيش عيسى بن موسى فوق أربعة آلاف، وعلى مقدمته حميد بن قحطبة، وعلى ميمنته محمد بن السفاح، وعلى ميسرته داود بن كرار، وعلى الساقة الهيثم بن شعبة، ومعهم عدد لم ير مثلها.

وفرق عيسى أصحابه في كل قطر طائفة.

وكان محمد وأصحابه على عدة أصحاب أهل بدر، واقتتل الفريقان قتالا شديدا جدا، وترجل محمد إلى الأرض فيقال: إنه قتل بيده من جيش عيسى بن موسى سبعين رجلا من أبطالهم، وأحاط بهم أهل العراق فقتلوا طائفة من أصحاب محمد بن عبد الله بن حسن، فاقتحموا عليهم الخندق الذي كانوا قد حفروه وعملوا أبوابا على قدره.

وقيل: إنهم ردموه بحدائج الجمال حتى أمكنهم أن يجوزوه، وقد يكونون فعلوا هذا موضع منه، وهذا في موضع آخر، والله أعلم.

ولم تزل الحرب ناشبة بينهم حتى صليت العصر، فلما صلى العصر نزلوا إلى مسيل الوادي بسلع فكسر جفن سيفه وعقر فرسه وفعل أصحابه مثله وصبروا أنفسهم للقتال، وحميت الحرب حينئذ جدا، فاستظهر أهل العراق ورفعوا راية سوداء فوق سلع، ثم دنوا إلى المدينة فدخلوها ونصبوا راية سوداء فوق مسجد رسول الله .

فلما رأى ذلك أصحاب محمد تنادوا: أخذت المدينة، وهربوا وبقي محمد في شرذمة قليلة جدا، ثم بقي وحده وليس معه أحد، وفي يده سيف صلت يضرب به من تقدم إليه، فكان لا يقوم له شيء إلا أنامه، حتى قتل خلقا أهل العراق من الشجعان، ويقال: إنه كان في يده يومئذ ذو الفقار ثم تكاثر عليه الناس فتقدم إليه رجل فضربه بسيفه تحت شحمة أذنه اليمنى فسقط لركبته وجعل يحمي نفسه ويقول: ويحكم ! ابن نبيكم مجروح مظلوم.

وجعل حميد بن قحطبة يقول: ويحكم ! دعوه لا تقتلوه.

فأحجم عنه الناس، وتقدم إليه حميد بن قحطبة فحز رأسه وذهب به إلى عيسى بن موسى فوضعه بين يديه.

وكان حميد قد حلف أن يقتله متى رآه، فما أدركه إلا كذلك ولو كان على حاله وقوته لمات استطاعه حميد ولا غيره من الجيش.

وكان مقتل محمد بن عبد الله بن حسن عند أحجار الزيت يوم الاثنين بعد العصر لأربع عشرة ليلة خلت من رمضان سنة خمس وأربعين ومائة.

وقال عيسى بن موسى لأصحابه حين وضع رأسه بين يديه: ما تقولون فيه ؟

فنال منه أقوام وتكلموا فيه، فقال رجل: كذبتم والله ! لقد كان صواما قواما، ولكنه خالف أمير المؤمنين وشق عصى المسلمين فقتلناه على ذلك. فسكتوا حينئذ.

وأما سيفه ذو الفقار فإنه صار إلى بني العباس يتوارثونه حتى جربه بعضهم فضرب به كلبا فانقطع. ذكره ابن جرير وغيره.

وقد بلغ المنصور في غبون هذا الأمر أن محمدا فرَّ من الحرب فقال: هذا لا يكون، فإنا أهل بيت لا نفرّ.

وقال ابن جرير: حدثني عبد الله بن راشد، حدثني أبو الحجاج، قال: إني لقائم على رأس المنصور وهو يسألني عن مخرج محمد، إذ بلغه أن عيسى بن موسى قد انهزم وكان متكئا فجلس فضرب بقضيب معه مصلاه وقال: كلا ! وأين لعب صبياننا بها على المنابر ومشورة النساء؟ ما أنى لذلك بعد !

وبعث عيسى بن موسى بالبشارة إلى المنصور مع القاسم بن حسن، وبالرأس مع ابن أبي الكرام، وأمر بدفن الجثة فدفن بالبقيع، وأمر بأصحابه الذين قتلوا معه فصلبوا صفين ظاهر المدينة ثلاثة أيام ثم طرحوه على مقبرة اليهود عند سلع. ثم نقلوا إلى خندق هناك.

وأخذ أموال بني حسن كلها فسوغها له المنصور، ويقال: إنه ردها بعد ذلك إليهم، حكاه ابن جرير.

ونودي في أهل المدينة بالأمان فأصبح الناس في أسواقهم، وترفع عيسى بن موسى في الجيش إلى الجرف من مطر أصاب الناس يوم قتل محمد، وجعل ينتاب المسجد من الجرف، وأقام بالمدينة إلى اليوم التاسع عشر من رمضان، ثم خرج منها قاصدا مكة وكان بها الحسن بن معاوية من جهة محمد، وكان محمد قد كتب إليه يقدم عليه، فلما خرج من مكة وكان ببعض الطريق تلقته الأخبار بقتل محمد، فاستمر فارا إلى البصرة إلى أخي محمد إبراهيم بن عبد الله، الذي كان قد خرج بها ثم قتل بعد أخيه في هذه السنة على ما سنذكره.

ولما جيء المنصور برأس محمد بن عبد الله بن حسن فوضع بين يديه أمر به فطيف به في طبق أبيض، ثم طيف به في الأقاليم بعد ذلك، ثم شرع المنصور في استدعاء من خرج مع محمد من أشراف أهل المدينة، فمنهم من قتله، ومنهم من ضربه ضربا مبرحا، ومنهم من عفا عنه.

ولما توجه عيسى إلى مكة استناب على المدينة كثير بن حصين، فاستمر بها شهرا حتى بعث المنصور على نيابتها عبد الله بن الربيع، فعاث جنده في المدينة فصاروا إذا اشتروا من الناس شيئا لا يعطونهم ثمنه، وإن طولبوا بذاك ضربوا المطالب وخوفوه بالقتل، فثار عليهم طائفة من السودان واجتمعوا ونفخوا في بوق لهم، فاجتمع على صوته كل أسود في المدينة، وحملوا عليهم حملة واحدة وهم ذاهبون إلى الجمعة، لسبع بقين من ذي الحجة من هذه السنة.

وقيل: لخمس بقين من شوال منها، فقتلوا من الجند طائفة كثيرة بالمزاريق وغيرها، وهرب الأمير عبد الله بن ربيع وترك صلاة الجمعة.

وكان رؤوس السودان: وثيق، ويعقل، ورمقة، وحديا، وعنقود، ومسعر، وأبو النار.

فلما رجع عبد الله بن الربيع ركب في جنوده والتقى مع السودان فهزموه أيضا فلحقوه بالبقيع، فألقى لهم رداءه يشغلهم فيه حتى نجا بنفسه ومن اتبعه، فلحق ببطن نخل على ليلتين من المدينة، ووقع السودان على طعام للمنصور كان مخزونا في دار مروان قد قدم به في البحر فنهبوه ونهبوا ما للجند الذين بالمدينة من دقيق وسويق وغيره، وباعوا ذلك بأرخص ثمن.

وذهب الخبر إلى المنصور بما كان من أمر السودان، وخاف أهل المدينة من معرة ذلك، فاجتمعوا وخطبهم ابن أبي سبرة - وكان مسجونا - فصعد المنبر وفي رجليه القيود، فحثهم على السمع والطاعة للمنصور، وخوفهم شر ما صنعه مواليهم، فاتفق رأيهم على أن يكفوا مواليهم ويفرقوهم ويذهبوا إلى أميرهم فيردوه إلى عمله، ففعلوا ذلك، فسكن الأمر، وهدأ الناس وانطفأت الشرور، ورجع عبد الله بن الربيع إلى المدينة فقطع يد وثيق وأبي النار ويعقل ومسعر.

ذكر خروج إبراهيم بن عبد الله بن حسن بالبصرة

كان إبراهيم قد هرب إلى البصرة فنزل في بني ضبيعة من أهل البصرة، في دار الحارث بن عيسى، وكان لا يرى بالنهار، وكان قدومه إليها بعد أن طاف بلادا كثيرةً جدا، وجرت عليه وعلى أخيه خطوبٌ شديدةٌ هائلةٌ، وانعقد أسباب هلاكهما في أوقاتٍ متعددةٍ، ثم كان آخر ما استقر أمره بالبصرة في سنة ثلاث وأربعين ومائة، بعد منصرف الحجيج.

وقيل: إن قدومه إليها كان في مستهل رمضان سنة خمس وأربعين ومائة، بعثه أخوه إليها بعد ظهوره بالمدينة. قاله الواقدي.

قال: وكان يدعو في السر إلى أخيه، فلما قتل أخوه أظهر الدعوة إلى نفسه في شوال من هذه السنة، والمشهور أنه قدمها في حياة أخيه ودعا لنفسه كما تقدم، والله أعلم.

ولما قدم البصرة نزل عند يحيى بن زياد بن حسان النبطي، فاختفى عنده هذه المدة كلها، حتى ظهر في هذه السنة في دار أبي فروة، وكان أول من بايعه: نميلة بن مرة، وعبد الله بن سفيان، وعبد الواحد بن زياد، وعمر بن سلمة الهجيمي، وعبيد الله بن يحيى بن حصين الرقاشي.

وندبوا الناس إليه فاستجاب له خلقٌ كثيرٌ فتحول إلى دار أبي مروان في وسط البصرة، واستفحل أمره، وبايعه فئام من الناس، وتفاقم الخطب به، وبلغ خبره إلى المنصور فازداد غما إلى غمه بأخيه محمد، وذلك لأنه ظهر قبل مقتل أخيه وإنما كان سبب تعجيله الظهور كتاب أخيه إليه فامتثل أمره ودعا إلى نفسه، فانتظم أمره بالبصرة.

وكان نائبها من جهة المنصور سفيان بن معاوية وكان ممالئا لإبراهيم هذا في الباطن، ويبلغه أخباره فلا يكترث بها، ويكذب من أخبره ويود أن يتضح أمر إبراهيم، وقد أمده المنصور بأميرين من أهل خراسان معهما ألفا فارس، وراجل، فأنزلهما عنده ليتقوى بهما على محاربة إبراهيم، وتحول المنصور من بغداد - وكان قد شرع في عمارتها - إلى الكوفة، وجعل كلما اتهم رجلا من أهل الكوفة في أمر إبراهيم بعث إليه يقتله في الليل في منزله، وكان الفرافصة العجلي قد همَّ بالوثوب بالكوفة فلم يمكنه ذلك لمكان المنصور بها، وجعل الناس يقصدون البصرة من كل فج لمبايعة إبراهيم، ويفدون إليها جماعات وفرادى، وجعل المنصور يرصد لهم المسالح فيقتلونهم في الطريق ويأتونه برؤوسهم فيصلبها بالكوفة ليتعظ بها الناس.

وأرسل المنصور إلى حرب الراوندي - وكان مرابطا بالجزيرة في ألفي فارس لقتال الخوارج - يستدعيه إليه إلى الكوفة، فأقبل بمن معه فاجتاز ببلدة بها أنصار لإبراهيم فقالوا له: لا ندعك تجتاز، لأن المنصور إنما دعاك لقتال إبراهيم.

فقال: ويحكم ! دعوني.

فأبوا فقاتلهم فقتل منهم خمسمائة وأرسل برؤوسهم إلى المنصور.

فقال: هذا أول الفتح.

ولما كانت ليلة الاثنين مستهل رمضان من هذه السنة، خرج إبراهيم في الليل إلى مقبرة بني يشكر في بضعة عشر فارسا، وقدم في هذه الليلة أبو حماد الأبرص في ألفي فارس مدادا لسفيان بن معاوية، فأنزلهم الأمير في القصر، ومال إبراهيم وأصحابه على دواب أولئك الجيش وأسلحتهم فأخذوها جميعا، فتقووا بها، فكان هذا أول ما أصاب.

وما أصبح الصباح إلا وقد استظهر جدا، فصلى بالناس صلاة الصبح في المسجد الجامع، والتف الخلائق عليه ما بين ناظر وناصر، وتحصن سفيان بن معاوية نائب الخليفة بقصر الإمارة وحبس عنده الجنود فحاصرهم إبراهيم، فطلب سفيان بن معاوية من إبراهيم الأمان فأعطاه الأمان، ودخل إبراهيم قصر الإمارة فبسطت له حصير ليجلس عليها في مقدم إيوان القصر، فهبت الريح فقلبت الحصير ظهرا لبطن، فتطير الناس بذلك.

فقال إبراهيم: إنا لا نتطير.

وجلس على ظهر الحصير، وأمر بحبس سفيان بن معاوية مقيدا وأراد بذلك براءة ساحته عند المنصور، واستحوذ على ما كان في بيت المال فإذا فيه ستمائة ألف، وقيل: ألفا ألف. فقوي بذلك جدا.

وكان في البصرة جعفر ومحمد ابنا سليمان بن علي، وهما ابنا عم الخليفة المنصور، فركبا في ستمائة فارس إليه فهزمهما، وأركب إبراهيم المضاء بن القاسم في ثمانية عشر فارسا وثلاثين راجلا، فهزم ستمائة فارس كانت لهما، وأمن من بقي منهم.

وبعث إبراهيم إلى أهل الأهواز فبايعوه وأطاعوه، وأرسل إلى نائبها مائتي فارس عليهم المغيرة فخرج إليه محمد بن الحصين نائب البلاد في أربعة آلاف فارس فهزمه المغيرة واستحوذ على البلاد.

وبعث إبراهيم إلى بلاد فارس فأخذها، وكذلك واسط والمدائن والسواد، واستفحل أمره جدا، ولكن لما جاءه نعي أخيه محمد انكسر جدا، وصلى بالناس يوم العيد وهو مكسور.

قال بعضهم: والله لقد رأيت الموت في وجهه، وهو يخطب الناس فنعى إلى الناس أخاه محمدا، فازداد الناس حنقا على المنصور وأصبح فعسكر بالناس، واستناب على البصرة نميلة وخلف ابنه حسنا معه.

ولما بلغ المنصور خبره تحير في أمره وجعل يتأسف على ما فرق من جنده في الممالك، وكان قد بعث مع ابنه المهدي ثلاثين ألفا إلى الري، وبعث مع محمد بن الأشعث إلى إفريقية أربعين ألفا والباقون مع عيسى بن موسى بالحجاز، ولم يبق مع المنصور سوى ألفي فارس.

وكان يأمر بالنيران الكثيرة فتوقد ليلا، فيحسب الناظر إليها أن ثمَّ جندا كثيرا.

ثم كتب المنصور إلى عيسى بن موسى: إذا قرأت كتابي هذا فأقبل من فورك ودع كل ما أنت فيه.

فلم ينشب أن أقبل إليه فقال له: اذهب إلى إبراهيم بالبصرة ولا يهولنك كثرة من معه، فإنهم جملا بني هاشم المقتولان جميعا، فابسط يدك وثق بما عندك وستذكر ما أقول لك. فكان الأمر كما قال المنصور.

وكتب المنصور إلى ابنه المهدي أن يوجه خازم بن خزيمة في أربعة آلاف إلى الأهواز، فذهب إليها فأخرج منها نائب إبراهيم - وهو المغيرة - وأباحها ثلاثة أيام، ورجع المغيرة إلى البصرة، وكذلك بعث إلى كل كورة من هذه الكور التي نقضت بيعته جندا يردون أهلها إلى الطاعة.

قالوا: ولزم المنصور موضع مصلاه فلا يبرح منه ليلا ونهارا في ثيابٍ بذلةٍ قد اتسخت، فلم يزل مقيما هناك بضعا وخمسين يوما حتى فتح الله عليه.

وقد قيل له في غبون ذلك: إن نساءك قد خبثت نفسهن لغيبتك عنهن.

فانتهر القائل وقال: ويحك ! ليست هذه أيام نساء، حتى أرى رأس إبراهيم بين يدي، أو يحمل رأسي إليه.

وقال بعضهم: دخلت على المنصور وهو مهموم من كثرة ما وقع من الشرور، وهو لا يستطيع أن يتابع الكلام من كثرة همه، وما تفتق عليه من الفتوق والخروق، وهو مع ذلك قد أعد لكل أمر ما يسد خلله به، وقد خرجت عن يده البصرة والأهواز وأرض فارس والمدائن وأرض السواد، وفي الكوفة عنده مائة ألف مغمدة سيوفها تنتظر به صيحة واحدة، فيثبون مع إبراهيم، وهو مع ذلك يعرك النوائب ويمرسها ولم تقعد به نفسه وهو كما قال الشاعر:

نفس عصام سوّدت عصاما * وعلمته الكر والإقداما

فصيرته ملكا هماما *

وأقبل إبراهيم بعساكر من البصرة إلى الكوفة في مائة ألف مقاتل، فأرسل إليه المنصور عيسى بن موسى في خمسة عشر ألفا، وعلى مقدمته حميد بن قحطبة في ثلاثة آلاف.

وجاء إبراهيم فنزل في باخمرى في جحافل عظيمة، فقال له بعض الأمراء: إنك قد اقتربت من المنصور فلو أنك سرت إليه بطائفة من جيشك لأخذت بقفاه فإنه ليس عنده من الجيوش ما يردون عنه.

وقال آخرون: إن الأولى أن نناجز هؤلاء الذين بإزائنا، ثم هو في قبضتنا.

فثناهم ذلك عن الرأي الأول. ولو فعله لتم لهم الأمر.

ثم قال بعضهم: خندق حول الجيش.

وقال آخرون: إن هذا الجيش لا يحتاج إلى خندق حوله، فترك ذلك.

ثم أشار بعضهم أن يبيت جيش عيسى بن موسى فقال إبراهيم: أنا لا أرى ذلك، فتركه.

ثم أشار آخرون بأن يجعل جيشه كراديس فإن غلب كردوس ثبت الآخر.

وقال آخرون: الأولى أن نقاتل صفوفا لقوله تعالى: { إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفّا كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ } [الصف: 4] .

والأمر لله وما شاء فعل ولو ساروا إلى الكوفة، وبيتوا الجيش أو جعل جيشه كراديس لتم له الأمر مع تقدير الله تعالى.

وأقبل الجيشان فتصافوا في باخمرى وهي على ستة عشر فرسخا من الكوفة، فاقتتلوا بها قتالا شديدا فانهزم حميد بن قحطبة بمن معه من المقدمة، فجعل عيسى يناشدهم الله في الرجوع والكرة فلا يلوي عليه أحد، وثبت عيسى بن موسى في مائة رجل من أهله، فقيل له: لو تنحيت من مكانك هذا لئلا يحطمك جيش إبراهيم.

فقال: والله لا أزول منه حتى يفتح الله لي، أو أقتل هاهنا.

وكان المنصور قد تقدم إليه بما أخبره بعض المنجمين أن الناس يكون لهم جولة عن عيسى بن موسى ثم يقومون إليه وتكون العاقبة له، فاستمر المنهزمون ذاهبين إلى نهر بين جبلين فلم يمكنهم خوضه فكروا راجعين بأجمعهم، وكان أول راجع حميد بن قحطبة الذي كان أول من انهزم.

ثم اجتلدوا هم وأصحاب إبراهيم فاقتتلوا قتالا شديدا، وقتل من كلا الفريقين خلقٌ كثيرٌ، ثم انهزم أصحاب إبراهيم وثبت هو في خمسمائة.

وقيل: في أربعمائة.

وقيل: في تسعين رجلا.

واستظهر عيسى بن موسى وأصحابه، وقتل إبراهيم في جملة من قتل واختلط رأسه مع رؤوس أصحابه، فجعل حميد يأتي بالرؤوس إلى عيسى بن موسى حتى عرفوا رأس إبراهيم فبعثوه مع البشير إلى المنصور، وكان نيبخت المنجم قد دخل على المنصور قبل مجيء الرأس فأخبره أن إبراهيم مقتول فلم يصدقه، فقال: يا أمير المؤمنين ! إن لم تصدقني فاحبسني فإن لم يكن الأمر كما ذكرت فاقتلني.

فبينا هو عنده إذ جاء البشير بهزيمة جيش إبراهيم، ولما جيء بالرأس تمثل المنصور ببيت معقر بن أوس بن حمار البارقي:

فألقت عصاها واستقر بها النوى * كما قرَّ عينا بالإياب المسافر

وقيل: إن المنصور لما رأى الرأس بكى حتى جعلت دموعه تسقط على الرأس، وقال: والله لقد كنت لهذا كارها، ولكنك ابتليت بي وابتليت بك.

ثم أمر بالرأس فنصب بالسوق.

وأقطع نيبخست المنجم الكذاب ألفي جريب، فهذا المنجم إن كان قد أصاب في قضية واحدة فقد أخطأ في أشياء كثيرة، فهم كذبة كفرة وقد كان المنصور في ضلال مع منجمه هذا، وقد ورث الملوك اعتقاد أقوال المنجمين وذلك ضلال لا يجوز.

وذكر صالح مولى المنصور قال: لما جيء برأس إبراهيم جلس المنصور مجلسا عاما وجعل الناس يدخلون عليه فيهنئونه وينالون من إبراهيم ويقبحون الكلام فيه ابتغاء مرضاة المنصور، والمنصور ساكت متغير اللون لا يتكلم، حتى دخل جعفر بن حنظلة البهراني فوقف فسلم ثم قال: أعظم الله أجرك يا أمير المؤمنين في ابن عمك وغفر له ما فرط من حقك.

قال: فاصفر لون المنصور وأقبل عليه وقال له: يا أبا خالد ! مرحبا وأهلا ههنا فاجلس.

فعلم الناس أن ذلك وقع منه موقعا جيدا. فجعل كل من جاء يقول كما قال جعفر بن حنظلة.

قال أبو نعيم الفضل بن دكين: كان مقتل إبراهيم في يوم الخميس لخمس بقين من ذي الحجة من هذه السنة.

ذكر من توفي من الأعيان:

فمن أعيان أهل البيت عبد الله بن حسن وابناه: محمد وإبراهيم، وأخوه حسن بن حسن، وأخوه لأمه محمد بن عبد الله بن عمرو بن عثمان بن عفان، الملقب: بالديباج. وقد تقدمت ترجمته.

وأما أخوه:

عبد الله بن حسن بن حسن بن علي بن أبي طالب

القرشي الهاشمي، فتابعي.

روى عن: أبيه، وأمه فاطمة بنت الحسين، وعبد الله بن جعفر بن أبي طالب، وهو صاحبي جليل وغيرهم.

وروى عنه جماعة، منهم: سفيان الثوري، والدراوردي، ومالك، وكان معظما عند العلماء، وكان عابدا كبير القدر.

قال يحيى بن معين: كان ثقة صدوقا، وفد على عمر بن عبد العزيز فأكرمه، ووفد على السفاح فعظمه وأعطاه ألف ألف درهم، فلما ولي المنصور عامله بعكس ذلك، وكذلك أولاده وأهله، وقد مضوا جميعا والتقوا عند الله عز وجل، وأخذه المنصور وأهل بيته مقيدين مغلولين مهانين من المدينة إلى الهاشمية، فأودعهم السجن الضيق، كما قدمنا، فمات أكثرهم فيه، فكان عبد الله بن حسن هذا أول من مات فيه بعد خروج ولده محمد بالمدينة.

وقد قيل: إنه قتل في السجن عمدا.

وكان عمره يوم مات خمسا وسبعين سنة، وصلى عليه أخوه لأمه الحسن بن الحسن بن علي.

ثم مات بعده أخوه حسن فصلى عليه أخوه لأمه محمد بن عبد الله بن عمر بن عثمان بن عفان.

ثم قتل بعدهما وحمل رأسه إلى خراسان كما تقدم.

وأما ابنه:

محمد عبد الله بن حسن

الذي خرج بالمدينة، فروى عن: أبيه، ونافع، وعن أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة، في كيفية الهوي إلى السجود.

وحدث عنه جماعة، ووثقه النسائي وابن حبان، وقال البخاري: لا يتابع على حديثه.

وقد ذكر أن أمه حملت به أربع سنين، وكان طويلا سمينا أسمر ضخما، ذا همة سامية، وسطوة عالية، وشجاعة باهرة.

قتل بالمدينة في منتصف رمضان سنة خمس وأربعين ومائة، وله خمس وأربعون سنة.

وقد حملوا برأسه إلى المنصور، وطيف به في الأقاليم.

وأما أخوه إبراهيم فكان ظهوره بالبصرة بعد ظهور أخيه بالمدينة وكان مقتله بعد مقتل أخيه في ذي الحجة من هذه السنة، وليس له شيء في الكتب الستة.

وحكى أبو داود السجستاني، عن أبي عوانة، أنه قال: كان إبراهيم وأخوه محمد خارجين.

قال داود: ليس كما قال، هذا رأي الزيدية.

قلت: وقد حكي عن جماعة من العلماء والأئمة أنهم مالوا إلى ظهورهما.

وفيها توفي من المشاهير والأعيان:

الأجلح بن عبد الله، وإسماعيل بن أبي خالد في قول، وحبيب بن الشهيد، وعبد الملك بن أبي سليمان، وعمرو مولى عفرة، ويحيى بن الحارث الذماري، ويحيى بن سعيد أبو حيان التيمي، ورؤبة بن العجاج، والعجاج لقب، واسمه: أبو الشعثاء عبد الله بن رؤبة، وأبو محمد التميمي البصري، الراجز بن الراجز، ولكل منهما ديوان رجز، وكل منهما بارع في فنه لا يجاري ولا يماري، عالم باللغة.

وعبد الله بن المقفع الكاتب المفوه

أسلم على يد عيسى بن علي عم السفاح والمنصور، وكتب له، وله رسائل وألفاظ صحيحة، وكان متهما بالزندقة، وهو الذي صنف كتاب كليلة ودمنة، ويقال: بل هو الذي عربها من المجوسية إلى العربية.

قال المهدي: ما وجد كتاب زندقة إلا وأصله من: ابن المقفع، ومطيع بن إياس، ويحيى بن زياد.

قالوا: ونسي الجاحظ وهو رابعهم.

وكان مع هذا فاضلا بارعا فصيحا.

قال الأصمعي: قيل لابن المقفع: من أدبك ؟

قال: نفسي، إذا رأيت من غيري قبيحا أبيته، وإذا رأيت حسنا أتيته.

ومن كلامه: شربت من الخطب ريا، ولم أضبط لها رويا، فغاضت ثم فاضت، فلا هي نظاما، ولا نسيت غيرها كلاما.

وكان قتل ابن المقفع على يد سفيان بن معاوية بن يزيد بن المهلب بن أبي صفرة نائب البصرة، وذلك أنه كان يعبث به ويسب أمه، وإنما كان يسميه: ابن المعلم، وكان كبير الأنف، وكان إذا دخل عليه يقول: السلام عليكما - على سبيل التهكم -.

وقال لسفيان بن معاوية مرة: ما ندمت على سكوت قط.

فقال: صدقت، الخرس لك خير من كلامك.

ثم اتفق أن المنصور غضب على ابن المقفع فكتب إلى نائبه سفيان بن معاوية هذا أن يقتله، فأخذه فأحمى له تنورا وجعل يقطعه إربا إربا ويلقيه في ذلك التنور حتى حرقه كله، وهو ينظر إلى أطرافه كيف تقطع ثم تحرق، وقيل غير ذلك في صفة قتله.

قال ابن خلكان: ومنهم من يقول: إن ابن المقفع نسب إلى بيع القفاع وهي من الجريد كالزنبيل بلا آذان، والصحيح أنه ابن المقفع وهو أبو دارويه كان الحجاج قد استعمله على الخراج فخان فعاقبه حتى تقفعت يداه، والله أعلم.

وفيها: خرج الترك والخزر بباب الأبواب فقتلوا من المسلمين بأرمينية جماعة كثيرة.

وحج بالناس في هذه السنة نائب المدينة عبد الله بن الربيع الحارثي.

وعلى الكوفة عيسى بن موسى، وعلى البصرة مسلم بن قتيبة، وعلى مصر يزيد بن حاتم.

ثم دخلت سنة ست وأربعين ومائة

فيها: تكامل بناء مدينة السلام ببغداد، وسكنها المنصور في صفر من هذه السنة، وكان مقيما قبل ذلك بالهاشمية المتاخمة للكوفة، وكان قد شرع في بنائها في السنة الخارجة، وقيل: في سنة أربع وأربعين ومائة، فالله أعلم.

وقد كان السبب الباعث له على بنائها أن الراوندية لما وثبوا عليه بالكوفة ووقاه الله شرهم، بقيت منهم بقية فخشي على جنده منهم، فخرج من الكوفة يرتاد لهم موضعا لبناء مدينة، فسار في الأرض حتى بلغ الجزيرة، فلم ير موضعا أحسن لوضع المدينة من موضع بغداد الذي هي فيه الآن، وذلك بأنه موضع يغدا إليه ويراح بخيرات ما حوله في البر والبحر، وهو محصن بدجلة والفرات من ههنا وههنا، لا يقدر أحد أن يتوصل إلى موضع الخليفة إلا على جسر.

وقد بات به المنصور قبل بنائه ليالي فرأى الرياح تهب به ليلا ونهارا من غير انجعار ولا غبار، ورأى طيب تلك البقعة وطيب هوائها، وقد كان في موضعها قرى وديور لعباد النصارى وغيرهم - ذكر ذلك مفصلا بأسمائه وتعداده أبو جعفر ابن جرير - فحينئذ أمر المنصور باختطاطها فرسموها له بالرماد فمشى في طرقها ومسالكها فأعجبه ذلك، ثم سلم كل ربع منها لأمير يقوم على بنائه، وأحضر من كل البلاد فعالا وصناعا ومهندسين، فاجتمع عنده ألوف منهم، ثم كان هو أول من وضع لبنة فيها بيده، وقال: بسم الله والحمد لله، والأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين.

ثم قال: ابنوا على بركة الله.

وأمر ببنائها مدورة سمك سورها من أسفله خمسون ذراعا، ومن أعلاه عشرون ذراعا، وجعل لها ثمانية أبواب في السور البراني، ومثلها في الجواني، وليس كل واحد تجاه الآخر، ولكن جعله أزور عن الذي يليه، ولهذا سميت بغداد الزوراء، لازورار أبوابها بعضها عن بعض، وقيل: سميت بذلك لانحراف دجلة عندها.

وبنى قصر الإمارة في وسط البلد ليكون الناس منه على حد سواء، واختط المسجد الجامع إلى جانب القصر، وكان الذي وضع قبلته الحجاج بن أرطأة.

وقال ابن جرير: ويقال: إن في قبلته انحرافا يحتاج المصلي فيه أن ينحرف إلى ناحية باب البصرة، وذكر أن مسجد الرصافة أقرب إلى الصواب منه لأنه بني قبل القصر، وجامع المدينة بني على القصر، فاختلت بسبب ذلك.

وذكر ابن جرير، عن سليمان بن مجالد، أن المنصور أراد أبا حنيفة النعمان بن ثابت على القضاء بها فأبى وامتنع فحلف المنصور أن يتولى له، وحلف أبو حنيفة أن لا يتولى له، فولاه القيام بأمر المدينة وضرب اللبن، وأخذ الرجال بالعمل، فتولى ذلك حتى فرغوا من استتمام حائط المدينة مما يلي الخندق، وكان استتمامه في سنة أربع وأربعين ومائة.

قال ابن جرير: وذكر عن الهيثم بن عدي: أن المنصور عرض على أبي حنيفة القضاء والمظالم فامتنع، فحلف أن لا يقلع عنه حتى يعمل له، فأخبر بذلك أبو حنيفة فدعاه بقصبة فعد اللبن ليبر بذلك يمين أبي جعفر، ومات أبو حنيفة ببغداد بعد ذلك.

وذكر أن خالد بن برمك هو الذي أشار على المنصور ببنائها، وأنه كان مستحثا فيها للصناع، وقد شاور المنصور الأمراء في نقل القصر الأبيض من المدائن إلى بغداد لأجل قصر الإمارة بها، فقالوا: لا تفعل فإنه آية في العالم، وفيه مصلى أمير المؤمنين علي بن أبي طالب.

فخالفهم ونقل منه شيئا كثيرا، فلم يف ما تحصل منه بأجرة ما يصرف في حمله فتركه، ونقل أبواب قصر واسط إلى أبواب قصر الإمارة ببغداد.

وقد كان الحجاج نقل حجارته من مدينة هناك كانت من بناء سليمان بن داود، وكانت الجن قد عملت تلك الأبواب، وهي حجارة هائلة.

وقد كانت الأسواق وضجيجها تسمع من قصر الإمارة، فكانت أصوات الباعة وهوسات الأسواق تسمع منه، فعاب ذلك بعض بطارقة النصارى ممن قدم في بعض الرسائل من الروم، فأمر المنصور بنقل الأسواق من هناك إلى موضع آخر، وأمر بتوسعة الطرقات أربعين ذراعا في أربعين ذراعا، ومن بنى في شيء من ذلك هدم.

قال ابن جرير: وذكر عن عيسى بن المنصور أنه قال: وجدت في خزائن المنصور في الكتب أنه أنفق على بناء مدينة السلام ومسجدها الجامع وقصر الذهب بها والأسواق وغير ذلك، أربعة آلاف ألف وثمانمائة وثلاثة وثمانين ألف درهم، وكان أجرة الأستاذ من البنائين كل يوم قيراط فضة، وأجرة الصانع من الحبتين إلى الثلاثة.

قال الخطيب البغدادي: وقد رأيت ذلك في بعض الكتب، وحكي عن بعضهم أنه قال: أنفق عليه ثمانية عشر ألف ألف، فالله أعلم.

وذكر ابن جرير أن المنصور ناقص أحد المهندسين الذي بنى له بيتا حسنا في قصر الإمارة فنقصه درهما عما ساومه، وأنه حاسب بعض المستحثين على الذي كان عنده ففضل عنده خمسة عشر درهما فحبسه حتى جاء بها وأحضرها وكان شحيحا.

قال الخطيب: وبناها مدورة، ولا يعرف في أقطار الأرض مدينة مدورة سواها، ووضع أساسها في وقت اختاره له نوبخت المنجم.

ثم ذكر عن بعض المنجمين قال: قال لي المنصور لما فرغ من بناء بغداد: خذ الطالع لها، فنظرت في طالعها - وكان المشتري في القوس - فأخبرته بما تدل عليه النجوم، من طول زمانها، وكثرة عمارتها، وانصباب الدنيا إليها وفقر الناس إلى ما فيها.

قال: ثم قلت له: وأبشرك يا أمير المؤمنين أنه لا يموت فيها أحد من الخلفاء أبدا.

قال: فرأيته يبتسم ثم قال: الحمد لله ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم.

وذكر عن بعض الشعراء أنه قال في ذلك شعرا منه:

قضى ربها أن لا يموت خليفة * بها إنه ما شاء في خلقه يقضي

وقد قرره على هذا الخطأ الخطيب وسلم ذلك ولم ينقضه بشيء، بل قرره مع اطلاعه ومعرفته.

قال: وزعم بعض الناس أن الأمين قتل بدرب الأنبار منها، فذكرت ذلك للقاضي أبي القاسم علي بن حسن التنوخي فقال: محمد الأمين لم يقتل بالمدينة، وإنما كان قد نزل في سفينة إلى دجلة ليتنزه فقبض عليه في وسط دجلة وقتل هناك. ذكر ذلك الصولي وغيره.

وذكر عن بعض مشايخ بغداد أنه قال: اتساع بغداد مائة وثلاثون جريبا، وذلك بقدر ميلين في ميلين.

قال الإمام أحمد: بغداد من الصراة إلى باب التبن.

وذكر الخطيب: أن بين كل بابين من أبوابها الثمانية ميلا. وقيل: أقل من ذلك.

وذكر الخطيب صفة قصر الإمارة وأن فيه القبة الخضراء طولها ثمانون ذراعا، على رأسها تمثال فرس عليه فارس في يده رمح يدور به فأي جهة استقبلها واستمر مستقبلها، علم السلطان أن في تلك الجهة قد وقع حدث، فلم يلبث أن يأتي الخليفة خبره.

وهذه القبة وهي على مجلس في صدر إيوان المحكمة وطوله ثلاثون ذراعا وعرضه عشرون ذراعا.

وقد سقطت هذه القبة في ليلة برد ومطر ورعد وبرق، ليلة الثلاثاء لسبع خلون من شهر جمادى الآخرة سنة تسع وعشرين وثلاثمائة.

وذكر الخطيب البغدادي أنه كان يباع في بغداد في أيام المنصور الكبش الغنم بدرهم والحمل بأربعة دوانق، وينادى على لحم الغنم كل ستين رطلا بدرهم، ولحم البقر كل تسعين رطلا بدرهم، والتمر كل ستين رطلا بدرهم، والزيت ستة عشر رطلا بدرهم، والسمن ثمانية أرطال بدرهم، والعسل عشرة أرطال بدرهم.

ولهذا الأمن والرخص كثر ساكنوها وعظم أهلوها وكثر الدارج في أسواقها وأزقتها، حتى كان المار لا يستطيع أن يجتاز في أسواقها لكثرة زحام أهلها.

قال بعض الأمراء وقد رجع من السوق: طال والله ما طردت خلف الأرانب في هذا المكان.

وذكر الخطيب: أن المنصور جلس يوما في قصره، فسمع ضجة عظيمة، ثم أخرى ثم أخرى فقال للربيع الحاجب: ما هذا ؟

فكشف فإذا بقرة قد نفرت من جازرها هاربة في الأسواق.

فقال الرومي: يا أمير المؤمنين ! إنك بنيت بناء لم يبنه أحد قبلك، وفيه ثلاثة عيوب: بعده من الماء، وقرب الأسواق منه، وليس عنده خضره، والعين خضرة تحب الخضرة.

فلم يرفع بها المنصور رأسا ثم أمر بتغيير ذلك، ثم بعد ذلك ساق إليها الماء وبنى عندها البساتين، وحول الأسواق من ثم إلى الكرخ.

قال يعقوب بن سفيان: كمل بناء بغداد في سنة ست وأربعين ومائة، وفي سنة سبع وخمسين حول الأسواق إلى باب الكرخ وباب الشعير وباب المحول، وأمر بتوسعة الأسواق أربعين ألفا، وبعد شهرين من ذلك شرع في بناء قصره المسمى: بالخلد، فكمل سنة ثمان وخمسين ومائة.

وجعل أمر ذلك إلى رجل يقال له: الوضاح، وبنى للعامة جامعا للصلاة والجمعة لئلا يدخلوا إلى جامع المنصور، فأما دار الخلافة التي كانت ببغداد بعد ذلك فإنها كانت للحسن بن سهل، فانتقلت من بعده إلى بوران زوجة المأمون، فطلبها منها المعتضد - وقيل: المعتمد - فأنعمت له بها، ثم استنظرته أياما حتى تنتقل منها فأنظرها.

فشرعت في تلك الأيام في ترميمها وتبييضها وتحسينها، ثم فرشتها بأنواع الفرش والبسط، وعلقت فيها أنواع الستور، وأرصدت فيها ما ينبغي للخلافة من الجواري والخدم، وألبستهم أنواع الملابس، وجعلت في الخزائن ما ينبغي من أنواع الأطعمة والمأكل، وجعلت في بعض بيوتها من أنواع الأموال والذخائر، ثم أرسلت بمفاتيحها إليه، ثم دخلها فوجد فيها ما أرصدته بها، فهاله ذلك واستعظمه جدا، وكان أول خليفة سكنها وبنى عليها سورا. ذكره الخطيب.

وأما التاج فبناه المكتفي على دجلة، وحوله القباب والمجالس والميدان والثريا وحير الوحوش.

وذكر الخطيب صفة دار الشجرة التي كانت في زمن المقتدر بالله، وما فيها من الفرش والستور والخدم والمماليك والحشمة الباهرة، والدنيا الظاهرة، وأنها كان بها إحدى عشر ألف طواشي، وسبعمائة حاجب.

وأما المماليك فألوف لا يحصون كثرة، وسيأتي ذكر ذلك مفصلا في أيامهم ودولتهم التي ذهبت كأنها أحلام نوم، بعد سنة ثلثمائة.

وذكر الخطيب دار الملك التي بالمخرم، وذكر الجوامع التي تقام فيها الجمعات، وذكر الأنهار والجسور التي بها، وما كان في ذلك في زمن المنصور، وما أحدث بعده إلى زمانه، وأنشد لبعض الشعراء في جسور بغداد التي على دجلة:

يوم سرقنا العيش فيه خلسة * في مجلس بفناء دجلة مفرد

رق الهواء برقة وقدامة * فغدوت رقا للزمان المسعد

فكأن دجلة طيلسان أبيض * والجسر فيها كالطراز الأسود

وقال آخر:

يا حبذا جسر على متن دجلة * بإتقان تأسيس وحسن ورونق

جمال وحسن للعراق ونزهة * وسلوة من أضناه فرط التشوق

تراه إذا ما جئته متأملا * كسطر عبير خط في وسط مهرق

أو العاج فيه الأبنوس مرقش * مثال فيول تحتها أرض زئبق

وذكر الصولي، قال: ذكر أحمد بن أبي طاهر في كتاب بغداد أن ذرع بغداد من الجانبين ثلاثة وخمسون ألف جريب، وأن الجانب الشرقي ستة وعشرون ألف جريب وسبعمائة وخمسون جريبا، وأن عدة حماماتها ستون ألف حمام، وأقل ما في كل حمام منها خمسة نفر حمامي وقيم وزبال ووقاد وسقاء، وأن بإزاء كل حمام خمسة مساجد، فذلك ثلاثمائة ألف مسجد، وأقل ما يكون في كل مسجد خمسة نفر - يعني: إماما وقيما ومأذونا ومأمومين - ثم تناقصت بعد ذلك، ثم دثرت بعد ذلك حتى صارت كأنها خربة صورة ومعنى. على ما سيأتي بيانه في موضعه.

وقال الحافظ أبو بكر البغدادي: لم يكن لبغداد نظير في الدنيا في جلالة قدرها، وفخامة أمرها، وكثرة علمائها وأعلامها، وتمييز خواصها وعوامها، وعظم أقطارها، وسعة أطرارها، وكثرة دورها ودروبها ومنازلها وشوارعها ومساجدها وحماماتها وخاناتها، وطيب هوائها، وعذوبة مائها، وبرد ظلالها، واعتدال صيفها وشتائها، وصحة ربيعها وخريفها، وأكثر ما كانت عمارة وأهلا في أيام الرشيد، ثم ذكر تناقص أحوالها وهلم جرا إلى زمانه.

قلت: وكذا من بعده إلى زماننا هذا، ولا سيما في أيام هولاكو بن تولى بن جنكز بن خان التركي الذي ووضع معالمها، وقتل خليفتها وعالمها، وخرب دورها، وهدم قصورها، وأباد الخواص والعوام من أهلها في ذلك العام، وأخذ الأموال والحواصل، ونهب الذراري والأصائل، وأورث بها حزنا يعدد به في المبكرات والأصائل، وصيرها في الأقاليم، وعبرة لكل معتبر عليم، وتذكرة لكل ذي عقل مستقيم، وبدلت بعد تلاوة القرآن بالنغمات والألحان، وإنشاد الأشعار، وكان، وكان.

وبعد سماع الأحاديث النبوية بدرس الفلسفة اليونانية، والمناهج الكلامية والتأويلات القرمطية، وبعد العلماء بالأطباء، وبعد الخليفة العباسي بشر الولاة من الأناسي، وبعد الرياسة والنباهة بالخساسة والسفاهة، وبعد الطلبة المشتغلين بالظلمة والعيارين، وبعد العلم بالفقه والحديث وتعبير الرؤيا، بالموشح ودوبيت ومواليا.

وما أصابهم ذلك إلا ببعض ذنوبهم: { وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ } [فصلت: 46] .

والتحول منها في هذه الأزمان لكثرة ما فيها من المنكرات الحسية والمعنوية، وأكل الحشيشة، والانتقال عنها إلى بلاد الشام الذي تكفل الله بأهلها أفضل وأكمل وأجمل.

وقد روى الأمام أحمد، عن رسول الله ، أنه قال: «لا تقوم الساعة حتى يتحول خيار أهل العراق إلى الشام، وشرار أهل الشام إلى العراق».

ما ورد في مدينة بغداد من الآثار وما فيها من الأخبار

فيها: أربع لغات: بغداد، وبغداذ بإهمال الدال الثانية وإعجامها، وبغدان بالنون آخره وبالميم مع ذلك أولا مغدان، وهي كلمة أعجمية.

قيل: إنها مركبة من بغ وداد فقيل: بغ: بستان، وداد: اسم رجل.

وقيل: بغ: اسم صنم، وقيل: شيطان، وداد: عطية، أي: عطية الصنم.

ولهذا كره عبد الله بن المبارك والأصمعي وغيرهما تسميتها بغداد وإنما يقال لها: مدينة السلام، وكذا أسماها بانيها أبو جعفر المنصور، لأن دجلة كان يقال لها: وادي السلام، ومنهم من يسميها الزوراء.

فروى الخطيب البغدادي، من طريق عمار بن سيف، - وهو متهم - قال: سمعت عاصم الأحول، يحدث عن سفيان الثوري، عن أبي عثمان، عن جرير بن عبد الله، قال: قال رسول الله : «تبنى مدينة بين دجلة ودجيل وقطربل والصراة، تجبى إليها خزائن الأرض، وملوكها جبابرة، فلهي أسرع ذهابا في الأرض من الوتد الحديد في الأرض الرخوة».

قال الخطيب: وقد رواه عن عاصم الأحول سيف ابن أخت سفيان الثوري، وهو أخو عمار بن سيف.

قلت: وكلاهما ضعيف متهم يرمى بالكذب، ومحمد بن جابر اليماني ضعيف، وأبو شهاب الحناطي ضعيف.

وروى عن سفيان الثوري، عن عاصم، من طرق ثم أسند ذلك كله.

وأورد من طريق يحيى بن معين، عن يحيى بن أبي كثير، عن عمار بن سيف، عن الثوري، عن عاصم، عن أبي عثمان، عن جرير، عن النبي .

وقال أحمد و يحيى: ليس لهذا الحديث أصل.

وقال أحمد: ما حدث به إنسان ثقة.

وقد علله الخطيب من جميع طرقه، وساقه أيضا من طريق عمار بن سيف، عن الثوري، عن أبي عبيدة حميد الطويل، عن أنس بن مالك، ولا يصح أيضا.

ومن طريق عمر بن يحيى، عن سفيان، عن قيس بن مسلم، عن ربعي، عن حذيفة، مرفوعا بنحوه، ولا يصح.

ومن غير وجه عن علي بن أبي طالب وابن مسعود وثوبان وابن عباس، وفي بعضها: ذكر السفياني وأنه يخربها، ولا يصح إسناد شيء من هذه الأحاديث.

وقد أوردها الخطيب بأسانيدها وألفاظها، وفي كل منها نكارة، وأقرب ما فيها عن كعب الأحبار.

وقد جاء في آثار عن كتب متقدمة أن بانيها يقال له: مقلاص، وذو الدوانيق لبخله.

فصل محاسن بغداد ومساويها وما روي في ذلك عن الأئمة

قال يونس بن عبد الأعلى الصدفي: قال لي الشافعي: هل رأيت بغداد ؟

قلت: لا !

فقال: ما رأيت الدنيا.

وقال الشافعي: ما دخلت بلدا قط إلا عددته سفرا إلا بغداد فإني حين دخلتها عددتها وطنا.

وقال بعضهم: الدنيا بادية وبغداد حاضرتها.

وقال ابن علية: ما رأيت أعقل في طلب الحديث من أهل بغداد، ولا أحسن دعة منهم.

وقال ابن مجاهد: رأيت أبا عمرو بن العلاء في النوم فقلت: ما فعل الله بك ؟

فقال لي: دعني من هذا، من أقام ببغداد على السنة والجماعة ومات نقل من جنة إلى جنة.

وقال أبو بكر بن عياش: الإسلام ببغداد، وإنها لصيادة تصيد الرجال، ومن لم يرها لم ير الدنيا.

وقال أبو معاوية: بغداد دار دنيا وآخرة.

وقال بعضهم: من محاسن الإسلام يوم الجمعة ببغداد، وصلاة التراويح بمكة، ويوم العيد بطرسوس.

قال الخطيب: من شهد يوم الجمعة بمدينة السلام عظم الله في قلبه محل الإسلام، لأن مشايخنا كانوا يقولون: يوم الجمعة ببغداد كيوم العيد في غيرها من البلاد.

وقال بعضهم: كنت أواظب على الجمعة بجامع المنصور فعرض لي شغل فصليت في غيره، فرأيت في المنام كأن قائلا يقول: تركت الصلاة في جامع المدينة وإنه ليصلي فيه كل جمعة سبعون وليا.

وقال آخر: أردت الانتقال من بغداد فرأيت كأن قائلا يقول في المنام: أتنتقل من بلد فيه عشرة آلاف ولي لله عز وجل ؟

وقال بعضهم: رأيت كأن ملكين أتيا بغداد فقال أحدهما لصاحبه: اقلبها، فقد حق القول عليها.

فقال الآخر: كيف أقلب ببلد يختم فيها القرآن كل ليلة خمسة آلاف ختمة ؟

وقال أبو مسهر: عن سعيد بن عبد العزيز بن سليمان بن موسى، قال: إذا كان علم الرجل حجازيا وخلقه عراقيا وصلاته شامية فقد كمل.

وقالت زبيدة لمنصور النمري: قل شعرا تحبب فيه بغداد إلي.

فقد اختار عليها الرافقة فقال:

ماذا ببغداد من طيب الأفانين * ومن منازه للدنيا وللدين

تحيي الرياح بها المرضى إذا نسمت * وجوشت بين أغصان الرياحين

قال: فأعطته ألفي دينار.

وقال الخطيب: وقرأت في كتاب طاهر بن مظفر بن طاهر الخازن بخطه من شعره:

سقى الله صوب الغاديات محلة * ببغداد بين الكرخ فالخلد فالجسر

هي البلدة الحسناء خصت لأهلها * بأشياء لم يجمعن مذ كنَّ في مصر

هواء رقيق في اعتدال وصحة * وماء له طعم ألذ من الخمر

ودجلتها شطان قد نظما لنا * بتاج إلى تاج وقصر إلى قصر

تراها كمسك والمياه كفضة * وحصباؤها مثل اليواقيت والدر

وقد أورد الخطيب في هذا أشعارا كثيرة وفيما ذكرنا كفاية.

وقد كان الفراغ من بناء بغداد في هذه السنة - أعني: سنة ست وأربعين ومائة -.

وقيل: في سنة ثمان وأربعين.

وقيل: إن خندقها وسورها كملا في سنة سبع وأربعين.

ولم يزل المنصور يزيد فيها ويتأنق في بنائها حتى كان آخر ما بنى فيها قصر الخلد، فظن أنه يخلد فيها، أو أنها تخلد فلا تخرب، فعند كماله مات.

وقد خربت بغداد مرات كما سيأتي بيانه.

قال ابن جرير: وفي هذه السنة: عزل المنصور سلم بن قتيبة عن البصرة وولى عليها محمد بن سليمان بن علي، وذلك لأنه كتب إلى سلم يأمره بهدم بيوت الذين بايعوا إبراهيم بن عبد الله بن حسن فتوانى في ذلك فعزله، وبعث ابن عمه محمد بن سليمان فعاث بها فسادا، وهدم دورا كثيرةً.

وعزل عبد الله بن الربيع عن إمرة المدينة وولى عليها جعفر بن سليمان، وعزل عن مكة السري بن عبد الله، وولى عليها عبد الصمد بن علي.

قال: وحج بالناس في هذه السنة عبد الوهاب بن إبراهيم بن محمد بن علي. قاله الواقدي وغيره.

قال: وفيها: غزا الصائفة من بلاد الروم جعفر بن حنظلة البهراني.

وفيها توفي من الأعيان: أشعث بن عبد الملك، وهشام بن السائب الكلبي، وهشام بن عروة، ويزيد بن أبي عبيد في قول.

ثم دخلت سنة سبع وأربعين ومائة

فيها: أغار اشترخان الخوارزمي في جيش من الأتراك على ناحية أرمينية فدخلوا تفليس وقتلوا خلقا كثيرا وأسروا كثيرا من المسلمين وأهل الذمة، وممن قتل يومئذ حرب بن عبد الله الراوندي الذي تنسب إليه الحربية ببغداد، وكان مقيما بالموصل في ألفين لمقابلة الخوارج، فأرسله المنصور لمساعدة المسلمين ببلاد أرمينية، وكان في جيش جبريل بن يحيى، فهزم جبريل وقتل حرب رحمه الله.

وفي هذه السنة كان مهلك عبد الله بن علي عم المنصور

وهو الذي أخذ الشام من أيدي بني أمية، وكان عليها واليا حتى مات السفاح، فلما مات دعا إلى نفسه فبعث إليه المنصور أبا مسلم الخراساني فهزمه أبو مسلم وهرب عبد الله إلى عند أخيه سليمان بن علي والي البصرة فاختفى عنده مدة ثم ظهر المنصور على أمره فاستدعى به وسجنه، فلما كان في هذه السنة عزم المنصور على الحج، فطلب عمه عيسى بن موسى - وكان ولي العهد من بعد المنصور عن وصية السفاح - وسلم إليه عمه عبد الله بن علي، وقال له: إن هذا عدوي وعدوك، فاقتله في غيبتي عنك ولا تتوانى.

وسار المنصور إلى الحج وجعل يكتب إليه من الطريق يستحثه في ذلك، ويقول له: ماذا صنعت فيما أودعت إليك فيه؟ مرة بعد مرة.

وأما عيسى بن موسى فإنه لما تسلم عمه حار في أمره وشاور بعض أهله فأشار بعضهم ممن له رأي أن المصلحة تقتضي أن لا تقتله وأبقه عندك وأظهر قتله فإنا نخشى أن يطالبك به جهرة فتقول: قتله، فيأمر بالقود فتدعي أنه أمرك بقتله بالسر بينك وبينه فتعجز عن إثبات ذلك فيقتلك به، وإنما يريد المنصور قتله وقتلك ليستريح منكما معا.

فتغير عيسى بن موسى عند ذلك وأخفى عمه وأظهر أنه قتله.

فلما رجع المنصور من الحج أمر أهله أن يدخلوا عليه ويشفعوا في عمه عبد الله بن علي، وألحوا في ذلك فأجابهم إلى ذلك، واستدعى عيسى بن موسى وقال له: إن هؤلاء شفعوا في عبد الله بن علي وقد أجبتهم إلى ذلك فسلمه إليهم.

فقال عيسى: وأين عبد الله؟ ذاك قتلته منذ أمرتني.

فقال المنصور: لم آمرك بذلك.

وجحد ذلك وأن يكون تقدم إليه منه أمره في ذلك، فأحضر عيسى الكتب التي كتبها إليه المنصور مرة بعد مرة في ذلك، فأنكر أن يكون أراد ذلك، وصمم على الإنكار، وصمم عيسى بن موسى أنه قد قتله، فأمر المنصور عند ذلك بقتل عيسى بن موسى قصاصا بعبد الله، فخرج به بنو هاشم ليقتلوه، فلما جاؤوا بالسيف قال: ردوني إلى الخليفة.

فردوه إليه فقال له: إن عمك حاضر ولم أقتله.

فقال: هلم به.

فأحضره فسقط في يد الخليفة وأمر بسجنه بدار جدرانها مبنية على ملح، فلما كان من الليل أرسل على جدرانها الماء فسقط عليه البناء فهلك.

ثم إن المنصور خلع عيسى بن موسى عن ولاية العهد وقدم عليه ابنه المهدي، وكان يجلسه فوق عيسى بن موسى عن يمينه، ثم كان لا يلتفت إلى عيسى بن موسى ويهينه في الأذن والمشورة والدخول عليه والخروج من عنده، ثم مازال يقصيه ويبعده ويتهدده ويتوعده حتى خلع نفسه بنفسه، وبايع لمحمد بن منصور، وأعطاه المنصور على ذلك نحوا من اثني عشر ألف ألف درهم، وانصلح أمر عيسى بن موسى وبنيه عند المنصور، وأقبل عليه بعد ما كان قد أعرض عنه.

وكان قد جرت بينهما قبل ذلك مكاتبات في ذلك كثيرة جدا، ومراودات في تمهيد البيعة لابنه المهدي وخلع عيسى نفسه، وأن العامة لا يعدلون بالمهدي أحدا، وكذلك الأمراء والخواص.

ولم يزل به حتى أجاب إلى ذلك مكرها، فعوضه عن ذلك ما ذكرنا، وسارت بيعة المهدي في الآفاق شرقا وغربا، وبعدا وقربا، وفرح المنصور بذلك فرحا شديدا، واستقرت الخلافة في ذريته إلى زماننا هذا، فلم يكن الخليفة من بني العباس إلا من سلالته: { ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ } [الأنعام: 96] .

وفيها توفي: عبيد الله بن عمر العمري، وهاشم بن هاشم، وهشام بن حسان صاحب الحسن البصري.

ثم دخلت سنة ثمان وأربعين ومائة

فيها: بعث المنصور حميد بن قحطبة لغزو الترك الذين عاثوا في السنة الماضية ببلاد تفليس، فلم يجد منهم أحدا فإنهم انشمروا إلى بلادهم.

وحج بالناس فيها: جعفر بن أبي جعفر، ونواب البلاد فيها هم المذكرون في التي قبلها.

وفيها توفي: جعفر بن محمد الصادق المنسوب إليه كتاب اختلاج الأعضاء وهو مكذوب عليه.

وفيها توفي: سليمان بن مهران الأعمش أحد مشايخ الحديث في ربيع الأول منها، وعمرو بن الحارث، والعوام بن حوشب، والزبيدي، ومحمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى، ومحمد بن عجلان.

ثم دخلت سنة تسع وأربعين ومائة

فيها: فرغ من بناء سور بغداد وخندقها.

وفيها: غزا الصائفة العباس بن محمد فدخل بلاد الروم ومعه الحسين بن قحطبة ومحمد بن الأشعث، ومات محمد بن الأشعث في الطريق.

وفيها حج بالناس: محمد بن إبراهيم بن محمد بن علي وولاه المنصور على مكة والحجاز عوضا عن عمه عبد الصمد بن علي.

وعمال الأمصار فيها: هم الذين كانوا في السنة قبلها.

وفيها توفي: زكريا بن أبي زائدة، وكهمس بن الحسن، والمثنى بن الصباح.

وعيسى بن عمر أبو عمرو

الثقفي البصري، النحوي شيخ سيبويه.

يقال: إنه من موالي خالد بن الوليد، وإنما نزل في ثقيف فنسب إليهم.

كان إماما كبيرا جليلا في اللغة والنحو والقراءات، أخذ ذلك عن: عبيد الله بن كثير، وابن المحيص، وعبد الله بن أبي إسحاق، وسمع الحسن البصري وغيرهم.

وعنه: الخليل بن أحمد، والأصمعي، وسيبويه.

ولزمه وعرف به وانتفع به، وأخذ كتابه الذي سماه: بالجامع فزاد عليه وبسطه، فهو كتاب سيبويه اليوم، وإنما هو كتاب شيخه، وكان سيبويه يسأل شيخه الخليل بن أحمد عما أشكل عليه فيه، فسأله الخليل أيضا عما صنف عيسى بن عمر فقال: جمع بضعا وسبعين كتابا ذهبت كلها إلا كتاب الإكمال، وهو بأرض فارس، وهو الذي اشتغل فيه وأسألك عن غوامضه.

فأطرق الخليل ساعة ثم أنشد:

ذهب النحو جميعا كله * غير ما أحدث عيسى بن عمر

ذاك إكمال وهذا جامع * وهما للناس شمس وقمر

وقد كان عيسى يغرب ويتقعر في عبارته جدا.

وقد حكى الجوهري عنه في الصحاح: أنه سقط يوما عن حماره فاجتمع عليه الناس فقال: مالكم تكأكأتم علي تكأكؤكم على ذي مرة؟ افرنقعوا عني.

معناه: مالكم تجمعتم علي تجمعكم على مجنون؟ انكشفوا عني.

وقال غيره: كان به ضيق النفس فسقط بسببه فاعتقد الناس أنه مصروع فجعلوا يعودونه ويقرأون عليه، فلما أفاق من غشيته قال ما قال.

فقال بعضهم: إني حسبته - يتكلم بالفارسية -.

وذكر ابن خلكان أنه كان صاحبا لأبي عمرو بن العلاء، وأن عيسى بن عمر قال يوما لأبي عمرو بن العلاء: أنا أفصح من معدّ بن عدنان.

فقال له أبو عمرو كيف تقرأ هذا البيت:

قد كنَّ يخبأن الوجوه تسترا * فاليوم حين بدأن للنظار

أو بدين؟ فقال: بدين.

فقال أبو عمرو: أخطأت.

ولو قال: بدأن لأخطأ أيضا.

وإنما أراد أبو عمرو تغليطه، وإنما الصواب بَدونَ، من: بدا يبدو إذا ظهر، وبدأ يبدأ إذا شرع في الشيء.

ثم دخلت سنة خمسين ومائة من الهجرة

فيها: خرج رجل من الكفرة يقال له: أستاذسيس، في بلاد خراسان فاستحوذ على أكثرها، والتف معه نحو ثلاثمائة ألف، وقتلوا من المسلمين هنالك خلقا كثير، وهزموا الجيوش في تلك البلاد، وسبوا خلقا كثيرا، وتحكم الفساد بسببهم، وتفاقم أمرهم، فوجه المنصور خازم بن خزيمة إلى ابنه المهدي ليوليه حرب تلك البلاد، ويضم إليه من الأجناد ما يقاوم أولئك.

فنهض المهدي في ذلك نهضة هاشمية، وجمع لخازم بن خزيمة الأمرة على تلك البلاد والجيوش، وبعثه في نحو من أربعين ألفا، فسار إليهم وما زال يراوغهم ويماكرهم ويعمل الخديعة فيهم حتى فاجأهم بالحرب، وواجههم بالطعن والضرب، فقتل منهم نحوا سبعين ألفا، وأسر منهم أربعة عشر ألفا، وهرب ملكهم أستاذسيس فتحرز في جبل.

فجاء خازم إلى تحت الجبل وقتل أولئك الأسرى كلهم ولم يزل يحاصره حتى نزل على حكم بعض الأمراء، فحكم أن يقيد بالحديد هو وأهل بيته، وأن يعتق من معه من الأجناد - وكانوا ثلاثين ألفا - ففعل خازم ذلك كله، وأطلق لكل واحد ممن كان مع أستاذسيس ثوبين، وكتب بما وقع من الفتح إلى المهدي، فكتب المهدي بذلك إلى أبيه المنصور.

وفيها: عزل الخليفة عن إمرة المدينة جعفر بن سليمان وولاها الحسن بن زيد بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب.

وفيها حج بالناس: عبد الصمد بن علي عم الخليفة.

وتوفي فيها: جعفر بن أمير المؤمنين المنصور ودفن أولا بمقابر بني هاشم من بغداد، ثم نقل منها إلى موضع آخر.

وفيها توفي: عبد الملك بن عبد العزيز بن جريج، أحد أئمة أهل الحجاز، ويقال: إنه أول من جمع السنن، وعثمان بن الأسود، وعمر بن محمد بن زيد.

وفيها توفي: الإمام أبو حنيفة.

ذكر ترجمة الإمام أبي حنيفة

هو: الإمام أبو حنيفة، واسمه: النعمان بن ثابت التيمي، مولاهم الكوفي، فقيه العراق، وأحد أئمة الإسلام، والسادة الأعلام، وأحد أركان العلماء، وأحد الأئمة الأربعة أصحاب المذاهب المتنوعة، وهو أقدمهم وفاة، لأنه أدرك عصر الصحابة، ورأى أنس بن مالك قيل: وغيره.

وذكر بعضهم أنه روى عن سبعة من الصحابة، فالله أعلم.

وروى عن جماعة من التابعين منهم: الحكم، وحماد بن أبي سليمان، وسلمة بن كهيل، وعامر الشعبي، وعكرمة، وعطاء، وقتادة، والزهري، ونافع مولى بن عمر، ويحيى بن سعيد الأنصاري، وأبو إسحاق السبيعي.

وروى عنه جماعة منهم: ابنه حماد، وإبراهيم بن طهمان، وإسحاق بن يوسف الأزرق، وأسد بن عمرو القاضي، والحسن بن زياد اللؤلؤي، وحمزة الزيات، وداود الطائي، وزفر، وعبد الرزاق، وأبو نعيم، ومحمد بن الحسن الشيباني، وهشيم، ووكيع، وأبو يوسف القاضي.

وقال يحيى بن معين: كان ثقة، وكان من أهل الصدق ولم يتهم بالكذب، ولقد ضربه ابن هبيرة على القضاء فأبى أن يكون قاضيا.

وقد كان يحيى بن سعيد يختار قوله في الفتوى، وكان يحيى يقول: لا نكذب الله ! ما سمعنا أحسن من رأي أبي حنيفة، وقد أخذنا بأكثر أقواله.

وقال عبد الله بن المبارك: لولا أن الله أعانني بأبي حنيفة وسفيان الثوري لكنت كسائر الناس.

وقال في الشافعي: رأيت رجلا لو كلمك في هذه السارية أن يجعلها ذهبا لقام بحجته.

وقال الشافعي: من أراد الفقه فهو عيال على أبي حنيفة، ومن أراد السِّير فهو عيال على محمد بن إسحاق، ومن أراد الحديث فهو عيال على مالك، ومن أراد التفسير فهو عيال على مقاتل بن سليمان.

وقال عبد الله بن داود الحريبي: ينبغي للناس أن يدعوا في صلاتهم لأبي حنيفة، لحفظه الفقه والسنن عليهم.

وقال سفيان الثوري وابن المبارك: كان أبو حنيفة أفقه أهل الأرض في زمانه.

وقال أبو نعيم: كان صاحب غوص في المسائل.

وقال مكي بن إبراهيم: كان أعلم أهل الأرض.

وروى الخطيب بسنده، عن أسد بن عمرو: أن أبا حنيفة كان يصلي بالليل ويقرأ القرآن كل ليلة، ويبكي حتى يرحمه جيرانه.

ومكث أربعين سنة يصلي الصبح بوضوء العشاء، وختم القرآن في الموضع الذي توفي فيه سبعين ألف مرة، وكانت وفاته في رجب من هذه السنة - أعني: سنة خمسين ومائة -، وعن ابن معين: سنة إحدى وخمسين، وقال غيره: سنة ثلاث وخمسين، والصحيح الأول.

وكان مولده في سنة ثمانين فتم له من العمر سبعون سنة، وصلي عليه ببغداد ست مرات لكثرة الزحام، وقبره هناك رحمه الله.

ثم دخلت سنة إحدى وخمسين ومائة

فيها: عزل المنصور عمر بن حفص عن السند وولى عليها هشام بن عمرو التغلبي، وكان سبب عزله عنها أن محمد بن عبد الله بن حسن لما ظهر بعث ابنه عبد الله الملقب: بالأشتر، ومعه جماعة بهدية وخيول عتاق إلى عمر بن حفص هذا إلى السند فقبلها، فدعوه إلى دعوة أبيه محمد بن عبد الله بن حسن في السر فأجابهم إلى ذلك ولبسوا البياض.

ولما جاء خبر مقتل محمد بن عبد الله بالمدينة سقط في أيديهم، وأخذوا في الاعتذار إلى عبد الله بن محمد، فقال له عبد الله: إني أخشى على نفسي.

فقال: إني سأبعثك إلى ملك من المشركين في جوار أرضنا، وإنه من أشد الناس تعظيما لرسول الله ، وأنه متى عرفك أنك من سلالته أحبك.

فأجابه إلى ذلك، وسار عبد الله بن محمد إلى ذلك الملك وكان عنده آمنا، وصار عبد الله يركب في موكب من الزيدية ويتصيد في جحفل من الجنود، وانضم إليه خلق، وقدم عليه طوائف من الزيدية.

وأما المنصور فإنه بعث يعتب على عمر بن حفص نائب السند، فقال رجل من الأمراء: ابعثني إليه واجعل القضية مسندة إليّ، فإني سأعتذر إليه من ذلك، فإن سلمت وإلا كنت فداءك وفداء من عندك من الأمراء.

فأرسله سفيرا في القضية إلى المنصور، فلما وقف بين يدي المنصور أمر بضرب عنقه، وكتب إلى عمر بن حفص بعزله عن السند وولاه بلاد إفريقية عوضا عن أميرها، ولما وجه المنصور هشام بن عمرو إلى السند أمره أن يجتهد في تحصيل عبد الله بن محمد، فجعل يتوانى في ذلك، فبعث إليه المنصور يستحثه في ذلك، ثم اتفق الحال أن سيفا أخا هشام بن عمرو لقي عبد الله بن محمد في بعض الأماكن فاقتتلوا فقتل عبد الله وأصحابه جميعا، واشتبه عليهم مكانه في القتلى فلم يقدروا عليه.

فكتب هشام بن عمرو إلى المنصور يعلمه بقتله، فبعث يشكره على ذلك ويأمره بقتال الملك الذي آواه، ويعلمه أن عبد الله كان قد تسرى بجارية هنالك وأولدها ولدا أسماه: محمدا، فإذا ظفرت بالملك فاحتفظ بالغلام فنهض هشام بن عمرو إلى ذلك الملك فقاتله فغلبه وقهره على بلاده وأمواله وحواصله، وبعث بالفتح والأخماس وبذلك الغلام والملك إلى المنصور، ففرح المنصور بذلك وبعث بذلك الغلام إلى المدينة، وكتب المنصور إلى نائبها يعلمه بصحة نسبه، ويأمره أن يلحقه بأهله يكون عندهم لئلا يضيع نسبه، فهو الذي يقال له: أبو الحسن الأشتر.

وفي هذه السنة: قدم المهدي بن المنصور على أبيه من خراسان فتلقاه أبوه والأمراء والأكابر إلى أثناء الطريق، وقدم بعد ذلك نواب البلاد والشام وغيرها للسلام عليه وتهنئته بالسلامة والنصر.

وحمل إليه من الهدايا والتحف ما لا يحد ولا يوصف.

بناء الرصافة

قال ابن جرير: وفي هذه السنة: شرع المنصور في بناء الرصافة لابنه المهدي بعد مقدمه من خراسان، وهي في الجانب الشرقي من بغداد، وجعل لها سورا وخندقا، وعمل عندها ميدانا وبستانا، وأجرى إليها الماء من نهر المهدي.

قال ابن جرير: وفيها: جدد المنصور البيعة لنفسه ثم لولده المهدي من بعده، ولعيسى بن موسى من بعدهما، وجاء الأمراء والخواص فبايعوا وجعلوا يقبّلون يد المنصور ويد ابنه ويلمسون يد عيسى بن موسى ولا يقبلونها.

قال الواقدي: وولى المنصور معن بن زائدة سجستان.

وحج بالناس فيها: محمد بن إبراهيم بن محمد بن علي، وهو نائب مكة والطائف، وعلى المدينة الحسن بن زيد، وعلى الكوفة محمد بن سليمان، وعلى البصرة جابر بن زيد الكلابي، وعلى مصر يزيد بن حاتم.

ونائب خراسان حميد بن قحطبة، ونائب سجستان معن بن زائدة.

وغزا الصائفة فيها: عبد الوهاب بن إبراهيم بن محمد.

وفيها توفي: حنظلة بن أبي سفيان، وعبد الله بن عون، ومحمد بن إسحاق بن يسار، صاحب السيرة النبوية التي جمعها وجعلها علما يهتدى به، وفخرا يستجلى به، والناس كلهم عيال عليه في ذلك، كما قال الشافعي وغيره من الأئمة.

ثم دخلت سنة ثنتين وخمسين ومائة

فيها: عزل المنصور عن إمرة مصر يزيد بن حاتم وولاها محمد بن سعيد، وبعث إلى نائب إفريقية وكان قد بلغه أنه عصى وخالف، فلما جيء به أمر بضرب عنقه.

وعزل عن البصرة جابر بن زيد الكلابي وولاها يزيد بن منصور.

وفيها: قتلت الخوارج معن بن زائدة بسجستان.

وفيها توفي: عباد بن منصور، ويونس بن يزيد الأيلي.

ثم دخلت سنة ثلاث وخمسون ومائة

وفيها: غضب المنصور على كاتبه أبي أيوب المورياني وسجنه وسجن أخاه خالدا وبني أخيه الأربعة: سعيدا، ومسعودا، ومخلدا، ومحمدا، وطالبهم بالأموال الكثيرة.

وكان سبب ذلك ما ذكره ابن عساكر في ترجمة أبي جعفر المنصور، وهو أنه كان في زمن شبيبته قد ورد الموصل وهو فقير لا شيء له ولا معه شيء، فأجر نفسه من بعض الملاحين حتى اكتسب شيئا تزوج به امرأة، ثم جعل يعدها ويمنيها أنه من بيت سيصير الملك إليهم سريعا، فاتفق حبلها منه، ثم تطلبه بنو أمية فهرب عنها وتركها حاملا، ووضع عندها رقعة فيها نسبته، وأنه عبد الله بن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس، وأمرها إذا بلغها أمره أن تأتيه، وإذا ولدت غلاما أن تسميه: جعفرا.

فولدت غلاما فسمته: جعفرا، ونشأ الغلام فتعلم الكتابة وغوى العربية والأدب، وأتقن ذلك إتقانا جيدا، ثم آل الأمر إلى بني العباس، فسألت عن السفاح فإذا هو ليس صاحبها، ثم قام المنصور وصار الولد إلى بغداد فاختلط بكّتاب الرسائل فأعجب به أيوب المورياني صاحب ديوان الإنشاء للمنصور، وحظي عنده وقدمه على غيره فاتفق حضوره معه بين يدي الخليفة، فجعل الخليفة يلاحظه، ثم بعث يوما الخادم ليأتيه بكاتب فدخل ومعه الغلام فكتب بين يدي المنصور كتابا وجعل الخليفة ينظر إليه ويتأمله، ثم سأله عن اسمه فأخبره أنه جعفر، فقال: ابن من ؟

فسكت الغلام، فقال: مالك لا تتكلم ؟

فقال: يا أمير المؤمنين ! إن من خبري كيت وكيت.

فتغير وجه الخليفة ثم سأله عن أمه فأخبره، وسأله عن أحوال بلد الموصل فجعل يخبره والغلام يتعجب.

ثم قام إليه الخليفة فاحتضنه، وقال: أنت ابني.

ثم بعثه بعقد ثمين ومال جزيل وكتاب إلى أمه يعلمها بحقيقة الأمر وحال الولد.

وخرج الغلام ومعه ذلك من باب سر الخليفة فأحرز ذلك ثم جاء إلى أبي أيوب فقال: ما بطأ بك عند الخليفة ؟

فقال: إنه استكتبني في رسائل كثيرة.

ثم تقاولا، ثم فارقه الغلام مغضبا، ونهض من فوره فاستأجر إلى الموصل ليعلم أمه ويحملها وأهلها إلى بغداد، إلى أبيه الخليفة.

فسار مراحل، ثم سأل عنه أبو أيوب فقيل: سافر فظن أبو أيوب أنه أفشى شيئا من أسراره إلى الخليفة وفر منه، فبعث في طلبه رسولا، وقال: حيث وجدته فرده علي.

فسار الرسول في طلبه فوجده في بعض المنازل فخنقه وألقاه في بئر وأخذ ما كان معه فرجع إلى أبي أيوب.

فلما وقف أبو أيوب على الكتاب أسقط في يده وندم على بعثه خلفه، وانتظر الخليفة عود ولده إليه واستبطأه وكشف عن خبره فإذا رسول أبي أيوب قد لحقه وقتله، فحينئذ استحضر أبا أيوب وألزمه بأموال عظيمة، ومازال في العقوبة حتى أخذ جميع أمواله وحواصله ثم قتله وجعل يقول: هذا قتل حبيبي.

وكان المنصور كلما ذكر ولده حزن عليه حزنا شديدا.

وفيها: خرجت الخوارج من الصفرية وغيرهم ببلاد إفريقية، فاجتمع منهم ثلاثمائة ألف وخمسون ألفا، ما بين فارس وراجل، وعليهم أبو حاتم الأنماطي، وأبو عباد.

وانضم إليهم أبو قرة الصفري في أربعين ألفا، فقاتلوا نائب إفريقية فهزموا جيشه وقتلوه، وهو عمر بن عثمان بن أبي صفرة الذي كان نائب السند كما تقدم قتله هؤلاء الخوارج، رحمه الله.

وأكثرت الخوارج الفساد في البلاد، وقتلوا الحريم والأولاد.

وفيها: ألزم المنصور الناس بلبس قلانس سود طوال جدا، حتى كانوا يستعينون عن رفعها من داخلها بالقصب، فقال أبو دلامة الشاعر في ذلك:

وكنا نرجي من إمام زيادة * فزاد الإمام المرتجى في القلانس

تراها على هام الرجال كأنها * دنان يهود جللت بالبرانس

وفيها: غزا الصائفة معيوف بن يحيى الحجوري، فأسر خلقا كثيرا من الروم بنيف على ستة آلاف أسير، وغنم أموالا جزيلةً.

وحج بالناس: المهدي بن المنصور، وهو ولي العهد الملقب: بالمهدي.

وكان على نيابة مكة والطائف محمد بن إبراهيم، وعلى المدينة الحسن بن زيد، وعلى الكوفة محمد بن سليمان، وعلى البصرة يزيد بن منصور، وعلى مصر محمد بن سعيد.

وذكر الواقدي: أن يزيد بن منصور كان ولاه المنصور في هذه السنة اليمن، فالله أعلم.

وفيها توفي: أبان بن صمة، وأسامة بن زيد الليثي، وثور بن يزيد الحمصي، والحسن بن عمارة، وقطر بن خليفة، ومعمر، وهشام بن الغازي، والله أعلم.

ثم دخلت سنة أربع وخمسين ومائة

فيها: دخل المنصور بلاد الشام وزار بيت المقدس، وجهز يزيد بن حاتم في خمسين ألفا وولاه بلاد إفريقية، وأمره بقتال الخوارج، وأنفق على هذا الجيش نحوا ثلاث وستين ألف درهم، وغزا الصائفة زفر بن عاصم الهلالي.

وحج بالناس فيها محمد بن إبراهيم، ونواب البلاد والأقاليم هم المذكورون في التي قبلها سوى البصرة فعليها عبد الملك بن أيوب بن ظبيان.

وفيها توفي: أبو أيوب الكاتب وأخوه خالد، وأمر المنصور ببني أخيه أن تقطع أيديهم وأرجلهم ثم تضرب بعد ذلك أعناقهم، ففعل ذلك بهم.

وفيها توفي:

أشعب الطامع

وهو: أشعب بن جبير، أبو العلاء، ويقال: أبو إسحاق المدني، ويقال له: أبو حميدة.

وكان أبوه مولى لآل الزبير، قتله المختار، وهو خال الواقدي.

وروى عن عبد الله بن جعفر: «أن رسول الله كان يتختم في اليمين».

وأبان بن عثمان، وسالم، وعكرمة.

وكان ظريفا ماجنا يحبه أهل زمانه لخلاعته وطمعه، وكان حميد الغناء، وقد وفد على الوليد بن يزيد دمشق، فترجمه ابن عساكر ترجمة ذكر عنه فيها أشياء مضحكة، وأسند عنه حديثين.

وروي عنه أنه سئل يوما أن يحدث فقال: حدثني عكرمة، عن ابن عباس، أن رسول الله قال: «خصلتان من عمل بهما دخل الجنة» ثم سكت.

فقيل له: ما هما ؟

فقال: نسي عكرمة الواحدة ونسيت أنا الأخرى.

وكان سالم بن عبد الله بن عمر يستخفه ويستحليه ويضحك منه ويأخذه معه إلى الغابة، وكذلك كان غيره من أكابر الناس.

وقال الشافعي: عبث الولدان يوما بأشعب فقال لهم: إن ههنا أناسا يفرقون الجوز - ليطردهم عنه - فتسارع الصبيان إلى ذلك، فلما رآهم مسرعين قال: لعله حق فتبعهم.

وقال له رجل: ما بلغ من طمعك ؟

فقال: ما زفت عروس بالمدينة إلا رجوت أن تزف إلي فأكسح داري وأنظف بابي واكنس بيتي.

واجتاز يوما برجل يصنع طبقا من قش فقال له: زد فيه طورا أو طورين لعله أن يهدى يوما لنا فيه هدية.

وروى ابن عساكر أن أشعب غنَّى يوما لسالم بن عبد الله بن عمر قول بعض الشعراء:

مضين بها والبدر يشبه وجهها * مطهرة الأثواب والدين وافر

لها حسب زاكٍ وعرض مهذب * وعن كل مكروه من الأمر زاجر

من الخفرات البيض لم تلق ريبة * ولم يستملها عن تقى الله شاعر

فقال له سالم: أحسنت فزدنا.

فغناه:

ألمت بنا والليل داج كأنه * جناح غراب عنه قد نفض القطرا

فقلت أعطار ثوى في رحالنا * وما علمت ليلى سوى ريحها عطرا

فقال له: أحسنت ولولا أن يتحدث الناس لأجزلت لك الجائزة، وإنك من الأمر لبمكان.

وفيها توفي: جعفر بن برقان، والحكم بن أبان، وعبد الرحمن بن زيد بن جابر، وقرة بن خالد.

وأبو عمرو بن العلاء

أحد أئمة القراء، واسمه كنيته، وقيل اسمه: ريان، والصحيح الأول.

وهو: أبو عمرو بن العلاء بن عمار بن العريان بن عبد الله بن الحصين، التميمي المازني البصري، وقيل غير ذلك في نسبه.

كان علامة زمانه في الفقه والنحو وعلم القراءات، وكان من كبار العلماء العاملين، يقال: إنه كتب ملء بيت من كلام العرب، ثم تزهد فأحرق ذلك كله، ثم راجع الأمر الأول فلم يكن عنده إلا ما كان يحفظه من كلام العرب، وكان قد لقي خلقا كثيرا من أعراب الجاهلية، كان مقدما أيام الحسن البصري ومن بعده.

من اختياراته في العربية قوله في تفسيره الغرة في الجنين: إنها لا يقبل فيها إلا أبيض غلاما كان أو جارية.

فهم ذلك من قوله عليه السلام: «غرة عبد أو أمة».

ولو أريد أي عبد كان أو جارية لما قيده بالغرة، وإنما الغرة البياض.

قال ابن خلكان: وهذا غريب ولا أعلم هل يوافقه قول أحد الأئمة المجتهدين أم لا.

وذكر عنه أنه كان إذا دخل شهر رمضان لا ينشد بيتا من الشعر حتى ينسلخ، وإنما كان يقرأ القرآن وأنه كان يشتري له كل يوم كوزا جديدا وريحانا طريا، وقد صحبه الأصمعي نحوا من عشر سنين.

كانت وفاته في هذه السنة، وقيل: في سنة ست وخمسين، وقيل: تسع وخمسين، فالله أعلم.

وقد قارب التسعين، وقيل: إنه جاوزها، فالله أعلم.

وقبره بالشام، وقيل: بالكوفة، فالله أعلم.

وقد روى ابن عساكر في ترجمة صالح بن علي بن عبد الله بن العباس، عن أبيه، عن جده عبد الله بن عباس، مرفوعا: «لأن يربي أحدكم بعد أربع وخمسين ومائة جرو كلب خير له من أن يربي ولدا لصلبه».

وهذا منكر جدا، وفي إسناده نظر.

ذكره من طريق تمام، عن خيثمة بن سليمان، عن محمد بن عوف الحمصي، عن أبي المغيرة عبد الله بن السمط، عن صالح، به.

وعبد الله بن السمط هذا لا أعرفه، وقد ذكره شيخنا الحافظ الذهبي في كتابه الميزان وقال: روى عن صالح بن علي حديثا موضوعا.

ثم دخلت سنة خمس وخمسين ومائة

فيها: دخل يزيد بن حاتم بلاد إفريقية فافتتحها عودا على بدء، وقتل من كان فيها ممن تغلب عليها من الخوارج، وقتل أمراءهم وأسر كبراءهم، وأذل أشرافهم واستبدل أهل تلك البلاد بالخوف أمنا وسلامةً، وبالإهانة كرامة، وكان من جملة من قتل من أمرائهم: أبو حاتم، وأبو عباد الخارجيان.

ثم لما استقامت له وبه الأمور في البلدان دخل ذلك بلاد القيروان فمهدها وأقر أهلها وقرر أمورها وأزال محذورها، والله سبحانه أعلم.

بناء الرافقة وهي المدينة المشهورة

وفيها: أمر المنصور ببناء الرافقة على منوال بناء بغداد في هذه السنة، وأمر فيها ببناء سور وعمل خندق حول الكوفة، وأخذ ما غرم على ذلك من أموال أهلها، من كل إنسان من أهل اليسار أربعين درهما، وقد فرضها أولا خمسة دراهم، خمسة دراهم، ثم جباها أربعين أربعين.

فقال في ذلك بعضهم:

يا لقومي ما رأينا * في أمير المؤمنينا

قسم الخمسة فينا * وجبانا أربعينا

وفيها: غزا الصائفة يزيد بن أسد السلمي.

وفيها: طلب ملك الروم الصلح من المنصور على أن يحمل إليه الجزية.

وفيها: عزل المنصور أخاه العباس بن محمد عن الجزيرة وغرمه أموالا كثيرةً.

وفيها: عزل محمد بن سليمان بن علي عن إمرة الكوفة.

فقيل: لأمور بلغته عنه في تعاطي منكرات، وأمور لا تليق بالعمال.

وقيل: لقتله محمد بن أبي العوجاء - وقد كان ابن أبي العوجاء هذا زنديقا - يقال: إنه لما أمر بضرب عنقه اعترف على نفسه بوضع أربعة آلاف حديث يحلُّ فيها الحرام ويحرم فيها الحلال، ويصوم الناس يوم الفطر ويفطرهم في أيام الصيام.

فأراد المنصور أن يجعل قتله له ذنبا فعزله به، وإنما أراد أن يقيده منه.

فقال له عيسى بن موسى: يا أمير المؤمنين ! لا تعزله بهذا ولا تقتله به، فإنه إنما قتله على الزندقة، ومتى عزلته به شكره العامة وذموك.

فتركه حينا ثم عزله وولى مكانه على الكوفة عمرو بن زهير.

وفيها: عزل عن المدينة الحسن بن زيد وولى عليها عمه عبد الصمد بن علي، وجعل معه فليح بن سليمان مشرفا عليه.

وعلى إمرة مكة محمد بن إبراهيم بن محمد، وعلى البصرة الهيثم بن معاوية، وعلى مصر محمد بن سعيد، وعلى إفريقية يزيد بن حاتم.

وفيها توفي:

صفوان بن عمرو وعثمان بن أبي العاتكة الدمشقيان، وعثمان بن عطاء، ومسعر بن كدام.

حماد الراوية

وهو: ابن أبي ليلى، ميسرة - ويقال: سابور - بن المبارك بن عبيد، الديلمي الكوفي، مولى بكير بن زيد الخيل الطائي، كان من أعلم الناس بأيام العرب وأخبارها وأشعارها ولغاتها، وهو الذي جمع السبع المعلقات الطوال، وإنما سمي: الرواية لكثرة روايته الشعر عن العرب، اختبره الوليد بن يزيد بن عبد الملك أمير المؤمنين في ذلك فأنشده تسعا وعشرين قصيدةً على حروف المعجم، كل قصيدة نحوا من مائة بيت، وزعم أنه لا يسمى شاعر من شعراء العرب إلا أنشد له ما لا يحفظه غيره. فأطلق له مائة ألف درهم.

وذكر أبو محمد الحريري في كتابه درة الغواص: أن هشام بن عبد الملك استدعاه من العراق من نائبه يوسف بن عمر، فلما دخل عليه إذا هو في دار قوراء مرخمة بالرخام والذهب وإذا عنده جاريتان حسنتان جدا، فاستنشده شيئا فأنشده، فقال له: سل حاجتك ؟

فقال: كائنة ما كانت يا أمير المؤمنين ؟

فقال: وما هي ؟

فقال: تطلق لي إحدى هاتين الجاريتين.

فقال: هما وما عليهما لك.

وأخلاه في بعض داره، وأطلق له مائة ألف درهم.

هذا ملخص الحكاية، والظاهر أن هذا الخليفة إنما هو الوليد بن يزيد فإنه ذكر أنه شرب معه الخمر، وهشام لم يكن يشرب، ولم يكن نائبه على العراق يوسف بن عمر، إنما كان نائبه خالد بن عبد الله القسري، وبعده يوسف بن عمر بن عبد العزيز.

كانت وفاة حماد في هذه السنة عن ستين سنة.

قال ابن خلكان: وقيل: إنه أدرك أول خلافة المهدي في سنة ثمان وخمسين، فالله أعلم.

وفيها قتل: حماد عجرد على الزندقة.

وهو:

حماد بن عمر ابن يوسف بن كليب الكوفي

ويقال: إنه واسطي مولى بني سواد.

وكان شاعرا ماجنا ظريفا زنديقا متهما على الإسلام، وقد أدرك الدولتين الأموية والعباسية، ولم يشتهر إلا في أيام بني العباس، وكان بينه وبين بشار بن برد مهاجاة كثيرة، وقد قتل بشار هذا على الزندقة أيضا كما سيأتي.

ودفن مع حماد هذا في قبره، وقيل: إن حمادا عجرد مات سنة ثمان وخمسين، وقيل: إحدى وستين ومائة، فالله أعلم.

ثم دخلت سنة ست وخمسين ومائة

فيها: ظفر الهيثم بن معاوية نائب المنصور على البصرة، بعمرو بن شداد الذي كان عاملا لإبراهيم بن محمد على فارس، فقيل: أمر فقطعت يداه ورجلاه وضربت عنقه ثم صلب.

وفيها: عزل المنصور الهيثم بن معاوية هذا الذي فعل هذه الفعلة عن البصرة وولى عليها قاضيها سوار بن عبد الله، فجمع له بين القضاء والصلاة، وجعل على شرطتها وأحداثها سعيد بن دعلج، ورجع الهيثم بن معاوية قاتل عمرو بن شداد إلى بغداد فمات فيها فجأة في هذه السنة، وهو على بطن جارية له، وصلى عليه المنصور ودفن في مقابر بني هاشم.

ويقال: إنه أصابته دعوة عمر بن شداد الذي قتله تلك القتلة، فليتق العبد الظلم.

وحج بالناس العباس بن محمد أخو المنصور.

ونواب البلاد هم المذكورون في التي قبلها، وعلى فارس والأهواز وكور دجلة عمارة بن حمزة، وعلى كرمان والسند هشام بن عمرو.

وفيها توفي: حمزة الزيات في قول، وهو أحد القراء المشهورين والعباد المذكورين، وإليه تنسب المدود الطويلة في القراءة اصطلاحا من عنده، وقد تكلم فيه بسببها بعض الأئمة وأنكروها عليه.

وسعيد بن أبي عروبة، وهو أول من جمع السنن في قول، وعبد الله بن شوذب، وعبد الرحمن بن زياد بن أنعم الأفريقي، وعمر بن ذر.

ثم دخلت سنة سبع وخمسين ومائة

فيها: بنى المنصور قصره المسمى: بالخلد في بغداد، تفاؤلا بالتخليد في الدنيا، فعند كماله مات وخرب القصر من بعده، وكان المستحث في عمارته أبان بن صدقة، والربيع مولى المنصور وهو حاجبه.

وفيها: حول المنصور الأسواق من قرب دار الإمارة إلى باب الكرخ. وقد ذكرنا فيما تقدم سبب ذلك.

وفيها: أمر بتوسعة الطرقات.

وفيها: أمر بعمل جسر عند باب الشعير.

وفيها: استعرض المنصور جنده وهم ملبسون السلاح وهو أيضا لابس سلاحا عظيما، وكان ذلك عند دجلة.

وفيها: عزل عن السند هشام بن عمرو وولى عليها سعيد بن الخليل.

وفيها: غزا الصائفة يزيد بن أسيد السلمي فأوغل في بلاد الروم، وبعث سنانا مولى البطال مقدمة بين يديه ففتح حصونا وسبى وغنم.

وفيها حج بالناس: إبراهيم بن يحيى بن محمد بن علي.

ونواب البلاد هم المذكورون في التي قبلها.

وفيها توفي: الحسين بن واقد، والإمام الجليل علامة الوقت أبو عمرو عبد الرحمن بن عمرو الأوزاعي فقيه أهل الشام وإمامهم.

وقد بقي أهل دمشق وما حولها من البلاد على مذهبه نحوا من مائتين وعشرين سنة.

شيء من ترجمة الأوزاعي رحمه الله

هو: عبد الرحمن بن عمرو بن محمد، أبو عمرو الأوزاعي.

والأوزاع: بطن من حمير وهو من أنفسهم. قاله محمد بن سعد.

وقال غيره: لم يكن من أنفسهم وإنما نزل في محلة الأوزاع، وهي قرية خارج باب الفراديس من قرى دمشق، وهو ابن عم يحيى بن عمرو الشيباني.

قال أبو زرعة: وأصله من سبي السند فنزل الأوزاع فغلب عليه النسبة إليها.

وقال غيره: ولد ببعلبك ونشأ بالبقاع يتيما في حجر أمه، وكانت تنتقل به من بلد إلى بلد.

وتأدب بنفسه، فلم يكن في أبناء الملوك والخلفاء والوزراء والتجار وغيرهم أعقل منه، ولا أورع ولا أعلم، ولا أفصح ولا أوقر ولا أحلم، ولا أكثر صمتا منه، ما تكلم بكلمة إلا كان المتعين على من سمعها من جلسائه أن يكتبها عنه، من حسنها، وكان يعاني الرسائل والكتابة، وقد اكتتب مرة في بعث إلى اليمامة فسمع من يحيى بن أبي كثير وانقطع إليه فأرشده إلى الرحلة إلى البصرة ليسمع من الحسن وابن سيرين.

فسار إليها فوجد الحسن قد توفي من شهرين، ووجد ابن سيرين مريضا، فجعل يتردد لعيادته، فقوي المرض به ومات ولم يسمع منه الأوزاعي شيئا.

ثم جاء فنزل دمشق بمحلة الأوزاع خارج باب الفراديس، وساد أهلها في زمانه وسائر البلاد في الفقه والحديث والمغازي وغير ذلك من علوم الإسلام.

وقد أدرك خلقا من التابعين وغيرهم، وحدث عنه جماعات من سادات المسلمين: كمالك بن أنس والثوري، والزهري وهو من شيوخه.

وأثنى عليه غير واحد من الأئمة، وأجمع المسلمون على عدالته وإمامته.

قال مالك: كان الأوزاعي إماما يقتدى به.

وقال سفيان بن عيينة وغيره: كان الأوزاعي إمام أهل زمانه.

وقد حج مرة فدخل مكة وسفيان الثوري آخذ بزمام جمله، ومالك بن أنس يسوق به، والثوري يقول: أفسحوا للشيخ حتى أجلساه عند الكعبة، وجلسا بين يديه يأخذان عنه.

وقد تذاكر مالك والأوزاعي مرة بالمدينة من الظهر حتى صليا العصر، ومن العصر حتى صليا المغرب، فغمره الأوزاعي في المغازي، وغمره مالك في الفقه. أو في شيء من الفقه.

وتناظر الأوزاعي والثوري في مسجد الخيف في مسألة رفع اليدين في الركوع والرفع منه، فاحتج الأوزاعي على الرفع في ذلك بما رواه عن الزهري، عن سالم، عن أبيه: «أن رسول الله : كان يرفع يديه في الركوع والرفع منه».

واحتج الثوري على ذلك بحديث يزيد بن أبي زياد.

فغضب الأوزاعي وقال: تعارض حديث الزهري بحديث يزيد بن أبي زياد وهو رجل ضعيف ؟

فاحمر وجه الثوري، فقال الأوزاعي: لعلك كرهت ما قلت ؟

قال: نعم.

قال: فقم بنا حتى نلتعن عند الركن أينا على الحق. فسكت الثوري.

وقال هقل بن زياد: أفتى الأوزاعي في سبعين ألف مسألة بحدثنا. وأخبرنا.

وقال أبو زرعة: روي عنه ستون ألف مسألة.

وقال غيرهما: أفتى في سنة ثلاث عشرة ومائة وعمره إذ ذاك خمس وعشرون سنة، ثم لم يزل يفتي حتى مات وعقله زاكٍ.

وقال يحيى القطان، عن مالك: اجتمع عندي الأوزاعي والثوري وأبو حنيفة.

فقلت: أيهم أرجح ؟

قال: الأوزاعي.

وقال محمد بن عجلان: لم أر أحدا أنصح للمسلمين من الأوزاعي.

وقال غيره: ما رُئي الأوزاعي ضاحكا مقهقها قط، ولقد كان يعظ الناس فلا يبقي أحد في مجلسه إلا بكى بعينه أو بقلبه، وما رأيناه يبكي في مجلسه قط وكان إذا خلى بكى حتى يرحم.

وقال يحيى بن معين: العلماء أربعة: الثوري، وأبو حنيفة، ومالك، والأوزاعي.

قال أبو حاتم: كان ثقةً متبعا لما سمع.

قالوا: وكان الأوزاعي لا يلحن في كلامه، وكانت كتبه ترد على المنصور فينظر فيها ويتأملها ويتعجب من فصاحتها وحلاوة عبارتها.

وقد قال المنصور يوما: لأحظى كتَّابه عنده - وهو: سليمان بن مجالد -: ينبغي أن نجيب الأوزاعي على ذلك دائما، لنستعين بكلامه فيما نكاتب به إلى الآفاق إلى من لا يعرف كلام الأوزاعي.

فقال: والله يا أمير المؤمنين ! لا يقدر أحد من أهل الأرض على مثل كلامه ولا على شيء منه.

وقال الوليد بن مسلم: كان الأوزاعي إذا صلى الصبح جلس يذكر الله سبحانه حتى تطلع الشمس، وكان يأثر عن السلف ذلك.

قال: ثم يقومون فيتذاكرون في الفقه والحديث.

وقال الأوزاعي: رأيت رب العزة في المنام فقال: أنت الذي تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر ؟

فقال: بفضلك أي رب.

ثم قلت: يا رب أمتني على الإسلام.

فقال: وعلى السنة.

وقال محمد بن شابور: قال لي شيخ بجامع دمشق: أنا ميت في يوم كذا وكذا.

فلما كان في ذلك اليوم رأيته في صحن الجامع يتفلى، فقال لي: اذهب إلى سرير الموتى فأحرزه لي عندك قبل أن تسبق إليه.

فقلت: ما تقول ؟

فقال: هو ما أقول لك، وإني رأيت كأن قائلا يقول: فلان قدري وفلان كذا وعثمان بن العاتكة نعمَ الرجل، وأبو عمرو الأوزاعي خير من يمشي على وجه الأرض، وأنت ميت في يوم كذا وكذا.

قال محمد بن شعيب: فما جاء الظهر حتى مات وصلينا عليه بعدها وأخرجت جنازته. ذكر ذلك ابن عساكر.

وكان الأوزاعي رحمه الله كثير العبادة حسن الصلاة ورعا ناسكا طويل الصمت، وكان يقول: من أطال القيام في صلاة الليل هوّن الله عليه طول القيام يوم القيامة، أخذ ذلك من قوله تعالى: { وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيْلا طَوِيلا * إِنَّ هَؤُلَاءِ يُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَرَاءهُمْ يَوْما ثَقِيلا } [الإنسان: 26- 27] .

وقال الوليد بن مسلم: ما رأيت أحدا أشد اجتهادا من الأوزاعي في العبادة.

وقال غيره: حج فما نام على الراحلة، إنما هو في صلاة، فإذا نعس استند إلى القتب، وكان من شدة الخشوع كأنه أعمى.

ودخلت امرأة على امرأة الأوزاعي فرأت الحصير الذي يصلي عليه مبلولا فقالت لها: لعل الصبي بال ههنا.

فقالت: هذا أثر دموع الشيخ من بكائه في سجوده، هكذا يصبح كل يوم.

وقال الأوزاعي: عليك بآثار من سلف وإن رفضك الناس، وإياك وأقوال الرجال وإن زخرفوه وحسنوه، فإن الأمر ينجلي وأنت منه على طريق مستقيم.

وقال أيضا: اصبر على السنة وقف حيث يقف القوم، وقل ما قالوا وكف عما كفوا، وليسعك ما وسعهم.

وقال: العلم ما جاء عن أصحاب محمد، وما لم يجيء عنهم فليس بعلم.

وكان يقول: لا يجتمع حب عليٍّ وعثمان إلا في قلب مؤمن، وإذا أراد الله بقوم شرا فتح عليهم باب الجدل وسد عنهم باب العلم والعمل.

قالوا: وكان الأوزاعي من أكرم الناس وأسخاهم، وكان له في بيت المال على الخلفاء أقطاع صار إليه من بني أمية وقد وصل إليه من خلفاء بني أمية وأقاربهم وبني العباس نحو من سبعين ألف دينار، فلم يمسك منها شيئا، ولا اقتنى شيئا من عقار ولا غيره، ولا ترك يوم مات سوى سبعة دنانير كانت جهازه، بل كان ينفق ذلك في سبيل الله وفي الفقراء والمساكين.

ولما دخل عبد الله بن علي - عم السفاح الذي أجلى بني أمية عن الشام، وأزال الله سبحانه دولتهم على يده - دمشق فطلب الأوزاعي فتغيب عنه ثلاثة أيام ثم حضر بين يديه.

قال الأوزاعي: دخلت عليه وهو على سرير وفي يده خيزرانة والمسودة عن يمينه وشماله، ومعهم السيوف مصلتة - والعمد الحديد - فسلمت عليه فلم يرد ونكت بتلك الخيزرانة التي في يده ثم قال: يا أوزاعي ! ما ترى فيما صنعنا من إزالة أيدي أولئك الظلمة عن العباد والبلاد؟ أجهادا ورباطا هو ؟

قال: فقلت: أيها الأمير ! سمعت يحيى بن سعيد الأنصاري، يقول: سمعت محمد بن إبراهيم التيمي، يقول: سمعت علقمة بن وقاص، يقول: سمعت عمر بن الخطاب، يقول: سمعت رسول الله يقول: «إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها أو امرأة يتزوجها فهجرته إلى ما هاجر إليه».

قال: فنكت بالخيزرانة أشد مما كان ينكت، وجعل من حوله يقبضون أيديهم على قبضات سيوفهم، ثم قال: يا أوزاعي ! ما تقول في دماء بني أمية ؟

فقلت: قال رسول الله : «لا يحل لمسلم دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث: النفس بالنفس، والثيب الزاني، والتارك لدينه المفارق للجماعة».

فنكت بها أشد من ذلك ثم قال: ما تقول في أموالهم ؟

فقلت: إن كانت في أيديهم حراما فهي حرام عليك أيضا، وإن كانت لهم حلالا فلا تحل لك إلا بطريق شرعي.

فنكت أشد مما كان ينكت قبل ذلك ثم قال: ألا نوليك القضاء ؟

فقلت: إن أسلافك لم يكونوا يشقون علي في ذلك، وإني أحب أن يتم ما ابتدؤني به من الإحسان.

فقال: كأنك تحب الانصراف ؟

فقلت: إن ورائي حرما وهم محتاجون إلى القيام عليهن وسترهن، وقلوبهن مشغولة بسببي.

قال: وانتظرت رأسي أن يسقط بين يدي، فأمرني بالانصراف.

فلما خرجت إذا برسوله من ورائي، وإذا معه مائتا دينار، فقال: يقول لك الأمير: استنفق هذه.

قال: فتصدقت بها، وإنما أخذتها خوفا.

قال: وكان في تلك الأيام الثلاثة صائما فيقال: إن الأمير لما بلغه ذلك عرض عليه الفطر عنده فأبى أن يفطر عنده.

قالوا: ثم رحل الأوزاعي من دمشق فنزل بيروت مرابطا بأهله وأولاده، قال الأوزاعي: وأعجبني في بيروت أني مررت بقبورها فإذا امرأة سوداء في القبور فقلت لها: أين العمارة يا هنتاه ؟

فقالت: إن أردت العمارة فهي هذه - وأشارت إلى القبور - وإن كنت تريد الخراب فأمامك - وأشارت إلى البلد - فعزمت على الإقامة بها.

وقال محمد بن كثير: سمعت الأوزاعي، يقول: خرجت يوما إلى الصحراء فإذا رجل جراد وإذا شخص راكب على جرادة منها وعليه سلاح الحديد، وكلما قال بيده هكذا إلى جهة مال الجراد مع يده، وهو يقول: الدنيا باطل باطل باطل، وما فيها باطل باطل باطل.

وقال الأوزاعي: كان عندنا رجل يخرج يوم الجمعة إلى الصيد ولا ينتظر الجمعة فخسف ببغلته فلم يبق منها إلا أذناها.

وخرج الأوزاعي يوما من باب مسجد بيروت وهناك كان فيه رجل يبيع الناطف وإلى جانبه رجل يبيع البصل وهو يقول له: يا بصل ! أحلى من العسل، أو قال: أحلى من الناطف.

فقال الأوزاعي: سبحان الله ! أيظن هذا أن شيئا من الكذب يباح؟ فكان هذا ما يرى في الكذب بأسا.

وقال الواقدي: قال الأوزاعي: كنا قبل اليوم نضحك ونلعب، أما إذا صرنا أئمة يقتدى بنا فلا نرى أن يسعنا ذلك، وينبغي أن نتحفظ.

وكتب إلى أخ له: أما بعد فقد أحيط بك من كل جانب، وإنه يسار بك في كل يوم وليلة، فاحذر الله والقيام بين يديه، وأن يكون آخر العهد بك والسلام.

وقال ابن أبي الدنيا: حدثني محمد بن إدريس، سمعت أبا صالح - كاتب الليث -، يذكر عن الهقل بن زياد، عن الأوزاعي، أنه وعظ فقال في موعظته: أيها الناس ! تقووا بهذه النعم التي أصبحتم فيها على الهرب من نار الله الموقدة، التي تطلع على الأفئدة، فإنكم في دار الثواء فيها قليل، وأنتم عما قليل عنها راحلون.

خلائف بعد القرون الماضية الذين استقبلوا من الدنيا آنقها وزهرتها، فهم كانوا أطول منكم أعمارا، وأمد أجساما، وأعظم أحلاما، وأكثر أموالا وأولادا، فخددوا الجبال، وجابوا الصخر بالواد، وتنقلوا في البلاد، مؤيدين بطش شديد، وأجساد كالعماد، فما لبثت الأيام والليالي أن طوت آثارهم، وأخربت منازلهم وديارهم، وأنست ذكرهم، فهل تحسن منهم من أحد أو وتسمع له ركزا ؟

كانوا بلهو الأمل آمنين، وعن ميقات يوم موتهم غافلين، فآبوا إياب قوم نادمين، ثم إنكم قد علمتم الذي نزل بساحتهم بياتا من عقوبة الله، فأصبح كثير منهم في ديارهم جاثمين، وأصبح الباقون المتخلفون يبصرون في نعمة الله وينظرون في آثار نقمته، وزوال نعمته عمن تقدمهم من الهالكين ينظرون والله في مساكن خالية خاوية، وقد كانت بالعز محفوفة، وبالنعم معروفة، والقلوب إليها مصروفة، والأعين نحوها ناظرة، فأصبحت آية للذين يخافون العذاب الأليم، وعبرة لمن يخشى.

وأصبحتم بعدهم في أجل منقوص ودنيا منقوصة، في زمان قد ولى عفوه وذهب رخاؤه وخيره وصفوه، فلم يبق منه إلا جمة شر، وصبابة كدر، وأهاويل عبر، وعقوبات غير، وإرسال فتن، وتتابع زلال، ورذالة خلف بهم، ظهر الفساد في البر والبحر، يضيقون الديار، ويغلون الأسعار بما يرتكبونه من العار والشنار، فلا تكونوا أشباها لمن خدعه الأمل، وغره طول الأجل، ولعبت به الأماني، نسأل الله أن يجعلنا وإياكم ممن إذا دعي بدر، وإذا نهي انتهى، وعقل مثواه فمهد لنفسه.

وقد اجتمع الأوزاعي بالمنصور حين دخل الشام ووعظه وأحبه المنصور وعظمه، ولما أراد الانصراف من بين يديه استأذنه أن لا يلبس السواد فأذن له فلما خرج قال المنصور للربيع الحاجب: الحقه فاسأله لم كره لبس السواد؟ ولا تعلمه أني قلت لك.

فسأله الربيع فقال: إني لم أر محرما أحرم فيه، ولا ميتا كفن فيه، ولا عروسا جليت فيه، فلهذا أكرهه.

وقد كان الأوزاعي في الشام معظما مكرما أمره أعز عندهم من أمر السلطان، وقد همَّ به بعض مرة فقال له أصحابه: دعه عنك والله لو أمر أهل الشام أن يقتلونك لقتلوك.

ولما مات جلس على قبره بعض الولاة فقال: رحمك الله، فوالله لقد كنت أخاف منك أكثر مما أخاف من الذي ولاني - يعني: المنصور -.

وقال ابن العشرين: ما مات الأوزاعي حتى جلس وحده وسمع شتمه بأذنه.

وقال أبو بكر بن أبي خيثمة: حدثنا محمد بن عبيد الطنافسي، قال: كنت جالسا عند الثوري فجاءه رجل، فقال: رأيت كأن ريحانة من المغرب - يعني: قلعت -.

قال: إن صدقت رؤياك فقد مات الأوزاعي.

فكتبوا ذلك فجاء موت الأوزاعي في ذلك اليوم.

وقال أبو مسهر: بلغنا أن سبب موته أن امرأته أغلقت عليه باب حمام فمات فيه، ولم تكن عامدة ذلك، فأمرها سعيد بن عبد العزيز بعتق رقبه.

قال: وما خلف ذهبا ولا فضةً ولا عقارا، ولا متاعا إلا ستة وثمانين، فضلت من عطائه.

وكان قد اكتتب في ديوان الساحل.

وقال غيره: كان الذي أغلق عليه باب الحمام صاحب الحمام، أغلقه وذهب لحاجة له ثم جاء ففتح الحمام فوجده ميتا قد وضع يده اليمنى تحت خده وهو مستقبل القبلة رحمه الله.

قلت: لا خلاف أنه مات ببيروت مرابطا، واختلفوا في سنة وفاته، فروى يعقوب بن سفيان، عن سلمة، قال: قال أحمد: رأيت الأوزاعي وتوفي سنة خمسين ومائة.

قال العباس بن الوليد البيروتي: توفي يوم الأحد أول النهار لليلتين بقيتا من صفر سنة سبع وخمسين ومائة، وهو الذي عليه الجمهور وهو الصحيح، وهو قول: أبي مسهر، وهشام بن عمار، والوليد بن مسلم - في أصح الروايات عنه -، ويحيى بن معين، ودحيم، وخليفة بن خياط، وأبي عبيد، وسعيد بن عبد العزيز، وغير واحد.

قال العباس بن الوليد: ولم يبلغ سبعين سنة، وقال غيره: جاوز السبعين، والصحيح سبع وستون سنة، لأن ميلاده في سنة ثمان وثمانون على الصحيح.

وقيل: أنه ولد سنة ثلاث وسبعين، وهذا ضعيف.

وقد رآه بعضهم في المنام، فقال له: دلني على عمل يقربني إلى الله.

فقال: ما رأيت في الجنة درجة أعلى من درجة العلماء العاملين، ثم المحزونين.

ثم دخلت سنة ثمان وخمسين ومائة

فيها: تكامل بناء قصر المنصور المسمى: بالخلد، وسكنه أياما يسيرة ثم مات وتركه.

وفيها: مات طاغية الروم.

وفيها: وجه المنصور ابنه المهدي إلى الرقة وأمره بعزل موسى بن كعب عن الموصل، وأن يولى عليها خالد بن برمك وكان ذلك بعد نكته غريبة اتفقت ليحيى بن خالد، وذلك: أن المنصور كان قد غضب على خالد بن برمك، وألزمه يحمل ثلاثة آلاف ألف، فضاق ذرعا بذلك، ولم يبق له مال ولا حال، وعجز عن أكثرها، وقد أجله ثلاثة أيام، وأن يحمل ذلك في هذه الثلاثة أيام وإلا فدمه هدر فجعل يرسل ابنه يحيى إلى أصحابه من الأمراء يستقرض منهم، فكان منهم من أعطاه مائة ألف، ومنهم أقل وأكثر.

قال يحيى بن خالد: فبينا أنا ذات يوم من تلك الأيام الثلاثة على جسر بغداد، وأنا مهموم في تحصيل ما طلب منا مما لا طاقة لنا به، إذ وثب إلى زاجر من أولئك الذين يكونون عند الجسر من الطرقية، فقال لي: أبشر !

فلم ألتفت إليه فتقدم حتى أخذ بلجام فرسي ثم قال لي: أنت مهموم، ليفرجن الله همك ولتمرن غدا في هذا الموضع واللواء بين يديك، فإن كان ما قلت لك حقا فلي عليك خمسة آلاف.

فقلت: نعم !

ولو قال: خمسون ألفا لقلت: نعم ! لبعد ذلك عندي.

وذهبت لشأني، وقد بقي علينا من الحمل ثلاثمائة ألف فورد الخبر إلى المنصور بانتقاض الموصل وانتشار الأكراد فيها، فاستشار المنصور الأمراء: من يصلح للموصل ؟

فأشار بعضهم بخالد بن برمك، فقال له المنصور: أو يصلح لذلك بعد ما فعلنا به ؟

فقال: نعم ! وأنا الضامن أنه يصلح لها.

فأمر بإحضاره فولاه إياها ووضع عنه بقية ما كان عليه، وعقد له اللواء، وولى ابنه يحيى أذربيجان، وخرج الناس في خدمتهما.

قال يحيى: فمررنا بالجسر فسار إلي ذلك الزاجر فطالبني بما وعدته به، فأمرت له به فقبض خمسة آلاف.

وفي هذه السنة: خرج المنصور إلى الحج فساق الهدي معه، فلما جاوز الكوفة بمراحل أخذه وجعه الذي مات به وكان عنده سوء مزاج فاشتد عليه من شدة الحد وركوبه في الهواجر، وأخذه إسهال وأفرط به، فقوي مرضه، ودخل مكة فتوفي بها ليلة السبت لست مضين من ذي الحجة، وصلي عليه ودفن بكدا عند ثنية باب المعلاة التي بأعلا مكة، وكان عمره يومئذ ثلاثا، وقيل: أربعا، وقيل: خمسا وستين، وقيل: إنه بلغ ثمانيا وستين، فالله أعلم.

وقد كتم الربيع الحاجب موته حتى أخذ البيعة للمهدي من القواد ورؤوس بني هاشم، ثم دفن.

وكان الذي صلى عليه إبراهيم بن يحيى بن محمد بن علي، وهو الذي أقام للناس الحج في هذه السنة.

ترجمة المنصور

هو: عبد الله بن محمد بن علي بن عباس بن عبد المطلب بن هاشم، أبو جعفر المنصور، وكان أكبر من أخيه أبي العباس السفاح، وأمه أم ولد اسمها:، سلامة.

وروى عن جده، عن ابن عباس: «أن رسول الله كان يتختم في يمينه».

أورده ابن عساكر، من طريق محمد بن إبراهيم السلمي، عن المأمون، عن الرشيد، عن المهدي، عن أبيه المنصور، به.

بويع له بالخلافة بعد أخيه في ذي الحجة سنة ست وثلاثين ومائة، وعمره يومئذ إحدى وأربعون سنة، لأنه ولد في سنة خمس وتسعين على المشهور في صفر منها، بالحميمة من بلاد البلقاء، وكانت خلافته ثنتين وعشرين سنة إلا أياما.

وكان أسمر اللون، موفور اللمة، خفيف اللحية، رحب الجبهة، أقنى الأنف، أعين كأن عينيه لسانان ناطقان، يخالطه أبهة الملك، وتقبله القلوب، وتتبعه العيون، يعرف الشرف في مواضعه، والعنف في صورته، والليث في مشيته، هكذا وصفه بعض من رآه.

وقد صح عن ابن عباس أنه قال: منَّا السفاح والمنصور.

وفي رواية: حتى نسلمها إلى عيسى بن مريم.

وقد روي مرفوعا، ولا يصح، ولا وقفه أيضا.

وذكر الخطيب أن أمه سلامة قالت: رأيت حين حملت به كأنه خرج مني أسد فزأر واقفا على يديه، فما بقي أسد حتى جاء فسجد له.

وقد رأى المنصور في صغره مناما غريبا كان يقول: ينبغي أن يكتب في ألواح الذهب، ويعلق في أعناق الصبيان.

قال: رأيت كأني في المسجد الحرام وإذا رسول الله في الكعبة والناس مجتمعون حولها، فخرج من عنده مناد: أين عبد الله ؟

فقام أخي السفاح يتخطى الرجال حتى جاء باب الكعبة فأخذ بيده فأدخله إياها، فما لبث أن خرج ومعه لواء أسود.

ثم نودي: أين عبد الله ؟

فقمت أنا وعمي عبد الله بن علي نستبق، فسبقته إلى باب الكعبة فدخلتها، فإذا رسول الله وأبو بكر وعمر وبلال، فعقد لي لواء وأوصاني بأمته وعممني عمامة كورها ثلاثة وعشرون كورا، وقال: «خذها إليك أبا الخلفاء إلى يوم القيامة».

وقد اتفق سجن المنصور في أيام بني أمية فاجتمع به نوبخت المنجم وتوسم فيه الرياسة فقال له: ممن تكون ؟

فقال: من بني العباس.

فلما عرف منه نسبه وكنيته قال: أنت الخليفة الذي تلي الأرض.

فقال له: ويحك ! ماذا تقول ؟

فقال: هو ما أقول لك، فضع لي خطك في هذه الرقعة أن تعطيني شيئا إذا وليت.

فكتب له، فلما ولي أكرمه المنصور وأعطاه وأسلم نوبخت على يديه، وكان قبل ذلك مجوسيا، ثم كان من أخص أصحاب المنصور.

وقد حج المنصور بالناس سنة: أربعين ومائة وأحرم من الحيرة، وفي سنة أربع وأربعين، وفي سنة سبع وأربعين، وفي سنة ثنتين وخمسين، ثم في هذه السنة التي مات فيها.

وبنى بغداد والرصافة والرافقة وقصره الخلد.

قال الربيع بن يونس الحاجب: سمعت المنصور يقول: الخلفاء أربعة: أبو بكر، وعمر، وعثمان، وعلي.

والملوك أربعة: معاوية، وعبد الملك بن مروان، وهشام بن عبد الملك، وأنا.

وقال مالك: قال لي المنصور: من أفضل الناس بعد رسول الله ؟

فقلت: أبو بكر، وعمر.

فقال: أصبت وذلك رأي أمير المؤمنين.

وعن إسماعيل البهري، قال: سمعت المنصور على منبر عرفة يوم عرفة، يقول: أيها الناس ! إنما أنا سلطان الله في أرضه، أسوسكم بتوفيقه ورشده، وخازنه على ماله أقسمه بإرادته وأعطيه بإذنه، وقد جعلني الله عليه قفلا فإن شاء أن يفتحني لأعطياتكم وقسم أرزاقكم فتحني، وإذا شاء أن يقفلني عليه قفلني.

فارغبوا إلى الله أيها الناس ! وسلوه في هذا اليوم الشريف الذي وهبكم فيه من فضله ما أعلمكم به في كتابه، إذ يقول: { الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينا } [المائدة: 3] .

أن يوفقني للصواب ويسددني للرشاد ويلهمني الرأفة بكم والإحسان إليكم، ويفتحني لأعطياتكم وقسم أرزاقكم بالعدل عليكم، فإنه سميع مجيب.

وقد خطب يوما فاعترضه رجل وهو يثني على الله عز وجل، فقال: يا أمير المؤمنين ! اذكر من أنت ذاكره، واتق الله فيما تأتيه وتذره.

فسكت المنصور حتى انتهى كلام الرجل، فقال: أعوذ بالله أن أكون ممن قال الله عز وجل فيه: { وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ } [البقرة: 206] أو أن أكون جبارا عصيا.

أيها الناس ! إن الموعظة علينا نزلت ومن عندنا نبتت، ثم قال للرجل: ما أظنك في مقالتك هذه تريد وجه الله، وإنما أردت أن يقال عنك وعظ أمير المؤمنين.

أيها الناس ! لا يغرنكم هذا فتفعلوا كفعله.

ثم أمر به فاحتفظ به وعاد إلى خطبته فأكملها، ثم قال لمن هو عنده: أعرض عليه الدنيا فإن قبلها فأعلمني، وإن ردها فأعلمني، فما زال به الرجل الذي هو عنده حتى أخذ المال ومال إلى الدنيا فولاه الحسبة والمظالم وأدخله على الخليفة في بزة حسنة، وثياب وشارة وهيئة دنيوية، فقال له الخليفة: ويحك ! لو كنت محقا مريدا وجه الله بما قلت على رؤوس الناس لما قبلت شيئا مما أرى، ولكن أردت أن يقال عنك: إنك وعظت أمير المؤمنين، وخرجت عليه، ثم أمر به فضربت عنقه.

وقد قال المنصور لابنه المهدي: إن الخليفة لا يصلحه إلا التقوى، والسلطان لا يصلحه إلا الطاعة، والرعية لا يصلحها إلا العدل، وأولى الناس بالعفو أقدرهم على العقوبة، وأنقص الناس عقلا من ظلم من هو دونه.

وقال أيضا: يا بني ! استدم النعمة بالشكر، والقدرة بالعفو، والطاعة بالتأليف، والنصر بالتواضع والرحمة للناس، ولا تنس نصيبك من الدنيا ونصيبك من رحمة الله.

وحضر عنده مبارك بن فضيلة يوما وقد أمر برجل أن يضرب عنقه وأحضر النطع والسيف، فقال له مبارك: سمعت الحسين، يقول: قال رسول الله : «إذا كان يوم القيامة نادى مناد ليقم من كان أجره على الله فلا يقوم إلا من عفا». فأمر بالعفو عن ذلك الرجل.

ثم أخذ يعدد على جلسائه عظيم جرائم ذلك الرجل وما صنعه.

وقال الأصمعي: أتى المنصور برجل ليعاقبه فقال: يا أمير المؤمنين ! الانتقام عدل والعفو فضل، وتعوذ أمير المؤمنين بالله أن يرضى لنفسه بأوكس النصيبين، وأدنى القسمين، دون أرفع الدرجتين.

قال: فعفا عنه.

وقال الأصمعي: قال المنصور لرجل من أهل الشام: احمد الله يا أعرابي ! الذي دفع عنكم الطاعون بولايتنا.

فقال: إن الله لا يجمع علينا حشفا وسوء كيل: ولايتكم والطاعون.

والحكايات في ذكر حلمه وعفوه كثيرة جدا.

ودخل بعض الزهاد إلى المنصور فقال: إن الله أعطاك الدنيا بأسرها فاشتر نفسك ببعضها، واذكر ليلة تبيت في القبر لم تبت قبلها ليلة، واذكر ليلة تمخض عن يوم لا ليلة بعده.

قال: فأفحم المنصور قوله وأمر له بمال فقال: لو احتجت إلى مالك لما وعظتك.

ودخل عمرو بن عبيد القدري على المنصور فأكرمه وعظمه وقربه وسأله عن أهله وعياله، ثم قال له: عظني.

فقرأ عليه سورة الفجر إلى: { إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ } [الفجر: 14] .

فبكى المنصور بكاءً شديدا حتى كأنه لم يسمع بهذه الآيات قبل ذلك، ثم قال له: زدني.

فقال: إن الله قد أعطاك الدنيا بأسرها فاشتر نفسك ببعضها، وإن هذا الأمر كان لمن قبلك ثم صار إليك هو صائر لمن بعدك، واذكر ليلة تسفر عن يوم القيامة.

فبكى المنصور أشد من بكائه الأول حتى اختلفت أجفانه، فقال له سليمان بن مجالد: رفقا بأمير المؤمنين.

فقال عمرو: وماذا على أمير المؤمنين أن يبكي من خشية الله عز وجل.

ثم أمر له المنصور بعشرة آلاف درهم، فقال: لا حاجة لي فيها.

فقال المنصور: والله لتأخذنها.

فقال: والله لا آخذنها.

فقال له المهدي وهو جالس في سواده وسيفه إلى جانب أبيه: أيحلف أمير المؤمنين وتحلف أنت ؟

فالتفت إلى المنصور فقال: ومن هذا ؟

فقال: هذا ابني محمد ولي العهد من بعدي.

فقال عمرو: إنك سميته اسما لم يستحقه لعمله، وألبسته لبوسا ما هو لبوس الأبرار، ولقد مهدت له أمرا أمتع ما يكون به أشغل ما يكون عنه.

ثم التفت إلى المهدي فقال: يا ابن أخي ! إذا حلف أبوك وحلف عمك فلأن يحنث أبوك أيسر من أن يحنث عمك، لأن أباك أقدر على الكفارة من عمك.

ثم قال المنصور: يا أبا عثمان ! هل من حاجة ؟

قال: نعم !

قال: وما هي ؟

قال: لا تبعث إلي حتى آتيك، ولا تعطني حتى أسألك.

فقال المنصور: إذا والله لا نلتقي.

فقال عمرو: عن حاجتي سألتني. فودعه وأنصرف.

فلما ولى أمده بصره وهو يقول:

كلكم يمشي رويد * كلكم يطلب صيد

غير عمر بن عبيد *

ويقال: إن عمرو بن عبيد أنشد المنصور قصيدة في موعظة إياه وهي قوله:

يا أيها الذي قد غره الأمل * ودون ما يأمل التنغيص والأجل

ألا ترى إنما الدنيا وزينتها * كمنزل الركب حلوا ثمت ارتحلوا

حتوفها رصد وعيشها نكد * وصفوها كدر وملكها دول

تظل تقرع بالروعات ساكنها * فما يسوغ له لين ولا جذل

كأنه للمنايا والردى غرض * تظل فيه بنات الدهر تنتقل

تديره ما تدور به دوائرها * منها المصيب ومنها المخطئ الزلل

والنفس هاربة والموت يطلبها * وكل عسرة رجل عندها جلل

والمرء يسعى بما يسعى لوارثه * والقبر وارث ما يسعى له الرجل

وقال ابن دريد: عن الرياشي، عن محمد بن سلام، قال: رأت جارية للمنصور ثوبه مرقوعا فقالت: خليفة وقميص مرقوع ؟

فقال: ويحك ! أما سمعت ما قال ابن هرمة:

قد يدرك الشرف الفتى ورداؤه * خلق وبعض قميصه مرقوع

وقال بعض الزهاد للمنصور: اذكر ليلة تبيت في القبر لم تبت قبلها ليلة مثلها، واذكر ليلة تمخض عن يوم القيامة لا ليلة بعدها.

فأفحم المنصور قوله فأمر له بمال.

فقال: لو احتجت إلى مالك ما وعظتك.

ومن شعره لما عزم على قتل أبي مسلم:

إذا كنت ذا رأي فكن ذا عزيمة * فإن فساد الرأي أن يترددا

ولا تمهل الأعداء يوما لغدرة * وبادرهم أن يملكوا مثلها غدا

ولما قتله ورآه طريحا بين يديه قال:

قد اكتنفتك خلات ثلاث * جلبن عليك محتوم الحمام

خلافك وامتناعك من يميني * وقودك للجماهير العظام

ومن شعره أيضا:

المرء يأمل أن يعيـ * ـش وطول عمر قد يضره

تبلى بشاشته ويبـ * ـقى بعد حلو العيش مره

وتخونه الأيام حتى * لا يرى شيئا يسره

كم شامت بي إن هلكـ * ـت وقائل لله دره

قالوا: وكان لمنصور في أول النهار يتصدى للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والولايات والعزل والنظر في مصالح العامة، فإذا صلى الظهر دخل منزله واستراح إلى العصر، فإذا صلاها جلس لأهل بيته ونظر في مصالحهم الخاصة، فإذا صلى العشاء نظر في الكتب والرسائل الواردة من الآفاق، وجلس عنده من يسامره إلى ثلث الليل، ثم يقوم إلى أهله فينام في فراشه إلى الثلث الآخر، فيقوم إلى وضوئه وصلاته حتى يتفجر الصباح، ثم يخرج فيصلى بالناس، ثم يدخل فيجلس في إيوانه.

وقد ولى بعض العمال على بلد فبلغه أنه قد تصدى للصيد وأعد لذلك كلابا وبزاة، فكتب إليه: ثكلتك أمك وعشيرتك، ويحك ! إنا إنما استكفيناك واستعملناك على أمور المسلمين ولم نستكفيك أمور الوحوش في البراري، فسلم ما تلي من عملنا إلى فلان والحق بأهلك ملوما مدحورا.

وأتي يوما بخارجي قد هزم جيوش المنصور غير مرة فلما وقف بين يديه قال له المنصور: ويحك يا ابن الفاعلة ! مثلك يهزم الجيوش ؟

فقال الخارجي: ويلك سوأة لك بيني وبينك أمس السيف والقتل، واليوم القذف والسب، وما يؤمنك أن أرد عليك وقد يئست من الحياة فما استقبلها أبدا.

قال: فاستحيى منه المنصور وأطلقه. فما رأى له وجها إلى الحول.

وقال لابنه لما ولاه العهد: يا بني ! ائتدم النعمة بالشكر، والقدرة بالعفو، والنصر بالتواضع، والتألف بالطاعة، ولا تنس نصيبك من الدنيا ونصيبك من رحمة الله.

وقال أيضا: يا بني ! ليس العاقل من يحتال للأمر الذي وقع فيه حتى يخرج منه، ولكن العاقل الذي يحتال للأمر الذي غشيه حتى لا يقع فيه.

وقال المنصور: يا بني ! لا تجلس مجلسا إلا وعندك من أهل الحديث من يحدثك، فإن الزهري قال: علم الحديث ذكر لا يحبه إلا ذكران الرجال، ولا يكرهه إلا مؤنثوهم، وصدق أخو زهرة.

وقد كان المنصور في شبيبته يطلب العلم من مظانه والحديث والفقه فنال جانبا جيدا وطرفا صالحا.

وقد قيل له يوما: يا أمير المؤمنين ! هل بقي شيء من اللذات لم تنله ؟

قال: شيء واحد.

قالوا: وما هو ؟

قال: قول المحدث للشيخ من ذكرت رحمك الله.

فاجتمع وزراؤه وكتَّابه وجلسوا حوله وقالوا: ليمل علينا أمير المؤمنين شيئا من الحديث.

فقال: لستم بهم، إنما هم الدنسة ثيابهم، المشققة أرجلهم، الطويلة شعورهم، رواد الآفاق وقطاع المسافات، تارة بالعراق وتارة بالحجاز، وتارة بالشام، وتارة باليمن. فهؤلاء نقلة الحديث.

وقال يوم لابنه المهدي: كم عندك من دابة ؟

فقال: لا أدري.

فقال: هذا هو التقصير، فأنت لأمر الخلافة أشد تضييعا فاتق الله يا بني.

وقالت خالصة إحدى حظيات المهدي: دخلت يوما على المنصور وهو يشتكي ضرسه ويداه على صدغيه فقال لي: كم عندك من المال يا خالصة ؟

فقلت: ألف درهم.

فقال: ضعي يدك على رأسي واحلفي.

فقلت: عندي عشرة آلاف دينار.

قال: اذهبي فاحمليها إلي.

قالت: فذهبت حتى دخلت على سيدي المهدي وهو مع وزوجته الخيزران فشكوت ذلك إليه فوكزني برجله وقال: ويحك ! إنه ليس له وجع، ولكني سألته بالأمس مالا فتمارض، وإنه لا يسعك إلا ما أمرك به.

فذهبت إليه خالصة ومعها عشرة آلاف دينار، فاستدعى بالمهدي فقال له: تشكو الحاجة وهذا كله عند خالصة ؟

وقال المنصور لخازنه: إذا علمت بمجيء المهدي فأتني بخلقان الثياب قبل أن يجيء، فجاء بها فوضعها بين يديه ودخل المهدي والمنصور يقلبها، المهدي يضحك، فقال: يا بني ! من ليس له خلق ليس له جديد، وقد حضر الشتاء فنحتاج نعين العيال والولد.

فقال المهدي: عليَّ كسوة أمير المؤمنين وعياله.

فقال: دونك فافعل.

وذكر ابن جرير، عن الهيثم: أن المنصور أطلق في يوم واحد لبعض أعمامه ألف ألف درهم.

وفي هذا اليوم فرق في بيته عشرة آلاف درهم، ولا يعلم خليفة فرق مثل هذا في يوم واحد.

وقرأ بعض القراء عند المنصور: { الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ } [النساء: 37] .

فقال: والله لولا أن المال حصن للسلطان ودعامة للدين والدنيا وعزهما ما بت ليلة واحدة وأنا أحرز منه دينارا ولا درهما لما أجد لبذل المال من اللذة، ولما أعلم في إعطائه من جزيل المثوبة.

وقرأ عنده قارئ آخر: { وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ } الآية [الإسراء: 29] .

فقال: ما أحسن ما أدبنا ربنا عز وجل.

وقال المنصور: سمعت علي بن عبد الله يقول: سادة أهل الدنيا في الدنيا الأسخياء، وسادة أهل الآخرة في الآخرة الأتقياء.

ولما عزم المنصور على الحج في هذه السنة دعا ولده المهدي فأوصاه في خاصة نفسه وبأهل بيته وبسائر المسلمين خيرا، وعلمه كيف تفعل الأشياء وتسد الثغور، وأوصاه بوصايا يطول بسطها وحرج عليه أن لا يفتح شيئا من خزائن المسلمين حتى يتحقق وفاته فإن بها من الأموال ما يكفي المسلمين لو لم يجب إليهم من الخوارج درهم عشر سنين، وعهد إليه أن يقضي ما عليه من الدين وهو ثلاثمائة ألف دينار، فإنه لم ير قضاءها من بيت المال. فامتثل المهدي ذلك كله.

وأحرم المنصور بحج وعمرة من الرصافة وساق بدنه وقال: يا بني ! إني ولدت في ذي الحجة وقد وقع لي أن أموت في ذي الحجة، وهذا الذي جرأني على الحج عامي هذا.

وودعه وسار واعتراه مرض الموت في أثناء الطريق فما دخل مكة إلا وهو ثقيل جدا، فلما كان بآخر منزل نزله دون مكة إذا في صدر منزله مكتوب: بسم الله الرحمن الرحيم.

أبا جعفر حانت وفاتك وانقضت * سنوك وأمر الله لابد واقع

أبا جعفر هل كاهن أو منجم * لك اليوم من كرب المنية مانع

فدعا بالحجبة فأقرأهم ذلك فلم يروا شيئا فعرف أن أجله قد نعي إليه.

قالوا: ورأى المنصور في منامه ويقال: بل هتف به هاتف وهو يقول:

أما ورب السكون والحرك * إن المنايا كثيرة الشرك

عليك يا نفس إن أسأت وإن * أحسنت يا نفس كان ذاك لك

ما اختلف الليل والنهار ولا * دارت نجوم السماء في الفلك

إلا بنقل السلطان عن ملك * إذا انقضى ملكه إلى ملك

حتى يصيرانه إلى ملك * ما عز سلطانه بمشترك

ذاك بديع السماء والأرض والمر * سي لجبال المسخر الفلك

فقال المنصور: هذا أوان حضور أجلي وانقضاء عمري.

وكان قد رأى قبل ذلك في قصره الخلد الذي بناه وتأنق فيه مناما أفزعه فقال للربيع: ويحك يا ربيع ! لقد رأيت مناما هالني، رأيت قائلا وقف في باب هذا القصر وهو يقول:

كأني بهذا القصر قد باد أهله * وأوحش منه أهله ومنازله

وصار رئيس القصر من بعد بهجة * إلى جدث يبني عليه جنادله

فما أقام في الخلد إلا أقل من سنة حتى مرض في طريق الحج، ودخل مكة مدنفا ثقيلا.

وكانت وفاته ليلة السبت لست، وقيل: لسبع مضين من ذي الحجة، وكان آخر ما تكلم به أن قال: اللهم بارك لي في لقائك.

وقيل: إنه قال: يا رب إن كنت عصيتك في أمور كثيرة فقد أطعتك في أحب الأشياء إليك شهادة أن لا إله إلا الله مخلصا. ثم مات.

وكان نقش خاتمه: الله ثقة عبد الله وبه يؤمن.

وكان عمره يوم وفاته ثلاثا وستين سنة على المشهور، منها ثنتان وعشرون سنة خليفة، ودفن بباب المعلاة رحمه الله.

قال ابن جرير: ومما رثي به قول سلم الخاسر الشاعر:

عجبا للذي نعى الناعيان * كيف فاهت بموته الشفتان

ملك أن عدا على الدهر يوما * أصبح الدهر ساقطا للجران

ليت كفا حثت عليه ترابا * لم تعد في يمنيها ببنان

حين دانت له البلاد على العسـ* ـف وأغضى من خوفه الثقلان

أين رب الزوراء قد قلدته الـ * ـملك عشرين حجة واثنتان

إنما المرء كالزناد إذا ما * أخذته قوادح النيران

ليس يثني هواه زجر ولا يقـ * ـدح في حبله ذوو الأذهان

قلدته أعنة الملك حتى * قاد أعداءه بغير عنان

يكسر الطرف دونه وترى الأ يـ * ـدي من خوفه على الأذقان

ضم أطراف ملكه ثم أضحى * خلف أقصاهم ودون الداني

هاشمي التشمير لا يحمل الثقـ * ـل على غارب الشرود الهدان

ذو أناة ينسى لها الخائف الخو * ف وعزم يلوي بكل جنان

ذهبت دونه النفوس حذارا * غير أن الأرواح في الأبدان

وقد دفن عند باب المعلاة بمكة ولا يعرف قبره لأنه أعمي قبره، فإن الربيع الحاجب حفر مائة قبر ودفنه في غيرها لئلا يعرف.

أولاد المنصور

محمد المهدي وهو ولي عهده، وجعفر الأكبر مات في حياته، وأمهما أروى بنت منصور.

وعيسى، ويعقوب، وسليمان، وأمهم فاطمة بنت محمد من ولد طلحة بن عبيد الله.

وجعفر الأصغر من أم ولد كردية، وصالح المسكين من أم ولد رومية - ويقال لها: قالي الفراشة -، والقاسم من أم ولد أيضا، من امرأة من بني أمية.

خلافة المهدي بن المنصور

لما مات أبوه بمكة لست أو لسبع مضين من ذي الحجة من سنة ثمان وخمسين ومائة أخذت البيعة للمهدي من رؤوس بني هاشم والقواد الذين هم مع المنصور في الحج قبل دفنه، وبعث الربيع الحاجب بالبيعة مع البرد إلى المهدي وهو ببغداد، فدخل عليه البريد بذلك يوم الثلاثاء النصف من ذي الحجة، فسلم عليه بالخلافة وأعطاه الكتب بالبيعة، وبايعه أهل بغداد، ونفذت بيعته إلى سائر الآفاق.

وذكر ابن جرير: أن المنصور قبل موته بيوم تحامل وتساند واستدعى بالأمراء فجدد البيعة لابنه المهدي، فتسارعوا إلى ذلك وتبادروا إليه.

وحج بالناس في هذه السنة: إبراهيم بن يحيى بن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس عن وصية عمه المنصور.

وهو الذي صلى عليه، وقيل: إن الذي صلى على المنصور عيسى بن موسى ولي العهد من بعد المهدي، والصحيح الأول، لأنه كان نائب مكة والطائف، وعلى إمرة المدينة عبد الصمد بن علي، وعلى الكوفة عمر بن زهير الضبي - أخو المسيب بن زهير أمير الشرطة للخليفة -، وعلى خراسان حميد بن قحطبة، وعلى خراج البصرة وأرضها عمارة بن حمزة، وعلى صلاتها وقضائها عبد الله بن الحسن العنبري، وعلى أحداثها سعيد بن دعلج.

قال الواقدي: وأصاب الناس في هذه السنة وباء شديد فتوفي فيه خلق كثير وجم غفير، منهم: أفلح بن حميد، وحيوة بن شريح، ومعاوية بن صالح بمكة.

وزفر بن الهذيل

ابن قيس بن سليم، ثم ساق نسبه إلى معد بن عدنان، يقال له: التميمي العنبري الكوفي الفقيه الحنفي، أقدم أصحاب أبي حنيفة وفاة، وأكثرهم استعمالا للقياس، وكان عابدا، اشتغل أولا بعلم الحديث ثم غلب عليه الفقه والقياس.

ولد سنة ست عشرة ومائة، وتوفي سنة ثمان وخمسين ومائة عن ثنتين وأربعين سنة رحمه الله وإيانا.

ثم دخلت سنة تسع وخمسون ومائة

استهلت هذه السنة وخليفة الناس أبو عبد الله محمد بن المنصور المهدي، فبعث في أولها العباس بن محمد إلى بلاد الروم في جيش كثيف، وركب معهم مشيعا لهم، فساروا إليها فافتتحوا مدينة عظيمة للروم، وغنموا غنائم كثيرة ورجعوا سالمين لم يفقد منهم أحد.

وفيها توفي: حميد بن قحطبة نائب خراسان، فولى المهدي مكانه أبا عون عبد الملك بن يزيد، وولى حمزة بن مالك سجستان، وولى جبريل بن يحيى سمرقند.

وفيها: بنى المهدي مسجد الرصافة وخندقها.

وفيها: جهز جيشا كثيفا إلى بلاد الهند فوصلوا إليها في السنة الآتية، وكان من أمرهم ما سنذكره.

وفيها توفي: نائب السند معبد بن الخليل فولى المهدي مكانه روح بن حاتم بمشورة وزيره أبي عبد الله.

وفيها: أطلق المهدي من كان في السجون إلا من كان محبوسا على دم، أو من سعى في الأرض فسادا، أو من كان عنده حق لأحد.

وكان في جملة من أخرج من المطبق: يعقوب بن داود مولى بني سليم، والحسن بن إبراهيم بن عبد الله بن حسن، وأمر بصيرورة حسن هذا إلى نصير الخادم ليحترز عليه.

وكان الحسن قد عزم على الهرب من السجن قبل خروجه منه، فلما خرج يعقوب بن داود ناصح الخليفة بما كان عزم عليه فنقله من السجن وأودعه عند نصير الخادم ليحتاط عليه، وحظي يعقوب بن داود عند المهدي جدا حتى صار يدخل عليه في الليل بلا استئذان، وجعله على أمور كثيرة، وأطلق له مائة ألف درهم.

سوما زال عنده كذلك حتى تمكن المهدي من الحسن بن إبراهيم، فسقطت منزلة يعقوب عنده.

وقد عزل المهدي نوابا كثيرة عن البلاد، وولى بدلهم.

وفي هذه السنة: تزوج المهدي بابنة عمه أم عبد الله بنت صالح بن علي، وأعتق جاريته الخيزران وتزوجها أيضا، وهي أم الرشيد.

وفيها: وقع حريق عظيم في السفن التي في دجلة بغداد.

ولما ولي المهدي سأل عيسى بن موسى - وكان ولي العهد بعده - أن يخلع نفسه من الأمر فامتنع على المهدي، وسأل المهدي أن يقيم بأرض الكوفة في ضيعة له فأذن له، وكان قد استقر على إمرة الكوفة روح بن حاتم، فكتب إلى المهدي: إن عيسى بن موسى لا يأتي الجمعة ولا الجماعة مع الناس إلا شهرين من السنة، وإنه إذا جاء يدخل بدوابه داخل باب المسجد فتروث دوابه حيث يصلي الناس.

فكتب إليه المهدي أن يعمل خشبا على أفواه السكك حتى لا يصل الناس إلى المسجد إلا مشاة.

فعلم بذلك عيسى بن موسى فاشترى قبل الجمعة دار المختار بن أبي عبيدة من ورثته - وكانت ملاصقة للمسجد - وكان يأتي إليها من يوم الخميس، فإذا كان يوم الجمعة ركب حمارا إلى باب المسجد فنزل إلى هناك وشهد الصلاة مع الناس وأقام بالكلية بالكوفة بأهله، ثم ألح المهدي عليه في أن يخلع نفسه وتوعده إن لم يفعل، ووعده إن فعل فأجابه إلى ذلك فأعطاه أقطاعا عظيمة، وأعطاه من المال عشرة آلاف ألف، وقيل: عشرين ألف ألف، وبايع المهدي لولديه من بعده موسى الهادي، ثم هارون الرشيد كما سيأتي.

وحج بالناس يزيد بن منصور خال المهدي، وكان نائبا على اليمن فولاه الموسم واستقدمه عليه شوقا إليه، وغالب نواب البلاد عزلهم المهدي، غير أن إفريقية مع يزيد بن حاتم، وعلى مصر محمد بن سليمان أبو ضمرة، وعلى خراسان أبو عون، وعلى السند بسطام بن عمرو، وعلى الأهواز وفارس عمارة بن حمزة، وعلى اليمن رجاء بن روح، وعلى اليمامة بشر بن المنذر، وعلى الجزيرة الفضل بن صالح، وعلى المدينة عبيد الله بن صفوان الجمحي.

وعلى مكة والطائف إبراهيم بن يحيى، وعلى أحداث الكوفة إسحق بن الصباح الكندي، وعلى خراجها ثابت بن موسى، وعلى قضائها شريك بن عبد الله النخعي، وعلى أحداث البصرة عمارة بن حمزة، وعلى صلاتها عبد الملك بن أيوب بن ظبيان النميري، وعلى قضائها عبيد الله بن الحسن العنبري.

وفيها توفي: عبد العزيز بن أبي رواد، وعكرمة بن عمار، ومالك بن مغول، ومحمد بن عبد الرحمن بن أبي ذيب المدني، نظير مالك بن أنس في الفقه، وربما أنكر على مالك أشياء ترك الأخذ فيها ببعض الأحاديث، كان يراها مالك من إجماع أهل المدينة وغير ذلك من المسائل.

ثم دخلت سنة ستين ومائة

فيها: خرج رجل بخراسان على المهدي منكرا عليه أحواله وسيرته وما يتعاطاه، يقال له: يوسف البرم، والتف عليه خلق كثير، وتفاقم الأمر وعظم الخطب به.

فتوجه إليه يزيد بن مزيد فلقيه فاقتتلا قتالا شديدا حتى تنازلا وتعانقا، فأسر يزيد بن مزيد يوسف هذا، وأسر جماعة من أصحابه فبعثهم إلى المهدي فأدخلوا عليه، وقد حملوا على جمال محمولة وجوههم إلى ناحية أذناب الإبل، فأمر الخليفة هرثمة أن يقطع يدي يوسف ورجليه ثم يضرب عنقه وأعناق من معه، وصلبهم على جسر دجلة الأكبر مما يلي عسكر المهدي، وأطفأ الله ثائرتهم وكفى شرهم.

البيعة لموسى الهادي

ذكرنا أن المهدي ألح على عيسى بن موسى أن يخلع نفسه وهو مع كل ذلك يمتنع، وهو مقيم بالكوفة، فبعث إليه المهدي أحد القواد الكبار وهو: أبو هريرة محمد بن فروخ في ألف من أصحابه لإحضاره إليه، وأمر كل واحد منهم أن يحمل طبلا، فإذا واجهوا الكوفة عند إضاءة الفجر ضرب كل واحد منهم على طبله.

ففعلوا ذلك فارتجت الكوفة، وخاف عيسى بن موسى، فلما انتهوا إليه دعوه إلى حضرة الخليفة فأظهر أنه يشتكي، فلم يقبلوا ذلك منه بل أخذوه معهم فدخلوا به على الخليفة في يوم الخميس لثلاث خلون من المحرم من هذه السنة، فاجتمع عليه وجوه بني هاشم والقضاة والأعيان وسألوه في ذلك وهو يمتنع، ثم لم يزل الناس به بالرغبة والرهبة حتى أجاب يوم الجمعة لأربع مضين من المحرم بعد العصر.

وبويع لولدي المهدي: موسى، وهارون الرشيد، صباحة يوم الخميس لثلاث بقين من المحرم وجلس المهدي في قبة عظيمة في إيوان الخلافة، ودخل الأمراء فبايعوا ثم نهض فصعد المنبر وجلس ابنه موسى الهادي تحته، وقام عيسى بن موسى على أول درجة، وخطب المهدي فأعلم الناس بما وقع من خلع عيسى بن موسى نفسه وأنه قد حلل الناس من الأيمان التي له في أعناقهم، وجعل ذلك إلى موسى الهادي.

فصدق عيسى بن موسى ذلك وبايع المهدي على ذلك، ثم نهض الناس فبايعوا الخليفة على حسب مراتبهم وأسنانهم، وكتب على عيسى بن موسى مكتوبا مؤكدا بالأيمان البالغة من الطلاق والعتاق، وأشهد عليه جماعة الأمراء والوزراء وأعيان بني هاشم وغيرهم، وأعطاه ما ذكرنا من الأموال وغيرها.

وفيها: دخل عبد الملك بن شهاب المسمعي مدينة بإربد من الهند في جحفل كبير فحاصروها ونصبوا عليها المجانيق، ورموها بالنفط فأحرقوا منها طائفة، وهلك بشر كثير من أهلها، وفتحوها عنوة وأرادوا الانصراف فلم يمكنهم ذلك لاعتلاء البحر، فأقاموا هنالك فأصابهم داء في أفواههم يقال له: حمام قر فمات منهم ألف نفس منهم: الربيع بن صبيح، فلما أمكنهم المسير ركبوا في البحر فهاجت عليهم ريح فغرق طائفة أيضا، ووصل بقيتهم إلى البصرة ومعهم سبي كثير، فيهم: بنت ملكهم.

وفيها: حكم المهدي بإلحاق ولد أبي بكر الثقفي إلى ولاء رسول الله وقطع نسبهم من ثقيف، وكتب بذلك كتابا إلى والي البصرة.

وقطع نسبه من زياد ومن نسب نافع ففي ذلك يقول بعض الشعراء وهو خالد النجار:

إن زيادا ونافعا وأبا * بكرة عندي من أعجب العجب

ذا قرشي كما يقول وذا * مولى وهذا بزعمه عربي

وقد ذكر ابن جرير أن نائب البصرة لم ينفذ ذلك.

وفي هذه السنة: حج بالناس المهدي واستخلف على بغداد ابنه موسى الهادي، واستصحب معه ابنه هارون الرشيد وخلقا من الأمراء، منهم: يعقوب بن داود على منزلته ومكانته.

وكان الحسن بن إبراهيم قد هرب من الخادم فلحق بأرض الحجاز، فاستأمن له يعقوب بن داود فأحسن المهدي صلته وأجزل جائزته، وفرق المهدي في أهل مكة مالا كثيرا جدا، كان قد قدم معه بثلاثين ألف ألف درهم ومائة ألف ثوب، وجاء من مصر ثلثمائة ألف دينار، ومن اليمن مائتا ألف دينار، فأعطاها كلها في أهل مكة والمدينة.

وشكت الحجبة إلى المهدي أنهم يخافون على الكعبة أن تنهدم من كثرة ما عليها من الكساوي، فأمر بتجريدها، فلما انتهوا إلى كساوي هشام بن عبد الملك وجدها من ديباج ثخين جدا فأمر بإزالتها وبقيت كساوي الخلفاء قبله وبعده، فلما جردها طلاها بالخلوف وكساها كسوة حسنة جدا.

ويقال: إنه استفتى مالكا في إعادة الكعبة إلى ما كانت عليه من بناية ابن الزبير، فقال مالك: دعها فإني أخشى أن يتخذها الملوك ملعبة. فتركها على ما هي.

وحمل له محمد بن سليمان نائب البصرة الثلج إلى مكة، وكان أول خليفة حمل له الثلج إليها.

ولما دخل المدينة وسَّع المسجد النبوي، وكان فيه مقصورة فأزالها وأراد أن ينقص من المنبر ما كان زاده معاوية بن أبي سفيان، فقال له مالك: إنه يخشى أن ينكسر خشبه العتيق إذا زعزع، فتركه.

وتزوج من المدينة رقية بنت عمرو العثمانية، وانتخب من أهلها خمسمائة من أعيانها ليكونوا حوله حرسا بالعراق وأنصارا وأجرى عليهم أرزاقا غير أعطياتهم وأقطعهم أقطاعا معروفة بهم.

وفيها توفي: الربيع بن صبيح، وسفيان بن حسين، أحد أصحاب الزهري.

وشعبة بن الحجاج

ابن الورد العتكي الأزدي، أبو بسطام الواسطي، ثم انتقل إلى البصرة.

رأى شعبة الحسن وابن سيرين، وروى عن أمم التابعين وحدث عنه خلق من مشايخه وأقرانه وأئمة الإسلام.

وهو شيخ المحدثين الملقب فيهم: بأمير المؤمنين. قاله الثوري.

وقال يحيى بن معين: هو إمام المتقين، وكان في غاية الزهد والورع والتقشف والحفظ وحسن الطريقة.

وقال الشافعي: لولاه ما عرف الحديث بالعراق.

وقال الإمام أحمد: كان أمة وحده في هذا الشأن، ولم يكن في زمانه مثله.

وقال محمد بن سعد: كان ثقة مأمونا حجةً صاحب حديث.

وقال وكيع: إني لأرجو أن يرفع الله لشعبة في الجنة درجات بذبه عن حديث رسول الله .

وقال صالح بن محمد بن حرزة: كان شعبة أول من تكلم في الرجال وتبعه يحيى القطان ثم أحمد وابن معين.

وقال ابن المهدي: ما رأيت أعقل من مالك، ولا أشد تقشفا من شعبة، ولا أنصح للأمة من ابن المبارك، ولا أحفظ للحديث من الثوري.

وقال مسلم بن إبراهيم: ما دخلت على شعبة في وقت صلاة إلا ورأيته يصلي، وكان أبا للفقراء وأما لهم.

وقال النضر بن شميل: ما رأيت أرحم بمسكين منه، كان إذا رأى مسكينا لا يزال ينظر إليه حتى يغيب عنه.

وقال غيره: ما رأيت أعبد منه لقد عبد الله حتى لصق جلده بعظمه.

وقال يحيى القطان: ما رأيت أرق للمسكين منه، كان يدخل المسكين في منزله فيعطيه ما أمكنه.

قال محمد بن سعد وغيره: مات في أول سنة ستين ومائة في البصرة عن ثمان وسبعين سنة.

ثم دخلت سنة إحدى وستين ومائة

فيها: غزا الصائفة ثمامة بن الوليد فنزل دابق، وجاشت الروم عليه فلم يتمكن المسلمون من الدخول إليها بسبب ذلك.

وفيها: أمر المهدي بحفر الركايا وعمل المصانع وبناء القصور في طريق مكة، وولى يقطين بن موسى على ذلك، فلم يزل يعمل في ذلك إلى سنة إحدى وسبعين ومائة، مقدار عشر سنين، حتى صارت طريق الحجاز من العراق من أرفق الطرقات وآمنها وأطيبها.

وفيها: وسَّع المهدي جامع البصرة من قبلته وغربه.

وفيها: كتب إلى الآفاق أن لا تبقى مقصورة في مسجد جماعة، وأن تقصر المنابر إلى مقدار منبر رسول الله ، ففعل ذلك في المدائن كلها.

وفيها: اتضعت منزلة أبي عبيد الله وزير المهدي وظهرت عنده خيانته فضم إليه المهدي من يشرف عليه، وكان ممن ضم إليه إسماعيل بن علية ثم أبعده وأقصاه وأخرجه من معسكره.

وفيها: ولي القضاء عافية بن يزيد الأزدي، وكان يحكم هو وابن علاثة في عسكر المهدي بالرصافة.

وفيها: خرج رجل يقال له: المقنع بخراسان في قرية من قرى مرو، وكان يقول: بالتناسخ واتبعه على ذلك خلق كثير، فجهز إليه المهدي عدة من أمرائه وأنفذ إليه جيوشا كثيرةً، منهم: معاذ بن مسلم أمير خراسان، وكان من أمره وأمرهم ما سنذكره.

وحج بالناس فيها: موسى الهادي بن المهدي.

وفيها: توفي إسرائيل بن يونس بن إسحاق السبيعي، وزائدة بن قدامة.

وسفيان بن سعد بن مسروق الثوري

أحد أئمة الإسلام وعبادهم والمقتدى به، أبو عبد الله الكوفي.

وروى عن غير واحد من التابعين، وروى عنه خلق من الأئمة وغيرهم.

قال شعبة وأبو عاصم وسفيان بن عيينة ويحيى بن معين وغير واحد: هو أمير المؤمنين في الحديث.

وقال ابن المبارك: كتبت عن ألف شيخ ومائة شيخ هو أفضلهم.

وقال أيوب: ما رأيت كوفيا أفضله عليه.

وقال يونس بن عبيد: ما رأيت أفضل منه.

وقال عبد الله: ما رأيت أفقه من الثوري.

وقال شعبة: ساد الناس بالورع والعلم.

وقال: أصحاب المذاهب ثلاثة: ابن عباس في زمانه، والشعبي في زمانه، والثوري في زمان.

وقال الإمام أحمد: لا يتقدمه في قلبي أحد.

ثم قال: تدري من الإمام؟ الإمام سفيان الثوري.

وقال عبد الرازق: سمعت الثوري يقول: ما استودعت قلبي شيئا قط فخانني حتى إني لأمرُّ بالحائك يتغنى فأسد أذني مخافة أن أحفظ ما يقول.

وقال: لأن أترك عشرة آلاف دينار يحاسبني الله عليها أحل إلي من أن أحتاج إلى الناس.

قال محمد بن سعد: أجمعوا أنه توفي في البصرة سنة إحدى وستين ومائة، وكان عمره يوم مات أربعا وستين سنة، ورآه بعضهم في المنام يطير في الجنة من نخلة إلى نخلة، ومن شجرة إلى شجرة، وهو يقرأ: { الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ } [الزمر: 74] الآية.

وقال: إذا ترأس الرجل سريعا أخَّر بكثير من العلم.

وممن توفي فيها:

أبو دلامة

زيد بن الجون، الشاعر الماجن، أحد الظرفاء، أصله من الكوفة وأقام ببغداد وحظي عند المنصور لأنه كان يضحكه وينشده الأشعار ويمدحه، حضر يوما جنازة امرأة المنصور - وكانت ابنة عمه - يقال لها: حمادة بنت عيسى وكان المنصور قد حزن عليها، فلما سووا عليها التراب وكان أبو دلامة حاضرا، فقال له المنصور: ويحك يا أبا دلامة ! ما أعددت لهذا اليوم ؟

فقال: ابنة عم أمير المؤمنين.

فضحك المنصور حتى استلقى، ثم قال: ويحك ! فضحتنا.

ودخل يوما على المهدي يهنئه بقدومه من سفره وأنشده:

إني حلفت لئن رأيتك سالما * بقرى العراق وأنت ذو وفر

لتصلين على النبي محمد * ولتملأن دراهما حجري

فقال المهدي: أما الأول فنعم، نصلي على النبي محمد ، وأما الثاني فلا.

فقال: يا أمير المؤمنين ! هما كلمتان فلا تفرق بينهما.

فأمر أن يملأ حجره دراهم، ثم قال له: قم !

فقال: ينخرق منها قميصي.

فأفرغت منه في أكياسها ثم قام فحملها وذهب.

وذكر عنه ابن خلكان: أنه مرض ابن له فداواه طبيب فلما عوفي قال له: ليس عندنا ما نعطيك، ولكن ادَّع على فلان اليهودي بمبلغ ما تستحقه عندنا من أجرتك حتى أشهد أنا وولدي بالمبلغ المذكور.

قال: فذهب الطبيب إلى قاضي الكوفة محمد عبد الرحمن بن أبي ليلى - وقيل: ابن شبرمة - فادَّعى عليه عنده فأنكر اليهودي فشهد له أبو دلامة وابنه، فلم يستطع القاضي أن يرد شهادتهما وخاف من طلب التزكية، فأعطى الطبيب المدعي المال من عنده وأطلق اليهودي. وجمع القاضي بين المصالح.

توفي أبو دلامة في هذه السنة، وقيل: إنه أدرك خلافة الرشيد سنة سبعين، فالله أعلم.

ثم دخلت سنة ثنتين وستين ومائة

فيها: خرج عبد السلام بن هاشم اليشكري بأرض قنسرين واتبعه خلق كثير، وقويت شوكته فقاتله جماعة من الأمراء فلم يقدروا عليه، فجهز إليه المهدي جيوشا وأنفق فيهم أموالا فهزمهم مرات ثم آل الأمر به أن قتل بعد ذلك.

وفيها: غزا الصائفة الحسن بن قحطبة في ثمانين ألفا من المرتزقة سوى المتطوعة، فدمر الروم وحرق بلدانا كثيرةً، وخرب أماكن وأسر خلقا من الذراري.

وكذلك غزا يزيد بن أبي أسيد السلمي بلاد الروم من باب قاليقلا فغنم وسلم وسبى خلقا كثيرا.

وفيها: خرجت طائفة بجرجان فلبسوا الحمرة مع رجل يقال له: عبد القهار، فغزاه عمرو بن العلاء من طبرستان فقهر عبد القهار وقتله وأصحابه.

وفيها: أجرى المهدي الأرزاق في سائر الأقاليم والآفاق على المجذومين والمحبوسين، وهذه مثوبة عظيمة ومكرمة جسيمة.

وفيها: حج بالناس إبراهيم بن جعفر بن المنصور.

وفيها توفي من الأعيان:

إبراهيم بن أدهم

أحد مشاهير العباد وأكابر الزهاد.

كانت له همة عالية في ذلك رحمه الله.

فهو: إبراهيم بن أدهم بن منصور بن يزيد بن عامر بن إسحاق التميمي، ويقال له: العجلي، أصله من بلخ ثم سكن الشام ودخل دمشق.

وروى الحديث عن: أبيه، والأعمش، ومحمد بن زياد صاحب أبي هريرة، وأبي إسحاق السبيعي، وخلق.

وحدث عنه خلق منهم: بقية، والثوري، وأبو إسحاق الفزاري، ومحمد بن حميد. وحكى عنه الأوزاعي.

وروى ابن عساكر من طريق عبد الله بن عبد الرحمن الجزري، عن إبراهيم بن أدهم، عن محمد بن زياد، عن أبي هريرة، قال: دخلت على رسول الله وهو يصلي جالسا فقلت: يا رسول الله إنك تصلي جالسا فما أصابك ؟

قال: «الجوع يا أبا هريرة».

قال: فبكيت.

فقال: «لا تبك فإن شدة يوم القيامة لا تصيب الجائع إذا احتسب في دار الدنيا».

ومن طريق بقية، عن إبراهيم بن أدهم، حدثني أبو إسحاق الهمداني، عن عمارة بن غزية، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله : «إن الفتنة تجيء فتنسف العباد نسفا، وينجوا العالم منها بعلمه».

قال النسائي: إبراهيم بن أدهم ثقة مأمون أحد الزهاد.

وذكر أبو نعيم وغيره: أنه كان ابن ملك من ملوك خراسان، وكان قد حبب إليه الصيد، قال: فخرجت مرة فأثرت ثعلبا فهتف بي هاتف من قربوس سرجي: ما لهذا خلقت، ولا بهذا أمرت.

قال: فوقفت وقلت: انتهيت انتهيت، وجاءني نذير من رب العالمين.

فرجعت إلى أهلي فخليت عن فرسي وجئت إلى بعض رعاة أبي فأخذت منه جبة وكساء ثم ألقيت ثيابي إليه، ثم أقبلت إلى العراق فعملت بها أياما فلم يصفُ لي بها الحلال، فسألت بعض المشايخ عن الحلال فأرشدني إلى بلاد الشام فأتيت طرطوس فعملت بها أياما أنطر البساتين وأحصد الحصاد، وكان يقول: ما تهنيت بالعيش إلا في بلاد الشام.

أفر بديني من شاهق إلى شاهق ومن جبل إلى جبل، فمن يراني يقول: هو موسوس.

ثم دخل البادية ودخل مكة وصحب الثوري والفضل بن عياض ودخل الشام ومات بها، وكان لا يأكل إلا من عمل يديه مثل الحصاد وعمل الفاعل وحفظ البستان وغير ذلك، وما روي عنه أنه وجد رجلا في البادية فعلمه اسم الله الأعظم فكان يدعو به حتى رأى الخضر فقال له: إنما علمك أخي داود اسم الله الأعظم.

وذكره القشيري وابن عساكر عنه بإسناد لا يصح.

وفيه أنه قال له: إن إلياس علمك اسم الله الأعظم.

وقال إبراهيم: أطب مطعمك ولا عليك أن لا تقوم الليل ولا تصوم النهار.

وذكر أبو نعيم، عنه: أنه كان أكثر دعائه: اللهم انقلني من ذل معصيتك إلى عز طاعتك.

وقيل له: إن اللحم قد غلا.

فقال: ارخصوه، أي: لا تشتروه، فإنه يرخص.

وقال بعضهم: هتف به الهاتف من فوقه: يا إبراهيم ! ما هذا العبث: { أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ } [المؤمنون: 115] ، اتق الله وعليك بالزاد ليوم القيامة.

فنزل عن دابته ورفض الدنيا وأخذ في عمل الآخرة.

وروى ابن عساكر بإسناد فيه نظر في ابتداء أمره قال: بينما أنا يوما في منظرة لي ببلخ وإذا شيخ حسن الهيئة حسن اللحية قد استظل بظلها فأخذ بمجامع قلبي، فأمرت غلاما فدعاه فدخل فعرضت عليه الطعام فأبى فقلت: من أين أقبلت ؟

قال: من وراء النهر.

قلت: أين تريد ؟

قال: الحج.

قلت: في هذا الوقت؟ - وقد كان أول يوم من ذي الحجة أو ثانيه -.

فقال: يفعل الله ما يشاء.

فقلت: الصحبة.

قال: إن أحببت ذلك فموعدك الليل.

فلما كان الليل جاءني فقال: قم بسم الله.

فأخذت ثياب سفري وسرنا نمشي كأنما الأرض تجذب من تحتنا، ونحن نمر على البلدان ونقول: هذه فلانة هذه فلانة، فإذا كان الصباح فارقني ويقول: موعدك الليل.

فإذا كان الليل جاءني ففعلنا مثل ذلك.

فانتهينا إلى مدينة النبي ثم سرنا إلى مكة فجئناها ليلا فقضينا الحج مع الناس ثم رجعنا إلى الشام فزرنا بيت المقدس، وقال: إني عازم على المقام بالشام.

ثم رجعت أنا إلى بلدي بلخ كسائر الضعفاء حتى رجعنا إليها ولم أسأله عن اسمه، فكان ذلك أول أمري. وروي من وجه آخر فيه نظر.

وقال أبو حاتم الرازي: عن أبي نعيم، عن سفيان الثوري، قال: كان إبراهيم بن أدهم يشبه الخليل، ولو كان في الصحابة كان رجلا فاضلا له سرائر وما رأيته يظهر تسبيحا ولا شيئا ولا أكل مع أحد طعاما إلا كان آخر من يرفع يديه.

وقال عبد الله بن المبارك: كان إبراهيم رجلا فاضلا له سرائر ومعاملات بينه وبين الله عز وجل وما رأيته يظهر تسبيحا ولا شيئا من عمله، ولا أكل مع أحد طعاما إلا كان آخر من يرفع يده.

وقال بشر بن الحارث الحافي: أربعة رفعهم الله بطيب المطعم: إبراهيم بن أدهم، وسليمان بن الخواص، ووهيب بن الورد، ويوسف بن أسباط.

وروى ابن عساكر، من طريق معاوية بن حفص، قال: إنما سمع إبراهيم بن أدهم حديثا واحدا فأخذ به فساد أهل زمانه.

قال: حدثنا منصور، عن ربعي بن خراش، قال: جاء رجل إلى رسول الله فقال: يا رسول الله دلني على عمل يحبني الله عليه ويحبني الناس.

قال: «إذا أردت أن يحبك الله فأبغض الدنيا، وإذا أردت أن يحبك الناس فما عندك من فضولها فانبذه إليهم».

وقال ابن أبي الدنيا: حدثنا أبو الربيع، عن إدريس، قال: جلس إبراهيم إلى بعض العلماء فجعلوا يتذاكرون الحديث وإبراهيم ساكت، ثم قال: حدثنا منصور، ثم سكت فلم ينطق بحرف حتى قام من ذلك المجلس.

فعاتبه بعض أصحابه في ذلك ! فقال: إني لأخشى مضرة ذلك المجلس في قلبي إلى اليوم.

وقال رشدين بن سعد: مر إبراهيم بن أدهم بالأوزاعي وحوله حلقة فقال: لو أن هذه الحلقة على أبي هريرة لعجز عنهم. فقام الأوزاعي وتركهم.

وقال إبراهيم بن بشار: قيل لابن أدهم: لم تركت الحديث ؟

فقال: إني مشغول عنه بثلاث: بالشكر على النعم، والاستغفار من الذنوب، وبالاستعداد للموت، ثم صاح وغشي عليه فسمعوا هاتفا يقول: لا تدخلوا بيني وبين أوليائي.

وقال أبو حنيفة يوما لإبراهيم بن أدهم: قد رزقت من العباد شيئا صالحا فليكن العلم من بالك فإنه رأس العبادة وقوام الدين.

فقال له إبراهيم: وأنت فليكن العبادة والعمل بالعلم من بالك وإلا هلكت.

وقال إبراهيم: ماذا أنعم الله على الفقراء لا يسألهم يوم القيامة عن زكاة ولا عن حج ولا عن جهاد ولا عن صلة رحم، إنما يسأل ويحاسب هؤلاء المساكين الأغنياء.

وقال شقيق بن إبراهيم: لقيت ابن أدهم بالشام وقد كنت رأيته بالعراق وبين يديه ثلاثون شاكريا.

فقلت له: تركت ملك خراسان، وخرجت من نعمتك ؟

فقال: اسكت ما تهنيت بالعيش إلا ههنا، أفر بديني من شاهق إلى شاهق، فمن يراني يقول: هو موسوس أو حمال أو ملاح.

ثم قال: بلغني أنه يؤتى بالفقير يوم القيامة، فيوقف بين يدي الله فيقول له: يا عبدي ! مالك لم تحج ؟

فيقول: يا رب لم تعطني شيئا أحج به.

فيقول الله: صدق عبدي اذهبوا به إلى الجنة.

وقال: أقمت بالشام أربعا وعشرين سنة ولم أقم بها لجهاد ولا رباط إنما نزلتها لآشبع من خبز حلال.

وقال: الحزن حزنان: حزن لك وحزن عليك، فحزنك على الآخرة لك، وحزنك على الدنيا وزينتها عليك.

وقال: الزهد ثلاثة: واجب، ومستحب، وزهد سلامة، فأما الواجب: فالزهد في الحرام، والزهد عن الشهوات الحلال: مستحب، والزهد عن الشبهات: سلامة.

وكان هو وأصحابه يمنعون أنفسهم الحمام والماء البارد والحذاء، ولا يجعلون في ملحهم أبزارا، وكان إذا جلس على سفرة فيها طعام طبي رمى بطيبها إلى أصحابه وأكل هو الخبز والزيتون.

وقال: قلة الحرص والطمع تورث الصدق والورع، وكثرة الحرص والطمع تورث الغم والجزع.

وقال له رجل: هذه جبة أحب أن تقبلها مني.

فقال: إن كنت غنيا قبلتها، وإن كنت فقيرا لم أقبلها.

قال: أنا غني.

قال: كم عندك ؟

قال: ألفان.

قال: تود أن تكون أربعة آلاف ؟

قال: نعم !

قال: فأنت فقير، لا أقبلها منك.

وقيل له: لو تزوجت ؟

فقال: لو أمكنني أن أطلق نفسي لطلقتها.

ومكث بمكة خمسة عشر يوما لا شيء له ولم يكن له زاد سوى الرمل بالماء، وصلى بوضوء واحد خمس عشرة صلاة، وأكل يوما على حافة الشريعة كسيرات مبلولة بالماء وضعها بين يديه أبو يوسف الغسولي، فأكل منها ثم قام فشرب من الشريعة ثم جاء واستلقى على قفاه وقال: يا أبا يوسف ! لو علم الملوك وأبناء الملوك ما نحن فيه من النعيم لجالدونا بالسيوف أيام الحياة على ما نحن فيه من لذيذ العيش.

فقال أبو يوسف: طلب القوم الراحة والنعيم فأخطأوا الطريق المستقيم.

فتبسم إبراهيم وقال: من أين لك هذا الكلام ؟

وبينما هو بالمصيصة في جماعة من أصحابه إذ جاءه راكب فقال: أيكم إبراهيم بن أدهم ؟

فأرشد إليه، فقال: يا سيدي ! أنا غلامك وإن أباك قد مات وترك مالا هو عند القاضي، وقد جئتك بعشرة آلاف درهم لتنفقها عليك إلى بلخ، وفرس وبغلة.

فسكت إبراهيم طويلا ثم رفع رأسه فقال: إن كنت صادقا فالدراهم والفرس والبغلة لك ولا تخبر به أحدا.

ويقال: إنه ذهب بعد ذلك إلى بلخ وأخذ المال من الحاكم وجعله كله في سبيل الله.

وكان معه بعض أصحابه فمكثوا شهرين لم يحصل لهم شيء يأكلونه، فقال له إبراهيم: أدخل إلى هذه الغيضة - وكان ذلك في يوم شاتٍ -.

قال: فدخلت فوجدت شجرة عليها خوخ كثير فملأت منه جرأبي ثم خرجت، فقال: ما معك ؟

قلت: خوخ.

فقال: يا ضعيف اليقين ! لو صبرت لوجدت رطبا جنيا، كما رزقت مريم بنت عمران.

وشكا إليه بعض أصحابه الجوع فصلى ركعتين فإذا حوله دنانير كثيرة فقال لصاحبه: خذ منها دينارا.

فأخذه واشترى لهم به طعاما.

وذكروا أنه كان يعمل بالفاعل ثم يذهب فيشتري البيض والزبدة وتارة الشواء والجوذبان والخبيص فيطعمه أصحابه وهو صائم، فإذا أفطر يأكل من رديء الطعام ويحرم نفسه المطعم الطيب ليبر به الناس تأليفا لهم وتحببا وتوددا إليهم.

وأضاف الأوزاعي إبراهيم بن أدهم فقصر إبراهيم في الأكل فقال: مالك قصرت ؟

فقال: لأنك قصرت في الطعام.

ثم عمل إبراهيم طعاما كثيرا ودعا الأوزاعي فقال الأوزاعي: أما تخاف أن يكون سرفا ؟

فقال: لا ! إنما السرف ما كان في معصية الله، فأما ما أنفقه الرجل على إخوانه فهو من الدين.

وذكروا أنه حصد مرة بعشرين دينارا، فجلس مرة عند حجام هو صاحب له ليحلق رؤوسهم ويحجمهم، فكأنه تبرم بهم واشتغل عنهم بغيرهم، فتأذى صاحبه من ذلك ثم أقبل عليهم الحجام فقال: ماذا تريدون ؟

قال إبراهيم: أريد أن تحلق رأسي وتحجمني.

ففعل ذلك، فأعطاه إبراهيم العشرين دينارا وقال: أردت أن لا تحقر بعدها فقيرا أبدا.

وقال مضاء بن عيسى: ما فاق إبراهيم أصحابه بصوم ولا صلاة ولكن بالصدقة والسخاء.

وكان إبراهيم يقول: فروا من الناس كفراركم من الأسد الضاري، ولا تخلفوا عن الجمعة والجماعة.

وكان إذا سافر مع أحد من أصحابه يحدثه إبراهيم، وكان إذا حضر في مجلس فكأنما على رؤوسهم الطير هيبةً له وإجلالا.

وربما تسامر هو وسفيان الثوري في الليلة الشاتية إلى الصباح، وكان الثوري يتحرز معه في الكلام.

ورأى رجلا قيل له: هذا قاتل خالك.

فذهب إليه فسلم عليه وأهدى له وقال: بلغني أن الرجل لا يبلغ درجة اليقين حتى يأمنه عدوه.

وقال له رجل: طوبى لك أفنيت عمرك في العبادة وتركت الدنيا والزوجات.

فقال: ألك عيال ؟

قال: نعم !

فقال: لروعة الرجل بعياله - يعني: في بعض الأحيان من الفاقة - أفضل من عبادة كذا وكذا سنة.

ورآه الأوزاعي ببيروت وعلى عنقه حزمة حطب فقال: يا أبا إسحاق ! إن إخوانك يكفونك هذا.

فقال له: اسكت يا أبا عمرو ! فقد بلغني أنه إذا وقف الرجل موقف مذلة في طلب الحلال وجبت له الجنة.

وخرج ابن أدهم من بيت المقدس فمر بطريق فأخذته المسلحة في الطريق فقالوا: أنت عبد ؟

قال: نعم !

قالوا: آبق ؟

قال: نعم ! فسجنوه.

فبلغ أهل بيت المقدس خبره فجاؤوا برمتهم إلى نائب طبرية فقالوا: علام سجنت إبراهيم بن أدهم ؟

قال: ما سجنته.

قالوا: بلى ! هو في سجنك.

فاستحضره، فقال: علام سجنت ؟

فقال: سل المسلحة.

قالوا: أنت عبد؟ قلت: نعم ! وأنا عبد الله.

قالوا: آبق؟ قلت: نعم ! وأنا عبد آبق من ذنوبي.

فخلى سبيله.

وذكروا أنه مر مع رفقة فإذا الأسد على الطريق فتقدم إليه إبراهيم بن أدهم فقال له: يا قسورة ! إن كنت أمرت فينا بشيء فامض لما أمرت به وإلا فعودك على بدئك.

قالوا: فولى السبع ذاهبا يضرب بذنبه، ثم أقبل علينا إبراهيم فقال: قولوا: اللهم راعنا بعينك التي لا تنام، واكنفنا بكنفك الذي لا يرام، وارحمنا بقدرتك علينا، ولا نهلك وأنت رجاؤنا يا الله، يا الله، يا الله.

قال خلف بن تميم: فما زلت أقولها منذ سمعتها فما عرض لي لص ولا غيره.

وقد روي لهذا شواهد من وجوه أخر.

وروي أنه كان يصلي ذات ليلة فجاءه أُسد ثلاثة فتقدم إليه أحدهم فشم ثيابه ثم ذهب فربض قريبا منه، وجاء الثاني ففعل مثل ذلك، وجاء الثالث ففعل مثل ذلك، واستمر إبراهيم في صلاته، فلما كان وقت السحر قال لهم: إن كنتم أمرتم بشيء فهلموا، وإلا فانصرفوا، فانصرفوا.

وصعد مرة جبلا بمكة ومعه جماعة فقال لهم: فقال لهم: لو أن وليا من أولياء الله قال لجبل: زل لزال.

فتحرك الجبل تحته فوكزه برجله وقال: اسكن فإنما ضربتك مثلا لأصحابي. وكان الجبل أبا قبيس.

وركب مرة سفينة فأخذهم الموج من كل مكان فلف إبراهيم رأسه بكسائه واضطجع وعج أصحاب السفينة بالضجيج والدعاء، وأيقظوه وقالوا: ألا ترى ما نحن فيه من الشدة ؟

فقال: ليس هذه شدة، وإنما الشدة الحاجة إلى الناس.

ثم قال: اللهم أريتنا قدرتك فأرنا عفوك. فصار البحر كأنه قدح زيت.

وكان قد طالبه صاحب السفينة بأجرة حمله دينارين وألح عليه، فقال له: اذهب معي حتى أعطيك ديناريك، فأتى إلى جزيرة في البحر فتوضأ إبراهيم وصلى ركعتين ودعا وإذا ما حوله قد مليء دنانير، فقال له: خذ حقك ولا تزد ولا تذكر هذا لأحد.

وقال حذيفة المرعشي: أويت أنا وإبراهيم إلى مسجد خراب بالكوفة، وكان قد مضى علينا أياما لم نأكل فيها شيئا، فقال لي: كأنك جائع ؟

قلت: نعم !

فأخذ رقعة فكتب فيها: بسم الله الرحمن الرحيم أنت المقصود إليه بكل حال، المشار إليه بكل معنى.

أنا حامد أنا ذاكر أنا شاكر * أنا جائع أنا حاسر أنا عاري

هي ستة وأنا الضمين لنصفها * فكن الضمين لنصفها يا باري

مدحي لغيرك وهج نار خضتها * فأجر عبيدك من دخول النار

ثم قال لي: اخرج بهذه الرقعة ولا تعلق قلبك بغير الله سبحانه وتعالى، وادفع هذه الرقعة لأول رجل تلقاه.

فخرجت فإذا رجل على بغلة فدفعتها إليه فلما قرأها بكى ودفع إليّ ستمائة دينار وانصرف، فسألت رجلا: من هذا الذي على البغلة ؟

فقالوا: هو رجل نصراني.

فجئت إبراهيم فأخبرته فقال: الآن يجيء مسلم.

فما كان غير قريب حتى جاء فأكب على رأس إبراهيم وأسلم.

وكان إبراهيم يقول: دارنا إمامنا وحياتنا بعد وفاتنا، فإما إلى الجنة وإما إلى النار، مثِّل لبصرك حضور ملك الموت وأعوانه لقبض روحك وانظر كيف تكون حينئذ، ومثِّل له هول المضجع ومساءلة منكر ونكير وانظر كيف تكون، ومثِّل له القيامة وأهوالها وأفزاعها والعرض والحساب، وانظر كيف تكون. ثم صرخ صرخة خر مغشيا عليه.

ونظر إلى رجل من أصحابه يضحك فقال له: لا تطمع فيما لا يكون، ولا تنسى ما يكون.

فقيل له: كيف هذا يا أبا إسحاق ؟

فقال: لا تطمع في البقاء والموت يطلبك، فكيف يضحك من يموت ولا يدري أين يذهب به إلى جنة أم إلى نار؟ ولا تنس ما يكون الموت يأتيك صباحا أو مساء.

ثم قال: أوّه أوّه ! ثم خرّ مغشيا عليه.

وكان يقول: ما لنا نشكو فقرنا إلى مثلنا ولا نسأل كشفه من ربنا.

ثم يقول: ثكلت عبدا أمه أحب الدنيا ونسي ما في خزائن مولاه.

وقال: إذا كنت بالليل نائما وبالنهار هائما وفي المعاصي دائما فكيف ترضي من هو بأمورك قائما.

ورآه بعض أصحابه وهو بمسجد بيروت وهو يبكي ويضرب بيديه على رأسه، فقال: ما يبكيك ؟

فقال: ذكرت يوما تتقلب فيه القلوب والأبصار.

وقال: إنك كلما أمعنت النظر في مرآة التوبة بان لك قبح شين المعصية.

وكتب إلى الثوري: من عرف ما يطلب هان عليه ما يبذل، ومن أطلق بصره طال أسفه، ومن أطلق أمله ساء عمله، ومن أطلق لسانه قتل نفسه.

وسأله بعض الولاة: من أين معيشتك ؟

فأنشأ يقول:

نرقّع دنيانا بتمزيق ديننا * فلا ديننا يبقى ولا ما نرقع

وكان كثيرا ما يتمثل بهذه الأبيات:

لما توعد الدنيا به من شرورها * يكون بكاء الطفل ساعة يوضع

وإلا فما يبكيه منها وإنها * لأروح مما كان فيه وأوسع

إذا أبصر الدنيا استهل كأنما * يرى ما سيلقى من أذاها ويسمع

وكان يتمثل أيضا:

رأيت الذنوب تميت القلوب * ويورثها الذل إدمانها

وترك الذنوب حياة القلوب * وخير لنفسك عصيانها

وما أفسد الدين إلا ملوك * وأحبار سوء ورهبانها

وباعوا النفوس فلم يربحوا * ولم يغل بالبيع أثمانها

لقد رتع القوم في جيفة * تبين لذي اللب أنتانها

وقال: إنما يتم الورع بتسوية كل الخلق في قلبك، والاشتغال عن عيوبهم بذنبك، وعليك باللفظ الجميل من قلب ذليل لرب جليل، فكر في ذنبك وتب إلى ربك ينبت الورع في قلبك، واقطع الطمع إلا من ربك.

وقال: ليس من أعلام الحب أن تحب ما يبغضه حبيبك، ذم مولانا الدنيا فمدحناها، وأبغضها فأحببناها، وزهدنا فيها فآثرناها ورغبنا في طلبها، ووعدكم خراب الدنيا فحصنتموها، ونهاكم عن طلبها فطلبتموها، وأنذركم الكنوز فكنزتموها، دعتكم إلى هذه الغرارة دواعيها، فأجبتم مسرعين مناديها، خدعتكم بغرورها، ومنتكم فانقدتم خاضعين لأمانيها تتمرغون في زهراتها وزخارفها، وتتنعمون في لذاتها وتتقلبون في شهواتها، وتتلوثون بتبعاتها، تنبشون بمخالب الحرص عن خزائنها، وتحفرون بمعاول الطمع في معادنها.

وشكى إليه رجل كثرة عياله فقال: ابعث إليّ منهم من لا رزقه على الله. فسكت الرجل.

وقال: ومررت في بعض جبال فإذا حجر مكتوب عليه بالعربية:

كل حيّ وإن بقي * فمن العيش يستقي

فاعمل اليوم واجتهد * واحذر الموت يا شقي

قال: فبينا أنا واقف أقرأ وأبكي، وإذا برجل أشعر أغبر عليه مدرعة من شعر فسلم وقال: مم تبكي ؟

فقلت: من هذا.

فأخذ بيدي ومضى غير بعيد فإذا بصخرة عظيمة مثل المحراب فقال: اقرأ وابك ولا تقصر.

وقام هو يصلي فإذا في أعلاه نقش بين عربي:

لا تبغين جاها وجاهك ساقط * عند المليك وكن لجاهك مصلحا

وفي الجانب الآخر نقش بين عربي:

من لم يثق بالقضاء والقدر * لاقى هموما كثيرة الضَّرر

وفي الجانب الأيسر نقش بين عربي:

ما أزين التقى وما أقبح الخنا * وكل مأخوذ بما جنا

وعند الله الجزا *

وفي أسفل المحراب فوق الأرض بذراع أو أكثر:

إنما الفوز والغنى * في تقى الله والعمل

قال: فلما فرغت من القراءة التفت فإذا ليس الرجل هناك، فما أدري أنصرف أم حجب عني.

وقال: أثقل الأعمال في الميزان أثقلها على الأبدان، ومن وفى العمل وفي له الأجر، ومن لم يعمل رحل من الدنيا إلى الآخرة بلا قليل ولا كثير.

وقال: كل سلطان لا يكون عادلا فهو واللص بمنزلة واحدة، وكل عالم لا يكون ورعا فهو والذئب بمنزلةٍ واحدةٍ، وكل من خدم سوى الله فهو والكلب بمنزلةٍ واحدةٍ.

وقال: ما ينبغي لمن ذل لله طاعته أن يذل لغير الله في مجاعته، فكيف بمن هو يتقلب في نعم الله وكفايته ؟

وقال: أعربنا في كلامنا فلم نلحن، ولحنا في أعمالنا فلم نعرب.

وقال: كنا إذا رأينا الشاب يتكلم في المجلس أيسنا من خيره.

وقال: جانبوا الناس ولا تنقطعوا عن جمعة ولا جماعة.

وقال الحافظ أبو بكر الخطيب: أخبرنا القاضي أبو محمد الحسن بن الحسن بن محمد بن زامين الاسترابادي، قال: أنبأ عبد الله بن محمد الحميدي الشيرازي، أنبأ القاضي أحمد بن خرزاد الأهوازي، حدثني علي بن محمد القصوي، حدثني أحمد بن محمد الحلبي، سمعت سريا السقطي، يقول: سمعت بشر بن الحارث الحافي، يقول: قال إبراهيم بن أدهم: وقفت على راهب فأشرف عليَّ فقلت له: عظني. فأنشأ يقول:

خذ عن الناس جانبا * كن بعدوك راهبا

إن دهرا أظلني * قد أراني العجائبا

قلب الناس كيف شئـ * ـت تجدهم عقاربا

قال بشر: فقلت لإبراهيم: هذه موعظة الراهب لك، فعظني أنت. فأنشأ يقول:

توحش من الأخوان لا تبغ مونسا * ولا تتخذ خلا ولا تبغ صاحبا

وكن سامري الفعل من نسل آدم * وكن أوحديا ما قدرت مجانبا

فقد فسد الإخوان والحب والإخا * فلست ترى إلا مذوقا وكاذبا فقلت ولولا أن يقال مدهده * وتنكر حالاتي لقد صرت راهبا

قال سري: فقلت لبشر: هذه موعظة إبراهيم لك فعظني أنت.

فقال: عليك بالخمول ولزوم بيتك.

فقلت: بلغني عن الحسن، أنه قال: لولا الليل وملاقاة الإخوان ما باليت متى مت.

فأنشأ بشر يقول:

يا من يسر برؤية الإخوان * مهلا أمنت مكايد الشيطان

خلت القلوب من المعاد وذكره * وتشاغلوا بالحرص والخسران

صارت مجالس من ترى وحديثهم * في هتك مستور وموت جنان

قال الحلبي: فقلت لسري: هذه موعظة بشر فعظني أنت.

فقال: ما عليك بالإخمال.

فقلت: أحب ذاك. فأنشأ يقول:

يا من يروم بزعمه إخمالا * إن كان حقا فاستعدَّ خصالا

ترك المجالس والتذاكر يا أخي * واجعل خروجك للصلاة خيال

بل كن بها حيا كأنك ميت * لا يرتجي منه القريب وصالا

قال علي بن محمد القصري: قلت للحلبي: هذه موعظة سري لك فعظني أنت.

قال: يا أخي ! أحب الأعمال إلى الله ما صعد إليه من قلب زاهد في الدنيا، فازهد في الدنيا يحبك الله.

ثم أنشأ يقول:

أنت في دار شتات * فتأهب لشتاتك

واجعل الدنيا كيوم * صمته عن شهواتك

واجعل الفطر إذا * ما صمته يوم وفاتك

قال ابن خرزاد: فقلت لعلي: هذه موعظة الحلبي لك فعظني أنت.

فقال لي: احفظ وقتك واسخ بنفسك لله عز وجل، وانزع قيمة الأشياء من قلبك يصفو لك بذلك سرك ويذكو به ذكرك.

ثم أنشدني:

حياتك أنفسا تعد فكلما * مضى نفس منها انتقضت به جزءا

فتصبح في نقص وتمسي بمثله * وما لك معقول تحس به رزءا

يميتك ما يحييك في كل ساعة * ويحدوك حاد ما يزيد بك الهزءا

قال أبو محمد لأحمد: هذه موعظة علي لك فعظني.

فقال: يا أخي ! عليك بلزوم الطاعة وإياك أن تفارق باب القناعة، وأصلح مثواك، ولا تؤثر هواك، ولا تبع آخرتك بدنياك، واشتغل بما يعنيك بترك ما لا يعنيك.

ثم أنشدني:

ندمت على ما كان مني ندامة * ومن يتبع ما تشتهي النفس يندم

فخافوا لكيما تأمنوا بعد موتكم * ستلقون ربا عادلا ليس يظلم

فليس لمغرور بدنياه زاجر * سيندم إن زلت به النعل فاعلموا

قال ابن زامين: فقلت لأبي محمد: هذه موعظة أحمد لك فعظني أنت.

فقال: اعلم رحمك الله أن الله عز وجل ينزل العبيد حيث نزلت قلوبهم بهمومها، فانظر أين ينزل قلبك، واعلم أن الله سبحانه يقرب من القلوب على حسب ما تقرب منه، وتقرب منه على حسب ما قرب إليها، فانظر من القريب من قلبك.

وأنشدني:

قلوب رجال في الحجاب نزول * وأرواحهم فيما هناك حلول

تروح نعيم الأنس في عزِّ قربه * بأفراد توحيد الجليل تحول

لهم بفناء القرب من محض بره * عوائد بذل خطبهن جليل

قال الخطيب: فقلت لابن زامين: هذه موعظة الحميدي لك فعظني أنت.

فقال: اتق الله وثق به ولا تتهمه فإن اختياره لك خير من اختيارك لنفسك.

وأنشدني:

اتخذ اللهَ صاحبا * ودع الناس جانبا

جرب الناس كيف شئـ * ـت تجدهم عقاربا

قال أبو الفرج غيث الصوري: فقلت للخطيب: هذه موعظة ابن زامين لك فعظني أنت.

فقال: احذر نفسك التي هي أعدى أعدائك أن تتابعها على هواها، فذاك أعضل دائك، واستشرف الخوف من الله تعالى بخلافها، وكرر على قلبك ذكر نعوتها وأوصافها، فإنها الأمارة بالسوء والفحشاء، والموردة من أطاعها موارد العطب والبلاء، واعمد في جميع أمورك إلى تحري الصدق، ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله.

وقد ضمن الله لمن خالف هواه أن يجعل له جنة الخلد قراره ومأواه، ثم أنشد لنفسه:

إن كنت تبغي الرشاد محضا * في أمر دنياك والمعاد

فخالف النفس في هواها * إن الهوى جامع الفساد

قال ابن عساكر: المحفوظ أن إبراهيم بن أدهم توفي سنة ثنتين وستين ومائة.

وقال غيره: إحدى وستين، وقيل: سنة ثلاث. والصحيح: ما قاله ابن عساكر، والله أعلم.

وذكروا أنه توفي في جزيرة من جزائر بحر الروم وهو مرابط، وأنه ذهب إلى الخلاء ليلة مات نحوا من عشرين مرة، وفي كل مرة يجدد الوضوء بعد هذا، وكان به البطن، فلما كانت غشية الموت قال: أوتروا لي قوسي، فأوتروه فقبض عليه فمات وهو قابض عليه يريد الرمي به إلى العدو، رحمه الله وأكرم مثواه.

وقد قال أبو سعيد بن الأعرابي: حدثنا محمد بن علي بن يزيد الصائغ، قال: سمعت الشافعي، يقول: كان سفيان معجبا به:

أجاعتهم الدنيا فخافوا ولم يزل * كذلك ذو التقوى عن العيش ملجما

أخو طيء داود منهم ومسعر * ومنهم وهيب والعريب ابن أدهما

وفي ابن سعيد قدوة البر والنهى * وفي الوارث الفاروق صدقا مقدما

وحسبك منهم بالفضل مع ابنه * ويوسف إن لم يأل أن يتسلما

أولئك أصحابي وأهل مودتي * فصلى عليهم ذو الجلال وسلما

فما ضر ذا التقوى نصال أسنة * وما زال ذو التقوى أعز وأكرما

ومازالت التقوى تريك على الفتى * إذا محض من العز ميسما

وروى البخاري في كتاب الأدب عن إبراهيم بن أدهم، وأخرج الترمذي في جامعه حديثا معلقا في المسح على الخفين، والله سبحانه أعلم.

وفيها توفي:

أبو سليمان داود بن نصير الطائي

الكوفي الفقيه الزاهد، أخذ الفقه عن أبي حنيفة. قال سفيان بن عيينة: ثم ترك داود الفقه وأقبل على العبادة ودفن كتبه.

قال عبد الله بن المبارك: وهل الأمر إلا ما كان عليه داود الطائي.

وقال ابن معين: كان ثقة، وفد على المهدي ببغداد ثم عاد إلى الكوفة.

ذكره الخطيب البغدادي، وقال: مات في سنة ستين ومائة، وقيل: في سنة ست وخمسين ومائة.

وقد ذكر شيخنا الذهبي في تاريخه أنه توفي في هذه السنة - أعني: سنة ثنتين وستين ومائة -، فالله أعلم.

ثم دخلت سنة ثلاث وستين ومائة

فيها: حصر المقنع الزنديق الذي كان قد نبغ بخراسان وقال بالتناسخ، واتبعه على جهالته وضلالته خلق من الطغام وسفهاء الأنام، والسفلة من العوام، فلما كان في هذا العام لجأ إلى قلعة كش فحاصره سعيد الحريثي فألح عليه في الحصار، فلما أحس بالغلبة تحسى سما وسم نساءه فماتوا جميعا، عليهم لعائن الله.

ودخل الجيش الإسلامي قلعته فاحتزوا رأسه وبعثوا إلى المهدي، وكان المهدي بحلب.

قال ابن خلكان: كان اسم المقنع: عطاء، وقيل: جكيم، والأول: أشهر.

وكان أولا قصارا ثم ادّعى الربوبية، مع أنه كان أعور قبيح المنظر، وكان يتخذ له وجها من ذهب، وتابعه على جهالته خلق كثير، وكان يرى الناس قمرا يرى من مسيرة شهرين ثم يغيب، فعظم اعتقادهم له ومنعوه بالسلاح، وكان يزعم - لعنه الله وتعالى عما يقولون علوا كبيرا -: أن الله ظهر في صورة آدم، ولهذا سجدت له الملائكة، ثم في نوح، ثم في الأنبياء واحدا واحدا، ثم تحول إلى أبي مسلم الخراساني، ثم تحول إليه.

ولما حاصره المسلمون في قلعته كان جددها بناحية كش مما وراء النهر ويقال لها: سنام، تحسى هو ونساؤه سما فماتوا واستحوذ المسلمون على حواصله وأمواله.

وفيها: جهز المهدي البعوث من خراسان وغيرها من البلاد لغزو الروم، وأمّر على الجميع ولده هارون الرشيد، وخرج من بغداد مشيعا له، فسار معه مراحل واستخلف على بغداد ولده موسى الهادي، وكان في هذا الجيش الحسن بن قحطبة والربيع الحاجب، وخالد بن برمك - وهو مثل الوزير للرشيد ولي العهد - ويحيى بن خالد - وهو كاتبه وإليه النفقات - وما زال المهدي مع ولده مشيعا له حتى بلغ الرشيد إلى بلاد الروم، وارتاد هناك المدينة المسماة: بالمهدية في بلاد الروم، ثم رجع إلى الشام وزار بيت المقدس.

فسار الرشيد إلى بلاد الروم في جحافل عظيمة، وفتح الله عليهم فتوحات كثيرة، وغنموا أموالا جزيلة جدا، وكان لخالد بن برمك في ذلك أثر جميل لم يكن لغيره، وبعثوا بالبشارة مع سليمان بن برمك إلى المهدي وأجزل عطاءه.

وفيها: عزل المهدي عمه عبد الصمد بن علي عن الجزيرة وولى عليها زفر بن عاصم الهلالي، ثم عزله وولى عبد الله بن صالح بن علي.

وفيها: ولى المهدي ولده هارون الرشيد بلاد المغرب وأذربيجان وأرمينية، وجعل على رسائله يحيى بن خالد بن برمك، وولى وعزل جماعة من النواب.

وحج بالناس فيها علي بن المهدي.

وفيها: توفي إبراهيم بن طهمان، وحريز بن عثمان الحمصي الرحبي، وموسى بن علي اللخمي المصري، وشعيب بن أبي حمزة، وعيسى بن علي بن عبد الله بن عباس عم السفاح، وإليه ينسب قصر عيسى، ونهر عيسى ببغداد.

قال يحيى بن معين: كان له مذهب جميل، وكان معتزلا للسلطان، توفي في هذه السنة عن ثمان وسبعين سنة.

وهمام بن يحيى، ويحيى بن أيوب المصري، وعبيدة بنت أبي كلاب العابدة، بكت من خشية الله أربعين سنة حتى عميت.

وكانت تقول: أشتهي الموت فإني أخشى أن أجني على نفسي جناية تكون سبب هلاكي يوم القيامة.

ثم دخلت سنة أربع وستين ومائة

فيها: غزا عبد الكبير بن عبد الحميد بن عبد الرحمن بن زيد بن الخطاب بلاد الروم، فأقبل إليه ميخائيل البطريق في نحو من تسعين ألفا، فيهم طازاذ الأرمني البطريق ففشل عنه عبد الكبير ومنع المسلمين من القتال وانصرف راجعا، فأراد المهدي ضرب عنقه فكلم فيه فحبسه في المطبق.

وفي يوم الأربعاء في أواخر ذي القعدة: أسس المهدي قصرا من لبن بعيسا باذ، ثم عزم على الذهاب إلى الحج فأصابه حمى فرجع من أثناء الطريق، فعطش الناس في الرجعة حتى كاد بعضهم يهلك، فغضب المهدي على يقطين صاحب المصانع، وبعث من حيث رجع المهلب بن صالح بن أبي جعفر ليحج بالناس فحج بهم عامئذ.

وفيها توفي: شيبان بن عبد الرحمن النحوي، وعبد العزيز بن أبي سلمة الماجشون، ومبارك بن فضالة صاحب الحسن البصري.

ثم دخلت سنة خمس وستين ومائة

فيها: جهز المهدي ولده الرشيد لغزو الصائفة، وأنفذ معه من الجيوش خمسة وتسعين ألفا وسبعمائة وثلاثة وتسعين رجلا، وكان معه من النفقة مائة ألف دينار، وأربعة وتسعون ألف دينار، وأربعمائة وخمسون دينارا، ومن الفضة إحدى وعشرون ألف ألف وأربعمائة ألف، وأربعة عشر ألفا وثمانمائة درهم.

قاله ابن جرير: فبلغ بجنوده خليج البحر الذي على القسطنطينية، وصاحب الروم يومئذ أغسطه امرأة أليون، ومعها ابنها في حجرها من الملك الذي توفي عنها، فطلبت الصلح من الرشيد على أن تدفع له سبعين ألف دينار في كل سنة، فقبل ذلك منها، وذلك بعد ما قتل من الروم في الوقائع أربعة وخمسين ألفا وأسر من الذراري خمسة آلاف رأس وستمائة وأربعة وأربعين رأسا، وقتل من الأسرى ألفي قتيل صبرا، وغنم من الدواب بأدواتها عشرين ألف فرس، وذبح من البقر والغنم مائة ألف رأس.

وبيع البرذون بدرهم والبغل بأقل من عشرة دراهم، والدرع بأقل من درهم، وعشرون سيفا بدرهم.

فقال في ذلك مروان بن أبي حفصة:

أطفت بقسطنطينية الروم مسندا * إليها القنا حتى اكتسى الذل سورها

وما رمتها حتى أتتك ملوكها * بجزيتها والحرب تغلي قدورها

وحج بالناس صالح بن أبي جعفر المنصور.

وفيها توفي: سليمان بن المغيرة، وعبد الله بن العلاء بن دبر، وعبد الرحمن بن نائب بن ثوبان، ووهب بن خالد.

ثم دخلت سنة ست وستين ومائة

في المحرم منها: قدم الرشيد من بلاد الروم فدخل بغداد في أبهة عظيمة ومعه الروم يحملون الجزية من الذهب وغيره.

وفيها: أخذ المهدي البيعة لولده هارون من بعد موسى الهادي، ولقب: بالرشيد.

وفيها: سخط المهدي على يعقوب بن داود وكان قد حظي عنده حتى استوزره وارتفعت منزلته في الوزارة حتى فوض إليه جميع أمر الخلافة، وفي ذلك يقول بشار بن برد:

بني أمية هبوا طال نومكم * إن الخليفة يعقوب بن داود

ضاعت خلافتكم يا قوم فاطلبوا * خليفة الله بين الخمر والعود

فلما تزل السعادة والوشاة بينه وبين الخليفة حتى أخرجوه عليه، وكلما سعوا به إليه دخل إليه فأصلح أمره معه، حتى وقع من أمره ما سأذكره، وهو أنه دخل ذات يوم على المهدي في مجلس عظيم قد فرش بأنواع الفرش وألوان الحرير، وحول ذلك المكان أصحان مزهرة بأنواع الأزاهير، فقال: يا يعقوب كيف رأيت مجلسنا هذا ؟

فقال: يا أمير المؤمنين ! ما رأيت أحسن منه.

فقال: هو لك بما فيه، وهذه الجارية ليتم بها سرورك، ولي إليك حاجة أحب أن تقضيها.

قلت: وما هي يا أمير المؤمنين ؟

فقال: حتى تقول نعم.

فقلت: نعم ! وعلى السمع والطاعة.

فقال: الله ؟

فقلت: ألله.

قال: وحياة رأسي.

قلت: وحياة رأسك.

فقال: ضع يدك على رأسي وقل ذلك، ففعلت.

فقال: إن ههنا رجلا من العلويين أحب أن تكفينيه، والظاهر أنه الحسن بن إبراهيم بن عبد الله بن حسن بن حسن بن علي بن أبي طالب.

فقلت: نعم.

فقال: وعجل عليّ.

ثم أمر بتحويل ما في ذلك المجلس إلى منزلي وأمر لي بمائة ألف درهم وتلك الجارية، فما فرحت بشي فرحي بها.

فلما صارب بمنزلي حجبتها في جانب الدار في خدر، فأمرت بذلك العلوي فجيء به فجلس إليّ فتكلم، فما رأيت أعقل منه ولا أفهم.

ثم قال لي: يا يعقوب ! تلقى الله بدمي وأنا رجل من ولد فاطمة بنت رسول الله ؟

فقلت: لا والله ! ولكن اذهب حيث شئت وأين شئت.

فقال: إني أختار بلاد كذا وكذا.

فقلت: اذهب كيف شئت، ولا يظهرن عليك المهدي فتهلك وأهلك.

فخرج من عندي وجهزت معه رجلين يسفرانه ويوصلانه بعض البلاد، ولم أشعر بأن الجارية قد أحاطت علما بما جرى، وأنها كالجاسوس عليّ، فبعثت بخادمها إلى المهدي فأعلمته بما جرى، فبعث المهدي إلى تلك الطريق فردوا ذلك العلوي فحبسه عنده في بيت من دار الخلافة، وأرسل إليّ من اليوم الثاني فذهبت إليه ولم أشعر من أمر العلوي بشيء، فلما دخلت عليه قال: ما فعل العلوي ؟

قلت: مات.

قال: ألله !

قلت: ألله.

قال: فضع يدك على رأسي واحلف بحياته، ففعلت.

فقال: يا غلام ! أخرج ما في هذا البيت.

فخرج العلوي فأسقط في يدي، فقال المهدي: دمك لي حلال.

ثم أمر به، فألقي في بئر في المطبق.

قال يعقوب: فكنت في مكان لا أسمع فيه ولا أبصر، فذهب بصري وطال شعري حتى ثرت مثل البهائم، ثم مضيت عليّ مدد متطاولة، فبينما أنا ذات يوم إذ دعيت فخرجت من البئر فقيل لي: سلم على أمير المؤمنين.

فسلمت وأنا أظنه المهدي، فلما ذكرت المهدي قال: رحم الله المهدي.

فقلت: الهادي؟ فقال: رحم الله الهادي.

فقلت: الرشيد؟ قال: نعم.

فقلت: يا أمير المؤمنين ! قد رأيت ما حل بي من الضعف والعلة، فإن رأيت أن تطلقني.

فقال: أين تريد؟ قلت: مكة.

فقال: اذهب راشدا.

فسار إلى مكة فما لبث بها إلا قليلا حتى مات رحمه الله تعالى.

وقد كان يعقوب هذا يعظ المهدي في تعاطيه شرب النبيذ بين يديه، وكثرة سماع الغناء فكان يلومه على ذلك ويقول: ما على هذا استوزرتني، ولا على هذا صحبتك، أبعد الصلوات الخمس في المسجد الحرام يشرب الخمر ويغني بين يديك ؟

فيقول له المهدي: فقد سمع عبد الله بن جعفر.

فقال له يعقوب: إن ذلك لم يكن له من حسناته، ولو كان هذا قربة لكان كلما داوم عليه العبد أفضل.

وفي ذلك يقول بعض الشعراء حثا للمهدي على ذلك:

فدع عنك يعقوب بن داود جانبا * وأقبل على صهباء طيبة النشر

وفيها ذهب المهدي إلى قصره المسمى: بعيسا باذ - بني له بالآجر بعد القصر الأول الذي بناه باللبن - فسكنه وضرب هناك الدراهم والدنانير.

وفيها: أمر المهدي بإقامة البريد بين مكة والمدينة واليمن ولم يفعل أحد هذا قبل هذه السنة.

وفيها: خرج موسى الهادي إلى جرجان.

وفيها: ولي القضاء أبا يوسف صاحب أبي حنيفة.

وفيها: حج بالناس إبراهيم بن يحيى بن محمد عامل الكوفة.

ولم يكن في هذه السنة صائفة للهدنة التي كانت بين الرشيد وبين الروم.

وفيها: توفي صدقة بن عبد الله السمين، وأبو الأشهب العطاردي، وأبو بكر النهشلي، وعفير بن معدان.

ثم دخلت سنة سبع وستين ومائة

فيها: وجه المهدي ابنه موسى الهادي إلى جرجان في جيش كثيف لم ير مثله، وجعل على رسائله أبان بن صدقة.

وفيها توفي: عيسى بن موسى الذي كان ولي العهد من بعد المهدي: مات بالكوفة فأشهد نائبها روح بن حاتم على وفاته القاضي وجماعة من الأعيان. ثم دفن.

وكان قد امتنع من الصلاة عليه فكتب إليه المهدي يعنفه أشد التعنيف، وأمر بمحاسبته على عمله.

وفيها: عزل المهدي أبا عبيد الله معاوية بن عبيد الله عن ديوان الرسائل وولاه الربيع بن يونس الحاجب، فاستخلف فيه سعيد بن واقد وكان أبو عبيد الله يدخل على مرتبته.

وفيها: وقع وباء شديد وسعال كثير ببغداد والبصرة، وأظلمت الدنيا حتى كانت كالليل حتى تعالى النهار، وكان ذلك لليال بقين من ذي الحجة من هذه السنة.

وفيها: تتبع المهدي جماعة من الزنادقة في سائر الآفاق فاستحضرهم وقتلهم صبرا بين يديه، وكان المتولي أمر الزنادقة عمر الكلواذي.

وفيها: أمر المهدي بزيادة كثيرة في المسجد الحرام، فدخل في ذلك دور كثيرة، وولى ذلك ليقطين بن موسى الموكل بأمر الحرمين، فلم يزل في عمارة ذلك حتى مات المهدي كما سيأتي.

ولم يكن للناس صائفة للهدنة.

وحج بالناس نائب المدينة إبراهيم بن يحيى بن محمد وتوفي بعد فراغه من الحج بأيام.

وولي مكانه إسحاق بن عيسى بن علي بن عبد الله بن عباس.

وممن توفي فيها من الأعيان:

بشار بن برد

أبو معاذ الشاعر مولى عقيل، ولد أعمى، وقال الشعر وهو دون عشر سنين، وله التشبيهات التي لم يهتد إليها البصراء.

وقد أثنى عليه الأصمعي والجاحظ وأبو تمام وأبو عبيدة، وقال له: ثلاثة عشر ألف بيت من الشعر.

فلما بلغ المهدي أنه هجاه وشهد عليه قوم أنه زنديق أمر به فضرب حتى مات عن بضع وسبعين سنة. وقد ذكره ابن خلكان في الوفيات: فقال: بشار بن برد بن يرجوخ العقيلي مولاهم، وقد نسبه صاحب الأغاني فأطال نسبه.

وهو بصري قدم بغداد أصله من طخارستان، وكان ضخما عظيم الخلق، وشعره في أول طبقات المولدين، ومن شعره البيت المشهور:

هل تعلمين وراء الحب منزلة * تدنى إليك فإن الحب أقصاني

وقوله:

أنا والله أشتهي سحر عينيـ * ـك وأخشى مصارع العشاق

وله:

يا قوم أذني لبعض الحي عاشقة * والأذن تعشق قبل العين أحيانا

قالوا لم لا نرى عينيك قلت لهم * الأذن كالعين تروي القلب مكانا

وله:

إذا بلغ الرأي التشاور فاستعن * بحزم نصيح أو نصيحة حازم

ولا تجعل الشورى عليك غضاضة * فريش الخوافي قوة للقوادم

وما خير كف أمسك الغل أختها * وما خير سيف لم يؤيد بقائم

كان بشار يمدح المهدي حتى وشى إليه الوزير أنه هجاه وقذفه ونسبه إلى شيء من الزندقة، وأنه يقول بتفضيل النار على التراب، وعذر إبليس في السجود لآدم، وأنه أنشد:

الأرض مظلمة والنار مشرقة * والنار معبودة مذ كانت النار

فأمر المهدي بضربه فضرب حتى مات.

ويقال: إنه غرق ثم نقل إلى البصرة في هذه السنة.

وفيها توفي: الحسن بن صالح بن حيي، وحماد بن سلمة، والربيع بن مسلم، وسعيد بن عبد العزيز بن مسلم، وعتبة الغلام: وهو عتبة بن أبان بن صمعة أحد العباد المشهورين البكائين المذكورين، كان يأكل من عمل يده في الخوص، ويصوم الدهر ويفطر على الخبز والملح.

والقاسم الحذاء، وأبو هلال محمد بن سليم، ومحمد بن طلحة، وأبو حمزة اليشكري محمد بن ميمون.

ثم دخلت سنة ثمان وستين ومائة

فيها في رمضان منها: نقضت الروم ما بينهم وبين المسلمين من الصلح الذي عقده هارون الرشيد عن أمر أبيه المهدي، ولم يستمروا على الصلح إلا ثنتين وثلاثين شهرا، فبعث نائب الجزيرة خيلا إلى الروم فقتلوا وأسروا وغنموا وسلموا.

وفيها: اتخذ المهدي دواوين الأزمة ولم يكن بنو أمية يعرفون ذلك.

وفيها: حج بالناس علي بن محمد المهدي الذي يقال له: ابن ريطة.

وفيها توفي:

الحسن بن زيد بن حسن بن علي بن علي بن أبي طالب، ولاه المنصور المدينة خمس سنين، ثم غضب عليه فضربه وحبسه وأخذ جميع ماله. وحماد عجرد، كان ظريفا ماجنا شاعرا، وكان ممن يعاشر الوليد بن يزيد ويهاجي بشار بن برد.

وقدم على المهدي ونزل الكوفة واتهم بالزندقة.

قال ابن قتيبة في طبقات الشعراء: ثلاثة حمادون بالكوفة يرمون بالزندقة: حماد الرواية، وحماد عجرد، وحماد بن الزبرقان النحوي.

وكانوا يتشاعرون ويتماجنون.

وخارجة بن مصعب.

وعبد الله بن الحسن بن الحصين

ابن أبي الحسن البصري، قاضي البصرة بعد سوار.

سمع: خالدا الحذاء، وداود بن أبي هند، وسعيدا الجريري.

وروى عنه: ابن مهدي.

وكان ثقة فقيها له اختيارات تعزى إليه غريبة في الأصول والفروع، وقد سئل عن مسألة فأخطأ في الجواب فقال له قائل: الحكم فيها كذا وكذا.

فأطرق ساعة ثم قال: إذا أرجع وأنا صاغر، لأن أكون ذنبا في الحق أحب إليّ من أن أكون رأسا في الباطل.

توفي في ذي القعدة من هذه السنة، وقيل: بعد ذلك بعشر سنين، فالله أعلم.

غوث بن سليمان بن زياد بن ربيعة، أبو يحيى الجرمي، قاضي مصر، كان من خيار الحكام، ولي الديار المصرية ثلاث مرات في أيام المنصور والمهدي.

وفليح بن سليمان، وقيس بن الربيع في قول، ومحمد بن عبد الله بن علاثة بن علقمة بن مالك، أبو اليسر العقيلي، قاضي الجانب الشرقي من بغداد للمهدي، هو وعافية بن يزيد.

وكان يقال لابن علاثة: قاضي الجن، لأنه كانت بئر يصاب من أخذ منها شيئا فقال: أيها الجن ! إنا حكمنا أن لكم الليل ولنا النهار.

فكان من أخذ منها شيئا في النهار لم يصبه شيء.

قال ابن معين: كان ثقة.

وقال البخاري: في حفظه شيء.

ثم دخلت سنة تسع وستين ومائة

فيها في المحرم منها: توفي المهدي بن المنصور بمكان يقال له: ما سبذان، بالحمى، وقيل: مسموما، وقيل: عضه فرس فمات.

وهذه ترجمته المهدي بن المنصور

هو: محمد بن عبد الله بن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس، أبو عبد الله المهدي، أمير المؤمنين، وإنما لقب بالمهدي رجاء أن يكون الموعود به في الأحاديث فلم يكن به، وإن اشتركا في الاسم فقد افترقا في الفعل، ذاك يأتي في آخر الزمان عند فساد الدنيا فيملأ الأرض عدلا كما ملئت جورا وظلما.

وقد قيل: إن في أيامه ينزل عيسى بن مريم بدمشق كما سيأتي ذلك في أحاديث الفتن والملاحم.

وقد جاء في حديث من طريق عثمان بن عفان: أن المهدي من بني العباس، وجاء موقوفا على ابن عباس وكعب الأحبار ولا يصح، وبتقدير صحة ذلك لا يلزم أن يكون على التعيين، وقد ورد في حديث أخر أن المهدي من ولد فاطمة فهو يعارض هذا، والله أعلم.

وأم المهدي بن المنصور أم موسى بنت منصور بن عبد الله الحميري.

وروى عن أبيه، عن جده عبد الله بن عباس: «أن رسول الله جهر ببسم الله الرحمن الرحيم».

رواه عنه: يحيى بن حمزة النهشلي قاضي دمشق، وذكر أنه صلى خلف المهدي حين قدم دمشق فجهر في السورتين بالبسملة، وأسند ذلك عن رسول الله ، ورواه غير واحد عن يحيى بن حمزة، ورواه المهدي، عن المبارك بن فضالة، ورواه عنه أيضا جعفر بن سليمان الضبعي، ومحمد بن عبد الله الرقاشي، وأبو سفيان سعيد بن يحيى بن مهدي.

وكان مولد المهدي في سنة ست أو سبع وعشرين ومائة، أو في سنة إحدى وعشرين ومائة ولي الخلافة بعد موت أبيه في ذي الحجة سنة ثمان وخمسين ومائة، وعمره إذ ذاك ثلاث وثلاثون سنة، ولد بالحميمة من أرض البلقاء، وتوفي في المحرم من هذه السنة أعني: سنة تسع وستين ومائة عن ثلاث أو ثمان وأربعين سنة، وكانت خلافته عشر سنين وشهرا وبعض شهر.

وكان أسمر طويلا جعد الشعر، على إحدى عينيه نكتة بيضاء، قيل: على عينه اليمنى، وقيل: اليسرى.

قال الربيع الحاجب: رأيت المهدي يصلي في ليلة مقمرة في بهوٍ له عليه ثياب حسنة، فما أدري هو أحسن أم القمر، أم بهوه، أم ثيابه.

فقرأ: { فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ } [محمد: 22] الآية.

ثم أمرني فأحضرت رجلا من أقاربه كان مسجونا فأطلقه.

ولما جاء خبر موت أبيه بمكة كما تقدم، كتم الأمر يومين ثم نودي في الناس يوم الخميس الصلاة جامعة، فقام فيهم خطيبا فأعلمهم بموت أبيه وقال: إن أمير المؤمنين دعي فأجاب فعند الله أحتسب أمير المؤمنين وأستعينه على خلافة المسلمين.

ثم بايعه الناس بالخلافة يومئذ.

وقد عزاه أبو دلامة وهنأه في قصيدة له يقول فيها:

عيناي واحدة ترى مسرورة * بأميرها جذلا وأخرى تذرف

تبكي وتضحك تارة ويسؤها * ما أنكرت ويسرها ما تعرف

فيسؤها موت الخليفة محرما * ويسرها أن قام هذا الأرأف

ما أن رأيت كما رأيت ولا أرى * شعرا أرجله وآخر ينتف

هلك الخليفة يال أمة أحمد * وأتاكم من بعده من يخلف

أهدى لهذا الله فضل خلافة * ولذاك جنات النعيم تزخرف

وقد قال المهدي يوما في خطبة: أيها الناس ! أسروا مثلما تعلنون من طاعتنا تهنكم العافية، وتحمدوا العاقبة، واحفظوا جناح الطاعة لمن ينشر معدلته فيكم، ويطوي ثوب الإصر عنكم.

وأهال عليكم السلامة ولين المعيشة من حيث أراه الله، مقدما ذلك على فعل من تقدمه، والله لأعفين عمري من عقوبتكم، ولأحملن نفسي على الإحسان إليكم.

قال: فأشرقت وجوه الناس من حسن كلامه.

ثم استخرج حواصل أبيه من الذهب والفضة التي كانت لا تحد ولا توصف كثرة، ففرقها في الناس، ولم يعط أهله ومواليه منها شيئا، بل أجرى لهم أرزاقا بحسب كفايتهم من بيت المال، لكل واحد خمسمائة في الشهر غير الأعطيات.

وقد كان أبوه حريصا على توفير بيت المال، وإنما كان ينفق في السنة ألفي درهم من مال السراة.

وأمر المهدي ببناء مسجد الرصافة وعمل خندق وسور حولها، وبنى مدنا ذكرناها فيما تقدم.

وذكر له عن شريك بن عبد الله القاضي أنه لا يرى الصلاة خلفه، فأحضره فتكلم معه ثم قال له المهدي في جملة كلامه: يا ابن الزانية !

فقال له شريك: مه مه يا أمير المؤمنين ! فلقد كانت صوامة قوامة.

فقال له: يا زنديق ! لأقتلنك.

فضحك شريك، فقال: يا أمير المؤمنين ! إن للزنادقة علامات وذكروا أنه هاجت ريح شديدة، فدخل المهدي بيتا في داره فألزق خده بالتراب وقال: اللهم إن كنت أنا المطلوب بهذه العقوبة دون الناس فها أنا ذا بين يديك، اللهم لا تشمت بي الأعداء من أهل الأديان.

فلم يزل كذلك حتى انجلت.

ودخل عليه رجل يوما ومعه نعل فقال: هذه نعل رسول الله قد أهديتها لك.

فقال: هاتها، فناوله إياها، فقبلها ووضعها على عينيه وأمر له بعشرة آلاف درهم.

فلما انصرف الرجل قال المهدي: والله إني لأعلم أن رسول الله لم ير هذه النعل، فضلا عن أن يلبسها، ولكن لو رددته لذهب يقول للناس: أهديت إليه نعل رسول الله فردها عليَّ، فتصدقه الناس، لأن العامة تميل إلى أمثالها، ومن شأنهم نصر الضعيف على القوي وإن كان ظالما، فاشترينا لسانه بعشرة آلاف درهم، ورأينا هذا أرجح وأصلح.

واشتهر عنه أنه كان يحب اللعب بالحمام والسباق بينها، فدخل عليه جماعة من المحدثين فيهم عتاب بن إبراهيم فحدثه بحديث أبي هريرة: «لا سبق إلا في خف أو نعل أو حافر».

وزاد في الحديث: «أو جناح». فأمر له بعشرة آلاف.

ولما خرج قال: والله إني أعلم أن عتابا كذب على رسول الله ثم أمر بالحمام فذبح ولم يذكر عتابا بعدها.

وقال الواقدي: دخلت على المهدي يوما فحدثته بأحاديث فكتبها عني ثم قام فدخل بيوت نسائه ثم خرج وهو ممتلئ غيظا فقلت: مالك يا أمير المؤمنين ؟

فقال: دخلت على الخيزران فقامت إليّ ومزقت ثوبي.

وقالت: ما رأيت منك خيرا، وإني والله يا واقدي إنما اشتريتها من نخاس، وقد نالت عندي ما نالت، وقد بايعت لولديها بأمرة المؤمنين من بعدي.

فقلت: يا أمير المؤمنين ! إن رسول الله قال: «إنهن يغلبن الكرام ويغلبهن اللئام».

وقال: «خيركم خيركم لأهله وأنا خيركم لأهله، وقد خلقت المرأة من ضلع أعوج إن قومته كسرته».

وحدثته في هذا الباب بكلام حضرني.

فأمر لي بألفي دينار، فلما وافيت المنزل إذا رسول الخيزران قد لحقني بألفي دينار إلا عشرة دنانير، وإذا معه أثواب أخر، وبعثت تشكرني وتثني عليَّ معروفا.

وذكروا أن المهدي كان قد أهدر دم رجل من أهل الكوفة وجعل لمن جاء به مائة ألف، فدخل الرجل بغداد متنكرا فلقيه رجل فأخذ بمجامع ثوبه ونادى: هذا طلبة أمير المؤمنين.

وجعل الرجل يريد أن ينفلت منه فلا يقدر، فبينا هما يتجاذبان وقد اجتمع الناس عليهما، إذ مر أمير في موكبه - وهو: معن بن زائدة - فقال الرجل: يا أبا الوليد ! خائف مستجير.

فقال معن: ويلك مالك وله ؟

فقال: هذا طلبة أمير المؤمنين، جعل لمن جاء به مائة ألف.

قال معن: أما علمت أني قد أجرته؟ أرسله من يدك.

ثم أمر بعض غلمانه فترجل وأركبه وذهب به إلى منزله، وانطلق ذلك الرجل إلى باب الخليفة وأنهى إليهم الخبر، فبلغ المهدي فأرسل إلى معن فدخل عليه فسلم ولم يرد عليه السلام، وقال: يا معن ! أبلغ من أمرك أن تجير عليَّ ؟

قال: نعم.

قال: ونعم أيضا !

قال: نعم ! قد قتلت في دولتكم أربعة آلاف مصل فلا يجار لي رجل واحد ؟

فأطرق المهدي ثم رفع رأسه إليه وقال: وقد أجرنا من أجرت يا معن.

فقال: يا أمير المؤمنين ! إن الرجل ضعيف، فأمر له بثلاثين ألفا.

فقال: إن جريمته عظيمة وإن جوائز الخلفاء على قدر جرائم الرعية.

فأمر له بمائة ألف، فحملت بين يدي معن إلى ذلك الرجل، فقال له معن: خذ المال وادع لأمير المؤمنين وأصلح نيتك في المستقبل.

وقدم المهدي مرة البصرة فخرج ليصلي بالناس فجاء أعرابي فقال: يا أمير المؤمنين ! مر هؤلاء فلينتظروني حتى أتوضأ - يعني: المؤذنين - فأمرهم بانتظاره، ووقف المهدي في المحراب لم يكبر حتى قيل له هذا الأعرابي قد جاء، فكّبر، فتعجب الناس من سماحة أخلاقه.

وقدم أعرابي ومعه كتاب مختوم فجعل يقول: هذا كتاب أمير المؤمنين إليّ، أين الرجل الذي يقال له: الربيع الحاجب ؟

فأخذ الكتاب وجاء به إلى الخليفة وأوقف الأعرابي وفتح الكتاب فإذا هو قطعة أديم فيها كتابة ضعيفة، والأعرابي يزعم أن هذا خط الخليفة، فتبسم المهدي وقال: صدق الأعرابي، هذا خطي، إني خرجت يوما إلى الصيد فضعت عن الجيش وأقبل الليل فتعوذت بتعويذ رسول الله فرفع لي نار من بعيد فقصدتها فإذا هذا الشيخ وامرأته في خباء يوقدان نارا، فسلمت عليهما فردا السلام وفرش لي كساء وسقاني مذقة من لبن مشوب بماء، فما شربت شيئا إلا وهي أطيب منه، ونمت نومة على تلك العباءة ما أذكر أني نمت أحلى منها.

فقام إلى شويهة له فذبحها فسمعت امرأته تقول له: عمدت إلى مكسبك ومعيشة أولادك فذبحتها، هلكت نفسك وعيالك.

فما التفت إليها، واستيقظت فاشتويت من لحم تلك الشويهة وقلت له: أعندك شيء أكتب لك فيه كتابا ؟

فأتاني بهذه القطعة فكتبت له بعود من ذلك الرماد خمسمائة ألف، وإنما أردت خمسين ألفا، والله لأنفذنها له كلها ولو لم يكن في بيت المال سواها.

فأمر له بخمسمائة ألف فقبضها الأعرابي واستمر مقيما في ذلك الموضع في طريق الحاج من ناحية الأنبار، فجعل يقري الضيف ومن مر به من الناس، فعرف منزله بمنزل مضيف أمير المؤمنين المهدي.

وعن سوار - صاحب رحبة سوار - قال: انصرفت يوما من عند المهدي فجئت منزلي فوضع لي الغداء فلم تقبل نفسي عليه، فدخلت خلوتي لأنام في القائلة فلم يأخذني نوم، فاستدعيت بعض حظاياي لأتلهى بها فلم تنبسط نفسي إليها، فنهضت فخرجت من المنزل وركبت بغلتي فما جاوزت الدار إلا قليلا حتى لقيني رجل ومعه ألفا درهم، فقلت: من أين هذه ؟

فقال: من ملكك الجديد.

فاستصحبته معي وسرت في أزقة بغداد لأتشاغل عما أنا فيه من الضجر، فحانت صلاة العصر عند مسجد في بعض الحارات، فنزلت لأصلي فيه، فلما قضيت الصلاة إذا برجل أعمى قد أخذ بثيابي فقال: إن لي إليك حاجة.

فقلت: وما حاجتك ؟

فقال: إني رجل ضرير ولكنني لما شممت رائحة طيبك ظننت أنك من أهل النعمة والثروة، فأحببت أن أفضي إليك بحاجتي.

فقلت: وما هي ؟

فقال: إن هذا القصر الذي تجاه المسجد كان لأبي فسافر منه إلى خراسان فباعه وأخذني معه وأنا صغير، فافترقنا هناك وأصابني أنا الضرر، فرجعنا إلى بغداد بعد أن مات أبي، فجئت إلى صاحب هذا القصر أطلب منه شيئا أتبلغ به لعلي أجتمع بسوار، فإنه كان صاحبا لأبي، فلعله أن يكون عنده سعة يجود منها عليّ.

فقلت: ومن أبوك ؟

فذكر رجلا كان أصحب الناس إليّ، فقلت: إني أنا سوار صاحب أبيك، وقد منعني الله يومك هذا النوم والقرار والأكل والراحة حتى أخرجني من منزلي لأجتمع بك، وأجلسني بين يديك، وأمرت وكيلي فدفع له الألفي الدرهم التي معه.

وقلت له: إذا كان الغد فأت منزلي في مكان كذا وكذا.

وركبت فجئت دار الخلافة وقلت: ما أتحف المهدي الليلة في السمر بأغرب من هذا.

فلما قصصت عليه القصة تعجب من ذلك جدا وأمر لذلك الأعمى بألفي دينار، وقال لي: هل عليك دين ؟

قلت: نعم !

قال: كم ؟

قلت: خمسون ألف دينار.

فسكت وحادثني ساعة ثم لما قمت من بين يديه فوصلت إلى المنزل إذا الحمالون قد سبقوني بخمسين ألف دينار وألفي دينار للأعمى، فانتظرت الأعمى أن يجيء في ذلك اليوم فتأخر فلما أمسيت عدت إلى المهدي فقال: قد فكرت في أمرك فوجدتك إذا قضيت دينك لم يبقى معك شيء، وقد أمرت لك بخمسين ألف دينار أخرى.

فلما كان اليوم الثالث جاءني الأعمى فقلت: قد رزقني الله بسببك خيرا كثيرا، ودفعت له الألفي دينار التي من عند الخليفة وزدته ألفي دينار من عندي أيضا.

ووقفت امرأة للمهدي فقالت: يا عصبة رسول الله اقض حاجتي.

فقال المهدي: ما سمعتها من أحد غيرها، اقضوا حاجتها وأعطوها عشرة آلاف درهم.

ودخل ابن الخياط على المهدي فامتدحه فأمر له بخمسين ألف درهم ففرقها ابن الخياط وأنشأ يقول:

أخذت بكفي كفه أبتغي الغنى * ولم أدر أن الجود من كفه يعدي

فلا أنا منه ما أفاد ذوو الغنى * أفدت، وأعداني فبددت ما عندي

قال: فبلغ ذلك المهدي فأعطاه بدل كل درهم دينارا.

وبالجملة فإن للمهدي مآثر ومحاسن كثيرة، وقد كانت وفاته بماسبذان، كان قد خرج إليها ليبعث إلى ابنه الهادي ليحضر إليه من جرجان حتى يخلعه من ولاية العهد ويجعله بعد هارون الرشيد، فامتنع الهادي من ذلك، فركب المهدي إليه قاصدا إحضاره، فلما كان بماسبذان مات بها.

وكان قد رأى في النوم وهو بقصره ببغداد - المسمى: بقصر السلامة - كأن شيخا وقف بباب القصر، ويقال إنه سمع هاتفا يقول:

كأني بهذا القصر قد باد أهله * وأوحش منه ربعه ومنازله

وصار عميد القوم بعد بهجة * وملك إلى قبر عليه جنادله

ولم يبق إلا ذكره وحديثه * تنادي عليه معولات حلائله

فما عاش بعدها إلا عشرا حتى مات.

وروي أنه لما قال له الهاتف:

كأني بهذا القصر قد باد أهله * وقد درست أعلامه ومنازله

فأجابه المهدي:

كذاك أمور الناس يبلى جديدها * وكل فتى يوما ستبلى فعائله

فقال الهاتف:

تزود من الدنيا فإنك ميت * وإنك مسؤول فما أنت قائله

فأجابه المهدي:

أقول بأن الله حق شهدته * وذلك قول ليس تحصى فضائله

فقال الهاتف:

تزود من الدنيا فإنك راحل * وقد أزف الأمر الذي بك نازل

فأجابه المهدي:

متى ذاك خبرني هديت فإنني * سأفعل ما قد قلت لي وأعاجله

فقال الهاتف:

تلبث ثلاثا بعد عشرين ليلة * إلى منتهى شهر وما أنت كامله

قالوا: فلم يعش بعدها إلا تسعا وعشرين يوما حتى مات رحمه الله تعالى.

وقد ذكر ابن جرير اختلافا في سبب موته، فقيل: إنه ساق خلف ظبي والكلاب بين يديه فدخل الظبي إلى خربة فدخلت الكلاب وراءه وجاء الفرس فحمل بمشواره فدخل الخربة فكسر ظهره، وكانت وفاته بسبب ذلك.

وقيل: إن بعض حظاياه بعثت إلى أخرى لبنا مسموما فمر الرسول بالمهدي فأكل منه فمات.

وقيل: بل بعثت إليها بصينية فيها الكمثري وفي أعلاها واحدة كبيرة مسمومة وكان المهدي يعجبه الكمثري، فمرت به الجارية ومعها تلك الصينية فأخذ التي في أعلاها فأكلها فمات من ساعته، فجعلت الحظية تندبه وتقول: وا أمير المؤمنيناه، أردت أن يكون لي وحدي فقتلته بيدي.

وكانت وفاته في المحرم من هذه السنة - أعني: سنة تسع وستين ومائة - وله من العمر ثلاث وأربعون سنة على المشهور، وكانت خلافته عشر سنين وشهرا وكسورا، ورثاه الشعراء بمراثي كثيرة قد ذكرها ابن جرير وابن عساكر.

وفيها: توفي عبيد الله بن إياد، ونافع بن عمر الجمحي، ونافع بن أبي نعيم القارئ.

خلافة موسى الهادي بن المهدي

توفي أبوه في المحرم من أول سنة تسع وستين ومائة وكان ولي العهد من بعد أبيه، وكان أبوه قد عزم قبل موته على تقديم أخيه الرشيد عليه في ولاية العهد، فلم يتفق ذلك حتى مات المهدي بماسبذان.

وكان الهادي إذ ذاك بجرجان، فهمَّ بعض الدولة منهم: الربيع الحاجب، وطائفة من القواد على تقديم الرشيد عليه والمبايعة له، وكان الرشيد حاضرا ببغداد، عزموا على النفقة على الجند لذلك تنفيذا لما رآه المهدي من ذلك.

فأسرع الهادي السير من جرجان إلى بغداد حين بلغه الخبر، فساق منها إليها في عشرين يوما، فدخل بغداد وقام في الناس خطيبا، وأخذ البيعة منهم فبايعوه، وتغيب الربيع الحاجب فتطلبه الهادي حتى حضر بين يديه، فعفا عنه وأحسن إليه وأقرّه على حجوبيته، وزاده الوزراء وولايات أخر.

وشرع الهادي في تطلب الزنادقة من الآفاق فقتل منهم طائفة كثيرة، واقتدى في ذلك بأبيه، وقد كان موسى الهادي من أفكه الناس مع أصحابه في الخلوة، فإذا جلس في مقام الخلافة كانوا لا يستطيعون النظر إليه، لما يعلوه من المهابة والرياسة، وكان شابا حسنا وقورا مهيبا.

وفيها: - أعني: سنة تسع وستين ومائة - خرج بالمدينة الحسين بن علي بن الحسن بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب، وذلك أنه أصبح يوما وقد لبس البياض وجلس في المسجد النبوي، وجاء الناس إلى الصلاة فلما رأوه ولوا راجعين، والتف عليه جماعة فبايعوه على الكتاب والسنة والرضى من أهل البيت.

وكان سبب خروجه أن متوليها خرج منها إلى بغداد ليهنئ الخليفة بالولاية ويعزيه في أبيه.

ثم جرت أمور اقتضت خروجه، والتف عليه جماعة وجعلوا مأواهم المسجد النبوي، ومنعوا الناس من الصلاة فيه، ولم يجبه أهل المدينة إلى ما أراده، بل جعلوا يدعون عليه لانتهاكه المسجد، حتى ذكر أنهم كانوا يقذرون في جنبات المسجد، وقد اقتتلوا مع المسودة مرات فقتل من هؤلاء وهؤلاء.

ثم ارتحل إلى مكة فأقام بها إلى زمن الحج، فبعث إليه الهادي جيشا فقاتلوه بعد فراغ الناس من الموسم فقتلوه وقتلوا طائفة من أصحابه، وهرب بقيتهم وتفرقوا شذر مذر.

فكان مدة خروجه إلى أن قتل تسعة أشهر وثمانية عشر يوما، وقد كان كريما من أجود الناس.

دخل يوما على المهدي فأطلق له أربعين ألف دينار ففرقها في أهله وأصدقائه من أهل بغداد والكوفة، ثم خرج من الكوفة وما عليه قميص، إنما كان عليه فروة وليس تحتها قميص.

وفيها: حج بالناس سليمان بن أبي جعفر عم الخليفة.

وغزا الصائفة من طريق درب الراهب معتوق بن يحيى في جحفل كثيف، وقد أقبلت الروم مع بطريقها فبلغوا الحدث.

وفيها توفي: الحسن بن علي بن حسن بن حسن بن حسن بن علي بن أبي طالب، قتل في أيام التشريق كما تقدم.

والربيع بن يونس

الحاجب مولى المنصور، وكان حاجبه ووزيره، وقد وزر للمهدي والهادي، وكان بعضهم يطعن في نسبه.

وقد أورد الخطيب في ترجمته حديثا من طريقه ولكنه منكر، وفي صحته عنه نظر.

وقد ولي الحجوبية بعده ولده الفضل بن الربيع، ولاه إياها الهادي.

ثم دخلت سنة سبعين ومائة من الهجرة النبوية

وفيها: عزم الهادي على خلع أخيه هارون الرشيد من الخلافة وولاية العهد لابنه جعفر بن الهادي فانقاد هارون لذلك ولم يظهر منازعة بل أجاب، واستدعى الهادي جماعة من الأمراء فأجابوه إلى ذلك، وأبت ذلك أمهما الخيزران، وكانت تميل إلى ابنها هارون أكثر من موسى، وكان الهادي قد منعها من التصرف في شيء من المملكة لذلك، بعدما كانت قد استحوذت عليه في أول ولايته، وانقلبت الدول إلى بابها والأمراء إلى جانبها.

فحلف الهادي لئن عاد أمير إلى بابها ليضربن عنقه ولا يقبل منه شفاعة، فامتنعت من الكلام في ذلك، وحلفت لا تكلمه أبدا، وانتقلت عنه إلى منزل آخر.

وألح هو على أخيه هارون في الخلع وبعث إلى يحيى بن خالد بن برمك - وكان من أكابر الأمراء الذين هم في صف الرشيد - فقال له: ماذا ترى فيما أريد من خلع هارون وتولية ابني جعفر ؟

فقال له خالد: إني أخشى أن تهون الأيمان على الناس، ولكن المصلحة تقتضي أن تجعل جعفرا ولي العهد من بعد هارون، وأيضا فأني أخشى أن لا يجيب أكثر الناس إلى البيعة لجعفر، لأنه دون البلوغ، فيتفاقم الأمر ويختلف الناس.

فأطرق مليا - وكان ذلك ليلا - ثم أمر بسجنه ثم أطلقه.

وجاء يوما إليه أخوه هارون الرشيد فجلس عن يمنيه بعيدا، فجعل الهادي ينظر إليه مليا ثم قال: يا هارون ! تطمع أن تكون وليا للعهد حقا ؟

فقال: إي والله، ولئن كان ذلك لأصلن من قطعت، ولأنصفن من ظلمت، ولأزوجن بنيك من بناتي.

فقال: ذاك الظن بك.

فقام إليه هارون ليقبل يده فحلف الهادي ليجلس معه على السرير فجلس معه، ثم أمر له بألف ألف دينار، وأن يدخل الخزائن فيأخذ منها ما أراد، وإذا جاء الخراج دفع إليه نصفه.

ففعل ذلك كله ورضي الهادي عن الرشيد.

ثم سافر الهادي إلى حديثة الموصل بعد الصلح، ثم عاد منها فمات بعيساباذ ليلة الجمعة للنصف من ربيع الأول، وقيل: لآخر سنة سبعين ومائة، وله من العمر ثلاث وعشرون سنة، وكانت خلافته ستة أشهر وثلاثة وعشرون يوما.

وكان طويلا جميلا، أبيض، بشفته العليا تقلص.

وقد توفي هذه الليلة: خليفة وهو الهادي، وولي خليفة وهو الرشيد، وولد خليفة وهو المأمون بن الرشيد.

وقد قالت الخيزران أمهما في أول الليل: إنه بلغني أن يولد خليفة ويموت خليفة ويولى خليفة.

يقال: إنها سمعت ذلك من الأوزاعي قبل ذلك بمدة، وقد سرها ذلك جدا.

ويقال: إنها سمت ولدها الهادي خوفا منه على ابنها الرشيد، ولأنه كان قد أبعدها وأقصاها وقرب حظيته خالصة وأدناها، فالله أعلم.

وهذا ذكر شيء من ترجمة الهادي

هو: موسى بن محمد المهدي بن عبد الله المنصور بن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس، أبو محمد الهادي.

ولي الخلافة في محرم سنة تسع وستين ومائة.

ومات في النصف من ربيع الأول أو الآخر سنة سبعين ومائة، وله من العمر ثلاث، وقيل: أربع، وقيل: ست وعشرون سنة، والصحيح الأول.

ويقال: إنه لم يل الخلافة أحد قبله في سنه، وكان حسنا جميلا طويلا، أبيض، وكان قوي البأس يثب على الدابة وعليه درعان، وكان أبوه يسميه: ريحانتي.

ذكر عيسى بن دأب قال: كنت يوما عند الهادي إذ جيء بطست فيه رأس جاريتين قد ذبحا وقطعا، لم أر أحسن صورا منهما، ولا مثل شعورهما، وفي شعورهما اللآلئ والجواهر منضدة، ولا رأيت مثل طيب ريحهما.

فقال لنا الخليفة: أتدرون ما شأن هاتين ؟

قلت: لا.

فقال: إنه ذكر أنه تركب إحداهما الأخرى يفعلان الفاحشة، فأمرت الخادم فرصدهما ثم جاءني فقال: إنهما مجتمعتان، فجئت فوجدتهما في لحاف واحد وهما على الفاحشة، فأمرت بحز رقابهما.

ثم أمر برفع رؤوسهما من بين يديه ورجع إلى حديثه الأول كأنه لم يصنع شيئا.

وكان شهما خبيرا بالملك كريما، ومن كلامه: ما أصلح الملك بمثل تعجيل العقوبة للجاني، والعفو عن الزلات، ليقل الطمع عن الملك.

وغضب يوما من رجل فاسترضى عنه فرضي، فشرع الرجل يعتذر فقال الهادي: إن الرضا كفاك مؤنة الاعتذار.

وعزى رجلا في ولده فقال له: سرك وهو عدو وفتنة، وساءك وهو صلاة ورحمة.

وروى الزبير بن بكار أن مروان بن أبي حفصة أنشد الهادي قصيدة له منها قوله:

تشابه يوما بأسه ونواله * فما أحد يدري لأيهما الفضل

فقال له الهادي: أيما أحب إليك؟ ثلاثون ألفا معجلة أو مائة ألف تدور في الدواوين ؟

فقال: يا أمير المؤمنين ! أو أحسن من ذلك ؟

قال: ما هو ؟

قال: تكون ألفا معجلة ومائة ألف تدور بالدواوين.

فقال الهادي: أو أحسن من ذلك، نعجل الجميع لك.

فأمر له بمائة ألف وثلاثين ألفا معجلة.

قال الخطيب البغدادي: حدثني الأزهري، ثنا سهل بن أحمد الديباجي، ثنا الصولي، ثنا الغلابي، حدثني محمد بن عبد الرحمن التيمي المكي، حدثني المطلب بن عكاشة المزني، قال: قدمنا على أبي محمد الهادي شهودا على رجل منا أنه شتم قريشا وتخطى إلى رسول الله ، فجلس لنا مجلسا أحضر فيه فقهاء أهل زمانه ومن كان بالحضرة على بابه، وأحضر الرجل وأحضرنا فشهدنا عليه بما سمعنا منه.

فتغير وجه الهادي ثم نكس رأسه ثم رفعه ثم قال: إني سمعت أبي المهدي يحدث عن أبيه المنصور، عن أبيه علي بن عبد الله بن عباس، قال: من أهان قريشا أهانه الله، وأنت يا عدو الله لم ترض بأن آذيت قريشا حتى تخطيت إلى ذكر رسول الله ؟

اضربوا عنقه، فما برحنا حتى قتل.

توفي الهادي في ربيع الأول من هذه السنة، وصلى عليه أخوه هارون، ودفن في قصر بناه وسماه: الأبيض بعيساباذ من الجانب الشرقي من بغداد، وكان له من الولد تسعة: سبعة ذكور وابنتان، فالذكور: جعفر، وعباس، وعبد الله، وإسحاق، وإسماعيل، وسليمان، وموسى الأعمى، الذي ولد بعد وفاته فسمي باسم أبيه.

والبنتان هما: أم عيسى التي تزوجها المأمون، وأم العباس تلقب: توبة.

خلافة هارون الرشيد بن المهدي

بويع له بالخلافة ليلة مات أخوه، وذلك ليلة الجمعة للنصف من ربيع الأول سنة سبعين ومائة وكان عمر الرشيد يومئذ ثنتان وعشرين سنة، فبعث إلى يحيى بن خالد بن برمك فأخرجه من السجن، وقد كان الهادي عزم تلك الليلة على قتله وقتل هارون الرشيد، وكان الرشيد ابنه من الرضاعة، فولاه حينئذ الوزارة، وولى يوسف بن القاسم بن صبيح كتابة الإنشاء.

وكان هو الذي قام خطيبا بين يديه حتى أخذت البيعة له على المنبر بعيساباذ.

ويقال: إنه لما مات الهادي في الليل جاء يحيى خالد بن برمك إلى الرشيد فوجده نائما فقال: قم يا أمير المؤمنين.

فقال له الرشيد: كم تروعني، لو سمعك هذا الرجل لكان ذلك أكبر ذنوبي عنده ؟

فقال: قد مات الرجل.

فجلس هارون فقال: أشر عليّ في الولايات، فجعل يذكر ولايات الأقاليم لرجال يسميهم فيوليهم الرشيد، فبينما هما كذلك إذ جاء آخر فقال: أبشر يا أمير المؤمنين فقد ولد لك الساعة غلام.

فقال: هو عبد الله وهو المأمون.

ثم أصبح فصلى على أخيه الهادي، ودفنه بعيساباذ، وحلف لا يصلي الظهر إلا ببغداد.

فلما فرغ من الجنازة أمر بضرب عنق أبي عصمة القائد لأنه كان مع جعفر بن الهادي، فزاحموا الرشيد على جسر فقال أبو عصمة: اصبر وقف حتى يجوز ولي العهد.

فقال الرشيد: السمع والطاعة للأمير.

فجاز جعفر وأبو عصمة ووقف الرشيد مكسورا ذليلا.

فلما ولي أمر بضرب عنق أبي عصمة، ثم سار إلى بغداد.

فلما انتهى إلى جسر بغداد استدعى بالغواصين فقال: إني سقط مني ههنا خاتم كان والدي المهدي قد اشتراه لي بمائة ألف، فلما كان من أيام بعث إلى الهادي يطلبه فألقيته إلى الرسول فسقط ههنا.

فغاص الغواصون وراءه فوجدوه فسرّ به الرشيد سرورا كثيرا.

ولما ولى الرشيد يحيى بن خالد الوزارة قال له: قد فوضت إليك أمر الرعية وخلعت ذلك من عنقي وجعلته في عنقك، فول من رأيت واعزل من رأيت.

ففي ذلك يقول إبراهيم بن الموصلي:

ألم تر أن الشمس كانت سقيمة * فلما ولي هارون أشرق نورها

بيمن أمين الله هارون ذي الندي * فهارون واليها ويحيى وزيرها

ثم إن هارون أمر يحيى بن خالد أن لا يقطع أمرا بمشاورة والدته الخيزران.

فكانت هي المشاورة في الأمور كلها، فتبرم وتحل وتمضي وتحكم.

وفيها: أمر الرشيد بسهم ذوي القربى أن يقسم بين بني هاشم على السواء.

وفيها: تتبع الرشيد خلقا من الزنادقة فقتل منهم طائفة كثيرة.

وفيها: خرج عليه بعض أهل البيت.

وفيها: ولد الأمين محمد بن الرشيد بن زبيدة.

وذلك يوم الجمعة لست عشرة خلت من شوال من هذه السنة.

وفيها: كمل بناء مدينة طرسوس على يدي فرج الخادم التركي ونزلها الناس.

وفيها: حج بالناس أمير المؤمنين الرشيد، وأعطى أهل الحرمين أموالا كثيرةً، ويقال: إنه غزا في هذه السنة أيضا.

وفي ذلك يقول داود بن رزين الشاعر:

بهارون لاح النور في كل بلدة * وقام به في عدل سيرته النهج

إمام بذات الله أصبح شغله * وأكثر ما يعني به الغزو والحج

تضيق عيون الناس عن نور وجهه * إذا ما بدا للناس منظره البلج

وإن أمين الله هارون ذا الندا * ينيل الذي يرجوه أضعاف ما يرجو

وغزا الصائفة فيها: سليمان بن عبد الله البكائي.

ذكر من توفي فيها من الأعيان:

الخليل بن أحمد بن عمرو

ابن تميم، أبو عبد الرحمن الفراهيدي، ويقال: الفرهودي الأزدي، شيخ النحاة، وعنه أخذ: سيبويه، والنضر بن شميل، وغير واحد من أكابرهم.

وهو الذي اخترع علم العروض، قسمه إلى خمس دوائر وفرعه إلى خمسة عشر بحرا، وزاد الأخفش فيه بحرا آخر وهو: الخبب، وقد قال بعض الشعراء:

قد كان شعر الورى صحيحا * من قبل أن يخلق الخليل

وقد كان له معرفة بعلم النغم، وله فيه تصنيف أيضا، وله كتاب العين في اللغة، ابتدأه وأكمله النضر بن شميل وأضرابه من أصحاب الخليل، كمؤرج السدوسي، ونصر بن علي الجهضمي، فلم يناسبوا ما وضعه الخليل.

وقد وضع ابن درستويه كتابا وصف فيه ما وقع لهم من الخلل فأفاد.

وقد كان الخليل رجلا صالحا عاقلا وقورا كاملا، وكان متقللا من الدنيا جدا، صبورا على خشونة العيش وضيقه، وكان يقول: لا يجاوز همي ما وراء بابي، وكان ظريفا حسن الخلق.

وذكر أنه اشتغل رجل عليه في العروض وكان بعيد الذهن فيه قال: فقلت له يوما: كيف تقطع هذا البيت ؟

إذا لم تستطع شيئا فدعه * وجاوزه إلى ما تستطيع

فشرع معي في تقطيعه على قدر معرفته، ثم إنه نهض من عندي فلم يعد إليّ، وكأنه فهم ما أشرت إليه.

ويقال: إنه لم يسم أحد بعد النبي بأحمد سوى أبيه، وروى ذلك عن أحمد بن أبي خيثمة، والله أعلم.

ولد الخليل سنة مائة من الهجرة، ومات بالبصرة سنة سبعين ومائة على المشهور، وقيل: سنة ستين، وزعم ابن الجوزي في كتابه شذور العقود أنه توفي سنة ثلاثين ومائة، وهذا غريب جدا والمشهور الأول.

وفيها: توفي الربيع بن سليمان بن عبد الجبار بن كامل المرادي مولاهم، المصري المؤدب راوية الشافعي، وآخر من روى عنه.

وكان رجلا صالحا تفرس فيه الشافعي وفي البويطي والمزني وابن عبد الحكم العلم فوافق ذلك ما وقع في نفس الأمر، ومن شعر الربيع هذا:

صبرا جميلا ما أسرع الفرجا * من صدق الله في الأمور نجا

من خشي الله لم ينله أذى * ومن رجا الله كان حيث رجا

فأما الربيع بن سليمان بن داود الجيزي فإنه روى عن الشافعي أيضا.

وقد مات في سنة ست وخمسين ومائتين، والله أعلم.

ثم دخلت سنة إحدى وسبعين ومائة

فيها: أضاف الرشيد الخاتم إلى يحيى بن خالد مع الوزارة.

وفيها: قتل الرشيد أبا هريرة محمد بن فروخ نائب الجزيرة صبرا في قصر الخلد بين يديه.

وفيها: خرج الفضل بن سعيد الحروري فقتل.

وفيها: قدم روح بن حاتم نائب إفريقية.

وفيها: خرجت الخيزران إلى مكة فأقامت بها إلى أن شهدت الحج، وكان الذي حج بالناس فيها عبد الصمد بن علي عم الخلفاء.

ثم دخلت سنة ثنتين وسبعين ومائة

فيها: وضع الرشيد عن أهل العراق العشر الذي كان يؤخذ منهم بعد النصف.

وفيها: خرج الرشيد من بغداد يرتاد له موضعا يسكنه غير بغداد فتشوش فرجع.

وفيها: حج بالناس يعقوب بن أبي جعفر المنصور عم الرشيد.

وفيها: غزا الصائفة إسحاق بن سليمان بن علي.

ثم دخلت سنة ثلاث وسبعين ومائة

فيها: توفي بالبصرة محمد بن سليمان فأمر الرشيد بالاحتياط على حواصله التي تصلح للخلفاء، فوجدوا من ذلك شيئا كثيرا من الذهب والفضة والأمتعة وغير ذلك، فنضدوه ليستعان به على الحرب وعلى مصالح المسلمين.

وهو: محمد بن سليمان بن علي بن عبد الله بن عباس، وأمه أم حسن بنت جعفر بن حسن بن حسن بن علي، وكان من رجالات قريش وشجعانهم.

جمع له المنصور بين البصرة والكوفة وزوجه المهدي ابنته العباسة، وكان له من الأموال شيء كثير، كان دخله في كل يوم مائة ألف.

وكان له خاتم من ياقوت أحمر لم ير مثله.

وروى الحديث عن أبيه عن جده الأكبر، وهو حديث مرفوع في مسح رأس اليتيم إلى مقدم رأسه، ومسح رأس من له أب إلى مؤخر رأسه.

وقد وفد على الرشيد فهناه بالخلافة فأكرمه وعظمه وزاده في عمل شيئا كثيرا.

ولما أراد الخروج خرج معه الرشيد يشيعه إلى كلواذا.

توفي في جمادى الآخرة من هذه السنة عن إحدى وخمسين سنة، وقد أرسل الرشيد من اصطفى من ماله الصامت فوجد له من الذهب ثلاثة آلاف ألف دينار، ومن الدراهم ستة آلاف ألف، خارجا عن الأملاك.

وقد ذكر ابن جرير أن وفاته ووفاة الخيزران في يوم واحد، وقد وقفت جارية من جواريه على قبره فأنشأت تقول:

أمسى التراب لمن هويت مبيتا * القَ التراب فقل له حييتا

إنا نحبك يا تراب وما بنا * إلا كرامة من عليه حثيتا

وفيها: توفيت الخيزران جارية المهدي وأم أمير المؤمنين الهادي والرشيد، اشتراها المهدي وحظيت عنده جدا ثم أعتقها وتزوجها ولدت له خليفتين: موسى الهادي، والرشيد.

ولم يتفق هذا لغيرها من النساء إلا الولادة بنت العباس العبسية، زوجة عبد الملك بن مروان، وهي: أم الوليد، وسليمان.

وكذلك لشاه فرند بنت فيروز بن يزدجرد، ولدت لمولاها الوليد بن عبد الملك: يزيد، وإبراهيم. وكلاهما ولي الخلافة.

وقد روي من طريق الخيزران، عن مولاها المهدي، عن أبيه، عن جده، عن ابن عباس، عن النبي قال: «من اتقى الله وقاه كل شيء».

ولما عرضت الخيزران على المهدي ليشتريها أعجبته إلا دقة في ساقيها، فقال لها: يا جارية ! إنك لعلى غاية المنى والجمال لولا دقة ساقيك وخموشهما.

فقالت: يا أمير المؤمنين ! إنك أحوج ما تكون إليهما لا تراهما فاستحسن جوابها واشتراها وحظيت عنده جدا.

وقد حجت الخيزران مرة في حياة المهدي فكتب إليها وهي بمكة يستوحش لها ويتشوق إليها بهذا الشعر:

نحن في غاية السرور ولكن * ليس إلا بكم يتم السرور

عيب ما نحن فيه يا أهل ودي * أنكم غيب ونحن حضور

فأجدوا في السير بل إن قدرتم * أن تطيروا مع الرياح فطيروا

فأجابته أو أمرت من أجابه:

قد أتانا الذي وصفت من الشو * ق فكدنا وما قدرنا نطير

ليت أن الرياح كن يؤدين * إليكم ما قد يكنّ الضمير

لم أزل صبة فإن كنت بعدي * في سرور فدام ذاك السرور

وذكروا أنه أهدى إليها محمد بن سليمان نائب البصرة الذي مات في اليوم الذي ماتت فيه مائة وصيفة، مع كل وصيفة جام من فضة مملوء مسكا.

فكتبت إليه: إن كان ما بعثته ثمنا عن ظننا فيك فظننا فيك أكثر مما بعثت، وقد بخستنا في الثمن، وإن كنت تريد به زيادة المودة فقد اتهمتني في المودة. وردت ذلك عليه.

وقد اشترت الدار المشهورة بها بمكة المعروفة بدار الخيزران، فزادتها في المسجد الحرام.

وكان مغل ضياعها في كل سنة ألف ألف وستين ألفا، واتفق موتها ببغداد ليلة الجمعة لثلاث بقين من جمادى الآخرة من هذه السنة.

وخرج ابنها الرشيد في جنازتها وهو حامل سريرها يخب في الطين.

فلما انتهى إلى المقبرة أتي بماء فغسل رجليه ولبس خفا وصلى عليها، ونزل لحدها.

فلما خرج من القبر أتي بسرير فجلس عليه واستدعى بالفضل بن الربيع فولاه الخانم والنفقات.

وأنشد الرشيد قول ابن نويرة حين دفن أمه الخيزران:

وكنا كندماني جذيمة برهة * من الدهر حتى قيل لن يتصدعا

فلما تفرقنا كأني ومالكا * لطول اجتماع لم نبت ليلة معا

وفيها توفيت:

غادر

جارية كانت لموسى الهادي، كان يحبها حبا شديدا جدا، وكانت تحسن الغناء جدا، فبينما هي يوما تغنيه إذ أخذته فكرة غيبته عنها وتغير لونه، فسأله بعض الحاضرين: ما هذا يا أمير المؤمنين ؟

فقال: أخذتني فكرة أني أموت وأخي هارون يتولى الخلافة بعدي ويتزوج جاريتي هذه.

ففداه الحاضرون ودعوا له بطول العمر.

ثم استدعى أخاه هارون فأخبره بما وقع فعوذه الرشيد من ذلك، فاستحلفه الهادي بالأيمان المغلظة من الطلاق والعتاق والحج ماشيا حافيا أن لا يتزوجها، فحلف له واستحلف الجارية كذلك فحلفت له، فلم يكن إلا أقل من شهرين حتى مات، ثم خطبها الرشيد فقالت: كيف بالأيمان التي حلفناها أنا وأنت ؟

فقال: إني أكفر عني وعنك.

فتزوجها وحظيت عنده جدا، حتى كانت تنام في حجره فلا يتحرك خشية أن يزعجها.

فبينما هي ذات ليلة نائمة إذا انتبهت مذعورة تبكي فقال لها: ما شأنك ؟

فقالت: يا أمير المؤمنين ! رأيت الهادي في منامي هذا وهو يقول:

أخلفت عهدي بعد ما * جاورت سكان المقابر

ونسيتي وحنثت في * أيمانك الكذب الفواجر

ونكحت غادرة أخي * صدق الذي سماك غادر

أمسيت في أهل البلى * وعددت في الموتى الغوابر

لا يهنك الألف الجديـ * ـد ولا تدر عنك الدوائر

ولحقت بي قبل الصبا * ح وصرت حيث غدوت صائر

فقال لها الرشيد: أضغاث أحلام.

فقالت: كلا والله يا أمير المؤمنين، فكأنما كتبت هذه الأبيات في قلبي.

ثم ما زالت ترتعد وتضطرب حتى ماتت قبل الصباح.

وفيها ماتت: هيلانة جارية الرشيد، وهو الذي سماها هيلانة لكثرة قولها: هي لانه.

قال الأصمعي: وكان لها محبا، وكانت قبله لخالد بن يحيى بن برمك، فدخل الرشيد يوما منزله قبل الخلافة فاعترضته في طريقه وقالت: أما لنا منك نصيب ؟

فقال: وكيف السبيل إلى ذلك ؟

فقالت: استوهبني من هذا الشيخ.

فاستوهبها من يحيى بن خالد فوهبها له وحظيت عنده، ومكثت عنده ثلاث سنين ثم توفيت فحزن عليها حزنا شديدا ورثاها وكان من قوله فيها:

قد قلت لما ضمنوك الثرى * وجالت الحسرة في صدري

أذهب فلاق الله لا سرني * بعدك شيء آخر الدهر

وقال العباس بن الأحنف في موتها:

يا من تباشرت القبور بموتها * قصد الزمان مساءتي فرماك

أبغي الأنيس فما أرى لي مؤنسا * إلا التردد حيث كنت أراك

قال: فأمر له الرشيد بأربعين ألفا، لكل بيت عشرة آلاف، فالله أعلم.

ثم دخلت سنة أربع وسبعين ومائة من الهجرة

فيها: وقعت عصبية بالشام وتخبيط من أهلها.

وفيها: استقضى الرشيد يوسف بن القاضي أبي يوسف وأبوه حي.

وفيها: غزا الصائفة عبد الملك بن صالح فدخل بلاد الروم.

وفيها: حج بالناس الرشيد، فلما اقترب من مكة بلغه أن فيها وباء فلم يدخل مكة حتى كان وقت الوقوف وقف ثم جاء المزدلفة ثم منى ثم دخل مكة فطاف وسعى ثم ارتحل ولم ينزل بها.

ثم دخلت سنة خمس وسبعين ومائة

فيها: أخذ الرشيد بولاية العهد من بعده لولده محمد بن زبيدة وسماه: الأمين، وعمره إذ ذاك خمس سنين، فقال في ذلك سلم الخاسر:

قد وفق الله الخليفة إذ بنى * بيت الخلافة للهجان الأزهر

فهو الخليفة عن أبيه وجده * شهدا عليه بمنظر وبمخبر

قد بايع الثقلان في مهد الهدى * لمحمد بن زبيدة ابنة جعفر

وقد كان الرشيد يتوسم النجابة والرجاحة في عبد الله المأمون، ويقول: والله إن فيه حزم المنصور، ونسك المهدي، وعزة نفس الهادي، ولو شئت أن أقول الرابعة مني لقلت، وإني لأقدم محمد بن زبيدة وإني لأعلم أنه متبع هواه ولكن لا أستطيع غير ذلك.

ثم أنشأ يقول:

لقد بان وجه الرأي لي غير أنني * غلبت على الأمر الذي كان أحزما

وكيف يرد الدر في الضرع بعدما * نوزع حتى صار نهبا مقسما

أخاف التواء الأمر بعد استوائه * وأن ينقض الأمر الذي كان أبرما

وغزا الصائفة عبد الملك بن صالح، في قول الواقدي.

وحج بالناس الرشيد.

وفيها: سار يحيى بن عبد الله بن حسن إلى الديلم وتحرك هناك.

وفيها توفي من الأعيان:

شعوانة العابدة الزاهدة

كانت أمة سوداء كثيرة العبادة، روي عنها كلمات حسان، وقد سألها الفضيل بن عياض الدعاء فقالت: أما بينك وبينه ما إن دعوته استجاب لك ؟

فشهق الفضيل ووقع مغشيا عليه.

وفيها توفي:

الليث بن سعد بن عبد الرحمن الفهمي مولاهم

قال ابن خلكان: كان مولى قيس بن رفاعة وهو مولى عبد الرحمن بن مسافر الفهمي، كان الليث إمام الديار المصرية بلا مدافعة، وولد بقرقشندة من بلاد مصر سنة أربع وتسعين.

وكانت وفاته في شعبان من هذه السنة، ونشأ بالديار المصرية.

وقال ابن خلكان: أصله من قلقشندة وضبطه بلامين الثانية متحركة.

وحكي عن بعضهم أنه كان جيد الذهن، وأنه ولي القضاء بمصر فلم يحمدوا ذهنه بعد ذلك، ولد سنة أربع وعشرين ومائة، وذلك غريب جدا.

وذكروا أنه كان يدخله من ملكه في كل سنة خمسة آلاف دينار.

وقال آخرون: كان يدخله من الغلة في كل سنة ثمانون ألف دينار، وما وجبت عليه زكاة، وكان إماما في الفقه والحديث والعربية.

قال الشافعي: كان الليث أفقه من مالك إلا أنه ضيعه أصحابه.

وبعث إليه مالك يستهديه شيئا من العصفر لأجل جهاز ابنته، فبعث إليه بثلاثين حملا، فاستعمل منه مالك حاجته وباع منه بخمسمائة دينار، وبقيت عنده منه بقية.

وحج مرة فأهدى له مالك طبقا فيه رطب فرد الطبق وفيه ألف دينار.

وكان يهب للرجل من أصحابه من العلماء الألف دينار وما يقارب ذلك.

وكان يخرج إلى الإسكندرية في البحر هو وأصحابه في مركب ومطبخه في مركب.

ومناقبه كثيرةٌ جدا.

وحكى ابن خلكان: أنه سمع قائلا يقول يوم مات الليث:

ذهب الليث فلا ليث لكم * ومضى العلم غريبا وقبر

فالتفتوا فلم يروا أحدا.

وفيها توفي:

المنذر بن عبد الله بن المنذر

القرشي، عرض عليه المهدي أن يلي القضاء ويعطيه من بيت المال مائة ألف درهم، فقال: إني عاهدت الله أن لا ألي شيئا، وأعيذ أمير المؤمنين بالله أن أخيس بعهدي.

فقال له المهدي: الله ؟

قال: الله.

قال: انطلق فقد أعفيتك.

ثم دخلت سنة ست وسبعين ومائة

فيها: كان ظهور يحيى بن عبد الله بن حسن بن حسن بن علي بن أبي طالب ببلاد الديلم، واتبعه خلق كثير وجم غفير، وقويت شوكته، وارتحل إليه الناس من الكور والأمصار، فانزعج لذلك الرشيد وقلق من أمره، فندب إليه الفضل بن يحيى بن خالد بن برمك في خمسين ألفا، وولاه كور الجبل والري وجرجان وطبرستان وقومس وغير ذلك.

فسار الفضل بن يحيى إلى تلك الناحية في أبهة عظيمة، وكُتُب الرشيد تلحقه مع البرد في كل منزلة، وأنواع التحف والبر، وكَاتَب الرشيد صاحب الديلم ووعده بألف ألف درهم إن هو سهل خروج يحيى إليهم، وكتب الفضل إلى يحيى بن عبد الله يعده ويمنيه ويؤمله ويرجيه، وأنه إن خرج إليه أن يقيم له العذر عند الرشيد.

فامتنع يحيى أن يخرج إليهم حتى يكتب له الرشيد كتاب أمان بيده.

فكتب الفضل إلى الرشيد بذلك ففرح الرشيد ووقع منه موقعا عظيما.

وكتب الأمان بيده وأشهد عليه القضاة والفقهاء ومشيخة بني هاشم، منهم: عبد الصمد بن علي، وبعث الأمان وأرسل معه جوائز وتحفا كثيرةً إليهم، ليدفعوا ذلك جميعه إليه.

ففعلوا وسلمه إليه فدخلوا به بغداد، وتلقاه الرشيد وأكرمه وأجزل له في العطاء، وخدمه آل برمك خدمة عظيمة، بحيث أن يحيى بن خالد كان يقول: خدمته بنفسي وولدي.

وعظم الفضل عند الرشيد جدا بهذه الفعلة حيث سعى بالصلح بين العباسين والفاطميين، ففي ذلك يقول مروان بن أبي حفصة بن يحيى ويشكره على صنيعه هذا:

ظفرت فلا شلت يد برمكية * رتقت بها الفتق الذي بين هاشم

على حين أعيا الراتقين التئامه * فكفوا وقالوا ليس بالمتلائم

فأصبحت قد فازت يداك بخطة * من المجد باق ذكرها في المواسم

وما زال قدح الملك يخرج فائزا * لكم كلما ضمت قداح المساهم

قالوا: ثم إن الرشيد تنكر ليحيى بن عبد الله بن حسن وتغير عليه، ويقال: إنه سجنه ثم استحضره وعنده جماعات من الهاشمين، وأحضر الأمان الذي بعث به إليه فسأل الرشيد محمد بن الحسن عن الأمان: أصحيح هو ؟

قال: نعم !

فتغيظ الرشيد عليه.

وقال أبو البختري: ليس هذا الأمان بشيء فأحكم فيه بما شئت، ومزق الأمان.

وبصق فيه أبو البختري، وأقبل الرشيد على يحيى بن عبد الله فقال: هيه هيه، وهو يبتسم تبسم الغضب، وقال: إن الناس يزعمون أنا سممناك.

فقال يحيى: يا أمير المؤمنين ! إن لنا قرابة ورحما وحقا، فعلام تعذبني وتحبسني ؟

فرق له الرشيد، فاعترض بكار بن مصعب بن ثابت بن عبد الله بن الزبير فقال: يا أمير المؤمنين ! لا يغرنك هذا الكلام من هذا، فإنه عاص شاق، وإنما هذا منه مكر وخبث، وقد أفسد علينا مدينتنا وأظهر فيها العصيان.

فقال له يحيى: ومن أنتم عافاكم الله؟ وإنما هاجر أبوك إلى المدينة بآبائي وآباء هذا.

ثم قال يحيى: يا أمير المؤمنين ! لقد جاءني هذا حين قتل أخي محمد بن عبد الله فقال: لعن الله قاتله، وأنشدني فيه نحوا من عشرين بيتا، وقال لي: إن تحركت إلى هذا الأمر فأنا من يبايعك، وما يمنعك أن تلحق بالبصرة وأيدينا معك ؟

قال: فتغير وجه الرشيد ووجه الزبيري وأنكر وشرع يحلف بالأيمان المغلظة إنه لكاذب في ذلك، وتحير الرشيد.

ثم قال ليحيى: أتحفظ شيئا من المرثية ؟

قال: نعم. وأنشده منها جانبا.

فازداد الزبيري في الإنكار، فقال له يحيى بن عبد الله: فقل: إن كنت كاذبا فقد برئت من حول الله وقوته، ووكلني الله إلى حولي وقوتي.

فامتنع من الحلف بذلك، فعزم عليه الرشيد وتغيظ عليه، فحلف بذلك فما كان إلا أن خرج من عند الرشيد فرماه الله بالفالج فمات من ساعته.

ويقال: إن امرأته غمت وجهه بمخدة فقتله الله.

ثم إن الرشيد أطلق يحيى بن عبد الله وأطلق له مائة ألف دينار، ويقال: إنما حبسه بعض يوم، وقيل: ثلاثة أيام.

وكان جملة ما وصله من المال من الرشيد أربعمائة ألف دينار من بيت المال، وعاش بعد ذلك كله شهرا واحدا ثم مات رحمه الله.

وفيها: وقعت فتنة عظيمة بالشام بين الننزارية وهم: قيس، واليمانية وهم: يمن، وهذا كان أول بدو أمر العشيرتين بحوران، وهم: قيس ويمن، أعادوا ما كانوا عليه في الجاهلية في هذا الآن، وقتل منهم في هذه السنة بشر كثير.

وكان على نيابة الشام كلها من جهة الرشيد ابن عمه موسى بن عيسى، وقيل: عبد الصمد بن علي، فالله أعلم.

وكان على نيابة دمشق بخصوصها سندي بن سهل أحد موالي جعفر المنصور، وقد هدم سور دمشق حين ثارت الفتنة خوفا من أن يتغلب عليها أبو الهيذام المزي رأس القيسية، وقد كان مزي هذا دميم الخلق.

قال الجاحظ: وكان لا يحلف المكاري ولا الملاح ولا الحائك، ويقول: القول قولهم، ويستخير الله في الحمال ومعلم الكتاب.

وقد توفي سنة أربع ومائتين.

فلما تفاقم الأمر بعث الرشيد من جهته موسى بن يحيى بن خالد ومعه جماعة من القواد ورؤوس الكتاب، فأصلحوا بين الناس وهدأت الفتنة واستقام أمر الرعية، وحملوا جماعات من رؤوس الفتنة إلى الرشيد فرد أمرهم إلى يحيى بن خالد فعفا عنهم وأطلقهم، وفي ذلك يقول بعض الشعراء:

قد هاجت الشام هيجا * يشيب رأس وليده

فصب موسى عليها * بخيله وجنوده

فدانت الشام لما * أتى بسنح وحيده

هذا الجواد الذي بـ * ـذِ كل جود بجوده

أعده جود أبيه * يحيى وجود جدوده

فجاد موسى بن يحيى * بطارف وتليده

ونال موسى ذرى المجـ * ـد وهو حشو مهوده

خصصته بمديحي * منثوره وقصيده

من البرامك عودا * له فأكرم بعوده

حووا على الشعر طرا * خفيفه ومديده

وفيها: عزل الرشيد الغطريف بن عطاء عن خراسان وولاها حمزة بن مالك بن الهيثم الخزاعي الملقب: بالعروس.

وفيها: ولى الرشيد جعفر بن يحيى بن خالد نيابة مصر، فاستناب عليها جعفر عمر بن مهران، وكان رديء الخلق رديء الشكل زمن الكف أحول، وكان سبب ولايته إياها أن نائبها موسى بن عيسى كان قد عزم على خلع الرشيد، فقال الرشيد: والله لأعزلنه ولأولين عليها أحسن الناس.

فاستدعى عمر بن مهران هذا فولاه عليها عن نائبه جعفر بن يحيى البرمكي.

فسار إليها على بغل وغلامه أبو درة على بغل آخر، فدخلها كذلك فانتهى إلى مجلس نائبها موسى بن عيسى فجلس في أخريات الناس، فلما انفض الناس أقبل عليه موسى بن عيسى وهو لا يعرف من هو، فقال: ألك حاجة يا شيخ ؟

قال: نعم ! أصلح الله الأمير.

ثم دفع الكتب إليه فلما قرأها قال: أنت عمر بن مهران ؟

قال: نعم !

قال: لعن الله فرعون حين قال: { أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ } [الزخرف: 51] .

ثم سلم إليه العمل وارتحل منها، وأقبل عمر بن مهران على عمله، وكان لا يقبل شيئا من الهدايا إلا ما كان ذهبا أو فضة أو قماشا، ثم يكتب على كل هدية اسم مهديها، ثم يطالب بالخراج ويلح في طلبه عليهم، وكان بعضهم يماطله به، فأقسم لا يماطله أحد إلا فعل به وفعل.

فجمع من ذلك شيئا كثيرا، وكان يبعث ما جمعه إلى بغداد، ومن ماطله بعثه إلى بغداد، فتأدب الناس معه.

ثم جاءهم القسط الثاني فعجز كثير منهم عن الأداء فجعل يستحضر ما كانوا أدوه إليه من الهدايا، فإن كان نقدا أداه عنهم، وإن كان برا باعه وأداه عنهم.

وقال لهم: إني إنما ادخرت هذا لكم إلى وقت حاجتكم.

ثم أكمل استخراج جميع الخراج بديار مصر ولم يفعل ذلك أحد من قبله، ثم انصرف عنها لأنه كان قد شرط على الرشيد أنه إذا مهد البلاد وجبى الخراج، فذاك إذنه في الانصراف.

ولم يكن معه بالديار المصرية جيش ولا غيره سوى مولاه أبو درة وحاجبه، وهو منفذ أموره.

وفيها: غزا الصائفة عبد الرحمن بن عبد الملك ففتح حصنا.

وفيها: حجت زبيدة زوجة الرشيد ومعها أخوها، وكان أمير الحج سليمان بن أبي جعفر المنصور عم الرشيد.

وفيها توفي:

إبراهيم بن صالح

ابن علي بن عبد الله بن عباس، كان أميرا على مصر، توفي في شعبان.

وإبراهيم بن هرمة

كان شاعرا، وهو: إبراهيم بن علي بن سلمة بن عامر بن هرمة، أبو إسحاق الفهري المدني، وفد على المنصور في وفد أهل المدينة حين استوفدهم عليه، فجلسوا إلى سترٍ دون المنصور، يرى الناس من ورائه ولا يرونه، وأبو الخصيب الحاجب واقف يقول: يا أمير المؤمنين ! هذا فلان الخطيب، فيأمره فيخطب، ويقول: هذا فلان الشاعر فيأمره فينشد.

حتى كان من آخرهم ابن هرمة هذا، فسمعته يقول: لا مرحبا ولا أهلا ولا أنعم الله بك عينا.

قال: فقلت: هلكت.

ثم استنشدني فأنشدته قصيدتي التي أقول فيها:

سرى ثوبه عند الصبا المتجابل * وقرب للبين الخليط المزايل

حتى انتهيت إلى قولي:

فأما الذي أمنته يأمن الردى * وأما الذي حاولت بالثكل ثاكل

قال: فأمر برفع الحجاب فإذا وجهه كأنه فلقة قمر، فاستنشدني بقية القصيدة وأمر لي بالقرب بين يديه، والجلوس إليه، ثم قال: ويحك يا إبراهيم ! لولا ذنوب بلغتني عنك لفضلتك على أصحابك.

فقلت: يا أمير المؤمنين ! كل ذنب بلغك عني لم تعف عنه فأنا مقر به.

قال: فتناول المخصرة فضربني بها ضربتين وأمر لي بعشرة آلاف وخلعة وعفا عني وألحقني بنظرائي.

وكان من جملة ما نقم المنصور عليه قوله:

ومهما ألام على حبهم * فإني أحب بني فاطمة

بني بنت من جاء بالمحكما * ت وبالدين وبالسنة القائمة

فلست أبالي بحبي لهم * سواهم من النعم السائمة

قال الأخفش: قال لنا ثعلب: قال الأصمعي: ختمت الشعراء بابن هرمة.

ذكر وفاته في هذه السنة أبو الفرج بن الجوزي.

وفيها: توفي الجراح بن مليح والد وكيع بن الجراح، وسعيد بن عبد الرحمن بن عبد الله بن جميل أبو عبد الله المديني، ولي قضاء بغداد سبعة عشر سنة لعسكر المهدي، وثقه ابن معين وغيره.

وفيها توفي:

صالح بن بشير المري

أحد العباد والزهاد، كان كثير البكاء، وكان يعظ فيحضر مجلسه سفيان الثوري وغيره من العلماء.

ويقول سفيان: هذا نذير قوم.

وقد استدعاه المهدي ليحضر عنده فجاء إليه راكبا على حمار فدناه من بساط الخليفة وهو راكب فأمر الخليفة ابنيه - وليي العهد من بعده موسى الهادي وهارون الرشيد - أن يقوما إليه لينزلاه عن دابته، فابتدراه فأنزلاه، فأقبل صالح على نفسه فقال: لقد خبت وخسرت إن أنا داهنت ولم أصدع بالحق في هذا اليوم، وفي هذا المقام.

ثم جلس إلى المهدي فوعظه موعظة بليغة حتى أبكاه، ثم قال له: اعلم أن رسول الله خصم من خالفه في أمته، ومن كان محمد خصمه كان الله خصمه، فأعد لمخاصمة الله ومخاصمة رسوله حججا تضمن لك النجاة، وإلا فاستسلم للهلكة، واعلم أن أبطأ الصرعى نهضة صريع هوى بدعته، واعلم أن الله قاهر فوق عباده، وأن أثبت الناس قدما آخذهم بكتاب الله وسنة رسوله، وكلام طويل.

فبكى المهدي وأمر بكتابة ذلك الكلام في دواوينه.

وفيها: توفي عبد الملك بن محمد بن محمد بن أبي بكر، عمرو بن حزم قدم قاضيا بالعراق

وفرج بن فضالة التنوخي الحمصي، كان على بيت المال ببغداد في خلافة الرشيد، فتوفي في هذه السنة، وكان مولده سنة ثمان وثمانين فمات وله ثمان وثمانون سنة.

ومن مناقبه أن المنصور دخل يوما إلى قصر الذهب فقام الناس إلا فرج بن فضالة فقال له وقد غضب عليه: لم لم تقم ؟

قال: خفت أن يسألني الله عن ذلك ويسألك لم رضيت بذلك، وقد كره رسول الله القيام للناس.

قال: فبكى المنصور وقربه وقضى حوائجه.

والمسيب بن زهير بن عمرو، أبو سلمة الضبي، كان والي الشرطة ببغداد في أيام المنصور والمهدي والرشيد، وولي خراسان مرة للمهدي.

عاش ستا وتسعين سنة.

والوضاح بن عبد الله، أبو عوانة السري مولاهم، كان من أئمة المشايخ في الرواية.

توفي في هذه السنة وقد جاوز الثمانين.

ثم دخلت سنة سبع وسبعين ومائة

فيها: عزل الرشيد جعفر البرمكي عن مصر وولى عليها إسحاق بن سليمان، وعزل حمزة بن مالك عن خراسان وولى عليها الفضل بن يحيى البرمكي مضافا إلى ما كان بيده من الأعمال بالري وسجستان وغير ذلك.

وذكر الواقدي: أنه أصاب الناس ريح شديدة وظلمة في أواخر المحرم من هذه السنة، وكذلك في أواخر صفر منها.

وفيها حج بالناس: الرشيد.

وفيها توفي:

شريك بن عبد الله

القاضي الكوفي النخعي، سمع أبا إسحاق وغير واحد، وكان مشكورا في حكمه وتنفيذ الأحكام، وكان لا يجلس للحكم حتى يتغدى ثم يخرج ورقة من خفه فينظر فيها ثم يأمر بتقديم الخصومة إليه، فحرص بعض أصحابه على قراءة ما في تلك الورقة فإذا فيها: يا شريك بن عبد الله ! اذكر الصراط وحدته، يا شريك بن عبد الله ! اذكر الموقف بين يدي الله عز وجل.

كانت وفاته يوم السبت مستهل ذي القعدة منها.

وفيها توفي: عبد الواحد بن زيد، ومحمد بن مسلم وموسى بن أعين.

ثم دخلت سنة ثمان وسبعين ومائة

فيها: وثبت طائفة من الحوفية من قيس وقضاعة على عامل مصر إسحاق بن سليمان فقاتلوه وجرت فتنة عظيمة فبعث الرشيد هرثمة بن أعين نائب فلسطين في خلق من الأمراء مددا لإسحاق، فقاتلوهم حتى أذعنوا بالطاعة وأدّوا ما عليهم من الخراج والوظائف، واستمر هرثمة نائبا على مصر نحوا من شهر عوضا عن إسحاق بن سليمان، ثم عزله الرشيد عنها وولى عليها عبد الملك بن صالح.

وفيها: وثبت طائفة من أهل إفريقية فقتلوا الفضل بن روح بن حاتم وأخرجوا من كان بها من آل المهلب، فبعث إليهم الرشيد هرثمة فرجعوا إلى الطاعة على يديه.

وفيها: فوض الرشيد أمور الخلافة كلها إلى يحيى بن خالد بن برمك.

وفيها: خرج الوليد بن طريف بالجزيرة وحكم بها وقتل خلقا من أهلها، ثم مضى منها إلى أرمينية فكان من أمره ما سنذكره.

وفيها: سار الفضل بن يحيى إلى خراسان فأحسن السيرة فيها وبنى فيها الربط والمساجد، وغزا ما وراء النهر، واتخذ بها جندا من العجم سماهم العباسية، وجعل ولاءهم له، وكانوا نحوا من خمسمائة ألف، وبعث منهم نحوا من عشرين ألفا إلى بغداد، فكانوا يعرفونه بها بالكرمينية، وفي ذلك يقول مروان بن أبي حفصة:

ما الفضل إلا شهاب لا أفول له * عند الحروب إذا ما تأفل الشهب

حام على ملك قوم غرٌّ سهمهم * من الوراثة في أيديهم سبب

أمست يد لبني ساق الحجيج بها * كتائب ما لها في غيرهم أرب

كتائب لبني العباس قد عرفت * ما ألّف الفضل منها العجم والعرب

أثبت خمس مئين في عدادهم * من الألوف التي أحصت لها الكتب

يقارعون عن القوم الذين هم * أولى بأحمد في الفرقان إن نسبوا

إن الجواد بن يحيى الفضل لا ورق * يبقى على جود كفيه ولا ذهب

ما مر يوم له مذ شد مئزره * إلا تمول أقوام بما يهب

كم غاية في الندى والبأس أحرزها * للطالبين مداها دونها تعب

يعطي النهى حين لا يعطي الجواد ولا * ينبو إذا سلت الهندية القضب

ولا الرضى والرضى لله غايته * إلى سوى الحق يدعوه ولا الغضب

وقد فاض عرفك حتى ما يعادله * غيث ولا بحر له حدب

وكان قد أنشده قبل خروجه إلى خراسان:

ألم تر أن الجود من يد آدم * تحدر حتى صار في راحة الفضل

إذا ما أبو العباس سحت سماؤه * فيا لك من هطل ويا لك من وبل

وقال فيه أيضا:

إذا أم طفل راعها جوع طفلها * دعته باسم الفضل فاعتصم الطفل

ليحيى بك الإسلام إنك عزه * وإنك من قوم صغيرهم كهل

قال: فأمر له بمائة ألف درهم. ذكره ابن جرير.

وقال سلم الخاسر فيهم أيضا:

وكيف تخاف من بؤس بدار * يجاورها البرامكة البحور

وقوم منهم الفضل بن يحيى * نفير ما يوازنه نفير

له يومان يوم ندى وبأس * كأن الدهر بينهما أسير

إذا ما البرمكي غدا ابن عشر * فهمته أمير أو وزير

وقد اتفق للفضل في هذه السفرة إلى خرسان أشياء غريبة، وفتح بلادا كثيرةً، منها: كابل، وما وراء النهر، وقهر ملك الترك وكان ممتنعا، وأطلق أموالا جزيلةً جدا، ثم أقفل راجعا إلى بغداد، فلما اقترب منها خرج الرشيد ووجوه الناس إليه، وقدم عليه الشعراء والخطباء وأكابر الناس، فجعل يطلق الألف ألف، والخمسمائة ألف ونحوها، وأنفذ في ذلك من الأحوال شيئا كثيرا لا يمكن حصره إلا بتعب وكلفة، وقد دخل عليه بعض الشعراء والبدر موضوعة بين يديه وهي تفرق على الناس فقال:

كفى الله بالفضل بن يحيى بن خالد * وجود يديه بخل كل بخيل

فأمر له بمال جزيل.

وغزا الصائفة في هذه السنة: معاوية بن زفير بن عاصم.

وغزا الشاتية: سليمان بن راشد.

وحج بالناس فيها: محمد بن إبراهيم بن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس نائب مكة.

وفيها توفي: جعفر بن سليمان، وعنتر بن القاسم، وعبد الملك بن محمد بن أبي بكر بن عمرو بن حزم، القاضي ببغداد، وصلى عليه الرشيد ودفن بها، وقد قيل: إنه مات في التي قبلها، فالله أعلم.

ثم دخلت سنة تسع وسبعين ومائة

فيها: كان قدوم الفضل بن يحيى من خراسان وقد استخلف عليها عمر بن جميل، فولى الرشيد عليها منصور بن يزيد بن منصور الحميري.

وفيها: عزل الرشيد خالد بن برمك عن الحجوبة وردها إلى الفضل بن ربيع.

وفيها: خرج بخراسان حمزة بن أترك السجستاني، وكان من أمره ما سيأتي طرف منه.

وفيها: رجع الوليد بن طريف الشاري إلى الجزيرة واشتدت شوكته وكثر أتباعه، فبعث إليه الرشيد يزيد بن مزيد الشيباني فراوغه حتى قتله وتفرق أصحابه، فقالت الفارعة في أخيها الوليد بن طريف ترثيه:

أيا شجر الخابور مالك مورقا * كأنك لم تجزع على ابن طريف

فتى لا يحبُّ الزاد إلا من التقى * ولا المال إلا من قنا وسيوف

وفيها: خرج الرشيد معتمرا من بغداد شكرا لله عز وجل، فلما قضى عمرته أقام بالمدينة حتى حج بالناس في هذه السنة، فمشى من مكة إلى منى ثم إلى عرفات، وشهد المشاهد والمشاعر كلها ماشيا، ثم انصرف إلى بغداد على طريق البصرة.

وفيها توفي:

إسماعيل بن محمد

ابن يزيد بن ربيعة، أبو هاشم الحميري، الملقب: بالسيد، كان من الشعراء المشهورين المبرزين فيه، ولكنه كان رافضيا خبيثا، وشيعيا غثيثا، وكان ممن يشرب الخمر ويقول بالرجعة - أي: بالدور -.

قال يوما لرجل: أقرضني دينارا ولك عندي مائة دينار إذا رجعنا إلى الدنيا.

فقال له الرجل: إني أخشى أن تعود كلبا أو خنزيرا فيذهب ديناري.

وكان قبحه الله يسب الصحابة في شعره.

قال الأصمعي: ولولا ذلك ما قدمت عليه أحدا في طبقته، ولا سيما الشيخين وابنيهما.

وقد أورد ابن الجوزي شيئا من شعره في ذلك كرهت أن أذكره لبشاعته وشناعته، وقد أسود وجهه عند الموت وأصابه كرب شديد جدا.

ولما مات لم يدفنوه لسبه الصحابة رضي الله عنهم.

وفيها توفي:

حماد بن زيد، أحد أئمة الحديث.

وخالد بن عبد الله، أحد الصلحاء، كان من سادات المسلمين، اشترى نفسه من الله أربع مرات.

ومالك بن أنس الإمام، والهقل بن زياد، صاحب الأوزاعي، وأبو الأحوص.

وكلهم قد ذكرناهم في التكميل.

والإمام مالك

هو أشهرهم وهو أحد الأئمة الأربعة أصحاب المذاهب المتبعة، فهو: مالك بن أنس بن مالك بن عامر بن أبي عامر بن عمرو بن الحارث بن غيلان بن حشد بن عمرو بن الحارث، وهو ذو أصبح الحميري، أبو عبد الله المدني إمام دار الهجرة في زمانه.

روى مالك عن: غير واحد من التابعين، وحدث عنه خلق من الأئمة، منهم: السفيانان، وشعبة، وابن المبارك، والأوزاعي، وابن مهدي، وابن جريج، والليث، والشافعي، والزهري شيخه، ويحيى بن سعيد الأنصاري وهو شيخه، ويحيى بن سعيد القطان، ويحيى بن يحيى الأندلسي، ويحيى بن يحيى النيسابوري.

قال البخاري: أصح الأسانيد مالك، عن نافع، عن ابن عمر.

وقال سفيان بن عيينة: ما كان أشد انتقاده للرجال.

وقال يحيى بن معين: كل من روى عن مالك فهو ثقة، إلا أبا أمية.

وقال غير واحد: هو أثبت أصحاب نافع والزهري.

وقال الشافعي: إذا جاء الحديث فمالك النجم.

وقال: من أراد الحديث فهو عيال على مالك.

ومناقبه كثيرة جدا، وثناء الأئمة عليه أكثر من أن يحصر في هذا المكان.

قال أبو مصعب: سمعت مالكا، يقول: ما أفتيت حتى شهد لي سبعون أني أهل لذلك.

وكان إذا أراد أن يحدث تنظف وتطيب وسرح لحيته ولبس أحسن ثيابه، وكان يلبس حسنا.

وكان نقش خاتمه: حسبي الله ونعم الوكيل، وكان إذا دخل منزله قال: ما شاء الله ولا قوة إلا بالله.

وكان منزله مبسوطا بأنواع المفارش.

ومن وقت خروج محمد بن عبد الله بن حسن لزم مالك بيته فلم يكن يأتي أحدا لا لعزاء ولا لهناء، ولا يخرج لجمعة ولا لجماعة، ويقول: ما كل ما يعلم يقال، وليس كل أحد يقدر على الاعتذار.

ولما احتضر قال: أشهد أن لا إله إلا الله، ثم جعل يقول: لله الأمر من قبل ومن بعد، ثم قبض في ليلة أربعة عشر من صفر.

وقيل: من ربيع الأول من هذه السنة، وله خمس وثمانون سنة.

قال الواقدي: بلغ سبعين سنة ودفن بالبقيع.

وقد روى الترمذي، عن سفيان بن عيينة، عن ابن جريج، عن أبي الزبير، عن أبي صالح، عن أبي هريرة: «يوشك أن يضرب الناس أكباد الإبل يطلبون العلم فلا يجدون أحدا أعلم من عالم المدينة».

ثم قال: هذا حديث حسن.

وقد روي عن ابن عيينة، أنه قال: هو مالك بن أنس. وكذا قال عبد الرزاق.

وعن ابن عيينة رواية: أنه عبد العزيز بن عبد الله العمري.

وقد ترجمه ابن خلكان في الوفيات فأطنب وأتى بفوائد جمة.

ثم دخلت سنة ثمانين ومائة

فيها: هاجت الفتنة بالشام بن النزارية واليمنية، فانزعج الرشيد لذلك فندب جعفر البرمكي إلى الشام في جماعة من الأمراء والجنود، فدخل الشام فانقاد الناس له ولم يدع جعفر بالشام فرسا ولا سيفا ولا رمحا إلا استلبه من الناس، وأطفأ الله به نار تلك الفتنة.

وفي ذلك يقول بعض الشعراء:

لقد أوقدت بالشام نيران فتنة * فهذا أوان الشام تخمد نارها

إذا جاش موج البحر من آل برمك * عليها خبت شهبانها وشرارها

رماها أمير المؤمنين بجعفر * وفيه تلافى صدعها وانكسارها

رماها بميمون النقيبة ماجد * تراضى به قحطانها ونزارها

ثم كرَّ جعفر راجعا إلى بغداد بعد ما استخلف على الشام عيسى العكي، ولما قدم على الرشيد أكرمه وقربه وأدناه، وشرع جعفر يذكر كثرة وحشته له في الشام، ويحمد الله الذي منَّ عليه برجوعه إلى أمير المؤمنين ورؤيته وجهه.

وفيها: ولى الرشيد جعفرا خراسان وسجستان فاستعمل على ذلك محمد بن الحسن بن قحطبة، ثم عزل الرشيد جعفرا عن خراسان بعد عشرين ليلة.

وفيها: هدم الرشيد سور الموصل بسبب كثرة الخوارج، وجعل الرشيد جعفرا على الحرس، ونزل الرشيد الرقة واستوطنها واستناب على بغداد ابنه الأمين محمدا وولاه العراقين، وعزل هرثمة عن إفريقية واستدعاه إلى بغداد فاستنابه جعفر على الحرس.

وفيها: كانت بمصر زلزلة شديدة سقط منها رأس منارة الإسكندرية.

وفيها: خرج بالجزيرة خراشة الشيباني فقتله مسلم بن بكار بن مسلم العقيلي.

وفيها: ظهرت طائفة بجرجان يقال لها: المحمرة لبسوا الحمرة واتبعوا رجلا، يقال له: عمرو بن محمد العمركي، وكان ينسب إلى الزندقة، فبعث الرشيد يأمر بقتله فقتل وأطفأ الله نارهم في ذلك الوقت.

وفيها: غزا الصائفة زفر بن عاصم.

وحج بالناس موسى بن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس.

وفيها: كانت وفاة جماعة من الأعيان:

إسماعيل بن جعفر بن أبي كثير الأنصاري

قارئ أهل المدينة، ومؤدب علي بن المهدي ببغداد.

وقد مات:

علي بن المهدي، في هذه السنة أيضا، وقد ولي إمارة الحج غير مرة، وكان أسن من الرشيد بشهور.

حسان بن أبي سنان

ابن أبي أوفى بن عوف التنوخي الأنباري، ولد سنة ستين، ورأى أنس بن مالك ودعا له فجاء من نسله قضاة ووزراء وصلحاء، وأدرك الدولتين الأموية والعباسية.

وكان نصرانيا فأسلم وحسن إسلامه، وكان يكتب بالعربية والفارسية والسريانية، وكان يعرِّب الكتب بين يدي ربيعة لما ولاه السفاح الأنبار.

وفيها توفي:

عبد الوارث بن سعيد البيروتي

أحد الثقات.

وعافية بن يزيد

ابن قيس القاضي للمهدي على جانب بغداد الشرقي، هو: ابن علاثة، وكانا يحكمان بجامع الرصافة.

وكان عافية عابدا زاهدا ورعا، دخل يوما على المهدي في وقت الظهيرة فقال: يا أمير المؤمنين اعفني.

فقال له المهدي: ولم أعفيك؟ هل اعترض عليك أحد من الأمراء ؟

فقال له: لا ! ولكن كان بين اثنين خصومة عندي فعمد أحدهما إلى رطب السكر - وكأنه سمع أني أحبه - فأهدى إلي منه طبقا لا يصلح إلا لأمير المؤمنين، فرددته عليه، فلما أصبحنا وجلسنا إلى الحكومة، لم يستويا عندي في قلبي ولا نظري، بل مال قلبي إلى المهدي منهما، هذا مع أني لم أقبل منه ما أهداه فكيف لو قبلت منه؟ فأعفني عفا الله عنك فأعفاه.

وقال الأصمعي: كنت عند الرشيد يوما وعنده عافية وقد أحضره لأن قوما استعدوا عليه إلى الرشيد، فجعل الرشيد يوقفه على ما قيل عنه وهو يجيب عما يسأله.

وطال المجلس فعطس الخليفة فشمته الناس ولم يشمته عافية، فقال له الرشيد: لم لم تشمتني مع الناس ؟

فقال: لأنك لم تحمد الله، واحتج بالحديث في ذلك.

فقال له الرشيد: ارجع لعملك فوالله ما كنت لتفعل ما قيل عنك، وأنت لم تسامحني في عطسة لم أحمد الله فيها.

ثم رده ردا جميلا إلى ولايته.

وفيها توفي:

سيبويه

إمام النحاة، واسمه: عمرو بن عثمان بن قنبر، أبو بشر، المعروف: بسيبويه، مولى بني الحارث بن كعب.

وقيل: مولى آل الربيع بن زياد.

وإنما سمي سيبويه لأن أمه كانت ترقصه وتقول له ذلك، ومعنى سيبويه: رائحة التفاح، وقد كان في ابتداء أمره يصحب أهل الحديث والفقهاء، وكان يستملي على حماد بن سلمة، فلحن يوما فرد عليه قوله فأنف من ذلك، فلزم الخليل بن أحمد فبرع في النحو، ودخل بغداد وناظر الكسائي.

وكان سيبويه شابا حسنا جميلا نظيفا، وقد تعلق من كل علم بسبب، وضرب مع كل أهل أدب بسهم مع حداثة سنه.

وقد صنف في النحو كتابا لا يلحق شأوه، وشرحه أئمة النحاة بعده فانغمروا في لجج بحره، واستخرجوا من درره، ولم يبلغوا إلى قعره.

وقد زعم ثعلب أنه لم ينفرد بتصنيفه، بل ساعده جماعة في تصنيفه نحوا من أربعين نفسا هو أحدهم، وهو أصول الخليل، فادعاه سيبويه إلى نفسه.

وقد استبعد ذلك السيرافي في كتاب طبقات النحاة.

قال: وقد أخذ سيبويه اللغات عن أبي الخطاب، والأخفش، وغيرهما.

وكان سيبويه يقول: سعيد بن أبي العروبة، والعروبة يوم الجمعة.

وكان يقول: من قال عروبة فقد أخطأ.

فذكر ذلك ليونس فقال: أصاب لله دره.

وقد ارتحل إلى خراسان ليحظى عند طلحة بن طاهر فإنه كان يحب النحو فمرض هناك مرضه الذي توفي فيه فتمثل عند الموت:

يؤمل دنيا لتبقى له * فمات المؤمل قبل الأمل

يربي فسيلا ليبقى له * فعاش الفسيل ومات الرجل

ويقال: إنه لما احتضر وضع رأسه في حجر أخيه فدمعت عين أخيه فاستفاق فرآه يبكي فقال:

وكنا جميعا فرَّق الدهر بيننا * إلى الأمد الأقصى فمن يأمن الدهرا

قال الخطيب البغدادي: يقال: إنه توفي وعمره ثنتان وثلاثون سنة.

وفيها توفيت:

عفيرة العابدة

كانت طويلة الحزن كثيرة البكاء.

قدم قريب لها من سفر فجعلت تبكي، فقيل لها في ذلك فقالت: لقد ذكرني قدوم هذا الفتى يوم القدوم على الله، فمسرور ومثبور.

وفيها مات:

مسلم بن خالد الزنجي

شيخ الشافعي، كان من أهل مكة، ولقد تكلموا فيه لسوء حفظه.

ثم دخلت سنة إحدى وثمانين ومائة

فيها: غزا الرشيد بلاد الروم فافتتح حصنا يقال له: الصفصاف، فقال في ذلك مروان بن أبي حفصة:

إن أمير المؤمنين المنصفا * قد ترك الصفصاف قاعا صفصفا

وفيها: غزا عبد الملك بن صالح بلاد الروم فبلغ أنقرة وافتتح مطمورة.

وفيها: تغلبت المحمرة على جرجان.

وفيها: أمر الرشيد أن يكتب في صدور الرسائل الصلاة على رسول الله بعد الثناء على الله عز وجل.

وفيها: حج بالناس الرشيد وتعجل بالنفر، وسأله يحيى بن خالد أن يعفيه من الولاية فأعفاه وأقام يحيى بمكة.

وفيها توفي:

الحسن بن قحطبة

أحد أكابر الأمراء.

وحمزة بن مالك، ولي إمرة خراسان في أيام الرشيد.

وخلف بن خليفة، شيخ الحسن بن عرفة، عن مائة سنة.

وعبد الله بن المبارك

أبو عبد الرحمن المروزي، كان أبوه تركيا مولى لرجل من التجار من بني حنظلة من أهل همذان، وكان ابن المبارك إذا قدمها أحسن إلى ولد مولاهم، وكانت أمه خوارزمية.

ولد لثمان عشرة ومائة.

وسمع: إسماعيل بن خالد، والأعمش، وهشام بن عروة، وحميد الطويل، وغيرهم من أئمة التابعين.

وحدث عنه خلائق من الناس.

وكان موصوفا بالحفظ والفقه والعربية والزهد والكرم والشجاعة والشعر، له التصانيف الحسان، والشعر الحسن المتضمن حكما جمة، وكان كثير الغزو والحج، وكان له رأس مال نحو أربعمائة ألف يدور يتجر به في البلدان، فحيث اجتمع بعالم أحسن إليه، وكان يربو كسبه في كل سنة على مائة ألف ينفقها كلها في أهل العبادة والزهد والعلم، وربما أنفق من رأس ماله.

قال سفيان بن عيينة: نظرت في أمره وأمر الصحابة فما رأيتهم يفضلون عليه إلا في صحبتهم رسول الله .

وقال إسماعيل بن عياش: ما على وجه الأرض مثله، وما أعلم خصلة من الخير إلا وقد جعلها الله في ابن المبارك، ولقد حدثني أصحابي أنهم صحبوه من مصر إلى مكة فكان يطعمهم الخبيص وهو الدهر صائم.

وقدم مرة الرقة وبها هارون الرشيد، فلما دخلها احتفل الناس به وازدحم الناس حوله، فأشرفت أم ولد للرشيد من قصر هناك فقالت: ما للناس ؟

فقيل لها: قدم رجل من علماء خراسان يقال له: عبد الله بن المبارك فانجفل الناس إليه.

فقالت المرأة: هذا هو الملك، لا ملك هارون الرشيد الذي يجمع الناس عليه بالسوط والعصا والرغبة والرهبة.

وخرج مرة إلى الحج فاجتاز ببعض البلاد فمات طائر معهم فأمر بإلقائه على مزبلة هناك، وسار أصحابه أمامه وتخلف هو وراءهم، فلما مر بالمزبلة إذا جارية قد خرجت من دار قريبة منها فأخذت ذلك الطائر الميت ثم لفته ثم أسرعت به إلى الدار، فجاء فسألها عن أمرها وأخذها الميتة، فقالت: أنا وأخي هنا ليس لنا شيء إلا هذا الإزار، وليس لنا قوت إلا ما يلقى على هذه المزبلة، وقد حلت لنا الميتة منذ أيام، وكان أبونا له مال فظلم وأخذ ماله وقتل.

فأمر ابن المبارك برد الأحمال وقال لوكيله: كم معك من النفقة ؟

قال: ألف دينار.

فقال: عدَّ منها عشرين دينارا تكفينا إلى مرو وأعطها الباقي، فهذا أفضل من حجنا في هذا العام، ثم رجع.

وكان إذا عزم على الحج يقول لأصحابه: من عزم منكم في هذا العام على الحج فليأتني بنفقته حتى أكون أنا أنفق عليه، فكان يأخذ منهم نفقاتهم ويكتب على كل صرة اسم صاحبها ويجمها في صندوق.

ثم يخرج بهم في أوسع ما يكون من النفقات والركوب، وحسن الخلق والتيسير عليهم، فإذا قضوا حجتهم فيقول لهم: هل أوصاكم أهلوكم بهدية ؟

فيشتري لكل واحد منهم ما وصاه أهله من الهدايا المكية واليمنية وغيرها، فاذا جاؤوا إلى المدينة اشترى لهم منها الهدايا المدنية.

فإذا رجعوا إلى بلادهم بعث من أثناء الطريق إلى بيوتهم فأصلحت وبيضت أبوابها ورمم شعثها، فإذا وصلوا إلى البلد عمل وليمة بعد قدومهم ودعاهم فأكلوا وكساهم، ثم دعا بذلك الصندوق ففتحه وأخرج منه تلك الصرر ثم يقسم عليهم أن يأخذ كل واحد نفقته التي عليها اسمه، فيأخذونها وينصرفون إلى منازلهم وهم شاكرون ناشرون لواء الثناء الجميل.

وكانت سفرته تحمل على بعير وحدها، وفيها من أنواع المأكول من اللحم والدجاج والحلوى وغير ذلك، ثم يطعم الناس وهو الدهر صائم في الحر الشديد.

وسأله مرة سائل فأعطاه درهما، فقال له بعض أصحابه: إن هؤلاء يأكلون الشواء والفالودج، وقد كان يكفيه قطعة.

فقال: والله ما ظننت أنه يأكل إلا البقل والخبز، فأما إذا كان يأكل الفالوذج والشواء فإنه لا يكفيه درهم.

ثم أمر بعض غلمانه فقال: رده وادفع إليه عشرة دراهم.

وفضائله ومناقبه كثيرة جدا.

قال أبو عمر بن عبد البر: أجمع العلماء على قبوله وجلالته وإمامته وعدله.

توفي عبد الله بن المبارك بهيت في هذه السنة في رمضانها عن ثلاث وستين سنة.

ومفضل بن فضالة

ولي قضاء مصر مرتين، وكان ديِّنا ثقةً، فسأل الله أن يذهب عنه الأمل فأذهبه، فكان بعد ذلك لا يهنئه العيش ولا شيء من الدنيا، فسأل الله أن يرده عليه فرده فرجع إلى حاله.

ويعقوب التائب

العابد الكوفي.

قال علي بن الموفق: عن منصور بن عمار: خرجت ذات ليلة وأنا أظن أني قد أصبحت، فإذا عليِّ ليل، فجلست إلى باب صغير وإذا شاب يبكي وهو يقول: وعزتك وجلالك ما أردت بمعصيتك مخالفتك ولكن سولت لي نفسي، وغلبتني شقوتي، وغرني سترك المرخي عليَّ، فالآن من عذابك من يستنقذني؟ وبحبل من اتصل إن أنت قطعت حبلك عني ؟

واسوأتاه على ما مضى من أيامي في معصية ربي، يا ويلي كم أتوب وكم أعود، قد حان لي أن أستحي من ربي عز وجل.

قال منصور: فقلت: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ } [التحريم: 6] .

قال: فسمعت صوتا واضطرابا شديدا فذهبت لحاجتي، فلما رجعت مررت بذلك الباب فإذا جنازة موضوعة، فسألت عنه فإذا ذاك الفتى قد مات من هذه الآية.

ثم دخلت سنة ثنتين وثمانين ومائة

فيها: أخذ الرشيد لولده عبد الله المأمون ولاية العهد من بعد أخيه محمد الأمين بن زبيدة، وذلك بالرقة بعد مرجعه من الحج، وضم ابنه المأمون إلى جعفر بن يحيى البرمكي وبعثه إلى بغداد ومعه جماعة من أهل الرشيد خدمة له، وولاه خراسان وما يتصل بها، وسماه: المأمون.

وفيها: رجع يحيى بن خالد البرمكي من مجاورته بمكة إلى بغداد.

وفيها: غزا الصائفة عبد الرحمن بن عبد الملك بن صالح فبلغ مدينة أصحاب الكهف.

وفيها: سملت الروم عيني ملكهم قسطنطين بن اليون وملكوا عليهم أمه ريني وتقلب أغسطه.

وحج بالناس موسى بن عيسى بن العباس.

وفيها توفي من الأعيان:

إسماعيل بن عياش الحمصي، أحد المشاهير من أئمة الشاميين، وفيه كلام.

ومروان بن أبي حفصة، الشاعر المشهور المشكور، كان يمدح الخلفاء والبرامكة.

ومعن بن زائدة

حصل من الأموال شيئا كثيرا جدا، وكان مع ذلك من أبخل الناس، لا يكاد يأكل اللحم من بخله، ولا يشعل في بيته سراجا، ولا يلبس من الثياب إلا الكرباسي والفرو الغليظ، وكان رفيقه سلم الخاسر إذا ركب إلى دار الخلافة يأتي على بردون وعليه حلَّة تساوي ألف دينار، والطيب ينفح من ثيابه، ويأتي هو في شر حالة وأسوئها.

وخرج يوما إلى المهدي فقالت امرأة من أهله: إن أطلق لك الخليفة شيئا فاجعل لي منه شيئا.

فقال: إن أعطاني مائة ألف درهم فلك درهم.

فأعطاه ستين ألفا فأعطاها أربعة دوانيق.

توفي ببغداد في هذه السنة، ودفن في مقبرة نصر بن مالك.

القاضي أبو يوسف

واسمه يعقوب بن إبراهيم بن حبيب بن سعد بن حسنة، وهي أمه، وأبوه بجير بن معاوية، استصغر يوم أحد، وأبو يوسف كان أكبر أصحاب أبي حنيفة.

روى الحديث عن: الأعمش، وهمام بن عروة، ومحمد بن إسحاق، ويحيى بن سعيد، وغيرهم.

وعنه: محمد بن الحسن، وأحمد بن حنبل، ويحيى بن معين.

قال علي بن الجعد: سمعته يقول: توفي أبي وأنا صغير فأسلمتني أمي إلى قصار، فكنت أمرُّ على حلقة أبي حنيفة فأجلس فيها، فكانت أمي تتبعني فتأخذ بيدي من الحلقة وتذهب بي إلى القصار، ثم كنت أخالفها في ذلك وأذهب إلى أبي حنيفة، فلما طال ذلك عليها قالت لأبي حنيفة: إن هذا صبي يتيم ليس له شيء إلا ما أطعمه من مغزلي، وإنك قد أفسدته علي.

فقال لها: اسكتي يا رعناء، هاهوذا يتعلم العلم وسيأكل الفالوذج بدهن الفستق في صحون الفيروزج.

فقالت له: إنك شيخ قد خرفت.

قال أبو يوسف: فلما وليت القضاء - وكان أول من ولاه القضاء الهادي، وهو أول من لقب قاضي القضاة، وكان يقال له: قاضي قضاة الدنيا، لأنه كان يستنيب في سائر الأقاليم التي يحكم فيها الخليفة -.

قال أبو يوسف: فبينا أنا ذات يوم عند الرشيد إذ أتي بفالوذج في صحن فيروزج فقال لي: كل من هذا، فإنه لا يصنع لنا في كل وقت.

وقلت: وما هذا يا أمير المؤمنين ؟

فقال: هذا الفالوذج.

قال: فتبسمت، فقال: مالك تتبسم ؟

فقلت: لاشيء أبقى الله أمير المؤمنين.

فقال: لتخبرني.

فقصصت عليه القصة فقال: إن العلم ينفع ويرفع في الدنيا والآخرة.

ثم قال: رحم الله أبا حنيفة، فلقد كان ينظر بعين عقله ما لا ينظر بعين رأسه.

وكان أبو حنيفة يقول عن أبي يوسف: إنه أعلم أصحابه.

وقال المزني: كان أبو يوسف أتبعهم للحديث.

وقال ابن المديني: كان صدوقا.

وقال ابن معين: كان ثقة.

وقال أبو زرعة: كان سليما من التجهم.

وقال بشار الخفاف: سمعت أبا يوسف، يقول: من قال: القرآن مخلوق، فحرام كلامه، وفرض مباينته، ولا يجوز السلام ولا رده عليه.

ومن كلامه الذي ينبغي كتابته بماء الذهب قوله: من طلب المال بالكيما، أفلس، ومن تتبع غرائب الحديث كذب، ومن طلب العلم بالكلام تزندق.

ولما تناظر هو ومالك بالمدينة بحضرة الرشيد في مسألة الصاع وزكاة الخضروات احتج مالك بما استدعى به من تلك الصيعان المنقولة عن آبائهم وأسلافهم، وبأنه لم يكن الخضروات يخرج فيها شيء في زمن الخلفاء الراشدين.

فقال أبو يوسف: لو رأى صاحبي ما رأيت لرجع كما رجعت. وهذا إنصاف منه.

وقد كان يحضر في مجلس حكمه العلماء على طبقاتهم، حتى إن أحمد بن حنبل كان شابا وكان يحضر مجلسه في أثناء الناس فيتناظرون ويتباحثون، وهو مع ذلك يحكم ويصنف أيضا.

وقال: وليت هذا الحكم وأرجو الله أن لا يسألني عن جور ولا ميل إلى أحد، إلا يوما واحدا جاءني رجل فذكر أن له بستانا وأنه في يد أمير المؤمنين، فدخلت إلى أمير المؤمنين فأعلمته فقال: البستان لي اشتراه لي المهدي.

فقلت: إن رأى أمير المؤمنين أن يحضره لأسمع دعواه.

فأحضره فادعى بالبستان فقلت: ما تقول يا أمير المؤمنين ؟

فقال: هو بستاني.

فقلت للرجل: قد سمعت ما أجاب.

فقال الرجل: يحلف.

فقلت: أتحلف يا أمير المؤمنين ؟

فقال: لا.

فقلت: سأعرض عليك اليمين ثلاثا فإن حلفت وإلا حكمت عليك يا أمير المؤمنين.

فعرضتها عليه ثلاثا فامتنع فحكمت بالبستان للمدعي.

قال: فكنت في أثناء الخصومة أود أن ينفصل ولم يمكني أن أجلس الرجل مع الخليفة.

وبعث القاضي أبو يوسف في تسليم البستان إلى الرجل.

وروى المعافى بن زكريا الجريري، عن محمد بن أبي الأزهر، عن حماد بن أبي إسحاق، عن أبيه، عن بشر بن الوليد، عن أبي يوسف، قال: بينا أنا ذات ليلة قد نمت في الفراش، إذا رسول الخليفة يطرق الباب، فخرجت منزعجا فقال: أمير المؤمنين يدعوك.

فذهبت فإذا هو جالس ومعه عيسى بن جعفر، فقال لي الرشيد: إن هذا قد طلبت منه جارية يهبنيها فلم يفعل، أو يبعنيها، وإني أشهدك إن لم يجبني إلى ذلك قتلته.

فقلت لعيسى: لم لم تفعل ؟

فقال: إني حالف بالطلاق والعتاق وصدقة مالي كله أن لا أبيعها ولا أهبها.

فقال لي الرشيد: فهل له من مخلص ؟

فقلت: نعم، يبيعك نصفها ويهبك نصفها.

فوهبه النصف وباعه النصف بمائة ألف دينار.

فقبل منه ذلك وأحضرت الجارية، فلما رآها الرشيد قال: هل لي من سبيل عليها الليلة ؟

قلت: إنها مملوكة ولا بد من استبرائها، إلا أن تعتقها وتتزوجها فإن الحرة لا تستبرأ.

قال: فأعتقها وتزوجها منه بعشرين ألف دينار، وأمر لي بمائتي ألف درهم وعشرين تختا من ثياب، وأرسلت إلى الجارية بعشرة آلاف دينار.

قال يحيى بن معين: كنت عند أبي يوسف فجاءته هدية من ثياب ديبقي وطيب وفانيل ندٍّ وغير ذلك، فذاكرني رجل في إسناد حديث: «من أهديت له هدية وعنده قوم جلوس فهم شركاؤه».

فقال أبو يوسف: إنما ذاك في الأقط والتمر والزبيب، ولم تكن الهدايا في ذلك الوقت ما ترون، يا غلام ارفع هذا إلى الخزائن، ولم يعطهم منها شيئا.

وقال بشر بن غياث المريسي: سمعت أبا يوسف، يقول: صحبت أبا حنيفة سبع عشرة سنة ثم انصبت على الدنيا سبع عشرة سنة، وما أظن أجلي إلا أن اقترب.

فما مكث بعد ذلك إلا شهورا حتى مات.

وقد مات أبو يوسف في ربيع الأول من هذه السنة عن سبع وستين سنة، ومكث في القضاء بعده ولده يوسف.

وقد كان نائبه على الجانب الشرقي من بغداد.

ومن زعم من الرواة أن الشافعي اجتمع بأبي يوسف كما يقوله عبد الله بن محمد البلوي الكذاب في الرحلة التي ساقها الشافعي فقد أخطأ في ذلك، إنما ورد الشافعي بغداد في أول قدمة قدمها إليها في سنة أربع وثمانين، وإنما اجتمع الشافعي بمحمد بن الحسن الشيباني فأحسن إليه وأقبل عليه، ولم يكن بينهما شنآن كما يذكره بعض من لا خبره له في هذا الشأن، والله أعلم.

وفيها توفي:

يعقوب بن داوود بن طهمان

أبو عبد الله، مولى عبد الله بن حازم السلمي، استوزره المهدي وحظي عنده جدا، وسلم إليه أزمة الأمور، ثم لما أمر بقتل ذلك العلوي كما تقدم فأطلقه ونمت عليه تلك الجارية سجنه المهدي في بئر وبنيت عليه قبة، ونبت شعره حتى صار مثل شعور الأنعام، وعمي، ويقال: بل غشي بصره، ومكث نحوا من خمسة عشر سنة في ذلك البئر لا يرى ضوءا ولا يسمع صوتا إلا في أوقات الصلوات يعلمونه بذلك، ويدلى إليه في كل يوم رغيف وكوز ماء، فمكث كذلك حتى انقضت أيام المهدي وأيام الهادي وصدر من أيام الرشيد.

قال يعقوب: فأتاني آت في منامي فقال:

عسى الكرب الذي أمسيت فيه * يكون وراءه فرج قريب

فيأمن خائف ويفك عانٍ * ويأتي أهله النائي الغريب

فلما أصبحت نوديت فظننت أني أعلم بوقت الصلاة، ودلي إلي حبل وقيل لي: اربط هذا الحبل في وسطك، فأخرجوني، فلما نظرت إلى الضياء لم أبصر شيئا، وأوقفت بين يدي الخليفة فقيل لي: سلم على أمير المؤمنين، فظننته المهدي فسلمت عليه باسمه.

فقال: لست به.

فقلت: الهادي ؟

فقال: لست به.

فقلت: السلام عليك يا أمير المؤمنين الرشيد.

فقال: نعم.

ثم قال: والله إنه لم يشفع فيك عندي أحد، ولكني البارحة حملت جارية لي صغيرة على عنقي فذكرت حملك إياي على عنقك فرحمت ما أنت فيه من الضيق فأخرجتك.

ثم أنعم عليه وأحسن إليه.

فغار منه يحيى بن خالد بن برمك، وخشي أن يعيده إلى منزلته التي كان عليها أيام المهدي، وفهم ذلك يعقوب فاستأذن الرشيد في الذهاب إلى مكة فأذن له، فكان بها حتى مات في هذه السنة رحمه الله.

وقال: يخشى يحيى أن أرجع إلى الولايات، لا والله ما كنت لأفعل أبدا، ولو رددت إلى مكاني.

وفيها توفي:

يزيد بن زريع

أبو معاوية، شيخ الإمام أحمد بن حنبل في الحديث، كان ثقةً عالما عابدا ورعا، توفي أبوه وكان والي البصرة وترك من المال خمسمائة درهم، فلم يأخذ منها يزيد درهما واحدا، وكان يعمل الخوص بيده ويقتات منه هو وعياله.

توفي بالبصرة في هذه السنة.

وقيل: قبل ذلك، فالله أعلم.

ثم دخلت سنة ثلاث وثمانين ومائة

فيها: خرجت الخزر على الناس من ثلمة أرمينية فعاثوا في تلك البلاد فسادا، وسبوا من المسلمين وأهل الذمة نحوا من مائة ألف وقتلوا بشرا كثيرا، وانهزم نائب أرمينية سعيد بن مسلم، فأرسل الرشيد إليهم خازم بن خزيمة ويزيد بن مزيد في جيوش كثيرة كثيفة، فأصلحوا ما فسد في تلك البلاد.

وحج بالناس العباس بن موسى الهادي.

وفيها توفي من الأعيان:

علي بن الفضيل بن عياض

في حياة أبيه، كان كثير العبادة والورع والخوف والخشية.

ومحمد بن صبيح

أبو العباس، مولى بني عجل المذكر

ويعرف: بابن السماك.

روى عن: إسماعيل بن أبي خالد، والأعمش، والثوري، وهشام بن عروة، وغيرهم.

ودخل يوما على الرشيد فقال: إن لك بين يدي الله موقفا فانظر أين منصرفك، إلى الجنة أم النار ؟

فبكى الرشيد حتى كاد يموت.

وموسى بن جعفر

ابن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب، أبو الحسن الهاشمي، ويقال له: الكاظم، ولد سنة ثمان أو تسع وعشرين ومائة.

وكان كثير العبادة والمروءة، إذا بلغه عن أحد أنه يؤذيه أرسل إليه بالذهب والتحف.

ولد له من الذكور والإناث أربعون نسمة.

وأهدى له مرة عبدٌ عصيدة فاشتراه واشترى المزرعة التي هو فيها بألف دينار وأعتقه، ووهب المزرعة له.

وقد استدعاه المهدي إلى بغداد فحبسه، فلما كان في بعض الليالي رأى المهدي علي بن أبي طالب وهو يقول له: يا محمد، { فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ } [محمد: 22] .

فاستيقظ مذعورا وأمر به فأخرج من السجن ليلا، فأجلسه معه وعانقه وأقبل عليه، وأخذ عليه العهد أن لا يخرج عليه ولا على أحد من أولاده، فقال: والله ما هذا من شأني ولا حدثت فيه نفسي.

فقال: صدقت.

وأمر له بثلاثة آلاف دينار، وأمر به فردَّ إلى المدينة، فما أصبح الصباح إلا وهو على الطريق، فلم يزل بالمدنية حتى كانت خلافة الرشيد فحج، فلما دخل ليسلم على قبر النبي ومعه موسى بن جعفر الكاظم، فقال الرشيد: السلام عليك يا رسول الله يا ابن عم.

فقال موسى: السلام عليك يا أبت.

فقال الرشيد: هذا هو الفخر يا أبا الحسين.

ثم لم يزل ذلك في نفسه حتى استدعاه في سنة تسع وستين وسجنه فأطال سجنه، فكتب إليه موسى رسالة يقول فيها: أما بعد يا أمير المؤمنين، إنه لم ينقض عني يوم من البلاء إلا انقضى عنك يوم من الرخاء، حتى يفضي بنا ذلك إلى يوم يخسر فيه المبطلون.

توفي لخمس بقين من رجب من هذه السنة ببغداد، وقبره هناك مشهور.

وفيها توفي:

هاشم بن بشير بن أبي حازم

القاسم بن دينار، أبو معاوية السلمي الواسطي، كان أبوه طباخا للحجاج بن يوسف الثقفي، ثم كان بعد ذلك يبيع الكوامخ، وكان يمنع ابنه من طلب العلم ليساعده على شغله، فأبى إلا أن يسمع الحديث.

فاتفق أن هاشما مرض فجاءه أبو شيبة قاضي واسط عائدا له ومعه خلق من الناس، فلما رآه بشير فرح بذلك وقال: يا بني ! أبلغ من أمرك أن جاء القاضي إلى منزلي؟ لا أمنعك بعد هذا اليوم من طلب الحديث.

كان هاشم من سادات العلماء، وحدث عنه: مالك، وشعبة، والثوري، وأحمد بن حنبل، وخلق غير هؤلاء.

وكان من الصلحاء العباد، ومكث يصلي الصبح بوضوء العشاء قبل أن يموت بعشر سنين.

ويحيى بن زكريا

ابن أبي زائدة، قاضي المدائن، كان من الأئمة الثقات.

ويونس بن حبيب

أحد النحاة النجباء، أخذ النحو عن: أبي عمرو بن العلاء وغيره.

وأخذ عنه: الكسائي، والفراء، وقد كانت له حلقة بالبصرة ينتابها أهل العلم والأدب والفصحاء من الحاضرين والغرباء.

توفي في هذه السنة عن ثمان وسبعين سنة.

ثم دخلت سنة أربع وثمانين ومائة

فيها: رجع الرشيد من الرقة إلى بغداد فأخذ الناس بأداء بقايا الخراج الذي عليهم.

وولى رجلا يضرب الناس على ذلك ويحبسهم.

وولى على أطراف البلاد.

وعزل وولى وقطع ووصل. وخرج بالجزيرة أبو عمرو الشاري فبعث إليه الرشيد من قبله شهر زور. وحج بالناس فيها إبراهيم بن محمد العباسي.

وفيها توفي:

أحمد بن الرشيد

كان زاهدا عابدا قد تنسك، وكان لا يأكل إلا من عمل يده في الطين، كان يعمل فاعلا فيه، وليس يملك إلا مروا وزنبيلا - أي: مجرفة وقفَّة - وكان يعمل في كل جمعة بدرهم ودانق يتقرب بهما من الجمعة إلى الجمعة، وكان لا يعمل إلا في يوم السبت فقط، ثم يقبل على العبادة بقية أيام الجمعة.

وكان من زبيدة في قول بعضهم، والصحيح أنه من امرأة كان الرشيد قد أحبها فتزوجها فحملت منه بهذا الغلام، ثم إن الرشيد أرسلها إلى البصرة وأعطاها خاتما من ياقوت أحمر، وأشياء نفيسة، وأمرها إذا أفضت إليه الخلافة أن تأتيه.

فلما صارت الخلافة إليه لم تأته ولا ولدها، بل اختفيا، وبلغه أنهما ماتا، ولم يكن الأمر كذلك، وفحص عنهما فلم يطلع لهما على خبر، فكان هذا الشاب يعمل بيده ويأكل من كدها، ثم رجع إلى بغداد، وكان يعمل في الطين ويأكل مدة زمانية.

هذا وهو ابن أمير المؤمنين، ولا يذكر للناس من هو إلى أن اتفق مرضه في دار من كان يستعمله في الطين فمرَّضه عنده.

فلما احتضر أخرج الخاتم وقال لصاحب المنزل: اذهب بهذا إلى الرشيد وقل له: صاحب هذا الخاتم يقول لك: إياك أن تموت في سكرتك هذه فتندم حيث لا ينفع نادما ندمه، واحذر انصرافك من بين يدي الله إلى الدارين، وأن يكون آخر العهد بك، فإن ما أنت فيه لو دام لغيرك لم يصل إليك، وسيصير إلى غيرك، وقد بلغك أخبار من مضى.

قال: فلما مات دفنته، وطلبت الحضور عند الخليفة، فلما أوقفت بين يديه قال: ما حاجتك ؟

قلت: هذا الخاتم دفعه إلي رجل وأمرني أن أدفعه إليك، وأوصاني بكلام أقوله لك.

فلما نظر الخاتم عرفه فقال: ويحك وأين صاحب هذا الخاتم ؟

قال: فقلت: مات يا أمير المؤمنين.

ثم ذكرت الكلام الذي أوصاني به، وذكرت له أنه يعمل بالفاعل في كل جمعة يوما بدرهم وأربع دوانيق، أو بدرهم ودانق، يتقوت به سائر الجمعة، ثم يقبل على العبادة.

قال: فلما سمع هذا الكلام قام فضرب بنفسه الأرض وجعل يتمرغ ويتقلب ظهرا لبطن ويقول: والله لقد نصحتني يا بني، ثم بكى، ثم رفع رأسه إلى الرجل وقال: أتعرف قبره ؟

قلت: نعم ! أنا دفنته.

قال: إذا كان العشي فائتني.

فقال: فأتيته فذهب إلى قبره فلم يزل يبكي عنده حتى أصبح، ثم أمر لذلك الرجل بعشرة آلاف درهم، وكتب له ولعياله رزقا.

وفيها مات:

عبد الله بن مصعب

ابن ثابت بن عبد الله بن الزبير بن العوام، القرشي الأسدي، والد بكار.

ألزمه الرشيد بولاية المدينة فقبلها بشروط عدل اشترطها، فأجابه إلى ذلك، ثم أضاف إليه نيابة اليمن، فكان من أعدل الولاة، وكان عمره يوم تولى نحوا من سبعين سنة.

عبد الله بن عبد العزيز العمري

أدرك أبا طوالة، وروى عن: أبيه، وإبراهيم بن سعد.

وكان عابدا زاهدا، وعظ الرشيد يوما فأطنب وأطيب.

قال له وهو واقف على الصفا: أتنظركم حولها - يعني: الكعبة - من الناس ؟

فقال: كثير.

فقال: كل منهم يسأل يوم القيامة عن خاصة نفسه، وأنت تسأل عنهم كلهم.

فبكى الرشيد بكاءً كثيرا، وجعلوا يأتونه بمنديل بعد منديل ينشف به دموعه.

ثم قال له: يا هارون ! إن الرجل ليسرف في ماله فيستحق الحجر عليه، فكيف بمن يسرف في أموال المسلمين كلهم ؟

ثم تركهم وانصرف والرشيد يبكي.

وله معه مواقف محمودة غير هذه.

توفي عن ست وستين سنة.

ومحمد بن يوسف بن معدان

أبو عبد الله الأصبهاني، أدرك التابعين، ثم اشتغل بالعبادة والزهادة.

كان عبد الله بن المبارك يسميه: عروس الزهاد.

وقال يحيى بن سعيد القطان: ما رأيت أفضل منه، كان كأنه قد عاين.

وقال ابن مهدي: ما رأيت مثله، وكان لا يشتري خبزه من خباز واحد، ولا بقله من بقال واحد، كان لا يشتري إلا ممن لا يعرفه، يقول: أخشى أن يحابوني فأكون ممن يعيش بدينه.

وكان لا يضع جنبه للنوم صيفا ولا شتاء.

ومات ولم يجاوز الأربعين سنة رحمه الله.

ثم دخلت سنة خمس وثمانين ومائة

فيها: قتل أهل طبرستان متوليهم مهرويه الرازي، فولى الرشيد عليهم عبد الله بن سعيد الحرشي.

وفيها: قتل عبد الرحمن الأنباري أبان بن قحطبة الخارجي بمرج العلقة.

وفيها: عاث حمزة الشاري ببلاد باذغيس من خراسان، فنهض عيسى بن علي بن عيسى إلى عشرة آلاف من جيش حمزة فقتلهم، وسار وراء حمزة إلى كابل وزابلستان.

وفيها: خرج أبو الخصيب فتغلب على أبيورد وطوس ونيسابور وحاصر مرو وقوي أمره.

وفيها: توفي يزيد بن مزيد ببرذعة، فولى الرشيد مكانه ابنه أسد بن يزيد.

واستأذن الوزير يحيى بن خالد الرشيد في أن يعتمر في رمضان فأذن له، ثم رابط بجنده إلى وقت الحج.

وكان أمير الحج في هذه السنة منصور بن محمد بن عبد الله بن علي بن عبد الله بن عباس.

وفيها توفي:

عبد الصمد بن علي ابن عبد الله بن عباس

عم السفاح والمنصور.

ولد سنة أربع ومائة، وكان ضخم الخلق جدا ولم يبدل أسنانه، وكانت أصولها صفيحة واحدة.

قال يوما للرشيد: يا أمير المؤمنين ! هذا المجلس اجتمع فيه عم أمير المؤمنين، وعم عمه، وعم عم عمه.

وذلك أن سليمان بن أبي جعفر عم الرشيد، والعباس بن محمد بن علي عم سليمان، وعبد الصمد بن علي عم السفاح، وتلخيص ذلك أن عبد الصمد عم عم عم الرشيد، لأنه عم جده.

روى عبد الصمد، عن أبيه، عن جده عبد الله بن عباس، عن النبي ، أنه قال: «إن البر والصلة ليطيلان الأعمار، ويعمران الديار، ويثريان الأموال، ولو كان القوم فجارا».

وبه أن رسول الله قال: «إن البر والصلة ليخففان الحساب يوم القيامة».

ثم تلا رسول الله : { وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الْحِسَابِ } [الرعد: 21] .

وغير ذلك من الأحاديث.

محمد بن إبراهيم بن محمد

ابن علي بن عبد الله بن عباس، المعروف بالإمام، كان على إمارة الحاج، وإقامة سقايته في خلافة المنصور عدة سنين.

توفي ببغداد فصلى عليه الأمين في شوال من هذه السنة، ودفن بالعباسية.

وفيها توفي من مشايخ الحديث:

تمام بن إسماعيل، وعمرو بن عبيد، والمطلب بن زياد، والمعافى بن عمران. في قول.

ويوسف بن الماجشون، وأبو إسحاق الفزاري، إمام أهل الشام بعد الأوزاعي في المغازي والعلم والعبادة.

رابعة العدوية

وهي: رابعة بنت إسماعيل مولاة آل عتيك، العدوية البصرية، العابدة المشهورة.

ذكرها أبو نعيم في الحلية والرسائل، وابن الجوزي في صفوة الصفوة، والشيخ شهاب الدين السهروردي في المعارف، والقشيري.

وأثنى عليها أكثر الناس، وتكلم فيها أبو داود السجستاني، واتهمها بالزندقة، فلعله بلغه عنها أمر.

وأنشد لها السهروردي في المعارف:

إني جعلتكِ في الفؤاد محدثي * وأبحت جسميَ من أراد جلوسي

فالجسمُ مني للجليس موانسٌ * وحبيب قلبي في الفؤاد أنيسي

وقد ذكروا لها أحوالا وأعمالا صالحةً، وصيام نهار، وقيام ليل، ورؤيت لها منامات صالحة، فالله أعلم.

توفيت بالقدس الشريف وقبرها شرقيه بالطور، والله أعلم.

ثم دخلت سنة ست وثمانين ومائة

فيها: خرج علي بن عيسى بن ماهان من مرو لحرب أبي الخصيب إلى نسا فقاتله بها، وسبى نساءه وذراريه.

واستقامت خراسان.

وحج بالناس فيها الرشيد ومعه أبناه محمد الأمين، وعبد الله المأمون، فبلغ جملة ما أعطى لأهل الحرمين ألف ألف دينار وخمسين ألف دينار، وذلك أنه كان يعطي الناس فيذهبون إلى الأمين فيعطيهم، فيذهبون إلى المأمون فيعطيهم.

وكان إلى الأمين ولاية الشام والعراق، وإلى المأمون همدان إلى بلاد المشرق.

ثم تابع الرشيد لولده القاسم من بعد ولديه، ولقبه: المؤتمن، وولاه الجزيرة والثغور والعواصم، وكان الباعث له على ذلك أن ابنه القاسم هذا كان في حجر عبد الملك بن صالح، فلما بايع الرشيد لولديه كتب إليه:

يا أيها الملك الذي * لو كان نجما كان سعدا

اعقد لقاسم بيعةً * واقدح له في الملك زندا

فالله فرد واحد * فاجعل ولاة العهد فردا

ففعل الرشيد ذلك، وقد حمده قوم على ذلك، وذمه آخرون.

ولم ينتظم للقاسم هذا أمر، بل اختطفته المنون والأقدار عن بلوغ الأمل والأوطار.

ولما قضى الرشيد حجه أحضر من معه من الأمراء والوزراء، وأحضر وليي العهد: محمدا الأمين، وعبد الله المأمون.

وكتب بمضمون ذلك صحيفة، وكتب فيها الأمراء والوزراء خطوطهم بالشهادة على ذلك، وأراد الرشيد أن يعلقها في الكعبة فسقطت فقيل: هذا أمر سريع انتقاضه. وكذا وقع كما سيأتي.

وقال إبراهيم الموصلي في عقد هذه البيعة في الكعبة:

خير الأمور مغبةٌ * وأحق أمرٍ بالتمام

أمر قضى أحكامه الر * حمن في البلد الحرام

وقد أطال القول في هذا المقام أبو جعفر بن جرير وتبعه ابن الجوزي في المنتظم.

وفيها توفي من الأعيان:

أصبغ بن عبد العزيز بن مروان

ابن الحكم، أبو ريان، في رمضان منها.

وحسان بن إبراهيم، قاضي كرمان، عن مائة سنة.

سلم الخاسر الشاعر

وهو: سلم بن عمرو بن حماد بن عطاء، وإنما قيل له: الخاسر لأنه باع مصحفا واشترى به ديوان شعر لامرئ القيس، وقيل: لأنه أنفق مائتي ألف في صناعة الأدب.

وقد كان شاعرا منطقيا له قدرة على الإنشاء على حرف واحد، كما قال في موسى الهادي:

موسى المطر غيث بكر ثم انهمر كم اعتبر ثم فتر وكم قدر ثم غفر عدل السير باقي الأثر خير البشر فرع مضر بدر بدر لمن نظر هو الوزر لمن حضر والمفتخر لم غبر

وذكر الخطيب أنه كان على طريقة غير مرضية من المجون والفسق، وأنه كان من تلاميذ بشار بن برد، وأن نظمه أحسن من نظم بشار، فمما غلب فيه بشارا قوله:

من راقب الناس لم يظفر بحاجته * وفاز بالطيبات الفاتك اللهج

فقال سلم:

من راقب الناس مات غما * وفاز باللذة الجسور

فغضب بشار وقال: أحذ معاني كلامي فكساها ألفاظا أخف من ألفاظي.

وقد حصل له من الخلفاء والبرامكة نحوا من أربعين ألف دينار، وقيل: أكثر من ذلك.

ولما مات ترك ستة وثلاثين ألف دينار وديعة عند أبي الشمر الغساني، فغنى إبراهيم الموصلي يوما الرشيد فأطر به فقال له: سل.

فقال: يا أمير المؤمنين ! أسألك شيئا ليس فيه من مالك شيء ولا أرزأوك شيئا سواه.

قال: وما هو ؟

فذكر له وديعة سلم الخاسر، وأنه لم يترك وارثا.

فأمر له بها.

ويقال: إنها كانت خمسين ألف دينار.

العباس بن محمد

ابن علي بن عبد الله بن عباس، عم الرشيد، كان من سادات قريش، ولي إمارة الجزيرة في أيام الرشيد، وقد أطلق له الرشيد في يوم خمسة آلاف ألف درهم، وإليه تنسب العباسية، وبها دفن وعمره خمس وستون سنة، وصلى عليه الأمين.

يقطين بن موسى

كان أحد الدعاة إلى دولة بني العباس، وكان داهية ذا رأي.

وقد احتال مرة حيلة عظيمة لما حبس مروان الحمار إبراهيم بن محمد بحرَّان، فتحيرت الشيعة العباسية فيمن يولون، ومن يكون ولي الأمر من بعده إن قتل ؟

فذهب يقطين هذا إلى مروان فوقف بين يديه في صورة تاجر فقال: يا أمير المؤمنين ! إني قد بعت إبراهيم بن محمد بضاعة ولم أقبض ثمنها منه حتى أخذته رسلك، فإن رأى أمير المؤمنين أن يجمع بيني وبينه لأطالبه بمالي فعل.

قال: نعم !

فأرسل به إليه مع غلام، فلما رآه قال: يا عدو الله إلى من أوصيت بعدك آخذ مالي منه ؟

فقال له: إلى ابن الحارثية - يعني: أخاه عبد الله السفاح - فرجع يقطين إلى الدعاة إلى بني العباس فأعلمهم بما قال، فبايعوا السفاح، فكان من أمره ما ذكرناه.

ثم دخلت سنة سبع وثمانين ومائة

فيها: كان مهلك البرامكة على يدي الرشيد، قتل جعفر بن يحيى بن خالد البرمكي، ودمر ديارهم، واندرست آثارهم، وذهب صغارهم وكبارهم.

وقد اختلف في سبب ذلك على أقوال ذكرها ابن جرير وغيره.

قيل: إن الرشيد كان قد سلم يحيى بن عبد الله بن حسن إلى جعفر البرمكي ليسجنه عنده، فما زال يحيى يترفق له حتى أطلقه، فنمَّ الفضل بن الربيع ذلك إلى الرشيد، فقال له الرشيد: ويلك ! لا تدخل بيني وبين جعفر، فلعله أطلقه عن أمري وأنا لا أشعر.

ثم سأل الرشيد جعفرا عن ذلك فصدقه فتغيظ عليه وحلف ليقتلنه، وكره البرامكة، ثم قتلهم وقلاهم بعدما كانوا أحظى الناس عنده، وأحبهم إليه، وكانت أم جعفر والفضل أم الرشيد من الرضاعة، وقد جعلهم الرشيد من الرفعة في الدنيا وكثرة المال بسبب ذلك شيئا كثيرا لم يحصل لمن قبلهم من الوزراء ولا لمن بعدهم من الأكابر والرؤساء، بحيث إن جعفرا بنى دارا غرم عليها عشرين ألف ألف درهم، وكان ذلك من جملة ما نقمه عليه الرشيد.

ويقال: إنما قتلهم الرشيد لأنه كان لا يمر ببلد ولا إقليم ولا قرية ولا مزرعة ولا بستان إلا قيل: هذا لجعفر.

ويقال: إن البرامكة كانوا يريدون إبطال خلافة الرشيد وإظهار الزندقة.

وقيل: إنما قتلهم بسبب العباسة.

ومن العلماء من أنكر ذلك وإن كان ابن جرير قد ذكره.

وذكر ابن الجوزي أن الرشيد سئل عن سبب قتله البرامكة فقال: لو أعلم أن قميصي يعلم ذلك لأحرقته.

وقد كان جعفر يدخل على الرشيد بغير إذن حتى كان يدخل عليه وهو في الفراش مع حظاياه - وهذه وجاهة ومنزلة عالية - وكان عنده من أحظى العشراء على الشراب المسكر - فإن الرشيد كان يستعمل في أواخر أيام خلافته المسكر - وكان أحب أهله إليه أخته العباسة بنت المهدي، وكان يحضرها معه، وجعفر البرمكي حاضرا أيضا معه، فزوجه بها ليحل النظر إليها، واشترط عليه أن لا يطأها.

وكان الرشيد ربما قام وتركهما وهما ثملان من الشراب فربما واقعها جعفر فحبلت منه فولدت ولدا وبعثته مع بعض جواريها إلى مكة، وكان يربى بها.

وذكر ابن خلكان أن الرشيد لما زوج أخته العباسة من جعفر أحبها حبا شديدا، فراودته عن نفسه فامتنع أشد الامتناع خوفا من الرشيد، فاحتالت عليه - وكانت أمه تهدي له في كل ليلة جمعة جارية حسناء بكرا - فقالت لأمه: أدخليني عليه بصفة جارية.

فهابت ذلك فتهددتها حتى فعلت ذلك.

فلما دخلت عليه لم يتحقق وجهها فواقعها فقالت له: كيف رأيت خديعة بنات الملوك ؟.

وحملت من تلك الليلة، فدخل على أمه فقال: بعتيني والله برخيص.

ثم إن والده يحيى بن خالد جعل يضيق على عيال الرشيد في النفقة حتى شكت زبيدة ذلك إلى الرشيد مرات، ثم أفشت له سر العباسة، فاستشاط غيظا، ولما أخبرته أن الولد قد أرسلت به إلى مكة حج عام ذلك حتى تحقق الأمر.

ويقال: إن بعض الجواري نمت عليها إلى الرشيد وأخبرته بما وقع، وأن الولد بمكة وعنده جوار وأموال وحلي كثيرة، فلم يصدق حتى حج في السنة الخالية، ثم كشف الأمر عن الحال، فإذا هو كما ذكر.

وقد حج في هذه السنة التي حج فيها الرشيد يحيى بن خالد، فجعل يدعو عند الكعبة: اللهم إن كان يرضيك عني سلب جميع مالي وولدي وأهلي فافعل ذلك وأبق علي منهم الفضل، ثم خرج.

فلما كان عند باب المسجد رجع فقال: اللهم والفضل معهم فإني راض برضاك عني ولا تستثن منهم أحدا.

فلما قفل الرشيد من الحج صار إلى الحيرة ثم ركب في السفن إلى الغمر من أرض الأنبار، فلما كانت ليلة السبت سلخ المحرم من هذه السنة أرسل مسرورا الخادم ومعه حماد بن سالم أبو عصمة في جماعة من الجند، فأطافوا بجعفر بن يحيى ليلا، فدخل عليه مسرور الخادم وعنده بختيشوع المتطبب، وأبو ركانة الأعمى المغني الكلوذاني، وهو في أمره وسروره، وأبو ركانة يغنيه:

فلا تبعد فكل فتى سيأتي * عليه الموت يطرق أو يغادي

فقال الخادم له: يا أبا الفضل ! هذا الموت قد طرقك، أجب أمير المؤمنين.

فقام إليه يقبل قدميه ويدخل عليه أن يمكنه فيدخل إلى أهله فيوصي إليهم ويودعهم، فقال: أما الدخول فلا سبيل إليه، ولكن أوص.

فأوصى وأعتق جميع مماليكه أو جماعة منهم، وجاءت رسل الرشيد تستحثه فأخرج إخراجا عنيفا، فجعلوا يقودونه حتى أتوا به المنزل الذي فيه الرشيد، فحبسه وقيده بقيد حمار، وأعلموا الرشيد بما كان يفعل، فأمر بضرب عنقه، فجاء السياف إلى جعفر فقال: إن أمير المؤمنين قد أمرني أن آتيه برأسك.

فقال: يا أبا هاشم ! لعل أمير المؤمنين سكران، فإذا صحا عاتبك فيَّ، فعاوده.

فرجع إلى الرشيد فقال: إنه يقول: لعلك مشغول.

فقال: يا ماص بظر أمه ائتني برأسه.

فكرر عليه جعفر المقالة فقال الرشيد في الثالثة: برئت من المهدي إن لم تأتني برأسه لأبعثن من يأتيني برأسك ورأسه.

فرجع إلى جعفر فحز رأسه وأتى به إلى الرشيد فألقاه بين يديه، وأرسل الرشيد من ليلته البرد بالاحتياط على البرامكة جميعهم ببغداد وغيرها، ومن كان منهم بسبيل.

فأخذوا كلهم عن آخرهم، فلم يفلت منهم أحد.

وحبس يحيى بن خالد في منزله، وحبس الفضل بن يحيى في منزل آخر، وأخذ جميع ما كانوا يملكونه من الدنيا، وبعث الرشيد برأس جعفر وجثته فنصب الرأس عند الجسر الأعلى، وشقت الجثة باثنتين فنصب نصفها الواحد عند الجسر الأسفل، والأخر عند الجسر الآخر، ثم أحرقت بعد ذلك.

ونودي في بغداد: أن لا أمان للبرامكة ولا لمن آواهم، إلا محمد بن يحيى بن خالد فإنه مستثنى منهم لنصحه للخليفة.

وأتي الرشيد بأنس بن أبي شيخ كان يتهم بالزندقة، وكان مصاحبا لجعفر، فدار بينه وبين الرشيد كلام، ثم أخرج الرشيد من تحت فراشه سيفا وأمر بضرب عنقه به.

وجعل يتمثل ببيت قيل في قتل أنس قبل ذلك:

تلمظ السيف من شوق إلى أنس * فالسيف يلحظ والأقدار تنتظر

فضربت عنق أنس فسبق السيف الدم فقال الرشيد: رحم الله عبد الله بن مصعب.

فقال الناس: إن السيف كان للزبير بن العوام.

ثم شحنت السجون بالبرامكة، واستلبت أموالهم كلها، وزالت عنهم النعمة.

وقد كان الرشيد في اليوم الذي قتل جعفرا في آخره، هو وإياه راكبين في الصيد في أوله، وقد خلا به دون ولاة العهود، وطيبه في ذلك بالغالية بيده، فلما كان وقت المغرب ودعه الرشيد وضمه إليه وقال: لولا أن الليلة ليلة خلوتي بالنساء ما فارقتك، فاذهب إلى منزلك واشرب واطرب وطب عيشا حتى تكون على مثل حالي، فأكون أنا وأنت في اللذة سواء.

فقال: والله يا أمير المؤمنين لا أشتهي ذلك إلا معك.

فقال: لا ! انصرف إلى منزلك.

فانصرف عنه جعفر فما هو إلا أن ذهب من الليل بعضه حتى أوقع به من البأس والنكال ما تقدم ذكره.

وكان ذلك ليلة السبت آخر ليلة من المحرم.

وقيل: إنها أول ليلة من صفر في هذه السنة، وكان عمر جعفر إذ ذاك سبعا وثلاثين سنة.

ولما جاء الخبر إلى أبيه يحيى بن خالد بقتله قال: قتل الله ابنه.

ولما قيل له: قد خربت دارك.

قال: خرب الله دوره.

ويقال: إن يحيى لما نظر إلى دوره وقد هتكت ستورها، واستبيحت قصورها، وانتهب ما فيها.

قال: هكذا تقوم الساعة.

وقد كتب إليه بعض أصحابه يعزيه فيما جرى له، فكتب إليه جواب التعزية: أنا بقضاء الله راض، وباختياره عالم، ولا يؤاخذ الله العباد إلا بذنوبهم، وما الله بظلام للعبيد، وما يغفر الله أكثر، ولله الحمد.

وقد أكثر الشعراء من المراثي في البرامكة فمن ذلك قول الرقاشي، وقيل: إنها لأبي نواس:

الآن استرحنا واستراحت ركابنا * وأمسك من يحدي ومن كان يحتدى

فقل للمطايا قد أمنت من السُّرى * وطيِّ الفيافي فدفدا بعد فدفد

وقل للمنايا قد ظفرت بجعفر * ولن تظفري من بعده بمسوَّد

وقل للعطايا بعد فضل تعطلي * وقل للرزايا كل يوم تجددي

ودونك سيفا برمكيا مهندا * أصيب بسيف هاشمي مهند

وقال الرقاشي، وقد نظر إلى جعفر وهو على جذعه:

أما والله لولا خوف واشٍ * وعين للخليفة لا تنام

لطفنا حول جذعك واستلمنا * كما للناس بالحجر استلام

فما أبصرت قبلك يا ابن يحيى * حساما فلَّه السيف الحسام

على اللذات والدنيا جميعا * ودولة آل برمكٍ السلام

قال: فاستدعاه الرشيد فقال له: كم كان يعطيك جعفر كل عام ؟

قال: ألف دينار.

فأمر له بألفي دينار.

وقال الزبير بن بكار: عن عمه مصعب الزبيري، قال: لما قتل الرشيد جعفرا وقفت امرأة على حمار فاره فقالت بلسان فصيح: والله يا جعفر لئن صرت اليوم آية لقد كنت في المكارم غاية، ثم أنشأت تقول:

ولما رأيت السيف خالط جعفرا * ونادى منادٍ للخليفة في يحيى

بكيت على الدنيا وأيقنت أنما * قصارى الفتى يوما مفارقة الدنيا

وما هي إلا دولة بعد دولة * تخوِّل ذا نعمى وتعقب ذا بلوى

إذا أنزلت هذا منازل رفعة * من الملك حطت إلى الغاية القصوى

قال: ثم حركت حمارها فذهبت فكأنها كانت ريحا لا أثر لها، ولا يعرف أين ذهبت.

وذكر ابن الجوزي: أن جعفرا كان له جارية يقال لها: فتينة مغنية، لم يكن لها في الدنيا نظير، كان مشتراها عليه بمن معها من الجواري مائة ألف دينار، فطلبها منه الرشيد فامتنع من ذلك، فلما قتله الرشيد اصطفى تلك الجارية فأحضرها ليلة في مجلس شرابه وعنده جماعة من جلسائه وسماره، فأمر من معها أن يغنين فاندفعت كل واحدة تغني، حتى انتهت النوبة إلى فتينة، فأمرها بالغناء فأسبلت دمعها وقالت: أما بعد السادة فلا.

فغضب الرشيد غضبا شديدا، وأمر بعض الحاضرين أن يأخذها إليه فقد وهبها له، ثم لما أراد الانصراف قال له فيما بينه وبينه: لا تطأها.

ففهم أنه إنما يريد بذلك كسرها.

فلما كان بعد ذلك أحضرها وأظهر أنه قد رضي عنها وأمرها بالغناء فامتنعت وأرسلت دمعها وقالت: أما بعد السادة فلا.

فغضب الرشيد أشد من غضبه في المرة الأولى وقال: النطع والسيف.

وجاء السياف فوقف على رأسها فقال له الرشيد: إذا أمرتك ثلاثا وعقدت أصابعي ثلاثا فاضرب.

ثم قال لها: غنِّ، فبكت وقالت: أما بعد السادة فلا.

فقعد أصبعه الخنصر، ثم أمرها الثانية فامتنعت، فعقد اثنتين، فارتعد الحاضرون وأشفقوا غاية الإشفاق وأقبلوا عليها يسألونها أن تغني لئلا تقتل نفسها، وأن تجيب أمير المؤمنين إلى ما يريد.

ثم أمرها الثالثة فاندفعت تغني كارهة:

لما رأيت الدنيا قد درست * أيقنت أن النعيم لم يعد

قال: فوثب إليها الرشيد وأخذ العود من يدها وأقبل يضرب به وجهها ورأسها حتى تكسر، وأقبلت الدماء وتطايرت الجوار من حولها، وحملت من بين يديه فماتت بعد ثلاث.

وروي أن الرشيد كان يقول: لعن الله من أغراني بالبرامكة، فما وجدت بعدهم لذة ولا راحة ولا رجاء، وددت والله أني شطرت نصف عمري وملكي وأني تركتهم على حالهم.

وحكى ابن خلكان: أن جعفرا اشترى جارية من رجل بأربعين ألف دينار، فالتفتت إلى بائعها وقالت: اذكر العهد الذي بيني وبينك، لا تأكل من ثمني شيئا.

فبكى سيدها وقال: اشهدوا أنها حرة، وأني قد تزوجتها.

فقال جعفر: اشهدوا أن الثمن له أيضا.

وكتب إلى نائب له: أما بعد فقد كثر شاكوك، وقل شاكروك، فإما أن تعدل، وإما تعتزل.

ومن أحسن ما وقع منه من التلطف في إزالة همِّ الرشيد، وقد دخل عليه منجم يهودي فأخبره أنه سيموت في هذه السنة، فحمل الرشيد هما عظيما، فدخل عليه جعفر فسأله: ما الخبر ؟

فأخبره بقول اليهودي فاستدعى جعفر اليهودي، فقال له: كم بقي لك من العمر؟ فذكر مدة طويلة.

فقال: يا أمير المؤمنين ! اقتله حتى تعلم كذبه فيما أخبر عن عمره.

فأمر الرشيد باليهودي فقتل، وسرِّي عن الرشيد الذي كان فيه.

وبعد مقتل البرامكة قتل الرشيد إبراهيم بن عثمان بن نهيك، وذلك أنه حزن على البرامكة، ولاسيما على جعفر، كان يكثر البكاء عليهم، ثم خرج من حيز البكاء إلى حيز الانتصار لهم والأخذ بثأرهم.

وكان إذا شرب في منزله يقول لجاريته: ائتني بسيفي، فيسله ثم يقول: والله لأقتلن قاتله.

فأكثر أن يقول ذلك، فخشي ابنه عثمان أن يطلع الخليفة على ذلك فيهلكهم عن آخرهم، ورأى أن أباه لا ينزع عن هذا، فذهب إلى الفضل بن الربيع فأعلمه، فأخبر الفضل الخليفة، فاستدعى به فاستخبره فأخبره، فقال: من يشهد معك عليه ؟

فقال: فلان الخادم.

فجاء به فشهد، فقال الرشيد: لا يحل قتل أمير كبير بمجرد قول غلام وخصي، لعلهما قد تواطآ على ذلك.

فأحضره الرشيد معه على الشراب ثم خلا به فقال: ويحك يا إبراهيم ! إن عندي سرا أحب أن أطلعك عليه، أقلقني في الليل والنهار.

قال: وما هو ؟

قال: إني ندمت على قتل البرامكة، ووددت أني خرجت من نصف ملكي ونصف عمري ولم أكن فعلت بهم ما فعلت، فإني لم أجد بعدهم لذة ولا راحة.

فقال: رحمة الله على أبي الفضل - يعني: جعفرا - وبكى، وقال: والله يا سيدي لقد أخطأت في قتله.

فقال له: قم لعنك الله، ثم حبسه، ثم قتله بعد ثلاثة أيام، وسلم أهله وولده.

وفي هذه السنة: غضب الرشيد على عبد الملك بن صالح بسبب أنه بلغه أنه يريد الخلافة، واشتد غضبه بسببه على البرامكة الذين هم في الحبوس، ثم سجنه فلم يزل في السجن حتى مات الرشيد، فأخرجه الأمين وعقد له على نيابة الشام.

وفيها: ثارت العصبية بالشام بين المضرية والنزارية، فبعث إليهم الرشيد محمد بن منصور بن زياد فأصلح بينهم.

وفيها: كانت زلزلة عظيمة بالمصيصة فانهدم بعض سورها ونضب ماؤها ساعة من الليل.

وفيها: بعث الرشيد ولده القاسم على الصائفة، وجعله قربانا ووسيلة بين يديه، وولاه العواصم، فسار إلى بلاد الروم فحاصرهم حتى افتدوا بخلق من الأسارى يطلقونهم ويرجع عنهم، ففعل ذلك.

وفيها: نقضت الروم الصلح الذي كان بينهم وبين المسلمين، الذي كان عقده الرشيد بينه وبين رني ملكة الروم الملقبة: أغسطه.

وذلك أن الروم عزلوها عنهم وملكوا عليهم النقفور، وكان شجاعا، يقال: إنه منه سلالة آل جفنة، فخلعوا رني وسملوا عينيها.

فكتب نقفور إلى الرشيد: من نقفور ملك الروم إلى هارون ملك العرب، أما بعد: فإن الملكة التي كانت قبلي أقامتك مقام الرخ، وأقامت نفسها مقام البيدق، فحملت إليك من أموالها ما كنت حقيقا بحمل أمثاله إليها، وذلك من ضعف النساء وحمقهن، فإذا قرأت كتابي هذا فاردد إلي ما حملته إليك من الأموال وافتد نفسك به، وإلا فالسيف بيننا وبينك.

فلما قرأ هارون الرشيد كتابه أخذه الغضب الشديد حتى لم يتمكن أحد أن ينظر إليه، ولا يستطيع مخاطبته، وأشفق عليه جلساؤه خوفا منه، ثم استدعى بدواة وكتب على ظهر الكتاب: بسم الله الرحمن الرحيم، من هارون أمير المؤمنين إلى نقفور كلب الروم. قد قرأت كتابك يا ابن الكافرة، والجواب ما تراه دون ما تسمعه والسلام.

ثم شخص من فوره وسار حتى نزل بباب هرقلة ففتحها واصطفى ابنة ملكها، وغنم من الأموال شيئا كثيرا، وخرب وأحرق، فطلب نقفور منه الموادعة على خراج يؤدِّيه إليه في كل سنة، فأجابه الرشيد إلى ذلك.

فلما رجع من غزوته وصار بالرقة نقض الكافر العهد وخان الميثاق، وكان البرد قد اشتد جدا، فلم يقدر أحد أن يجيء فيخبر الرشيد بذلك لخوفهم على أنفسهم من البرد، حتى يخرج فصل الشتاء.

وحج بالناس فيها عبد الله به عباس بن محمد بن علي.

ذكر من توفي فيها من الأعيان:

جعفر بن يحيى بن خالد بن برمك

أبو الفضل البرمكي، الوزير ابن الوزير، ولاه الرشيد الشام وغيرها من البلاد، وبعثه إلى دمشق لما ثارت الفتنة العشيران بحوران بين قيس ويمن، وكان ذلك أول نار ظهرت بين قيس ويمن في بلاد الإسلام، كان خامدا من زمن الجاهلية فأثاروه في هذا الأوان، فلما قدم جعفر بجيشه خمدت الشرور وظهر السرور، وقيلت في ذلك أشعار حسان، قد ذكر ذلك ابن عساكر في ترجمة جعفر من تاريخه، منها:

لقد أوقدت في الشام نيران فتنة * فهذا أوان الشام تخمد نارها

إذا جاش سوج البحر من آل برمك * عليها خبت شهبانها وشرارها

رماها أمير المؤمنين بجعفر * وفيه تلافى صدعها وانجبارها

هو الملك المأمول للبر والتقى * وصولاته لا يستطاع خطارها

وهي قصيدة طويلة، وكانت له فصاحة وبلاغة، وذكاء وكرم زائد، كان أبوه قد ضمه إلى القاضي أبي يوسف فتفقه عليه، وصار له اختصاص بالرشيد، وقد وقع ليلة بحضرة الرشيد زيادة على ألف توقيع، ولم يخرج في شيء منها عن موجب الفقه.

وقد روى الحديث عن أبيه، عن عبد الحميد الكاتب، عن عبد الملك بن مروان كاتب عثمان، عن زيد بن ثابت كاتب الوحي، قال: قال رسول الله : «إذا كتبت بسم الله الرحمن الرحيم فبيِّن السين فيه».

رواه الخطيب وابن عساكر، من طريق أبي القاسم الكعبي المتكلم، واسمه: عبد الله بن أحمد البلخي - وقد كان كاتبا لمحمد بن زيد -، عن أبيه، عن عبد الله بن طاهر بن الحسين بن زريق، عن الفضل بن سهل ذي الرياستين، عن جعفر بن يحيى، به.

وقال عمرو بن بحر الجاحظ: قال جعفر للرشيد: يا أمير المؤمنين ! قال لي أبي يحيى: إذا أقبلت الدنيا عليك فأعط، وإذا أدبرت فأعط، فإنها لا تبقى، وأنشدني أبي:

لا تبخلن لدنيا وهي مقبلة * فليس ينقصها التبذير والسرف

فإن تولَّت فأحرى أن تجود بها * فالحمد منها إذا ما أدبرت خلف

قال الخطيب: ولقد كان جعفر من علوِّ القدر ونفاذ الأمر وعظم المحل وجلالة المنزلة عند الرشيد على حالة انفرد بها، ولم يشاركه فيها أحد.

وكان سمح الأخلاق، طلق الوجه، ظاهر البشر.

أما جوده وسخاؤه وبذله وعطاؤه فأشهر من أن يذكر.

وكان أيضا من ذوي الفصاحة والمذكورين بالبلاغة.

وروى ابن عساكر، عن مهذب حاجب العباس بن محمد صاحب قطيعة العباس والعباسية: أنه أصابته فاقة وضائقة، وكان عليه ديون، فألح عليه المطالبون وعنده سفط فيه جواهر شراؤه عليه ألف ألف، فأتى به جعفرا فعرضه عليه وأخبره بما هو عليه من الثمن، وأخبره بإلحاح المطالبين بديونهم، وأنه لم يبق له سوى هذا السفط.

فقال: قد اشتريته منك بألف ألف، ثم أقبضه المال وقبض السفط منه، وكان ذلك ليلا.

ثم أمر من ذهب بالمال إلى منزله وأجلسه معه في السمر تلك الليلة، فلما رجع إلى منزله إذا السفط قد سبقه إلى منزله أيضا.

قال: فلما أصبحت غدوت إلى جعفر لأتشكر له فوجدته مع أخيه الفضل على باب الرشيد يستأذنان عليه، فقال له جعفر: إني قد ذكرت أمرك للفضل، وقد أمر لك بألف ألف، وما أظنها إلا قد سبقتك إلى منزلك، وسأفاوض فيك أمير المؤمنين.

فلما دخل ذكر له أمره وما لحقه من الديون فأمر له بثلاثمائة ألف دينار.

وكان جعفر ليلة في سمره عند بعض أصحابه، فجاءت الخنفساء فركبت ثياب الرجل فألقاها عنه جعفر، وقال: إن الناس يقولون: من قصدته الخنفساء يبشر بمال يصيبه، فأمر له جعفر بألف دينار.

ثم عادت الخنفساء، فرجعت إلى الرجل فأمر له بألف دينار أخرى.

وحج مرة مع الرشيد فلما كانوا بالمدينة قال لرجل من أصحابه: انظر جارية اشتريها تكون فائقة في الجمال والغناء والدعابة، ففتش الرجل فوجد جارية على النعت فطلب سيدها فيها مالا كثيرا على أن يراها جعفر، فذهب جعفر إلى منزل سيدها فلما رآها أعجب بها، فلما غنته أعجبته أكثر، فساومه صاحبها فيها.

فقال له جعفر: قد أحضرنا مالا فإن أعجبك وإلا زدناك.

فقال لها سيدها: إني كنت في نعمة وكنت عندي في غاية السرور، وإنه قد انقبض علي حالي، وإني قد أحببت أن أبيعك لهذا الملك، لكي تكوني عنده كما كنت عندي.

فقالت له الجارية: والله يا سيدي لو ملكت منك كما ملكت مني لم أبعك بالدنيا وما فيها، وأين ما كنت عاهدتني أن لا تبيعني ولا تأكل من ثمني.

فقال سيدها لجعفر وأصحابه: أشهدكم أنها حرة لوجه الله، وأني قد تزوجتها.

فلما قال ذلك نهض جعفر وقام أصحابه وأمروا الحمال أن يحمل المال.

فقال جعفر: والله لا يتبعني.

وقال للرجل: قد ملكتك هذا المال فأنفقه على أهلك، وذهب وتركه.

هذا وقد كان يبخل بالنسبة إلى أخيه الفضل، إلا أن الفضل كان أكثر منه مالا.

وروى ابن عساكر من طريق الدارقطني بسنده: أنه لما أصيب جعفر وجدوا له في جرة ألف دينار، زنة كل دينار مائة دينار، مكتوب على صفحة الدينار جعفر:

وأصفر من ضرب دار الملوك * يلوح على وجهه جعفر

يزيد على مائة واحدا * متى تعطه معسرا يوسر

وقال أحمد بن المعلى الرواية: كتبت عنان جارية الناطفي لجعفر تطلب منه أن يقول لأبيه يحيى أن يشير علي الرشيد بشرائها، وكتبت إليه هذه الأبيات من شعرها في جعفر:

يا لائمي جهلا ألا تقصر * من ذا علي حر الهوى يصبر

لا تلحني إذا شربت الهوى * صرفا فممزوج الهوى سكر

أحاط بي الحب فخلفي له * بحر وقدامي له أبحر

تخفق رايات الهوى بالردى * فوقي وحولي للهوى عسكر

سيَّان عندي في الهوى لائم * أقلَّ فيه والذي يكثر

أنت المصفى من بني برمك * يا جعفر الخيرات يا جعفر

لا يبلغ الواصف في وصفه * ما فيك من فضل ولا يعشر

من وفر المال لأغراضه * فجعفر أغراضه أوفر

ديباجة الملك على وجهه * وفي يديه العارض الممطر

سحت علينا منهما ديمة * ينهل منها الذهب الأحمر

لو مسحت كفاه جلمودة * نضر فيها الورق الأخضر

لا يستتم المجد إلا فتى * يصبر للبذل كما يصبر

يهتز تاج الملك من فوقه * فخرا ويزهى تحته المنبر

أشبهه البدر إذا ما بدا * أو غرة في وجهه يزهر

والله ما أدري أبدر الدجى * في وجهه أم وجهه أنور

يستمطر الزوار منك الندى * وأنت بالزوار تستبشر

وكتبت تحت أبياتها حاجتها، فركب من فوره إلى أبيه فأدخله على الخليفة فأشار عليه بشرائها فقال: لا ! والله لا أشتريها، وقد قال فيها الشعراء فأكثروا، واشتهر أمرها، وهي التي يقول فيها أبو نواس:

لا يشتريها إلا ابن زانية * أو قلطبان يكون من كانا

وعن ثمامة بن أشرس، قال: بت ليلة مع جعفر بن يحيى بن خالد، فانتبه من منامه يبكي مذعورا، فقلت: ما شأنك ؟

قال: رأيت شيخا جاء فأخذ بعضادتي هذا الباب وقال:

كأن لم يكن بين الحجون إلى الصفا * أنيس ولم يسمر بمكة سامر

قال فأجبته:

بلى نحن كنا أهلها فأبادنا * صروف الليالي والجدود العواثر

قال ثمامة: فلما كانت الليلة القابلة قتله الرشيد ونصب رأسه على الجسر، ثم خرج الرشيد فنظر إليه فتأمله ثم أنشأ يقول:

تقاضاك دهرك ما أسلفا * وكدر عيشك بعد الصفا

فلا تعجبن فإن الزمان * رهين بتفريق ما ألفا

قال: فنظرت إلى جعفر وقلت: أما لئن أصبحت اليوم آية فلقد كنت في الكرم والجود غاية.

قال: فنظر إلي كأنه جمل صؤول ثم أنشأ يقول:

ما يعجب العالم من جعفر * ما عاينوه فبنا كانا

من جعفر أو من أبوه ومن * كانت بنو برمك لولانا

ثم حول وجه فرسه وانصرف.

وقد كان مقتل جعفر ليلة السبت مستهل صفر من سنة سبع وثمانين ومائة، وكان عمره سبعا وثلاثين سنة، ومكث وزيرا سبع عشرة سنة.

وقد دخلت عبادة أم جعفر على أناس في يوم عيد أضحى تستمنحهم جلد كبش تدفأ به، فسألوها عن ما كانت فيه من النعمة فقالت: لقد أصبحت في مثل هذا اليوم وإن على رأسي أربعمائة وصيفة، وأقول إن ابني جعفرا عاق لي.

وروى الخطيب البغدادي بإسناده: أن سفيان بن عيينة لما بلغه قتل الرشيد جعفرا وما أحل بالبرامكة، استقبل القبلة وقال: اللهم إن جعفرا كان قد كفاني مؤنة الدنيا فاكفه مؤنة الآخرة.

حكاية غريبة

ذكر ابن الجوزي في المنتظم أن المأمون بلغه أن رجلا يأتي كل يوم إلى قبور البرامكة فيبكي عليهم ويندبهم، فبعث من جاء به فدخل عليه وقد يئس من الحياة.

فقال له: ويحك ! ما يحملك على صنيعك هذا ؟

فقال: يا أمير المؤمنين ! إنهم أسدوا إلي معروفا وخيرا كثيرا.

فقال: وما الذي أسدوه إليك ؟

فقال: أنا المنذر بن المغيرة من أهل دمشق، كنت بدمشق في نعمة عظيمة واسعة، فزالت عني حتى أفضى بي الحال إلى أن بعت داري، ثم لم يبق لي شيء.

فأشار بعض أصحابي عليَّ بقصد البرامكة ببغداد، فأتيت أهلي وتحملت بعيالي، فأتيت بغداد ومعي نيف وعشرون امرأة فأنزلتهن في مسجد مهجور ثم قصدت مسجدا مأهولا أصلي فيه.

فدخلت مسجدا فيه جماعة لم أر أحسن وجوها منهم، فجلست إليهم فجعلت أدبر في نفسي كلاما أطلب به منهم قوتا للعيال الذين معي، فيمنعني من ذلك السؤال الحياء.

فبينا أنا كذلك إذا بخادم قد أقبل فدعاهم فقاموا كلهم وقمت معهم، فدخلوا دارا عظيمةً، فإذا الوزير يحيى بن خالد جالس فيها فجلسوا حوله، فعقد عقد ابنته عائشة على ابن عم له ونثروا فلق المسك وبنادق العنبر، ثم جاء الخدم إلى كل واحد من الجماعة بصينية من فضة فيها ألف دينار، ومعها فتات المسك.

فأخذها القوم ونهضوا وبقيت أنا جالسا، وبين يدي الصينية التي وضعوها لي، وأنا أهاب أن آخذها من عظمتها في نفسي، فقال لي بعض الحاضرين: ألا تأخذها وتذهب ؟

فمددت يدي فأخذتها فأفرغت ذهبها في جيبي وأخذت الصينية تحت إبطي وقمت، وأنا خائف أن تؤخذ مني، فجعلت أتلفت والوزير ينظر إلي وأنا لا أشعر.

فلما بلغت الستارة أمرهم فردوني فيئست من المال، فلما رجعت قال لي: ما شأنك خائف ؟

فقصصت عليه خبري، فبكى ثم قال لأولاده: خذوا هذا فضموه إليكم.

فجاءني خادم فأخذ مني الصينية والذهب وأقمت عندهم عشرة أيام من ولد إلى ولد، وخاطري كله عند عيالي، ولا يمكنني الانصراف.

فلما انقضت العشرة الأيام جاءني خادم فقال: ألا تذهب إلى عيالك ؟

فقلت: بلى ! والله، فقام يمشي أمامي ولم يعطني الذهب ولا الصينية.

فقلت: يا ليت هذا كان قبل أن يؤخذ مني الصينية والذهب، ياليت عيالي رأوا ذلك.

فسار يمشي أمامي إلى دار لم أر أحسن منها، فدخلتها فإذا عيالي يتمرغون في الذهب والحرير فيها، وقد بعثوا إلى الدار مائة ألف درهم وعشرة آلاف دينار، وكتابا فيه تمليك الدار بما فيها، وكتابا آخر فيه تمليك قريتين جليلتين.

فكنت مع البرامكة في أطيب عيش، فلما أصيبوا أخذ مني عمرو بن مسعدة القريتين وألزمني بخراجهما، فكلما لحقتني فاقة قصدت دورهم وقبورهم فبكيت عليهم.

فأمر المأمون بردِّ القريتين، فبكى الشيخ بكاءً شديدا فقال المأمون: مالك؟ ألم استأنف بك جميلا ؟

قال: بلى ! ولكن هو من بركة البرامكة.

فقال له المأمون: امض مصاحبا فإن الوفاء مبارك، ومراعاة حسن العهد والصحبة من الإيمان.

وفيها توفي:

الفضيل بن عياض

أبو علي التميمي، أحد أئمة العباد الزهاد، وهو أحد العلماء والأولياء، ولد بخراسان بكورة دينور، وقدم الكوفة وهو كبير.

فسمع بها: الأعمش، ومنصور بن المعتمر، وعطاء بن السائب، وحصين بن عبد الرحمن، وغيرهم.

ثم انتقل إلى مكة فتعبد بها، وكان حسن التلاوة كثير الصلاة والصيام، وكان سيدا جليلا ثقةً من أئمة الرواية رحمه الله ورضي عنه.

وله مع الرشيد قصة طويلة، وقد روينا ذلك مطولا في كيفية دخول الرشيد عليه منزله، وما قال له الفضيل بن عياض، وعرض عليه الرشيد المال فأبى أن يقبل منه ذلك.

توفي بمكة في المحرم من هذه السنة.

وذكروا أنه كان شاطرا يقطع الطريق، وكان يتعشق جارية، فبينما هو ذات ليلة يتسور عليها جدارا إذ سمع قارئا يقرأ: { أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ } [الحديد: 16] .

فقال: بلى ! وتاب وأقلع عما كان عليه.

ورجع إلى خربة فبات بها، فسمع سفارا يقولون: خذوا حذركم إن فضيلا أمامكم يقطع الطريق، فأمنهم واستمر على توبته حتى كان منه ما كان من السيادة والعبادة والزهادة، ثم صار علما يقتدى به ويهتدى بكلامه وفعاله.

قال الفضيل: لو أن الدنيا كلها حلال لا أحاسب بها لكنت أتقذرها كما يتقذر أحدكم الجيفة إذا مر بها أن تصيب ثوبه.

وقال: العمل لأجل الناس شرك، وترك العمل لأجل الناس رياء، والإخلاص أن يعافيك الله منهما.

وقال له الرشيد يوما: ما أزهدك.

فقال: أنت أزهد مني لأني أنا زهدت في الدنيا التي هي أقل من جناح بعوضة، وأنت زهد في الآخرة التي لا قيمة لها، فأنا زاهد في الفاني وأنت زاهد في الباقي، ومن زهده في درة أزهد ممن زهد في بعرة.

وقد روي مثل هذا عن أبي حازم، أنه قال: ذلك لسليمان بن عبد الملك.

وقال: لو أن لي دعوة مستجابة لجعلتها للإمام، لأن به صلاح الرعية، فإذا صلح أمنت العباد والبلاد.

وقال: إني لأعصي الله فأعرف ذلك في خلق حماري وخادمي وامرأتي وفأر بيتي.

وقال في قوله تعالى: { لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلا } [الملك: 2] قال: يعني أخلصه وأصوبه، إن العمل يجب أن يكون خالصا لله، وصوابا على متابعة النبي .

وفيها توفي:

بشر بن المفضل، وعبد السلام بن حرب، وعبد العزيز بن محمد الدراوردي، وعبد العزيز العمي.

وعلي بن عيسى، الأمير ببلاد الروم مع القاسم بن الرشيد في الصائفة. ومعتمر بن سليمان.

وأبو شعيب البراثي

الزاهد، وكان أول من سكن براثا في كوخ له يتعبد فيه، فهويته امرأة من بنات الرؤساء فانخلعت مما كانت فيه من الدنيا والسعادة والحشمة، وتزوجته وأقامت معه في كوخه تتعبد حتى ماتا، يقال: إن اسمها جوهرة.

ثم دخلت سنة ثمان وثمانين ومائة

فيها: غزا إبراهيم بن إسرائيل الصائفة، فدخل بلاد الروم من درب الصفصاف، فخرج النقفور للقائه، فجرح النقفور ثلاث جراح، وانهزم، وقتل من أصحابه أكثر من أربعين ألفا، وغنموا أكثر من أربعة آلاف دابة.

وفيها: رابط القاسم بن الرشيد بمرج دابق.

وفيها: حج بالناس الرشيد، وكانت آخر حجاته.

وقد قال أبو بكر حين رأى الرشيد منصرفا من الحج - وقد اجتاز بالكوفة - لا يحج الرشيد بعدها، ولا يحج بعده خليفة أبدا.

وقد رأى الرشيد بهلول الموله فوعظه موعظة حسنة، فروينا من طريق الفضل بن الربيع الحاجب، قال: حججت مع الرشيد فمررنا بالكوفة فإذا بهلول المجنون يهذي.

فقلت: اسكت فقد أقبل أمير المؤمنين، فسكت.

فلما حاذاه الهودج قال: يا أمير المؤمنين، حدثني أيمن بن نائل، ثنا قدامة بن عبد الله العامري، قال: رأيت النبي بمنى على جمل وتحته رحل رث، ولم يكن ثمَّ طرد ولا ضرب ولا إليك إليك.

قال الربيع: فقلت: يا أمير المؤمنين ! إنه بهلول.

فقال: قد عرفته.

قل: يا بهلول فقال:

هب أن قد ملكت الأرض طرا * ودان لك العباد فكان ماذا

أليس غدا مصيرك جوف قبر * ويحثو عليك التراب هذا ثم هذا

قال: أجدت يا بهلول، أفغيره ؟

قال: نعم يا أمير المؤمنين ! من رزقه الله مالا وجمالا فعف في جماله، وواسى في ماله، كتب في ديوان الله من الأبرار.

قال: فظن أنه يريد شيئا.

فقال: إنا أمرنا بقضاء دينك.

فقال: لا تفعل يا أمير المؤمنين، لا يقضى دين بدين، اردد الحق إلى أهله، واقض دين نفسك من نفسك.

قال: إنا أمرنا أن يجرى عليك رزق تقتات به.

قال: لا تفعل يا أمير المؤمنين فإنه سبحانه لا يعطيك وينساني، وها أنا قد عشت عمرا لم تجر علي رزقا، انصرف لا حاجة لي في جرايتك.

قال: هذه ألف دينار خذها.

فقال: ارددها على أصحابها فهو خير لك، وما أصنع أنا بها؟ انصرف عني فقد آذيتني.

قال: فانصرف عنه الرشيد وقد تصاغرت عنده الدنيا.

وممن توفي فيها من الأعيان:

أبو إسحاق الفزاري

إبراهيم بن محمد بن الحارث بن إسماعيل بن خارجة، إمام أهل الشام في المغازي وغير ذلك.

أخذ عن: الثوري، والأوزاعي، وغيرهما.

توفي في هذه السنة، وقيل: قبلها.

وإبراهيم الموصلي

النديم، وهو إبراهيم بن ماهان بن بهمن، أبو إسحاق، أحد الشعراء والمغنين والندماء للرشيد وغيره، أصله من الفرس وولد بالكوفة وصحب شبانها وأخذ عنهم الغناء، ثم سافر إلى الموصل ثم عاد إلى الكوفة، فقالوا: الموصلي.

ثم اتصل بالخلفاء أولهم المهدي وحظي عند الرشيد، وكان من جملة سماره وندمائه ومغنيه، وقد أثرى وكثر ماله جدا، حتى قيل: إنه ترك أربعة وعشرين ألف ألف درهم، وكانت له طرف وحكايات غريبة.

وكان مولده سنة خمس عشرة ومائة في الكوفة، ونشأ في كفالة بني تميم، فتعلم منهم ونسب إليهم، وكان فاضلا بارعا في صناعة الغناء، وكان مزوجا بأخت المنصور الملقب: بزلزل، الذي كان يضرب معه، فإذا غنى هذا وضرب هذا اهتز المجلس.

توفي في هذه السنة على الصحيح، وحكى ابن خلكان في الوفيات أنه توفي وأبو العتاهية وأبو عمرو الشيباني ببغداد في يوم واحد، من سنة ثلاث عشرة ومائتين، وصحح الأول.

ومن قوله في شعره عند احتضاره قوله:

ملَّ والله طبيبي * من مقاساة الذي بي

سوف أنعى عن قريب * لعدو وحبيب

وفيها مات:

جرير بن عبد الحميد، ورشد بن سعد، وعبدة بن سليمان، وعقبة بن خالد، وعمر بن أيوب، العابد، أحد مشايخ أحمد بن حنبل، عيسى بن يونس. في قول.

ثم دخلت سنة تسع وثمانين ومائة

فيها: رجع الرشيد من الحج وسار إلى الري فولى وعزل.

وفيها: رد علي بن عيسى إلى ولاية خراسان، وجاءه نواب تلك البلاد بالهدايا والتحف من سائر الأشكال والألوان.

ثم عاد إلى بغداد فأدركه عيد الأضحى بقصر اللصوص فضحى عنده، ودخل إلى بغداد لثلاث بقين من ذي الحجة، فلما اجتاز بالجسر أمر بجثة جعفر بن يحيى البرمكي فأحرقت ودفنت، وكانت مصلوبة من حين قتل إلى هذا اليوم.

ثم ارتحل الرشيد من بغداد إلى الرقة ليسكنها وهو متأسف على بغداد وطيبها، وإنما مراده بمقامه بالرقة ردع المفسدين بها، وقد قال العباس بن الأحنف في خروجهم من بغداد مع الرشيد:

ما أنخنا حتى ارتحلنا فما نـ * ـفرق بين المناخ والارتحال

ساءلونا عن حالنا إذ قدمنا * فقرَّنا وداعهم بالسؤال

وفيها: فادى الرشيد الأسارى من المسلمين الذين كانوا ببلاد الروم، حتى يقال: إنه لم يترك بها أسيرا من المسلمين.

فقال فيه بعض الشعراء:

وفكت بك الأسرى التي شيدت لها * محابس ما فيها حميم يزورها

على حين أعيا المسلمين فكاكها * وقالوا سجون المشركين قبورها

وفيها: رابط القاسم بن الرشيد بمرج دابق يحاصر الروم.

وفيها: حج بالناس العباس بن موسى بن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس.

ذكر من توفي فيها من الأعيان:

علي بن حمزة

ابن عبد الله بن فيروز، أبو الحسن الأسدي مولاهم، الكوفي المعروف بالكسائي لإحرامه في كساء، وقيل: لاشتغاله على حمزة الزيات في كساء.

كان نحويا لغويا أحد أئمة القراء، أصله من الكوفة ثم استوطن بغداد، فأدب الرشيد وولده الأمين، وقد قرأ على حمزة بن حبيب الزيات قراءته، وكان يقرئ بها، ثم اختار لنفسه قراءة وكان يقرأ بها.

وقد روى عن: أبي بكر بن عياش، وسفيان بن عيينة، وغيرهما.

وعنه: يحيى بن زياد الفراء، وأبو عبيد.

قال الشافعي: من أراد النحو فهو عيال على الكسائي.

أخذ الكسائي عن الخليل صناعة النحو فسأله يوما: عن من أخذت هذا العلم ؟

قال: من بوادي الحجاز.

فرحل الكسائي إلى هناك فكتب عن العرب شيئا كثيرا، ثم عاد إلى الخليل فإذا هو قد مات وتصدر في موضعه يونس، فجرت بينهما مناظرات أقر له فيها يونس بالفضل، وأجلسه في موضعه.

قال الكسائي: صليت يوما بالرشيد فأعجبتني قراءتي، فغلطت غلطة ما غلطها صبي، أردت أن أقول لعلهم يرجعون، فقلت: لعلهم ترجعين، فما تجاسر الرشيد أن يردها.

فلما سلمت قال: أي لغة هذه ؟

فقلت: إن الجواد قد يعثر.

فقال: أما هذا فنعم.

وقال بعضهم: لقيت الكسائي فإذا هو مهموم، فقلت: مالك ؟

فقال: إن يحيى بن خالد قد وجه إلي ليسألني عن أشياء فأخشى من الخطأ.

فقلت: قل ما شئت فأنت الكسائي.

فقال: قطعه الله - يعني: لسانه - إن قلت ما لم أعلم.

وقال الكسائي يوما: قلت لنجار: بكم هذان البابان ؟

فقال: بسالجيان يا مصفعان.

توفي الكسائي في هذه السنة على المشهور، عن سبعين سنة.

وكان في صحبة الرشيد ببلاد الري فمات بنواحيها هو ومحمد بن الحسن في يوم واحد، وكان الرشيد يقول: دفنت الفقه والعربية بالري.

قال ابن خلكان: وقيل: إن الكسائي توفي بطوس سنة ثنتين وثمانين ومائة.

وقد رأى بعضهم الكسائي في المنام ووجهه كالبدر فقال: ما فعل بك ربك ؟

فقال: غفر لي بالقرآن.

فقلت: ما فعل حمزة ؟

قال: ذاك في عليين ما نراه إلا كما نرى الكوكب.

وفيها توفي:

محمد بن الحسن بن زفر

أبو عبد الله الشيباني مولاهم، صاحب أبي حنيفة.

أصله من قرية من قرى دمشق، قدم أبوه العراق فولد بواسط سنة ثنتين ومائة، ونشأ بالكوفة.

فسمع من: أبي حنيفة، ومسعر، والثوري، وعمر بن ذر، ومالك بن مغول.

وكتب عن: مالك بن أنس، والأوزاعي، وأبي يوسف.

وسكن بغداد وحدث بها، وكتب عنه الشافعي حين قدمها في سنة أربع وثمانين ومائة، وولاه الرشيد قضاء الرقة ثم عزله.

وكان يقول لأهله: لا تسألوني حاجة من حاجات الدنيا فتشغلوا قلبي، وخذوا ما شئتم من مالي فإنه أقل لهمي وأفرغ لقلبي.

وقال الشافعي: ما رأيت حبرا سمينا مثله، ولا رأيت أخف روحا منه، ولا أفصح منه، كنت إذا سمعته يقرأ القرآن كأنما ينزل القرآن بلغته.

وقال أيضا: ما رأيت أعقل منه، كان يملأ العين والقلب.

قال الطحاوي: كان الشافعي قد طلب من محمد بن الحسن كتاب السير فلم يجبه إلى الإعارة، فكتب إليه:

قل للذي لم تر عيناي مثله * حتى كأن من رآه قد رأى من قبله

العلم ينهى أهله أن يمنعوه أهله * لعله ببذله لأهله لعله

قال: فوجه به إليه في الحال هدية لا عارية.

وقال إبراهيم الحربي: قيل لأحمد بن حنبل: هذه المسائل الدقاق من أين هي لك ؟

قال: من كتب محمد بن الحسن رحمه الله.

وقد تقدم أنه مات هو والكسائي في يوم واحد من هذه السنة.

فقال الرشيد: دفنت اليوم اللغة والفقه جميعا.

وكان عمره ثمانية وخمسين سنة.

ثم دخلت سنة تسعين ومائة من الهجرة

فيها: خلع رافع بن ليث بن نصر بن سيار نائب سمرقند الطاعة ودعا إلى نفسه، وتابعه أهل بلده وطائفة كثيرة من تلك الناحية، واستفحل أمره، فسار إليه نائب خراسان علي بن عيسى فهزمه رافع وتفاقم الأمر به.

وفيها: سار الرشيد لغزو بلاد الروم لعشر بقين من رجب، وقد لبس على رأسه قلنسوة، فقال فيها أبو المعلا الكلابي:

فمن يطلب لقاءك أو يرده * فبالحرمين أو أقصى الثغور

ففي أرض العدو على طمر * وفي أرض الترفه فوق كور

وما حاز الثغور سواك خلق * ومن المتخلفين على الأمور

فسار حتى وصل إلى الطوانة فعسكر بها وبعث إليه نقفور بالطاعة وحمل الخراج والجزية حتى عن رأس ولده ورأسه، وأهل مملكته، في كل سنة خمسة عشر ألف دينار، وبعث يطلب من الرشيد جارية قد أسروها وكانت ابنة ملك هرقلة، وكان قد خطبها على ولده، فبعث بها الرشيد مع هدايا وتحف وطيب بعث يطلبه من الرشيد، واشترط عليه الرشيد أن يحمل في كل سنة ثلثمائة ألف دينار، وأن لا يعمر هرقلة.

ثم انصرف الرشيد راجعا واستناب على الغزو عقبة بن جعفر.

ونقض أهل قبرص العهد فغزاهم معيوف بن يحيى فسبى أهلها، وقتل منهم خلقا كثيرا.

وخرج رجل من عبد القيس فبعث إليه الرشيد من قتله.

وحج بالناس فيها عيسى بن موسى الهادي.

من توفي فيها من الأعيان والمشاهير:

أسد بن عمرو

ابن عامر، أبو المنذر البجلي الكوفي، صاحب أبي حنيفة، حكم ببغداد وبواسط، فلما انكف بصره عزل نفسه عن القضاء.

قال أحمد بن حنبل: كان صدوقا.

ووثقه ابن معين، وتكلم فيه علي بن المديني، والبخاري، وسعدون المجنون صام ستين سنة فخف دماغه فسماه الناس: مجنونا، وقف يوما على حلقة ذي النون المصري فسمع كلامه فصرخ ثم أنشأ يقول:

ولا خير في شكوى إلى غير مشتكى * ولا بد من شكوى إذا لم يكن صبر

وقال الأصمعي: مررت به وهو جالس عند رأس شيخ سكران يذب عنه.

فقلت له: مالي أراك عند رأس هذا الشيخ ؟

فقال: إنه مجنون.

فقلت: أنت مجنون أو هو ؟

قال: لا ! بل هو، لأني صليت الظهر والعصر في جماعة وهو لم يصل جماعة ولا فرادى، وهو مع هذا قد شرب الخمر وأنا لم أشربها.

قلت: فهل قلت في هذا شيئا ؟

قال: نعم، ثم أنشأ يقول:

تركت النبيذ لأهل النبيذ * وأصبحت أشرب ماء قراحا

لأن النبيذ يذل العزيز * ويكسو السواد الوجوه الصباحا

فإن كان ذا جائزا للشباب * فما العذر منه إذا الشيب لاحا

قال الأصمعي: فقلت له: صدقت، أنت العاقل وهو المجنون.

وعبيدة بن حميد

ابن صهيب، أبو عبد الرحمن التميمي الكوفي، مؤدب الأمين.

روى عن: الأعمش، وغيره.

وعنه: أحمد بن حنبل، وكان يثني عليه.

وفيها توفي:

يحيى بن خالد بن برمك

أبو علي الوزير، والد جعفر البرمكي، ضم إليه المهدي ولده الرشيد فرباه، وأرضعنه امرأته مع الفضل بن يحيى، فلما ولي الرشيد عرف له حقه، وكان يقول: قال أبي، قال أبي.

وفوض إليه أمور الخلافة وأزمتها، ولم يزل كذلك حتى نكبت البرامكة فقتل جعفر وخلد أباه يحيى في الحبس حتى مات في هذه السنة.

وكان كريما فصيحا، ذا رأي سديد، يظهر من أموره خير وصلاح.

قال يوما لولده: خذوا من كل شيء طرفا، فإن من جهل شيئا عاداه.

وقال لأولاده: اكتبوا أحسن ما تسمعون، واحفظوا أحسن ما تكتبون، وتحدثوا بأحسن ما تحفظون.

وكان يقول لهم: إذا أقبلت الدنيا فأنفقوا منها فإنها لا تبقى، وإذا أدبرت فأنفقوا منها فإنها لا تبقى.

وكان إذا سأله في الطريق وهو راكب أقل ما يأمر له بمائتي درهم، فقال رجل يوما:

يا سميَّ الحصور يحيى * أتيحت لك من فضل ربنا جنتان

كل من مر في الطريق عليكم * فله من نوالكم مائتان

مائتا درهم لمثلي قليل * هي للفارس العجلان

فقال: صدقت.

وأمر فسبق به إلى الدار، فلما رجع سأل عنه فإذا هو قد تزوج وهو يريد أن يدخل على أهله فأعطاه صداقها أربعة آلاف، وعن دار أربعة آلاف، وعن الأمتعة أربعة آلاف.

وكلفه الدخول أربعة آلاف، وأربعة آلاف يستظهر بها.

وجاء رجل يوما فسأله شيئا فقال: ويحك ! لقد جئتني في وقت لا أملك فيه مالا، وقد بعث إلي صاحب لي يطلب مني أن يهدي إلي ما أحب، وقد بلغني أنك تريد أن تبيع جارية لك، وأنك قد أعطيت فيها ثلاثة آلاف دينار، وإني سأطلبها فلا تبعها منه بأقل من ثلاثين ألف دينار.

فجاؤوني فبلغوا معي بالمساومة إلى عشرين ألف دينار، فلما سمعتها ضعف قلبي عن ردها، وأجبت إلى بيعها، فأخذها وأخذت العشرين ألف دينار.

فأهداها إلى يحيى، فلما اجتمعت بيحيى قال: بكم بعتها ؟

قلت: بعشرين ألف دينار.

قال: إنك لخسيس خذ جاريتك إليك وقد بعث إلي صاحب فارس يطلب مني أن أستهديه شيئا، وإني سأطلبها منه فلا تبعها بأقل من خمسين ألف دينار.

فجاؤوني فوصلوا في ثمنها إلى ثلاثين ألف دينار، فبعتها منهم.

فلما جئته لامني أيضا وردها عليَّ، فقلت: أشهدك أنها حرة وإني قد تزوجتها.

وقلت: جارية قد أفادتني خمسين ألف دينار لا أفرط فيها بعد اليوم.

وذكر الخطيب أن الرشيد طلب من منصور بن زياد عشرة آلاف ألف درهم، ولم يكن عنده منها سوى ألف ألف درهم، فضاق ذرعا، وقد توعده بالقتل وخراب الديار إن لم يحملها في يومه ذلك، فدخل على يحيى بن خالد وذكر أمره فأطلق له خمسة آلاف ألف، واستطلق له من ابنه الفضل ألفي ألف.

وقال لابنه: يا بني ! بلغني أنك تريد أن تشتري بها ضيعة، وهذه ضيعة تغل الشكر وتبقى مدى الدهر.

وأخذ له من ابنه جعفر ألف ألف، ومن جاريته دنانير عقدا اشتراه بمائة ألف دينار، وعشرون ألف دينار.

وقال للمترسم عليه: قد حسبناه عليك بألفي ألف.

فلما عرضت الأموال على الرشيد رد العقد، وكان قد وهبه لجارية يحيى، فلم يعد فيه بعد إذ وهبه.

وقال له بعض بنيه وهم في السجن والقيود: يا أبت ! بعد الأمر والنهي والنعمة صرنا إلى هذا الحال.

فقال: يا بني ! دعوة مظلوم سرت بليل ونحن عنها غافلون ولم يغفل الله عنها.

ثم أنشأ يقول:

رب قوم قد غدوا في نعمة * زمنا والدهر ريان غدق

سكت الدهر زمانا عنهم * ثم أبكاهم دما حين نطق

وقد كان يحيى بن خالد هذا يجري على سفيان بن عيينة كل شهر ألف درهم، وكان سفيان يدعو له سجوده يقول: اللهم إنه قد كفاني المؤنة وفرغني للعبادة فاكفه أمر آخرته.

فلما مات يحيى رآه بعض أصحابه في المنام فقال: ما فعل الله بك ؟

قال: غفر لي بدعاء سفيان.

وقد كان وفاة يحيى بن خالد رحمه الله في الحبس في الرافقة لثلاث خلون من المحرم من هذه لسنة، عن سبعين سنة، وصلى عليه ابنه الفضل، ودفن على شط الفرات، وقد وجد في جيبه رقعة مكتوب فيها بخطه: قد تقدم الخصم والمدعى عليه بالأثر، والحاكم الحكم العدل الذي لا يجور ولا يحتاج إلى بيِّنة.

فحملت إلى الرشيد فلما قرأها بكى يومه ذلك، وبقي أياما يتبين الأسى في وجهه.

وقد قال بعض الشعراء في يحيى بن خالد:

سألت الندا هل أنت حر فقال لا * ولكنني عبد ليحيى بن خالد

فقلت شراء قال لا بل وراثة * توارث رقي والد بعد والد

ثم دخلت سنة إحدى وتسعين ومائة

فيها: خرج رجل بسواد العراق يقال له: ثروان بن سيف، وجعل يتنقل فيها من بلد إلى بلد، فوجه إليه الرشيد طوق بن مالك فهزمه وجرح ثروان وقتل عامة أصحابه، وكتب بالفتح إلى الرشيد.

وفيها: خرج بالشام أبو النداء فوجه إليه الرشيد يحيى بن معاذ واستنابه على الشام.

وفيها: وقع الثلج ببغداد.

وفيها: غزا بلاد الروم يزيد بن مخلد الهبيري في عشرة آلاف، فأخذت عليه الروم المضيق فقتلوه في خمسين من أصحابه على مرحلتين من طرسوس، وانهزم الباقون، وولى الرشيد غزو الصائفة لهرثمة بن أعين، وضم إليه ثلاثين ألفا فيهم مسرور الخادم، وإليه النفقات.

وخرج الرشيد إلى الحدث ليكون قريبا منهم.

وأمر الرشيد بهدم الكنائس والديور، وألزم أهل الذمة بتمييز لباسهم وهيآتهم في بغداد وغيرها من البلاد.

وفيها: عزل الرشيد علي بن موسى عن إمرة خراسان وولاها هرثمة بن أعين.

وفيها: فتح الرشيد هرقلة في شوال وخربها وسبى أهلها وبث الجيوش والسرايا بأرض الروم إلى عين زربة، والكنيسة السوداء.

وكان دخل هرقلة في كل يوم مائة ألف وخمسة وثلاثين ألف مرتزق.

وولى حميد بن معيوف سواحل الشام إلى مصر، ودخل جزيرة قبرص فسبى أهلها وحملهم حتى باعهم بالرافقة، فبلغ ثمن الأسقف ألفي دينار، باعهم أبو البختري القاضي.

وفيها: أسلم الفضل بن سهل على يدي المأمون.

وحج بالناس فيها الفضل بن عباس بن محمد بن علي العباسي، وكان والي مكة ولم يكن للناس بعد هذه السنة صائفة إلى سنة خمس عشرة ومائتين.

وفيها توفي من الأعيان:

سلمة بن الفضل الأبرش، وعبد الرحمن بن القاسم، الفقيه، الراوي عن: مالك بن يونس بن أبي إسحاق، قدم على الرشيد فأمر له بمال جزيل نحوا من خمسين ألفا فلم يقبله.

والفضل بن موسى الشيباني، ومحمد بن سلمة.

ومحمد بن الحسين المصيصي

أحد الزهاد الثقات، قال: لم أتكلم بكلمة أحتاج إلى الاعتذار منها منذ خمسين سنة.

وفيها توفي: معمر الرقي.

ثم دخلت سنة ثنتين وتسعين ومائة

فيها: دخل هرثمة بن أعين إلى خراسان نائبا عليها، وقبض على علي بن عيسى فأخذ أمواله وحواصله، وأركبه على بعير وجهه لذنبه، ونادى عليه ببلاد خراسان، وكتب إلى الرشيد بذلك فشكره على ذلك، ثم أرسله إلى الرشيد بعد ذلك فحبس بداره ببغداد.

وفيها: ولى الرشيد ثابت بن نصر بن مالك نيابة الثغور بلاد الروم، وفتح مطمورة.

وفيها: كان الصلح بين المسلمين والروم على يد ثابت بن نصر.

وفيها: خرجت الخرَّمية بالجبل وبلاد أذربيجان.

فوجه الرشيد إليهم عبد الله بن مالك بن الهيثم الخزاعي في عشرة آلاف فارس فقتل منهم خلقا وأسر وسبى ذراريهم، وقدم بهم بغداد، فأمر له الرشيد بقتل الرجال منهم، وبالذرية فبيعوا فيها.

وكان قد غزاهم قبل ذلك خزيمة بن خازم.

وفي ربيع الأول منها: قدم الرشيد من الرقة إلى بغداد في السفن، وقد استخلف على الرقة ابنه القاسم وبين يديه خزيمة بن خازم، ومن نية الرشيد الذهاب إلى خراسان لغزو رافع بن ليث الذي كان قد خلع الطاعة واستحوذ على بلاد كثيرة من بلاد سمرقند وغيرها.

ثم خرج الرشيد في شعبان قاصدا خراسان، واستخلف على بغداد ابنه محمدا الأمين، وسأل المأمون من أبيه أن يخرج معه خوفا من غدر أخيه الأمين، فأذن له فسار معه، وقد شكا الرشيد في أثناء الطريق إلى بعض أمرائه جفاء بنيه الثلاثة الذين جعلهم ولاة للعهد من بعده، وأراه داء في جسده، وقال: إن لكل واحد من: الأمين، والمأمون، والقاسم، عندي عينا عليَّ، و هم يعدون أنفاسي ويتمنون انقضاء أيامي، وذلك شر لهم لو كانوا يعلمون.

فدعا له ذلك الأمير، ثم أمر له الرشيد بالانصراف إلى عمله، وودعه، وكان آخر العهد به.

وفيها: تحرك ثروان الحروري وقتل عامل السلطان بطرف البصرة.

وفيها: قتل الرشيد الهيصم اليماني.

ومات عيسى بن جعفر وهو يريد اللحاق بالرشيد فمات في الطريق.

وفيها: حج بالناس العباس بن عبد الله بن جعفر بن أبي جعفر المنصور.

وفيها توفي:

إسماعيل بن جامع

ابن إسماعيل بن عبد الله بن المطلب بن أبي وداعة، أبو القاسم، أحد المشاهير بالغناء، كان ممن يضرب به المثل، وقد كان أولا يحفظ القرآن ثم صار إلى صناعة الغناء وترك القرآن.

وذكر عنه أبو الفرج بن علي بن الحسين صاحب الأغاني حكايات غريبة، من ذلك أنه قال: كنت يوما مشرفا من غرفة بحران إذ أقبلت جارية سوداء معها قربة تستقي الماء، فجلست ووضعت قربتها واندفعت تغني:

إلى الله أشكو بخلها وسماحتي * لها عسل مني وتبذل علقما

فردِّي مصاب القلب أنت قتلته * ولا تتركيه هائم القلب مغرما

قال: فسمعت ما لا صبر لي عنه ورجوت أن تعيده فقامت وانصرفت، فنزلت وانطلقت وراءها وسألتها أن تعيده فقالت: إن عليَّ خراجا كل يوم درهمين، فأعطيتها درهمين فأعادته فحفظته وسلكته يومي ذلك، فلما أصبحت أنسيته فأقبلت السوداء فسألتها أن تعيده فلم تفعل إلا بدرهمين، ثم قالت: كأنك تستكثر أربعة دراهم، كأني بك وقد أخذت عليه أربعة آلاف دينار.

قال: فغنيته ليلة للرشيد فأعطاني ألف دينار، ثم استعادنيه ثلاث مرات أخرى وأعطاني ثلاثة آلاف دينار، فتبسمت فقال: ممَّ تبسمت ؟

فذكرت له القصة فضحك وألقى إلي كيسا آخر فيه ألف دينار.

وقال: لا أكذب السوداء.

وحكى عنه أيضا قال: أصبحت يوما بالمدينة وليس معي إلا ثلاثة دراهم، فإذا جارية على رقبتها جرة تريد الركي وهي تسعى وتترنم بصوت شجي:

شكونا إلى أحبابنا طول ليلنا * فقالوا لنا ما أقصر الليل عندنا

وذاك لأن النوم يغشى عيونهم * سريعا ولا يغشى لنا النوم أعينا

إذا ما دنا الليل المضرُّ بذي الهوى * جزعنا وهم يستبشرون إذ دنا

فلو أنهم كانوا يلاقون مثلما * نلاقي لكانوا في المضاجع مثلنا

قال: فاستعدته منها وأعطيتها الدراهم الثلاثة فقالت: لتأخذن بدلها ألف دينار، ألف دينار، وألف دينار.

فأعطاني الرشيد ثلاثة آلاف دينار في ليلة على ذلك الصوت.

وفيها توفي:

بكر بن النطاح

أبو وائل الحنفي البصري، الشاعر المشهور، نزل بغداد زمن الرشيد، وكان يخالط أبا العتاهية.

قال أبو عفان: أشعر أهل العدل من المحدثين أربعة: أولهم بكر بن النطاح.

وقال المبرد: سمعت الحسن بن رجاء يقول: اجتمع جماعة من الشعراء ومعهم بكر بن النطاح يتناشدون، فلما فرغوا من طوالهم أنشد بكر بن النطاح لنفسه:

ما ضرَّها لو كتبت بالرضى * فجف جفن العين أو أغمضا

شفاعة مردودة عندها * في عاشق يود لو قد قضى

يا نفس صبرا واعلمي أنما * يأمل منها مثلما قد مضى

لم تمرض الأجفان من قاتل * بلحظه إلا لأن أمرضا

قال: فابتدروه يقلبون رأسه.

ولما مات رثاه أبو العتاهية فقال:

مات ابن نطاح أبو وائل * بكر فأمسى الشعر قد بانا

وفيها توفي:

بهلول المجنون

كان يأوي إلى مقابر الكوفة، وكان يتكلم بكلمات حسنة، وقد وعظ الرشيد وغيره كما تقدم.

وعبد الله بن إدريس

الأودي الكوفي، سمع: الأعمش، وابن جريج، وشعبة، ومالكا، وخلقا سواهم.

وروى عنه جماعات من الأئمة.

وقد استدعاه الرشيد ليوليه القضاء فقال: لا أصلح، وامتنع أشد الامتناع، وكان قد سأل قبله وكيعا فامتنع أيضا، فطلب حفص بن غياث فقبل.

وأطلق لكل واحد خمسة آلاف عوضا عن كلفته التي تكلفها في السفر فلم يقبل وكيع ولا ابن إدريس، وقبل ذلك حفص، فحلف ابن إدريس لا يكلمه أبدا.

وحج الرشيد في بعض السنين فاجتاز بالكوفة ومعه القاضي أبو يوسف والأمين والمأمون، فأمر الرشيد أن يجتمع شيوخ الحديث ليسمعوا ولديه، فاجتمعوا إلا ابن إدريس هذا، وعيسى بن يونس.

فركب الأمين والمأمون بعد فراغهما من سماعهما على من اجتمع من المشايخ إلى ابن إدريس فأسمعهما مائة حديث.

فقال له المأمون: يا عم ! إن أردت أعدتها من حفظي، فأذن له فأعادها من حفظه كما سمعها، فتعجب لحفظه.

ثم أمر له المأمون بمال فلم يقبل منه شيئا، ثم سارا إلى عيسى بن يونس فسمعا عليه، ثم أمر له المأمون بعشرة آلاف فلم يقبلها، فظن أنه استقلها فأضعفها فقال: والله لو ملأت لي المسجد مالا إلى سقفه ما قبلت منه شيئا على حديث رسول الله .

ولما احتضر ابن إدريس بكت ابنته فقال: علام تبكي؟ فقد ختمت في هذا البيت أربعة آلاف ختمة.

صعصعة بن سلام

ويقال: ابن عبد الله، أبو عبد الله الدمشقي، ثم تحول إلى الأندلس فاستوطنها في زمن عبد الملك بن معاوية وابنه هشام.

وهو أول من أدخل علم الحديث ومذهب الأوزاعي إلى بلاد الأندلس، وولي الصلاة بقرطبة، وفي أيامه غرست الأشجار بالمسجد الجامع هناك كما يراه الأوزاعي والشاميون ويكرهه مالك وأصحابه.

وقد روى عن: مالك، والأوزاعي، وسعيد بن عبد العزيز.

وروى عنه جماعة منهم: عبد الملك بن حبيب الفقيه، وذكره في كتاب الفقهاء، وذكره ابن يونس في تاريخه - تاريخ مصر - والحميدي في تاريخ الأندلس، وحرر وفاته في هذه السنة.

وحكي عن شيخه ابن حزم أن صعصعة هذا أول من أدخل مذهب الأوزاعي إلى الأندلس.

وقال ابن يونس: أول من أدخل علم الحديث إليها.

وذكر أنه توفي قريبا من سنة ثمانين ومائة، والذي حرره الحميدي في هذه السنة أثبت.

علي بن ظبيان

أبو الحسن العبسي، قاضي الشرقية من بغداد، ولاه الرشيد ذلك.

كان ثقةً عالما من أصحاب أبي حنيفة، ثم ولاه الرشيد قضاء القضاة، وكان الرشيد يخرج معه إذا خرج من عنده.

مات بقوميسين في هذه السنة.

العباس بن الأحنف

ابن الأسود بن طلحة، الشاعر المشهور، كان من عرب خراسان، ونشأ ببغداد.

وكان لطيفا ظريفا مقبولا حسن الشعر.

قال أبو العباس: قال عبد الله بن المعتز: لو قيل لي من أحسن الناس شعرا تعرفه؟ لقلت: العباس:

قد سحب الناس أذيال الظنون بنا * وفرَّق الناس فينا قولهم فرقا

فكاذب قد رمى بالظن غيركم * وصادق ليس يدري أنه صدقا

وقد طلبه الرشيد ذات ليلة في أثناء الليل فانزعج لذلك وخاف نساؤه، فلما وقف بين يدي الرشيد قال له: ويحك ! إنه قد عنَّ لي بيت في جارية لي فأحببت أن تشفعه بمثله.

فقال: يا أمير المؤمنين ! ما خفت أعظم من هذه الليلة.

فقال: ولم ؟

فذكر له دخول الحرس عليه في الليل، ثم جلس حتى سكن روعه، ثم قال: ما قلت يا أمير المؤمنين ؟

فقال:

حنان قد رأيناها فلم نر مثلها بشرا * يزيدك وجهها حسنا إذا ما زدته نظرا

فقال الرشيد: زد.

فقال:

إذا ما الليل مال عليـ * ـك بالإظلام واعتكرا

ودجَ فلم تر فجرا * فأبرزها ترَ قمرا

فقال: إنا قد رأيناها، وقد أمرنا لك بعشرة آلاف درهم.

ومن شعره الذي أقر له فيه بشار بن برد وأثبته في سلك الشعراء بسببه قوله:

أبكي الذين أذاقوني مودتهم * حتى إذا أيقظوني للهوى رقدوا

واستنهضوني فلما قمت منتصبا * بثقل ما حملوني منهم قعدوا

وله أيضا:

وحدثتني يا سعد عنها فزدتني * جنونا فزدني من حديثك يا سعد

هواها هوىً لم يعرف القلب غيره * فليس له قبل وليس له بعد

قال الأصمعي: دخلت على العباس بن الأحنف بالبصرة وهو طريح على فراشه يجود بنفسه وهو يقول:

يا بعيد الدار عن وطنه * مفردا يبكي على شجنه

كلما جدَّ النحيب به * زادت الأسقام في بدنه

ثم أغمي عليه ثم انتبه بصوت طائر على شجرة فقال:

ولقد زاد الفؤاد شجا * هاتف يبكي على فننه

شاقه ما شاقني فبكى * كلنا يبكي على سكنه

قال: ثم أغمي عليه أخرى فحركته فإذا هو قد مات.

قال الصولي: كانت وفاته في هذه السنة.

وقيل: بعدها.

وقيل: قبلها في سنة ثمان وثمانين ومائة، فالله أعلم.

وزعم بعض المؤرخين أنه بقي بعد الرشيد.

عيسى بن جعفر بن أبي جعفر المنصور

أخو زبيدة، كان نائبا على البصرة في أيام الرشيد فمات في أثناء هذه السنة.

وفيها توفي:

الفضل بن يحيى

ابن خالد بن برمك، أخو جعفر وإخوته، كان هو والرشيد يتراضعان.

أرضعت الخيزران فضلا، وأرضعت أم الفضل وهي: زبيدة بنت بن بريه هارون الرشيد.

وكانت زبيدة هذه من مولدات بتبين البرية، وقد قال في ذلك بعض الشعراء:

كفى لك فضلا أن أفضل حرة * غذتك بثدي والخليفة واحد

لقد زنت يحيى في المشاهد كلها * كما زان يحيى خالدا في المشاهد

قالوا: وكان الفضل أكرم من أخيه جعفر، ولكن كان فيه كبر شديد، وكان عبوسا، وكان جعفر أحسن بشرا منه، وأطلق وجها، وأقل عطاء.

وكان الناس إليه أميل، ولكن خصلة الكرم تغطي جميع القبائح، فهي تستر تلك الخصلة التي كانت في الفضل.

وقد وهب الفضل لطباخه مائة ألف درهم فعابه أبوه على ذلك، فقال: يا أبت ! إن هذا كان يصحبني في العسر واليسر والعيش الخشن، واستمر معي في هذا الحال فأحسن صحبتي.

وقد قال بعض الشعراء:

إن الكرام إذا ما أيسروا ذكروا * من كان يعتادهم في المنزل الخشن

ووهب يوما لبعض الأدباء عشرة آلاف دينار فبكى الرجل فقال له: مم تبكي، أستقللتها ؟

قال: لا والله، ولكني أبكي أن الأرض تأكل مثلك، أو تواري مثلك.

وقال علي بن الجهم، عن أبيه: أصبحت يوما لا أملك شيئا حتى ولا علف الدابة.

فقصدت الفضل بن يحيى، فإذا هو قد أقبل من دار الخلافة في موكب من الناس، فلما رآني رحب بي وقال: هلم.

فسرت معه، فلما كان ببعض الطريق سمع غلاما يدعو جارية من دار، وإذا هو يدعوها باسم جارية له يحبها، فانزعج لذلك وشكا إلي ما لقي من ذلك.

فقلت: أصابك ما أصاب أخي بني عامر حيث يقول:

وداع دعا إذ نحن بالخيف من منى * فهيج أحزان الفؤاد ولا يدري

دعا باسم ليلى غيرها وكأنما * أطار بليلى طائرا كان في صدري

فقال: اكتب لي هذين البيتين.

قال: فذهبت إلى بقال فرهنت عنده خاتمي على ثمن ورقة وكتبتهما له، فأخذهما وقال: انطلق راشدا.

فرجعت إلى منزلي فقال لي غلامي: هات خاتمك حتى نرهنه على طعام لنا وعلف للدابة، فقلت: إني رهنته.

فما أمسينا حتى أرسل إلي الفضل بثلاثين ألفا من الذهب، وعشرة آلاف من الورق، أجراه عليَّ كل شهر، وأسلفني شهرا.

ودخل على الفضل يوما بعض الأكابر فأكرمه الفضل وأجلسه معه على السرير، فشكا إليه الرجل دينا عليه وسأله أن يكلم في ذلك أمير المؤمنين.

فقال: نعم، وكم دينك ؟

قال: ثلاثمائة ألف درهم.

فخرج من عنده وهو مهموم لضعف رده عليه، ثم مال إلى بعض إخوانه فاستراح عنده ثم رجع إلى منزله فإذا المال قد سبقه إلى داره.

وما أحسن ما قال فيه بعض الشعراء:

لك الفضل يا فضل بن يحيى بن خالد * وما كل من يدعى بفضل له فضل

رأى الله فضلا منك في الناس واسعا * فسماك فضلا فالتقى الاسم والفعل

وقد كان الفضل أكبر رتبة عند الرشيد من جعفر، وكان جعفر أحظى عند الرشيد منه وأخص.

وقد ولي الفضل أعمالا كبارا منها نيابة خراسان وغيرها.

ولما قتل الرشيد البرامكة وحبسهم جلد الفضل هذا مائة سوط وخلَّده في الحبس حتى مات في هذه السنة، قبل الرشيد بشهور خمسة في الرقة، وصلى عليه بالقصر الذي مات فيه أصحابه، ثم أخرجت جنازته فصلى عليها الناس، ودفن هناك، وله خمس وأربعون سنة.

وكان سبب موته ثقل أصابه في لسانه اشتد به يوم الخميس ويوم الجمعة.

وتوفي قبل أذان الغداة من يوم السبت.

قال ابن جرير: وذلك في المحرم من سنة ثلاث وتسعين ومائة.

وقال ابن الجوزي: في سنة ثنتين وتسعين، فالله أعلم.

وقد أطال ابن خلكان ترجمته وذكر طرفا صالحا من محاسنه ومكارمه، من ذلك: أنه ورد بلخ حين كان نائبا على خراسان، وكان بها بيت النار التي كانت تعبدها المجوس، وقد كان جده برمك من خدامها، فهدم بعضه ولم يتمكن من هدمه كله، لقوة إحكامه، وبنى مكانه مسجدا لله تعالى.

وذكر أنه كان يتمثل في السجن بهذه الأبيات ويبكي:

إلى الله فيما نالنا نرفع الشكوى * ففي يده كشف المضرَّة والبلوى

خرجنا من الدنيا ونحن من أهلها * فلا نحن في الأموات فيها ولا الأحيا

إذا جاءنا السجان يوما لحاجة * عجبنا وقلنا جاء هذا من الدنيا

ومحمد بن أمية

الشاعر الكاتب، وهو من بيت كلهم شعراء، وقد اختلط أشعار بعضهم في بعض.

ومنصور بن الزبرقان

ابن سلمة، أبو الفضل النميري الشاعر، امتدح الرشيد، وأصله من الجزيرة وأقام ببغداد.

ويقال لجده: مطعم الكبش الرخم، وذلك أنه أضاف قوما فجعلت الرخم تحوم حولهم، فأمر بكبش يذبح للرخم حتى لا يتأذى بها ضيفانه، ففعل له ذلك.

فقال الشاعر فيه:

أبوك زعيم بني قاسط * وخالك ذو الكبش يغذي الرخم

وله أشعار حسنة، وكان يروي عن: كلثوم بن عمرو، وكان شيخه الذي أخذ عنه الغناء.

يوسف بن القاضي أبي يوسف

سمع الحديث من: السري بن يحيى، ويونس بن أبي إسحاق، ونظر في الرأي وتفقه، وولي قضاء الجانب الشرقي ببغداد في حياة أبيه أبي يوسف، وصلى بالناس الجمعة بجامع المنصور عن أمر الرشيد.

توفي في رجب من هذه السنة وهو قاضي ببغداد.

ثم دخلت سنة ثلاث وتسعين ومائة

قال ابن جرير: في المحرم منها: توفي الفضل بن يحيى.

وقال ابن الجوزي: توفي الفضل في سنة ثنتين وتسعين كما تقدم.

وما قاله ابن جرير أقرب.

قال: وفيها: توفي سعيد الجوهري.

قال: وفيها: وافى الرشيد جرجان، وانتهت إليه خزائن علي بن عيسى تحمل على ألف وخمسمائة بعير، وذلك في صفر منها، ثم تحول منها إلى طوس وهو عليل، فلم يزل بها حتى كانت وفاته فيها.

وفيها: تواقع هرثمة نائب العراق هو ورافع بن الليث فكسره هرثمة وافتتح بخارى وأسر أخاه بشير بن الليث، فبعثه إلى الرشيد وهو بطوس قد ثقل عن السير، فلما وقف بين يديه شرع يترقق له فلم يقبل منه، بل قال: والله لو لم يبق من عمري إلا أن أحرك شفتي بقتلك لقتلتك.

ثم دعا بقصاب فجزأه بين يديه أربعة عشر عضوا، ثم رفع الرشيد يديه إلى السماء يدعو الله أن يمكنه من أخيه رافع كما مكنه من أخيه بشير.

وفاة الرشيد

كان قد رأى وهو بالكوفة رؤيا أفزعته وغمه ذلك، فدخل عليه جبريل بن بختيشوع فقال: مالك يا أمير المؤمنين ؟

فقال: رأيت كفا فيها تربة حمراء خرجت من تحت سريري، وقائلا يقول: هذه تربه هارون.

فهوَّن عليه جبريل أمرها، وقال: هذه من أضغاث الأحلام من حديث النفس، فتناسها يا أمير المؤمنين.

فلما سار يريد خراسان ومر بطوس واعتقلته العلة بها، ذكر رؤياه فهاله ذلك وقال لجبريل: ويحك ! أما تذكر ما قصصته عليك من الرؤيا ؟

فقال: بلى.

فدعا مسرورا الخادم وقال: ائتني بشيء من تربة هذه الأرض.

فجاءه بتربة حمراء في يده، فلما رآها قال: والله هذه الكف التي رأيت، والتربة التي كانت فيها.

قال جبريل: فوالله ما أتت عليه ثلاث حتى توفي، وقد أمر بحفر قبره قبل موته في الدار التي كان فيها، وهي دار حميد بن أبي غانم الطائي، فجعل ينظر إلى قبره وهو يقول: يا ابن آدم ! تصير إلى هذا.

ثم أمر أن يقرأوا القرآن في قبره، فقرأوه حتى ختموه وهو في محفة على شفير القبر.

ولما حضرته الوفاة احتبى بملاءة وجلس يقاسي سكرات الموت، فقال له بعض من حضر: لو اضطجعت كان أهون عليك.

فضحك ضحكا صحيحا ثم قال: أما سمعت قول الشاعر:

وإني من قوم كرام يزيدهم * شماسا وصبرا شدة الحدثان

مات ليلة السبت، وقيل: ليلة الأحد، مستهل جمادى الآخرة سنة ثلاث وتسعين ومائة، عن خمس، وقيل: سبع وأربعين سنة.

وكان ملكه ثلاثا وعشرين سنة.

وهذه ترجمة الرشيد

هو: هارون الرشيد أمير المؤمنين ابن المهدي محمد بن المنصور، أبي جعفر، عبد الله بن محمد بن علي عبد الله بن عباس بن عبد المطلب، القرشي الهاشمي، أبو محمد، ويقال: أبو جعفر.

وأمه الخيزران أم ولد.

كان مولده في شوال سنة ست، وقيل: سبع، وقيل: ثمان وأربعين ومائة.

وقيل: إنه ولد سنة خمسين ومائة.

وبويع له بالخلافة بعد موت أخيه موسى الهادي في ربيع الأول سنة سبعين ومائة، بعهد من أبيه المهدي.

روى الحديث عن: أبيه، وجده.

وحدث عن المبارك بن فضالة، عن الحسن، عن أنس بن مالك، أن رسول الله ، قال: «اتقوا النار ولو بشق تمرة».

أورده وهو على المنبر وهو يخطب الناس، وقد حدث عنه ابنه وسليمان الهاشمي والد إسحاق، ونباتة بن عمرو.

وكان الرشيد أبيض طويلا سمينا جميلا، وقد غزا الصائفة في حياة أبيه مرارا، وعقد الهدنة بين المسلمين والروم بعد محاصرته القسطنطينية، وقد لقي المسلمون من ذلك جهدا جهيدا وخوفا شديدا، وكان الصلح مع امرأة ليون وهي الملقبة: بأغسطه على حمل كثير تبذله للمسلمين في كل عام، ففرح المسلمون بذلك، وكان هذا هو الذي حدا أباه على البيعة له بعد أخيه في سنة ست وستين ومائة.

ثم لما أفضت إليه الخلافة في سنة سبعين كان من أحسن الناس سيرة وأكثرهم غزوا وحجا، ولهذا قال فيه أبو السعلي:

فمن يطلب لقاءك أو يرده * فبالحرمين أو أقصى الثغور

ففي أرض العدو على طمر * وفي أرض الترفه فوق كور

وما حاز الثغور سواك خلق * من المتخلفين على الأمور

وكان يتصدق من صلب ماله في كل يوم بألف درهم، وإذا حج أحج معه مائة من الفقهاء وأبنائهم، وإذا لم يحج أحج ثلاثمائة بالنفقة السابغة والكسوة التامة.

وكان يحب التشبه بجده أبي جعفر المنصور إلا في العطاء، فإنه كان سريع العطاء جزيله، وكان يحب الفقهاء والشعراء ويعطيهم، ولا يضيع لديه بر ومعروف، وكان نقش خاتمه لا: إله إلا الله.

وكان يصلي في كل يوم مائة ركعة تطوعا، إلى أن فارق الدنيا، إلا أن تعرض له علة.

وكان ابن أبي مريم هو الذي يضحكه، وكان عنده فضيلة بأخبار الحجاز وغيرها، وكان الرشيد قد أنزله في قصره وخلطه بأهله.

نبهه الرشيد يوما إلى صلاة الصبح فقام فتوضأ ثم أدرك الرشيد وهو يقرأ: { وَمَا لِيَ لَا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي } [يس: 22] .

فقال ابن أبي مريم: لا أدري والله، فضحك الرشيد وقطع الصلاة.

ثم أقبل عليه وقال: ويحك ! اجتنب الصلاة والقرآن وقل فيما عدا ذلك.

ودخل يوما العباس بن محمد على الرشيد ومعه برنية من فضة فيها غالية من أحسن الطيب، فجعل يمدحها ويزيد في شكرها، وسأل من الرشيد أن يقبلها منه فقبلها فاستوهبها منه ابن أبي مريم فوهبها له.

فقال له العباس: ويحك ! جئت بشيء منعته نفسي وأهلي وآثرت به أمير المؤمنين سيدي فأخذته.

فحلف ابن مريم ليطيبن به إسته، ثم أخذ منها شيئا فطلى به إسته ودهن جوارحه كلها منها، والرشيد لا يتمالك نفسه من الضحك.

ثم قال لخادم قائم عندهم يقال له خاقان: اطلب لي غلامي.

فقال الرشيد: ادع له غلامه.

فقال له: خذ هذه الغالية واذهب بها إلى ستك فمرها فلتطيب منها إستها حتى أرجع إليها فأنيكها.

فذهب الضحك بالرشيد كل مذهب، ثم أقبل ابن أبي مريم على العباس بن محمد فقال له: جئت بهذه الغالية تمدحها عند أمير المؤمنين الذي ما تمطر السماء شيئا ولا تنبت الأرض شيئا إلا وهو تحت تصرفه وفي يده ؟

وأعجب من هذا أن قيل لملك الموت: ما أمرك به هذا فأنفذه.

وأنت تمدح هذه الغالية عنده كأنه بقال أو خباز أو طباخ أو تمار.

فكاد الرشيد يهلك من شدة الضحك.

ثم أمر لابن أبي مريم بمائة ألف درهم.

وقد شرب الرشيد يوما دواء فسأله ابن أبي مريم أن يلي الحجابة في هذا اليوم، ومهما حصل له كان بينه وبين أمير المؤمنين، فولاه الحجابة، فجاءت الرسل بالهدايا من كل جانب، من عند زبيدة، والبرامكة، وكبار الأمراء، وكان حاصله في هذا اليوم ستين ألف دينار.

فسأله الرشيد في اليوم الثاني عما تحصل فأخبره بذلك، فقال له: فأين نصيبي ؟

فقال ابن أبي مريم: قد صالحتك عليه بعشرة آلاف تفاحة.

وقد استدعى إليه أبا معاوية الضرير محمد بن حازم ليسمع منه الحديث قال أبو معاوية: ما ذكرت عنده حديثا إلا قال: على سيدي، وإذا سمع فيه موعظة بكى حتى يبل الثرى.

وأكلت عنده يوما ثم قمت لأغسل يدي فصب الماء عليَّ وأنا لا أراه، ثم قال: يا أبا معاوية أتدري من يصب عليك الماء ؟

قلت: لا.

قال: يصب عليك أمير المؤمنين.

قال أبو معاوية: فدعوت له.

فقال: إنما أردت تعظيم العلم.

وحدثه أبو معاوية يوما، عن الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة، بحديث احتجاج آدم وموسى، فقال عم الرشيد: أين التقيا يا أبا معاوية ؟

فغضب الرشيد من ذلك غضبا شديدا، وقال: أتعترض على الحديث ؟

عليَّ بالنطع والسيف، فأحضر ذلك فقام الناس إليه يشفعون فيه، فقال الرشيد: هذه زندقة.

ثم أمر بسجنه وأقسم أن لا يخرج حتى يخبرني من ألقى إليه هذا، فأقسم عمه بالأيمان المغلظة ما قال هذا له أحد، وإنما كانت هذه الكلمة بادرة مني وأنا أستغفر الله وأتوب إليه منها. فأطلقه.

وقال بعضهم: دخلت على الرشيد وبين يديه رجل مضروب العنق والسياف يمسح سيفه في قفا الرجل المقتول، فقال الرشيد: قتلته لأنه قال القرآن مخلوق، فقتله على ذلك قربة إلى الله عز وجل.

وقال بعض أهل العلم: يا أمير المؤمنين ! انظر هؤلاء الذين يحبون أبا بكر وعمر ويقدمونهما فأكرمهم بعز سلطانك.

فقال الرشيد: أولست كذلك؟ أنا والله كذلك أحبهما وأحب من يحبهما وأعاقب من يبغضهما.

وقال له ابن السماك: إن الله لم يجعل أحدا فوقك فاجتهد أن لا يكون فيهم أحد أطوع إلى الله منك.

فقال: لئن كنت أقصرت في الكلام لقد أبلغت في الموعظة.

وقال له الفضيل بن عياض - أو غيره -: إن الله لم يجعل أحدا من هؤلاء فوقك في الدنيا، فأجهد نفسك أن لا يكون أحد منهم فوقك في الآخرة، فاكدح لنفسك واعملها في طاعة ربك.

ودخل عليه ابن السماك يوما فاستسقى الرشيد فأتي بقلة فيها ماء مبرد فقال لابن السماك: عظني.

فقال: يا أمير المؤمنين ! بكم كنت مشتريا هذه الشربة لو منعتها ؟

فقال: بنصف ملكي.

فقال: اشرب هنيئا.

فلما شرب قال: أرأيت لو منعت خروجها من بدنك بكم كنت تشتري ذلك ؟

قال: بنصف ملكي الآخر.

فقال: إن ملكا قيمة نصفه شربه ماء، وقيمة نصفه الآخر بولة، لخليق أن لا يتنافس فيه. فبكى هارون.

وقال ابن قتيبة: ثنا الرياشي، سمعت الأصمعي، يقول: دخلت على الرشيد وهو يقلم أظفاره يوم الجمعة فقلت له في ذلك، فقال: أخذ الأظفار يوم الخميس من السنة، وبلغني أن أخذها يوم الجمعة ينفي الفقر.

فقلت: يا أمير المؤمنين ! أو تخشى الفقر ؟

فقال: يا أصمعي، وهل أحد أخشى للفقر مني ؟.

وروى ابن عساكر، عن إبراهيم المهدي، قال: كنت يوما عند الرشيد فدعا طباخه فقال: أعندك في الطعام لحم جزور ؟

قال: نعم، ألوان منه.

فقال: أحضره مع الطعام.

فلما وضع بين يديه أخذ لقمة منه فوضعها في فيه فضحك جعفر البرمكي، فترك الرشيد مضغ اللقمة وأقبل عليه فقال: مم تضحك ؟

قال: لا شيء يا أمير المؤمنين، ذكرت كلاما بيني وبين جاريتي البارحة.

فقال له: بحقي عليك لما أخبرتني به.

قال: حتى تأكل هذه اللقمة.

فألقاها من فيه وقال: والله لتخبرني.

فقال: يا أمير المؤمنين ! بكم تقول إن هذا الطعام من لحم الجزور يقوم عليك ؟

قال: بأربعة دارهم.

قال: لا والله، يا أمير المؤمنين بل بأربعمائة ألف درهم.

قال: وكيف ذلك ؟

قال: إنك طلبت من طباخك لحم جزور قبل هذا اليوم بمدة طويلة فلم يوجد عنده.

فقلت: لا يخلون المطبخ من لحم جزور فنحن ننحر كل يوم جزورا لأجل مطبخ أمير المؤمنين، لأنا لا نشتري من السوق لحم جزور.

فصرف في لحم الجزور من ذلك اليوم إلى هذا اليوم أربعمائة ألف درهم، ولم يطلب أمير المؤمنين لحم جزور إلا هذا اليوم.

قال جعفر: فضحكت لأن أمير المؤمنين إنما ناله من ذلك هذه اللقمة. فهي على أمير المؤمنين بأربعمائة ألف.

قال: فبكى هارون الرشيد بكاءً شديدا وأمر برفع السماط من بين يديه، وأقبل على نفسه يوبخها ويقول: هلكت والله يا هارون.

ولم يزل يبكي حتى آذنه المؤذنون بصلاة الظهر، فخرج فصلى بالناس ثم رجع يبكي حتى آذنه المؤذنون بصلاة العصر، وقد أمر بألفي ألف تصرف إلى فقراء الحرمين في كل حرم ألف ألف صدقة، وأمر بألفي ألف يتصدق بها في جانبي بغداد الغربي والشرقي، وبألف ألف يتصدق بها على فقراء الكوفة والبصرة.

ثم خرج إلى صلاة العصر ثم رجع يبكي حتى صلى المغرب، ثم رجع، فدخل عليه أبو يوسف القاضي فقال: ما شأنك يا أمير المؤمنين باكيا في هذا اليوم ؟

فذكر أمره وما صرف من المال الجزيل لأجل شهوته، وإنما ناله منها لقمة.

فقال أبو يوسف: لجعفر هل كان ما تذبحونه من الجزور يفسد، أو يأكله الناس ؟

قال: بل يأكله الناس.

فقال: أبشر يا أمير المؤمنين بثواب الله فيما صرفته من المال الذي أكله المسلمون في الأيام الماضية، وبما يسره الله عليك من الصدقة، وبما رزقك الله من خشيته وخوفه في هذا اليوم، وقد قال تعالى: { وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ } [الرحمن: 46] .

فأمر له الرشيد بأربعمائة ألف.

ثم استدعى بطعام فأكل منه فكان غداؤه في هذا اليوم عشاء.

وقال عمرو بن بحر الجاحظ: اجتمع للرشيد من الجد والهزل ما لم يجتمع لغيره من بعده، كان أبو يوسف قاضيه، والبرامكة وزراءه، وحاجبه الفضل بن الربيع أنبه الناس وأشدهم تعاظما.

ونديمه عمر بن العباس بن محمد صاحب العباسية، وشاعره مروان بن أبي حفصة، ومغنيه إبراهيم الموصلي واحد عصره في صناعته، ومضحكه ابن أبي مريم، وزامره برصوما.

وزوجته أم جعفر - يعني: زبيدة - وكانت أرغب الناس في كل خير، وأسرعهم إلى كل بر ومعروف، أدخلت الماء الحرم بعد امتناعه من ذلك، إلى أشياء من المعروف أجراها الله على يدها.

وروى الخطيب البغدادي أن الرشيد كان يقول: إنا من قوم عظمت رزيتهم، وحسنت بعثتهم، ورثنا رسول الله ، وبقيت فينا خلافة الله.

وبينما الرشيد يطوف يوما بالبيت إذ عرض له رجل فقال: يا أمير المؤمنين ! إني أريد أن أكلمك بكلام فيه غلظة.

فقال: لا ! ولا نعمت عين قد بعث الله من هو خير منك إلى من هو شر مني فأمره أن يقول له قولا لينا.

وعن شعيب بن حرب قال: رأيت الرشيد في طريق مكة فقلت في نفسي: قد وجب عليك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فخوفتني فقالت: إنه الآن يضرب عنقك.

فقلت: لا بد من ذلك، فناديته فقلت: يا هارون ! قد أتعبت الأمة والبهائم.

فقال: خذوه.

فأدخلت عليه وفي يده لتٌّ من حديد يلعب به وهو جالس على كرسي، فقال: ممن الرجل ؟

فقلت: رجل من المسلمين.

فقال: ثكلتك أمك ممن أنت ؟

فقلت: من الأنبار.

فقال: ما حملك على أن دعوتني باسمي ؟

قال: فخطر ببالي شيء لم يخطر قبل ذلك ؟

فقلت: أنا أدعو الله باسمه يا الله، أفلا أدعوك باسمك؟ وهذا الله سبحانه قد دعا أحب خلقه إليه بأسمائهم: يا آدم، يا نوح، يا هود، يا صالح، يا إبراهيم، يا موسى، يا عيسى، يا محمد، وكنى أبغض خلقه إليه فقال: تبت يدا أبي لهب.

فقال الرشيد: أخرجوه أخرجوه.

وقال له ابن السماك يوما: إنك تموت وحدك، وتدخل القبر وحدك، وتبعث منه وحدك، فاحذر المقام بين يدي الله عز وجل، والوقوف بين الجنة والنار، حين يؤخذ بالكظم وتزل القدم، ويقع الندم، فلا توبة تقبل، ولا عثرة تقال، ولا يقبل فداء بمال.

فجعل الرشيد يبكي حتى علا صوته فقال يحيى بن خالد له: يا ابن السماك ! لقد شققت على أمير المؤمنين الليلة.

فقام فخرج من عنده وهو يبكي.

وقال له الفضيل بن عياض - في كلام كثير ليلة وعظه بمكة -: يا صبيح الوجه إنك مسؤول عن هؤلاء كلهم، وقد قال تعالى: { وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ } [البقرة: 166] .

قال: حدثنا ليث، عن مجاهد: الوصلات التي كانت بينهم في الدينا.

فبكى حتى جعل يشهق.

وقال الفضيل: استدعاني الرشيد يوما وقد زخرف منازله، وأكثر الطعام والشراب واللذات فيها، ثم استدعى أبا العتاهية فقال له: صف لنا ما نحن فيه من العيش والنعيم، فقال:

عش ما بدا لك سالما * في ظل شاهقة القصور

تسعى عليك بما اشتهيـ * ـت لدى الرواح إلى البكور

فإذا النفوس تقعقعت * عن ضيق حشرجة الصدور

فهناك تعلم موقنا * ما كنت إلا في غرور

قال: فبكى الرشيد بكاءً كثيرا شديدا.

فقال له الفضل بن يحيى: دعاك أمير المؤمنين تسره فأحزنته ؟

فقال له الرشيد: دعه فإنه رآنا في عمى فكره أن يزيدنا عمى.

ومن وجه آخر أن الرشيد قال لأبي العتاهية: عظني بأبيات من الشعر وأوجز فقال:

لا تأمن الموت في طرف ولا نفس * ولو تمتَّعت بالحجاب والحرس

واعلم بأن سهام الموت صائبة * لكل مدرع منها ومتَّرس

ترجو النجاة ولم تسلك مسالكها * إن السفينة لا تجري على اليبس

قال: فخر الرشيد مغشيا عليه.

وقد حبس الرشيد مرة أبا العتاهية وأرصد عليه من يأتيه بما يقول، فكتب مرة على جدار الحبس:

أما والله إن الظلم شوم * وما زال المسيء هو الظلوم

إلى ديان يوم الدين نمضي * وعند الله تجتمع الخصوم

قال: فاستدعاه واستعجله في حل ووهبه ألف دينار وأطلقه.

وقال الحسن بن أبي الفهم: ثنا محمد بن عباد، عن سفيان بن عيينة، قال: دخلت على الرشيد فقال: ما خبرك ؟

فقلت:

بعين الله ما تخفي البيوت * فقد طال التحمل والسكوت

فقال: يا فلان مائة ألف لابن عيينة تغنيه وتغني عقبه، ولا تضر الرشيد شيئا.

وقال الأصمعي: كنت مع الرشيد في الحج فمررنا بواد فإذا على شفيره امرأة حسناء بين يديها قصعة، وهي تسأل منها، وهي تقول:

طحطحتنا طحاطح الأعوام * ورمتنا حوادث الأيام

فأتيناكم نمد أكفّا * نائلات لزادكم والطعام

فاطلبوا الأجر والمثوبة فينا * أيها الزائرون بيت الحرام

من رآني فقد رآني ورحلي * فارحموا غربتي وذل مقامي

قال الأصمعي: فذهبت إلى الرشيد فأخبرته بأمرها فجاء بنفسه حتى وقف عليها فسمعها فرحمها وبكى وأمر مسرورا الخادم أن يملأ قصعتها ذهبا، فملأها حتى جعلت تفيض يمينا وشمالا.

وسمع مرة الرشيد أعرابيا يحدو إبله في طريق الحج:

أيها المجمع هما لاتهم * أنت تقضي ولك الحمى تحم

كيف ترقيك وقد جف القلم * حطت الصحة منك والسقم

فقال الرشيد لبعض خدمه: ما معك ؟

قال: أربعمائة دينار.

فقال: ادفعها إلى هذا الأعرابي.

فلما قبضها ضرب رفيقه بيده على كتفه وقال متمثلا:

وكنت جليس قعقاع بن عمرو * ولا يشقى بقعقاع جليس

فأمر الرشيد بعض الخدم أن يعطي المتمثل ما معه من الذهب فإذا معه مائتا دينار.

قال أبو عبيد: إن أصل هذا المثل أن معاوية بن أبي سفيان أهديت له هدية جامات من ذهب فرَّقها على جلسائه وإلى جانبه قعقاع بن عمرو، وإلى جانب القعقاع أعرابي لم يفضل له منها شيء.

فأطرق الأعرابي حياء فدفع إليه القعقاع الجام الذي حصل له، فنهض الأعرابي وهو يقول: وكنت جليس قعقاع بن عمرو إلى آخره.

وخرج الرشيد يوما من عند زبيده وهو يضحك فقيل له: مم تضحك يا أمير المؤمنين ؟

فقال: دخلت اليوم إلى هذه المرأة - يعني: زبيدة - فأقلت عندها وبت، فما استيقظت إلا على صوت ذهب يصب.

قالوا: هذه ثلثمائة ألف دينار قدمت من مصر.

فقالت زبيدة: هبها لي يا ابن عم.

فقلت: هي لك.

ثم ما خرجت حتى عربدت علي وقالت: أي خير رأيته منك ؟

وقال الرشيد مرة للمفضل الضبي: ما أحسن ما قيل في الذئب، ولك هذا الخاتم، وشراؤه ألف وستمائة دينار، فأنشد قول الشاعر:

ينام بإحدى مقلتيه ويتقي * بأخرى الرزايا فهو يقظان نائم

فقال: ما قلت هذا إلا لتسلبنا الخاتم.

ثم ألقاه إليه فبعثت زبيدة فاشترته منه بألف وستمائة دينار، وبعثت به إلى الرشيد وقالت: إني رأيتك معجبا به.

فرده إلى المفضل والدنانير، وقال: ما كنا لنهب شيئا ونرجع فيه.

وقال الرشيد يوما للعباس بن الأحنف: أي بيت قالت العرب أرق ؟

فقال: قول جميل في بثينة:

ألا ليتني أعمى أصمُّ تقودني * بثينة لا يخفى عليَّ كلامها

فقال له الرشيد: أرق منه قولك في مثل هذا:

طاف الهوى في عباد الله كلِّهم * حتى إذا مر بي من بينهم وقفا

فقال له العباس: فقولك يا أمير المؤمنين أرق من هذا كله:

أما يكفيك أنك تملكيني * وأن الناس كلِّهم عبيدي

وأنك لو قطعت يدي ورجلي * لقلت من الهوى أحسنت زيدي

قال: فضحك الرشيد وأعجبه ذلك.

ومن شعر الرشيد في ثلاث حظيات كن عنده من الخواص قوله:

ملك الثلاث الناشآت عناني * وحللن من قلبي بكل مكان

مالي تطاوعني البرية كلُّها * وأطيعهن وهنَّ في عصياني

ما ذاك إلا أن سلطان الهوى * وبه قوين أعزُّ من سلطاني

ومما أورد له صاحب العقد في كتابه:

تبدي الصدود وتخفي الحب عاشقة * فالنفس راضية والطرف غضبان

وذكر ابن جرير وغيره أنه كان في دار الرشيد من الجواري والحظايا وخدمهن وخدم زوجته وأخواته أربعة آلاف جارية، وأنهن حضرن يوما بين يديه فغنته المطربات منهن فطرب جدا، وأمر بمال فنثر عليهن.

وكان مبلغ ما حصل لكل واحدة منهن ثلاثة آلاف درهم في ذلك اليوم. رواه ابن عساكر أيضا.

وروي أنه اشترى جارية من المدينة فأعجب بها جدا فأمر بإحضار مواليها ومن يلوذبهم ليقضي حوائجهم، فقدموا عليه بثمانين نفسا فأمر الحاجب - وهو: الفضل بن الربيع - أن يتلقاهم ويكتب حوائجهم، فكان فيهم رجل قد أقام بالمدينة لأنه كان يهوى تلك الجارية، فبعثت إليه فأتي به فقال له الفضل: ما حاجتك ؟

قال: حاجتي أن يجلسني أمير المؤمنين مع فلانة فأشرب ثلاثة أرطال من خمر، وتغنيني ثلاثة أصوات.

فقال: أمجنون أنت ؟

فقال: لا ! ولكن أعرض حاجتي هذه على أمير المؤمنين.

فذكر للرشيد ذلك فأمر بإحضاره وأن تجلس معه الجارية بحيث ينظر إليهما ولا يريانه فجلست على كرسي والخدام بين يديها، وأجلس على كرسي فشرب رطلا، وقال لها غنني:

خليلي عوجا بارك الله فيكما * وإن لم تكن هند بأرضكما قصدا

وقولا لها ليس الضلال أجازنا * ولكننا جزنا لنلقاكم عمدا

غدا يكثر البادون منا ومنكم * وتزداد داري من دياركم بعدا

قال: فغنته ثم استعجله الخدم فشرب رطلا آخر، وقال: غنني جعلت فداك:

تكلَّم منَّا في الوجوه عيوننا * فنحن سكوت والهوى يتكلم

ونغضب أحيانا ونرضى بطرفنا * وذلك فيما بيننا ليس يعلم

قال: فغنته، ثم شرب رطلا ثالثا، وقال: غنني جعلني الله فداك:

أحسن ما كنا تفرقنا * وخاننا الدهر وما خنَّا

فليت ذا الدهر لنا مرة * عاد لنا يوما كما كنَّا

قال: ثم قام الشاب إلى درجة هناك ثم ألقى نفسه من أعلاها على أم رأسه فمات.

فقال الرشيد: عجل الفتى، والله لو لم يعجل لوهبتها له.

وفضائل الرشيد ومكارمه كثيرة جدا.

قد ذكر الأئمة من ذلك شيئا كثيرا فذكرنا منه أنموذجا صالحا.

وقد كان الفضيل بن عياض يقول: ليس موت أحد أعز علينا من موت الرشيد، لما أتخوف بعده من الحوادث، وإني لأدعو الله أن يزيد في عمره من عمري.

قالوا: فلما مات الرشيد وظهرت تلك الفتن والحوادث والاختلافات، وظهر القول بخلق القرآن، فعرفنا ما كان تخوفه الفضيل من ذلك.

وقد تقدمت رؤياه لذلك الكف وتلك التربة الحمراء وقائل يقول: هذه تربة أمير المؤمنين.

فكان موته بطوس.

وقد روى ابن عساكر أن الرشيد رأى في منامه قائلا يقول: كأني بهذا القصر قد باد أهله. الشعر إلى آخره.

وقد تقدم أن ذلك إنما رآه أخوه موسى الهادي، وأبوه محمد المهدي، فالله أعلم.

وقدمنا أنه أمر بحفر قبره في حياته، وأن تقرأ فيه ختمة تامة، وحمل حتى نظر إليه فجعل يقول: إلى هنا تصير يا ابن آدم، ويبكي.

وأمر أن يوسع عند صدره، وأن يمد من عند رجليه، ثم جعل يقول: { مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ * هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ } [الحاقة: 28-29] ويبكي.

وقيل: إنه لما احتضر قال: اللهم انفعنا بالإحسان، واغفر لنا الإساءة، يا من لا يموت ارحم من يموت.

وكان مرضه بالدم، وقيل: بالسل، وجبريل الطبيب يكتم ما به من العلة، فأمر الرشيد رجلا أن يأخذ ماءه في قارورة ويذهب به إلى جبريل فيريه إياه، ولا يذكر له بول من هو، فإن سأله قال: هو بول مريض عندنا.

فلما رآه جبريل قال لرجل عنده: هذا مثل ماء ذلك الرجل.

ففهم صاحب القارورة من عني به، فقال له: بالله عليك أخبرني عن حال صاحب هذا الماء فإن لي عليه مالا، فإن كان به رجاء وإلا أخذت مالي منه.

فقال: اذهب فتخلص منه فإنه لا يعيش إلا أياما.

فلما جاء وأخبر الرشيد بعث إلى جبريل فتغيب حتى مات الرشيد.

وقد قال الرشيد وهو في هذه الحال:

إني بطوس مقيم * مالي بطوس حميم * أرجو إلهي لما بي * فإنه بي رحيم

لقد أتى بي طوسا * قضاؤه المحتوم * وليس إلا رضائي * والصبر والتسليم

مات بطوس يوم السبت لثلاث خلون من جمادى الآخرة، سنة ثلاث وتسعين ومائة.

وقيل: إنه توفي في جمادى الأولى، وقيل: في ربيع الأول.

وله من العمر خمس، وقيل: سبع، وقيل: ثمان وأربعون سنة.

ومدة خلافته ثلاث وعشرون سنة وشهر وثمانية عشر يوما، وقيل: ثلاثة أشهر.

وصلى عليه ابنه صالح، ودفن بقرية من قرى طوس يقال لها: سناباذ.

وقال بعضهم: قرأت على خيام الرشيد بسناباذ والناس منصرفون من طوس من بعد موته:

منازل العسكر معمورة * والمنزل الأعظم مهجور

خليفة الله بدار البلى * تسعى على أجداثه المور

أقبلت العير تباهي به * وانصرفت تندبه العير

وقد رثاه أبو الشيص فقال:

غربت في الشرق شمس * فلها العينان تدمع

ما رأينا قط شمسا * غربت من حيث تطلع

وقد رثاه الشعراء بقصائد.

قال ابن الجوزي: وقد خلف الرشيد من الميراث ما لم يخلفه أحد من الخلفاء، وخلف من الجواهر والأثاث والأمتعة سوى الضياع والدور ما قيمته مائة ألف ألف دينار، وخمسة وثلاثون ألف دينار.

قال ابن جرير: وكان في بيت المال سبعمائة ألف ألف ونيف.

ذكر زوجاته وبنيه وبناته

تزوج أم جعفر زبيدة بنت عمه جعفر بن أبي جعفر المنصور، تزوجها في سنة خمس وستين ومائة في حياة أبيه المهدي، فولدت له محمدا الأمين، وماتت زبيدة في سنة ست عشرة ومائتين كما سيأتي.

وتزوج أمة العزيز أم ولد كانت لأخيه موسى الهادي فولدت له علي بن الرشيد.

وتزوج أم محمد بنت صالح المسكين، والعباسة بنت عمه سليمان بن أبي جعفر، فزفتا إليه في ليلة واحدة سنة سبع وثمانين ومائة بالرقة.

وتزوج عزيزة بنت الغطريف، وهي: بنت خاله أخي أمه الخيزران.

وتزوج ابنة عبد الله بن محمد بن عبد الله بن عمر بن عثمان بن عفان العثمانية، ويقال لها: الجرشية، لأنها ولدت بجرش باليمن.

وتوفي عن أربع: زبيدة، وعباسة، وابنة صالح، والعثمانية هذه.

وأما الحظايا من الجوار فكثير جدا حتى قال بعضهم: إنه كان في داره أربعة آلاف جارية سراري حسان.

وأما أولاده الذكور

فمحمد الأمين بن زبيدة، وعبد الله المأمون من جارية اسمها مراجل، ومحمد أبو إسحاق المعتصم من أم ولد يقال: لها ماردة، والقاسم المؤتمن من جارية يقال لها: قصف.

وعلي أمه أمة العزيز، وصالح من جارية اسمها رئم، ومحمد أبو يعقوب، ومحمد أبو عيسى، ومحمد أبو العباس، ومحمد أبو علي كل هؤلاء من أمهات أولاد.

وكان من الإناث

سكينة من قصف، وأم حبيب من ماردة، وأروى، وأم الحسن، وأم محمد وهي حمدونة، وفاطمة وأمها غصص، وأم سلمة، وخديجة، وأم القاسم رملة، وأم علي، وأم الغالية، وريطة كلهن من أمهات أولاد.

خلافة محمد الأمين

لما توفي الرشيد بطوس في جمادى الآخرة من هذه السنة - أعني: سنة ثلاث وتسعين ومائة - كتب صالح بن الرشيد إلى أخيه ولي العهد من بعد أبيه محمد الأمين بن زبيدة وهو ببغداد يعلمه بوفاة أبيه ويعزيه فيه، فوصل الكتاب صحبة رجاء الخادم ومعه الخاتم والقضيب والبردة، يوم الخميس الرابع عشر من جمادى الآخرة.

فركب الأمين من قصرة الخلد إلى قصر أبي جعفر المنصور - وهو قصر الذهب - على شط بغداد، فصلى بالناس ثم صعد المنبر فخطبهم وعزاهم في الرشيد، وبسط آمال الناس ووعدهم الخير.

فبايعه الخواص من قومه ووجوه بني هاشم والأمراء، وأمر بصرف أعطيات الجند عن سنتين، ثم نزل وأمر عمه سليمان بن جعفر أن يأخذ له البيعة من بقية الناس فلما انتظم أمر الأمين واستقام حاله حسده أخوه المأمون ووقع الخلف بينهما على ما سنذكره إن شاء الله تعالى.

اختلاف الأمين والمأمون

كان السبب في ذلك أن الرشيد لما وصل إلى أول بلاد خراسان وهب جميع ما فيها من الحواصل والدواب والسلاح لولده المأمون، وجدد له البيعة، وكان الأمين قد بعث بكر بن المعتمر بكتب في خفية ليوصلها إلى الأمراء إذا مات الرشيد.

فلما توفي الرشيد نفذت الكتب إلى الأمراء وإلى صالح بن الرشيد، وفيها كتاب إلى المأمون يأمره بالسمع والطاعة، فأخذ صالح البيعة من الناس إلى الأمين، وارتحل الفضل بن الربيع بالجيش إلى بغداد وقد بقي في نفوسهم تحرج من البيعة التي أخذت للمأمون، وكتب إليهم المأمون يدعوهم إلى بيعته فلم يجيبوه، فوقعت الوحشة بين الأخوين، ولكن تحول عامة الجيش إلى الأمين.

فعند ذلك كتب المأمون إلى أخيه الأمين بالسمع والطاعة والتعظيم، وبعث إليه من هدايا خراسان وتحفها من الدواب والمسك وغير ذلك، وهو نائبه عليها، وقد أمر الأمين في صبيحة يوم السبت بعد أخذ البيعة يوم الجمعة ببناء ميدانين للصيد، فقال في ذلك بعض الشعراء:

بنى أمين الله ميدانا * وصير الساحة بستانا

وكانت الغزلان فيه بانا * يهدي إليه فيه غزلانا

وفي شعبان من هذه السنة: قدمت زبيدة من الرقة بالخزائن وما كان عندها من التحف والقماش من الرشيد، فتلقاها ولدها الأمين إلى الأنبار ومعه وجوه الناس.

وأقر الأمين أخاه المأمون على ما تحت يده من بلاد خراسان والري وغير ذلك، وأقر أخاه القاسم على الجزيرة والثغور، وأقر عمال أبيه على البلاد إلا القليل منهم.

وفيها: مات نقفور ملك الروم، قتله البرجان، وكان ملكه تسع سنين، وأقام بعده ولده استبراق شهرين فمات، فملكهم ميخائيل زوج أخت نقفور لعنهم الله.

وفيها: تواقع هرثمة نائب خراسان ورافع بن الليث فاستجاش رافع بالترك ثم هربوا وبقي رافع وحده فضعف أمره.

وحج بالناس نائب الحجاز داود بن عيسى بن موسى بن محمد بن علي.

وفيها توفي:

إسماعيل بن علية

وهو من أئمة العلماء والمحدثين الرفعاء، روى عنه: الشافعي، وأحمد بن حنبل.

وقد ولي المظالم ببغداد، وكان ناظر الصدقات بالبصرة، وكان ثقةً نبيلا جليلا كبيرا، وكان قليل التبسم، وكان يتجر في البز وينفق على عياله منه ويحج منه، ويبر أصحابه منه مثل السفيانين وغيرهما.

وقد ولاه الرشيد القضاء فلما بلغ ابن المبارك أنه تولى القضاء كتب إليه يلومه نظما ونثرا، فاستعفى ابن علية من القضاء فأعفاه.

وكانت وفاته في ذي القعدة من هذه السنة، ودفن في مقابر عبد الله بن مالك.

وفيها مات:

محمد بن جعفر

الملقب: بغندر، روى عن: شعبة، وسعيد بن أبي عروبة، وعن خلق كثير.

وعنه جماعة منهم: أحمد بن حنبل.

وكان ثقةً جليلا حافظا متقنا.

وقد ذكر عنه حكايات تدل على تغفيله في أمور الدنيا، كانت وفاته بالبصرة في هذه السنة، وقيل: في التي قبلها، وقيل: في التي بعدها.

وقد لقب بهذا اللقب جماعة من المتقدمين والمتأخرين.

وفيها توفي:

أبو بكر بن العياش

أحد الأئمة، سمع: أبا إسحاق السبيعي، والأعمش، وهشام، وهمام بن عروة، وجماعة.

وحدث عنه خلق منهم: أحمد بن حنبل.

وقال يزيد بن هارون: كان حبرا فاضلا لم يضع جنبه إلى الأرض أربعين سنة.

قالوا: ومكث ستين سنة يختم القرآن في كل يوم ختمة كاملة، وصام ثمانين رمضانا، وتوفي وله ست وتسعون سنة.

ولما احتضر بكى عليه ابنه فقال: يا بني ! علام تبكي؟ والله ما أتى أبوك فاحشة قط.

ثم دخلت سنة أربع وتسعين ومائة

فيها: خلع أهل حمص نائبهم فعزله عنهم الأمين وولى عليهم عبد الله بن سعيد الحرشي فقتل طائفة من وجوه أهلها وحرق نواحيها، فسألوه الأمان فأمنهم، ثم هاجوا فضرب أعناق كثير منهم أيضا.

وفيها: عزل الأمين أخاه القاسم عن الجزيزة والثغور، وولى على ذلك خزيمة بن خازم، وأمر أخاه بالمقام عنده ببغداد.

وفيها: أمر الأمين بالدعاء لولده موسى على المنابر في سائر الأمصار، وبالإمرة من بعده، وسماه: الناطق بالحق، ثم يدعى من بعده لأخيه المأمون ثم لأخيه القاسم، وكان من نية الأمين الوفاء لأخويه بما شرط لهما، فلم يزل به الفضل بن الربيع حتى غير نيته في أخويه، وحسن له خلع المأمون والقاسم، وصغر عنده شأن المأمون.

وإنما حمله على ذلك خوفه من المأمون إن أفضت إليه الخلافة أن يخلعه من الحجابة.

فوافقه الأمين على ذلك وأمر بالدعاء لولده موسى وبولاية العهد من بعده، وذلك في ربيع الأول من هذه السنة.

فلما بلغ المأمون قطع البريد عنه وترك ضرب اسمه على السكة والطرز، وتنكر للأمين.

وبعث رافع بن الليث إلى المأمون يسأل منه الأمان فأمنه، فسار إليه بمن معه فأكرمه المأمون وعظمه، وجاء هرثمة على إثره فتلقاه المأمون ووجوه الناس وولاه الحرس.

فلما بلغ الأمين أن الجنود التفت على أخيه المأمون ساءه ذلك وأنكره، وكتب إلى المأمون كتابا وأرسل إليه رسلا ثلاثة من أكابر الأمراء، سأله أن يجيبه إلى تقديم ولده عليه، وأنه قد سماه: الناطق بالحق، فأظهر المأمون الامتناع فشرع الأمراء في مطايبته وملاينته، وأن يجيبهم إلى ذلك فأبى كل الإباء.

فقال له العباس بن موسى بن عيسى: فقد خلع أبي نفسه فماذا كان ؟

فقال المأمون: إن أباك كان امرءا مكروها.

ثم لم يزل المأمون يعد العباس ويمنيه حتى بايعه بالخلافة، ثم لما رجع إلى بغداد كان يراسله بما كان من أمر الأمين ويناصحه.

ولما رجع الرسل إلى الأمين أخبروه بما كان من قول أخيه، فعند ذلك صمم الفضل بن الربيع على الأمين في خلع المأمون، فخلعه وأمر بالدعاء لولده في سائر البلاد، وأقاموا من يتكلم في المأمون ويذكر مساويه.

وبعثوا إلى مكة فأخذوا الكتاب الذي كتبه الرشيد وأودعه في الكعبة، فمزقه الأمين وأكد البيعة إلى ولده الناطق بالحق على ما ولاه من الأعمال، وجرت بين الأمين والمأمون مكاتبات ورسل يطول بسطها.

وقد استقصاها ابن جرير في تاريخه، ثم آل بهما الأمر إلى أن احتفظ كل منهما على بلاده وحصنها وهيأ الجيوش والجنود وتألف الرعايا.

وفيها: غدرت الروم بملكهم ميخائيل فراموا خلعه وقتله فترك الملك وترهب وولوا عليهم اليون.

وحج بالناس فيها نائب الحجاز داود بن عيسى، وقيل: علي بن الرشيد.

وفيها توفي من الأعيان:

سالم بن سالم أبو بحر البلخي

قدم بغداد وحدث بها عن: إبراهيم بن طهمان، والثوري.

وعنه: الحسن بن عرفة.

وكان عابدا زاهدا، مكث أربعين سنة لم يفرش له فراش، وصامها كلها إلا يومي العيد، ولم يرفع رأسه إلى السماء، وكان داعية الإرجاء ضعيف الحديث، إلا أنه كان رأسا في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وكان قد قدم بغداد فأنكر على الرشيد وشنع عليه فحبسه وقيده بإثني عشر قيدا، فلم يزل أبو معاوية يشفع فيه حتى جعلوه في أربعة قيود، ثم كان يدعو الله أن يرده إلى أهله.

فلما توفي الرشيد أطلقته زبيدة فرجع - وكانوا بمكة قد جاؤوا حجاجا - فمرض بمكة.

واشتهى يوما بردا فسقط في ذلك الوقت برد حين اشتهاه فأكل منه.

مات في ذي الحجة من هذه السنة.

عبد الوهاب بن عبد المجيد

الثقفي، كانت غلته في السنة قريبا من خمسين ألفا ينفقها كلها على أهل الحديث.

توفي عن أربع وثمانين سنة.

أبو النصر الجهني المصاب

كان مقيما بالمدينة النبوية بالصفة من المسجد في الحائط الشمالي منه، وكان طويل السكوت، فإذا سئل أجاب بجواب حسن، ويتكلم بكلمات مفيدة تؤثر عنه وتكتب.

وكان يخرج يوم الجمعة قبل الصلاة فيقف على مجامع الناس فيقول: { يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْما لَا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلَا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَنْ وَالِدِهِ شَيْئا } [لقمان: 33] و { وَاتَّقُوا يَوْما لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئا وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلَا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ } [البقرة: 48] ثم ينتقل إلى جماعة أخرى ثم إلى أخرى حتى يدخل المسجد فيصلي فيه الجمعة ثم لا يخرج منه حتى يصلي العشاء الآخرة.

وقد وعظ مرة هارون الرشيد بكلام حسن فقال: اعلم أن الله سائلك عن أمة نبيه فأعد لذلك جوابا، وقد قال عمر بن الخطاب: لو ماتت سخلة بالعراق ضياعا لخشيت أن يسألني الله عنها.

فقال الرشيد: إني لست كعمر، وإن دهري ليس كدهره.

فقال: ما هذا بمغن عنك شيئا.

فأمر له بثلثمائة دينار، فقال: أنا رجل من أهل الصفة فمر بها فلتقسم عليهم وأنا واحد منهم.

ثم دخلت سنة خمس وتسعين ومائة

فيها: في صفر منها أمر الأمين الناس أن لا يتعاملوا بالدارهم والدنانير التي عليها اسم أخيه المأمون ونهى أن يدعى له على المنابر، وأن يدعى له ولولده من بعده.

وفيها: تسمى المأمون: بإمام المؤمنين.

وفي ربيع الآخر فيها: عقد الأمين لعلي بن عيسى بن ماهان الإمارة على الجبل وهمذان وأصبهان وقم وتلك البلاد، وأمره بحرب المأمون وجهز معه جيشا كثيرا، وأنفق فيهم نفقات عظيمة، وأعطاه مائتي ألف دينار، ولولده خمسين ألف دينار وألفي سيف محلى، وستة آلاف ثوب للخلع.

فخرج علي بن موسى بن ماهان من بغداد في أربعين ألف مقاتل فارس، ومعه قيد من فضة ليأتي فيه بالمأمون.

وخرج الأمين معه مشيعا فسار حتى وصل الري فتلقاه الأمير طاهر في أربعة آلاف، فجرت بينهم أمور آل الحال فيها أن اقتتلوا، فقتل علي بن عيسى وانهزم أصحابه وحمل رأسه وجثته إلى الأمير طاهر، فكتب بذلك إلى وزير المأمون ذي الرياستين.

وكان الذي قتل علي بن عيسى رجل يقال له: طاهر الصغير، فسمي: ذا اليمينين، لأنه أخذ السيف بيديه الثنتيين فذبح به علي بن عيسى بن ماهان، ففرح بذلك المأمون وذووه.

وانتهى الخبر إلى الأمين وهو يصيد السمك من دجله فقال: ويحك ! دعني من هذا فإن كوثرا قد صاد سمكتين، ولم أصد بعد شيئا.

وأرجف الناس ببغداد وخافوا غائلة هذا الأمر، وندم محمد الأمين على ما كان منه من نكث العهد وخلع أخيه المأمون، وما وقع من الأمر الفظيع.

وكان رجوع الخبر إليه في شوال من هذه السنة.

ثم جهز عبد الرحمن بن جبلة الأنباري في عشرين ألفا من المقاتلة إلى همذان ليقاتلوا طاهر بن الحسين بن مصعب ومن معه من الخراسانية، فلما اقتربوا منهم تواجهوا فتقاتلوا قتالا شديدا حتى كثرت القتلى بينهم، ثم انهزم أصحاب عبد الرحمن بن جبلة فلجأوا إلى همذان فحاصرهم بها طاهر حتى اضطرهم إلى أن دعوا إلى الصلح، فصالحهم وأمنهم ووفى لهم، وانصرف عبد الرحمن بن جبلة على أن يكون راجعا إلى بغداد.

ثم غدروا بأصحاب طاهر وحملوا عليهم وهم غافلون فقتلوا منهم خلقا، وصبر لهم أصحاب طاهر ثم نهضوا إليهم وحملوا عليهم فهزموهم وقتل أميرهم عبد الرحمن بن جبلة، وفر أصحابه خائبين.

فلما رجعوا إلى بغداد اضطربت الأمور وكثرت الأراجيف، وكان ذلك في ذي الحجة من هذه السنة، وطرد طاهر عمال الأمين عن قزوين وتلك النواحي، وقوي أمر المأمون جدا بتلك البلاد.

وفي ذي الحجة من هذه السنة: ظهر أمر السفياني بالشام، واسمه: علي بن عبد الله بن خالد بن يزيد بن معاوية بن أبي سفيان، فعزل نائب الشام عنها ودعا إلى نفسه، فبعث إليه الأمين جيشا فلم يقدموا عليه بل أقاموا بالرقة، ثم كان من أمره ما سنذكره.

وحج بالناس فيها نائب الحجاز داود بن عيسى.

وفيها: كانت وفاة جماعة من الأعيان منهم:

إسحاق بن يوسف الأزرق

أحد أئمة الحديث.

روى عنه: أحمد، وغيره.

ومنهم:

بكار بن عبد الله

ابن مصعب بن ثابت بن عبد الله بن الزبير، كان نائب المدينة للرشيد ثنتي عشرة سنة وشهرا، وقد أطلق الرشيد على يديه لأهلها ألف ألف دينار ومائتي ألف دينار، وكان شريفا جوادا معظما.

وفيها توفي:

أبو نواس الشاعر

واسمه الحسن بن هانئ بن صباح بن عبد الله بن الجراح بن هنب بن داود بن غنم بن سليم، ونسبه عبد الله بن سعد إلى الجراح بن عبد الله الحكمي، ويقال له: أبو نواس البصري.

كان أبوه من أهل دمشق من جند مروان بن محمد، ثم صار إلى الأهواز وتزوج امرأة يقال لها: خلبان، فولدت له أبا نواس، وابنا آخر يقال له: أبا معاذ، ثم صار أبو نواس إلى البصرة فتأدب بها على أبي زيد وأبي عبيدة، وقرأ كتاب سيبويه ولزم خلفا الأحمر، وصحب يونس بن حبيب الجرمي النحوي.

وقد قال القاضي ابن خلكان: صحب أبا أسامة وابن الحباب الكوفي.

وروى الحديث عن: أزهر بن سعد، وحماد بن زيد، وحماد بن سلمة، وعبد الواحد بن زياد، ومعتمر بن سليمان، ويحيى القطان.

وعنه: محمد بن إبراهيم بن كثير الصوفي.

وحدث عنه جماعة منهم: الشافعي، وأحمد بن حنبل، وغندر، ومشاهير العلماء.

ومن مشاهير حديثه ما رواه محمد بن إبراهيم بن كثير الصوفي، عن حماد بن سلمة، عن ثابت، عن أنس، قال: قال رسول الله : «لا يموتن أحدكم إلا وهو يحسن الظن بالله، فإن حسن الظن بالله ثمن الجنة».

وقال محمد بن إبراهيم: دخلنا عليه وهو في الموت، فقال له صالح بن علي الهاشمي: يا أبا علي ! أنت اليوم في آخر يوم من أيام الدنيا وأول يوم من أيام الآخرة، وبينك وبين الله هنات، فتب إلى الله من عملك.

فقال: إياي تخوف؟ بالله أسندوني.

قال: فأسندناه.

فقال: حدثني حماد بن سلمة، عن يزيد الرقاشي، عن أنس بن مالك، قال: قال رسول الله : «لكل نبي شفاعة، وإني اختبأت شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي يوم القيامة».

ثم قال: أفلا تراني منهم ؟

وقال أبو نواس: ما قلت الشعر حتى رويت عن ستين امرأة منهن: خنساء، وليلى، فما الظن بالرجال ؟

وقال يعقوب بن السكيت: إذا رويت الشعر عن: امرئ القيس، والأعشى من أهل الجاهلية، ومن الإسلاميين: جرير، والفرزدق، ومن المحدثين عن: أبي نواس فحسبك.

وقد أثنى عليه غير واحد منهم: الأصمعي، والجاحظ، والنظام.

قال أبو عمرو الشيباني: لولا أن أبا نواس أفسد شعره بما وضع فيه من الأقذار لاحتججنا به - يعني: شعره الذي قاله في الخمريات والمردان، وقد كان يميل إليهم - ونحو ذلك مما هو معروف في شعره.

واجتمع طائفة من الشعراء عند المأمون فقيل لهم: أيكم القائل:

فلما تحسَّاها وقفنا كأننا * نرى قمرا في الأرض يبلغ كوكبا

قالوا: أبو نواس.

قال: فأيكم القائل:

إذا نزلت دون اللهاة من الفتى * دعى همه عن قبله برحيل

قالوا: أبو نواس.

قال: فأيكم القائل:

فتمشَّت في مفاصلهم * كتمشي البُرْءِ في السقم

قالوا: أبو نواس.

قال: فهو أشعركم.

وقال سفيان بن عيينة لابن مناذر: ما أشعر ظريفكم أبا نواس في قوله:

يا قمرا أبصرت في مأتم * يندب شجو بين أتراب

أبرزه المأتم لي كارها * برغم ذي باب وحجاب

يبكي فيذري الدرّ من عينه * ويلطم الورد بعناب

لا زال موتا دأب أحبابه * ولم تزل رؤيته دابي

قال ابن الأعرابي: أشعر الناس أبو نواس في قوله:

تسترت من دهري بكل جناحه * فعيني ترى دهري وليس يراني

فلو تسأل الأيام عني ما درت * وأين مكاني ما عرفن مكاني

وقال أبو العتاهية: قلت في الزهد عشرين ألف بيت، وددت أن لي مكانها الأبيات الثلاثة التي قالها أبو نواس وهي هذه، وكانت مكتوبة على قبره:

يا نواسي توقّر * أو تغيَّر أو تصبَّر

إن يكن ساءك دهر * فلما سرَّك أكثر

يا كثير الذنب * عفو الله من ذنبك أكبر

ومن شعر أبي نواس يمدح بعض الأمراء:

أوجده الله فما مثله * بطالب ذاك ولا ناشد

ليس على الله بمستنكر * أن يجمع العالم في واحد

وأنشد سفيان بن عيينة قول أبي نواس:

ما هوى إلا له سبب * يبتدي منه وينشعب

فتنت قلبي محجبة * وجهها بالحسن منتقب

خلته والحسن تأخذه * تنتقي منه وتنتخب

فاكتست منه طرائفه * واستردت بعض ما تهب

فهي لو صيرت فيه لها * عودة لم يثنها أرب

صار جدا ما مزحت به * ربَّ جد جرَّه اللعب

فقال ابن عيينة: آمنت بالذي خلقها.

وقال ابن دريد: قال أبو حاتم: لو أن العامة بدلت هذين البيتين كتبتهما بماء الذهب:

ولو أني استزدتك فوق ما بي * من البلوى لأعوزك المزيد

ولو عرضت على الموتى حياتي * بعيش مثل عيشي لم يريدوا

وقد سمع أبو نواس حديث سهيل، عن أبي صالح، عن أبي هريرة، أن رسول الله قال: «القلوب جنود مجندة فما تعارف منها ائتلف وما تناكر منها اختلف».

فنظم ذلك في قصيدة له فقال:

إنَّ القلوب لأجناد مجندة * لله في الأرض بالأهواء تعترف

فما تناكر منها فهو مختلف * وما تعارف منها فهو مؤتلف

ودخل يوما أبو نواس مع جماعة من المحدثين على عبد الواحد بن زياد فقال لهم عبد الواحد: ليختر كل واحد منكم عشرة أحاديث أحدثه بها، فاختار كل واحد عشرة إلا أبا نواس، فقال له: مالك لا تختار كما اختاروا ؟

فأنشأ يقول:

ولقد كنا روينا * عن سعيد عن قتادة

عن سعيد بن المسيـ*ـب ثم سعد بن عباده

وعن الشعبي والشعـ*ـبي شيخ ذو جلاده

وعن الأخيار نحكيـ * ـه وعن أهل الإفادة

أن من مات محبا * فله أجر شهادة

فقال له عبد الواحد: قم عني يا فاجر، لا حدثتك ولا حدثت أحدا من هؤلاء من أجلك.

فبلغ ذلك مالك بن أنس وإبراهيم بن أبي يحيى فقالا: كان ينبغي أن يحدثه لعل الله أن يصلحه.

قلت: وهذا الذي أنشده أبو نواس قد رواه ابن عدي في كامله، عن ابن عباس، موقوفا ومرفوعا «من عشق فعف فكتم فمات مات شهيدا».

ومعناه أن من ابتلى بالعشق من غير اختيار منه فصبر، وعف عن الفاحشة، ولم يفش ذلك، فمات بسبب ذلك، حصل له أجر كثير.

فإن صح هذا كان ذلك له نوع شهادة، والله أعلم.

وروى الخطيب أيضا أن شعبة لقي أبا نواس فقال له: حدثنا من طرفك، فقال مرتجلا: حدثنا الخفاف، عن وائل وخالد الحذاء، عن جابر ومسعر، عن بعض أصحابه، يرفعه الشيخ إلى عامر قالوا جميعا: أيما طفلة علقها ذو خلق طاهر فواصلته ثم دامت له على وصال الحافظ الذاكر، كانت له الجنة مفتوحة يرتع في مرتعها الزاهر، وأي معشوق جفا عاشقا بعد وصال دائم ناصر ! ففي عذاب الله بعدا له نعم وسحقا دائم ذاخر.

فقال له شعبة: إنك لجميل الأخلاق، وإني لأرجو لك.

وأنشد أبو نواس أيضا:

يا ساحر المقلتين والجيد * وقاتلي منك بالمواعيد

توعدني الوصل ثم تخلفني * ويلاي من خلفك موعودي

حدثني الأزرق المحدِّث عن * شهر وعوف عن ابن مسعود

ما يخلف الوعد غير كافرة * وكافر في الجحيم مصفود

فبلغ ذلك إسحاق بن يوسف الأزرق فقال: كذب عدو الله عليَّ وعلى التابعين وعلى أصحاب محمد .

وعن سليم بن منصور بن عمار، قال: رأيت أبا نواس في مجلس أبي يبكي بكاءً شديدا فقلت: إني لأرجو أن لا يعذبك الله بعد هذا البكاء فأنشأ يقول:

لم أبك في مجلس منصور * شوقا إلى الجنة والحور

ولا من القبر وأهواله * ولا من النفخة في الصور

ولا من النار وأغلالها * ولا من الخذلان والجور

لكن بكائي لبكا شادن * تقيه نفسي كلَّ محذور

ثم قال: إنما بكيت لبكاء هذا الأمرد الذي إلى جانب أبيك - وكان صبيا حسن الصورة يسمع الوعظ فيبكي خوفا من الله عز وجل -.

قال أبو نواس: دعاني يوما بعض الحاكة وألح عليَّ ليضيفني في منزله، ولم يزل بي حتى أجبته فسار إلى منزله وسرت معه فإذا منزل لا بأس به، وقد احتفل الحائك في الطعام وجمع جمعا من الحياك، فأكلنا وشربنا ثم قال: يا سيدي أشتهي أن تقول في جاريتي شيئا من الشعر - وكان مغرما بجارية له - قال:

فقلت: أرنيها حتى أنظم على شكلها وحسنها، فكشف عنها فإذا هي أسمج خلق الله وأوحشهم، سوداء شمطاء ديدانية يسيل لعابها على صدرها.

فقلت لسيدها: ما اسمها ؟

فقال: تسنيم، فأنشأت أقول:

أسهر ليلي حبَّ تسنيم * جارية في الحسن كالبوم

كأنما نكهتها كامخٌ * أو حزمة من حزم الثوم

ضرطت من حبي لها ضرطة * أفزعت منها ملك الروم

قال: فقام الحائك يرقص ويصفق سائر يومه ويفرح ويقول: إنه شبهها والله بملك الروم.

ومن شعره أيضا:

أبرمني الناس يقولون * بزعمهم كثرت أوزاريه

إن كنت في النار أم في جنة * ماذا عليكم يا بني الزانيه

وبالجملة فقد ذكروا له أمورا كثيرةً، ومجونا وأشعارا منكرة، وله في الخمريات والقاذروات والتشبب بالمردان والنسوان أشياء بشعة شنيعة، فمن الناس من يفسقه ويرميه بالفاحشة، ومنهم من يرميه بالزندقة، ومنهم من يقول: كان إنما يخرب على نفسه، والأول أظهر، لما في أشعاره.

فأما الزندقة فبعيدة عنه، ولكن كان فيه مجون وخلاعة كثيرة.

وقد عزوا إليه في صغره وكبره أشياء منكرة الله أعلم بصحتها، والعامة تنقل عنه أشياء كثيرة لا حقيقة لها.

وفي صحن جامع دمشق قبة يفور منها الماء يقول الدماشقة: قبة أبي نواس، وهي مبنية بعد موته بأزيد من مائة وخمسين سنة، فما أدري لأي شيء نسبت إليه، فالله أعلم بهذا.

وقال محمد بن أبي عمر: سمعت أبا نواس، يقول: والله ما فتحت سراويلي لحرام قط.

وقال له محمد الأمين بن الرشيد: أنت زنديق.

فقال: يا أمير المؤمنين لست بزنديق وأنا أقول:

أصلي الصلاة الخمس في حين وقتها * وأشهد بالتوحيد لله خاضعا

وأحسن غسلي إن ركبت جنابة * وإن جاءني المسكين لم أك مانعا

وإني وإن حانت من الكاسِ دعوة * إلى بيعة الساقي أجبت مسارعا

وأشربها صرفا على جنب ماعز * وجدي كثير الشحم أصبح راضعا

وجواذب حوّاري ولوز وسكر * وما زال للخمار ذلك نافعا

وأجعل تخليط الروافض كلهم * لنفخة بختيشوع في النار طائعا

فقال له الأمين: ويحك ! وما الذي ألجأك إلى نفخة بختيشوع ؟

فقال: به تمت القافية.

فأمر له بجائزة.

وبختيشوع الذي ذكره هو: طبيب الخلفاء.

وقال الجاحظ: لا أعرف في كلام الشعراء أرق ولا أحسن من قول أبي نواس حيث يقول:

أية نار قدح القادح * وأيّ جد بلغ المازح

لله در الشيب من واعظ * وناصح لو خطئ الناصح

يأبى الفتى إلا اتباع الهوى * ومنهج الحق له واضح

فاسم بعينيك إلى نسوة * مهورهن العمل الصالح

لا يجتلي الحوراء في خدرها * إلا امرؤ ميزانه راجح

من اتقى الله فذاك الذي * سيق إليه المتجر الرابح

فاغدُ فما في الدين أغلوطة * ورح لما أنت له رائح

وقد استنشده أبو عفان قصيدته التي في أولها: لا تنس ليلى ولا تنظر إلى هند.

فلما فرغ منها سجد له أبو عفان، فقال له أبو نواس: والله لا أكلمك مدة.

قال: فغمني ذلك، فلما أردت الانصراف قال: متى أراك ؟

فقلت: ألم تقسم ؟

فقال: الدهر أقصر من أن يكون معه هجر.

ومن مستجاد شعره قوله:

ألا رب وجه في التراب عتيق * ويا رب حسن في التراب رقيق

ويا رب حزم في التراب ونجدة * ويا رب رأي في التراب وثيق

فقل لقريب الدار إنك ظاعن * إلى سفر نائي المحل سحيق

أرى كل حي هالكا وابن هالك * وذا نسب في الهالكين عريق

إذا امتحن الدنيا لبيب تكشفت * له عن عدو في لباس صديق

وقوله:

لا تشرهنَّ فإن الذل في الشره * والعز في الحلم لا في الطيش والسَّفه

وقل لمغتبط في التيه من حمق * لو كنت تعلم ما في التيه لم تته

التيه مفسدة للدين منقصة * للعقل مهلكة للعرض فانتبه

وجلس أبو العتاهية القاسم بن إسماعيل على دكان وراق فكتب على ظهر دفتر هذه الأبيات:

أيا عجبا كيف يعصي الإلـ* ـه أم كيف يجحده الجاحد

وفي كل شيء له آية * تدل على أنه الواحد

ثم جاء أبو نواس فقرأها فقال: أحسن قائله والله. والله لوددت أنها لي بجميع شيء قلته، لمن هذه ؟

قيل له: لأبي العتاهية، فأخذ فكتب في جانبها:

سبحان من خلق الخلـ *ـق من ضعف مهين

يسوقه من قرار * إلى قرار مكين

يخلق شيئا فشيئا * في الحجب دون العيون

حتى بدت حركات * مخلوقة في سكون

ومن شعره المستجاد قوله:

انقطعت شدتي فعفت الملاهي إذ * رمى الشَّيب مفرقي بالدواهي

ونهتني النُّهى فملت إلى العدل * وأشفقت من مقالة ناهي

أيها الغافل المقرُّ على السهو * ولا عذر في المعاد لساهي

لا بأعمالنا نطيق خلاصا * يوم تبدو السماء فوق الجباه

على أنَّا على الإساءة والتفـ * ـريط نرجو من حسن عفو الإله

وقوله:

نموت ونبلى غير أن ذنوبنا * إذا نحن متنا لا تموت ولا تبلى

ألا ربَّ ذي عينين لا تنفعانه * وما تنفع العينان من قلبه أعمى

وقوله:

لو أن عينا أوهمتها نفسها * يوم الحساب ممثلا لم تطرف

سبحان ذي الملكوت أية ليلة * محقت صبيحتها بيوم الموقف

كتب الفناء على البرية ربها * فالناس بين مقدم ومخلف

وذكر أن أبا نواس لما أراد الإحرام بالحج قال:

يا مالكا ما أعدلك مليك كل من ملك * لبيك إن الحمد لك والملك لا شريك لك

عبدك قد أهلَّ لك أنت له حيث سلك * لولاك يا رب هلك لبيك إن الحمد لك

والملك لا شريك لك والليل لما أن حلك * والسابحات في الفلك على مجاري تنسلك

كل نبي وملك وكل من أهلَّ لك * سبح أو صلى فلك لبيك إن الحمد لك

والملك لا شريك لك يا مخطئا ما أجهلك * عصيت ربا عدلك وأقدرك وأمهلك

عجِّل وبادر أملك واختم بخير عملك * لبيك إن الحمد لك والملك لا شريك لك

وقال المعافى بن زكريا الحريري: ثنا محمد بن العباس بن الوليد، سمعت أحمد بن يحيى بن ثعلب، يقول: دخلت على أحمد بن حنبل فرأيت رجلا تهمه نفسه لا يحب أن يكثر عليه كأن النيران قد سعرت بين يديه، فمازلت أترفق به وتوسلت إليه أني من موالي شيبان حتى كلمني.

فقال: في أي شيء نظرت من العلوم ؟

فقلت: في اللغة والشعر.

قال: رأيت بالبصرة جماعة يكتبون عن رجل الشعر، قيل لي: هذا أبو نواس.

فتخللت الناس ورائي فلما جلست إليه أملى علينا:

إذا ما خلوت الدهر يوما فلا تقل * خلوت ولكن في الخلاء رقيب

ولا تحسبن الله يغفل ساعة * ولا آثما يخفى عليه يغيب

لهونا عن الآثام حتى تتابعت * ذنوب على آثارهن ذنوب

فياليت أن الله يغفر ما مضى * ويأذن في توباتنا فنتوب

وزاد بعضهم في رواية عن أبي نواس بعد هذه الأبيات:

أقول إذا ضاقت عليَّ مذاهبي * وحلت بقلبي للهموم ندوب

لطول جناياتي وعظم خطيئتي * هلكت ومالي في المتاعب نصيب

واغرق في بحر المخافة آيسا * وترجع نفسي تارة فتتوب

وتذكرني عفو الكريم عن الورى * فأحيا وأرجو عفوه فأنيب

وأخضع في قولي وأرغب سائلا * عسى كاشف البلوى عليَّ يتوب

قال ابن طراز الجريري: وقد رويت هذه الأبيات لمن ؟

قيل: لأبي نواس، وهي في زهدياته.

وقد استشهد بها النحاة في أماكن كثيرة قد ذكرناها.

وقال حسن بن الداية: دخلت على أبي نواس وهو في مرض الموت فقلت: عظني.

فأنشأ يقول:

فكثِّر ما استطعت من الخطايا * فإنك لاقيا ربا غفورا

ستبصر إن وردت عليه عفوا * وتلقى سيدا ملكا قديرا

تعض ندامة كفيك مما * تركت مخافة النار الشرورا

فقلت: ويحك ! بمثل هذا الحال تعظني بهذه الموعظة ؟

فقال: اسكت، حدثنا حماد بن سلمة، عن ثابت، عن أنس، قال: قال : «ادخرت شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي».

وقد تقدم بهذا الإسناد عنه: «لا يموتن أحدكم إلا وهو يحسن الظن بالله».

وقال الربيع وغيره: عن الشافعي، قال: دخلنا على أبي نواس في اليوم الذي مات فيه وهو يجود بنفسه، فقلنا: ما أعددت لهذا اليوم؟

فأنشأ يقول:

تعاظمني ذنبي فلما قرنته * بعفوك ربي كان عفوك أعظما

ومازلت ذا عفو عن الذنب لم تزل * تجود وتعفو منَّة وتكرُّما

ولولاك لم يقدر لإبليس عابد * وكيف وقد أغوى صفيك آدما

رواه ابن عساكر.

وروى أنهم وجدوا عند رأسه رقعه مكتوبا فيها بخطه:

يا رب إن عظمت ذنوبي كثرة * فلقد علمت بأن عفوك أعظم

أدعوك ربي كما أمرت تضرعا * فإذا رددت يدي فمن ذا يرحم

إن كان لا يرجوك إلا محسن * فمن الذي يرجو المسيء المجرم

مالي إليك وسيلة إلا الرجا * وجميل عفوك ثم أني مسلم

وقال يوسف بن الداية: دخلت عليه وهو في السياق.

فقلت: كيف تجدك ؟

فأطرق مليا ثم رفع رأسه فقال:

دب في الفناء سفلا وعلوا * وأراني أموت عضوا فعضوا

ليس يمضي من لحظة بي إلا * نقصتني بمرها في جزوا

ذهبت جدتي بلذة عيشي * وتذكرت طاعة الله نضوا

قد أسأنا كل الإساءة فاللـ * ـهم صفحا عنَّا وغفرا وعفوا

ثم مات من ساعته سامحنا الله وإياه آمين.

وقد كان نقش خاتمه: لا إله إلا الله مخلصا، فأوصى أن يجعل في فمه إذا غسلوه ففعلوا به ذلك.

ولما مات لم يجدوا له من المال سوى ثلثمائة درهم وثيابه وأثاثه، وقد كانت وفاته في هذه السنة ببغداد ودفن في مقابر الشونيزي في تل اليهود.

وله خمسون سنة.

وقيل: ستون سنة.

وقيل: تسع وخمسون سنة.

وقد رآه بعض أصحابه في المنام فقال له: ما فعل الله بك ؟

فقال: غفر لي بأبيات قلتها في النرجس:

تفكر في نبات الأرض وانظر * إلى آثار ما صنع المليك

عيون من لجين شاخصات * بأبصار هي الذهب السبيك

على قضب الزبرجد شاهدات * بأن الله ليس له شريك

وفي رواية عنه أنه قال: غفر لي بأبيات قلتها وهي تحت وسادتي فجاؤوا فوجدوها برقعة في خطه:

يا رب إن عظمت ذنوبي كثيرة * فلقد علمت أن عفوك أعظم

الأبيات. وقد تقدمت.

وفي رواية لابن عساكر قال بعضهم: رأيته في المنام في هيئة حسنة ونعمة عظيمة فقلت له: ما فعل الله بك ؟

قال: غفر لي.

قلت: بماذا وقد كنت مخلطا على نفسك ؟

فقال: جاء ذات ليلة رجل صالح إلى المقابر فبسط رداءه وصلى ركعتين قرأ فيها ألفي قل هو الله أحد، ثم أهدى ثواب ذلك لأهل تلك المقابر فدخلت أنا في جملتهم، فغفر الله لي.

وقال ابن خلكان: أول شعر قاله أبو نواس لما صحب أبا أسامة والبة بن الحباب:

حامل الهوى تعب يستخفه الطرب * إن بكى يحق له ليس ما به لعب

تضحكين لاهية والمحب ينتحب * تعجبين من سقمي صحتي هي العجب

وقال المأمون: ما أحسن قوله:

وما الناس إلا هالك وابن هالك * وذو نسب في الهالكين عريق

إذا امتحن الدنيا لبيب تكشفت * له عن عدو في لباس صديق

قال ابن خلكان: وما أشد رجاءه بربه حيث يقول:

تحمل ما استطعت من الخطايا * فإنك لاقيا ربا غفورا

ستبصر إن قدمت عليه عفوا * وتلقى سيدا ملكا كبيرا

تعض ندامة كفيك مما * تركت مخافة النار الشرورا

ثم دخلت سنة ست وتسعين ومائة

فيها توفي:

أبو معاوية الضرير، أحد مشايخ الحديث الثقات المشهورين.

والوليد بن مسلم الدمشقي، تلميذ الأوزاعي.

وفيها: حبس الأمين أسد بن يزيد لأجل أنه نقم على الأمين لعبه وتهاونه في أمر الرعية، وارتكابه للصيد وغيره في هذا الوقت.

وفيها: وجه الأمين أحمد بن يزيد وعبد الله بن حميد بن قحطبة في أربعين ألفا إلى حلوان لقتال طاهر بن الحسين من جهة المأمون، فلما وصلوا إلى قريب من حلوان خندق طاهر على جيشه خندقا، وجعل يعمل الحيلة في إيقاع الفتنة بين الأميرين، فاختلفا فرجعا ولم يقاتلاه، ودخل طاهر إلى حلوان وجاءه كتاب المأمون بتسليم ما تحت يده إلى هرثمة بن أعين، وأن يتوجه هو إلى الأهواز، ففعل ذلك.

وفيها: رفع المأمون وزيره الفضل بن سهل وولاه أعمالا كبارا وسماه: ذا الرياستين.

وفيها: ولي الأمين نيابة الشام لعبد الملك بن صالح بن علي - وقد كان أخرجه من سجن الرشيد - وأمره أن يبعث له رجالا وجنودا لقتال طاهر وهرثمة.

فلما وصل إلى الرقة أقام بها، وكتب إلى رؤساء الشام يتألفهم ويدعوهم إلى الطاعة، فقدم عليه منهم خلق كثير، ثم وقعت حروب كان مبدؤها من أهل حمص، وتفاقم الأمر وطال القتال بين الناس، ومات عبد الملك بن صالح هنالك، فرجع الجيش إلى بغداد صحبة الحسين بن علي بن ماهان، فتلقاه أهل بغداد بالإكرام، وذلك في شهر رجب من هذه السنة.

فلما وصل جاء رسول الأمين يطلبه فقال: والله ما أنا بمسامر ولا مضحك، ولا وليت له عملا، ولا جبى على يدي مالا، فلماذا يطلبني في هذه الليلة ؟.

سبب خلع الأمين وكيف أفضت الخلافة إلى أخيه المأمون

لما أصبح الحسين بن علي بن ماهان ولم يذهب إلى الأمين لما طلبه، وذلك بعد مقدمه بالجيش من الشام، قام في الناس خطيبا وألَّبهم على الأمين، وذكر لعبه وما يتعاطاه من اللهو وغير ذلك من المعاصي، وأنه لا تصلح الخلافة لمن هذا حاله، وأنه يريد أن يوقع البأس بين الناس، ثم حثهم على القيام عليه والنهوض إليه، وندبهم لذلك، فالتف عليه خلق كثير وجم غفير.

وبعث محمد الأمين إليه خيلا فاقتتلوا مليا من النهار، فأمر الحسين أصحابه بالترجل إلى الأرض وأن يقاتلوا بالسيف والرماح، فانهزم جيش الأمين وخلعه وأخذ البيعة لعبد الله المأمون، وذلك يوم الأحد الحادي عشر من شهر رجب من هذه السنة.

ولما كان يوم الثلاثاء نقل الأمين من قصره إلى قصر أبي جعفر وسط بغداد، وضيق عليه وقيده واضطهده، وأمر العباس بن عيسى بن موسى أمه زبيدة أن تنتقل إلى هناك فامتنعت فضربها بالسوط وقهرها على الانتقال فانتقلت مع أولادها.

فلما أصبح الناس يوم الأربعاء طلبوا من الحسين بن علي أعطياتهم واختلفوا عليه وصار أهل بغداد فرقتين: فرقة مع الأمين، وفرقة عليه.

فاقتتلوا قتالا شديدا فغلب حزب الخليفة أولئك، وأسروا الحسين بن علي بن عيسى بن ماهان وقيدوه ودخلوا به على الخليفة ففكوا عنه قيوده وأجلسوه على سريره، فعند ذلك أمر الخليفة من لم يكن معه سلاح من العامة أن يعطى سلاحا من الخزائن، فانتهب الناس الخزائن التي فيها السلاح بسبب ذلك.

وأمر الأمين فأتي بالحسين بن علي بن عيسى فلامه على ما صدر منه فاعتذر إليه بأن عفو الخليفة حمله على ذلك، فعفا عنه وخلع عليه واستوزره وأعطاه الخاتم وولاه ما وراء بابه، وولاه الحرب وسيَّره إلى حلوان.

فلما وصل إلى الجسر هرب في حاشيته وخدمه فبعث إليه الأمين من يرده، فركبت الخيول وراءه فأدركوه فقاتلهم وقاتلوه فقتلوه لمنتصف رجب وجاؤوا برأسه إلى الأمين، وجدد الناس البيعة للأمين يوم الجمعة.

ولما قتل الحسين بن علي بن عيسى هرب الفضل بن الربيع الحاجب، واستحوذ طاهر بن الحسين على أكثر البلاد للمأمون، واستناب بها النواب، وخلع أكثر أهل الأقاليم الأمين وبايعوا المأمون، ودنا طاهر إلى المدائن فأخذها مع واسط وأعمالها، واستناب من جهته على الحجاز واليمن والجزيرة والموصل وغير ذلك، ولم يبق مع الأمين من البلاد إلا القليل.

وفي شعبان منها: عقد الأمين أربعمائة لواء مع كل لواء أمير، وبعثهم لقتال هرثمة، فالتقوا في شهر رمضان فكسرهم هرثمة وأسر مقدمهم علي بن محمد بن عيسى بن نهيك، وبعث به إلى المأمون.

وهرب جماعة من جند طاهر فساروا إلى الأمين فأعطاهم أموالا كثيرةً، وأكرمهم وغلف لحاهم بالغالية فسموا: جيش الغالية.

ثم ندبهم الأمين وأرسل معهم جيشا كثيفا لقتال طاهر فهزمهم طاهر وفرق شملهم، وأخذ ما كان معهم.

واقترب طاهر من بغداد فحاصرها وبعث القصاد والجواسيس يلقون الفتنة بين الجند حتى تفرقوا شيعا، ثم وقع بين الجيش وتشعبت الأصاغر على الأكابر واختلفوا على الأمين في سادس ذي الحجة، فقال بعض البغاددة:

قل لأمين الله في نفسه * ما شتت الجند سوى الغاليه

وطاهر نفسي فدا طاهر * برسله والعدة الكافيه

أضحى زمام الملك في كفه * مقاتلا للفئة الباغيه

يا ناكثا أسلمه نكثه * عيوبه في خبثه فاشيه

قد جاءك الليث بشدَّاته * مستكلبا في أسد ضاريه

فاهرب ولا مهرب من مثله * إلا إلى النار أو الهاويه

فتفرق على الأمين شمله، وحار في أمره، وجاء طاهر بن الحسين بجيوشه فنزل على باب الأنبار يوم الثلاثاء لثنتي عشرة ليلة خلت من ذي الحجة، واشتد الحال على أهل البلد وأخاف الدعارُ والشطارُ أهل الصلاح، وخربت الديار، وثارت الفتنة بين الناس، حتى قاتل الأخ أخاه للأهواء المختلفة، والابن أباه، وجرت شرور عظيمة، واختلفت الأهواء وكثر الفساد والقتل داخل البلد.

وحج بالناس فيها العباس بن موسى بن عيسى الهاشمي من قبل طاهر، ودعا للمأمون بالخلافة بمكة والمدينة، وهو أول موسم دعي فيه للمأمون.

وفيها توفي:

بقية بن الوليد الحمصي، إمام أهل حمص وفقيهها ومحدثها.

حفص بن غياث القاضي

عاش فوق التسعين، ولما احتضر بكى بعض أصحابه فقال له: لا تبك ! والله ما حللت سراويلي على حرام قط، ولا جلس بين يدي خصمان فباليت على من وقع الحكم عليه منهما، قريبا كان أو بعيدا، ملكا أو سوقة.

عبد الله بن مرزوق

أبو محمد الزاهد، كان وزيرا للرشيد فترك ذلك كله وتزهَّد، وأوصى عند موته أن يطرح قبل موته على مزبلة لعل الله أن يرحمه.

أبو شيص

الشاعر، محمد بن زريق بن سليمان، كان أستاذ الشعراء، وإنشاء الشعر ونظمه أسهل عليه من شرب الماء، كذا قال ابن خلكان وغيره.

وكان هو وأبو مسلم بن الوليد - الملقب: صريع الغواني - وأبو نواس ودعبل يجتمعون ويتناشدون.

وقد عمي أبو الشيص في آخر عمره، ومن جيد شعره قوله:

وقف الهوى بي حيث أنت فليس لي * متأخر عنه ولا متقدم

أجد الملامة في هواك لذيذة * حبا لذكرك فليلمني اللوَّم

أشبهت أعدائي فصرت أحبهم * إذ كان حظي منك حظي منهم

وأهنتني فأهنت نفسي صاغرا * ما منْ يهون عليك ممن تكرم

ثم دخلت سنة سبع وتسعين ومائة

استهلت هذه السنة وقد ألح طاهر بن الحسين وهرثمة بن أعين ومن معهما في حصار بغداد والتضييق على الأمين، وهرب القاسم بن الرشيد وعمه منصور بن المهدي إلى المأمون فأكرمهما، وولى أخاه القاسم جرجان، واشتد حصار بغداد ونصب عليها المجانيق والعرَّادات.

وضاق الأمين بهم ذرعا، ولم يبق معه ما ينفق في الجند، فاضطر إلى ضرب آنية الفضة والذهب دراهم ودنانير، وهرب كثير من جنده إلى طاهر، وقتل من أهل البلد خلق كثير، وأخذت أموال كثيرة منهم.

وبعث الأمين إلى قصور كثيرة ودور شهيرة مزخرفة وأماكن ومحال كثيرة فحرقها بالنار لما رأى في ذلك من المصلحة فعل كل هذا فرارا من الموت ولتدوم الخلافة له فلم تدم، وقتل وخربت دياره كما سيأتي قريبا، وفعل طاهر مثل ما فعل الأمين حتى كادت بغداد تخرب بكمالها.

فقال بعضهم في ذلك:

من ذا أصابك يا بغداد بالعين * ألم تكوني زمانا قرة العين

ألم يكن فيك قوم كان مسكنهم * وكان قربهم زينا من الزين

صاح الغراب بهم بالبين فافترقوا * ماذا لقيت بهم من لوعة البين

استودع الله قوما ما ذكرتهم * إلا تحدَّر ماء العين من عيني

كانوا ففرقهم دهر وصدعهم * والدهر يصدع ما بين الفريقين

وقد أكثر الشعراء في ذلك. وقد أورد ابن جرير من ذلك طرفا صالحا، وأورد في ذلك قصيدةً طويلةً جدا بها بسط ما وقع، وهي هول من الأهوال اقتصرناها بالكلية.

واستحوذ طاهر على ما في الضياع من الغلات والحواصل للأمراء وغيرهم، ودعاهم إلى الأمان والبيعة للمأمون فاستجابوا جميعهم، منهم: عبد الله بن حميد بن قحطبة، ويحيى بن علي بن ماهان، ومحمد بن أبي العباس الطوسي، وكاتبه خلق من الهاشمين والأمراء، وصارت قلوبهم معه.

واتفق في بعض الأيام أن ظفر أصحاب الأمين ببعض أصحاب طاهر فقتلوا منهم طائفة عند قصر صالح، فلما سمع الأمين بذلك بطر وأشر وأقبل على اللهو والشرب واللعب، ووكل الأمور وتدبيرها إلى محمد بن عيسى بن نهيك.

ثم قويت شوكة أصحاب طاهر وضعف جانب الأمين جدا، وانحاز الناس إلى جيش طاهر - وكان جانبه آمنا جدا لا يخاف أحد فيه من سرقة ولا نهب ولا غير ذلك - وقد أخذ طاهر أكثر محال بغداد وأرباضها، ومنع الملاحين أن يحملوا طعاما إلى من خالفه، فغلت الأسعار جدا عند من خالفه، وندم من لم يكن خرج من بغداد قبل ذلك، ومنعت التجار من القدوم إلى بغداد بشيء من البضائع أو الدقيق، وصرفت السفن إلى البصرة وغيرها.

وجرت بين الفريقين حروب كثيرة، فمن ذلك:

وقعة درب الحجارة كانت لأصحاب الأمين، قتل فيها خلق من أصحاب طاهر، كان الرجل من العيَّارين والحرافشة من البغاددة يأتي عريانا ومعه بارية مقيرة، وتحت كتفه مخلاة فيها حجارة، فإذا ضربه الفارس من بعيد بالسهم اتقاه بباريته فلا يؤذيه، وإذا اقترب منه رماه بحجر في المقلاع أصابه، فهزموهم لذلك.

ووقعة الشماسية أسر فيها هرثمة بن أعين، فشق ذلك على طاهر وأمر بعقد جسر على دجلة فوق الشماسية، وعبر طاهر بنفسه ومن معه إلى الجانب الآخر فقاتلهم بنفسه أشد القتال حتى أزالهم عن مواضعهم، واسترد منهم هرثمة وجماعة ممن كانوا أسروهم من أصحابه، فشق ذلك على محمد الأمين وقال في ذلك:

منيت بأشجع الثقلين قلبا * إذا ما طال ليس كما يطول

له مع كل ذي بدد رقيب * يشاهده ويعلم ما يقول

فليس بمغفل أمرا عنادا * إذا ما الأمر ضيَّعه الغفول

وضعف أمر الأمين جدا ولم يبق عنده مال ينفقه على جنده ولا على نفسه، وتفرق أكثر أصحابه عنه، وبقي مضطهدا ذليلا.

ثم انقضت هذه السنة بكمالها والناس في بغداد في قلاقل وأهوية مختلفة، وقتال وحريق، وسرقات، وساءت بغداد فلم يبق فيها أحد يرد عن أحد كما هي عادة الفتن.

وحج بالناس فيها العباس بن موسى الهاشمي من جهة المأمون.

وفيها توفي: شعيب بن حرب، أحد الزهاد.

وعبد الله بن وهب، إمام أهل الديار المصرية، وعبد الرحمن بن مسهر، أخو علي بن مسهر.

وعثمان بن سعيد، الملقب: بورش، أحد القراء المشهورين، الرواة عن نافع بن أبي نعيم.

ووكيع بن الجراح، الرواسي، أحد أعلام المحدثين، مات عن ست وستين سنة.

ثم دخلت سنة ثمان وتسعين ومائة

فيها: خامر خزيمة بن خازم على محمد الأمين وأخذ الأمان من طاهر.

ودخل هرثمة بن أعين من الجانب الشرقي.

وفي يوم الأربعاء: لثمان خلون من المحرم وثب خزيمة بن خازم ومحمد بن علي بن عيسى على جسر بغداد فقطعاه ونصبا رايتهما عليه.

ودعوا إلى بيعة عبد الله المأمون وخلع محمد الأمين، ودخل طاهر يوم الخميس إلى الجانب الشرقي فباشر القتال بنفسه، ونادى بالأمان لمن لزم منزله.

وجرت عند دار الرقيق والكرخ وغيرهما وقعات، وأحاطوا بمدينة أبي جعفر والخلد وقصر زبيدة، ونصب المجانيق حول السور وحذاء قصر زبيدة، ورماه بالمنجنيق.

فخرج الأمين بأمه وولده إلى مدينة أبي جعفر، وتفرق عنه عامة الناس في الطريق، لا يلوي أحد على أحد، حتى دخل قصر أبي جعفر وانتقل من الخلد لكثرة ما يأتيه فيه من رمي المنجنيق، وأمر بتحريق ما كان فيه من الأثاث والبسط والأمتعة وغير ذلك، ثم حصر حصرا شديدا.

ومع هذه الشدة والضيق وإشرافه على الهلاك خرج ذات ليلة في ضوء القمر إلى شاطئ دجلة واستدعى بنبيذ وجارية فغنته فلم ينطلق لسانها إلا بالفراقيات وذكر الموت، وهو يقول: غير هذا، وتذكر نظيره حتى غنته آخر ما غنته:

أما وربِّ السكون والحرك * إن المنايا كثيرة الشرك

ما اختلف الليل والنهار ولا * دارت نجوم السماء في الفلك

إلا لنقل السلطان من ملك * قد انقضى ملكه إلى ملك

وملك ذي العرش دائم أبدا * ليس بفان ولا بمشترك

قال: فسبها وأقامها من عنده فعثرت في قدح كان له بلور فكسرته فتطيَّر بذلك.

ولما ذهبت الجارية سمع صارخا يقول: { قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ } [يوسف: 41] .

فقال لجليسه: ويحك ! ألا تسمع، فتسمع فلا يسمع شيئا، ثم عاد الصوت بذلك، فما كان إلا ليلة أو ليلتان حتى قتل في رابع صفر يوم الأحد، وقد حصل له من الجهد والضيق في حصره شيئا كثيرا بحيث إنه لم يبق له طعام يأكله ولا شراب، بحيث إنه جاع ليلة فما أتي برغيف ودجاجة إلا بعد شدة عظيمة، ثم طلب ماء فلم يوجد له فبات عطشانا، فلما أصبح قتل قبل أن يشرب الماء.

كيفية مقتل الأمين

لما اشتد به الأمر اجتمع عنده من بقي معه من الأمراء والخدم والجند، فشاورهم في أمره فقالت طائفة: تذهب بمن بقي معك إلى الجزيرة أو الشام فتتقوى بالأموال وتستخدم الرجال.

وقال بعضهم: تخرج إلى طاهر وتأخذ منه أمانا وتبايع لأخيك، فإذا فعلت ذلك فإن أخاك سيأمر لك بما يكفيك ويكفي أهلك من أمر الدنيا، وغاية مرادك الدعة والراحة، وذلك يحصل لك تاما.

وقال بعضهم: بل هرثمة أولى بأن يأخذ لك منه الأمان فإنه مولاكم وهو أحنى عليك.

فمال إلى ذلك، فلما كانت ليلة الأحد الرابع من صفر بعد عشاء الآخرة واعد هرثمة أن يخرج إليه، ثم لبس ثياب الخلافة وطيلسانا واستدعى بولديه فشمهما وضمهما إليه وقال: أستودعكما الله، ومسح دموعه بطرف كمه، ثم ركب على فرس سوداء وبين يديه شمعة.

فلما انتهى إلى هرثمة أكرمه وعظمه وركبا في حراقة في دجلة، وبلغ هذا كله طاهرا فغضب من ذلك وقال: أنا الذي فعلت هذا كله ويذهب لغيري، وينسب هذا كله إلى هرثمة ؟

فلحقهما وهما في الحراقة فأمالها أصحابه فغرق من فيها، غير أن الأمين سبح إلى الجانب الآخر وأسره بعض الجند.

وجاء فأعلم طاهرا فبعث إليه جندا من العجم فجاؤوا إلى البيت الذي هو فيه وعنده بعض أصحابه وهو يقول له: ادن مني فإني أجد وحشة شديدة.

وجعل يلتف في ثيابه شديدا، وقلبه يخفق خفقانا عظيما، كاد يخرج من صدره.

فلما دخل عليه أولئك قال: إنا لله وإنا إليه راجعون.

ثم دنا منه أحدهم فضربه بالسيف على مفرق رأسه فجعل يقول: ويحكم ! أنا ابن عم رسول الله ، أنا ابن هارون، أنا أخو المأمون، الله الله في دمي.

فلم يلتفتوا إلى شيء من ذلك، بل تكاثروا عليه وذبحوه من قفاه وهو مكبوب على وجهه، وذهبوا برأسه إلى طاهر، وتركوا جثته، ثم جاؤوا بكرة إليها فلفوها في جلِّ فرس وذهبوا بها.

وذلك ليلة الأحد لأربع ليال خلت من صفر من هذه السنة.

شيء من ترجمة الأمين

هو: محمد الأمين بن هارون الرشيد بن محمد المهدي بن المنصور، أبو عبد الله، ويقال: أبو موسى، الهاشمي العباسي، وأمه أم جعفر زبيدة بنت جعفر بن أبي جعفر المنصور، كان مولده بالرصافة سنة سبعين ومائة.

قال أبو بكر بن أبي الدنيا: حدثنا عياش بن هشام، عن أبيه، قال:

ولد محمد الأمين بن هارون الرشيد في شوال سنة سبعين ومائة.

وأتته الخلافة بمدينة السلام بغداد لثلاث عشرة ليلة بقيت من جمادى الآخرة سنة ثلاث وتسعين.

وقيل: ليلة الأحد لخمس بقين من المحرم.

وقتل سنة ثمان وتسعين ومائة، قتله قريش الدَّنداني، وحمل رأسه إلى طاهر بن الحسين فنصبه على رمح وتلا هذه الآية: { قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ } [آل عمران: 26] .

وكانت ولايته أربع سنين وسبعة أشهر وثمانية أيام.

وكان طويلا سمينا، أبيض، أقنى الأنف، صغير العينين، عظيم الكراديس، بعيدا ما بين المنكبين.

وقد رماه بعضهم بكثرة اللعب والشرب وقلة الصلاة.

وقد ذكر ابن جرير طرفا من سيرته في إكثاره من اقتناء السودان والخصيان، وإعطائه الأموال والجواهر، وأمره بإحضار الملاهي والمغنين من سائر البلاد، وأنه أمر بعمل خمس حراقات على صورة الفيل والأسد والعقاب والحية والفرس، وأنفق على ذلك أموالا جزيلةً جدا، وقد امتدحه أبو نواس بشعر أقبح في معناه من صنيع الأمين فإنه قال في أوله:

سخَّر الله للأمين مطايا * لم تسخر لصاحب المحراب

فإذا ما ركابه سرن برا * سار في الماء راكبا ليث غاب

ثم وصف كلا من تلك الحراقات.

واعتنى الأمين ببنايات هائلة للنزهة وغيرها، وأنفق في ذلك أموالا كثيرةً جدا، فكثر النكير عليه بسبب ذلك.

وذكر ابن جرير أنه جلس يوما في مجلس أنفق عليه مالا جزيلا في الخلد، وقد فرش له بأنواع الحرير، ونضِّد بآنية الذهب والفضة، وأحضر ندماءه، وأمر القهرمانة أن تهيئ له مائة جارية حسناء، وأمرها أن تبعثهن إليه عشرا بعد عشر يغنينه، فلما جاءت العشر الأول اندفعن يغنين بصوت واحد:

همو قتلوه كي يكونوا مكانه * كما غدرت بكسرى مرازبه

فغضب من ذلك وتبرم وضرب رأسها بالكأس، وأمر بالقهرمانة أن تلقى إلى الأسد فأكلها.

ثم استدعى بعشرة فاندفعن يغنين:

من كان مسرورا بمقتل مالك * فليأت نسوتنا بوجه نهار

يجد النساء حواسرا يندبنه * يلطمن قبل تبلج الأسحار

فطردهن واستدعى بعشر غيرهن، فلما حضرن اندفعن يغنين بصوت واحد:

كليب لعمري كان أكثر ناصرا * وأيسر ذنبا منك ضرِّج بالدم

فطردهن وقام من فوره وأمر بتخريب ذلك المجلس وتحريق ما فيه.

وذكر أنه كان كثير الأدب فصيحا يقول الشعر ويعطي عليه الجوائز الكثيرة.

وكان شاعره أبا نواس، وقد قال فيه أبو نواس مدائح حسانا، وقد وجده مسجونا في حبس الرشيد مع الزنادقة فأحضره وأطلقه وأطلق له مالا وجعله من ندمائه، ثم حبسه مرة أخرى في شرب الخمر وأطال حبسه ثم أطلقه وأخذ عليه العهد أن لا يشرب الخمر ولا يأتي الذكور من المردان فامتثل ذلك، وكان لا يفعل شيئا من ذلك بعد ما استتابه الأمين، وقد تأدب على الكسائي، وقرأ عليه القرآن.

وروى الخطيب من طريقه حديثا أورده عنه لما عزِّي في غلام له توفي بمكة فقال: حدثني أبي، عن أبيه، عن المنصور، عن أبيه، عن علي بن عبد الله، عن أبيه، قال: سمعت رسول الله يقول: «من مات محرما حشر ملبيا».

وقد قدمنا ما وقع بينه وبين أخيه من الاختلاف والفرقة، حتى أفضى ذلك إلى خلعه وعزله، ثم إلى التضيق عليه، ثم إلى قتله، وأنه حصر في آخر أمره حتى احتاج إلى مصانعة هرثمة، وأنه ألقي في حراقة، ثم ألقي منها فسبح إلى الشط الآخر، فدخل دار بعض العامة وهو في غاية الخوف والدهش والجوع والعريِّ، فجعل الرجل يلقنه الصبر والاستغفار، فاشتغل بذلك ساعة من الليل.

ثم جاء الطلب وراءه من جهة طاهر بن الحسين بن مصعب، فدخلوا عليه وكان الباب ضيقا فتدافعوا عليه، وقام إليهم فجعل يدافعهم عن نفسه بمخدة في يده، فما وصلوا إليه حتى عرقبوه وضربوا رأسه أو خاصرته بالسيوف، ثم ذبحوه وأخذوا رأسه وجثته فأتوا بهما طاهرا، ففرح بذلك فرحا شديدا، وأمر بنصب الرأس فوق رمح هناك، حتى أصبح الناس فنظروا إليه فوق الرمح عند باب الأنبار، وكثر عدد الناس ينظرون إليه.

ثم بعث طاهر برأس الأمين مع ابن عمه محمد بن مصعب، وبعث معه بالبردة والقضيب والنعل - وكان من خوص مبطَّن - فسلمه إلى ذي الرياستين، فدخل به على المأمون على ترس، فلما رآه سجد وأمر لمن جاء به بألف ألف درهم.

وقد قال ذو الرياستين حين قدم الرأس يؤلب على طاهر: أمرناه بأن يأتي به أسيرا فأرسل به إلينا عقيرا.

فقال المأمون: مضى ما مضى.

وكتب طاهر إلى المأمون كتابا ذكر فيه صورة ما وقع حتى آل الحال إلى ما آل إليه.

ولما قتل الأمين هدأت الفتن وخمدت الشرور، وأمن الناس، وطابت النفس، ودخل طاهر بغداد يوم الجمعة وخطبهم خطبة بليغة ذكر فيها آيات كثيرة من القرآن، وأن الله يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد، وأمرهم فيها بالجماعة والسمع والطاعة.

ثم خرج إلى معسكره فأقام به، وأمر بتحويل زبيدة من قصر أبي جعفر إلى قصر الخلد، فخرجت يوم الجمعة الثاني عشر من ربيع الأول من هذه السنة.

وبعث بموسى وعبد الله ابني الأمين إلى عمهما المأمون بخراسان، وكان ذلك رأيا سديدا.

وقد وثب طائفة من الجند على طاهر بعد خمسة أيام من مقتل الأمين وطلبوا منه أرزاقهم فلم يكن عنده إذ ذاك مال، فتحزبوا واجتمعوا ونهبوا بعض متاعه ونادوا: يا موسى يا منصور، واعتقدوا أن موسى بن الأمين الملقب بالناطق هناك، وإذا هو قد سيَّره إلى عمه.

وانحاز طاهر بمن معه من القواد ناحيةً وعزم على قتالهم بمن معه، ثم رجعوا إليه واعتذروا وندموا، فأمر لهم برزق أربعة أشهر بعشرين ألف دينار اقترضها من بعض الناس، فطابت الخواطر.

ثم إن إبراهيم بن المهدي قد أسف على قتل محمد الأمين بن زبيدة ورثاه بأبيات، فبلغ ذلك المأمون فبعث إليه يعنفه ويلومه على ذلك.

وقد ذكر ابن جرير مراثي كثيرة للناس في الأمين، وذكر من أشعار الذين هجوه طرفا، وذكر من شعر طاهر بن الحسين حين قتله قوله:

ملكت الناس قسرا واقتدارا * وقتلت الجبابرة الكبارا

ووجهت الخلافة نحو مرو * إلى المأمون تبتدر ابتدارا

خلافة عبد الله المأمون بن الرشيد هارون

لما قتل أخوه محمد في رابع صفر من سنة ثمان وتسعين ومائة، وقيل: في المحرم، استوسقت البيعة شرقا وغربا للمأمون: فولى الحسن بن سهل نيابة العراق وفارس والأهواز والكوفة والبصرة والحجاز واليمن، وبعث نوابه إلى هذه الأقاليم، وكتب إلى طاهر بن الحسين أن ينصرف إلى الرقة لحرب نصر بن شبث، وولاه نيابة الجزيرة والشام والموصل والمغرب.

وكتب إلى هرثمة بن أعين بنيابة خراسان.

وفيها: حج بالناس العباس بن عيسى الهاشمي.

وفيها توفي:

سفيان بن عيينة، وعبد الرحمن بن مهدي، ويحيى القطان، فهؤلاء الثلاثة سادة العلماء في الحديث والفقه وأسماء الرجال.

ثم دخلت سنة تسع وتسعين ومائة

فيها: قدم الحسن بن سهل بغداد نائبا عليها من جهة المأمون، ووجه نوابه إلى بقية أعماله، وتوجه طاهر إلى نيابة الجزيرة والشام ومصر وبلاد المغرب.

وسار هرثمة إلى خراسان نائبا عليها، وكان قد خرج في أواخر السنة الماضية في ذي الحجة منها الحسن الهرش يدعو إلى الرضى من آل محمد، فجبى الأموال وانتهب الأنعام وعاث في البلاد فسادا فبعث إليه المأمون جيشا فقتلوه في المحرم من هذه السنة.

وفيها: خرج بالكوفة محمد بن إبراهيم بن إسماعيل بن إبراهيم بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب يوم الخميس لعشر خلون من جمادى الآخرة يدعو إلى الرضى من آل محمد، والعمل بالكتاب والسنة، وهو الذي يقال له: ابن طباطبا.

وكان القائم بأمره وتدبير الحرب بين يديه أبو السرايا السري بن منصور الشيباني، وقد اتفق أهل الكوفة على موافقته، واجتمعوا عليه من كل فج عميق، ووفدت إليه الأعراب من نواحي الكوفة، وكان النائب عليها من جهة الحسن بن سهل سليمان بن أبي جعفر المنصور.

فبعث الحسن بن سهل يلومه ويؤنبه على ذلك، وأرسل إليه بعشرة آلاف فارس صحبة زاهر بن زهير بن المسيب، فتقاتلوا خارج الكوفة فهزموا زاهرا واستباحوا جيشه ونهبوا ما كان معه.

وذلك يوم الأربعاء سلخ جمادى الآخرة، فلما كان الغد من الوقعة توفي ابن طباطبا أمير الشيعة فجأة، يقال إن أبا السرايا سمه وأقام مكانه غلاما أمرد يقال له: محمد بن زيد بن علي بن الحسين بن علي بن طالب.

وانعزل زاهر بمن بقي معه من أصحابه إلى قصر بن هبيرة، وأرسل الحسن بن سهل مع عبدوس بن محمد أربعة آلاف فارس، صورة مدد لزاهر، فالتقوا هم وأبو السرايا فهزمهم أبو السرايا ولم يفلت من أصحاب عبدوس أحد، وانتشر الطالبيون في تلك البلاد، وضرب أبو السرايا الدراهم والدنانير في الكوفة، ونقش عليه: { إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفّا } الآية [الصف: 4] .

ثم بعث أبو السرايا جيوشه إلى البصرة وواسط والمدائن فهزموا من فيها من النواب ودخلوها قهرا، وقويت شوكتهم، فأهم ذلك الحسن بن سهل وكتب إلى هرثمة يستدعيه لحرب أبي السرايا فتمنع ثم قدم عليه فخرج إلى أبي السرايا فهزم أبا السرايا غير مرة وطرده حتى رده إلى الكوفة، ووثب الطالبيون على دور بني العباس بالكوفة فنهبوها وخربوا ضياعهم، وفعلوا أفعالا قبيحةً.

وبعث أبو السرايا إلى المدائن فاستجابوا، وبعث إلى أهل مكة حسين بن حسن الأفطس ليقيم لهم الموسم فخاف أن يدخلها جهرة، ولما سمع نائب مكة - وهو: داود بن عيسى بن موسى بن علي بن عبد الله بن عباس - هرب من مكة طالبا أرض العراق، وبقي الناس بلا إمام فسئل مؤذنها أحمد بن محمد بن الوليد الأزرقي أن يصلي بهم فأبى، فقيل لقاضيها محمد بن عبد الرحمن المخزومي فامتنع، وقال: لمن أدعو وقد هرب نواب البلاد.

فقدم الناس رجلا منهم فصلى بهم الظهر والعصر، وبلغ الخبر إلى حسين الأفطس فدخل مكة في عشرة أنفس قبل الغروب فطاف بالبيت، ثم وقف بعرفة ليلا وصلى بالناس الفجر بمزدلفة وأقام بقية المناسك في أيام منى، فدفع الناس من عرفة بغير إمام.

وفيها توفي: إسحاق بن سليمان، وابن نمير، وابن سابور، وعمرو العنبري، والد مطيع البلخي، ويونس بن بكير.

ثم دخلت سنة مائتين من الهجرة

في أول يوم منها: جلس حسين بن حسن الأفطس على طنفسة مثلثة خلف المقام وأمر بتجريد الكعبة مما عليها من كساوي بني العباس، وقال: نطهرها من كساويهم.

وكساها ملاءتين صفراوتين عليهما اسم أبي السرايا، ثم أخذ ما في كنز الكعبة من الأموال، وتتبع ودائع بني العباس فأخذها، حتى أنه أخذ مال ذوي المال ويزعم أنه للمسودة.

وهرب منه الناس إلى الجبال، وسبك ما على رؤوس الأساطين من الذهب، وكان ينزل مقدار يسير بعد جهد، وقلعوا ما في المسجد الحرام من الشبابيك وباعوها بالبخس، وأساؤوا السيرة جدا.

فلما بلغه مقتل أبي السرايا كتم ذلك وأمر رجلا من الطالبيين شيخا كبيرا، واستمر على سوء السيرة، ثم هرب في سادس عشر المحرم منها، وذلك لما قهر هرثمة أبا السرايا وهزم جيشه وأخرجه ومن معه من الطالبيين من الكوفة، ودخلها هرثمة ومنصور بن المهدي فأمنوا أهلها ولم يتعرضوا لأحد.

وسار أبو السرايا بمن معه إلى القادسية، ثم سار منها فاعترضهم بعض جيوش المأمون فهزمهم أيضا وجرح أبو السرايا جراحةً منكرةً جدا، وهربوا يريدون الجزيرة إلى منزل أبي السرايا برأس العين، فاعترضهم بعض الجيوش أيضا فأسروهم و أتوا بهم الحسن بن سهل وهو بالنهروان حين طردته الحربية، فأمر بضرب عنق أبي السرايا فجزع من ذلك جزعا شديدا جدا وطيف برأسه وأمر بجسده أن يقطع اثنتين وينصب على جسري بغداد، فكان بين خروجه وقتله عشرة أشهر.

فبعث الحسن بن سهل بن محمد إلى المأمون مع رأس أبي السرايا.

وقال بعض الشعراء:

ألم تر ضربه الحسن بن سهل * بسيفك يا أمير المؤمنينا

أدارت مرو رأسَ أبي السَّرايا * وأبقيت عبرة للعالمينا

وكان الذي في يده البصرة من الطالبيين زيد بن موسى بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي، ويقال له: زيد النار، لكثرة ما حرق من البيوت التي للمسودة، فأسره علي بن سعيد وأمنه وبعث به وبمن معه من القواد إلى اليمن لقتال من هناك من الطالبيين.

وفيها: خرج باليمن إبراهيم بن موسى بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي، ويقال له: الجزار لكثرة من قتل من أهل اليمن، وأخذ من أموالهم.

وهو الذي كان بمكة وفعل فيها ما فعل كما تقدم، فلما بلغه قتل أبي السرايا هرب إلى اليمن، فلما بلغ نائب اليمن خبره ترك اليمن وسار إلى خراسان واجتاز بمكة وأخذ أمه منها.

واستحوذ إبراهيم هذا على بلاد اليمن وجرت حروب كثيرة يطول ذكرها، ورجع محمد بن جعفر العلوي عما كان يزعمه، وكان قد ادعى الخلافة بمكة.

وقال: كنت أظن أن المأمون قد مات وقد تحققت حياته، وأنا أستغفر الله وأتوب إليه مما كنت ادعيت من ذلك، وقد رجعت إلى الطاعة وأنا رجل من المسلمين.

ولما هزم هرثمة راسل أبا السرايا وهو الذي أمره بالظهور، فاستدعاه المأمون إلى مرو فأمر به فضرب بين يديه ووطئ بطنه ثم رفع إلى الحبس ثم قتل بعد ذلك بأيام، وانطوى خبره بالكلية.

ولما وصل خبر قتله إلى بغداد عبثت العامة والحربية بالحسن بن سهل نائب العراق، وقالوا: لا نرضى به ولا بعماله ببلادنا.

وأقاموا إسحاق بن موسى المهدي نائبا، واجتمع أهل الجانبين على ذلك، والتفت على الحسن بن سهل جماعة من الأمراء والأجناد، وأرسل من وافق العامة على ذلك من الأمراء يحرضهم على القتال، وجرت الحروب بينهم ثلاثة أيام في شعبان من هذه السنة.

ثم اتفق الحال على أن يعطيهم شيئا من أرزاقهم ينفقونها في شهر رمضان، فما زال يمطلهم إلى ذي القعدة حتى يدرك الزرع، فخرج في ذي القعدة زيد بن موسى، الذي يقال له: زيد النار، وهو أخو أبي السرايا، وقد كان خروجه هذه المرة بناحية الأنبار، فبعث إليه علي بن هشام نائب بغداد عن الحسن بن سهل والحسن بالمدائن إذ ذاك فأخذ وأتي به إلى علي بن هشام، و أطفأ الله ثأرته.

وبعث المأمون في هذه السنة يطلب من بقي من العباسيين، وأحصى كم العباسيون فبلغوا ثلاثة وثلاثين ألفا، ما بين ذكور وإناث.

وفيها: قتلت الروم ملكهم اليون، وقد ملكهم سبع سنين، وملكوا عليهم ميخائيل نائبه.

وفيها: قتل المأمون يحيى بن عامر بن إسماعيل، لأنه قال للمأمون: يا أمير الكافرين. فقتل صبرا بين يديه.

وفيها: حج بالناس محمد بن المعتصم بن هارون الرشيد.

وفيها توفي من الأعيان: أسباط بن محمد، وأبو ضمرة، أنس بن عياض، ومسلم بن قتيبة، وعمر بن عبد الواحد، وابن أبي فديك، ومبشر بن إسماعيل، ومحمد بن جبير، ومعاذ بن هشام.

ثم دخلت سنة إحدى ومائتين

فيها: راود أهل بغداد منصور بن المهدي على الخلافة فامتنع من ذلك، فراودوه على أن يكون نائبا للمأمون يدعو له في الخطبة فأجابهم إلى ذلك، وقد أخرجوا علي بن هشام نائب الحسن بن سهل من بين أظهرهم بعد أن جرت حروب كثيرة بسبب ذلك.

وفيها: عم البلاء بالعيَّارين والشطار والفساق ببغداد وما حولها من القرى، كانوا يأتون الرجل يسألونه مالا يقرضهم أو يصلهم به فيمتنع عليهم فيأخذون جميع ما في منزله، وربما تعرضوا للغلمان والنسوان، ويأتون أهل القرية فيستاقون من الأنعام والمواشي، ويأخذون ما شاؤوا من الغلمان والنسوان، ونهبوا أهل قطر بل ولم يدعوا لهم شيئا أصلا.

فانتدب لهم رجل يقال له: خالد الدريوش، وآخر يقال له: سهل بن سلامة أبو حاتم الأنصاري من أهل خراسان.

والتف عليهم جماعة من العامة فكفوا شرهم وقاتلوهم، ومنعوهم من الفساد في الأرض، واستقرت الأمور كما كانت، وذلك في شعبان ورمضان.

وفي شوال منها: رجع الحسن بن سهل إلى بغداد وصالح الجند، وانفصل منصور بن المهدي ومن وافقه من الأمراء.

وفيها: بايع المأمون لعلي الرضى بن موسى الكاظم بن جعفر الصادق بن محمد بن الحسين الشهيد بن علي بن أبي طالب أن يكون ولي العهد من بعده، وسماه: الرضى من آل محمد، وطرح لبس السواد وأمر بلبس الخضرة، فلبسها هو وجنده، وكتب بذلك إلى الآفاق والأقاليم، وكانت مبايعته له يوم الثلاثاء لليلتين خلتا من شهر رمضان سنة إحدى ومائتين.

وذلك أن المأمون رأى أن عليا الرضى خير أهل البيت وليس في بني العباس مثله في عمله ودينه، فجعله ولي عهده من بعده.

بيعة أهل بغداد لإبراهيم بن المهدي

لما جاء الخبر أن المأمون بايع لعلي الرضى بالولاية من بعده اختلفوا فيما بينهم، فمن مجيب مبايع ومن آب ممانع، وجمهور العباسيين على الامتناع من ذلك، وقام في ذلك ابنا المهدي إبراهيم ومنصور.

فلما كان يوم الثلاثاء لخمس بقين من ذي الحجة أظهر العباسيون البيعة لإبراهيم بن المهدي ولقبوه: المبارك - وكان أسود اللون - ومن بعده لابن أخيه إسحاق بن موسى بن المهدي، وخلعوا المأمون.

فلما كان يوم الجمعة لليلتين بقيتا من ذي الحجة أرادوا أن يدعوا للمأمون ثم من بعده لإبراهيم فقالت العامة: لا تدعوا إلا إلى إبراهيم فقط، واختلفوا واضطربوا فيما بينهم، ولم يصلوا الجمعة، وصلى الناس فرادى أربع ركعات.

وفيها: افتتح نائب طبرستان جبالها وبلاد اللارز والشيرز.

وذكر ابن حزم أن سلما الخاسر قال في ذلك شعرا.

وقد ذكر ابن الجوزي وغيره أن سلما توفي قبل ذلك بسنتين، فالله أعلم.

وفيها: أصاب أهل خراسان والري وأصبهان مجاعة شديدة وغلا الطعام جدا.

وفيها: تحرك بابك الخرَّمي واتبعه طوائف من السفلة والجهلة وكان يقول بالتناسخ. وسيأتي ما آل أمره إليه.

وفيها: حج بالناس إسحاق بن موسى بن عيسى الهاشمي.

وفيها توفي من الأعيان: أبو أسامة حماد بن أسامة، وحماد بن مسعدة، وحرسي بن عمارة، وعلي بن عاصم، ومحمد بن محمد، صاحب أبي السرايا، الذي قد كان بايعه أهل الكوفة بعد ابن طباطبا.

ثم دخلت سنة ثلاث ومائتين

فيها: وصل المأمون العراق ومر بطوس فنزل بها وأقام عند قبر أبيه أياما من شهر صفر، فلما كان في آخر الشهر أكل علي بن موسى الرضى عنبا فمات فجأة فصلى عليه المأمون ودفنه إلى جانب أبيه الرشيد، وأسف عليه أسفا كثيرا فيما ظهر، وكتب إلى الحسن بن سهل يعزيه فيه ويخبره بما حصل له من الحزن عليه.

وكتب إلى بني العباس يقول لهم: إنكم إنما نقمتم عليَّ بسبب توليتي العهد من بعدي لعلي بن موسى الرضى، وهاهو قد مات فارجعوا إلى السمع والطاعة.

فأجابوه بأغلظ جواب كتب به إلى أحد.

وفيها: تغلبت الثوار على الحسن بن سهل حتى قيد بالحديد وأودع في بيت، فكتب الأمراء بذلك إلى المأمون، فكتب إليهم إني واصل على إثر كتابي هذا.

ثم جرت حروب كثيرة بين إبراهيم وأهل بغداد، وتنكروا عليه وأبغضوه.

وظهرت الفتن والشطار والفساق ببغداد وتفاقم الحال، وصلوا يوم الجمعة ظهرا، أمَّهم المؤذنون فيها من غير خطبة، صلوا أربع ركعات، واشتد الأمر واختلف الناس فيما بينهم في إبراهيم والمأمون، ثم غلبت المأمونية عليهم.

خلع أهل بغداد إبراهيم بن المهدي

لما كان يوم الجمعة المقبلة دعا الناس للمأمون وخلعوا إبراهيم، وأقبل حميد بن عبد الحميد في جيش من جهة المأمون فحاصر بغداد.

وطمَّع جندها في العطاء إذا قدم فطاوعوه على السمع والطاعة للمأمون.

وقد قاتل عيسى بن محمد بن أبي خالد في جماعة من جهة إبراهيم بن المهدي، ثم احتال عيسى حتى صار في أيدي المأمونية أسيرا، ثم آل الحال إلى اختفاء إبراهيم بن المهدي في آخر هذه السنة.

وكانت أيامه سنة وإحدى عشر شهرا واثني عشر يوما.

وقدم المأمون في هذا الوقت إلى همذان وجيوشه قد استنقذوا بغداد إلى طاعته.

وحج بالناس في هذه السنة سليمان بن عبد الله بن سليمان بن علي.

وفيها توفي من الأعيان:

علي بن موسى

ابن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب، القرشي الهاشمي العلوي، الملقب: بالرضى، كان المأمون قد همَّ أن ينزل له عن الخلافة فأبى عليه ذلك، فجعله ولي العهد من بعده كما قدمنا ذلك.

توفي في صفر من هذه السنة بطوس.

وقد روى الحديث عن: أبيه، وغيره.

وعنه جماعة، منهم: المأمون، وأبو السلط الهروي، وأبو عثمان المازني النحوي.

وقال: سمعته يقول: الله أعدل من أن يكلف العباد ما لا يطيقون، وهم أعجز من أن يفعلوا ما يريدون.

ومن شعره:

كلنا يأمل مدَّا في الأجل * والمنايا هن آفات الأمل

لا تغرنَّك أباطيل المنى * والزم القصد ودع عنك العلل

إنما الدنيا كظل زائل * حلَّ فيه راكب ثم ارتحل

ثم دخلت سنة أربع ومائتين

فيها: كان قدوم المأمون أرض العراق، وذلك أنه مرَّ بجرجان فأقام بها شهرا، ثم سار منها وكان ينزل في المنزل يوما أو يومين، ثم جاء إلى النهروان فأقام بها ثمانية أيام، وقد كتب إلى طاهر بن الحسين وهو بالرقة أن يوافيه إلى النهروان فوافاه بها وتلقاه رؤوس أهل بيته والقواد وجمهور الجيش.

فلما كان يوم السبت الآخر دخل بغداد حين ارتفع النهار لأربع عشرة ليلة خلت من صفر، في أبهة عظيمة وجيش عظيم، وعليه وعلى جميع أصحابه وفتيانه الخضرة، فلبس أهل بغداد وجميع بني هاشم الخضرة، ونزل المأمون بالرصافة ثم تحول إلى قصر على دجلة، وجعل الأمراء ووجوه الدولة يترددون إلى منزله على العادة، وقد تحول لباس البغاددة إلى الخضرة، وجعلوا يحرقون كل ما يجدونه من السواد، فمكثوا كذلك ثمانية أيام.

ثم استعرض حوائج طاهر بن الحسين فكان أول حاجة سألها أن يرجع إلى لباس السواد، فإنه لباس آبائه من دولة ورثة الأنبياء.

فلما كان السبت الآخر وهو الثامن والعشرين من صفر جلس المأمون للناس وعليه الخضرة، ثم إنه أمر بخلعة سوداء فألبسها طاهرا، ثم ألبس بعده جماعة من الأمراء السواد، فلبس الناس السواد وعادوا إلى ذلك، فعلم منهم بذلك الطاعة والموافقة.

وقيل: إنه مكث يلبس الخضرة بعد قدومه بغداد سبعا وعشرين يوما، فالله أعلم.

ولما جاء إليه عمه إبراهيم بن المهدي بعد اختفائه ست سنين وشهورا قال له المأمون: أنت الخليفة الأسود.

فأخذ في الاعتذار والاستغفار.

ثم قال: أنا الذي مننت عليه يا أمير المؤمنين بالعفو، وأنشد المأمون عند ذلك:

ليس يزري السواد بالرجل الشهم * ولا بالفتى الأديب الأريب

إن يكن للسواد منك نصيب * فبياض الأخلاق منك نصيبي

قال ابن خلكان: وقد نظم هذا المعنى بعض المتأخرين وهو نصر الله بن قلانس الإسكندري فقال:

رب سوداء وهي بيضاء فعل * حسد المسك عندها الكافور

مثل حبِّ العيون يحسبه الناس * سوادا وإنما هو نور

وكان المأمون قد شاور في قتل عمه إبراهيم بن المهدي بعض أصحابه فقال له أحمد بن خالد الوزير الأحول: يا أمير المؤمنين ! إن قتلته فلك نظراء في ذلك، وإن عفوت عنه فما لك نظير.

ثم شرع المأمون في بناء قصور على دجلة إلى جانب قصره، وسكنت الفتن وانزاحت الشرور، وأمر بمقاسمة أهل السواد على الخمسين، وكانوا يقاسمون على النصف.

واتخذ القفيز الملحم وهو: عشرة مكاكي بالمكوك الأهوازي، ووضع شيئا كثيرا من خراجات بلاد شتى، ورفق بالناس في مواضع كثيرة.

وولى أخاه أبا عيسى بن الرشيد الكوفة، وولى أخاه صالحا البصرة، وولى عبيد الله بن الحسين بن عبد الله بن العباس بن علي بن أبي طالب نيابة الحرمين، وهو الذي حج بالناس فيها.

وواقع يحيى بن معاذ بابك الخرَّمي فلم يظفر به.

وفيها توفي من الأعيان جماعة منهم:

أبو عبد الله محمد بن إدريس الشافعي

وقد أفردنا له ترجمة مطولة في أول كتابنا طبقات الشافعيين، ولنذكر ههنا ملخصا من ذلك وبالله المستعان.

هو: محمد بن إدريس بن العباس بن عثمان بن شافع بن السائب بن عبيد بن عبد يزيد بن هاشم بن المطلب بن عبد مناف بن قصي، القرشي المطلبي.

والسائب بن عبيد أسلم يوم بدر، وابنه شافع بن السائب من صغار الصحابة، وأمه أزدية.

وقد رأت حين حملت به كأن المشتري خرج من فرجها حتى انقض بمصر، ثم وقع في كل بلد منه شظية.

وقد ولد الشافعي بغزة، وقيل: بعسقلان، وقيل: باليمن، سنة خمسين ومائة.

ومات أبوه وهو صغير فحملته أمه إلى مكة وهو ابن سنتين لئلا يضيع نسبه فنشأ بها وقرأ القرآن وهو ابن سبع سنين، وحفظ الموطأ وهو ابن عشر، وأفتى وهو ابن خمس عشرة سنة.

وقيل: ابن ثماني عشرة سنة.

أذن له شيخه مسلم بن خالد الزنجي، وعني باللغة والشعر، وأقام في هذيل نحوا من عشر سنين، وقيل: عشرين سنة، فتعلم منهم لغات العرب وفصاحتها، وسمع الحديث الكثير على جماعة من المشايخ والأئمة، وقرأ بنفسه الموطأ على مالك من حفظه فأعجبته قراءته وهمته، وأخذ عنه علم الحجازيين بعد أخذه عن مسلم بن خالد الزنجي.

وروى عنه خلق كثير قد ذكرنا أسماءهم مرتبين على حروف المعجم.

وقرأ القرآن على إسماعيل بن قسطنطين، عن شبل، عن ابن كثير، عن مجاهد، عن ابن عباس، عن أبي بن كعب، عن رسول الله ، عن جبريل، عن الله عز وجل.

وأخذ الشافعي الفقه عن مسلم بن خالد، عن ابن جريج، عن عطاء، عن ابن عباس وابن الزبير وغيرهما، عن جماعة من الصحابة، منهم: عمرو بن علي، وابن مسعود، وزيد بن ثابت، وغيرهم.

وكلهم عن رسول الله .

وتفقه أيضا على مالك عن مشايخه، وتفقه به جماعة قد ذكرناهم ومن بعدهم إلى زماننا في تصنيف مفرد.

وقد روى ابن أبي حاتم، عن أبي بشر الدولابي، عن محمد بن إدريس وراق الحميدي، عن الشافعي: أنه ولي الحكم بنجران من أرض اليمن، ثم تعصبوا عليه ووشوا به إلى الرشيد أنه يروم الخلافة، فحمل على بغل في قيد إلى بغداد فدخلها في سنة أربع وثمانين ومائة وعمره ثلاثون سنة.

فاجتمع بالرشيد فتناظر هو ومحمد بن الحسن بين يدي الرشيد، وأحسن القول فيه محمد بن الحسن، وتبين للرشيد براءته مما نسب إليه، وأنزله محمد بن الحسن عنده.

وكان أبو يوسف قد مات قبل ذلك بسنة، وقيل: بسنتين، وأكرمه محمد بن الحسن وكتب عنه الشافعي وقر بعير، ثم أطلق له الرشيد ألفي دينار، وقيل: خمسة آلاف دينار.

وعاد الشافعي إلى مكة ففرق عامة ما حصل له في أهله وذوي رحمه من بني عمه، ثم عاد الشافعي إلى العراق في سنة خمس وتسعين ومائة، فاجتمع به جماعة من العلماء هذه المرة منهم: أحمد بن حنبل، وأبو ثور، والحسين بن علي الكرابيسي، والحارث بن شريح البقال، وأبو عبد الرحمن الشافعي، والزعفراني، وغيرهم.

ثم رجع إلى مكة ثم رجع إلى بغداد سنة ثمان وتسعين ومائة، ثم انتقل منها إلى مصر فأقام بها إلى أن مات في هذه السنة، سنة أربع ومائتين.

وصنف بها كتابه الأم وهو من كتبه الجديدة لأنها من رواية الربيع بن سليمان، وهو مصري.

وقد زعم إمام الحرمين وغيره أنها من القديم، وهذا بعيد وعجيب من مثله، والله أعلم.

وقد أثنى على الشافعي غير واحد من كبار الأئمة منهم: عبد الرحمن بن مهدي، وسأله أن يكتب له كتابا في الأصول فكتب له الرسالة، وكان يدعو له في الصلاة دائما، وشيخه مالك بن أنس.

وقتيبة بن سعيد. وقال: هو إمام.

وسفيان بن عيينة، ويحيى بن سعيد القطان، وكان يدعو له أيضا في صلاته.

وأبو عبيد، وقال: ما رأيت أفصح ولا أعقل ولا أورع من الشافعي.

ويحيى بن أكثم القاضي، وإسحاق بن راهويه، ومحمد بن الحسن، وغير واحد ممن يطول ذكرهم وشرح أقوالهم.

وكان أحمد بن حنبل يدعو له في صلاته نحوا من أربعين سنة، وكان أحمد يقول في الحديث الذي رواه أبو داود، من طريق عبد الله بن وهب، عن سعيد بن أبي أيوب، عن شراحيل بن يزيد، عن أبي علقمة، عن أبي هريرة، عن النبي : «إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها أمر دينها».

قال: فعمر بن عبد العزيز على رأس المائة الأولى، والشافعي على رأس المائة الثانية.

وقال أبو داود الطيالسي: حدثنا جعفر بن سليمان، عن نصر بن معبد الكندي - أو العبدي -، عن الجارود، عن أبي الأحوص، عن عبد الله بن مسعود، قال: قال رسول الله : «لا تسبوا قريشا فإن عالمها يملأ الأرض علما، اللهم إنك أذقت أولها عذابا ووبالا فأذق آخرها نوالا».

وهذا غريب من هذا الوجه، وقد رواه الحاكم في مستدركه، عن أبي هريرة، عن النبي ، بنحوه.

قال أبو نعيم عبد الملك بن محمد الإسفراييني: لا ينطبق هذا إلا على محمد بن إدريس الشافعي. حكاه الخطيب.

وقال يحيى بن معين، عن الشافعي: هو صدوق لا بأس به.

وقال مرة: لو كان الكذب له مباحا مطلقا لكانت مروءته تمنعه أن يكذب.

وقال ابن أبي حاتم: سمعت أبي يقول: الشافعي فقيه البدن، صدوق اللسان.

وحكى بعضهم عن أبي زرعة أنه قال: ما عند الشافعي حديث غلط فيه. وحكي عن أبي داود نحوه.

وقال إمام الأئمة محمد بن إسحاق بن خزيمة - وقد سئل: هل سنَّة لم تبلغ الشافعي؟ - فقال: لا !.

ومعنى هذا أنها تارة تبلغه بسندها، وتارة مرسلة، وتارة منقطعة كما هو الموجود في كتبه، والله أعلم.

وقال حرملة: سمعت الشافعي يقول: سميت ببغداد: ناصر السنة.

وقال أبو ثور: ما رأينا مثل الشافعي ولا هو رأى مثل نفسه.

وكذا قال الزعفراني وغيره.

وقال داود بن علي الظاهري في كتاب جمعه في فضائل الشافعي: للشافعي من الفضائل ما لم يجتمع لغيره من: شرف نسبه، وصحة دينه ومعتقده، وسخاوة نفسه، ومعرفته بصحة الحديث وسقمه وناسخه ومنسوخه، وحفظه الكتاب والسنة وسيرة الخلفاء، وحسن التصنيف، وجودة الأصحاب والتلامذة، مثل: أحمد بن حنبل في زهده وورعه، وإقامته على السنة.

ثم سرد أعيان أصحابه من البغاددة والمصريين، وكذا عدَّ أبو داود من جملة تلاميذه في الفقه: أحمد بن حنبل.

وقد كان الشافعي من أعلم الناس بمعاني القرآن والسنة، وأشد الناس نزعا للدلائل منهما، وكان من أحسن الناس قصدا وإخلاصا، كان يقول: وددت أن الناس تعلموا هذا العلم ولا ينسب إلي شيء منه أبدا فأوجز عليه ولا يحمدوني.

وقد قال غير واحد، عنه: إذا صح عندكم الحديث عن رسول الله فقولوا به ودعوا قولي، فإني أقول به، وإن لم تسمعوا مني.

وفي رواية: فلا تقلدوني.

وفي رواية: فلا تلتفتوا إلى قولي.

وفي رواية: فاضربوا بقولي عرض الحائط، فلا قول لي مع رسول الله .

وقال: لأن يلقى الله العبد بكل ذنب ما خلا الشرك بالله خير له من أن يلقاه بشيء من الأهواء.

وفي رواية: خير من أن يلقاه بعلم الكلام.

وقال: لو علم الناس ما في الكلام من الأهواء لفروا منه كما يفرون من الأسد.

وقال: حكمي في أهل الكلام أن يضربوا بالجريد، ويطاف بهم في القبائل، وينادى عليهم هذا جزاء من ترك الكتاب والسنة وأقبل على الكلام.

وقال البويطي: سمعت الشافعي يقول: عليكم بأصحاب الحديث فإنهم أكثر الناس صوابا.

وقال: إذا رأيت رجلا من أصحاب الحديث فكأنما رأيت رجلا من أصحاب رسول الله ، جزاهم الله خيرا، حفظوا لنا الأصل، فلهم علينا الفضل.

ومن شعره في هذا المعنى قوله:

كل العلوم سوى القرآن مشغلة * إلا الحديث وإلا الفقه في الدين

العلم ما كان فيه قال حدثنا * وما سوى ذاك وسواس الشياطين

وكان يقول: القرآن كلام الله غير مخلوق، ومن قال: مخلوق، فهو كافر.

وقد روى عن الربيع وغير واحد من رؤوس أصحابه ما يدل على أنه كان يمر بآيات الصفات وأحاديثها كما جاءت من غير تكييف ولا تشبيه ولا تعطيل ولا تحريف، على طريقة السلف.

وقال ابن خزيمة: أنشدني المزني وقال أنشدنا الشافعي لنفسه قوله:

ما شئت كان وإن لم أشأ * وما شئت إن لم تشأ لم يكن

خلقت العباد على ما علمت * ففي العلم يجري الفتى والمسن

فمنهم شقي ومنهم سعيد * ومنهم قبيح ومنهم حسن

على ذا مننت وهذا خذلت * وهذا أعنت وذا لم تعن

وقال الربيع: سمعت الشافعي، يقول: أفضل الناس بعد رسول الله أبو بكر ثم عمر ثم عثمان ثم علي.

وعن الربيع قال: أنشدني الشافعي:

قد عوج الناس حتى أحدثوا بدعا * في الدين بالرأي لم تبعث بها الرسل

حتى استخف بحق الله أكثرهم * وفي الذي حملوا من حقه شغل

وقد ذكرنا من شعره في السنة وكلامه فيها وفيما قال من الحكم والمواعظ طرفا صالحا في الذي كتبناه في أول طبقات الشافعية.

وقد كانت وفاته بمصر يوم الخميس، وقيل: يوم الجمعة، في آخر يوم من رجب سنة أربع ومائتين، وعن أربع وخمسين سنة.

وكان أبيض جميلا طويلا مهيبا يخضب بالحناء، مخالفا للشيعة رحمه الله وأكرم مثواه.

وفيها توفي: إسحاق بن الفرات، وأشهب بن عبد العزيز المصري المالكي، والحسن بن زياد، اللؤلؤي الكوفي الحنفي وأبو داود سليمان بن داود، الطيالسي، صاحب المسند، أحد الحفاظ.

وأبو بدر شجاع بن الوليد، وأبو بكر الحنفي، وعبد الكريم، وعبد الوهاب بن عطا الخفاف، والنضر بن شميل، أحد أئمة اللغة.

وهشام بن محمد بن السائب، الكلبي، أحد علماء التاريخ.

ثم دخلت سنة خمس ومائتين

فيها: ولى المأمون طاهر بن الحسين بن مصعب نيابة بغداد والعراق وخراسان إلى أقصى عمل المشرق، ورضي عنه ورفع منزلته جدا، وذلك لأجل مرض الحسن بن سهل بالسواد.

وولى المأمون مكان طاهر على الرقة والجزيرة يحيى بن معاذ.

وقدم عبد الله بن طاهر بن الحسين إلى بغداد في هذه السنة، وكان أبوه قد استخلفه على الرقة وأمره بمقاتلة نصر بن شبث.

وولى المأمون عيسى بن يزيد الجلودي مقاتلة الزط.

وولى عيسى بن محمد بن أبي خالد أذربيجان.

ومات نائب مصر السري بن الحكم بها، ونائب السند داود بن يزيد، فولى مكانه بشر بن داود على أن يحمل إليه في كل سنة ألف ألف درهم.

وحج بالناس فيها عبيد الله بن الحسن نائب الحرمين.

وفيها توفي من الأعيان: إسحاق بن منصور السلولي، وبشر بن بكر الدمشقي، وأبو عامر العقدي، ومحمد بن عبيد الطنافسي، ويعقوب الحضري.

أبو سليمان الداراني

عبد الرحمن بن عطية، وقيل: عبد الرحمن بن أحمد بن عطية، وقيل: عبد الرحمن بن عسكر.

أبو سليمان الداراني، أحد أئمة العلماء العاملين، أصله من واسط، سكن قرية غربي دمشق يقال لها: داريا.

وقد سمع الحديث من: سفيان الثوري، وغيره.

وروى عنه: أحمد بن أبي الحواري، وجماعة.

وأسند الحافظ ابن عساكر من طريقه، قال: سمعت علي بن الحسن بن أبي الربيع الزاهد، يقول: سمعت إبراهيم بن أدهم، يقول: سمعت ابن عجلان يذكر، عن القعقاع بن حكيم، عن أنس بن مالك، قال: قال رسول الله : «من صلى قبل الظهر أربعا غفر الله ذنوبه يومه ذلك».

وقال أبو القاسم القشيري: حكي عن أبي سليمان الداراني، قال: اختلفت إلى مجلس قاصٍّ فأثر كلامه في قلبي، فلما قمت لم يبق في قلبي منه شيء، فعدت إليه ثانية فأثر في قلبي بعد ما قمت وفي الطريق، ثم عدت إليه ثالثة فأثر كلامه في قلبي حتى رجعت إلى منزلي، فكسرت آلات المخالفات ولزمت الطريق، فحكيت هذه الحكاية ليحيى بن معاذ، فقال: عصفور اصطاد كركيا - يعني: بالعصفور القاص، وبالكركي: أبا سليمان -.

وقال أحمد بن أبي الحواري: سمعت أبا سليمان، يقول: ليس لمن ألهم شيئا من الخير أن يعمل به حتى يسمع به في الأثر، فإذا سمع به في الأثر عمل به فكان نورا على نور.

وقال الجنيد: قال أبو سليمان: ربما يقع في قلبي النكتة من نكت القوم فلا أقبلها إلا بشاهدين عدلين: الكتاب والسنة.

قال: وقال أبو سليمان: أفضل الأعمال خلاف هوى النفس.

وقال: لكل شيء علم، وعلم الخذلان ترك البكاء من خشية الله.

وقال: لكل شيء صدأ، وصدأ نور القلب شبع البطن.

وقال: كل ما شغلك عن الله من أهل أو مال أو ولد فهو شؤم.

وقال: كنت ليلة في المحراب أدعو ويداي ممدوتان فغلبني البرد فضممت إحداهما وبقيت الأخرى مبسوطة أدعو بها، وغلبتني عيني فنمت فهتف بي هاتف: يا أبا سليمان ! قد وضعنا في هذه ما أصابها، ولو كانت الأخرى لوضعنا فيها.

قال: فآليت على نفسي ألا أدعو إلا ويداي خارجتان حرا كان أو بردا.

وقال: نمت ليلة عن وردي فإذا أنا بحوراء تقول لي: تنام وأنا أربي لك في الخدور منذ خمسمائة عام ؟

وقال أحمد بن أبي الحواري: سمعت أبا سليمان، يقول: إن في الجنة أنهارا على شاطئيها خيام فيهن الحور، ينشئ الله خلق الحوراء إنشاء، فإذا تكامل خلقها ضربت الملائكة عليهن الخيام، الواحدة منهن جالسة على كرسي من ذهب ميل في ميل، قد خرجت عجيزتها من جانب الكرسي، فيجيء أهل الجنة من قصورهم يتنزهون على شاطئ تلك الأنهار ما شاؤوا ثم يخلو كل رجل بواحدة منهن.

قال أبو سليمان: كيف يكون في الدنيا حال من يريد افتضاض الأبكار على شاطئ تلك الأنهار في الجنة.

وقال: سمعت أبا سليمان يقول: ربما مكثت خمس ليال لا أقرأ بعد الفاتحة بآية واحدة أتفكر في معانيها، ولربما جاءت الآية من القرآن فيطير العقل، فسبحان من يرده بعد.

وسمعته يقول: أصل كل خير في الدنيا والآخرة الخوف من الله عز وجل، ومفتاح الدنيا الشبع، ومفتاح الآخرة الجوع.

وقال لي يوما: يا أحمد ! جوع قليل، وعري قليل، وفقر قليل، وصبر قليل، وقد انقضت عنك أيام الدنيا.

وقال أحمد: اشتهى أبو سليمان يوما رغيفا حارا بملح فجئته به فعض منه عضة ثم طرحه وأقبل يبكي ويقول: يا رب عجلت لي شهوتي، لقد أطلت جهدي وشقوتي وأنا تائب؟ فلم يذق الملح حتى لحق بالله عز وجل.

قال: وسمعته يقول: ما رضيت عن نفسي طرفة عين، ولو أن أهل الأرض اجتمعوا على أن يضعوني كاتضاعي عند نفسي ما قدروا.

وسمعته يقول: من رأى لنفسه قيمة لم يذق حلاوة الخدمة.

وسمعته يقول: من حسن ظنه بالله ثم لم يخفه ويطعه فهو مخدوع.

وقال: ينبغي للخوف أن يكون على العبد أغلب الرجاء، فإذا غلب الرجاء على الخوف فسد القلب.

وقال لي يوما: هل فوق الصبر منزلة ؟

فقلت: نعم ! - يعني: الرضا -.

فصرخ صرخة غشي عليه ثم أفاق فقال: إذا كان الصابرون يوفون أجرهم بغير حساب، فما ظنك بالأخرى وهم الذين رضي عنهم.

وقال: ما يسرني أن لي الدنيا وما فيها من أولها إلى آخرها أنفقه في وجوه البر، وإني أغفل عن الله طرفة عين.

وقال: قال زاهد لزاهد: أوصني.

فقال: لا يراك الله حيث نهاك، ولا يفقدك حيث أمرك.

فقال: زدني.

فقال: ما عندي زيادة.

وقال: من أحسن في نهاره كوفئ في ليله، ومن أحسن في ليلة كوفئ في نهاره، ومن صدق في

ترك شهوة أذهبها الله من قلبه، والله أكرم من أن يعذب قلبا بشهوة تركت له.

وقال: إذا سكنت الدنيا القلب ترحلت منه الآخرة، وإذا كانت الآخرة في القلب جاءت الدنيا تزاحمها، وإذا كانت الدنيا في القلب لم تزاحمها الآخرة، لأن الدنيا لئيمة والآخرة كريمة، وما ينبغي لكريم أن يزاحم لئيما.

وقال أحمد بن أبي الحواري: بتُّ ليلة عند أبي سليمان فسمعته يقول: وعزتك وجلالك لئن طالبتني بذنوبي لأطالبنك بعفوك، ولئن طالبتني ببخلي لأطالبنك بكرمك، ولئن أمرت بي إلى النار لأخبرن أهل النار أني أحبك.

وكان يقول: لو شك الناس كلهم في الحق ما شككت فيه وحدي.

وكان يقول: ما خلق الله خلقا أهون عليَّ من إبليس، ولولا أن الله أمرني أن أتعوذ منه ما تعوذت منه أبدا، ولو تبدَّى لي ما لطمت إلا صفحة وجهه.

وقال: إن اللص لا يجيء إلى خربة ينقب حيطانها وهو قادر على الدخول إليها من أي مكان شاء، وإنما يجيء إلى البيت المعمور، كذلك إبليس لا يجيء إلا كل قلب عامر ليستنزله وينزله عن كرسيه ويسلبه أعز شيء.

وقال: إذا أخلص العبد انقطعت عنه الوساوس والرؤيا.

وقال: الرؤيا - يعني: الجنابة -.

وقال: مكثت عشرين سنة لم أحتلم فدخلت مكة ففاتتني صلاة العشاء جماعة فاحتلمت تلك الليلة.

وقال: إن من خلق الله قوما لا يشغلهم الجنان وما فيها من النعيم عنه فكيف يشتغلون بالدنيا عنه ؟.

وقال: الدنيا عند الله أقل من جناح بعوضة فما الزهد فيها، وإنما الزهد في الجنان والحور العين، حتى لا يرى الله في قلبك غيره.

وقال الجنيد: شيء يروى عن أبى سليمان، أنا استحسنته كثيرا قوله: من اشتغل بنفسه شغل عن الناس، ومن اشتغل بربه شغل عن نفسه وعن الناس.

وقال: خير السخاء ما وافق الحاجة.

وقال: من طلب الدنيا حلالا واستغناء عن المسألة واستغناء عن الناس لقي الله يوم يلقاه ووجهه كالقمر ليلة البدر، ومن طلب الدنيا حلالا مفاخرا ومكاثرا لقي الله يوم يلقاه وهو عليه غضبان.

وقد روي نحو هذا مرفوعا.

وقال: إن قوما طلبوا الغنى في المال وجمعه فأخطأوا من حيث ظنوا، ألا وإنما الغنى في القناعة، وطلبوا الراحة في الكثرة وإنما الراحة في القلة، وطلبوا الكرامة من الخلق وإنما هي في التقوى، وطلبوا التنعم في اللباس الرقيق اللين، والطعام الطيب، والمسكن الأنيق المنيف، وإنما هو في الإسلام والإيمان، والعمل الصالح، والستر والعافية، وذكر الله.

وقال: لولا قيام الليل ما أحببت البقاء في الدنيا وما أحب الدنيا لغرس الأشجار ولا لكري الأنهار، وإنما أحبها لصيام الهواجر وقيام الليل.

وقال: أهل الطاعة في ليلهم ألذ من أهل اللهو في لهوهم.

وقال: ربما استقبلني الفرح في جوف الليل، وربما رأيت القلب يضحك ضحكا.

وقال: إنه لتمرُّ بالقلب أوقات يرقص فيها طربا فأقول: إن كان أهل الجنة في مثل هذا إنهم لفي عيش طيب.

وقال أحمد بن أبي الحواري: سمعت أبا سليمان يقول: بينا أنا ساجد إذ ذهب بي النوم فإذا

أنا بها - يعني: الحوراء - قد ركضتني برجلها فقالت: حبيبي أترقد عيناك والملك يقظان ينظر إلى المتهجدين في تهجدهم؟ بؤسا لعين آثرت لذة نومة على لذة مناجاة العزيز، قم فقد دنا الفراغ ولقي المحبون بعضهم بعضا، فما هذا الرقاد؟ حبيبي وقرَّة عيني أترقد عيناك وأنا أتربى لك في الخدود منذ كذا وكذا ؟

قال: فوثبت فزعا وقد عرقت حياء من توبيخها إياي، وإن حلاوة منطقها لفي سمعي وقلبي.

وقال أحمد: دخلت على أبي سليمان فإذا هو يبكي، فقلت: مالك ؟

فقال: زجرت البارحة في منامي.

قلت: ما الذي زجرك ؟

قال: بينا أنا نائم في محرابي إذ وقفت عليّ جارية تفوق الدنيا حسنا، وبيدها ورقة وهي تقول: أتنام يا شيخ ؟

فقلت: من غلبت عينه نام ؟

قالت: كلا إن طالب الجنة لا ينام، ثم قالت: أتقرأ ؟

قلت: نعم ! فأخذت الورقة من يدها فإذا فيها مكتوب:

لهت بك لذة عن حسن عيش * مع الخيرات في غرف الجنان

تعيش مخلدا لا موت فيها * وتنعم في الجنان مع الحسان

تيقظ من منامك إن خيرا * من النوم التهجد في القرآن

وقال أبو سليمان: أما يستحي أحدكم أن يلبس عباءة بثلاثة دراهم وفي قلبه شهوة بخمسة دراهم ؟

وقال أيضا: لا يجوز لأحد أن يظهر للناس الزهد والشهوات في قلبه، فإذا لم يبق في قلبه شيء من الشهوات جاز له أن يظهر إلى الناس الزهد بلبس العبا فإنها علم من أعلام الزهاد، ولو لبس ثوبين أبيضين ليستر بهما أبصار الناس عنه وعن زهده كان أسلم لزهده من لبس العبا.

وقال: إذا رأيت الصوفي يتنوق في لبس الصوف فليس بصوفي، وخيار هذه الأمة أصحاب القطن، أبو بكر الصديق وأصحابه.

وقال غيره: إذا رأيت ضوء الفقير في لباسه فاغسل يديك من فلاحه.

وقال أبو سليمان: الأخ الذي يعظك برؤيته قبل كلامه، وقد كنت أنظر إلى الأخ من أصحابي بالعراق فأنتفع برؤيته شهرا.

وقال أبو سليمان: قال الله تعالى: «عبدي إنك ما استحييت مني أنسيت الناس عيوبك، وأنسيت بقاع الأرض ذنوبك، ومحوت زلاتك من أم الكتاب ولم أناقشك الحساب يوم القيامة».

وقال أحمد: سألت أبا سليمان عن الصبر فقال: والله إنك لا تقدر عليه في الذي تحب فكيف تقدر عليه فيما تكره ؟.

وقال أحمد: تنهدت عنده يوما فقال: إنك مسؤول عنها يوم القيامة، فإن كانت على ذنب سلف فطوبى لك، وإن كانت على فوت دنيا أو شهوة فويل لك.

وقال: إنما رجع من رجع من الطريق قبل وصول ولو وصلوا إلى الله ما رجعوا.

وقال: إنما عصى الله من عصاه لهوانهم عليه، ولو عزوا عليه وكرموا لحجزهم عن معاصيه، وحال بينهم وبينها.

وقال: جلساء الرحمن يوم القيامة من جعل فيهم خصالا: الكرم، والحلم، والعلم، والحكمة، والرأفة، والرحمة، والفضل، والصفح، والإحسان، والبر، والعفو، واللطف.

وذكر أبو عبد الرحمن السلمي في كتاب محن المشايخ أن أبا سليمان الداراني أخرج من دمشق.

وقالوا: إنه يرى الملائكة ويكلمونه، فخرج إلى بعض الثغور فرأى بعض أهل الشام في منامه أنه إن لم يرجع إليهم هلكوا.

فخرجوا في طلبه وتشفعوا وتذللوا له حتى ردوه.

وقد اختلف الناس في وفاته على أقوال:

فقيل: مات سنة أربع ومائتين.

وقيل: سنة خمس ومائتين.

وقيل: خمس عشرة ومائتين.

وقيل: سنة خمس وثلاثين ومائتين، فالله أعلم.

وقد قال مروان الطاطري يوم مات أبو سليمان: لقد أصيب به أهل الإسلام كلهم.

قلت: وقد دفن في قرية داريا في قبلتها، وقبره بها مشهور وعليه بناء، وقبلته مسجد بناه الأمير ناهض الدين عمر النهرواني، ووقف على المقيمين عنده وقفا يدخل عليهم منه غلة، وقد جدد مزاره في زماننا هذا.

ولم أر ابن عساكر تعرض لموضع دفنه بالكلية، وهذا منه عجيب.

وروى ابن عساكر، عن أحمد بن أبي الحواري، قال: كنت أشتهي أن أرى أبا سليمان في المنام فرأيته بعد سنة.

فقلت له: ما فعل الله بك يا معلم ؟

فقال: يا أحمد دخلت يوما من باب الصغير فرأيت حمل شيح فأخذت منه عودا فما أدري تخللت به أو رميته، فأنا في حسابه إلى الآن.

وقد توفي ابنه سليمان بعده بنحو من سنتين رحمهما الله تعالى.

ثم دخلت سنة ست ومائتين

فيها: ولى المأمون داود بن ماسجور بلاد البصرة وكور دجلة واليمامة والبحرين، وأمره بمحاربة الزط.

وفيها: جاء مد كثير فغرق أرض السواد وأهلك للناس شيئا كثيرا.

وفيها: ولى المأمون عبد الله بن طاهر بن الحسين أرض الرقة وأمره بمحاربة نصر بن شبث، وذلك أن نائبها يحيى بن معاذ مات وقد كان استخلف مكانه ابنه أحمد فلم يمض ذلك المأمون، واستناب عليه عبد الله بن طاهر لشهامته وبصره بالأمور، وحثه على قتال نصر بن شبث، وقد كتب إليه أبوه من خراسان بكتاب فيه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واتباع الكتاب والسنة.

وقد ذكره ابن جرير بطوله، وقد تداوله الناس بينهم واستحسنوه وتهادوه بينهم، حتى بلغ أمره إلى المأمون فأمر فقرئ بين يديه فاستجاده جدا، وأمر أن يكتب به نسخ إلى سائر العمال في الأقاليم.

وحج بالناس عبيد الله بن الحسن نائب الحرمين.

وفيها توفي: إسحاق بن بشر الكاهلي، أبو حذيفة، صاحب كتاب المبتدأ.

وحجاج بن محمد الأعور، وداود بن المحبر، الذي وضع كتاب العقل.

وسبابة بن سوار (شبابة)، ومحاضر بن المورد، وقطرب، صاحب المثلث في اللغة.

ووهب بن جرير، ويزيد بن هارون، شيخ الإمام أحمد.

ثم دخلت سنة سبع ومائتين

فيها: خرج عبد الرحمن بن أحمد بن عبد الله بن محمد بن عمر بن علي بن أبي طالب ببلاد عك في اليمن يدعو إلى الرضى من آل محمد، وذلك لما أساء العمال السيرة وظلموا الرعايا، فلما ظهر بايعه الناس.

فبعث إليه المأمون دينار بن عبد الله في جيش كثيف ومعه كتاب أمان لعبد الرحمن هذا إن هو سمع وأطاع، فحضروا الموسم ثم ساروا إلى اليمن، وبعثوا بالكتاب إلى عبد الرحمن فسمع وأطاع وجاء حتى وضع يده في يد دينار، فساروا به إلى بغداد، ولبس السواد فيها.

وفي هذه السنة: توفي طاهر بن الحسين بن مصعب نائب العراق وخراسان بكمالها، وجد في فراشه ميتا بعد ما صلى العشاء الآخرة والتف في الفراش، فاستبطأ أهله خروجه لصلاة الفجر فدخل عليه أخوه وعمه فوجداه ميتا.

فلما بلغ موته المأمون قال: لليدين وللفم الحمد لله الذي قدمه وأخرنا.

وذلك أنه بلغه أن طاهرا خطب يوما ولم يدع للمأمون فوق المنبر، ومع هذا ولى ولده عبد الله مكانه وأضاف إليه زيادة على ما كان ولاه أباه الجزيرة والشام نيابة، فاستخلف على خراسان أخاه طلحة بن طاهر سبع سنين، ثم توفي طلحة فاستقل عبد الله بجميع تلك البلاد، وكان نائبه على بغداد إسحاق بن إبراهيم، وكان طاهر بن الحسين هو الذي انتزع بغداد والعراق من يد الأمين وقتله.

وقد دخل طاهر يوما على المأمون فسأله حاجة فقضاها له، ثم نظر إليه المأمون واغرورقت عيناه فقال له طاهر: ما يبكيك يا أمير المؤمنين ؟

فلم يخبره، فأعطى طاهر حسينا الخادم مائتي ألف درهم حتى استعلم له مما بكى أمير المؤمنين فأخبره المأمون وقال: لا تخبر به أحدا وإلا أقتلك، إني ذكرت قتله لأخي وما ناله من الإهانة على يدي طاهر، ووالله لا تفوته مني.

فلما تحقق طاهر ذلك سعى في النقلة من بين يدي المأمون، ولم يزل حتى ولاه خراسان وأطلق له خادما من خدامه، وعهد المأمون إلى الخادم إن رأى منه شيئا يريبه أن يسمَّه، ودفع إليه سما لا يطاق.

فلما خطب طاهر ولم يدع للمأمون سمَّه الخادم في كامخ فمات من ليلته.

وقد كان طاهر هذا يقال له: ذو اليمينين، وكان أعور بفرد عين.

فقال فيه عمرو بن نباتة:

ياذا اليمينين وعين واحدة * نقصان عين ويمين زائدة

واختلف في معنى قوله ذو اليمينين فقيل: لأنه ضرب رجلا بشماله فقدَّه نصفين.

وقيل: لأنه ولي العراق وخراسان.

وقد كان كريما ممدحا يحب الشعراء ويعطيهم الجزيل، ركب يوما في حراقة فقال فيه شاعر:

عجبت لحرَّاقة ابن الحسين * لا غرقت كيف لا تغرق

وبحران من فوقها واحد * وآخر من تحتها مطبق

وأعجب من ذلك أعوادها * وقد مسّها كيف لا تورق

فأجازه بثلاثة آلاف دينار.

وقال: إن زدتنا زدناك.

قال ابن خلكان: وما أحسن ما قاله بعض الشعراء في بعض الرؤساء وقد ركب البحر:

ولما امتطى البحر ابتهلت تضرعا * إلى الله يا مجري الرياح بلطفه

جعلت الندا من كفه مثل موجه * فسلَّمه واجعل موجه مثل كفه

مات طاهر بن الحسين هذا يوم السبت لخمس بقين من جمادى الآخرة سنة سبع ومائتين، وكان مولده سنة سبع وخمسين، وكان الذي سار إلى ولده عبد الله إلى الرقة يعزيه في أبيه ويهنيه بولاية تلك البلاد، القاضي يحيى بن أكثم عن أمر المأمون.

وفيها: غلا السعر ببغداد والكوفة والبصرة، حتى بلغ سعر القفيز من الحنطة أربعين درهما.

وفيها: حج بالناس أبو علي بن الرشيد أخو المأمون.

وفيها توفي: بشر بن عمر الزهراني، وجعفر بن عون، وعبد الصمد بن عبد الوارث، وقراد بن نوح، وكثير بن هشام، ومحمد بن كناسة، ومحمد بن عمر الواقدي، قاضي بغداد، وصاحب السير والمغازي.

وأبو النضر هاشم بن القاسم، والهيثم بن عدي، صاحب التصانيف.

يحيى بن زياد بن عبد الله بن منصور

أبو زكريا الكوفي، نزيل بغداد، مولى بني سعد، المشهور بالفراء، شيخ النحاة واللغويين والقراء.

كان يقال له: أمير المؤمنين في النحو.

وروى الحديث عن حازم بن الحسن البصري، عن مالك بن دينار، عن أنس بن مالك، قال: «قرأ رسول الله وأبو بكر وعمر وعثمان مالك يوم الدين بألف».

رواه الخطيب قال: وكان ثقةً إماما.

وذكر أن المأمون أمره بوضع كتاب في النحو فأملاه وكتبه الناس عنه، وأمر المأمون بكتبه في الخزائن، وأنه كان يؤدب ولديه وليي العهد من بعده، فقام يوما فابتدراه أيهما يقدم نعليه، فتنازعا في ذلك ثم اصطلحا على أن يقدم كل واحد منهما نعلا، فأطلق لهما أبوهما عشرين ألف دينار، وللفراء عشرة آلاف درهم.

وقال له: لا أعز منك إذ يقدم نعليك ولدا أمير المؤمنين ووليا العهد من بعده.

وروي أن بشر المريسي أو محمد بن الحسن سأل الفراء عن رجل سها في سجدتي السهو فقال: لا شيء عليه.

قال: ولم ؟

قال: لأن أصحابنا قالوا المصغر لا يصغر.

فقال: ما رأيت أن امرأة تلد مثلك.

والمشهور أن محمدا هو الذي سأله عن ذلك، وكان ابن خالة الفراء.

وقال أبو بكر من محمد بن يحيى الصولي: توفي الفراء سنة سبع ومائتين.

قال الخطيب: كانت وفاته ببغداد.

وقيل: بطريق مكة.

وقد امتدحوه وأثنوا عليه في مصنفاته.

ثم دخلت سنة ثمان ومائتين

فيها: ذهب الحسن بن الحسين بن مصعب أخو طاهر فارا من خراسان إلى كرمان فعصى بها، فسار إليه أحمد بن أبي خالد فحاصره حتى نزل قهرا، فذهب به إلى المأمون فعفا عنه فاستحسن ذلك منه.

وفيها: استعفى محمد بن سماعة من القضاء فأعفاه المأمون وولى مكانه إسماعيل بن حماد بن أبي حنيفة.

وفيها: ولى المأمون محمد بن عبد الرحمن المخزومي القضاء بعسكر المهدي في شهر المحرم، ثم عزله عن قريب وولى مكانه بشر بن سعيد بن الوليد الكندي في شهر ربيع الأول منها.

فقال المخزومي في ذلك:

ألا أيها الملك الموحد ربه * قاضيك بشر بن الوليد حمار

ينفي شهادة من يدين بما به * نطق الكتاب وجاءت الأخبار

ويعدُّ عدلا من يقول بأنه * شيخ تحيط بجسمه الأقطار

وفيها: حج بالناس صالح بن هارون الرشيد عن أمر أخيه المأمون.

وفيها توفي من الأعيان: الأسود بن عامر، وسعيد بن عامر، وعبد الله بن بكر، أحد مشايخ الحديث.

والفضل بن الربيع الحاجب، ومحمد بن مصعب، وموسى بن محمد، الأمين الذي كان قد ولاه العهد من بعده ولقبه: بالناطق، فلم يتم له أمره حتى قتل أبوه، وكان ما كان كما تقدم.

ويحيى بن أبي بكر، ويحيى بن حسان، ويعقوب بن إبراهيم الزهري، ويونس بن محمد، المؤدب.

وفاة السيدة نفيسة

وهي: نفيسة بنت أبي محمد الحسن بن زيد بن الحسن بن علي بن أبي طالب، القرشية الهاشمية، كان أبوها نائبا للمنصور على المدينة النبوية خمس سنين، ثم غضب المنصور عليه فعزله عنها وأخذ منه كل ما كان يملكه وما كان جمعه منها، وأودعه السجن ببغداد.

فلم يزل به حتى توفي المنصور فأطلقه المهدي وأطلق له كل ما كان أخذ منه، وخرج معه إلى الحج في سنة ثمان وستين ومائة، فلما كان بالحاجر توفي عن خمس وثمانين سنة.

وقد روى له النسائي حديثه، عن عكرمة، عن ابن عباس: «أن رسول الله احتجم وهم محرم».

وقد ضعفه ابن معين وابن عدي، ووثقه ابن حبان. وذكره الزبير بن بكار وأثنى عليه في رياسته وشهامته.

والمقصود: أن ابنته نفيسة دخلت الديار المصرية مع زوجها المؤتمن إسحاق بن جعفر، فأقامت بها وكانت ذات مال فأحسنت إلى الناس والجذمى والزمنى والمرضى وعموم الناس، وكانت عابدة زاهدة كثيرة الخير.

ولما ورد الشافعي مصر أحسنت إليه وكان ربما صلى بها في شهر رمضان.

وحين مات أمرت بجنازته فأدخلت إليها المنزل فصلت عليه.

ولما توفيت عزم زوجها إسحاق بن جعفر أن ينقلها إلى المدينة النبوية فمنعه أهل مصر من ذلك وسألوه أن يدفنها عندهم، فدفنت في المنزل الذي كانت تسكنه بمحلة كانت تعرف قديما بدرب السباع بين مصر والقاهرة، وكانت وفاتها في شهر رمضان من هذه السنة فيما ذكره ابن خلكان.

قال: ولأهل مصر فيها اعتقاد.

قلت: وإلى الآن قد بالغ العامة في اعتقادهم فيها وفي غيرها كثيرا جدا، ولا سيما عوام مصر فإنهم يطلقون فيها عبارات بشيعة مجازفة تؤدي إلى الكفر والشرك، وألفاظا كثيرةً ينبغي أن يعرفوا أنها لا تجوز.

وربما نسبها بعضهم إلى زين العابدين وليست من سلالته.

والذي ينبغي أن يعتقد فيها ما يليق بمثلها من النساء الصالحات، وأصل عبادة الأصنام من المغالاة في القبور وأصحابها، وقد أمر النبي بتسويه القبور وطمسها، والمغالاة في البشر حرام.

ومن زعم أنها تفك من الخشب أو أنها تنفع أو تضر بغير مشيئة الله فهو مشرك، رحمها الله وأكرمها.

الفضل بن الربيع

ابن يونس بن محمد بن عبد الله بن أبي فروة كيسان مولى عثمان بن عفان، كان الفضل هذا متمكنا من الرشيد، وكان زوال دولة البرامكة على يديه، وقد وزر مرة للرشيد، وكان شديد التشبه بالبرامكة، وكانوا يتشبهون به، فلم يزل يعمل جهده فيهم حتى هلكوا كما تقدم.

وذكر ابن خلكان أن الفضل هذا دخل يوما على يحيى بن خالد وابنه جعفر يوقع بين يديه، ومع الفضل عشر قصص فلم يقض له منها واحدة، فجمعهن الفضل بن الربيع وقال: ارجعن خائبات خاسئات.

ثم نهض وهو يقول:

عسى وعسى يثني الزمان عنانه * بتصريف حال والزمان عثور

فتقضى لبانات وتشفى حزائز * وتحدث من بعد الأمور أمور

فسمعه الوزير يحيى بن خالد فقال له: أقسمت عليك لما رجعت، فأخذ منه القصص فوقع عليها.

ثم لم يزل يحفر خلفهم حتى تمكن منهم وتولى الوزارة بعدهم، وفي ذلك يقول أبو نواس:

ما رعى الدهر آل برملك لما * أن رمى ملكهم بأمر فظيع

إن دهرا لم يرع ذمة ليحيى * غير راع ذمام آل الربيع

ثم وزر من بعد الرشيد لابنه الأمين فلما دخل المأمون بغداد اختفى فأرسل له المأمون أمانا فخرج فجاء فدخل على المأمون بعد اختفاء مدة فأمنه، ثم لم يزل خاملا حتى مات في هذه السنة، وله ثمان وستون سنة.

ثم دخلت سنة تسع ومائتين

فيها: حصر عبد الله بن طاهر نصر بن شبث بعد ما حاربه خمس سنين وضيق عليه جدا حتى ألجأه إلى أن طلب منه الأمان، فكتب ابن طاهر إلى المأمون يعلمه بذلك، فأرسل إليه أن يكتب له أمانا عن أمير المؤمنين.

فكتب له كتاب أمان فنزل فأمر عبد الله بتخريب المدينة التي كان متحصنا بها، وذهب شره.

وفيها: جرت حروب مع بابك الخرَّمي فأسر بابك بعض أمراء الإسلام وأحد مقدمي العساكر، فاشتد ذلك على المسلمين.

وفيها: حج بالناس صالح بن العباس بن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس، وهو والي مكة.

وفيها: توفي ملك الروم ميخائيل بن نقفور جرجس، وكان له عليهم تسع سنين، فملكوا عليهم ابنه توفيل بن ميخائيل.

وفيها توفي من مشايخ الحديث: الحسن بن موسى الأشيب، وأبو علي الحنفي، وحفص بن عبد الله، قاضي نيسابور.

وعثمان بن عمر بن فارس، ويعلى بن عبيد الطنافسي.

ثم دخلت سنة عشر ومائتين

في صفر منها: دخل نصر بن شبث بغداد، بعثه عبد الله بن طاهر فدخلها ولم يتلقاه أحد من

الجند بل دخلها وحده، فأنزل في مدينة أبي جعفر ثم حول إلى موضع آخر.

وفي هذا الشهر: ظفر المأمون بجماعة من كبراء من كان بايع إبراهيم بن المهدي فعاقبهم وحبسهم في المطبق، ولما كان ليلة الأحد لثلاث عشرة من ربيع الآخر اجتاز إبراهيم بن المهدي - وكان مختفيا مدة ست سنين وشهورا متنقبا في زي امرأة ومعه امرأتان - في بعض دروب بغداد في أثناء الليل.

فقام الحارس فقال: إلى أين هذه الساعة؟ ومن أين ؟

ثم أراد أن يمسكهن فأعطاه إبراهيم خاتما كان في يده من ياقوت، فلما نظر إليه استراب وقال: إنما هذا خاتم رجل كبير الشأن، فذهب بهن إلى متولي الليل فأمرهن أن يسفرن عن وجوههن، فتمنع إبراهيم فكشفوا عن وجهه فإذا هو هو، فعرفه فذهب به إلى صاحب الجسر فسلمه إليه فرفعه الآخر إلى باب المأمون، فأصبح في دار الخلافة ونقابه على رأسه والملحفة في صدره ليراه الناس، وليعلموا كيف أخذ.

فأمر المأمون بالاحتفاظ به والاحتراس عليه مدة، ثم أطلقه ورضي عنه.

هذا وقد صلب جماعة ممن كان سجنهم بسببه لكونهم أرادوا الفتك بالموكلين بالسجن، فصلب منهم أربعة.

وقد ذكروا أن إبراهيم لما وقف بين يدي المأمون أنبّه على ما كان منه فترقق له عمه إبراهيم كثيرا، وقال: يا أمير المؤمنين ! إن تعاقب فبحقك، وإن تعف فبفضلك.

فقال: بل أعفو يا إبراهيم، إن القدرة تذهب الحفيظة، والندم توبة وبينهما عفو الله عز وجل، وهو أكبر مما تسأله.

فكبر إبراهيم وسجد شكرا لله عز وجل.

وقد امتدح إبراهيم بن المهدي ابن أخيه المأمون بقصيدة بالغ فيها، فلما سمعها المأمون قال: أقول كما قال يوسف لإخوته: { لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ } [يوسف: 92] .

وذكر ابن عساكر أن المأمون لما عفا عن عمه إبراهيم أمره أن يغنيه شيئا فقال: إني تركته.

فأمره فأخذ العود في حجره وقال:

هذا مقام سرور خربت منازله ودوره * نمت عليه عداته كذابا فعاقبه أميره

ثم عاد فقال:

ذهبت من الدنيا وقد ذهبت عني * لوى الدهر بي عنها وولى بها عني

فإن أبك نفسي أبك نفسا عزيزةً * وإن أحتقرها أحتقرها على ضغن

وإني وإن كنت المسيء بعينه * فإني بربي موقن حَسَنُ الظن

عدوت على نفسي فعاد بعفوه * عليَّ فعاد العفو منا على منِّ

فقال المأمون: أحسنت يا أمير المؤمنين حقا.

فرمى العود من حجره ووثب قائما فزعا من هذا الكلام، فقال له المأمون: اجلس واسكن مرحبا بك وأهلا، لم يكن ذلك لشيء تتوهمه، ووالله لا رأيت طول أيامي شيئا تكرهه.

ثم أمر له بعشرة آلاف دينار وخلع عليه، ثم أمر له برد جميع ما كان له من الأموال والضياع والدور فردت إليه، وخرج من عنده مكرما معظما.

عرس بوران

وفي رمضان منها: بنى المأمون ببوران بنت الحسن بن سهل.

وقيل: إنه خرج في رمضان إلى معسكر الحسن بن سهل بفم الصلح، وكان الحسن قد عوفي من مرضه، فنزل المأمون عنده بمن معه من وجوه الأمراء والرؤساء وأكابر بني هاشم، فدخل ببوران في شوال من هذه السنة في ليلة عظيمة وقد أشعلت بين يديه شموع العنبر، ونثر على رأسه الدر والجوهر، فوق حصر منسوجة بالذهب الأحمر.

وكان عدد الجوهر منه ألف درة، فأمر به فجمع في صينية من ذهب كان الجوهر فيها فقالوا: يا أمير المؤمنين ! إنا نثرناه لتتلقطه الجواري.

فقال: لا أنا أعوضهن من ذلك.

فجمع كله، فلما جاءت العروس ومعها جدتها زبيدة أم أخيه الأمين - من جملة من جاء معها - فأجلست إلى جانبه فصب في حجرها ذلك الجوهر.

وقال: هذا نحلة مني إليك وسلي حاجتك، فأطرقت حياء.

فقالت جدتها: كلمي سيدك وسليه حاجتك فقد أمرك.

فقالت: يا أمير المؤمنين ! أسألك أن ترضى عن عمك إبراهيم بن المهدي، وأن ترده إلى منزلته التي كان فيها.

فقال: نعم !

قالت: وأم جعفر - تعني: زبيدة - تأذن لها في الحج.

قال: نعم !

فخلعت عليها زبيدة بذلتها الأميرية، وأطلقت له قرية مقورة.

وأما والد العروس الحسن بن سهل فإنه كتب أسماء قراه وضياعه وأملاكه في رقاع ونثرها على الأمراء ووجوه الناس، فمن وقعت بيده رقعة في قرية منها بعث إلى القرية التي فيها نوابه فسلمها إليه ملكا خالصا.

وأنفق على المأمون ومن كان معه من الجيش في مدة إقامته عنده سبعة عشر يوما ما يعادل خمسين ألف ألف درهم.

ولما أراد المأمون الانصراف من عنده أطلق له عشرة آلاف ألف درهم، وأقطعه البلد الذي هو نازل بها، وهو إقليم فم الصلح مضافا إلى ما بيده من الإقطاعات.

ورجع المأمون إلى بغداد في أواخر شوال من هذه السنة.

وفي هذه السنة: ركب عبد الله بن طاهر إلى مصر فاستنقذها بأمر المأمون من يد عبيد الله بن السري بن الحكم المتغلب عليها، واستعادها منه بعد حروب يطول ذكرها.

وفيها توفي من الأعيان: أبو عمرو الشيباني، اللغوي، واسمه: إسحاق بن مراد، ومروان بن محمد الطاطري، ويحيى بن إسحاق، والله سبحانه أعلم.

ثم دخلت سنة إحدى عشرة ومائتين

فيها توفي: أبو الجواب، وطلق بن غنام، وعبد الرازق بن همام الصنعاني، صاحب المصنف والمسند، وعبد الله بن صالح العجلي.

أبو العتاهية الشاعر المشهور

واسمه: إسماعيل بن القاسم بن سويد بن كيسان، أصله من الحجاز، وقد كان تعشق جارية للمهدي اسمها: عتبة، وقد طلبها منه غير مرة فإذا سمح له بها لم ترده الجارية، وتقول للخليفة: أتعطيني لرجل ذميم الخلق كان يبيع الجرار ؟

فكان يكثر التغزل فيها، وشاع أمره واشتهر بها، وكان المهدي يفهم ذلك منه.

واتفق في بعض الأحيان أن المهدي استدعى الشعراء إلى مجلسه وكان فيهم أبو العتاهية وبشار بن برد الأعمى، فسمع صوت أبي العتاهية.

فقال بشار لجليسه: أثَّم ههنا أبو العتاهية ؟

قال: نعم !

فانطلق يذكر قصيدته فيها التي أولها:

ألا ما لسيدتي مالها * أدلَّت فأجملَ إدلاها

فقال بشار لجليسه: ما رأيت أجسر من هذا.

حتى انتهى أبو العتاهية إلى قوله:

أتته الخلافة منقادة * إليه تجررُ أذيالها

فلم تك تصلح إلا له * ولم يك يصلح إلا لها

ولو رامها أحد غيره * لزلزلت الأرض زلزالها

ولو لم تطعه بنات القلوب * لما قبل الله أعمالها

فقال بشار لجليسه: انظروا أطار الخليفة عن فراشه أم لا ؟

قال: فوالله ما خرج أحد من الشعراء يومئذ بجائزة غيره.

قال ابن خلكان: اجتمع أبو العتاهية بأبي نواس - وكان في طبقته وطبقة بشار - فقال أبو العتاهية لأبي نواس: كم تعمل في اليوم من الشعر ؟

قال: بيتا أو بيتين.

فقال: لكني أعمل المائة والمائتين.

فقال أبو نواس: لعلك تعمل مثل قولك:

يا عتب مالي ولك * يا ليتني لم أرك

ولو عملت أنا مثل هذا لعملت الألف والألفين وأنا أعمل مثل قولي:

من كف ذات حر في زيَّ ذي ذكرٍ * لها محبان لوطيٌّ وزنَّاء

ولو أردت مثلي لأعجزك الدهر.

قال ابن خلكان: ومن لطيف شعر أبي العتاهية:

إني صبوت إليك حـ * ـتى صرت من فرط التصابي

يجد الجليس إذا دنا * ريح التصابي في ثيابي

وكان مولده سنة ثلاثين ومائة.

وتوفي يوم الاثنين ثالث جمادى الآخرة سنة إحدى عشرة.

وقيل: ثلاث عشرة ومائتين.

وأوصى أن يكتب على قبره ببغداد:

إن عيشا يكون آخره المو * ت لعيش معجل التنغيص

ثم دخلت سنة ثنتي عشرة ومائتين

فيها: وجه المأمون محمد بن حميد الطوسي على طريق الموصل لمحاربة بابك الخرَّمي في أرض أذربيجان، فأخذ جماعة من الملتفين عليه فبعث بهم إلى المأمون.

وفي ربيع الأول: أظهر المأمون في الناس بدعتين فظيعتين إحداهما أطم من الأخرى، وهي: القول بخلق القرآن، والثانية: تفضيل علي بن أبي طالب على الناس بعد رسول الله .

وقد أخطأ في كل منهما خطأً كبيرا فاحشا، وأثم إثما عظيما.

وفيها: حج بالناس عبد الله بن عبيد الله بن العباس العباسي.

وفيها توفي: أسد بن موسى، الذي يقال له: أسد السنة، والحسن بن جعفر، وأبو عاصم النبيل، واسمه: الضحاك بن مخلد، وأبو المغيرة عبد القدوس بن الحجاج، الشامي الدمشقي، ومحمد بن يونس الفريابي، شيخ البخاري.

ثم دخلت سنة ثلاث عشرة ومائتين

فيها: ثار رجلان: عبد السلام وابن جليس فخلعا المأمون واستحوذا على الديار المصرية، وتابعهما طائفة من القيسية واليمانية، فولى المأمون أخاه أبا إسحاق نيابة الشام، وولى ابنه العباس نيابة الجزيرة والثغور والعواصم، وأطلق لكل منهما ولعبد الله بن طاهر ألف ألف دينار وخمسمائة ألف دينار، فلم ير يوم أكثر إطلاقا منه، أطلق فيه لهؤلاء الأمراء الثلاثة ألف ألف دينار وخمسمائة ألف دينار.

وفيها: ولي السند غسان بن عباد.

وحج بالناس أمير السنة الماضية.

وفيها توفي: عبد الله بن داود الجريني، وعبد الله بن يزيد المقري المصري، وعبد الله بن موسى العبسي، وعمرو بن أبي سلمة الدمشقي.

وحكى ابن خلكان أن بعضهم قال: وفيها توفي: إبراهيم بن ماهان الموصلي النديم، وأبو العتاهية، وأبو عمرو الشيباني النحوي، في يوم واحد ببغداد، ولكنه صحح أن إبراهيم النديم توفي سنة ثمان وثمانين ومائة.

قال السهيلي: وفيها توفي: عبد الملك بن هشام، راوي السيرة عن ابن إسحاق، حكاه ابن خلكان عنه.

والصحيح أنه توفي سنة ثمان عشرة ومائتين، كما نص عليه أبو سعيد بن يونس في تاريخ مصر.

العكوك الشاعر

أبو الحسن بن علي بن جبلة الخراساني، يلقب: بالعكوك، وكان من الموالي.

ولد أعمى، وقيل: بل أصابه جدري وهو ابن سبع سنين، وكان أسود أبرص، وكان شاعرا مطبقا فصيحا بليغا، وقد أثنى عليه في شعره الجاحظ فمن بعده.

قال: ما رأيت بدويا ولا حضريا أحسن إنشاء منه.

فمن ذلك قوله:

بأبي من زارني متكتما * حذرا من كل شيء جزعا

زائرا ثم عليه حسنه * كيف يخفي الليل بدرا طلعا

رصد الخلوة حتى أمكنت * ورعى السامر حتى هجعا

ركب الأهوال في زورته * ثم ما سلَّم حتى رجعا

وهو القائل في أبي دلف القاسم بن عيسى العجلي:

إنما الدنيا أبو دلفٍ * بين مغزاه ومحتضره

فإذا ولَّى أبو دلف * ولَّت الدنيا على أثره

كلُّ من في الأرض من عرب * بين باديه إلى حضره

يرتجيه نيل مكرمة * يأتسيها يوم مفتخره

ولما بلغ المأمون هذه الأبيات - وهي قصيدة طويلة - عارض فيها أبا نواس فتطلبه المأمون فهرب منه ثم أحضر بين يديه فقال له: ويحك ! فضلت القاسم بن عيسى علينا.

فقال: يا أمير المؤمنين ! أنتم أهل بيت اصطفاكم الله من بين عباده، وآتاكم ملكا عظيما، وإنما فضلته على أشكاله وأقرانه.

فقال: والله ما أبقيت أحدا حيث تقول:

كلُّ من في الأرض من عرب * بين باديه إلى حضره

ومع هذا فلا أستحل قتلك بهذا، ولكن بشركك وكفرك حيث تقول في عبد ذليل:

أنت الذي تنزل الأيام منزلها * وتنقل الدهر من حال إلى حال

وما مددت مدى طرف إلى أحد * إلا قضيت بأرزاق وآجال

ذاك الله يفعله، أخرجوا لسانه من قفاه. فأخرجوا لسانه في هذه السنة فمات.

وقد امتدح حميد بن عبد الحميد الطوسي:

إنما الدنيا حميد *

وأياديه جسام *

فإذا ولَّى حميد *

فعلى الدنيا السلام *

ولما مات حميد هذا رثاه أبو العتاهية بقوله:

أبا غانم أما ذراك فواسع * وقبرك معمور الجوانب محكم

وما ينفع المقبور عمران قبره * إذا كان فيه جسمه يتهدم

وقد أورد ابن خلكان لعكوك هذا أشعارا جيدةً تركناها اختصارا.

ثم دخلت سنة أربع عشرة ومائتين

في يوم السبت لخمس بقين من ربيع الأول منها: التقى محمد بن حميد وبابك الخرَّمي لعنه الله، فقتل الخرَّمي خلقا كثيرا من جيشه، وقتله أيضا وانهزم بقية أصحاب ابن حميد.

فبعث المأمون إسحاق بن إبراهيم ويحيى بن أكثم إلى عبد الله بن طاهر يخيرانه بين خراسان ونيابة الجبال وأذربيجان وأرمينية ومحاربة بابك، فاختار المقام بخراسان لكثرة احتياجها إلى الضبط، وللخوف من ظهور الخوارج.

وفيها: دخل أبو إسحاق بن الرشيد الديار المصرية فانتزعها من يد عبد السلام وابن جليس وقتلهما.

وفيها: خرج رجل يقال له: بلال الضبابي، فبعث إليه المأمون ابنه العباس في جماعة من الأمراء فقتلوا بلالا ورجعوا إلى بغداد.

وفيها: ولى المأمون علي بن هشام الجبل وقم وأصبهان وأذربيجان.

وفيها: حج بالناس إسحاق بن العباس بن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس.

وفيها توفي: أحمد بن خالد الموهبي.

أحمد بن يوسف بن القاسم بن صبيح

أبو جعفر الكاتب، ولي ديوان الرسائل للمأمون.

ترجمه ابن عساكر وأورد من شعره قوله:

قد يرزق المرء من غير حيلة صدرت * ويصرف الرزق عن ذي الحيلة الداهي

ما مسني من غنى يوما ولا عدم * إلا وقولي عليه الحمد لله

وله أيضا:

إذا قلت في شيء نعم فأتمه * فإن نعم دين على الحر واجب

وإلا فقل لا تستريح بها * لئلا يقول الناس إنك كاذب

وله:

إذا المرء أفشى سره بلسانه * فلام عليه غيره فهو أحمق

إذا ضاق صدر المرء عن سر نفسه * فصدر الذي يستودع السر أضيق

وحسن بن محمد المروزي، شيخ الإمام أحمد.

وعبد الله بن الحكم المصري، ومعاوية بن عمر.

أبو محمد عبد الله بن أعين بن ليث بن رافع المصري

أحد من قرأ الموطأ على مالك وتفقه بمذهبه، وكان معظما ببلاد مصر، وله بها ثروة وأموال وافرة.

وحين قدم الشافعي مصر أعطاه ألف دينار، وجمع له من أصحابه ألفي دينار، وأجرى عليه.

وهو: والد محمد بن عبد الله بن الحكم الذي صحب الشافعي.

ولما توفي في هذه السنة دفن إلى جانب قبر الشافعي.

ولما توفي ابنه عبد الرحمن دفن إلى جانب قبر أبيه من القبلة.

قال ابن خلكان: فهي ثلاثة أقبر الشافعي شاميها، وهما قبلته. رحمهم الله.

ثم دخلت سنة خمس عشرة ومائتين

في أواخر المحرم منها: ركب المأمون في العساكر من بغداد قاصدا بلاد الروم لغزوهم.

واستخلف على بغداد وأعمالها إسحاق بن إبراهيم بن مصعب، فلما كان بتكريت تلقاه محمد بن علي بن موسى بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب من المدينة النبوية، فأذن له المأمون في الدخول على ابنته أم الفضل بنت المأمون.

وكان معقود العقد عليها في حياة أبيه علي بن موسى، فدخل بها، وأخذها معه إلى بلاد الحجاز.

وتلقاه أخوه أبو إسحاق بن الرشيد من الديار المصرية قبل وصوله إلى الموصل.

وسار المأمون في جحافل كثيرة إلى بلاد طرسوس فدخلها في جمادى الأولى، وفتح حصنا هناك عنوة وأمر بهدمه، ثم رجع إلى دمشق فنزلها وعمر دير مرات بسفح قيسون، وأقام بدمشق مدة.

وحج بالناس فيها عبد الله بن عبيد الله بن العباس العباسي.

وفيها توفي: أبو زيد الأنصاري، ومحمد بن المبارك الصوري، وقبيصة بن عقبة، وعلي بن الحسن بن شقيق، ومكي بن إبراهيم.

أبو زيد الأنصاري

فهو: سعيد بن أوس بن ثابت، البصري اللغوي، أحد الثقات الأثبات، ويقال: إنه كان يرى ليلة القدر.

قال أبو عثمان المازني: رأيت الأصمعي جاء إلى أبي زيد الأنصاري وقبّل رأسه وجلس بين يديه وقال: أنت رئيسنا وسيدنا منذ خمسين سنة.

قال ابن خلكان: وله مصنفات كثيرة، منها: خلق الإنسان، وكتاب الإبل، وكتاب المياه، وكتاب الفرس والترس، وغير ذلك.

توفي في هذه السنة، وقيل: في التي قبلها أو التي بعدها، وقد جاوز التسعين، وقيل: إنه قارب المائة.

وأما أبو سليمان فقد قدمنا ترجمته.

ثم دخلت سنة ست عشرة ومائتين

فيها: عدا ملك الروم وهو: توفيل بن ميخائيل على جماعة من المسلمين فقتلهم في أرض طرسوس نحوا من ألف وستمائة إنسان.

وكتب إلى المأمون فبدأ بنفسه، فلما قرأ المأمون كتابه نهض من فوره إلى بلاد الروم عودا على بدء وصحبته أخوه أبو إسحاق بن الرشيد نائب الشام ومصر، فافتتح بلدانا كثيرةً صلحا وعنوةً، وافتتح أخوه ثلاثين حصنا.

وبعث يحيى بن أكثم في سرية إلى طوانة فافتتح بلادا كثيرةً وأسر خلقا وحرق حصونا عدةً، ثم عاد إلى العسكر.

وأقام المأمون ببلاد الروم من نصف جمادى الآخرة إلى نصف شعبان، ثم عاد إلى دمشق وقد وثب رجل يقال له: عبدوس الفهري في شعبان من هذه السنة ببلاد مصر، فتغلب على نواب أبي إسحاق بن الرشيد واتبعه خلق كثير.

فركب المأمون من دمشق يوم الأربعاء لأربع عشرة ليلة خلت من ذي الحجة إلى الديار المصرية، فكان من أمره ما سنذكره.

وفيها: كتب المأمون إلى إسحاق بن إبراهيم نائب بغداد يأمره أن يأمر الناس بالتكبير عقيب الصلوات الخمس، فكان أول ما بدئ بذلك في جامع بغداد والرصافة يوم الجمعة لأربع عشر ليلة خلت من رمضان، وذلك أنهم كانوا إذا قضوا الصلاة قام الناس قياما فكبروا ثلاث تكبيرات، ثم استمروا على ذلك في بقية الصلوات.

وهذه بدعة أحدثها المأمون أيضا بلا مستند ولا دليل ولا معتمد، فإن هذا لم يفعله قبله أحد، ولكن ثبت في الصحيح عن ابن عباس أن رفع الصوت بالذكر كان على عهد رسول الله ليعلم حين ينصرف الناس من المكتوبة، وقد استحب هذا طائفة من العلماء كابن حزم وغيره.

وقال ابن بطال: المذاهب الأربعة على عدم استحبابه.

قال النووي: وقد روي عن الشافعي أنه قال: إنما كان ذلك ليعلم الناس أن الذكر بعد الصلوات مشروع، فلما علم ذلك لم يبق للجهر معنى.

وهذا كما روي عن ابن عباس أنه كان يجهر في الفاتحة في صلاة الجنازة ليعلم الناس أنها سنة، ولهذا نظائر، والله أعلم.

وأما هذه البدعة التي أمر بها المأمون فإنها بدعة محدثة لم يعمل بها أحد من السلف.

وفيها: وقع برد شديد جدا.

وفيها: حج بالناس الذي حج بهم في العام الماضي، وقيل: غيره، والله أعلم.

وفيها توفي: حبان بن هلال، وعبد الملك بن قريب الأصمعي، صاحب اللغة والنحو والشعر وغير ذلك، ومحمد بن بكار بن هلال، وهوذة بن خليفة.

زبيدة امرأة الرشيد وابنة عمه

وهي: ابنة جعفر أم العزيز الملقبة: زبيدة بنت جعفر بن المنصور، العباسية الهاشمية القرشية، كانت أحب الناس إلى الرشيد، وكانت ذات حسن باهر وجمال طاهر، وكان له معها من الحظايا والجواري والزوجات غيرها كثيرا كما ذكرنا ذلك في ترجمته، وإنما لقبت زبيدة لأن جدها أبا جعفر المنصور كان يلاعبها ويرقصها وهي صغيرة ويقول: إنما أنت زبيدة، لبياضها، فغلب ذلك عليها فلا تعرف إلا به، وأصل اسمها: أم العزيز.

وكان لها من الجمال والمال والخير والديانة والصدقة والبر شيء كثير.

وروى الخطيب أنها حجت فبلغت نفقتها في ستين يوما أربعة وخمسين ألف ألف درهم.

ولما هنأت المأمون بالخلافة قالت: هنأت نفسي بها عنك قبل أن أراك، ولئن كنت فقدت ابنا خليفة لقد عوضت ابنا خليفة لم ألده، وما خسر من اعتاض مثلك، ولا ثكلت أم ملأت يدها منك، وأنا أسأل الله أجرا على ما أخذ، وإمتاعا بما عوض.

توفيت ببغداد في جمادى الأولى سنة ست عشرة ومائتين.

ثم قال الخطيب: حدثني الحسين بن محمد الخلال لفظا، قال: وحدث أبا الفتح القواس، قال ثنا صدقة بن هبيرة الموصلي، ثنا محمد بن عبد الله الواسطي، قال: قال عبد الله بن المبارك: رأيت زبيدة في المنام فقلت: ما فعل الله بك ؟

فقالت: غفر لي في أول معول ضرب في طريق مكة.

قلت: فما هذه الصفرة ؟

قالت: دفن بين ظهرانينا رجل يقال له: بشر المريسي زفرت عليه جهنم زفرة فاقشعر لها جسدي فهذه الصفرة من تلك الزفرة.

وذكر ابن خلكان أنه كان لها مائة جارية كلهن يحفظن القرآن العظيم، غير من قرأ منه ما قدر له وغير من لم يقرأ، وكان يسمع لهن في القصر دوي كدوي النحل، وكان ورد كل واحدة عشر القرآن.

وورد أنها رؤيت في المنام فسئلت عما كانت تصنعه من المعروف والصدقات وما عملته في طريق الحج فقالت: ذهب ثواب ذلك كله إلى أهله، وما نفعنا إلا ركعات كنت أركعهن في السحر.

وفيها: جرت حوادث وأمور يطول ذكرها.

ثم دخلت سنة سبعة عشرة ومائتين

في المحرم منها: دخل المأمون مصر وظفر بعبدوس الفهري فأمر فضربت عنقه، ثم كر راجعا إلى الشام.

وفيها: ركب المأمون إلى بلاد الروم أيضا فحاصر لؤلؤة مائة يوم، ثم ارتحل عنها واستخلف على حصارها عجيفا فخدعته الروم فأسروه، فأقام في أيديهم ثمانية أيام، ثم انفلت منهم واستمر محاصرا لهم، فجاء ملك الروم بنفسه فأحاط بجيشه من ورائه، فبلغ المأمون فسار إليه، فلما أحس توفيل بقدومه هرب وبعث وزيره صنغل فسأله الأمان والمصالحة، لكنه بدأ بنفسه قبل المأمون فرد عليه المأمون كتابا بليغا مضمونه التقريع والتوبيخ: وإني إنما أقبل منك الدخول في الحنيفة وإلا فالسيف والقتل والسلام على من اتبع الهدى.

وفيها: حج بالناس سليمان بن عبد الله بن سليمان بن علي.

وفيها توفي: الحجاج بن منهال، وشريح بن النعمان، وموسى بن داود، الضبي، والله سبحانه أعلم.

ثم دخلت سنة ثمان عشرة ومائتين

في أول يوم من جمادى الأولى: وجه المأمون ابنه العباس إلى بلاد الروم لبناء الطونة وتجديد عمارتها.

وبعث إلى سائر الأقاليم في تجهيز الفعلة من كل بلد إليها، من مصر والشام والعراق، فاجتمع عليها خلق كثير، وأمره أن يجعلها ميلا في ميل، وأن يجعل سورها ثلاث فراسخ، وأن يجعل لها ثلاثة أبواب.

ذكر أول المحنة والفتنة

في هذه السنة: كتب المأمون إلى نائبه ببغداد إسحاق بن إبراهيم بن مصعب يأمره أن يمتحن القضاة والمحدثين بالقول بخلق القرآن، وأن يرسل إليه جماعة منهم، وكتب إليه يستحثه في كتاب مطول، وكتب غيره قد سردها ابن جرير كلها.

ومضمونها الاحتجاج على أن القرآن محدث وكل محدث مخلوق، وهذا احتجاج لا يوافقه عليه كثير من المتكلمين فضلا عن المحدثين، فإن القائلين بأن الله تعالى تقوم به الأفعال الاختيارية لا يقولون بأن فعله تعالى القائم بذاته المقدسة مخلوق، بل لم يكن مخلوقا، بل يقولون هو محدث وليس بمخلوق، بل هو كلام الله القائم بذاته المقدسة، وما كان قائما بذاته لا يكون مخلوقا.

وقد قال الله تعالى: { يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ } [الأنبياء: 2] .

وقال تعالى: { وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ } [الأعراف: 11] .

فالأمر بالسجود صدر منه بعد خلق آدم، فالكلام القائم بالذات ليس مخلوقا، وهذا له موضع آخر.

وقد صنف البخاري كتابا في هذا المعنى سماه: خلق أفعال العباد.

والمقصود أن كتاب المأمون لما ورد بغداد قرئ على الناس، وقد عين المأمون جماعة من المحدثين ليحضرهم إليه، وهم: محمد بن سعد كاتب الواقدي، وأبو مسلم المستملي، ويزيد بن هارون، ويحيى بن معين، وأبو خيثمة زهير بن حرب، وإسماعيل بن أبي مسعود، وأحمد بن الدورقي.

فبعث بهم إلى المأمون إلى الرقة فامتحنهم بخلق القرآن فأجابوه إلى ذلك وأظهروا موافقته وهم كارهون، فردهم إلى بغداد وأمر بإشهار أمرهم بين الفقهاء، ففعل إسحاق ذلك.

وأحضر خلقا من مشايخ الحديث والفقهاء وأئمة المساجد وغيرهم، فدعاهم إلى ذلك عن أمر المأمون، وذكر لهم موافقة أولئك المحدثين له على ذلك، فأجابوا بمثل جواب أولئك موافقة لهم، ووقعت بين الناس فتنة عظيمة، فإنا لله وإنا إليه راجعون.

ثم كتب المأمون إلى إسحاق أيضا بكتاب ثان يستدل به على القول بخلق القرآن بشبه من الدلائل أيضا لا تحقيق تحتها ولا حاصل لها، بل هي من المتشابه وأورد من القرآن آيات هي حجة عليه.

أورد ابن جرير ذلك كله.

وأمر نائبه أن يقرأ ذلك على الناس وأن يدعوهم إليه وإلى القول بخلق القرآن.

فأحضر أبو إسحاق جماعة من الأئمة وهم: أحمد بن حنبل، وقتيبة، وأبو حيان الزيادي، وبشر بن الوليد الكندي، وعلي بن أبي مقاتل، وسعدويه الواسطي، وعلي بن الجعد، وإسحاق بن أبي إسرائيل، وابن الهرش، وابن علية الأكبر، ويحيى بن عبد الحميد العمري.

وشيخ آخر من سلالة عمر كان قاضيا على الرقة، وأبو نصر التمار، وأبو معمر القطيعي، ومحمد بن حاتم بن ميمون، ومحمد بن نوح الجنديسابوري المضروب، وابن الفرخان، والنضر بن شميل، وأبو علي بن عاصم، وأبو العوام البارد، وأبو شجاع، وعبد الرحمن بن إسحاق، وجماعة.

فلما دخلوا على أبي إسحاق قرأ عليهم كتاب المأمون، فلما فهموه قال لبشر بن الوليد: ما تقول في القرآن ؟

فقال: هو كلام الله.

قال: ليس عن هذا أسألك، وإنما أسألك أهو مخلوق ؟

قال: ليس بخالق.

قال: ولا عن هذا أسألك.

فقال: ما أحسن غير هذا. وصمم على ذلك.

فقال: تشهد أن لا إله إلا الله أحدا فردا لم يكن قبله شيء ولا بعده شيء ولا يشبهه شيء من خلقه في معنى من المعاني ولا وجه من الوجوه ؟

قال: نعم !

فقال للكاتب: اكتب بما قال. فكتب.

ثم امتحنهم رجلا رجلا فأكثرهم امتنع من القول بخلق القرآن، فكان إذا امتنع الرجل منهم امتحنه بالرقعة التي وافق عليها بشر بن الوليد الكندي، من أنه يقال: لا يشبهه شيء من خلقه في معنى من المعاني ولا وجه من الوجوه ؟

فيقول: نعم ! كما قال بشر.

ولما انتهت النوبة إلى امتحان أحمد بن حنبل فقال له: أتقول إن القرآن مخلوق ؟

فقال: القرآن كلام الله لا أزيد على هذا.

فقال له: ما تقول في هذه الرقعة ؟

فقال: أقول: { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ } [الشورى: 11] .

فقال رجل من المعتزلة: إنه يقول سميع بإذن بصير بعين.

فقال له إسحاق: ما أردت بقولك سميع بصير ؟

فقال: أردت منها ما أراده الله منها، وهو كما وصف نفسه ولا أزيد على ذلك.

فكتب جوابات القوم رجلا رجلا وبعث بها إلى المأمون.

وكان من الحاضرين من أجاب إلى القول بخلق القرآن مصانعةً مكرها لأنهم كانوا يعزلون من لا يجيب عن وظائفه، وإن كان له رزق على بيت المال قطع، وإن كان مفتيا منع من الإفتاء، وإن كان شيخ حديث ردع عن الإسماع والأداء.

ووقعت فتنة صماء ومحنة شنعاء وداهية دهياء، فلا حول ولا قوة إلا بالله.

فلما وصلت جوابات القوم إلى المأمون بعث إلى نائبه يمدحه على ذلك ويرد على كل فرد فرد ما قال في كتاب أرسله.

وأمر نائبه أن يمتحنهم أيضا فمن أجاب منهم شهر أمره في الناس، ومن لم يجب منهم فابعثه إلى عسكر أمير المؤمنين مقيدا محتفظا به حتى يصل إلى أمير المؤمنين فيرى فيه رأيه، ومن رأيه أن يضرب عنق من لم يقل بقوله.

فعند ذلك عقد النائب ببغداد مجلسا آخر وأحضر أولئك وفيهم إبراهيم بن المهدي، وكان صاحبا لبشر بن الوليد الكندي، وقد نص المأمون على قتلهما إن لم يجيبا على الفور، فلما امتحنهم إسحاق أجابوا كلهم مكرهين متأولين قوله تعالى: { إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ } [النحل: 106] الآية.

إلا أربعة وهم: أحمد بن حنبل، ومحمد بن نوح، والحسن بن حماد سجاده، وعبيد الله بن عمر القواريري.

فقيَّدهم وأرصدهم ليبعث بهم إلى المأمون، ثم استدعى بهم في اليوم الثاني فامتحنهم فأجاب سجاده إلى القول بذلك فأطلق.

ثم امتحنهم في اليوم الثالث فأجاب القواريري إلى ذلك فأطلق قيده.

وأخرَّ أحمد بن حنبل، ومحمد بن نوح الجنديسابوري لأنهما أصرا على الامتناع من القول بذلك، فأكد قيودهما وجمعهما في الحديد وبعث بهما إلى الخليفة وهو بطرسوس، وكتب كتابا بإرسالهما إليه.

فسارا مقيدين في محارة على جمل متعادلين رضي الله عنهما.

وجعل الإمام أحمد يدعو الله عز وجل أن لا يجمع بينهما وبين المأمون، وأن لا يرياه ولا يراهما.

ثم جاء كتاب المأمون إلى نائبه أنه قد بلغني أن القوم إنما أجابوا مكرهين متأولين قوله تعالى: «إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان» [النحل: 106] الآية.

وقد أخطأوا في تأويلهم ذلك خطأً كبيرا، فأرسلهم كلهم إلى أمير المؤمنين.

فاستدعاهم إسحاق وألزمهم بالمسير إلى طرسوس فساروا إليها، فلما كانوا ببعض الطريق بلغهم موت المأمون فردوا إلى الرقة، ثم أذن لهم بالرجوع إلى بغداد.

وكان أحمد بن حنبل وابن نوح قد سبقا الناس، ولكن لم يجتمعا به.

بل أهلكه الله قبل وصولهما إليه، واستجاب الله سبحانه دعاء عبده ووليه الإمام أحمد بن حنبل، فلم يريا المأمون ولا رآهما، بل ردوا إلى بغداد.

وسيأتي تمام ما وقع لهم من الأمر الفظيع في أول ولاية المعتصم بن الرشيد، وتمام باقي الكلام على ذلك في ترجمة الإمام أحمد عند ذكر وفاته في سنة إحدى وأربعين ومائتين، وبالله المستعان.

عبد الله المأمون

هو: عبد الله المأمون بن هارون الرشيد، العباسي القرشي الهاشمي، أبو جعفر، أمير المؤمنين، وأمه أم ولد يقال لها: مراجل الباذغيسية، وكان مولده في ربيع الأول سنة سبعين ومائة ليلة توفي عمه الهادي، وولي أبوه هارون الرشيد، وكان ذلك ليلة الجمعة كما تقدم.

قال ابن عساكر: روى الحديث عن: أبيه، وهاشم بن بشر، وأبي معاوية الضرير، ويوسف بن قحطبة، وعباد بن العوام، وإسماعيل بن علية، وحجاج بن محمد الأعور.

وروى عنه: أبو حذيفة إسحاق بن بشر، - وهو أسن منه - ويحيى بن أكثم القاضي، وابنه الفضل بن المأمون، ومعمر بن شبيب، وأبو يوسف القاضي، وجعفر بن أبي عثمان الطيالسي، وأحمد بن الحارث الشعبي - أو اليزيدي -، وعمرو بن مسعدة، وعبد الله بن طاهر بن الحسين، ومحمد بن إبراهيم السلمي، ودعبل بن علي الخزاعي.

قال: وقدم دمشق مرات وأقام بها مدة.

ثم روى ابن عساكر، من طريق أبي القاسم البغوي، حدثنا أحمد بن إبراهيم الموصلي، قال: سمعت المأمون في الشماسية وقد أجرى الحلبة فجعل ينظر إلى كثرة الناس، فقال ليحيى بن أكثم: أما ترى كثرة الناس ؟

قال: حدثنا يوسف بن عطية، عن ثابت، عن أنس، أن النبي قال: «الخلق كلهم عيال الله فأحبهم إليه أنفعهم لعياله».

ومن حديث أبي بكر المنايحي، عن الحسين بن أحمد المالكي، عن يحيى بن أكثم القاضي، عن المأمون، عن هشيم، عن منصور، عن الحسن، عن أبي بكرة، أن رسول الله قال: «الحياء من الإيمان».

ومن حديث جعفر بن أبي عثمان الطيالسي، أنه صلى العصر يوم عرفة خلف المأمون بالرصافة، فلما سلم كبر الناس فجعل يقول: لا يا غوغاء لا يا غوغاء، غدا التكبير سنة أبي القاسم .

فلما كان الغد صعد المنبر فكبر ثم قال: أنبأ هشيم بن بشير، ثنا ابن شبرمة، عن الشعبي، عن البراء بن عازب، عن أبي بردة بن دينار، قال: قال رسول الله : «من ذبح قبل أن يصلي فإنما هو لحم قدمه لأهله، ومن ذبح بعد أن يصلي الغداة فقد أصاب السنة».

الله أكبر كبيرا والحمد لله كثيرا وسبحان الله بكرة وأصيلا، اللهم أصلحني واستصلحني وأصلح على يدي.

تولى المأمون الخلافة في المحرم لخمس بقين منه بعد مقتل أخيه سنة ثمان وتسعين ومائة، واستمر في الخلافة عشرين سنة وخمسة أشهر.

وقد كان فيه تشيع واعتزال وجهل بالسنة الصحيحة، وقد بايع في سنة إحدى ومائتين بولاية العهد من بعده لعلي الرضى بن موسى الكاظم بن جعفر الصادق بن محمد الباقر بن علي زين العابدين بن الحسين بن علي بن أبي طالب، وخلع السواد ولبس الخضرة كما تقدم، فأعظم ذلك العباسيون من البغاددة وغيرهم، وخلعوا المأمون وولوا عليهم إبراهيم بن المهدي.

ثم ظفر المأمون بهم واستقام له الحال في الخلافة، وكان على مذهب الاعتزال لأنه اجتمع بجماعة منهم بشر بن غياث المريسي فخدعوه وأخذ عنهم هذا المذهب الباطل.

وكان يحب العلم ولم يكن له بصيرة نافذة فيه، فدخل عليه بسبب ذلك الداخل، وراج عنده الباطل، ودعا إليه وحمل الناس عليه قهرا، وذلك في آخر أيامه وانقضاء دولته.

وقال ابن أبي الدنيا: كان المأمون أبيض ربعة حسن الوجه قد وخطه الشيب يعلوه صفرة أعين، طويل اللحية رقيقها ضيق الجبين، على خده خال.

أمه أم ولد يقال لها: مراجل.

وروى الخطيب، عن القاسم بن محمد بن عباد، قال: لم يحفظ القرآن أحد من الخلفاء غير عثمان بن عفان والمأمون، وهذا غريب جدا لا يوافق عليه، فقد كان يحفظ القرآن عدة من الخلفاء.

قالوا: وقد كان المأمون يتلو في شهر رمضان ثلاثا وثلاثين ختمة، وجلس يوما لإملاء الحديث فاجتمع حوله القاضي يحيى بن أكثم وجماعة فأملى عليهم من حفظه ثلاثين حديثا.

وكانت له بصيرة بعلوم متعددة، فقها وطبا وشعرا وفرائض وكلاما ونحوا وغريبه، وغريب حديث، وعلم النجوم، وإليه ينسب الزيج المأموني، وقد اختبر مقدار الدرجة في وطئه سنجار فاختلف عمله وعمل الأوائل من الفقهاء.

وروى ابن عساكر أن المأمون جلس يوما للناس وفي مجلسه الأمراء والعلماء، فجاءت امرأة تتظلم إليه فذكرت أن أخاها توفي وترك ستمائة دينار، فلم يحصل لها سوى دينار واحد.

فقال لها المأمون على البديهة: قد وصل إليك حقك، كان أخاك قد ترك بنتين وأما وزوجة واثني عشر أخا وأختا واحدةً وهي أنت.

قالت: نعم ! يا أمير المؤمنين.

فقال: للبنتين الثلثان أربعمائة دينار، وللأم السدس مائة دينار، وللزوجة الثمن خمسة وسبعون دينارا، بقي خمسة وعشرون دينارا لكل أخ ديناران ديناران، ولك دينار واحد.

فعجب العلماء من فطنته وحدة ذهنه وسرعة جوابه.

وقد رويت هذه الحكاية عن علي بن أبي طالب.

ودخل بعض الشعراء على المأمون وقد قال فيه بيتا من الشعر يراه عظيما، فلما أنشده إياه لم يقع منه موقعا طائلا، فخرج من عنده محروما، فلقيه شاعر آخر فقال له: ألا أعجبك ! أنشدت المأمون هذا البيت فلم يرفع به رأسا.

فقال: وما هو ؟

قال: قلت فيه:

أضحى إمام الهدى المأمون مشتغلا * بالدين والناس بالدنيا مشاغيل

فقال له الشاعر الآخر: ما زدت على أن جعلته عجوزا في محرابها.

فهلا قلت كما قال جرير في عبد العزيز بن مروان:

فلا هو في الدنيا مضيع نصيبه * ولا عرض الدنيا عن الدين شاغله

وقال المأمون يوما لبعض جلسائه: بيتان اثنان لاثنين ما يلحق بهما أحد، قول أبي نواس:

إذا اختبر الدنيا لبيب تكشفت * له عن عدو في لباس صديق

وقول شريح:

تهون على الدنيا الملامة إنه * حريص على استصلاحها من يلومها

قال المأمون: وقد ألجأني الزحام يوما وأنا في الموكب حتى خالطت السوقة فرأيت رجلا في دكان عليه أثواب خلْقة، فنظر إليّ نظر من يرحمني أو من يتعجب من أمري فقال:

أرى كل مغرور تمنِّيه نفسه * إذا ما مضى عام سلامة قابل

وقال يحيى بن أكثم سمعت المأمون يوم عيد خطب الناس فحمد الله وأثنى عليه وصلى على الرسول ثم قال: عباد الله ! عظم أمر الدارين وارتفع جزاء العالمين، وطالت مدة الفريقين، فوالله إنه للجد لا اللعب، وإنه للحق لا الكذب، وما هو إلا الموت والبعث، والحساب والفصل، والميزان والصراط، ثم العقاب أو الثواب، فمن نجا يومئذ فقد فاز، ومن هوى يومئذ فقد خاب، الخير كله في الجنة، والشر كله في النار.

وروى ابن عساكر، من طريق النضر بن شميل، قال: دخلت على المأمون فقال: كيف أصبحت يا نضر ؟

فقلت: بخير يا أمير المؤمنين.

فقال: ما الإرجاء ؟

فقلت: دين يوافق الملوك يصيبون به من دنياهم وينقصون به من دينهم.

قال: صدقت.

ثم قال: يا نضر ! أتدري ما قلت في صبيحة هذا اليوم ؟

قلت: إني لمن علم الغيب لبعيد.

فقال: قلت أبياتا وهي:

أصبح ديني الذي أدين به * ولست منه الغداة معتذرا

حبَ عليّ بعد النبي ولا * أشتم صدِّيقا ولا عمرا

ثم ابن عفان في الجنان مع الـ* أبرار ذاك القتيل مصطبرا

ألا ولا أشتم الزبير ولا * طلحة إن قال قائل غدرا

وعائش الأم لست أشتمها * من يفتريها فنحن منه برا

وهذا المذهب ثاني مراتب الشيعة وفيه تفضيل علي على الصحابة.

وقد قال جماعة من السلف والدارقطني: من فضل عليا على عثمان فقد أزرى بالمهاجرين والأنصار - يعني: في اجتهادهم ثلاثة أيام ثم اتفقوا على عثمان وتقديمه على علي بعد مقتل عمر -.

وبعد ذلك ست عشرة مرتبة في التشيع، على ما ذكره صاحب كتاب البلاغ الأكبر، والناموس الأعظم، وهو كتاب ينتهي به إلى أكفر الكفر.

وقد روينا عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب أنه قال: لا أوتى بأحد فضلني على أبي بكر وعمر إلا جلدته جلد المفتري.

وتواتر عنه أنه قال: خير الناس بعد النبي أبو بكر ثم عمر.

فقد خالف المأمون الصحابة كلهم حتى علي بن أبي طالب.

وقد أضاف المأمون إلى بدعته هذه التي أزرى فيها على المهاجرين والأنصار، البدعة الأخرى والطامة الكبرى وهي: القول بخلق القرآن مع ما فيه من الانهماك على تعاطي المسكر وغير ذلك من الأفعال التي تعدد فيها المنكر.

ولكن كان فيه شهامة عظيمة وقوة جسيمة في القتال وحصار الأعداء ومصابرة الروم وحصرهم، وقتل رجالهم وسبي نسائهم، وكان يقول: كان لعمر بن عبد العزيز وعبد الملك حجَّاب وأنا بنفسي.

وكان يتحرى العدل ويتولى بنفسه الحكم بين الناس والفصل.

جاءته امرأة ضعيفة قد تظلمت على ابنه العباس وهو قائم على رأسه، فأمر الحاجب فأخذه بيده فأجلسه معها بين يديه، فادَّعت عليه بأنه أخذ ضيعة لها واستحوذ عليها، فتناظرا ساعة فجعل صوتها يعلو على صوته، فزجرها بعض الحاضرين، فقال له المأمون: اسكت فإن الحق أنطقها والباطل أسكته.

ثم حكم لها بحقها وأغرم ابنه لها عشرة آلاف درهم.

وكتب إلى بعض الأمراء: ليس المروءة أن يكون بيتك من ذهب وفضة وغريمك عار، وجارك طاوٍ و الفقير جائع.

ووقف رجل بين يديه فقال له المأمون: والله لأقتلنك.

فقال: يا أمير المؤمنين ! تأنَّ علي فإن الرفق نصف العفو.

فقال: ويلك ويحك ! قد حلفت لأقتلنك.

فقال: يا أمير المؤمنين إنك إن تلق الله حانثا خير من أن تلقاه قاتلا.

فعفا عنه.

وكان يقول: ليت أهل الجرائم يعرفون أن مذهبي العفو حتى يذهب الخوف عنهم ويدخل السرور إلى قلوبهم.

وركب يوما في حراقة فسمع ملاحا يقول لأصحابه: ترون هذا المأمون ينبل في عيني وقد قتل أخاه الأمين - يقول ذلك وهو لا يشعر بمكان المأمون - فجعل المأمون يتبسم ويقول: كيف ترون الحيلة حتى أنبل في عين هذا الرجل الجليل القدر ؟

وحضر عند المأمون هدبة بن خالد ليتغدى عنده فلما رفعت المائدة جعل هدبة يلتقط ما تناثر منها من اللباب وغيره.

فقال له المأمون: أما شبعت يا شيخ ؟

فقال: بلى، حدثني حماد بن سلمة، عن ثابت، عن أنس، أن رسول الله قال: «من أكل ما تحت مائدته أمن من الفقر».

قال: فأمر له المأمون بألف دينار.

وروى ابن عساكر أن المأمون قال يوما لمحمد بن عباد بن المهلب: يا أبا عبد الله ! قد أعطيتك ألف ألف، وألف ألف، وألف ألف، وأعطيك دينارا.

فقال: يا أمير المؤمنين ! إن منع الموجود سوء ظن بالمعبود.

فقال: أحسنت يا أبا عبد الله ! أعطوه ألف ألف، وألف ألف، وألف ألف.

ولما أراد المأمون أن يدخل ببوران بنت الحسن بن سهل جعل الناس يهدون لأبيها الأشياء النفيسة، وكان من جملة من يعتز به رجل من الأدباء.

فأهدى إليه مزودا فيه ملح طيب، ومزودا فيه أشنان جيد، وكتب إليه: إني كرهت أن تطوى صحيفة أهل البر ولا أذكر فيها، فوجهت إليك بالمبتدأ به ليمنه وبركته، وبالمختوم به لطيبه ونظافته.

وكتب إليه:

بضاعتي تقصر عن همتي * وهمّتي تقصر عن مالي

فالملح والأشنان يا سيدي * أحسن ما يهديه أمثالي

قال: فدخل بها الحسن بن سهل على المأمون فأعجبه ذلك وأمر بالمزودين ففرغا وملئا دنانير وبعث بهما إلى ذلك الأديب.

وولد للمأمون ابنه جعفر فدخل عليه الناس يهنئونه بصنوف التهاني، ودخل بعض الشعراء فقال يهنيه بولده:

مدّ لك الله الحياة مدّا * حتى ترى ابنك هذا جدا

ثم يفدّى ما تفدّى * كأنه أنت إذا تبدَّى

أشبه منك قامةً وقدا * مؤزّرا بمجده مردّا

قال: فأمر له بعشرة آلاف درهم.

وقدم عليه وهو بدمشق مال جزيل بعد ما كان قد أفلس وشكى إلى أخيه المعتصم ذلك، فوردت عليه خزائن من خراسان ثلاثون ألف ألف درهم، فخرج يستعرضها وقد زينت الجمال والأحمال، ومعه يحيى بن أكثم القاضي، فلما دخلت البلد قال: ليس من المروءة أن نحوز نحن هذا كله والناس ينظرون.

ثم فرق منه أربعة وعشرين ألف ألف درهم ورجله في الركاب لم ينزل عن فرسه.

ومن لطيف شعره:

لساني كتوم لأسراركم * ودمعي نموم لسرّي مذيع

فلولا دموعي كتمت الهوى * ولولا الهوى لم تكن لي دموع

بعث خادما ليلة من الليالي ليأتيه بجارية فأطال الخادم عندها المكث، وتمنعت الجارية من المجيء إليه حتى يأتي إليها المأمون بنفسه، فأنشأ المأمون يقول:

بعثتك مشتاقا ففزت بنظرة * وأغفلتني حتى أسأت بك الظنّا

فناجيت من أهوى وكنت مباعدا * فياليت شعري عن دنّوك ما أغنى

وردّدت طرفا في محاسن وجهها * ومتّعت باستسماع نغمتها أذنا

أرى أثرا منه بعينيك بيّنا * لقد سرقت عيناك من عينها حسنا

ولما ابتدع المأمون ما ابتدع من التشيع والاعتزال، فرح بذلك بشر المريسي - وكان بشر هذا شيخ المأمون - فأنشأ يقول:

قد قال مأموننا وسيدنا * قولا له في الكتب تصديق

إن عليا أعني أبا حسن ٍ* أفضل من قد أقلت النّوق

بعد نبي الهدى وإن لنا * أعمالنا، والقرآن مخلوق

فأجابه بعض الشعراء من أهل السنة:

يا أيها الناس لا قول ولا عمل * لمن يقول: كلام الله مخلوق

ما قال ذاك أبو بكر ولا عمر * ولا النبي ولم يذكره صديق

ولم يقل ذاك إلا كل مبتدعٍ * على الرسول وعند الله زنديق

بشر أراد به إمحاق دينهم * لأن دينهم والله ممحوق

يا قوم أصبح عقل من خليفتكم * مقيدا وهو في الأغلال موثوق

وقد سأل بشر بن المأمون أن يطلب قائل هذا فيؤدبه على ذلك، فقال: ويحك !

لو كان فقيها لأدبته ولكنه شاعر فلست أعرض له.

ولما تجهز المأمون للغزو في آخر سفرة سافرها إلى طرسوس استدعى بجارية كان يحبها وقد اشتراها في آخر عمره، فضمها إليه فبكت الجارية وقالت: قتلتني يا أمير المؤمنين بسفرك، ثم أنشأت تقول:

سأدعوك دعوة المضطّر ربا * يثيب على الدّعاء ويستجيب

لعل الله أن يكفيك حربا * ويجمعنا كما تهوى القلوب

فضمها إليه، وأنشأ يقول متمثلا:

فيا حسنها إذ يغسل الدمع كحلها * وإذ هي تذري الدمع منها الأنامل

صبيحة قالت في العتاب قتلتني * وقتلي بما قالت هناك تحاول

ثم أمر مسرورا الخادم بالإحسان إليها والاحتفاط عليها حتى يرجع، ثم قال: نحن كما قال الأخطل:

قوم إذا حاربوا شدوا مآزرهم * دون النساء ولو باتت بأطهار

ثم ودعها وسار فمرضت الجارية في غيبته هذه، ومات المأمون أيضا في غيبته هذه، فلما جاء نعيه إليها تنفست الصعداء وحضرتها الوفاة، وأنشأت تقول وهي في السياق:

إن الزمان سقانا من مرارته * بعد الحلاوة كاسات فأروانا

أبدى لنا تارةً منه فأضحكنا * ثم انثنى تارةً أخرى فأبكانا

إنا إلى الله فيما لا يزال بنا * من القضاء ومن تلوين دنيانا

دنيا تراها ترينا من تصرفها * ما لا يدوم مصافاةً وأحزانا

ونحن فيها كأنا لا يزالينا * للعيش أحيا وما يبكون موتانا

كانت وفاة المأمون بطرسوس في يوم الخميس وقت الظهر، وقيل: بعد العصر، لثلاث عشرة ليلة بقيت من رجب من سنة ثماني عشرة ومائتين، وله من العمر نحو من ثمان وأربعين سنة، وكانت مدة خلافته عشرين سنة وأشهرا.

وصلى عليه أخوه المعتصم وهو ولي العهد من بعده، ودفن بطرسوس في دار خاقان الخادم.

وقيل: كانت وفاته يوم الثلاثاء.

وقيل: يوم الأربعاء لثمان بقين من هذه السنة.

وقيل: إنه مات خارج طرسوس بأربع مراحل فحمل إليها فدفن بها.

وقيل: إنه نقل إلى أذنة في رمضان فدفن بها، فالله أعلم.

وقد قال أبو سعيد المخزومي:

هل رأيت النجوم أغنت عن المأ * مون شيئا أو ملكه المأسوس

خلّفوه بعرصتي طرسوس * مثل ما خلفوا أباه بطوس

وقد كان أوصى إلى أخيه المعتصم وكتب وصيته بحضرته وبحضرة ابنه العباس وجماعة القضاة والأمراء والوزراء والكتاب.

وفيها: القول بخلق القرآن ولم يتب من ذلك بل مات عليه وانقطع عمله وهو على ذلك لم يرجع عنه ولم يتب منه، وأوصى أن يكبر عليه الذي يصلى عليه خمسا، وأوصى المعتصم بتقوى الله عز وجل والرفق بالرعية، وأوصاه أن يعتقد ما كان يعتقده أخوه المأمون في القرآن، وأن يدعو الناس إلى ذلك، وأوصاه بعبد الله بن طاهر، وأحمد بن إبراهيم، وأحمد ابن أبي داود.

وقال: شاوره في أمورك ولا تفارقه، وإياك ويحيى بن أكثم أن تصحبه، ثم نهاه عنه وذمه وقال: خانني ونفَّر الناس عني ففارقته غير راض عنه.

ثم أوصاه بالعلويين خيرا، أن يقبل من محسنهم ويتجاوز عن مسيئهم، وأن يواصلهم بصلاتهم في كل سنة.

وقد ذكر ابن جرير للمأمون ترجمة حافلة أورد فيها أشياء كثيرة لم يذكرها ابن عساكر مع كثرة ما يورده، وفوق كل ذي علم عليم.

خلافة المعتصم بالله أبي إسحاق بن هارون

بويع له بالخلافة يوم مات أخوه المأمون بطرسوس يوم الخميس الثاني عشر من رجب من سنة ثماني عشرة ومائتين، وكان إذ ذاك مريضا، وهو الذي صلى على أخيه المأمون، وقد سعى بعض الأمراء في ولاية العباس بن المأمون فخرج عليهم العباس فقال: ما هذا الخلف البارد؟ أنا قد بايعت عمي المعتصم.

فسكن الناس وخمدت الفتنة وركب البرد بالبيعة للمعتصم إلى الآفاق، وبالتعزية بالمأمون.

فأمر المعتصم بهدم ما كان بناه المأمون في مدينة طوانة، ونقل ما كان حوِّل إليها من السلاح وغيره إلى حصون المسلمين، وأذن الفعلة بالانصراف إلى بلدانهم، ثم ركب المعتصم بالجنود قاصدا بغداد وصحبته العباس بن المأمون، فدخلها يوم السبت مستهل رمضان في أبهة عظيمة وتجمل تام.

وفيها: دخل خلق كثير من أهل همذان وأصبهان وماسبذان ومهرجان في دين الخرَّمية، فتجمع منهم بشر كثير، فجهز إليهم المعتصم جيوشا كثيرة آخرهم إسحاق بن إبراهيم بن مصعب في جيش عظيم، وعقد له على الجبال، فخرج في ذي القعدة وقرئ كتابه بالفتح يوم التروية، وأنه قهر الخرَّمية وقتل منهم خلقا كثيرا، وهرب بقيتهم إلى بلاد الروم.

وعلى يدي هذا جرت فتنة الإمام أحمد وضرب بين يديه كما سيأتي بسط ذلك في ترجمة أحمد في سنة إحدى وأربعين ومائتين.

وفيها توفي من الأعيان:

بشر المريسي

وهو بشر بن غياث، بن أبي كريمة، أبو عبد الرحمن المريسي المتكلم شيخ المعتزلة، وأحد من أضل المأمون.

وقد كان هذا الرجل ينظر أولا في شيء من الفقه، وأخذ عن أبي يوسف القاضي، وروى الحديث عنه وعن: حماد بن سلمة، وسفيان بن عيينة، وغيرهم، ثم غلب عليه علم الكلام، وقد نهاه الشافعي عن تعلمه وتعاطيه فلم يقبل منه.

وقال الشافعي: لئن يلقى الله العبد بكل ذنب ما عدا الشرك أحب إلي من أن يلقاه بعلم الكلام.

وقد اجتمع بشر بالشافعي عندما قدم بغداد.

قال ابن خلكان: جدد القول بخلق القرآن وحكي عنه أقوال شنيعة، وكان مرجئيا وإليه تنسب المريسية من المرجئة.

وكان يقول: إن السجود للشمس والقمر ليس بكفر، وإنما هو علامة للكفر.

وكان يناظر الشافعي وكان لا يحسن النحو، وكان يلحن لحنا فاحشا.

ويقال: إن أباه كان يهوديا صبَّاغا بالكوفة، وكان يسكن درب المريسي ببغداد.

والمريس عندهم هو: الخبز الرقاق يمرس بالسمن والتمر.

قال: ومريس ناحية ببلاد النوبة تهب عليها في الشتاء ريح باردة.

وفيها توفي:

عبد الله بن يوسف الشـيـبي، وأبو مسهر عبد الأعلى بن مسهر الغساني الدمشقي، ويحيى بن عبد الله البابلتي.

أبو محمد عبد الملك بن هشام

ابن أيوب المعافري، راوي السيرة عن زياد بن عبد الله البكائي، عن ابن إسحاق مصنفها، وإنما نسبت إليه فيقال: سيرة ابن هشام، لأنه هذبها وزاد فيها ونقص منها، وحرر أماكن واستدرك أشياء.

وكان إماما في اللغة والنحو، وقد كان مقيما بمصر واجتمع به الشافعي حين وردها، وتناشدا من أشعار العرب شيئا كثيرا.

كانت وفاته بمصر لثلاث عشرة خلت من ربيع الآخر من هذه السنة، قاله ابن يونس في تاريخ مصر.

وزعم السهيلي أنه توفي في سنة ثلاث عشرة كما تقدم، فالله أعلم.

ثم دخلت سنة تسع عشرة ومائتين

فيها: ظهر محمد بن القاسم بن عمر بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب بالطالقان من خراسان يدعو إلى الرضى من آل محمد، واجتمع عليه خلق كثير وقاتله قواد عبد الله بن طاهر مرات متعددة، ثم ظهروا عليه وهرب فأخذ ثم بعث به إلى عبد الله بن طاهر فبعث به إلى المعتصم فدخل عليه للنصف من ربيع الآخر، فأمر به فحبس في مكان ضيق طوله ثلاثة أذرع في ذراعين، فمكث فيه ثلاثا، ثم حوِّل لأوسع منه وأجرى عليه رزق ومن يخدمه، فلم يزل محبوسا هناك إلى ليلة عيد الفطر فاشتغل الناس بالعيد فدلَّي له حبل من كوة كان يأتيه الضوء منها، فذهب فلم يدر كيف ذهب و إلى أين صار من الأرض.

وفي يوم الأحد لإحدى عشرة ليلة خلت من جمادى الأولى: دخل إسحاق بن إبراهيم إلى بغداد راجعا من قتال الخرَّمية، ومعه أسارى منهم، وقد قتل في حربه منهم مائة ألف مقاتل.

وفيها: بعث المعتصم عجيفا في جيش كثيف لقتال الزط الذين عاثوا فسادا في بلاد البصرة، وقطعوا الطريق ونهبوا الغلات، فمكث في قتالهم تسعة أشهر فقهرهم وقمع شرهم وأباد خضراهم.

وكان القائم بأمرهم رجل يقال له: محمد بن عثمان ومعه آخر يقال له: سملق، وهو داهيتهم وشيطانهم، فأراح الله المسلمين منه ومن شره.

وفيها توفي: سليمان بن داود الهاشمي شيخ الإمام أحمد، وعبد الله بن الزبير الحميدي صاحب المسند، وتلميذ الشافعي، وعلي بن عياش، وأبو نعيم الفضل بن دكين شيخ البخاري، وأبو بحار الهندي.

ثم دخلت سنة عشرين ومائتين من الهجرة

في يوم عاشوراء: دخل عجيف في السفن إلى بغداد ومعه من الزط سبعة وعشرون ألفا قد جاؤوا بالأمان إلى الخليفة، فأنزلوا في الجانب الشرقي ثم نفاهم إلى عين زربة، فأغارت الروم عليهم فاجتاحوهم عن آخرهم، ولم يفلت منهم أحد، فكان آخر العهد بهم.

وفيها: عقد لمعتصم للأفشين واسمه: حيدر بن كاوس على جيش عظيم لقتال بابك الخرَّمي لعنه الله، وكان قد استفحل أمره جدا، وقويت شوكته، وانتشرت أتباعه في أذربيجان وما والاها.

وكان أول ظهوره في سنة إحدى ومائتين، وكان زنديقا كبيرا وشيطانا رجيما، فسار الأفشين وقد أحكم صناعة الحرب في الأرصاد وعمارة الحصون وإرصاد المدد، وأرسل إليه المعتصم مع بغا الكبير أموالا جزيلة نفقة لمن معه من الجند والأتباع، فالتقى هو وبابك فاقتتلا قتالا شديدا، فقتل الأفشين من أصحاب بابك خلقا كثيرا أزيد من مائة ألف، وهرب هو إلى مدينته فأوى فيها مكسورا، فكان هذا أول ما تضعضع من أمر بابك، وجرت بينهما حروب يطول ذكرها، وقد استقصاها ابن جرير.

وفيها: خرج المعتصم من بغداد فنزل القاطول فأقام بها.

وفيها: غضب المعتصم على الفضل بن مروان بعد المكانة العظيمة، وعزله عن الوزراة وحبسه وأخذ أمواله وجعل مكانه محمد بن عبد الملك بن الزيات.

وحج بالناس فيها صالح بن علي بن محمد أمير السنة الماضية في الحج.

وفيها توفي: آدم بن أبي إياس، وعبد الله بن رجاء، وعفان بن مسلمة، وقالون أحد مشاهير القراء، وأبو حذيفة الهندي.

ثم دخلت سنة إحدى وعشرين ومائتين

فيها: كانت وقعة هائلة بين بغا الكبير وبابك فهزم بابك بغا وقتل خلقا من أصحابه.

ثم اقتتل الأفشين وبابك فهزمه أفشين وقتل خلقا من أصحابه بعد حروب طويلة قد استقصاها ابن جرير.

وحج بالناس فيها نائب مكة محمد بن داود بن عيسى بن موسى العباسي.

وفيها توفي: عاصم بن علي، وعبد الله بن مسلم القعنبي، وعبدان، وهشام بن عبيد الله الرازي.

ثم دخلت سنة ثنتين وعشرين ومائتين

فيها: جهز المعتصم جيشا كثيرا مددا للأفشين على محاربة بابك، وبعث إليه ثلاثين ألف ألف درهم نفقة للجند، فاقتتلوا قتالا عظيما، وافتتح الأفشين البذ مدينة بابك واستباح ما فيها، وذلك يوم الجمعة لعشر بقين من رمضان.

وذلك بعد محاصرة وحروب هائلة وقتال شديد وجهد جهيد.

وقد أطال ابن جرير بسط ذلك جدا ً.

وحاصل الأمر أنه افتتح البلد وأخذ جميع ما فيه من الأموال مما قدر عليه.

ذكر مسك بابك

لما احتوى المسلمين على بلده المسمى: بالبذ وهي دار ملكه ومقر سلطته هرب بمن معه من أهله وولده ومعه أمه وامرأته، فانفرد في شرذمة قليلة ولم يبق معهم طعام، فاجتازوا بحراث فبعث غلامه إليه وأعطاه ذهبا فقال: أعطه الذهب وخذ ما معه من الخبز.

فنظر شريك الحراث إليه من بعيد وهو يأخذ منه الخبز، فظن أنه قد اغتصبه منه، فذهب إلى حصن هناك فيه نائب للخليفة يقال له: سهل بن سنباط ليستعدي على ذلك الغلام، فركب بنفسه وجاء فوجد الغلام فقال: ما خبرك ؟

فقال: لاشيء، إنما أعطيته دنانير وأخذت منه الخبز.

فقال: ومن أنت ؟

فأراد أن يعمي عليه الخبر فألح عليه فقال: من غلمان بابك.

فقال: وأين هو ؟

فقال: هاهو ذا جالس يريد الغداء.

فسار إليه سهل بن سنباط فلما رآه ترجل وقبل يده وقال: يا سيدي أين تريد ؟

قال: أريد أن أدخل بلاد الروم.

فقال: إلى عند من تذهب أحرز من حصني وأنا غلامك وفي خدمتك ؟

وما زال به حتى خدعه وأخذه معه إلى الحصن فأنزله عنده وأجرى عليه النفقات الكثيرة والتحف وغير ذلك، وكتب إلى الأفشين يعلمه، فأرسل إليه أميرين لقبضه، فنزلا قريبا من الحصن، وكتبا إلى ابن سنباط فقال: أقيما مكانكما حتى يأتيكما أمري.

ثم قال لبابك: إنه قد حصل لك هم وضيق من هذا الحصن وقد عزمت على الخروج اليوم إلى الصيد ومعنا بزاة وكلاب، فإن أحببت أن تخرج معنا لتشرح صدرك وتذهب همك فافعل.

قال: نعم !

فخرجوا وبعث ابن سنباط إلى الأميرين أن كونوا مكان كذا وكذا في وقت كذا وكذا من النهار، فلما كانا بذلك الموضع أقبل الأميران بمن معهما من الجنود فأحاطوا ببابك وهرب ابن سنباط، فلما رأوه جاؤوا إليه فقالوا: ترجل عن دابتك.

فقال: ومن أنتما ؟

فذكرا أنهما من عند الأفشين، فترجل حينئذ عن دابته وعليه دراعة بيضاء وخف قصير وفي يده باز، فنظر إلى ابن سنباط فقال: قبحك الله فهلا طلبت مني من المال ما شئت كنت أعطيتك أكثر مما يعطيك هؤلاء !

ثم أركبوه وأخذوه معهما إلى الأفشين، فلما اقتربوا منه خرج فتلقاه وأمر الناس أن يصطفوا صفين، وأمر بابك أن يترجل فيدخل بين الناس وهو ماش، ففعل ذلك، وكان يوما مشهودا جدا، وكان ذلك في شوال من هذه السنة، ثم احتفظ به وسجنه عنده، ثم كتب الأفشين إلى المعتصم بذلك فأمره أن يقدم به وبأخيه، وكان قد مسكه أيضا.

وكان اسم أخي بابك: عبد الله، فتجهز الأفشين بهما إلى بغداد في تمام هذه السنة ففرغت ولم يصل بهما إلى بغداد.

وحج بالناس فيها الأمير المتقدم ذكره في التي قبلها.

وفيها توفي: أبو اليمان الحكم بن نافع، وعمر بن حفص بن عياش، ومسلم بن إبراهيم، ويحيى بن صالح الوحاظي.

ثم دخلت سنة ثلاث وعشرين ومائتين

في يوم الخميس ثالث صفر منها: دخل الأفشين وصحبته بابك على المعتصم سامرا، ومعه أيضا أخو بابك في تجمل عظيم، وقد أمر المعتصم ابنه هارون الواثق أن يتلقى الأفشين، وكانت أخباره تفد إلى المعتصم في كل يوم من شدة اعتناء المعتصم بأمر بابك، وقد ركب المعتصم قبل وصول بابك بيومين على البريد حتى دخل إلى بابك وهو لا يعرفه، فنظر إليه ثم رجع، فلما كان يوم دخوله عليه تأهب المعتصم واصطف الناس سماطين وأمر بابك أن يركب على فيل ليشهر أمره ويعرفوه، وعليه قباء ديباج وقلنسوة سمور مدورة، وقد هيأوا الفيل وخضبوا أطرافه ولبسّوه من الحرير والأمتعة التي تليق به شيئا كثيرا، وقد قال فيه بعضهم:

قد خضّب الفيل كعاداته * يحمل شيطان خراسان

والفيل لا تخضب أعضاؤه * إلا لذي شأن من الشان

ولما أحضر بين يدي المعتصم أمر بقطع يديه ورجليه وجز رأسه وشق بطنه، ثم أمر بحمل رأسه إلى خراسان وصلب جثته على خشبة بسامرَّا، وكان بابك قد شرب الخمر ليلة قتله وهي ليلة الخميس لثلاث عشرة خلت من ربيع الآخر من هذه السنة.

وكان هذا الملعون قد قتل من المسلمين في مدة ظهوره - وهي: عشرون سنة - مائتي ألف وخمسة وخمسين ألفا وخمسمائة إنسان - قاله ابن جرير -وأسر خلقا لا يحصون، وكان جملة من استنقذه الأفشين من أسره نحوا من سبعة آلاف وستمائة إنسان، وأسر من أولاده سبعة عشر رجلا، ومن حلائله وحلائل أولاده ثلاثة وعشرين امرأة من الخواتين.

وقد كان أصل بابك من جارية زرية الشكل جدا، فآل به الحال إلى ما آل به إليه، ثم أراح الله المسلمين من شره بعدما افتتن به خلق كثير وجم غفير من العوام الطغام.

ولما قتله المعتصم توَّج الأفشين وقلده وشاحين من جوهر، وأطلق له عشرين ألف ألف درهم، وكتب له بولاية السند، وأمر الشعراء أن يدخلوا عليه فيمدحوه على ما فعل من الخير إلى المسلمين، وعلى تخريبه بلاد بابك التي يقال لها: البذ وتركه إياها قيعانا خرابا.

فقالوا في ذلك فأحسنوا، وكان من جملتهم أبو تمام الطائي وقد أورد قصيدته بتمامها ابن جرير وهي قوله:

بذّ الجلاد البذ فهو دفين * ما إن بها إلا الوحوش قطين

لم يقر هذا السيف هذا الصبر في * هيجاء إلا عزّ هذا الدين

قد كان عذرة سوددٍ فافتضّها * بالسيف فحل المشرق الأفشين

فأعادها تعوي الثعالب وسطها * ولقد ترى بالأمس وهي عرين

هطلت عليها من جماجم أهلها * ديم إمارتها طلى وشؤون

كانت من المهجات قبل مفازة * عسرا فأضحت وهي منه معين

وفي هذه السنة - أعني: سنة ثلاث وعشرين ومائتين - أوقع ملك الروم توفيل بن ميخائيل بأهل ملطية من المسلمين وما والاها ملحمة عظيمة، قتل فيها خلقا كثيرا من المسلمين، وأسر ما لا يحصون كثرة، وكان من جملة من أسر ألف امرأة من المسلمات.

ومثَّل بمن وقع في أسره من المسلمين فقطع آذانهم وأنوفهم وسمل أعينهم قبحه الله.

وكان سبب ذلك أن بابك لما أحيط به في مدينة البذ استوسقت الجيوش حوله وكتب إلى ملك الروم يقول له: إن ملك العرب قد جهز إلي جمهور جيشه ولم يبق في أطراف بلاده من يحفظها، فإن كنت تريد الغنيمة فانهض سريعا إلى ما حولك من بلاده فخذها فإنك لا تجد أحدا يمانعك عنها.

فركب توفيل بمائة ألف وانضاف إليه المحمرة الذين كانوا قد خرجوا في الجبال وقاتلهم إسحاق بن إبراهيم بن مصعب، فلم يقدر عليهم لأنهم تحصنوا بتلك الجبال فلما قدم ملك الروم صاروا معه على المسلمين، فوصلوا إلى ملطية فقتلوا من أهلها خلقا كثيرا وأسروا نساءهم.

فلما بلغ ذلك المعتصم انزعج لذلك جدا وصرخ في قصره بالنفير، ثم نهض من فوره وأمر بتعبئة الجيوش واستدعى القاضي والشهود فأشهدهم أن ما يملكه من الضياع ثلثه صدقة وثلثه لولده وثلثه لمواليه.

وخرج من بغداد فعسكر غربي دجلة يوم الاثنين لليلتين خلتا من جمادى الأولى ووجه بين يديه عجيفا وطائفة من الأمراء ومعهم خلق من الجيش إعانة لأهل زبطرة، فأسرعوا السير فوجدوا ملك الروم قد فعل ما فعل وانشمر راجعا إلى بلاده، وتفارط الحال ولم يمكن الاستدراك فيه، فرجعوا إلى الخليفة لإعلامه بما وقع من الأمر.

فقال للأمراء أي بلاد الروم أمنع ؟

قالوا: عمورية لم يعرض لها أحد منذ كان الإسلام، وهي أشرف عندهم من القسطنطينة.

فتح عمورية على يد المعتصم

لما تفرغ المعتصم من بابك وقتله وأخذ بلاده استدعى بالجيوش إلى بين يديه وتجهز جهازا لم يجهزه أحد كان قبله من الخلفاء، وأخذ معه من آلات الحرب والأحمال والجمال والقرب والدواب والنفط والخيل والبغال شيئا لم يسمع بمثله.

وسار إلى عمورية في جحافل أمثال الجبال، وبعث الأفشين حيدر بن كاوس من ناحية سروج، وعبى جيوشه تعبئة لم يسمع بمثلها، وقدم بين يديه الأمراء المعروفين بالحرب، فانتهى في سيره إلى نهر اللسى وهو قريب من طرسوس، وذلك في رجب من هذه السنة.

وقد ركب ملك الروم في جيشه فقصد نحو المعتصم فتقاربا حتى كان بين الجيشين نحو من أربعة فراسخ، ودخل الأفشين بلاد الروم من ناحية أخرى، فجاؤوا في أثره وضاق ذرعه بسبب ذلك إن هو ناجز الخليفة جاءه الأفشين من خلفه فالتقيا عليه فيهلك، وإن اشتغل بأحدهما وترك الآخر أخذه من خلفه.

ثم اقترب منه الأفشين فسار إليه ملك الروم في شرذمة من جيشه واستخلف على بقية جيشه قريبا له فالتقيا هو والأفشين في يوم الخميس لخمس بقين من شعبان منها، فثبت الأفشين في ثاني الحال وقتل من الروم خلقا وجرح آخرين، وتغلب على ملك الروم.

وبلغه أن بقية الجيش قد شردوا عن قرابته وذهبوا عنه وتفرقوا عليه فأسرع الأوبة فإذا نظام الجيش قد انحل، فغضب على قرابته وضرب عنقه وجاءت الأخبار بذلك كله إلى المعتصم فسره ذلك وركب من فوره وجاء إلى أنقره ووافاه الأفشين بمن معه إلى هناك، فوجدوا أهلها قد هربوا منه فتقووا منها بما وجدوا من طعام وغيره، ثم فرق المعتصم جيشه ثلاث فرق فالميمنة عليها الأفشين، والميسرة عليها أشناس، والمعتصم في القلب، وبين كل عسكرين فرسخان، وأمر كل أمير من الأفشين وأشناس أن يجعل لجيشه ميمنة وميسرة وقلبا ومقدمة وساقة، وأنهم مهما مروا عليه من القرى حرقوه وخربوه وأسروا وغنموا.

وسار بهم كذلك قاصدا إلى عمورية، وكان بينها وبين مدينة أنقره سبع مراحل، فأول من وصل إليها من الجيش أشناس أمير الميسرة ضحوة يوم الخميس لخمس خلون من رمضان من هذه السنة، فدار حولها دورة ثم نزل على ميلين منها، ثم قدم المعتصم صبيحة يوم الجمعة بعده، فدار حولها دورة ثم نزل قريبا منها، وقد تحصن أهلها تحصنا شديدا وملأوا أبراجها بالرجال والسلاح، وهي مدينة عظيمة كبيرة جدا ذات سور منيع وأبراج عالية كبار كثيرة.

وقسّم المعتصم الأبراج على الأمراء فنزل كل أمير تجاه الموضع الذي أقطعه وعينه له، ونزل المعتصم قبالة مكان هناك قد أرشد إليه، أرشده إليه بعض من كان فيها من المسلمين.

وكان قد تنصر عندهم وتزوج منهم، فلما رأى أمير المؤمنين والمسلمين رجع إلى الإسلام وخرج إلى الخليفة فأسلم وأعلمه بمكان في السور كان قد هدمه السيل وبني بناء ضعيفا بلا أساس.

فنصب المعتصم المجانيق حول عمورية فكان أول موضع انهدم من سورها ذلك الموضع الذي دلهم عليه ذلك الأسير، فبادر أهل البلد فسدوه بالخشب الكبار المتلاصقة فألح عليها المنجنيق فجعلوا فوقها البرادع ليردوا حدة الحجر فلم تغن شيئا، و انهدم السور من ذلك الجانب وتفسخ.

فكتب نائب البلد إلى ملك الروم يعلمه بذلك، وبعث ذلك مع غلامين من قومهم فلما اجتازوا بالجيش في طريقهما أنكر المسلمين أمرهما فسألوهما: ممن أنتما ؟

فقالا: من أصحاب فلان - لأمير سموه من أمراء المسلمين -.

فحملا إلى المعتصم فقررهما فإذا معهما كتاب مناطس نائب عمورية إلى ملك الروم يعلمه بما حصل لهم من الحصار، وأنه عازم على الخروج من أبواب البلد بمن معه بغتة على المسلمين ومناجزهم القتال كائنا في ذلك ما كان.

فلما وقف المعتصم على ذلك أمر بالغلامين فخلع عليهما، وأن يعطى كل غلام منهما بدرة، فأسلما من فورهما فأمر الخليفة أن يطاف بهما حول البلد وعليهما الخلع، وأن يوقفا تحت حصن مناطس فينثر عليهما الدراهم والخلع، ومعهما الكتاب الذي كتب به مناطس إلى ملك الروم فجعلت الروم تلعنها وتسبهما.

ثم أمر المعتصم عند ذلك بتجديد الحرس والاحتياط والاحتفاظ من خروج الروم بغتة، فضاقت الروم ذرعا بذلك، وألح عليهم المسلمون في الحصار، وقد زاد المعتصم في المجانيق والدبابات وغير ذلك من آلات الحرب.

ولما رأى المعتصم عمق خندقها وارتفاع سورها، أعمل المجانيق في مقاومة السور، وكان قد غنم في الطريق غنما كثيرا جدا ففرقها في الناس وأمر أن يأكل كل رجل رأسا ويجيء بملء جلده ترابا فيطرحه في الخندق، ففعل الناس ذلك فتساوى الخندق بوجه الأرض من كثرة ما طرح فيه من الأغنام، ثم أمر بالتراب فوضع فوق ذلك حتى صار طريقا ممهدا، وأمر بالدبابات أن توضع فوقه فلم يحوج الله إلى ذلك.

وبينما الناس في الجسر المردوم إذ هدم المنجنيق ذلك الموضع المعيب، فلما سقط ما بين البرجين سمع الناس هدة عظيمة فظنها من لم يرها أن الروم قد خرجوا على المسلمين بغتة، فبعث المعتصم من نادى في الناس: إنما ذلك سقوط السور.

ففرح المسلمون بذلك فرحا شديدا، لكن لم يكن ما هدم يسع الخيل والرجال إذا دخلوا.

وقوي الحصار وقد وكلت الروم بكل برج من أبراج السور أميرا يحفظه، فضعف ذلك الأمير الذي هدمت ناحيته من السور عن مقاومة ما يلقاه من الحصار، فذهب إلى مناطس فسأله نجدة فامتنع أحد من الروم أن ينجده وقالوا: لا نترك ما نحن موكلون في حفظه.

فلما يئس منهم خرج إلى المعتصم ليجتمع به.

فلما وصل إليه أمر المعتصم المسلمين أن يدخلوا البلد من تلك الثغرة التي قد خلت من المقاتلة، فركب المسلمون نحوها فجعلت الروم يشيرون إليهم ولا يقدرون على دفاعهم، فلم يلتفت إليهم المسلمون.

ثم تكاثروا عليهم ودخلوا البلد قهرا، وتتابع المسلمون إليها يكبرون، وتفرقت الروم عن أماكنها فجعل المسلمون يقتلونهم في كل مكان حيث وجدوهم، وقد حشروهم في كنيسة لهم هائلة ففتحوها قسرا وقتلوا من فيها وأحرقوا عليهم باب الكنيسة فاحترقت فأحرقوا عن آخرهم.

ولم يبق فيها موضع محصن سوى المكان الذي فيه النائب، وهو مناطس في حصن منيع، فركب المعتصم فرسه وجاء حتى وقف بحذاء الحصن الذي فيه مناطس فناداه المنادي: ويحك يا مناطس ! هذا أمير المؤمنين واقف تجاهك.

فقالوا: ليس بمناطس ههنا مرتين.

فغضب المعتصم من ذلك وولى فنادى مناطس: هذا مناطس، هذا مناطس.

فرجع الخليفة ونصب السلالم على الحصن وطلعت الرسل إليه فقالوا له: ويحك ! انزل على حكم أمير المؤمنين.

فتمنع ثم نزل متقلدا سيفا فوضع السيف في عنقه ثم جيء به حتى أوقف بين يدي المعتصم فضربه بالسوط على رأسه ثم أمر به أن يمشي إلى مضرب الخليفة مهانا إلى الوطاق الذي فيه الخليفة نازل، فأوثق هناك.

وأخذ المسلمون من عمورية أموالا لا تحد ولا توصف فحملوا منها ما أمكن حمله، وأمر المعتصم بإحراق ما بقي من ذلك، وبإحراق ما هنالك من المجانيق والدبابات وآلات الحرب لئلا يتقوى بها الروم على شيء من حرب المسلمين، ثم انصرف المعتصم راجعا إلى ناحية طرسوس في آخر شوال من هذه السنة.

وكانت إقامته على عمورية خمسة وعشرين يوما.

مقتل العباس بن المأمون

كان العباس مع عمه المعتصم في غزوة عمورية، وكان عجيف بن عنبسة قد ندّمه إذ لم يأخذ الخلافة بعد أبيه المأمون بطرسوس حين مات بها، ولامه على مبايعته عمه المعتصم، ولم يزل به حتى أجابه إلى الفتك بعمه وأخذ البيعة من الأمراء له، وجهز رجلا يقال له: الحارث السمرقندي، وكان نديما للعباس، فأخذ له البيعة من جماعة من الأمراء في الباطن، واستوثق منهم وتقدم إليهم أنه يلي الفتك بعمه، فلما كانوا بدرب الروم وهم قاصدون إلى أنقره ومنها إلى عمورية، أشار عجيف على العباس أن يقتل عمه في هذا المضيق ويأخذ له البيعة ويرجع إلى بغداد، فقال العباس: إني أكره أن أعطل على الناس هذه الغزوة.

فلما فتحوا عمورية واشتغل الناس بالمغانم أشار عليه أن يقتله فوعده مضيق الدرب إذا رجعوا.

فلما رجعوا فطن المعتصم بالخبر فأمر بالاحتفاظ وقوة الحرس وأخذ بالحزم واجتهد بالعزم، واستدعى بالحارث السمرقندي فاستقره فأقر له بجملة الأمر، وأخذ البيعة للعباس بن المأمون من جماعة من الأمراء أسماهم له، فاستكثرهم المعتصم واستدعى بابن أخيه العباس فقيَّده وغضب عليه وأهانه.

ثم أظهر له أنه قد رضي عنه وعفا عنه، فأرسله من القيد وأطلق سراحه، فلما كان من الليل استدعاه إلى حضرته في مجلس شرابه واستخلى به حتى سقاه واستحكاه عن الذي كان قد دبره من الأمر، فشرح له القضية، وذكر له القصة، فإذا الأمر كما ذكر الحارث السمرقندي.

فلما أصبح استدعى بالحارث فأخلاه وسأله عن القضية ثانيا فذكرها له كما ذكرها أول مرة، فقال: ويحك ! إني كنت حريصا على ذلك فلم أجد إلى ذلك سبيلا بصدقك إياي في هذه القصة.

ثم أمر المعتصم حينئذ بابن أخيه العباس فقيِّد وسلم إلى الأفشين، وأمر بعجيف وبقية الأمراء الذين ذكرهم فاحتفظ عليهم، ثم أخذهم بأنواع النقمات التي اقترحها لهم، فقتل كل واحد منهم بنوع لم يقتل به الآخر.

ومات العباس بن المأمون بمنبج فدفن هناك، وكان سبب موته أنه أجاعه جوعا شديدا، ثم جيء بأكل كثير فأكل منه وطلب الماء فمنع منه حتى مات، وأمر المعتصم بلعنه على المنبر وسماه: اللعين.

وقتل جماعة من ولد المأمون أيضا.

وحج بالناس فيها محمد بن داود.

وفيها توفي من الأعيان: بابك الخرَّمي، قتل وصلب كما قدمنا.

وخالد بن خراش، وعبد الله بن صالح، كاتب الليث بن سعد، ومحمد بن سنان العوفي، وموسى بن إسماعيل.

ثم دخلت سنة أربع وعشرين ومائتين

فيها: خرج رجل بآمل طبرستان يقال له: مازيار بن قارن بن يزداهرمز، وكان لا يرضى أن يدفع الخراج إلى نائب خراسان عبد الله بن طاهر بن الحسين، بل يبعثه إلى الخليفة ليقبضه منه، فيبعث الخليفة من يتلقى الحمل إلى بعض البلاد ليقبضه منه ثم يدفعه إلى ابن طاهر، ثم آل أمره إلى أن وثب على تلك البلاد وأظهر المخالفة للمعتصم.

وقد كان المازيار هذا ممن يكاتب بابك الخرَّمي ويعده بالنصر.

ويقال: إن الذي قوَّى رأس مازيار على ذلك الأفشين ليعجز عبد الله بن طاهر عن مقاومته فيوليه المعتصم بلاد خراسان مكانه.

فبعث إليه المعتصم محمد بن إبراهيم بن مصعب - أخا إسحاق بن إبراهيم - في جيش كثيف فجرت بينهم حروب طويلة استقصاها ابن جرير، وكان آخر ذلك أسر المازيار وحمله إلى ابن طاهر، فاستقره عن الكتب التي بعثها إليه الأشفين فأقر بها، فأرسله إلى المعتصم وما معه من أمواله التي احتفظت للخليفة، وهي أشياء كثيرة جدا، من الجواهر والذهب والثياب.

فلما أوقف بين يدي الخليفة سأله عن كتب الأفشين إليه فأنكرها، فأمر به فضرب بالسياط حتى مات وصلب إلى جانب بابك الخرَّمي على جسر بغداد، وقتل عيون أصحابه وأتباعه.

وفيها: تزوج الحسن بن الأفشين بأترجة بنت أشناس ودخل بها في قصر المعتصم بسامرا في جمادى، وكان عرسا حافلا، وليه المعتصم بنفسه، حتى قيل: إنهم كانوا يخضبون لحا العامية بالغالية.

وفيها: خرج منكجور الأشروسني قرابة الأفشين بأرض أذربيجان وخلع الطاعة، وذلك أن الأفشين كان قد استنابه على بلاد أذربيجان حين فرغ من أمر بابك، فظفر منكجور بمال عظيم مخزون لبابك في بعض البلدان، فأخذه لنفسه وأخفاه عن المعتصم وظهر على ذلك رجل يقال له: عبد الله بن عبد الرحمن فكتب إلى الخليفة في ذلك فكتب منكجور يكذبه في ذلك، وهم به ليقتله فامتنع منه بأهل أردبيل.

فلما تحقق الخليفة كذب منكجور بعث إليه بغا الكبير فحاربه وأخذه بالأمان وجاء به إلى الخليفة.

وفيها: مات مناطس الرومي نائب عمورية، وذلك أن المعتصم أخذه معه أسيرا فاعتقله بسامرا حتى مات في هذه السنة.

وفي رمضان منها مات:

إبراهيم بن المهدي بن المنصور

عم المعتصم، ويعرف: بابن شكله، وكان أسود اللون ضخما فصيحا فاضلا.

قال ابن ماكولا: وكان يقال له: الصيني - يعني: لسواده - وقد كان ترجمه ابن عساكر ترجمة حافلة، وذكر أنه ولي إمرة دمشق نيابة عن الرشيد أخيه مدة سنتين ثم عزله عنها ثم أعاده إليها الثانية فأقام بها أربع سنين.

وذكر من عدله وصرامته أشياء حسنة، وأنه أقام للناس الحج سنة أربع وثمانين، ثم عاد إلى دمشق، ولما بويع بالخلافة في أول خلافة المأمون سنة ثنتين ومائتين قاتله الحسن بن سهل نائب بغداد، فهزمه إبراهيم هذا، فقصده حميد الطوسي فهزم إبراهيم واختفى إبراهيم ببغداد حين قدمها المأمون.

ثم ظفر به المأمون فعفا عنه وأكرمه.

وكانت مدة ولايته الخلافة سنة وإحدى عشر شهرا واثنا عشر يوما.

وكان بدء اختفائه في أواخر ذي الحجة سنة ثلاث ومائتين، فمكث مختفيا ست سنين وأربعة أشهر وعشرا.

قال الخطيب: كان إبراهيم بن المهدي هذا وافر الفضل، غزير الأدب، واسع النفس، سخي الكف، وكان معروفا بصناعة الغناء، حاذقا فيها، وقد قلَّ المال عليه في أيام خلافته ببغداد فألح الأعراب عليه في أعطياهم فجعل يسوِّف بهم.

ثم خرج إليهم رسوله يقول: إنه لا مال عنده اليوم.

فقال بعضهم: فليخرج الخليفة إلينا فليغن لأهل هذا الجانب ثلاثة أصوات، ولأهل هذا الجانب ثلاثة أصوات.

فقال في ذلك دعبل شاعر المأمون يذم إبراهيم بن المهدي:

يا معشر الأعراب لا تغلطوا * خذوا عطاياكم ولا تسخطوا

فسوف يعطيكم حنينية * لا تدخل الكيس ولا تربط

والمعبديات لقوادكم * وما بهذا أحد يغبط

فهكذا يرزق أصحابه * خليفة مصحفه البربط

وكتب إلى ابن أخيه المأمون حين طال عليه الاختفاء: وليُّ الثأر محكم في القصاص والعفو أقرب للتقوى، وقد جعل الله أمير المؤمنين فوق كل عفو، كما جعل كل ذي نسب دونه، فإن عفا فبفضله وإن عاقب فبحقه.

فوقع المأمون في جواب ذلك: القدرة تذهب الحفيظة، وكفى بالندم إنابة وعفو الله أوسع من كل شيء.

ولما دخل عليه أنشأ يقول:

إن أكن مذنبا فحظي أخطأت * فدع عنك كثرة التأنيب

قل كما قال يوسف لبني يعقو * ب لما أتوه لا تثريب

فقال المأمون: لا تثريب.

وروى الخطيب أن إبراهيم لما وقف بين يدي المأمون شرع يؤنبه على ما فعل فقال: يا أمير المؤمنين ! حضرت أبي وهو جدك وقد أتي برجل ذنبه أعظم من ذنبي فأمر بقتله.

فقال مبارك بن فضالة: يا أمير المؤمنين ! إن رأيت أن تؤخر قتل هذا الرجل حتى أحدثك حديثا.

فقال: قل.

فقال: حدثني الحسن البصري، عن عمران بن حصين، أن رسول الله قال: «إذا كان يوم القيامة نادى مناد من بطنان العرش: ليقم العافون عن الناس من الخلفاء إلى أكرم الجزاء، فلا يقوم إلا من عفا».

فقال المأمون: قد قبلت هذا الحديث بقبوله وعفوت عنك يا عم.

وقد ذكرنا في سنة أربع ومائتين زيادة على هذا.

وكانت أشعاره جيدة بليغة سامحه الله.

وقد ساق من ذلك ابن عساكر جانبا جيدا.

كان مولد إبراهيم هذا في مستهل ذي القعدة سنة ثنتين وستين ومائة، وتوفي يوم الجمعة لسبع خلون من هذه السنة عن ثنتين وستين سنة.

وفيها توفي: سعيد بن أبي مريم المصري، وسليمان بن حرب، وأبو معمر المقعد، وعلي بن محمد المدائني، الأخباري، أحد أئمة هذا الشأن في زمانه، وعمرو بن مرزوق، شيخ البخاري، وقد تزوج هذا الرجل ألف امرأة.

أبو عبيد القاسم بن سلام

البغدادي، أحد أئمة اللغة، والفقه والحديث والقرآن، والأخبار وأيام الناس، له المصنفات المشهورة المنتشرة بين الناس، حتى يقال: إن الإمام أحمد كتب كتابه في الغريب بيده، ولما وقف عليه عبد الله بن طاهر رتب له في كل شهر خمسمائة درهم، وأجراها على ذريته من بعده.

وذكر ابن خلكان أن ابن طاهر استحسن كتابه وقال: ما ينبغي لعقل بعث صاحبه على تصنيف هذا الكتاب أن نحوج صاحبه إلى طلب المعاش.

وأجرى له عشرة آلاف درهم في كل شهر.

وقال محمد بن وهب المسعودي: سمعت أبا عبيد، يقول: مكثت في تصنيف هذا الكتاب أربعين سنة.

وقال هلال بن المعلى الرقي: منَّ الله على المسلمين بهؤلاء الأربعة: الشافعي تفقه في الفقه والحديث، وأحمد بن حنبل في المحنة، ويحيى بن معين في نفي الكذب، وأبو عبيد في تفسير غريب الحديث، ولولا ذلك لاقتحم الناس المهالك.

وذكر ابن خلكان أن أبا عبيد ولي القضاء بطرسوس ثماني عشرة سنة، وذكر له من العبادة والاجتهاد في العبادة شيئا كثيرا.

وقد روى الغريب عن: أبي زيد الأنصاري، والأصمعي، وأبي عبيدة معمر بن المثنى، وابن الأعرابي، والفراء، والكسائي، وغيرهم.

وقال إسحاق بن راهويه: نحن نحتاج إليه وهو لا يحتاج إلينا.

وقدم بغداد وسمع الناس منه ومن تصانيفه.

وقال إبراهيم الحربي: كان كأنه جبل نفخ فيه روح، يحسن كل شيء.

وقال أحمد بن كامل القاضي: كان أبو عبيد فاضلا ديِّنا ربانيا عالما متقنا في أصناف علوم أهل الإيمان والإتقان والإسلام: من القرآن، والفقه، والعربية، والأحاديث، حسن الرواية صحيح النقل، لا أعلم أحدا طعن عليه في شيء من علمه وكتبه، وله كتاب الأموال، وكتاب فضائل القرآن ومعانيه، وغير ذلك من الكتب المنتفع بها، رحمه الله.

توفي في هذه السنة قاله البخاري.

وقيل: في التي قبلها بمكة.

وقيل: بالمدينة.

وله سبع وستون سنة.

وقيل: جاوز السبعين، فالله أعلم.

ومحمد بن عثمان، أبو الجماهر، الدمشقي الكفرتوتي، أحد مشايخ الحديث.

ومحمد بن الفضل، أبو النعمان السدوسي، الملقب: بعارم، شيخ البخاري، ومحمد بن عيسى بن الطباع، ويزيد بن عبد ربه، الجرجسي الحمصي، شيخها في زمانه.

ثم دخلت سنة خمس وعشرين ومائتين

فيها: دخل بغا الكبير ومعه منكجور قد أعطى الطاعة بالأمان.

وفيها: عزل المعتصم جعفر بن دينار عن نيابة اليمن وغضب عليه وولى اليمن ايتاخ.

وفيها: وجه عبد الله بن طاهر بالمازيار فدخل بغداد على بغل بأكاف فضربه المعتصم بين يديه أربعمائة وخمسين سوطا ثم سقى الماء حتى مات، وأمر بصلبه إلى جنب بابك.

وأقر في ضربه أن الأفشين كان يكاتبه ويحسن له خلع الطاعة، فغضب المعتصم على الأفشين وأمر بسجنه، فبنى له مكان كالمنارة من دار الخلافة تسمى: الكوة، إنما تسعه فقط، وذلك لما تحقق أنه يريد مخالفته والخروج عليه، وأنه قد عزم على الذهاب لبلاد الخزر ليستجيش بهم على المسلمين فعاجله الخليفة بالقبض عليه قبل ذلك كله.

وعقد له المعتصم مجلسا فيه قاضيه أحمد بن أبي دؤاد المعتزلي، ووزير محمد بن عبد الملك بن الزيات، ونائبه إسحاق بن إبراهيم بن مصعب، فاتهم الأفشين في هذا المجلس بأشياء تدل على أنه باق على دين أجداده من الفرس.

منها: أنه غير مختن فاعتذر أنه يخاف ألم ذلك، فقال له الوزير - وهو الذي كان يناظره من بين القوم -: فأنت تطاعن بالرماح في الحروب ولا تخاف من طعنها وتخاف من قطع قلفة ببدنك ؟

ومنها: أنه ضرب رجلين إماما ومؤذنا كل واحد ألف سوط لأنهما هدما بيت أصنام فاتخذاه مسجدا.

ومنها: أنه عنده كتاب كليلة ودمنة مصورا فيه الكفر وهو محلى بالجواهر والذهب، فاعتذر أنه ورثه من آبائهم.

واتهم بأن الأعاجم يكاتبونه وتكتب إليه في كتبها: أنت إله الآلهة من العبيد. وأنه يقرهم على ذلك.

فجعل يعتذر بأنه أجراهم على ما كانوا يكاتبون به أباه وأجداده، وخاف أن يأمرهم بترك ذلك فيتضع عندهم.

فقال له الوزير: ويحك ! فماذا أبقيت لفرعون حين قال: { أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى } [النازعات: 24] .

وإنه كان يكاتب المازيار بأن يخرج عن الطاعة، وأنه في ضيق حتى ينصر دين المجوس الذي كان قديما ويظهره على دين العرب، وأنه كان يستطيب المنخنقة على المذبوحة، وأنه كان في كل يوم أربعاء يستدعي بشاة سوداء فيضربها بالسيف نصفين ويمشي بينهما ثم يأكلها، فعند ذلك أمر المعتصم بغا الكبير أن يسجنه مهانا ذليلا، فجعل يقول: إني كنت أتوقع منكم ذلك.

وفي هذه السنة: حمل عبد الله بن طاهر الحسن بن الأفشين وزوجته أترجة بنت أشناس إلى سامرا.

وحج بالناس فيها محمد بن داود.

وفيها توفي من الأعيان:

أصبغ بن الفرج، وسعدويه، ومحمد بن سلام، البيكندي، شيخ البخاري، وأبو عمر الجرمي، وأبو دلف العجلي، التميمي، الأمير، أحد الأجواد.

سعيد بن مسعدة

أبو الحسن، الأخفش الأوسط، البلخي ثم البصري، النحوي، أخذ النحو عن سيبويه، وصنف كتبا كثيرةً، منها: كتاب في معاني القرآن، وكتاب الأوسط في النحو، وغير ذلك، وله كتاب في العروض زاد فيه بحر الخبب على الخيل.

وسمي الأخفش لصغر عينيه وضعف بصره، وكان أيضا أدلغ، وهو الذي لا يضم شفتيه على أسنانه، كان أولا يقال له: الأخفش الصغير بالنسبة إلى الأخفش الكبير: أبي الخطاب عبد الحميد بن عبد المجيد الهجري، شيخ سيبويه وأبي عبيدة، فلما ظهر علي بن سليمان ولقب بالأخفش أيضا صار سعيد بن مسعدة هو الأوسط، والهجري الأكبر، وعلي بن سليمان الأصغر.

وكانت وفاته في هذه السنة، وقيل: سنة إحدى وعشرين ومائتين.

الجرمي النحوي

وهو صالح بن إسحاق، البصري، قدم بغداد وناظر بها الفراء، وكان قد أخذ النحو عن: أبي عبيدة، وأبي زيد، والأصمعي.

وصنف كتبا منها: الفرخ - يعني: فرخ كتاب سيبويه -.

وكان فقيها فاضلا نحويا بارعا عالما باللغة، حافظا لها، ديِّنا ورعا، حسن المذهب، صحيح الاعتقاد، وروى الحديث.

ذكره ابن خلكان، وروى عنه المبرد، وذكره أبو نعيم في تاريخ أصبهان.

ثم دخلت سنة ست وعشرين ومائتين

في شعبان منها توفي الأفشين في الحبس فأمر به المعتصم فصلب ثم أحرق وذري رماده في دجله واحتيط على أمواله وحواصله فوجدوا فيها أصناما مكللةً بذهب وجواهر، وكتبا في فضل دين المجوس، وأشياء كثيرة كان يتهم بها، تدل على كفره وزندقته، وتحقق بسببها ما ذكر عنه من الانتماء إلى دين آبائه المجوس.

وحج بالناس فيها محمد بن داود.

وفيها توفي:

إسحاق القروي، وإسماعيل بن أبي أوس، ومحمد بن داود، صاحب التفسير، وغسان بن الربيع، ويحيى بن يحيى التميمي، شيخ مسلم بن الحجاج، ومحمد بن عبد الله بن طاهر بن الحسين.

أبو دلف العجلي

عيسى بن إدريس بن معقل بن عمير بن شيخ بن معاوية بن خزاعي بن عبد العزيز بن دلف بن جشم بن قيس بن سعد بن عجل بن لحيم، الأمير، أبو دلف العجلي، أحد قواد المأمون والمعتصم وإليه ينسب الأمير أبو نصر بن ماكولا، صاحب كتاب الإكمال.

وكان القاضي جلال الدين خطيب دمشق القزويني يزعم أنه من سلالته، ويذكر نسبه إليه.

وكان أبو دلف هذا كريما جوادا ممدحا، قد قصده الشعراء من كل أوب، وكان أبو تمام الطائي من جملة من يغشاه ويستمنح نداه، وكانت لديه فضيلة في الأدب والغناء، وصنف كتبا منها: سياسة الملوك، ومنها: في الصيد، والبزاة، وفي السلاح، وغير ذلك.

وما أحسن ما قال فيه بكر بن النطاع الشاعر:

يا طالبا للكيمياء وعلمه * مدح ابن عيسى الكيمياء الأعظم

لو لم يكن في الأرض إلا درهم * ومدحته لأتاك ذاك الدرهم

فيقال: إنه أعطاه على ذلك عشرة آلاف درهم.

وكان شجاعا فاتكا، وكان يستدين ويعطي، وكان أبوه قد شرع في بناء مدينة الكرخ فمات ولم يتمها فأتمها أبو دلف، وكان فيه تشيع.

وكان يقول: من لم يكن متغاليا في التشيع فهو ولد زنا.

فقال له ابنه دلف: لست على مذهبك يا أبت.

فقال: والله لقد وطئت أمك قبل أن أشتريها، فهذا من ذاك.

وقد ذكر ابن خلكان أن ولده رأى في المنام بعد وفاة أبيه أن آتيا أتاه فقال: أجب الأمير !

قال: فقمت معه فأدخلني دارا وحشة وعرة سوداء الحيطان مغلقة السقوف والأبواب.

ثم أصعدني في درج منها ثم أدخلني غرفة، وإذا في حيطانها أثر النيران، وفي أرضها أثر الرماد، وإذا بأبي فيها وهو عريان واضع رأسه بين ركبتيه.

فقال لي كالمستفهم: أدلف ؟

فقلت: دلف.

فأنشأ يقول:

أبلغنْ أهلنا ولا تخف عنهم * ما لقينا في البرزخ الخناق

قد سئلنا عن كل ما قد فعلنا * فارحموا وحشتي وما قد ألاقي

ثم قال: أفهمت ؟

قلت: نعم !

ثم أنشأ يقول:

فلو أنا إذا متنا تركنا * لكان الموت راحة كل حي

ولكنا إذا متنا بعثنا * ونسأل بعده عن كل شيء

ثم قال: أفهمت ؟

قلت: نعم ! وانتبهت.

ثم دخلت سنة سبع وعشرين ومائتين

فيها: خرج رجل من أهل الثغور بالشام يقال له: أبو حرب المبرقع اليماني، فخلع الطاعة ودعا إلى نفسه.

وكان سبب خروجه أن رجلا من الجند أراد أن ينزل في منزله عند امرأته في غيبته فمانعته المرأة فضربها الجندي في يدها فأثرت الضربة في معصمها.

فلما جاء بعلها أبو حرب أخبرته فذهب إلى الجندي وهو غافل فقتله ثم تحصن في رؤوس الجبال وهو مبرقع، فإذا جاء أحد دعاه إلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ويذم من السلطان، فاتبعه على ذلك خلق كثير من الحراثين وغيرهم، وقالوا: هذا هو السفياني المذكور أنه يملك الشام.

فاستفحل أمره جدا، واتبعه نحو من مائة ألف مقاتل، فبعث إليه المعتصم وهو في مرض موته جيشا نحوا من مائة ألف مقاتل، فلما قدم أمير المعتصم بمن معه وجدهم أمة كثيرة وطائفة كبيرة، وقد اجتمعوا حول أبي حرب فخشي أن يواقعه والحالة هذه، فانتظر إلى أيام حرث الأراضي فتفرق عنه الناس إلى أراضيهم، وبقي في شرذمة قليلة، فناهضه فأسره وتفرق عنه أصحابه، وحمله أمير السرية وهو رجاء بن أيوب حتى قدم به على المعتصم، فلامه المعتصم في تأخره عن مناجزته أول ما قدم الشام.

فقال: كان معه مائة ألف أو يزيدون، فلم أزل أطاوله حتى أمكن الله منه، فشكره على ذلك.

وهذه ترجمة المعتصم بن هارون

هو أمير المؤمنين، أبو إسحاق، محمد المعتصم بن هارون الرشيد بن المهدي بن المنصور، العباسي، يقال له: المثمن لأنه: ثامن ولد العباس.

وأنه ثامن الخلفاء من ذريته.

ومنها: أنه فتح ثمان فتوحات.

ومنها: أنه أقام في الخلافة ثماني سنين وثمانية أشهر وثمانية أيام، وقيل: ويومين.

وأنه ولد سنة ثمانين ومائة في شعبان وهو الشهر الثامن من السنة.

وأنه توفي وله من العمر ثمانية وأربعون سنة.

ومنها: أنه خلَّف ثمانية بنين وثماني بنات.

ومنها: أنه دخل بغداد من الشام في مستهل رمضان سنة ثمان عشرة ومائتين بعد استكمال ثمانية أشهر من السنة بعد موت أخيه المأمون.

قالوا: وكان أميا لا يحسن الكتابة، وكان سبب ذلك أنه كان يتردد معه إلى الكتاب غلام فمات الغلام فقال له أبوه الرشيد: ما فعل غلامك ؟

قال: مات فاستراح من الكتاب.

فقال الرشيد: وقد بلغ منك كراهة الكتاب إلى أن تجعل الموت راحة منه؟ والله يا بني لا تذهب بعد اليوم إلى الكتاب.

فتركوه فكان أميا، وقيل: بل كان يكتب كتابة ضعيفة.

وقد أسند الخطيب من طريقه عن آبائه حديثين منكرين أحدهما: في ذم بني أمية ومدح بني العباس من الخلفاء، والثاني: في النهي عن الحجامة يوم الخميس.

وذكر بسنده عن المعتصم أن ملك الروم كتب إليه كتابا يتهدده فيه فقال للكاتب: اكتب: قد قرأت كتابك وفهمت خطابك والجواب ما ترى لا ما تسمع، وسيعلم الكفار لمن عقبى الدار.

قال الخطيب: غزا المعتصم بلاد الروم في سنة ثلاث وعشرين ومائتين، فأنكى نكاية عظيمة في العدو، وفتح عمورية، وقتل من أهلها ثلاثين ألفا، وسبى مثلهم، وكان في سبيه ستون بطريقا، وطرح النار في عمورية في سائر نواحيها فأحرقها، وجاء بنائبها إلى العراق، وجاء ببابها أيضا معه، وهو منصوب حتى الآن على أحد أبواب دار الخلافة مما يلي المسجد الجامع في القصر.

وروي عن أحمد بن أبي داؤد القاضي أنه قال: ربما أخرج المعتصم ساعده إلي وقال لي: عض يا أبا عبد الله بكل ما تقدر عليه.

فأقول: إنه لا تطيب نفسي يا أمير المؤمنين أن أعض ساعدك.

فيقول: إنه لا يضرني.

فأكدم بكل ما أقدر عليه فلا يؤثر ذلك في يده.

ومرَّ يوما في خلافة أخيه بمخيم الجند فإذا امرأة تقول: ابني ابني.

فقال لها: ما شأنك ؟

فقالت: ابني أخذه صاحب هذه الخيمة.

فجاء إليه المعتصم فقال له: أطلق هذا الصبي، فامتنع عليه فقبض على جسده بيده فسمع صوت عظامه من تحت يده، ثم أرسله فسقط ميتا وأمر بإخراج الصبي إلى أمه.

ولما ولي الخلافة كان شهما وله همة عالية في الحرب، ومهابة عظيمة في القلوب، وإنما كانت نهمته في الإنفاق في الحرب لا في البناء ولا في غيره.

وقال أحمد أبي داؤد: تصدق المعتصم على يدي ووهب ما قيمته مائة ألف ألف درهم.

وقال غيره: كان المعتصم إذا غضب لا يبالي من قتل ولا ما فعل.

وقال إسحاق بن إبراهيم الموصلي: دخلت يوما على المعتصم وعنده قيِّنة له تغنيه.

فقال لي: كيف تراها ؟

فقلت له: أراها تقهره بحذق، وتجتله برفق، ولا تخرج من شيء إلا إلى أحسن منه، وفي صوتها قطع شذور، أحسن من نظم الدر على النحور.

فقال: والله لصفتك لها أحسن منها ومن غنائها.

ثم قال لابنه هارون الواثق ولي عهده من بعده: اسمع هذا الكلام.

وقد استخدم المعتصم من الأتراك خلقا عظيما كان له من المماليك الترك قريب من عشرين ألفا، وملك من آلات الحرب والدواب ما لم يتفق لغيره.

ولما حضرته الوفاة جعل يقول: { حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ } [الأنعام: 44] .

وقال: لو علمت أن عمري قصير ما فعلت.

وقال: إني أحدث هذا الخلق، وجعل يقول: ذهبت الحيل فلاحيلة.

وروي عنه أنه قال في مرض موته: اللهم إني أخافك من قِبَلي ولا أخافك من قِبَلك، وأرجوك من قِبَلك ولا أرجوك من قِبَلي.

كانت وفاته بسر من رأى في يوم الخميس ضحى لسبعة عشرة ليلة خلت من ربيع الأول من هذه السنة - أعني: سنة سبع وعشرين ومائتين -.

وكان مولده يوم الاثنين لعشر خلون من شعبان سنة ثمانين ومائة.

وولي الخلافة في رجب سنة ثمان عشرة ومائتين.

وكان أبيض أصهب اللحية طويلا مربوعا مشرب اللون، أمه أم ولد اسمها: ماردة.

وهو أحد أولاد ستة من أولاد الرشيد، كل منهم اسمه: محمد، وهم: أبو إسحاق محمد المعتصم، وأبو العباس محمد الأمين، وأبو عيسى محمد، وأبو أحمد، وأبو يعقوب، وأبو أيوب.

قاله هشام بن الكلبي: وقد ولي الخلافة بعده ولده هارون الواثق.

وقد ذكر ابن جرير أن وزيره محمد بن عبد الملك بن الزيات رثاه فقال:

قد فلتُ إذ غيبوك واصطفقت * عليك أيدي التراب والطين

اذهب فنعم الحفيظ كنت على الـ * ـدنيا ونعم الظهير للدين

لا جبر الله أمة فقدت * مثلك إلا بمثل هارون

وقال مروان بن أبي الجنوب - وهو: ابن أخي حفصة -:

أبو إسحاق مات ضحى فمتنا * وأمسينا بهارون حيينا

لئن جاء الخميس بما كرهنا * لقد جاء الخميس بما هوينا

خلافة هارون الواثق بن المعتصم

بويع له بالخلافة قبل موت أبيه يوم الأربعاء لثمان خلون من ربيع الأول من هذه السنة - أعني: سنة سبع وعشرين ومائتين - ويكنى: أبا جعفر، وأمه أم ولد رومية يقال لها: قراطيس، وقد خرجت في هذه السنة قاصدة الحج فماتت بالحيرة ودفنت بالكوفة في دار داود بن عيسى، وذلك لأربع خلون من ذي القعدة من هذه السنة.

وكان الذي أقام للناس الحج فيها جعفر بن المعتصم.

وفيها: توفي ملك الروم توفيل بن ميخائيل، وكانت مدة ملكه ثنتي عشرة سنة، فملكت الروم بعده امرأته: تدورة.

وكان ابنها ميخائيل بن توفيل صغيرا.

وفيها توفي:

بشر الحافي الزاهد المشهور

وهو بشر بن الحارث بن عبد الرحمن بن عطاء بن هلال بن ماهان بن عبد الله، المروزي، أبو نصر، الزاهد المعروف: بالحافي، نزل بغداد.

قال ابن خلكان: وكان اسم جده: عبد الله الغيور، أسلم على يدي علي بن أبي طالب.

قلت: وكان مولده ببغداد سنة خمسين ومائة، وسمع بها شيئا كثيرا من: حماد بن زيد، وعبد الله بن المبارك، وابن مهدي، ومالك، وأبي بكر بن عياش، وغيرهم.

وعنه جماعة منهم: أبو خيثمة، وزهير بن حرب، وسري السقطي، والعباس بن عبد العظيم، ومحمد بن حاتم.

قال محمد بن سعيد: سمع بشرا كثيرا ثم اشتغل بالعبادة واعتزل الناس ولم يحدث.

وقد أثنى عليه غير واحد من الأئمة في عبادته وزهادته وورعه ونسكه وتقشفه.

قال الإمام أحمد يوم بلغه موته: لم يكن له نظير إلا عامر بن عبد قيس، ولو تزوج لتم أمره.

وفي رواية عنه أنه قال: ما ترك بعده مثله.

وقال إبراهيم الحربي: ما أخرجت بغداد أتم عقلا منه، ولا أحفظ للسانه منه، ما عرف له غيبة لمسلم، وكان في كل شعرة منه عقل، ولو قسم عقله على أهل بغداد لصاروا عقلاء وما نقص من عقله شيء.

وذكر غير واحد أن بشرا كان شاطرا في بدء أمره، وأن سبب توبته أنه وجد رقعة فيها اسم الله عز وجل في أتون حمام فرفعها ورفع طرفه إلى السماء وقال: سيدي اسمك ههنا ملقى يداس !

ثم ذهب إلى عطار فاشترى بدرهم غالية وضمخ تلك الرقعة منها ووضعها حيث لا تنال، فأحيى الله قلبه وألهمه رشده وصار إلى ما صار إليه من العبادة والزهادة.

من كلامه: من أحب الدنيا فليتهيأ للذل.

وكان بشر يأكل الخبز وحده، فقيل له: أما لك أدم ؟

فقال: بلى ! أذكر العافية فأجعلها أدما.

وكان لا يلبس نعلا بل يمشي حافيا، فجاء يوما إلى باب فطرقه فقيل: من ذا ؟

فقال: بشر الحافي.

فقالت له جارية صغيرة: لو اشترى نعلا بدرهم لذهب عنه اسم الحافي.

قالوا: وكان سبب تركه النعل أنه جاء مرة إلى حذّاء فطلب منه شراكا لنعله فقال: ما أكثر كلفتكم يا فقراء على الناس ؟!

فطرح النعل من يده وخلع الأخرى من رجله وحلف لا يلبس نعلا أبدا.

قال ابن خلكان: وكانت وفاته يوم عاشوراء.

وقيل: في رمضان ببغداد.

وقيل: بمرو.

قلت: الصحيح ببغداد في هذه السنة.

وقيل: في سنة ست وعشرين.

والأول أصح، والله أعلم.

وحين مات اجتمع في جنازته أهل بغداد عن بكرة أبيهم، فأخرج بعد صلاة الفجر فلم يستقر في قبره إلا بعد العتمة.

وكان علي المدائني وغيره من أئمة الحديث يصيح بأعلا صوته في الجنازة: هذا والله شرف الدنيا قبل شرف الآخرة.

وقد روي أن الجن كانت تنوح عليه في بيته الذي كان يسكنه.

وقد رآه بعضهم في المنام فقال: ما فعل الله بك ؟

فقال: غفر لي ولكل من أحبني إلى يوم القيامة.

وذكر الخطيب أنه كان له أخوات ثلاث وهن: مخة، ومضغة، وزبدة.

وكلهن عابدات زاهدات مثله، وأشد ورعا أيضا.

ذهبت إحداهن إلى الإمام أحمد بن حنبل فقالت: إني ربما طفئ السراج وأنا أغزل على ضوء القمر فهل عليَّ عند البيع أن أميز هذا من هذا ؟

فقال: إن كان بينهما فرق فميزي للمشتري.

وقالت له مرة إحداهن: ربما تمرُّ بنا مشاعل بني طاهر في الليل ونحن نغزل فنغزل الطاق والطاقين والطاقات فخلصني من ذلك.

فأمرها أن تتصدق بذلك الغزل كله لما اشتبه عليها من معرفة ذلك المقدار.

وسألته عن أنين المريض: أفيه شكوى ؟

قال: لا ! إنما هو شكوى إلى الله عز وجل.

ثم خرجت فقال لابنه عبد الله: يا بني ! اذهب خلفها فاعلم لي من هذه المرأة ؟

قال عبد الله: فذهبت وراءها فإذا هي قد دخلت دار بشر، وإذا هي أخته مخة.

وروى الخطيب أيضا عن زبدة قالت: جاء ليلة أخي بشر فدخل برجله في الدار وبقيت الأخرى خارج الدار، فاستمر كذلك ليلته حتى أصبح.

فقيل له: فيم تفكرت ليلتك ؟

فقال: تفكرت في بشر النصراني، وبشر اليهودي، وبشر المجوسي، وفي نفسي، لأن اسمي بشر، فقلت في نفسي: ما الذي سبق لي من الله حتى خصني بالإسلام من بينهم؟ فتفكرت في فضل الله عليَّ وحمدته أن هداني للإسلام، وجعلني ممن خصه به، وألبسني لباس أحبابه.

وقد ترجمه ابن عساكر فأطنب وأطيب وأطال من غير ملال، وقد ذكر له أشعارا حسنة، وذكر أنه كان يتمثل بهذه الأبيات:

تعاف القذى في الماء لا تستطيعه * وتكرع من حوض الذنوب فتشرب

وتؤثر من أكل الطعام ألذه * ولا تذكر المختار من أين يكسب

وترقد يا مسكين فوق نمارق * وفي حشوها نار عليك تلهب

فحتى متى لا تستفيق جهالة * وأنت ابن سبعين بدينك تلعب

وممن توفي فيها:

أحمد بن يونس.

وإسماعيل بن عمرو البجلي.

وسعيد بن منصور، صاحب السنن المشهورة، التي لا يشاركه فيها إلا القليل.

ومحمد بن الصباح، الدولابي، ولهن سنن أيضا.

وأبو الوليد الطيالسي.

وأبو الهذيل العلاف، المتكلم المعتزلي، والله أعلم.

ثم دخلت سنة ثمان وعشرين ومائتين

في رمضان منها: خلع الواثق على أشناس الأمير، وتوَّجه وألبسه وشاحين من جوهر.

وحج بالناس فيها محمد بن داود الأمير.

وغلا السعر على الناس في طريق مكة جدا، وأصابهم حر شديد وهم بعرفة، ثم أعقبه برد شديد ومطر عظيم، كل ذلك في ساعة واحدة، ونزل عليهم وهم بمنى مطر لم ير مثله، وسقطت قطعة من الجبل عند جمرة العقبة فقتلت جماعة من الحجاج.

قال ابن جرير: وفيها مات: أبو الحسن المدائني، أحد أئمة هذا الشأن، في منزل إسحاق بن إبراهيم الموصلي.

وحبيب بن أوس الطائي، أبو تمام الشاعر.

قلت: أما أبو الحسن المدائني فاسمه: علي بن المدائني، أحد أئمة هذا الشأن، وإمام الأخباريين في زمانه، وقد قدمنا ذكر وفاته قبل هذه السنة. وأما:

أبو تمام الطائي الشاعر

صاحب الحماسة التي جمعها في فضل النساء بهمدان في دار وزيرها.

فهو حبيب بن أوس بن الحارث بن قيس بن الأشج بن يحيى، أبو تمام الطائي، الشاعر الأديب.

ونقل الخطيب عن محمد بن يحيى الصولي أنه حكى عن بعض الناس أنهم قالوا: أبو تمام حبيب بن تدرس النصراني، فسماه أبوه: حبيب أوس بدل تدرس.

قال ابن خلكان: وأصله من قرية جاسم من عمل الجيدور بالقرب من طبرية، وكان بدمشق يعمل عند حائك، ثم سار به إلى مصر في شبيبته.

وابن خلكان أخذ ذلك من تاريخ ابن عساكر، وقد ترجم له أبو تمام ترجمة حسنة.

قال الخطيب: وهو شامي الأصل، وكان بمصر في حداثته يسقي الماء في المسجد الجامع، ثم جالس بعض الأدباء فأخذ عنهم وكان فطنا فهما، وكان يحب الشعر فلم يزل يعانيه حتى قال الشعر فأجاد.

وشاع ذكره وبلغ المعتصم خبره فحمله إليه وهو بسر من رأى، فعمل فيه قصائد فأجازه وقدمه على شعراء وقته، قدم بغداد فجالس الأدباء وعاشر العلماء، وكان موصوفا بالظرف وحسن الأخلاق.

وقد روى عنه أحمد بن أبي طاهر أخبارا بسنده.

قال ابن خلكان: كان يحفظ أربعة عشر ألف أرجوزة للعرب غير القصائد والمقاطيع وغير ذلك.

وكان يقال: في طيء ثلاثة: حاتم في كرمه، وداود الطائي في زهده، وأبو تمام في شعره.

وقد كان الشعراء في زمانه جماعة فمن مشاهيرهم: أبو الشيص، ودعبل، وابن أبي قيس، وكان أبو تمام من خيارهم دينا وأدبا وأخلاقا.

ومن رقيق شعره قوله:

يا حليف الندى ويا معدن الجود * ويا خير من حويت القريضا

ليت حماك بي وكان لك الأجـ * ـر فلا تشتكي وكنت المريضا

وقد ذكر الخطيب، عن إبراهيم بن محمد بن عرفة: أن أبا تمام توفي في سنة إحدى وثلاثين ومائتين وكذا قال ابن جرير.

وحكي عن بعضهم أنه توفي في سنة إحدى وثلاثين، وقيل: سنة ثنتين وثلاثين فالله أعلم.

وكانت وفاته بالموصل، وبنيت على قبره قبة، وقد رثاه الوزير محمد بن عبد الملك الزيات فقال:

نبأٌ أتى من أعظم الأنباء * لما ألمَّ مقلقل الأحشاء

قالوا حبيب قد ثوى فأجبتهم * ناشدتكم لا تجعلوه الطائي

وقال غيره:

فجع القريض بخاتم الشعراء *وغدير روضتها حبيب الطائي

ماتا معا فتجاورا في حفرة * وكذاك كنا قبل في الأحياء

وقد جمع الصولي شعر أبي تمام على حروف المعجم.

قال ابن خلكان: وقد امتدح أحمد بن المعتصم ويقال ابن المأمون بقصيدته التي يقول فيها:

إقدام عمرو في سماحة حاتم * في حلم أحنف في ذكاء إياس

فقال له بعض الحاضرين: أتقول هذا لأمير المؤمنين وهو أكبر قدرا من هؤلاء؟ فإنك ما زدت على أن شبهته بأجلاف من العرب البوادي.

فأطرق إطراقة ثم رفع رأسه فقال:

لا تنكروا ضربي له من دونه * مثلا شرودا في الندى والباس

فالله قد ضرب الأقل لنوره * مثلا من المشكاة والنبراس

قال: فلما أخذوا القصيدة لم يجدوا فيها هذين البيتين، وإنما قالهما ارتجالا.

قال: ولم يعش بعد هذا إلا قليلا حتى مات.

وقيل: إن الخليفة أعطاه الموصل لما مدحه بهذه القصيدة، فأقام بها أربعين يوما ثم مات.

وليس هذا بصحيح، ولا أصل له، وإن كان قد لهج به بعض الناس كالزمخشري وغيره.

وقد أورد له ابن عساكر أشياء من شعره مثل قوله:

ولو كانت الأرزاق تجري على الحجا * هلكن إذا من جهلهن البهائم

ولم يجتمع شرق وغرب لقاصد * ولا المجد في كف امرئ والدراهم

ومنه قوله:

وما أنا بالغيران من دون غرسه * إذا أنا لم أصبح غيورا على العلم

طبيب فؤادي مذ ثلاثين حجةً * ومذهب همي والمفرج للغم

وفيها توفي: أبو نصر الفارابي، والعبسي، وأبو الجهم، ومسدد، وداود بن عمرو الضبي، ويحيى بن عبد الحميد الحماني.

ثم دخلت سنة تسع وعشرين ومائتين

فيها أمر الواثق بعقوبة الدواوين وضربهم واستخلاص الأموال منهم، لظهور خياناتهم وإسرافهم في أمورهم، فمنهم من ضرب ألف سوط وأكثر من ذلك وأقل، ومنهم من أخذ منه ألف ألف دينار، ودون ذلك، وجاهر الوزير محمد بن عبد الملك لسائر ولاة الشرط بالعداوة فعسفوا وحبسوا ولقوا شرا عظيما، وجهدا جهيدا، وجلس إسحاق بن إبراهيم للنظر في أمرهم، وأقيموا للناس وافتضحوا هم والدواوين فضيحة بليغة.

وكان سبب ذلك أن الواثق جلس ليلة في دار الخلافة وجلسوا يسمرون عنده، فقال: هل منكم أحد يعرف سبب عقوبة جدي الرشيد للبرامكة ؟

فقال بعض الحاضرين: نعم يا أمير المؤمنين ! سبب ذلك أن الرشيد عرضت له جارية فأعجبه جمالها فساوم سيدها فيها.

فقال: يا أمير المؤمنين ! إن أقسمت بكل يمين أن لا أبيعها بأقل من مائة ألف دينار.

فاشتراها منه بها وبعث إلى يحيى بن خالد الوزير ليبعث إليه بالمال من بيت المال، فاعتل بأنها ليست عنده، فأرسل الرشيد إليه يؤنبه ويقول: أما في بيت مالي مائة ألف دينار ؟

وألح في طلبها فقال يحيى بن خالد: أرسلوها إليه دراهم ليستكثرها، ولعله يرد الجارية.

فبعثوا بمائة ألف دينار دراهم ووضعوها في طريق الرشيد وهو خارج إلى الصلاة، فلما اجتاز به رأى كوما من دراهم.

فقال: ما هذا ؟

قالوا: ثمن الجارية.

فاستكثر ذلك وأمر بخزنها عند بعض خدمه في دار الخلافة، وأعجبه جمع المال في حواصله، ثم شرع في تتبع أموال بيت المال فإذا البرامكة قد استهلكوها، فجعل يهمُّ بهم تارة يريد أخذهم وهلاكهم، وتارة يحجم عنهم، حتى إذا كان في بعض الليالي سمر عنده رجل يقال له: أبو العود، فأطلق له ثلاثين ألفا من الدراهم، فذهب إلى الوزير يحيى بن خالد بن برمك فطلبها منه فماطله مدة طويلة، فلما كان في بعض الليالي في السمر عرض أبو العود بذلك للرشيد في قول عمر بن أبي ربيعة:

وعدت هند وما كادت تعد * ليت هندا أنجزتنا ما تعد

واستبدَّت مرةً واحدةً * إنما العاجز من لا يستبد

فجعل الرشيد يكرر قوله: إنما العاجز من لا يستبد، ويعجبه ذلك.

فلما كان الصباح دخل عليه يحيى بن خالد فأنشده الرشيد هذين البيتين وهو يستحسنهما، ففهم ذلك يحيى بن خالد وخاف وسأل عن من أنشد ذلك للرشيد؟ فقيل له: أبو العود.

فبعث إليه وأعطاه الثلاثين ألفا وأعطاه من عنده عشرين ألفا، وكذلك ولداه الفضل وجعفر، فما كان عن قريب حتى أخذ الرشيد البرامكة، وكان من أمرهم ما كان.

فلما سمع ذلك الواثق أعجبه ذلك وجعل يكرر قول الشاعر: إنما العاجز من لا يستبد.

ثم بطش بالكتاب وهم الدواوين على إثر ذلك، وأخذ منهم أموالا عظيمةً جدا.

وفيها: حج بالناس أمير السنة الماضية وهو أمير الحجيج في السنتين الماضيتين.

وفيها توفي: خلف بن هشام البزار أحد مشاهير القراء، وعبد الله بن محمد السندي، ونعيم بن حماد الخزاعي أحد أئمة السنة بعد أن كان من أكابر الجهمية، وله المصنفات في السنن وغيرها، وبشار بن عبد الله المنسوب إليه النسخة المكذوبة عنه أو منه، ولكنها عالية الإسناد إليه، ولكنها موضوعة.

ثم دخلت سنة ثلاثين ومائتين

في جمادى منها: خرجت بنو سليم حول المدينة النبوية فعاثوا في الأرض فسادا، وأخافوا السبيل، وقاتلهم أهل المدينة فهزموا أهلها واستحوذوا على ما بين المدينة ومكة من المناهل والقرى.

فبعث إليهم الواثق بغا الكبير أبا موسى التركي في جيش فقاتلهم في شعبان فقتل منهم خمسين فارسا وأسر منهم وانهزم بقيتهم، فدعاهم إلى الأمان وأن يكونوا على حكم أمير المؤمنين، فاجتمع إليه منهم خلق كثير، فدخل بهم المدينة وسجن رؤوسهم في دار يزيد بن معاوية.

وخرج إلى الحج في هذه السنة، وشهد معه الموسم إسحاق بن إبراهيم بن مصعب نائب العراق.

وفيها: حج بالناس محمد بن داود المتقدم.

وفيها توفي:

عبد الله بن طاهر بن الحسين

نائب خراسان وما والاها.

وكان خراج ما تحت يده في كل سنة ثمانية وأربعين ألف ألف درهم، فولى الواثق مكانه ابنه طاهر.

وتوفي قبله أشناس التركي بتسعة أيام، يوم الاثنين لإحدى عشرة ليلة خلت من شهر ربيع الأول من هذه السنة.

وقال ابن خلكان: توفي سنة ثمان وعشرين بمرو، وقيل: بنيسابور.

وكان كريما جوادا، وله شعر حسن، وقد ولي نيابة مصر بعد العشرين ومائتين.

وذكر الوزير أبو القاسم بن المعزى أن البطيخ العبدلاوي الذي بمصر منسوب إلى عبد الله بن طاهر هذا.

قال ابن خلكان: لأنه كان يستطيبه.

وقيل: لأن أول من زرعه هناك، والله أعلم.

ومن جيد شعره:

اغتفر زلتي لتحرز فضل الشَّـ * ـكر منيِّ ولا يفوتك أجري

لا تكلني إلى التوسل بالعذ * ر لعلِّي أن لا أقوم بعذري

ومن شعره قوله:

نحن قوم يليننا الخد والنَّحـ * ـر على أننا نلين الحديدا

طوع أيدي الصبا تصيدنا العيـ * ـن ومن شأننا نصيد الأسودا

نملك الصَّيد ثم تملكنا البيـ * ـض المضيئات أعينا وخدودا

تتقي سخطنا الأسود ونخشى * سقط الخشف حين تبدي القعودا

فترانا يوم الكريهة أحرا * را وفي السِّلم للغواني عبيدا

قال ابن خلكان: وكان خزاعيا من موالي طلحة الطلحات الخزاعي، وقد كان أبو تمام يمدحه، فدخل إليه مرة فأضافه الملح بهمدان، فصنف له كتاب الحماسة عند بعض نسائه.

ولما ولاه المأمون نيابة الشام ومصر صار إليها وقد رسم له بما في ديار مصر من الحواصل، فحمل إليه وهو في أثناء الطريق ثلاثة آلاف ألف دينار، ففرقها كلها في مجلس واحد، وأنه لما واجه مصر نظر إليها فاحتقرها وقال: قبّح الله فرعون، ما كان أخسه وأضعف همته حين تبجح وتعاظم بملك هذه القرية، وقال: أنا ربكم الأعلى.

وقال: أليس لي ملك مصر؟ فكيف لو رأى بغداد وغيرها.

وفيها توفي: علي بن جعد الجوهري، ومحمد بن سعد كاتب الواقدي مصنف كتاب الطبقات وغيره، وسعيد بن محمد الجرمي.

ثم دخلت سنة إحدى وثلاثين ومائتين

فيها: وقعت مفاداة الأسارى المسلمين الذين كانوا في أيدي الروم على يدي الأمير خاقان الخادم وذلك في المحرم من هذه السنة، وكان عدة الأسارى أربعة آلاف وثلثمائة واثنين وستين أسيرا.

وفيها: كان مقتل أحمد بن نصر الخزاعي، رحمه الله وأكرم مثواه.

وكان سبب ذلك أن هذا الرجل وهو: أحمد بن نصر بن مالك بن الهيثم الخزاعي وكان جده مالك بن الهيثم من أكبر الدعاة إلى دولة بني العباس الذين قتلوا ولده هذا، وكان أحمد بن نصر هذا له وجاهة ورياسة، وكان أبوه نصر بن مالك يغشاه أهل الحديث، وقد بايعه العامة في سنة إحدى ومائتين على القيام بالأمر والنهي حين كثرت الشطار والدعار في غيبة المأمون عن بغداد كما تقدم ذلك، وبه تعرف سويقة نصر ببغداد.

وكان أحمد بن نصر هذا من أهل العلم والديانة والعمل الصالح والاجتهاد في الخير، وكان من أئمة السنة الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر، وكان ممن يدعو إلى القول بأن القرآن كلام الله منزل غير مخلوق، وكان الواثق من أشد الناس في القول بخلق القرآن، يدعو إليه ليلا ونهارا، سرا وجهارا، اعتمادا على ما كان عليه أبوه قبله وعمه المأمون، من غير دليل ولا برهان، ولا حجة ولا بيان، ولا سنة ولا قرآن.

فقام أحمد بن نصر هذا يدعو إلى الله وإلى الأمر بالمعروف والنهي عن النكر والقول بأن القرآن كلام الله منزل غير مخلوق، في أشياء كثيرة دعا الناس إليها.

فاجتمع عليه جماعة من أهل بغداد، والتف عليه من الألوف أعداد، وانتصب للدعوة إلى أحمد بن نصر هذا رجلان وهما: أبو هارون السراج يدعو أهل الجانب الشرقي، وآخر يقال له: طالب يدعو أهل الجانب الغربي فاجتمع عليه من الخلائق ألوف كثيرة، وجماعات غزيرة.

فلما كان شهر شعبان من هذه السنة انتظمت البيعة لأحمد بن نصر الخزاعي في السر على القيام بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والخروج على السلطان لبدعته ودعوته إلى القول بخلق القرآن، ولما هو عليه وأمراؤه وحاشيته من المعاصي والفواحش وغيرها.

فتواعدوا على أنهم في الليلة الثالثة من شعبان - وهي ليلة الجمعة - يضرب طبل في الليل فيجتمع الذين بايعوا في مكان اتفقوا عليه، وأنفق طالب وأبو هارون في أصحابه دينارا دينارا، وكان من جملة من أعطوه رجلان من بني أشرس، وكانا يتعاطيان الشراب.

فلما كانت ليلة الخميس شربا في قوم من أصحابهم واعتقدا أن تلك الليلة هي ليلة الوعد، وكان ذلك قبله بليلة، فقاما يضربان على طبل في الليل ليجتمع إليهما الناس، فلم يجيء أحد وانخرم النظام وسمع الحرس في الليل فأعلموا نائب السلطنة، وهو محمد بن إبراهيم بن مصعب، وكان نائبا لأخيه إسحاق بن إبراهيم، لغيبته عن بغداد، فأصبح الناس متخبطين.

واجتهد نائب السلطنة على إحضار ذينك الرجلين فأحضرا فعاقبهما فأقرا على أحمد بن نصر، فطلبه وأخذ خادما له فاستقره فأقر بما أقر به الرجلان، فجمع جماعة من رؤوس أصحاب أحمد بن نصر معه وأرسل بهم إلى الخليفة بسر من رأى، وذلك في آخر شعبان.

فأحضر له جماعة من الأعيان وحضر القاضي أحمد بن أبي داؤد المعتزلي، وأحضر أحمد بن نصر ولم يظهر منه على أحمد بن نصر عتب، فلما أوقف أحمد بن نصر بين يدي الواثق لم يعاتبه على شيء مما كان منه في مبايعته العوام على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وغيره، بل أعرض عن ذلك كله وقال له: ما تقول في القرآن ؟

فقال: هو كلام الله.

قال: أمخلوق هو ؟

قال: هو كلام الله.

وكان أحمد بن نصر قد استقتل وباع نفسه وحضر وقد تحنط وتنور وشد على عورته ما يسترها فقال له: فما تقول في ربك، أتراه يوم القيامة ؟

فقال: يا أمير المؤمنين ! قد جاء القرآن والأخبار بذلك، قال الله تعالى: { وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ } [القيامة: 22] الآية.

وقال رسول الله : «إنكم ترون ربكم كما ترون هذا القمر لا تضامون في رؤيته». فنحن على الخبر.

زاد الخطيب قال الواثق: ويحك ! أيرى كما يرى المحدود المتجسم؟ ويحويه مكان ويحصره الناظر؟ أنا أكفر برب هذه صفته.

قلت: وما قاله الواثق لا يجوز ولا يلزم ولا يرد به هذا الخبر الصحيح، والله أعلم.

ثم قال أحمد بن نصر للواثق: وحدثني سفيان بحديث يرفعه: «إن قلب ابن آدم بأصبعين من أصابع الله يقلبه كيف شاء».

وكان النبي يقول: «يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك».

فقال له إسحاق بن إبراهيم: ويحك ! انظر ما تقول.

فقال: أنت أمرتني بذلك.

فأشفق إسحاق من ذلك وقال: أنا أمرتك ؟

قال: نعم ! أنت أمرتني أن أنصح له.

فقال الواثق لمن حوله: ما تقولون في هذا الرجل؟

فأكثروا القول فيه.

فقال عبد الرحمن بن إسحاق - وكان قاضيا على الجانب الغربي فعزل وكان موادا لأحمد بن نصر قبل ذلك -: يا أمير المؤمنين هو حلال الدم.

وقال أبو عبد الله الأرمني صاحب أحمد بن أبي داؤد: اسقني دمه يا أمير المؤمنين.

فقال الواثق: لابد أن يأتي ما تريد.

وقال ابن أبي دؤاد: هو كافر يستتاب لعل به عاهة أو نقص عقل.

فقال الواثق: إذا رأيتموني قمت إليه فلا يقومن أحد معي، فإني أحتسب خطاي.

ثم نهض إليه بالصمصامة - وقد كانت سيفا لعمرو بن معديكرب الزبيدي أهديت لموسى الهادي في أيام خلافته وكانت صفيحة مسحورة في أسفلها مسمورة بمسامير - فلما انتهى إليه ضربه بها على عاتقه وهو مربوط بحبل قد أوقف على نطع، ثم ضربه أخرى على رأسه ثم طعنه بالصمصامة في بطنه فسقط صريعا رحمه الله على النطع ميتا، فإنا لله وإنا إليه راجعون. رحمه الله وعفا عنه.

ثم انتضى سيما الدمشقي سيفه فضرب عنقه وحز رأسه وحمل معترضا حتى أتى به الحظيرة التي فيها بابك الخرَّمي فصلب فيها، وفي رجليه زوج قيود وعليه سراويل وقميص، وحمل رأسه إلى بغداد فنصب في الجانب الشرقي أياما، وفي الغربي أياما، وعنده الحرس في الليل والنهار.

وفي أذنه رقعة مكتوب فيها: هذا رأس الكافر المشرك الضال أحمد بن نصر الخزاعي، ممن قتل على يدي عبد الله هارون الإمام الواثق بالله أمير المؤمنين بعد أن أقام عليه الحجة في خلق القرآن، ونفى التشبيه وعرض عليه التوبة ومكنه من الرجوع إلى الحق فأبى إلا المعاندة والتصريح، فالحمد لله الذي عجله إلى ناره وأليم عقابه بالكفر، فاستحل بذلك أمير المؤمنين دمه ولعنه.

ثم أمر الواثق بتتبع رؤوس أصحابه فأخذ منهم نحوا من تسع وعشرين رجلا فأودعوا في السجون وسموا: الظلمة، ومنعوا أن يزورهم أحد وقيدوا بالحديد، ولم يجر عليهم شيء من الأرزاق التي كانت تجري على المحبوسين، وهذا ظلم عظيم.

وقد كان أحمد بن نصر هذا من أكابر العلماء العاملين القائمين بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

وسمع الحديث من: حماد بن زيد، وسفيان بن عيينة، وهاشم بن بشير، وكانت عنده مصنفاته كلها.

وسمع من الإمام مالك بن أنس أحاديث جيدة، ولم يحدث بكثير من حديثه.

وحدث عنه: أحمد بن إبراهيم الدورقي، وأخوه يعقوب بن إبراهيم، ويحيى بن معين، وذكره يوما فترحم عليه وقال: قد ختم الله له بالشهادة، وكان لا يحدث ويقول إني لست أهلا لذلك.

وأحسن يحيى بن معين الثناء عليه جدا.

وذكره الإمام أحمد بن حنبل يوما فقال: رحمه الله ما كان أسخاه بنفسه لله، لقد جاد بنفسه له.

وقال جعفر بن محمد الصائغ: بصرت عيناي وإلا فقئتا وسمعت أذناي وإلا فصمتا أحمد بن نصر الخزاعي حين ضربت عنقه يقول رأسه: لا إله إلا الله.

وقد سمعه بعض الناس وهو مصلوب على الجذع ورأسه يقرأ: { الم * أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ } [العنكبوت: 1-2] .

قال: فاقشعر جلدي.

ورآه بعضهم في النوم فقال له: ما فعل بك ربك ؟

فقال: ما كانت إلا غفوة حتى لقيت الله عز وجل فضحك إلي.

ورأى بعضهم رسول الله في المنام ومعه أبو بكر وعمر قد مروا على الجذع الذي عليه رأس أحمد بن نصر، فلما جاوزوه أعرض رسول الله بوجهه الكريم عنه فقيل له: يا رسول الله مالك أعرضت عن أحمد بن نصر ؟

فقال: «أعرضت عنه استحياء منه حين قتله رجل يزعم أنه من أهل بيتي».

ولم يزل رأسه منصوبا من يوم الخميس الثامن والعشرين من شعبان من هذه السنة - أعني: سنة إحدى وثلاثين ومائتين - إلى بعد عيد الفطر بيوم أو يومين من سنة سبع وثلاثين ومائتين، فجمع بين رأسه وجثته ودفن بالجانب الشرقي من بغداد بالمقبرة المعروفة بالمالكية رحمه الله.

وذلك بأمر المتوكل على الله الذي ولي الخلافة بعد أخيه الواثق، وقد دخل عبد العزيز بن يحيى الكتاني - صاحب كتاب الحيدة - على المتوكل وكان من خيار الخلفاء لأنه أحسن الصنيع لأهل السنة، بخلاف أخيه الواثق وأبيه المعتصم وعمه المأمون، فإنهم أساؤوا إلى أهل السنة وقربوا أهل البدع والضلال من المعتزلة وغيرهم.

فأمره أن ينزل جثة أحمد بن نصر ويدفنه ففعل، وقد كان المتوكل يكرم الإمام أحمد بن حنبل إكراما زائدا جدا كما سيأتي بيانه في موضعه.

والمقصود أن عبد العزيز صاحب كتاب الحيدة قال للمتوكل: يا أمير المؤمنين ما رأيت أو ما رئي أعجب من أمر الواثق، قتل أحمد بن نصر وكان لسانه يقرأ القرآن إلى أن دفن.

فوجل المتوكل من كلامه وساءه ما سمع في أخيه الواثق، فلما دخل عليه الوزير محمد بن عبد الملك بن الزيات قال له المتوكل: في قلبي شيء من قتل أحمد بن نصر.

فقال: يا أمير المؤمنين ! أحرقني الله بالنار إن قتله أمير المؤمنين الواثق إلا كافرا.

ودخل عليه هرثمة فقال له في ذلك فقال: قطعني الله إربا إربا إن قتله إلا كافرا.

ودخل عليه القاضي أحمد بن أبي داؤد فقال له مثل ذلك فقال: ضربني الله بالفالج إن قتله الواثق إلا كافرا.

قال المتوكل: فأما ابن الزيات فأنا أحرقته بالنار.

وأما هرثمة فانه هرب فاجتاز بقبيلة خزاعة فعرفه رجل من الحي فقال: يا معشر خزاعة هذا الذي قتل ابن عمكم أحمد بن نصر فقطعوه، فقطعوه إربا إربا.

وأما ابن أبي دؤاد فقد سجنه الله في جلده - يعني: بالفالج - ضربه الله قبل موته بأربع سنين، وصودر من صلب ماله بمال جزيل جدا كما سيأتي بيانه في موضعه.

وروى أبو داود في كتاب المسائل، عن أحمد بن إبراهيم الدورقي، عن أحمد بن نصر، قال: سألت سفيان بن عيينة: «القلوب بين إصبعين من أصابع الله، وإن الله يضحك ممن يذكره في الأسواق».

فقال: اروها كما جاءت بلا كيف.

وفيها: أراد الواثق أن يحج واستعد فذكر له أن الماء بالطريق قليل فترك الحج عامئذ.

وفيها: تولى جعفر بن دينار نائب اليمن فسار إليها في أربعة آلاف فارس.

وفيها: عدا قوم من العامة على بيت المال فأخذوا منه شيئا من الذهب والفضة، فأخذوا وسجنوا.

وفيها: ظهر خارجي ببلاد ربيعة فقاتله نائب الموصل فكسره وانهزم أصحابه.

وفيها: قدم وصيف الخادم بجماعة من الأكراد نحو من خمسمائة في القيود، كانوا قد أفسدوا في الطرقات وقطعوها، فأطلق الخليفة لوصيف الخادم خمسة وسبعين ألف دينار، وخلع عليه.

وفيها قدم خاقان الخادم من بلاد الروم وقد تم الصلح والمفاداة بينه وبين الروم، وقدم معه جماعة من رؤوس الثغور، فأمر الواثق بامتحانهم بخلق القرآن وأن الله لا يرى في الآخرة فأجابوا إلا أربعة فأمر بضرب أعناقهم إن لم يجيبوا بالقول بخلق القرآن وأن الله لا يرى في الآخرة.

وأمر الواثق أيضا بامتحان الأسارى الذين فودوا من أسر الفرنج بالقول بخلق القرآن وأن الله لا يرى في الآخرة فمن أجاب إلى القول بخلق القرآن وأن الله لا يرى في الآخرة فودى وإلا ترك في أيدي الكفار، وهذه بدعة صلعاء شنعاء عمياء صماء لا مستند لها من كتاب ولا سنة ولا عقل صحيح، بل الكتاب والسنة والعقل الصحيح بخلافهما كما هو مقرر في موضعه. وبالله المستعان.

وكان وقوع المفاداة عند نهر يقال له: اللامس، عند سلوقية بالقرب من طرسوس، بدل كل مسلم أو مسلمة في أيدي الروم أو ذمي أو ذمية كان تحت عقد المسلمين أسير من الروم كان بأيدي المسلمين ممن لم يسلم، فنصبوا جسرين على النهر فإذا أرسل الروم مسلما أو مسلمة في جسرهم فانتهى إلى المسلمين كبر وكبر المسلمون، ثم يرسل المسلمون أسيرا من الروم على جسرهم فإذا انتهى إليهم تكلم بكلام يشبه التكبير أيضا.

ولم يزالوا كذلك مدة أربعة أيام بدل كل نفس نفس، ثم بقي مع خاقان جماعة من الروم الأسارى فأطلقهم للروم حتى يكون له الفضل عليهم.

قال ابن جرير: وفيها مات الحسن بن الحسين أخو طاهر بطبرستان في شهر رمضان.

وفيها: مات الخطاب بن وجه الفلس.

وفيها: مات أبو عبد الله بن الأعرابي الرواية يوم الأربعاء لثلاث عشرة خلت من شعبان، وهو ابن ثمانين سنة.

وفيها: ماتت أم أبيها بنت موسى أخت علي بن موسى الرضا.

وفيها: مات مخارق المغني.

وأبو نصر أحمد بن حاتم راوية الأصمعي.

وعمرو بن أبي عمرو الشيباني.

ومحمد بن سعدان النحوي.

قلت: وممن توفي فيها أيضا أحمد نصر الخزاعي كما تقدم.

وإبراهيم بن محمد بن عرعرة.

وأمية بن بسطام.

وأبو تمام الطائي في قول. والمشهور ما تقدم.

وكامل بن طلحة.

ومحمد بن سلام الجمحي.

وأخوه عبد الرحمن.

ومحمد بن منهال الضرير.

ومحمد بن منهال أخو حجاج.

وهارون بن معروف.

والبويطي صاحب الشافعي مات في السجن مقيدا على القول بخلق القرآن فامتنع من ذلك.

ويحيى بن بكير راوي الموطأ عن مالك.

ثم دخلت سنة ثنتين وثلاثين ومائتين

فيها: عاثت قبيلة يقال لها: بنو نمير باليمامة فسادا فكتب الواثق إلى بغا الكبير وهو مقيم بأرض الحجاز فحاربهم فقتل منهم جماعة وأسر منهم آخرين، وهزم بقيتهم، ثم التقى مع بني تميم وهو في ألفي فارس وهم ثلاثة آلاف، فجرت بينهم حروب ثم كان الظفر له عليهم آخرا، وذلك في النصف من جمادى الآخرة.

ثم عاد بعد ذلك إلى بغداد ومعهم من أعيان رؤوسهم في القيود والأسر جماعة، وقد فقد من أعيانهم في الوقائع ما ينيف على ألفي رجل من بني سليم ونمير ومرة وكلاب وفزارة وثعلبة وطي وتميم وغيرهم.

وفي هذه السنة أصاب الحجيج في رجوعهم عطش شديد حتى بيعت الشربة بالدنانير الكثيرة، ومات خلق كثير من العطش.

وفيها: أمر الواثق بترك جباية أعشار سفن البحر.

وفيها: كانت وفاة الخليفة الواثق بن محمد المعتصم بن هارون الرشيد أبي جعفر هارون الواثق.

كان هلاكه في ذي الحجة من هذه السنة بعلة الاستسقاء، فلم يقدر على حضور العيد عامئذ، فاستناب في الصلاة بالناس قاضيه أحمد بن أبي داؤد الإيادي المعتزلي.

توفي لست بقين من ذي الحجة، وذلك أنه قوي به الاستسقاء فأقعد في تنور قد أحمي له بحيث يمكنه الجلوس فيه ليسكن وجعه، فلان عليه بعض الشيء اليسير، فلما كان من الغد أمر بأن يحمّى أكثر من العادة فأجلس فيه ثم أخرج فوضع في محفة فحمل فيها وحوله أمراؤه و وزراؤه وقاضيه، فمات وهو محمول فيها، فما شعروا حتى سقط جبينه على المحفة وهو ميت، فغمض القاضي عينيه بعد سقوط جبينه، وولي غسله والصلاة عليه ودفنه في قصر الهادي، عليهما من الله ما يستحقانه.

وكان أبيض اللون مشربا حمرةً جميل المنظر خبيث القلب حسن الجسم سيء الطوية، قاتم العين اليسرى، فيها نكتة بيضاء، وكان مولده سنة ست وتسعين ومائة بطريق مكة، فمات وهو ابن ست وثلاثين سنة، ومدة خلافته خمس سنين وتسعة أشهر وخمسة أيام.

وقيل: سبعة أيام وثنتي عشرة ساعة.

فهكذا أيام أهل الظلم والفساد والبدع قليلة قصيرة.

وقد جمع الواثق أصحاب النجوم في زمانه حين اشتدت علته، وإنما اشتدت بعد قتله أحمد بن نصر الخزاعي ليلحقه إلى بين يدي الله، فلما جمعهم أمرهم أن ينظروا في مولده وما تقتضيه صناعة النجوم كم تدوم أيام دولته.

فاجتمع عنده من رؤوسهم جماعة منهم: الحسن بن سهل، والفضل ابن إسحاق الهاشمي، وإسماعيل بن نوبخت.

ومحمد بن موسى الخوارزمي المجوسي القطربلي، وسند صاحب محمد بن الهيثم، وعامة من ينظر في النجوم، فنظروا في مولده وما يقتضيه الحال عندهم فأجمعوا على أنه يعيش في الخلافة دهرا طويلا، وقدروا له خمسين سنة مستقبلة من يوم نظروا نظر من لم يبصر، فإنه لم يعش بعد قولهم وتقديرهم إلا عشرة أيام حتى هلك.

ذكره الإمام أبو جعفر بن جرير الطبرى رحمه الله.

قال ابن جرير: وذكر الحسين بن الضحاك أنه شهد الواثق بعد أن مات المعتصم بأيام وقد قعد مجلسا كان أول مجلس قعده، وكان أول ما غنى به في ذلك المجلس أن غنته شارية جارية إبراهيم بن المهدي:

ما درى الحاملون يوم استقلوا * نعشه للثواء أم للقاء

فيلقل فيك باكياتك ماشئـ *ن صياحا في وقت كل مساء

قال: فبكى وبكينا حتى شغلنا البكاء عن جميع ما كنا فيه.

ثم اندفع بعضهم يغنى:

ودّع هريرة إن الركب مرتحل * وهل تطيق وداعا أيها الرجل

فازداد بكاؤه وقال: ما سمعت كاليوم قط تعزية بأب وبغى نفس، ثم أرفض ذلك المجلس.

وروى الخطيب أن دعبل بن علي الشاعر لما تولى الواثق عمد إلى طومار فكتب فيه أبيات شعر ثم جاء إلى الحاجب فدفعه إليه وقال: اقرأ أمير المؤمنين السلام وقل: هذه أبيات امتدحك بها دعبل فلما فضّها الواثق إذا فيها:

الحمد لله لا صبر ولا جدل * ولا عزاء إذا أهل الهوى رقدوا

خليفةً مات لم يحزن له أحد * وآخر قام لم يفرح به أحد

فمر هذا ومر الشؤم يتبعه * وقام هذا فقام الويل

والنكد

قال: فتطلبه الواثق بكل ما يقدر عليه من الطلب

فلم يقدر عليه حتى مات الواثق.

وروي أيضا: أنه لما استخلف الواثق ابن أبي داود على الصلاة في يوم العيد ورجع إليه بعد أن قضاها قال له: كيف كان عيدكم يا أبا عبد الله؟ قال: كنا في نهار لا شمس فيه، فضحك وقال: يا أبا عبد الله أنا مؤيد بك.

قال الخطيب: وكان ابن أبي داؤد استولى على الواثق وحمله على التشديد في المحنة ودعا الناس إلى القول بخلق القرآن.

قال ويقال: إن الواثق رجع عن ذلك قبل موته فأخبرني عبد الله ابن أبي الفتح أنبأ أحمد بن إبراهيم بن الحسن، ثنا إبراهيم بن محمد بن عرفة، حدثني حامد بن العباس عن رجل عن المهدي: أن الواثق مات وقد تاب من القول بخلق القرآن.

وروي أن الواثق دخل عليه يوما مؤدبه فأكرمه إكراما كثيرا فقيل له في ذلك فقال: هذا أول من فتق لساني بذكر الله وأدناني برحمة الله.

وكتب إليه بعض الشعراء:

جذبت دواعي النفس عن طلب الغنى * وقلت لها عفي عن الطلب النزر

فإن أمير المؤمنين بكفه * مدار رحا الأرزاق دائبة تجري

فوقع له في رقعته جذبتك نفسك عن امتهانها، ودعتك إلى صونها فخذ ما طلبته هينا، وأجزل له العطاء.

ومن شعره قوله:

هي المقادير تجري في أعنتها * فأصبر فليس لها صبر على حال

ومن شعر الواثق قوله:

تنحّ عن القبيح ولا ترده *ومن أوليته حسنا فزده

ستكفى من عدوك كل كيد * إذا كاد العدو ولم تكده

وقال القاضي يحيى بن أكثم: ما أحسن أحد من خلفاء بني العباس إلى آل أبي طالب ما أحسن إليهم الواثق: ما مات وفيهم فقير.

ولما احتضر جعل يردد هذين البيتين:

الموت فيه جميع الخلق مشترك * لا سوقة منهم يبقى ولا ملك

ما ضر أهل قليل في تفاقرهم * وليس يغني عن الأملاك ما ملكوا

ثم أمر بالبسط فطويت ثم ألصق خده بالأرض وجعل يقول: يا من لا يزول ملكه ارحم من قد زال ملكه.

وقال بعضهم: لما احتضر الواثق ونحن حوله غشي عليه فقال بعضنا لبعض: انظروا هل قضى ؟

قال: فدنوت من بينهم إليه لأنظر هل هدأ نفسه، فأفاق فلحظ إلي بعينه فرجعت القهقري خوفا منه، فتعلقت قائمة سيفي بشيء فكدت أن أهلك، فما كان عن قريب حتى مات وأغلق عليه الباب الذي هو فيه وبقي فيه وحده واشتغلوا عن تجهيزه بالبيعة لأخيه جعفر المتوكل، وجلست أنا أحرس الباب فسمعت حركة من داخل البيت فدخلت فإذا جرذ قد أكل عينه التي لحظ إلي بها، وما كان حولها من الخدين.

وكانت وفاته بسر من رأى التي كان يسكنها في القصر الهاروني، في يوم الأربعاء لست بقين من ذي الحجة من هذه السنة - أعني سنة ثنتين وثلاثين ومائتين - عن ست وثلاثين سنة، وقيل ثنتين وثلاثين سنة.

وكانت خلافته خمس سنين وتسعة أشهر وخمسة أيام، وقيل خمس سنين وشهران وأحد وعشرين يوما، وصلى عليه أخوه جعفر المتوكل على الله، والله أعلم.

خلافة المتوكل على الله جعفر بن المعتصم

بويع له بالخلافة بعد أخيه الواثق وقت الزوال من يوم الأربعاء لست بقين من ذي الحجة.

وكانت الأتراك قد عزموا على تولية محمد بن الواثق فاستصغروه فتركوه وعدلوا إلى جعفر هذا، وكان عمره إذ ذاك ستا وعشرين سنة، وكان الذي ألبسه خلعة الخلافة أحمد بن أبي داؤد القاضي، وكان هو أول من سلم عليه بالخلافة وبايعه الخاصة والعامة، وكانوا قد اتفقوا على تسميته بالمنتصر بالله،

إلى صبيحة يوم الجمعة فقال ابن أبي داؤد رأيت أن يلقب بالمتوكل على الله، فاتفقوا على ذلك، وكتب إلى الآفاق وأمر بإعطاء الشاكرية من الجند ثمانية شهور، وللمغاربة أربعة شهور، ولغيرهم ثلاثة شهور، واستبشر الناس به.

وقد كان المتوكل رأى في منامه في حياة أخيه هارون الواثق كأن شيئا نزل عليه من السماء مكتوب فيه جعفر المتوكل على الله، فعبره فقيل له هي الخلافة، فبلغ ذلك أخاه الواثق فسجنه حينا ثم أرسله.

وفيها: حج بالناس أمير الحجيج محمد بن داود.

وفيها: توفي الحكم بن موسى، وعمرو بن محمد الناقد.

ثم دخلت سنة ثلاث وثلاثين ومائتين

في يوم الأربعاء سابع صفر منها أمر الخليفة المتوكل على الله بالقبض على محمد بن عبد الملك بن الزيات وزير الواثق، وكان المتوكل يبغضه لأمور، منها أن أخاه الواثق غضب على المتوكل في بعض الأوقات وكان ابن الزيات يزيده غضبا عليه، فبقي ذلك في نفسه، ثم كان الذي استرضى الواثق عليه أحمد بن أبي داؤد فحظي بذلك عنده في أيام ملكه، ومنها أن ابن الزيات كان قد أشار بخلافة محمد بن الواثق بعد أبيه، ولف عليه الناس، وجعفر المتوكل في جنب دار الخلافة لم يلتفت إليه ولم يتم الأمر إلا لجعفر المتوكل على الله، رغم أنف ابن الزيات.

فلهذا أمر بالقبض عليه سريعا فطلبه فركب بعد غدائه وهو يظن أن الخليفة بعث إليه، فانتهى به الرسول إلى دار إيتاخ أمير الشرطة فاحتيط به وقيد وبعثوا في الحال إلى داره فأخذ جميع ما فيها من الأموال واللآلي والجواهر والحواصل والجواري والأثاث، ووجدوا في مجلسه الخاص به آلات الشرب، وبعث المتوكل في الحال أيضا إلى حواصله بسامرا وضياعه وما فيها فاحتاط عليها، وأمر به أن يعذب ومنعوه من الكلام، وجعلوا يساهرونه كلما أراد الرقاد نخس بالحديد، ثم وضعه بعد ذلك كله في تنور من خشب فيه مسامير قائمة في أسفله فأقيم عليها ووكل به من يمنعه من القعود والرقاد، فمكث كذلك أياما حتى مات وهو كذلك.

ويقال إنه أخرج من التنور وفيه رمق فضرب على بطنه ثم على ظهره حتى مات وهو تحت الضرب، ويقال إنه أحرق ثم دفعت جثته إلى أولاده فدفنوه، فنبشت عليه الكلاب فأكلت ما بقي من لحمه وجلده.

وكانت وفاته لإحدى عشرة من ربيع الأول منها.

وكان قيمة ما وجد له من الحواصل نحوا من تسعين ألف دينار.

وقد قدمنا أن المتوكل سأله عن قتل أحمد بن نصر الخزاعي فقال: يا أمير المؤمنين أحرقني الله بالنار إن قتله الواثق إلا كافرا.

قال المتوكل: فأنا أحرقته بالنار.

وفيها: في جمادى الأولى منها بعد مهلك ابن الزيات فلج أحمد بن أبي داؤد القاضي المعتزلي.

فلم يزل مفلوجا حتى مات بعد أربع سنين وهو كذلك، كما دعا على نفسه حين سأله المتوكل عن

قتل حمد بن نصر كما تقدم.

ثم غضب المتوكل على جماعة من الدواوين والعمال، وأخذ منهم أموالا جزيلةً جدا.

وفيها: ولى المتوكل ابنه محمد المنتصر الحجاز واليمن وعقد له على ذلك كله في رمضان منها.

وفيها: عمد ملك الروم ميخائيل بن ترفيل إلى أمه تدورة فأقامها بالشمس وألزمها الدير وقتل الرجل الذي اتهمها به، وكان ملكها ست سنين.

وفيها: حج بالناس محمد بن داود أمير مكة.

وفيها: توفي إبراهيم بن الحجاج الشامي، وحبان بن موسى العربي، وسليمان بن عبد الرحمن الدمشقي، وسهل بن عثمان العسكري، ومحمد بن سماعة القاضي، ومحمد بن عائذ الدمشقي صاحب المغازي، ويحيى المقابري، ويحيى بن معين أحد أئمة الجرح والتعديل، وأستاذ أهل هذه الصناعة في زمانه.

ثم دخلت سنة أربع وثلاثين ومائتين

فيها: خرج محمد بن البعيث بن حلبس عن الطاعة في بلاد أذربيجان، وأظهر أن المتوكل قد مات والتف عليه جماعة من أهل تلك الرساتيق، ولجأ إلى مدينة مرند فحصنها، وجاءته البعوث من كل جانب، وأرسل إليه المتوكل جيوشا يتبع بعضها بعضا، فنصبوا على بلده المجانيق من كل جانب، وحاصروه محاصرةً عظيمةً جدا، وقاتلهم مقاتلةً هائلةً، وصبر هو وأصحابه صبرا بليغا، وقدم بغا الشرابي لمحاصرته، فلم يزل به حتى أسره واستباح أمواله وحريمه وقتل خلقا من رؤس أصحابه، وأسر سائرهم وانحسمت مادة ابن البعيث.

وفي جمادى الأولى منها خرج المتوكل إلى المدائن.

وفيها: حج إيتاخ أحد الأمراء الكبار وهو والي مكة، ودعي له على المنابر، وقد كان إيتاخ هذا غلاما خزريا طباخا، وكان لرجل يقال له سلام الأبرش، فاشتراه منه المعتصم في سنة تسع وتسعين ومائة، فرفع منزلته وحظي عنده، وكذلك الواثق من بعده، ضم إليه أعمالا كثيرةً، وكذلك عامله المتوكل وذلك لفروسيته ورجلته وشهامته، ولما كان في هذه السنة شرب ليلة مع المتوكل فعربد عليه المتوكل فهم إيتاخ بقتله.

فلما كان الصباح اعتذر المتوكل إليه وقال له: أنت أبي وأنت ربيتني، ثم دس إليه من يشير إليه بأن يستأذن للحج فاستأذن فأذن له، وأمره على كل بلدة يحل بها، وخرج القواد في خدمته إلى طريق الحج حين خرج، ووكل المتوكل الحجابة لوصيف الخادم عوضا عن إيتاخ.

وحج بالناس فيها محمد بن داود أمير مكة وهو أمير الحجيج من سنين متقدمة.

وفيها توفي: أبو خيثمة زهير بن حرب، وسليمان بن داود الشاركوني أحد الحفاظ، عبد الله بن محمد النفيلي، أبو ربيع الزهراني، وعلي بن عبد الله بن جعفر المديني شيخ البخاري في صناعة الحديث ومحمد بن عبد الله بن نمير، ومحمد بن أبي بكر المقدمي، والمعافا الرسيعني، ويحيى بن يحيى الليثي راوي الموطأ عن مالك.

ثم دخلت سنة خمس وثلاثون ومائتين

في جمادى الآخرة منها كان هلاك إيتاخ في السجن، وذلك أنه رجع من الحج فتلقته هدايا الخليفة، فلما اقترب يريد دخول سامرا التي فيها المتوكل بعث إليه إسحاق بن إبراهيم نائب بغداد عن أمر الخليفة يستدعيه إليها ليتلقاه وجوه الناس وبني هاشم، فدخلها في أبهة عظيمة، فقبض عليه إسحاق بن إبراهيم وعلى ابنيه مظفر ومنصور وكاتبيه سليمان بن وهب، وقدامه بن زياد النصراني، فأسلم تحت العقوبة، وكان هلاك إيتاخ بالعطش، وذلك أنه أكل أكلا كثيرا بعد جوع شديد ثم استسقى الماء فلم يسقى حتى مات ليلة الأربعاء لخمس خلون من جمادى الآخرة منها.

ومكث ولداه في السجن مدة خلافة المتوكل، فلما ولي المنتصر ولد المتوكل أخرجهما.

وفي شوال منها قدم بغا سامرا ومعه محمد بن البعيث وأخواه صقر وخالد، ونائبه العلاء ومعهم من رؤوس أصحابه نحو مائة وثمانين إنسانا فأدخلوا على الجمال ليراهم الناس، فلما أوقف ابن البعيث بين يدي المتوكل أمر بضرب عنقه، فأحضر السيف والنطع فجاء السيافون فوقفوا حوله، فقال له المتوكل: ويلك ما دعاك إلى ما فعلت؟ فقال: الشقوة يا أمير المؤمنين، وأنت الحبل الممدود بين الله وبين خلقه، وإن لي فيك لظنين أسبقهما إلى قلبي أولاهما بك، وهو العفو.

ثم اندفع يقول بديهة:

أبى الناس إلا وأنك اليوم قاتلي * إمام الهدى والصفح بالمرء أجمل

وهل أنا إلا جبلة من خطيئة * وعفوك من نور النبوة يجبل

فإنك خير السابقين إلى العلى * ولا شك أن خير الفعالين تفعل

فقال المتوكل: إن معه لأدبا، ثم عفا عنه.

ويقال: بل شفع فيه المعتز بن المتوكل فشفعه، ويقال بل أودع في السجن في قيوده فلم يزل فيه حتى هرب بعد ذلك، وقد قال حين هرب:

كم قد قضيت أمورا كان أهملها * غيري وقد أخذ الإفلاس بالكظم

لا تعذليني فيما ليس ينفعني * إليك عني جرى المقدور بالقلم

سأتلف المال في عسر في يسر * إن الجواد الذي يعطي على العدم

وفيها: أمر المتوكل أهل الذمة أن يتميزوا عن المسلمين في لباسهم وعمائمهم وثيابهم، وأن يتطيلسوا بالمصبوغ بالقلى وأن يكون على عمائمهم رقاع مخالفة للون ثيابهم من خلفهم ومن بين أيديهم، وأن يلزموا بالزنانير الخاصرة لثيابهم كزنانير الفلاحين اليوم، وأن يحملوا في رقابهم كرات من خشب كثيرة، وأن لا يركبوا خيلا، ولتكن ركبهم من خشب، إلى غير ذلك من الأمور المذلة لهم المهينة لنفوسهم، وأن لا يستعملوا في شيء من الدواوين التي يكون لهم فيها حكم على مسلم، وأمر بتخريب كنائسهم المحدثة، وبتضييق منازلهم المتسعة، فيؤخذ منها العشر، وأن يعمل مما كان متسعا من منازلهم

مسجد، وأمر بتسوية قبورهم بالأرض، وكتب بذلك إلى سائر الأقاليم والأفاق، وإلى كل بلد ورستاق.

وفيها: خرج رجل يقال له محمود بن الفرج النيسابوري، وهو ممن كان يتردد إلى خشبة بابك وهو مصلوب فيقعد قريبا منه، وذلك بقرب دار الخلافة بسر من رأى، فادعى أنه نبي، وأنه ذو القرنين وقد اتبعه على هذه الضلالة ووافقه على هذه الجهالة جماعة قليلون، وهم تسعة وعشرون رجلا، وقد نظم لهم كلاما في مصحف له قبّحه الله، زعم أن جبريل جاءه به من الله، فأخذ فرفع أمره إلى المتوكل فأمر فضرب بين يديه بالسياط، فاعترف بما نسب إليه وما هو معول عليه، وأظهر التوبة من ذلك والرجوع عنه، فأمر الخليفة كل واحد من أتباعه التسعة والعشرين أن يصفعه فصفعوه عشر صفعات فعليه وعليهم لعنة رب الأرض والسموات.

ثم اتفق موته في يوم الأربعاء لثلاث خلون من ذي الحجة من هذه السنة.

وفي يوم السبت لثلاث بقين من ذي الحجة أخذ المتوكل على الله العهد من بعده لأولاده الثلاثة وهم: محمد المنتصر، ثم أبو عبد الله المعتز، واسمه محمد، وقيل الزبير، ثم لإبراهيم وسماه المؤيد بالله، ولم يل الخلافة هذا.

وأعطى كل واحد منهم طائفة من البلاد يكون نائبا عليها ويستنيب فيها ويضرب له السكة بها، وقد عين ابن جرير لكل واحد منهم من البلدان والأقاليم، وعقد لكل واحد منهم لواءين لواء أسود للعهد، ولواء للعمالة، وكتب بينهم كتابا بالرضى منهم ومبايعته لأكثر الأمراء على ذلك وكان يوما مشهودا.

وفيها في شهر ذي الحجة منها تغير ماء دجلة إلى الصفرة ثلاثة أيام ثم صار في لون ماء الدردي ففزع الناس لذلك.

وفيها: أتى المتوكل بيحيى بن عمر بن زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب من بعض النواحي، وكان قد اجتمع إليه قوم من الشيعة فأمر بضربه فضرب ثماني عشرة مقرعة ثم حبس في المطبق.

وحج بالناس محمد بن داود.

قال ابن جرير: وفيها توفي: إسحاق بن إبراهيم صاحب الجسر - يعني نائب بغداد - يوم الثلاثاء لسبع بقين من ذي الحجة وجعل ابنه محمد مكانه، وخلع عليه خمس خلع وقلده سيفا.

قلت: وقد كان نائبا في العراق من زمن المأمون، وهو من الدعاة تبعا لسادته وكبرائه إلى القول بخلق القرآن الذي قال الله تعالى فيهم: { رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا } الآية [الأحزاب: 67] .

وهو الذي كان يمتحن الناس ويرسلهم إلى المأمون.

وفيها توفي:

إسحاق بن ما هان

الموصلي النديم الأديب، النادر الشكل في وقته المجموع من كل فن يعرفه أبناء عصره في الفقه والحديث والجدل والكلام واللغة والشعر، ولكن اشتهر بالغناء لأنه لم يكن له في الدنيا نظير فيه.

قال المعتصم: إن إسحاق إذا غنى يخيل لي أنه قد زيد في ملكي.

وقال المأمون: لولا اشتهاره بالغناء لوليته القضاء عليها من عفته ونزاهته وأمانته، وله شعر حسن، وديوان كبير، وكانت عنده كتب كثيرة من كل فن.

توفي في هذه السنة، وقيل: التي قبلها، وقيل في التي بعدها، وقد ترجمه ابن عساكر ترجمة حافلة، وذكر عنه أشياء حسنة، وأشعارا رائقة، وحكايات مدهشة يطول استقصاؤها.

فمن غريب ذلك: أنه غنى يوم يحيى بن خالد بن برمك، فوقع له بألف ألف، ووقع ابنه جعفر بمثلها، وابنه الفضل بمثلها في حكايات طويلة.

وفيها: توفي سريح بن يونس، وشيبان بن فروخ، وعبيد الله بن عمر القواريري، وأبو بكر بن أبي شيبة أحد الأعلام وأئمة الإسلام، وصاحب المصنف الذي لم يصنف أحد مثله قط لا قبله ولا بعده.

ثم دخلت سنة ست وثلاثون ومائتين

فيها: أمر المتوكل بهدم قبر الحسين بن علي بن أبي طالب وما حوله من المنازل والدور، ونودي في الناس من وجدها بعد ثلاثة أيام ذهبت به إلى المطبق، فلم يبق هناك بشر، واتخذ ذلك الموضع مزرعة تحرث وتستغل.

وفيها: حج بالناس محمد بن المنتصر بن المتوكل.

وفيها: توفي محمد بن إبراهيم بن مصعب سمه ابن أخيه محمد بن إسحاق بن إبراهيم، وكان محمد بن إبراهيم هذا من الأمراء الكبار.

وفيها: توفي الحسن بن سهل الوزير والد بوران زوجة المأمون التي تقدم ذكرها، وكان من سادات الناس، ويقال: إن إسحاق بن إبراهيم المغني توفي في هذه السنة، فالله أعلم.

وفيها: توفي أبو سعيد محمد بن يوسف المروزي فجأة، فولى ابنه يوسف مكانه على نيابة أرمينية.

وفيها: توفي إبراهيم بن المنذر الحرابي، ومصعب بن عبد الله الزبيري، وهدبة بن خالد القيسي، وأبو الصلت الهروي أحد الضعفاء.

ثم دخلت سنة سبع وثلاثين ومائتين

فيها: قبض يوسف بن محمد بن يوسف نائب أرمينية على البطريق الكبير، وبعثه إلى نائب الخليفة، واتفق بعد بعثه إياه أن سقط ثلج عظيم على تلك البلاد، فتحزب أهل تلك الطريق وجاؤوا فحاصروا البلد التي بها يوسف، فخرج إليهم ليقاتلهم فقتلوه، وطائفة كبيرة من المسلمين الذين معه، وهلك كثير من الناس من شدة البرد، ولما بلغ المتوكل ما وقع من هذا الأمر الفظيع أرسل إلى أهل تلك الناحية بغا الكبير من جيش كثيف جدا، فقتل من قتل من أهل تلك الناحية ممن حاصر المدينة نحوا من ثلاثين ألفا، وأسر منهم طائفةً كبيرةً، ثم سار إلى بلاد الباق من كور البسفرجان، وسلك إلى مدن كثيرة كبار، ومهد المماليك، ووطد البلاد والنواحي، وفي صفر منها غضب المتوكل على ابن أبي داؤد القاضي المعتزل، وكان على المظالم فعزله عنها، واستدعى بيحيى بن أكثم فولاه قضاة القضاة والمظالم أيضا.

وفي ربيع الأول: أمر الخليفة بالاحتياط على ضياع ابن أبي دؤاد، وأخذ ابنه الوليد محمد فحبسه في يوم السبت لثلاث خلون من ربيع الآخر، وأمر بمصادرته فحمل مائة ألف وعشرين ألف دينار، ومن الجواهر النفيسة ما يقوم بعشرين ألف دينار، ثم صولح على ستة عشر ألف ألف درهم.

وكان أبو دؤاد قد أصابه الفالج كما ذكرنا، ثم نفي أهله من سامرا إلى بغداد مهانين.

قال ابن جرير: فقال في ذلك أبو العتاهية:

لو كنت في الرأي منسوبا إلى رشد * وكان عزمك عزما فيه توفيق

لكان في الفقه شغل لو قنعت به * عن أن تقول كتاب الله مخلوق

ماذا عليك وأصل الدين يجمعهم * ما كان في الفرع لولا الجهل والموق

وفي عيد الفطر منها: أمر المتوكل بإنزال جثة أحمد بن نصر الخزاعي، والجمع بين رأسه وجسده، وأن يسلم إلى أوليائه ففرح الناس بذلك فرحا شديدا، واجتمع في جنازته خلقٌ كثيرٌ جدا، وجعلوا يتمسحون بها وبأعواد نعشه، وكان يوما مشهودا، ثم أتوا إلى الجذع الذي صلب عليه فجعلوا يتمسحون به وأرهج العامة بذلك فرحا وسرورا، فكتب المتوكل إلى نائبه يأمر بردعهم عن تعاطي مثل هذا وعن المغالاة في البشر، ثم كتب المتوكل إلى الآفاق بالمنع من الكلام في مسألة الكلام، والكف عن القول بخلق القرآن، وأن من تعلم علم الكلام لو تكلم فيه فالمطبق مأواه إلى أن يموت.

وأمر الناس أن لا يشتغل أحد إلا بالكتاب والسنة لا غير، ثم أظهر إكرام الإمام أحمد بن حنبل، واستدعاه من بغداد إليه فاجتمع به فأكرمه وأمر له بجائزة سنية، فلم يقبلها وخلع عليه خلعة سنية من ملابسه، فاستحيا منه أحمد كثيرا فلبسها إلى الموضع الذي كان نازلا فيه، ثم نزعها نزعا عنيفا وهو يبكي رحمه الله تعالى.

وجعل المتوكل في كل يوم يرسل إليه من طعامه الخاص، ويظن أنه يأكل منه وكان أحمد لا يأكل لهم طعاما بل كان صائما مواصلا طاويا تلك الأيام لأنه لم يتيسر له شيء يرضى أكله، ولكن كان ابنه صالح وعبد الله يقبلان تلك الجوائز وهو لا يشعر بشي من ذلك، ولولا أنهم أسرعوا الأوبة إلى بغداد لخشي على أحمد أن يموت جوعا، وارتفعت السنة جدا أيام المتوكل عفا الله عنه، وكان لا يولي أحدا إلا بعد مشورة الإمام أحمد.

وكان ولاية يحيى بن أكثم قضاء القضاة موضع ابن أبي دؤاد عن مشورته، وقد كان يحيى بن أكثم هذا من أئمة السنة وعلماء الناس، ومن المعظمين للفقه والحديث واتباع الأثر، وكان قد ولي من جهته حيان بن بشر قضاء الشرقية، وسور بن عبد الله قضاء الجانب الغربي، وكان كلاهما أعورا فقال في ذلك بعض أصحاب ابن أبي دؤاد:

رأيت من العجائب قاضيين * هما أحدوثة في الخافقين

هما اقتسما العمى نصفين قدّا * كما اقتسما قضاء الجانبين

ويحسب منهما من هز رأسا * لينظر في مواريث ودين

كأنك وضعت عليه دنا * فتحت بزاله من فرد عين

هما فأل الزمان بهلك يحيى * إذ افتتح القضاء بأعورين

وغزا الصائفة في هذه السنة علي بن يحيى الأرمني، وحج بالناس علي بن عيسى بن جعفر بن أبي جعفر المنصور أمير الحجاز.

وفيها: توفي حاتم الأصم، وممن توفي فيها: عبد الأعلى بن حماد، وعبيد الله بن معاذ العنبري، وأبو كامل الفضيل بن الحسن الجحدري.

ثم دخلت سنة ثمان وثلاثين ومائتين

في ربيع الأول منها حاصر بغا مدينة تفليس، وعلى مقدمته زيرك التركي فخرج إليه صاحب تفليس إسحق بن إسماعيل فقاتله، فأسر بغا إسحق فأمر بضرب عنقه وصلبه، وأمر بإلقاء النار في النفط إلى نحو المدينة، وكان أكثر بنائها من خشب الصنوبر فأحرق أكثرها، وأحرق من أهلها نحوا من خمسين ألفا، وطفئت النار بعد يومين لأن نار الصنوبر لا بقاء لها، ودخل الجند فأسروا من بقي من أهلها واستلبوهم حتى استلبوا المواشي، ثم سار بغا إلى مدن أخرى ممن كان يمالئ أهلها مع من قتل نائب أرمينية يوسف بن محمد بن يوسف، فأخذ بثأره وعاقب من تجرأ عليه.

وفيها: جاءت الفرنج في نحو من ثلثمائة مركب قاصدين مصر من جهة دمياط، فدخلوها فجأة، فقتلوا من أهلها خلقا، وحرقوا المسجد الجامع والمنبر، وأسروا من النساء نحوا من ستمائة امرأة من المسلمات مائة و خمسة وعشرين امرأة، وسائرهن من نساء القبط، وأخذوا من الأمتعة والمال والأسلحة شيئا كثيرا جدا، وفر الناس منهم في كل جهة، وكان من غرق في بحيرة تنيس أكثر ممن أسروه، ثم رجعوا على حمية ولم يعرض لهم أحد حتى رجعوا بلادهم لعنهم الله.

وفي هذه السنة: غزا الصائفة علي بن يحيى الأرمني.

وفيها: حج بالناس الأمير الذي حج بهم قبلها.

وفيها: توفي إسحق بن راهويه أحد الأعلام وعلماء الإسلام، والمجتهدين من الأنام.

وبشر بن الوليد الفقيه الحنفي، وطالوت بن عباد، ومحمد بن بكار بن الريان، و محمد بن البرجاني، ومحمد بن أبي السري العسقلاني.

ثم دخلت سنة تسع وثلاثين ومائتين

في المحرم منها زاد المتوكل في التغليظ على أهل الذمة في التميز في اللباس، وأكد الأمر بتخريب الكنائس المحدثة في الإسلام.

وفيها: نفى المتوكل بن الجهم إلى خراسان.

وفيها: اتفق شعانين النصارى ويوم النيروز في يوم واحد، وهو الأحد لعشرين ليلة خلت من ذي القعدة، وزعمت النصارى أن هذا لم يتفق مثله في الإسلام إلا في هذا العام.

وغزا الصائفة علي بن يحيى المذكور.

وفيها: حج بالناس عبد الله بن محمد بن داود إلى مكة.

قال ابن جرير: فيها توفي أبو الوليد محمد بن القاضي، أحمد بن محمد بن أبي دؤاد الأيادي المعتزلي.

قلت وممن توفي فيها: داود بن رشد، وصفوان بن صالح مؤذن أهل دمشق، وعبد الملك بن حبيب الفقيه المالكي، أحد المشاهير، وعثمان بن أبي شيبة صاحب التفسير والمسند المشهور، ومحمد بن مهران الرازي، ومحمود بن غيلان، ووهب بن بقية.

وفيها توفي:

أحمد بن عاصم الأنطاكي

أبو علي الواعظ الزاهد أحد العباد والزهاد، له كلام حسن في الزهد ومعاملات القلوب.

قال أبو عبد الرحمن السلمي: كان من طبقة الحارث المحاسبي، وبشر الحافي، وكان أبو سليمان الدراني يسميه جاسوس القلوب لحدة فراسته، روى عن أبي معاوية الضرير وطبقته، وعنه أحمد بن الحواري، ومحمود بن خالد، وأبو زرعة الدمشقي وغيرهم.

روى أحمد بن الحواري، عن مخلد بن الحسين، عن هشام بن حسان قال: مررت بالحسن البصري، وهو جالس وقت السحر فقلت: يا أبا سعيد مثلك يجلس في هذا الوقت ؟

قال: إني توضأت وأردت نفسي على الصلاة فأبت علي وأرادتني على أن تنام فأبيت عليها.

ومن مستجاد كلامه قوله: إذا أردت صلاح قلبك فاستعن عليه بحفظ جوارحك.

وقال: من الغنيمة الباردة أن تصلح ما بقي من عمرك، فيغفر لك ما مضى منه.

وقال: يسير اليقين يخرج الشك كله من قلبك، ويسير الشك يخرج اليقين كله منه.

وقال: من كان بالله أعرف كان منه أخوف.

وقال: خير صاحب لك في دنياك الهم، يقطعك عن الدنيا، ويوصلك إلى الآخرة.

ومن شعره:

هممت ولم أعزم ولو كنت صادقا * عزمت ولكن الفطام شديد

ولو كان لي عقل وإيقان موقن * لما كنت عن قصد الطريق أحيد

ولو كان لي غير السلوك مطامعي * ولكن عن الأقدار كيف أميد

ومن شعره أيضا:

قد بقينا مذبذبين حيارى * نطلب الصدق ما إليه سبيل

فدواعي الهوى تخف علينا * وخلاف الهوى علينا ثقيل

فقد صدق في الأماكن حتى * وصفه اليوم ما عليه دليل

لا نرى خائفا فيلزمنا الخوف * ولسنا نرى صادقا على ما يقول

ومن شعره أيضا:

هون عليك فكل الأمر ينقطع * وخل عنك ضباب الهم يندفع

فكل هم له من بعده فرج * وكل كرب إذا ضاق يتسع

إن البلاء وإن طال الزمان به * الموت يقطعه أو سوف ينقطع

وقد أطال الحافظ ابن عساكر ترجمته، ولم يؤرخ وفاته، وإنما ذكرته ههنا تقريبا، والله أعلم.

ثم دخلت سنة أربعين ومائتين

فيها: عدا أهل حمص على عاملهم أبي الغيث موسى بن إبراهيم الرافقي لأنه قتل رجلا من أشرافهم قتلوا جماعة من أصحابه، وأخرجوه من بين أظهرهم فبعث إليهم المتوكل أميرا عليهم وقال للسفير معه: إن قبلوه، وإلا فأعلمني.

فقبلوه فعمل فيهم الأعاجيب وأهانهم غاية الإهانة.

وفيها: عزل المتوكل يحيى بن أكثم القاضي عن القضاء، وصادره بما مبلغه ثمانون ألف دينار، وأخذ منه أراضي كثيرة في أرض البصرة، وولى مكانه جعفر بن عبد الواحد بن جعفر بن سليمان بن علي على قضاء القضاة.

قال ابن جرير: وفي المحرم منها توفي أحمد بن أبي دؤاد بعد ابنه بعشرين يوما.

وهذه ترجمة أحمد بن أبي دؤاد

هو أحمد بن أبي دؤاد، واسمه الفرج، - وقيل: دعمى، والصحيح أنه اسمه، كنيته الأيادي المعتزلي.

قال ابن خلكان في نسبه: هو أبو عبد الله أحمد بن أبي دؤاد فرج بن جرير بن مالك بن عبد الله بن عباد بن سلام بن مالك بن عبد هند بن عبد نجم بن مالك بن فيض بن منعة بن برجان بن دوس الهذلي بن أمية بن حذيفة بن زهير بن إياد بن أد بن معد بن عدنان.

قال الخطيب: ولي ابن أبي دؤاد قضاء القضاة للمعتصم ثم للواثق، وكان موصوفا بالجود والسخاء وحسن الخلق ووفور الأدب، غير أنه أعلن بمذهب الجهمية، وحمل السلطان على امتحان الناس بخلق القرآن، وأن الله لا يرى في الآخرة.

قال الصولي: لم يكن بعد البرامكة أكرم منه، ولولا ما وضع من نفسه من محبة المحنة لاجتمعت عليه الإنس.

قالوا: وكان مولده في سنة ستين ومائة، وكان أسن من يحيى بن أكثم بعشرين سنة.

قال ابن خلكان: وأصله من بلاد قنسرين، وكان أبوه تاجرا يفد إلى الشام ثم وفد إلى العراق وأخذ ولده هذا معه إلى العراق، فاشتغل بالعلم وصحب هياج بن العلاء السلمى أحد أصحاب واصل بن عطاء فأخذ عنه الاعتزال، وذكر أنه كان يصحب يحيى بن أكثم القاضي ويأخذ عنه العلم، ثم سرد له ترجمة طويلة في كتاب الوفيات، وقد امتدحه بعض الشعراء فقال:

رسول الله والخلفاء منا * ومنا أحمد بن أبي دؤاد

فرد عليه بعض الشعراء فقال:

فقل للفاخرين على نزار * وهم في الأرض سادات العباد

رسول الله والخلفاء منا * ونبرأ من دعى بني إياد وما منا إياد إذا أقرت * بدعوة أحمد بن أبي دؤاد قال: فلما بلغ ذلك أحمد بن أبي دؤاد قال: لولا أني أكره العقوبة لعاقبت هذا الشاعر عقوبة ما فعلها أحد. وعفا عنه. قال الخطيب: حدثني الأزهر ثنا أحمد بن عمر الواعظ حدثنا عمر بن الحسن بن علي بن مالك حدثني جرير بن أحمد أبو مالك قال: كان أبي- يعني أحمد بن أبي دؤاد - إذا صلى رفع يديه إلى السماء وخاطب ربه وأنشأ يقول:

ما أنت بالسبب الضعيف وإنما * نجح الأمور بقوة الأسباب

واليوم حاجتنا إليك وإنما * يدعى الطبيب لساعة الأوصاب

ثم روى الخطيب أن أبا تمام دخل على ابن أبي دؤاد يوما فقال له: أحسبك عاتبا.

فقال: إنما يعتب علي واحد، وأنت الناس جميعا.

فقال له: أنى لك هذا ؟

فقال: من قول أبي نواس

وليس على الله بمستنكر * أن يجمع العالم في واحد

وامتدحه أبو تمام يوما فقال:

لقد أنست مساوى كل دهر * محاسن أحمد بن أبي دؤاد

وما سافرت في الآفاق إلا * ومن جدوك راحلتي وزادي

نعم الظن عندك والأماني * وإن قلقت ركابي في البلاد

فقال له: هذا المعنى تفردت به، أو أخذته من غيرك ؟

فقال: هو لي، غير أني ألمحت بقول أبي نواس:

وإن جرت الألفاظ يوما بمدحة * لغيرك إنسانا فأنت الذي نعني

وقال محمد بن الصولي: ومن مختار مديح أبي تمام لأحمد بن أبي دؤاد قوله:

أأحمد إن الحاسدين كثير * ومالك إن عد الكرام نظير

حللت محلا فاضلا متفادما * من المجد والفخر القديم فخور

فكل غني أو فقير فإنه * إليك وأن نال السماء فقير

إليك تناهى المجد من كل وجهة * يصير فما يعدوك حيث يصير

وبدر إياد أنت لا ينكرونه * كذاك إياد للأنام بدور

تجنبت أن تدعى الأميرة تواضعا *وأنت لمن يدعى الأمير أمير

فما من يد إلا إليك ممدة * وما رفعة إلا إليك تشير

قلت: قد أخطأ الشاعر في هذه الأبيات خطأً كبيرا، وأفحش في المبالغة فحشا كثيرا، ولعله إن اعتقد هذا في مخلوق ضعيف مسكين ضال مضل، أن يكون له جهنم وساءت مصيرا.

وقال ابن أبي دؤاد يوما لبعضهم: لما لم لا تسألني ؟

فقال له: لأني لو سألتك أعطيتك ثمن صلتك.

فقال له: صدقت وأرسل إليه بخمسة آلاف درهم.

وقال ابن الأعرابي: سأل رجل ابن أبي دؤاد أن يحمله على عير فقال: يا غلام أعطه عيرا وبغلا.

وبرذونا وفرسا وجارية.

قال له: لو أعلم مركوبا غير هذا لأعطيتك. ثم أورد الخطيب بأسانيده عن جماعة أخبارا تدل على كرمه وفصاحته وأدبه وحلمه ومبادرته إلى قضاء الحاجات، وعظيم منزلته عند الخلفاء.

وذكر عن محمد المهدي بن الواثق: أن شيخا دخل يوما على الواثق فسلم، فلم يرد عليه الواثق بل قال: لا سلم الله عليك.

فقال: يا أمير المؤمنين بئس ما أدبك معلمك.

قال الله تعالى: { وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا } [النساء: 86] فلا حييتني بأحسن منها، ولا رددتها فقال ابن أبي دؤاد: يا أمير المؤمنين الرجل متكلم.

فقال: ناظره. فقال ابن أبي دؤاد ما تقول يا شيخ في القرآن: أمخلوق هو ؟

فقال الشيخ: لم تنصفني المسألة لي.

فقال: قل !

فقال: هذا الذي تقوله علمه رسول الله وأبو بكر وعمر وعثمان وعلي أو ما علموه ؟

فقال ابن أبي دؤاد: لم يعلموه.

قال: فأنت علمت ما لم يعلموا؟ فخجل وسكت، ثم قال: أقلني بل علموه.

قال: فلم لا دعوا الناس إليه كما دعوتهم أنت، أما يسعك ما وسعهم؟ فخجل وسكت، وأمر الواثق له بجائزة نحو أربعمائة دينار فلم يقبلها.

قال المهدي: فدخل أبي المنزل فاستلقى على ظهره، وجعل يكرر قول الشيخ على نفسه ويقول:

أما وسعك ما وسعهم؟ ثم أطلق الشيخ وأعطاه أربعمائة دينار ورده إلى بلاده، وسقط من عينيه ابن أبي دؤاد ولم يمتحن بعده أحدا. ذكره الخطيب في تاريخه بإسناد فيه بعض من لا يعرف، وساق قصته مطولة، وقد أنشد ثعلب عن أبي حجاج الأعرابي أنه قال في ابن أبي دؤاد:

نكست الدين يا ابن أبي دؤاد * فأصبح من أطاعك في ارتداد

زعمت كلام ربك كان خلقا * أما لك عند ربك من معاد

كلام الله أنزله بعلم * على جبريل إلى خير العباد

ومن أمسى ببابك مستضيفا * كمن حل الفلاة بغير زاد

لقد أطرفت يا ابن أبي دؤاد * بقولك إنني رجل إيادي

ثم قال الخطيب: أنبأ القاضي أبو الطيب طاهر بن عبد الله الطبري قال: أنشدنا المعافى بن زكريا الجريري عن محمد بن يحيى الصولي لبعضهم يهجو ابن أبي دؤاد:

لو كنت في الرأي منسوبا إلى رشد * وكان عزمك عزما فيه توفيق

وقد تقدمت هذه الأبيات.

وروى الخطيب عن أحمد بن الموفق أو يحيى الجلاء أنه قال: ناظرني رجل من الواقفية في خلق القرآن فنالني منه ما أكره فلما أمسيت أتيت امرأتي فوضعت لي العشاء فلم أقدر أن أنال منه شيئا، فنمت فرأيت رسول الله في المسجد الجامع، وهناك حلقة فيها أحمد بن حنبل وأصحابه، فجعل رسول الله يقرأ هذه الآية: { فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلَاءِ } [الأنعام: 89] .

ويشير إلى حلقة ابن أبي دؤاد { فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْما لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ } [الأنعام: 89] ويشير إلى أحمد بن حنبل وأصحابه وقال بعضهم: رأيت في المنام كأن قائلا يقول: هلك الليلة أحمد بن أبي دؤاد، فقلت له: وما سبب هلاكه؟

فقال: إنه أغضب الله عليه فغضب عليه من فوق سبع سموات.

وقال غيره: رأيت ليلة مات ابن أبي دؤاد كأن النار زفرت زفرة عظيمة فخرج منها لهب فقلت: ما هذا ؟

فقيل: هذا أنجزت لابن أبي دؤاد.

وقد كان هلاكه في يوم السبت لسبع بقين من المحرم من هذه السنة، وصلى عليه ابنه العباس ودفن في داره ببغداد وعمره يومئذ ثمانون سنة، وابتلاه الله بالفالج قبل موته بأربع سنين حتى بقي طريحا في فراشه لا يستطيع أن يحرك شيئا من جسده، وحرم لذة الطعام والشراب والنكاح وغير ذلك.

وقد دخل عليه بعضهم فقال: والله ما جئتك عائدا وإنما جئتك لأعزيك في نفسك، وأحمد الله الذي سجنك في جسدك الذي هو أشد عليك عقوبة من كل سجن، ثم خرج عنه داعيا عليه بأن يزيده الله ولا ينقصه مما هو فيه، فازداد مرضا إلى مرضه. وقد صودر في العام الماضي بأموال جزيلة جدا، ولو كان يحمل العقوبة لوضعها عليه المتوكل.

قال ابن خلكان: كان مولده في سنة ستين ومائة، قلت: فعلى هذا يكون أسن من أحمد بن حنبل، ومن يحيى بن أكثم الذي ذكر ابن خلكان أن ابن أكثم كان سبب اتصال ابن أبي دؤاد بالخليفة المأمون، فحظي عنده بحيث إنه أوصى به إلى أخيه المعتصم، فولاه المعتصم القضاء والمظالم، وكان ابن الزيات الوزير يبغضه وجرت بينهما منافسات وهجو، وقد كان لا يقطع أمرا بدونه. وعزل ابن أكثم عن القضاء وولاه مكانه، وهذه المحنة التي هي أس ما بعدها من المحن، والفتنة التي فتحت على الناس باب الفتن.

ثم ذكر ابن خلكان ما ضرب به الفالج وما صودر به من المال، وأن ابنه أبا الوليد محمد صودر بألف ألف دينار ومائتي ألف دينار، وأنه مات قبل أبيه بشهر. وأما ابن عساكر فإنه بسط القول في ترجمته وشرحها شرحا جيدا. وقد كان أديبا فصيحا كريما جوادا ممدحا يؤثر العطاء على المنع، والتفرقة على الجمع، وقد روى ابن عساكر بإسناده أنه جلس يوما مع أصحابه ينتظرون خروج الواثق فقال ابن أبي دؤاد إنه: ليعجبني هذان البيتان:

ولي نظرة لو كان يحبل ناظر * بنظرته أنثى لقد حبلت مني

فإن ولدت ما بين تسعة أشهر * إلى نظر ابنا فإن ابنها مني

وممن توفي فيها من الأعيان:

أبو ثور إبراهيم بن خالد الكلبي أحد الفقهاء والمشاهير، قال الإمام أحمد هو عندنا في مسلاخ الثوري. وخليفة بن خياط أحد أئمة التاريخ، وسويد بن سعد الحدثاني، وسويد بن نصر، وعبد السلام بن سعيد الملقب بسحنون أحد فقهاء المالكية المشهورين، وعبد الواحد بن غياث وقتيبة بن سعيد شيخ الأئمة والسنة، وأبو العميثل عبد الله بن خالد كاتب عبد الله بن طاهر وشاعره، كان عالما باللغة، وله فيها مصنفات عديدة أورد منها ابن خلكان جملة، ومن شعره يمدح عبد الله بن طاهر:

يا من يحاول أن تكون صفاته * كصفات عبد الله أنصت واسمع

فلا نصحنك في خصال والذي * حج الحجيج إليه فاسمع أو دع

أصدق وعف وبر واصبر واحتمل * واصفح وكافئ دار واحلم واشجع

والطف ولن وتأن وارفق واتئد * واحزم وجد وحام واحمل وادفع

فلقد نصحتك إن قبلت نصيحتي * وهديت للنهج الأسد المهيع

وأما سحنون المالكي صاحب المدونة

فهو أبو سعيد عبد السلام بن سعيد بن جندب بن حسان بن هلال بن بكار بن ربيعة التنوخي، أصله من مدينة حمص، فدخل به أبوه مع جندها بلاد المغرب فأقام بها، وانتهت إليه رياسة مذهب مالك هنالك، وكان قد تفقه على ابن القاسم، وسببه أنه قدم أسد بن الفرات صاحب الإمام مالك من بلاد العرب إلى بلاد مصر فسأل عبد الرحمن بن القاسم صاحب مالك عن أسئلة كثيرة فأجابه عنها، فعقلها عنه ودخل بها بلاد المغرب فانتسخها منه سحنون، ثم قدم على ابن القاسم مصر فأعاد أسئلته عليه فزاد فيها ونقص، ورجع عن أشياء منها، فرتبها سحنون ورجع بها إلى بلاد المغرب، وكتب معه ابن القاسم إلى أسد بن الفرات أن يعرض نسخته على نسخة سحنون ويصلحها بها فلم يقبل، فدعى عليه ابن القاسم فلم ينتفع به ولا بكتابه، وصارت الرحلة إلى سحنون، وانتشرت عنه المدونة، وساد أهل ذلك الزمان، وتولى القضاء بالقيروان، وإلى أن توفي في هذه السنة عن ثمانين سنة، رحمه الله وإيانا.

ثم دخلت سنة إحدى وأربعين ومائتين

في جمادى الأولى أو الآخرة من هذه السنة، وثب أهل حمص أيضا على عاملهم محمد بن عبدويه فأرادوا قتله، وساعدهم نصارى أهلها أيضا عليه، فكتب إلى الخليفة يعلمه بذلك، فكتب إليه يأمره بمناهضتهم، وكتب إلى متولي دمشق أن يمده بجيش من عنده ليساعده على أهل حمص، وكتب إليه أن يضرب ثلاثة منهم معروفين بالشر بالسياط حتى يموتوا، ثم يصلبهم على أبواب البلد، وأن يضرب عشرين آخرين منهم كل واحد ثلاثمائة، وأن يرسلهم إلى سامرا مقيدين في الحديد، وأن يخرج كل نصراني بها، ويهدم كنيستها العظمى التي إلى جانب المسجد الجامع، وأن يضيفها إليه، وأمر بخمسين ألف درهم، وللأمراء الذين ساعدوه بصلات سنية. فامتثل ما أمره به الخليفة فيهم.

وفيها: أمر الخليفة المتوكل على الله بضرب رجل من أعيان أهل بغداد يقال له: عيسى بن جعفر بن محمد بن عاصم، فضرب ضربا شديدا مبرحا، يقال: إنه ضرب ألف سوط حتى مات، وذلك أنه شهد عليه سبعة عشر رجلا عند قاضي الشرقية أبي حسان الزيادي أنه يشتم أبا بكر وعمر وعائشة وحفصة رضي الله عنهم، فرفع أمره إلى الخليفة فجاء كتاب الخليفة إلى محمد بن عبد الله بن طاهر بن الحسين نائب بغداد يأمره أن يضربه بين الناس حد السب، ثم يضرب بالسياط حتى يموت، ويلقى في دجلة ولا يصلى عليه، ليرتدع بذلك أهل الإلحاد والمعاندة، ففعل معه ذلك قبحه الله ولعنه، ومثل هذا يكفر، وإن كان قد قذف عائشة بالإجماع، وفيمن قذف سواها من أمهات المؤمنين قولان.

والصحيح أنه يكفر أيضا، لأنهن أزواج رسول الله ورضي عنهن.

قال ابن جرير: وفي هذه السنة انقضت الكواكب ببغداد وتناثرت، وذلك ليلة الخميس لليلة خلت من جمادى الآخرة.

قال: وفيها: مطر الناس في آب مطرا شديدا جدا.

قال: وفيها: مات من الدواب شيء كثير، ولا سيما البقر.

قال: وفيها: أغارت الروم على عين زربة فأسروا من بها من الزط وأخذوا نساءهم وذراريهم ودوابهم.

قال: وفيها: كان الفداء بين المسلمين والروم في بلاد طرسوس بحضرة قاضي القضاة جعفر بن عبد الواحد، عن إذن الخليفة له في ذلك، واستنابه ابن أبي الشوارب. وكانت عدة الأسرى من المسلمين سبعمائة وخمسة وثمانين رجلا، ومن النساء مائة وخمسا وعشرين امرأة، وقد كانت أم الملك تدورة - لعنها الله - عرضت النصرانية على من كان في يدها من الأسارى، وكانوا نحوا من عشرين ألفا، فمن أجابها إلى النصرانية وإلا قتلته، فقتلت اثني عشر ألفا، وتنصر بعضهم، وبقي منهم هؤلاء الذين فودوا وهم قريب من التسعمائة رجالا ونساءً.

وفيها: أغارت البجة على جيش من أرض مصر، وقد كانت البجة لا يغزون المسلمين قبل ذلك، لهدنة كانت لهم من المسلمين، فنقضوا الهدنة، وصرحوا بالخلاف. والبجة طائفة من سودان بلاد المغرب، وكذا النوبة وشنون وزغرير ويكسوم وأمم كثيرة لا يعلمهم إلا الله.

وفي بلاد هؤلاء معادن الذهب والجوهر، وكان عليهم حمل كل سنة إلى ديار مصر من هذه المعادن، فلما كانت دولة المتوكل امتنعوا من أداء ما عليهم سنين متعددة، فكتب إلى نائب مصر- وهو يعقوب بن إبراهيم الباذغيسي مولى الهادي وهو المعروف بقوصرة - بذلك كله إلى المتوكل، فغضب المتوكل من ذلك غضبا شديدا، وشاور في أمر البجة فقيل له: يا أمير المؤمنين إنهم قوم أهل إبل وبادية، وإن بلادهم بعيدة ومعطشة، ويحتاج الجيش الذاهبون إليها أن يتزودوا لمقامهم بها طعاما وماء، فصده عن البعث إليهم، ثم بلغه أنهم يغيرون على أطراف الصعيد، ويخشى أهل مصر على أولادهم منهم، فجهز لحربهم محمد بن عبد الله القمي، وجعل إليه نيابة تلك البلاد كلها المتاخمة لأرضهم، وكتب إلى عمال مصر أن يعينوه بكل ما يحتاج إليه من الطعام وغير ذلك، فتخلص وتخلص معه من الجيوش الذين انضافوا إليه من تلك البلاد حتى دخل بلادهم في عشرين ألف فارس وراجل، وحمل معه الطعام الأدام في مراكب سبعة، وأمر الذين هم بها أن يلجوا بها في البحر فيوافوه بها إذا توسط بلاد البجة، ثم سار حتى دخل بلادهم وجاوز معادنهم، وأقبل إليه ملك البجة - واسمه علي بابا - في جمع عظيم أضعاف من مع محمد بن عبد الله القمي، وهم قوم مشركون يعبدون الأصنام، فجعل الملك يطاول المسلمين لعله تنفد أزوارهم فيأخذونهم بالأيدي، فلما نفد ما عند المسلمين طمع فيهم السودان فيسر الله وله الحمد بوصول تلك المراكب، وفيها من الطعام والتمر والزيت وغير ذلك مما يحتاجون إليه شيء كثير جدا، فقسمه الأمير بين المسلمين بحسب حاجاتهم، فيئس السودان من هلاك المسلمين جوعا فشرعوا في التأهب لقتال المسلمين، ومركبهم الإبل شبيهة بالهجن زعرة جدا كثيرة النفار، لا تكاد ترى شيئا ولا تسمع شيئا إلا جفلت منه. فلما كان يوم الحرب عمد أمير المسلمين إلى جميع الأجراس التي معهم في الجيش فجعلها في رقاب الخيول، فلما كانت الواقعة حمل المسلمون حملة رجل واحد، فنفرت بهم إبلهم من أصوات تلك الأجراس في كل وجه، وتفرقوا شذر مذر، واتبعهم المسلمون يقتلون من شاؤا، لا يمتنع منهم أحد، فلا يعلم عدد من قتلوا منهم إلا الله عز وجل، ثم أصبحوا وقد اجتمعوا رجالة فكسبهم القمى من حيث لا يشعرون فقتل عامة من بقي منهم وأخذ ملكهم بالأمان، وأدى ما كان عليه من الحمل، وأخذه معه أسيرا إلى الخليفة. وكانت هذه الوقعة في أول يوم من هذه السنة، فولاه الخليفة على بلاده كما كان، وجعل إلى ابن القمي أمر تلك الناحية والنظر في أمرها، ولله الحمد والمنة.

قال ابن جرير: ومات في هذه السنة يعقوب بن إبراهيم المعروف بقوصرة في جمادى الآخرة، قلت: وهذا الرجل كان نائبا على الديار المصرية من جهة المتوكل.

وفيها: حج بالناس عبد الله بن محمد بن داود، وحج جعفر بن دينار، وهو والي طريق مكة، وأحداث الموسم ولم يتعرض ابن جرير لوفاة أحد من المحدثين في هذه السنة، وقد توفي من الأعيان الإمام أحمد بن حنبل، وجبارة بن المغسل الحماني، وأبو ثوبة الحلبي، وعيسى بن حماد سجادة، ويعقوب بن حميد بن كاسب، ولنذكر شيئا من

الإمام أحمد بن حنبل

فنقول وبالله المستعان هو أحمد بن محمد بن حنبل بن هلال بن أسد بن إدريس بن عبد الله بن أنس بن عوف بن قاسط بن مازن بن شيبان بن ذهل بن ثعلبة بن عكابة بن صعب بن علي بن بكر بن وائل بن قاسط بن هنب بن أقصى بن دعمي بن جديلة بن أسد بن ربيعة بن نزار بن معد بن عدنان بن أد بن أدد بن الهميسع بن حمل بن النبت بن قيدار بن إسماعيل بن إبراهيم الخليل - عليهما السلام - أبو عبد الله الشيباني ثم المروزي ثم البغدادي، هكذا ساق نسبه الحافظ الكبير أبو بكر البيهقي في الكتاب الذي جمعه في مناقب أحمد عن شيخه الحافظ أبي عبد الله الحاكم صاحب المستدرك.

وروى عن صالح بن الإمام أحمد قال: رأى أبي هذا النسب في كتاب لي فقال: وما تصنع به؟ ولم ينكر النسب. قالوا: وقدم به أبوه من مرو وهو حمل فوضعته أمه في ببغداد في ربيع الأول من سنة أربع وستين ومائة.

وتوفي أبوه وهو ابن ثلاث سنين، فكفلته أمه.

قال صالح: عن أبيه، فثقبت أذني وجعلت فيها لؤلؤتين، فلما كبرت دفعتهما إلي بثلاثين درهما.

وتوفي أبو عبد الله أحمد بن حنبل يوم الجمعة الثاني عشر من ربيع الأول من سنة إحدى وأربعين ومائتين، وله من العمر سبع وسبعون سنة، رحمه الله.

وقد كان في حداثته يختلف إلى مجلس القاضي أبي يوسف، ثم ترك وأقبل على سماع الحديث، فكان أول طلبه للحديث وأول سماعه من مشايخه في سنة سبع وثمانين ومائة، وقد بلغ من العمر ست عشر سنة، وأول حجة حجها في سنة سبع وثمانين ومائة، ثم سنة إحدى وتسعين.

وفيها: حج الوليد بن مسلم، ثم سنة ست وتسعين، وجاور في سنة سبع وتسعين، ثم حج في سنة ثمان وتسعين، وجاور إلى سنة تسع وتسعين، سافر إلى عند عبد الرازق إلى اليمن، فكتب عنه هو ويحيى بن معين وإسحق بن راهويه.

قال الإمام أحمد: حججت خمس حجج منها ثلاث راجلا، أنفقت في إحدى هذه الحجج ثلاثين درهما.

قال: وقد ضللت في بعضها الطريق وأنا ماش، فجعلت أقول: يا عباد الله دلوني على الطريق، فلم أزل أقول ذلك حتى وقفت على الطريق، قال: وخرجت إلى الكوفة فكنت في بيت تحت رأسي لبنة، ولو كان عندي تسعون درهما كنت رحلت إلى جرير بن عبد الحميد إلى الري وخرج بعض أصحابنا ولم يمكني الخروج لأنه لم يمكن عندي شيء.

وقال ابن أبي حاتم: عن أبيه، عن حرملة سمعت الشافعي قال: وعدني أحمد بن حنبل أن يقدم على مصر فلم يقدم.

قال ابن أبي حاتم: يشبه أن تكون ذات اليد منعته أن يفي بالعدة، وقد طاف أحمد بن حنبل في البلاد والآفاق وسمع من مشايخ العصر، وكانوا يجلونه ويحترمونه في حال سماعه منهم، وقد سرد شيخنا في تهذيبه أسماء شيوخه مرتبين على حروف المعجم، وكذلك الرواة عنه.

قال البيهقي: بعد أن ذكر جماعة من شيوخ الإمام أحمد: وقد ذكر أحمد بن حنبل في المسند وغيره الرواية عن الشافعي، وأخذ عنه جملة من كلامه في أنساب قريش، وأخذ عنه من الفقه ما هو مشهور، وحين توفي أحمد وجدوا في تركته رسالتي الشافعي القديمة والجديدة.

قلت: قد أفرد ما رواه أحمد عن الشافعي، وهي أحاديث لا تبلغ عشرين حديثا ومن أحسن ما رويناه عن الإمام أحمد، عن الشافعي، عن مالك بن أنس، عن الزهري، عن عبد الرحمن بن كعب بن مالك، عن أبيه قال: قال رسول الله : «نسمة المؤمن طائر تعلق في شجر الجنة يرجعه إلى جسده يوم البعث»

وقد قال الشافعي لأحمد لما اجتمع به في الرحلة الثانية إلى بغداد سنة تسعين ومائة - وعمر أحمد إذ ذاك نيف وثلاثون سنة - قال له: يا أبا عبد الله إذا صح عندكم الحديث فأعلمني به أذهب إليه حجازيا كان أو شاميا أو عراقيا أو يمنيا - يعني لا يقول بقول فقهاء الحجاز الذين لا يقبلون إلا رواية الحجازيين وينزلون أحاديث من سواهم منزلة أحاديث أهل الكتاب -.

وقول الشافعي له هذه المقالة تعظيم لأحمد، وإجلال له، وأنه عنده بهذه المثابة إذا صحح أو ضعف يرجع إليه، وقد كان الإمام أحمد بهذه المثابة عند الأئمة والعلماء، كما سيأتي ثناء الأئمة عليه واعترافهم له بعلو المكانة في العلم والحديث، وقد بعد صيته في زمانه واشتهر اسمه في شبيبته في الآفاق.

ثم حكى البيهقي كلام أحمد في الإيمان وأنه قول وعمل ويزيد وينقص، وكلامه في القرآن كلام الله غير مخلوق، وإنكاره على من يقول: إن لفظه بالقرآن مخلوق يريد به القرآن.

قال: وفيها حكى أبو عمارة وأبو جعفر، أخبرنا أحمد شيخنا السراج، عن أحمد بن حنبل، أنه قال: اللفظ محدث، واستدل بقوله: { مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ } [ق: 18] .

قال: فاللفظ كلام الآدميين.

وروى غيرهما عن أحمد أنه قال: القرآن كيف ما تصرف فيه غير مخلوق، وأما أفعالنا فهي مخلوقة، قلت: وقد قرر البخاري في هذا المعنى في أفعال العباد، وذكره أيضا في الصحيح، واستدل بقوله عليه السلام: «زينوا القرآن بأصواتكم».

ولهذا قال غير واحد من الأئمة: الكلام كلام الباري، والصوت صوت القاري، وقد قرر البيهقي ذلك أيضا.

وروى البيهقي، من طريق إسماعيل بن محمد بن إسماعيل السلمي، عن أحمد، أنه قال: من قال القرآن محدث فهو كافر.

ومن طريق أبي الحسن الميموني، عن أحمد أنه أجاب الجهيمة حين احتجوا عليه بقوله تعالى: { مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ } [الأنبياء: 2] قال: يحتمل أن يكون تنزيله إلينا هو المحدث، لا الذكر نفسه هو المحدث.

وعن حنبل، عن أحمد أنه قال: يحتمل أن يكون ذكر آخر غير القرآن، وهو ذكر رسول الله أو وعظه إياهم.

ثم ذكر البيهقي كلام الإمام أحمد، وفي رؤية الله في الدار الآخرة، واحتج بحديث صهيب في الرؤية، وهي زيادة، وكلامه في نفي التشبيه وترك الخوض في الكلام، والتمسك بما ورد في الكتاب والسنة عن النبي وعن أصحابه.

وروى البيهقي، عن الحاكم، عن أبي عمرو بن السماك، عن حنبل، أن أحمد بن حنبل تأول قول الله تعالى: { وَجَاءَ رَبُّكَ } [الفجر: 22] أنه: جاء ثوابه. ثم قال البيهقي: وهذا إسناد لا غبار عليه.

وقال الإمام أحمد: حدثنا أبو بكر بن عياش، ثنا عاصم، عن زر، عن عبد الله هو ابن مسعود - قال: ما رآه المسلمون حسنا فهو عند الله حسن، وما رأوه سيئا فهو عند الله سيء، وقد رأى الصحابة جميعا أن يستخلفوا أبا بكر رضي الله عنه، إسناد صحيح.

قلت: وهذا الأثر فيه حكاية إجماع عن الصحابة في تقديم الصديق. والأمر كما قاله ابن مسعود، وقد نص على ذلك غير واحد من الأئمة.

وقد قال أحمد حين اجتاز بحمص وقد حمل إلى المأمون في زمن المحنة، ودخل عليه عمرو بن عثمان الحمصي فقال له: ما تقول في الخلافة ؟

فقال: أبو بكر، ثم عمر، ثم عثمان، ثم علي، ومن قدم عليا على عثمان فقد أزرى بأصحاب الشورى، لأنهم قدموا عثمان رضي الله عنه.

ورعه وتقشفه وزهده رحمه الله

روى البيهقي، من طريق المزني، عن الشافعي أنه قال للرشيد: إن اليمن يحتاج إلى قاض.

فقال له: اختر رجلا نوله إياها.

فقال الشافعي لأحمد بن حنبل - وهو يتردد إليه في جملة من يأخذ عنه - ألا تقبل قضاء اليمن؟ فامتنع من ذلك امتناعا شديدا.

وقال للشافعي: إني إنما أختلف إليك لأجل العلم المزهد في الدنيا، فتأمرني أن ألي القضاء؟ ولولا العلم لما أكلمك بعد اليوم. فاستحى الشافعي منه.

وروي أنه كان لا يصلي خلف عمه إسحاق بن حنبل، ولا خلف بنيه، ولا يكلهم أيضا، لأنهم أخذوا جائزة السلطان، ومكث مرة ثلاثة أيام لا يجد ما يأكله حتى بعث إلى بعض أصحابه فاستقرض منه دقيقا، فعرف أهله حاجته إلى الطعام فعجلوا وعجنوا وخبزوا له سريعا فقال: ما هذه العجلة ! كيف خبزتم ؟

فقالوا: وجدنا تنور بيت صالح مسجورا فخبزنا لك فيه، فقال: ارفعوا ولم يأكل، وأمر بسد بابه إلى دار صالح.

قال البيهقي: لأن صالحا أخذ جائزة السلطان، وهو المتوكل على الله.

وقال عبد الله ابنه: مكث أبي بالعسكر عند الخليفة ستة عشر يوما يأكل فيها إلا ربع مد سويقا، يفطر بعد كل ثلاث ليال على سفة منه، حتى رجع إلى بيته، ولم ترجع إليه نفسه إلا بعد ستة أشهر، وقد رأيت موقيه دخلا في حدقتيه.

قال البيهقي: وقد كان الخليفة يبعث إليه المائدة فيها أشياء كثيرة من الأنواع، وكان أحمد لا يتناول منها شيئا.

قال: وبعث المأمون مرة ذهبا يقسم على أصحاب الحديث، فما بقي منهم أحدا إلا أخذ إلا أحمد بن حنبل فإنه أبى.

وقال سليمان الشاذكوني: حضرت أحمد وقد رهن سطلا له عند فامي اليمن، فلما جاءه بفكاكه أخرج له سطلين فقال: خذ متاعك منهما، فاشتبه أيهما له فقال: أنت في حل منه، ومن الفكك، وتركه وذهب.

وحكى ابنه عبد الله قال: كنا في زمن الواثق في ضيق شديد، فيكتب رجل إلى أبي إن عندي أربعة آلاف درهم ورثتها من أبي وليست صدقة ولا زكاة، فإن رأيت أن تقبلها. فامتنع من ذلك، وكرر عليه فأبى، فلما كان بعد حين ذكرنا ذلك فقال أبي: لو كنا قبلناها كانت ذهبت وأكلناها، وعرض عليه بعض التجار عشرة آلاف درهم ربحها من بضاعة جعلها باسمه فأبى أن يقبلها وقال: نحن في كفاية، وجزاك الله عن قصدك خيرا. وعرض عليه تاجر آخر ثلاثة آلاف دينار فامتنع من قبولها وقام وتركه. ونفدت نفقة أحمد وهو في اليمن فعرض عليه شيخه عبد الرزاق ملء كفه دنانير فقال: نحن في كفاية، ولم يقبلها، وسرقت ثيابه وهو في باليمن فجلس في بيته ورد عليه الباب، وفقده أصحابه فجاءوا إليه فسألوه فأخبرهم فعرضوا عليه ذهبا فلم يقبله ولم يأخذ منهم إلا دينارا واحدا ليكتب لهم به، فكتب لهم بالأجر رحمه الله.

وقال أبو داود: كانت مجالس أحمد مجالس الآخرة لا يذكر فيها شيء من أمر الدنيا، وما رأيت أحمد بن حنبل ذكر الدنيا قط.

وروى البيهقي: أن أحمد سئل عن التوكل فقال: هو قطع الاستشراف باليأس من الناس.

فقيل له: هل من حجة على هذا ؟

قال: نعم ! إن إبراهيم لما رمي به في النار في المنجنيق عرض له جبريل فقال: هل لك من حاجة ؟

قال: أما إليك فلا.

قال: فسل من لك إليه حاجة.

فقال: أحب الأمرين ألي أحبهما إليه.

وعن أبي جعفر محمد بن يعقوب الصفار قال: كنا مع أحمد بن حنبل بسر من رأى فقلنا: ادع الله لنا

فقال: اللهم إنك تعلم أنك على أكثر مما نحب فاجعلنا على ما تحب دائما، ثم سكت فقلنا: زدنا !

فقال: اللهم إنا نسألك بالقدرة التي قلت للسموات والأرض { اِئْتِيَا طَوْعا أَوْ كَرْها قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ } [فصلت: 11] .

اللهم وفقنا لمرضاتك، اللهم إنا نعوذ بك من الفقر إلا إليك، ونعوذ بك من الذل إلا لك، اللهم لا تكثر لنا فنطغى، ولا تقل علينا فننسى، وهب لنا من رحمتك وسعة رزقك ما يكون بلاغا لنا في دنيانا، وغنى من فضلك.

قال البيهقي: وفي حكاية أبي الفضل التميمي، عن أحمد وكان يدعو في السجود: اللهم من كان من هذه الأمة على غير الحق وهو يظن أنه على الحق فرده إلى الحق ليكون من أهل الحق.

وكان يقول: اللهم إن قبلت عن عصاة أمة محمد فداء فاجعلني فداء لهم.

وقال صالح بن أحمد: كان أبي لا يدع أحدا يستقي له الماء للوضوء، بل كان يلي ذلك بنفسه، فإذا خرج الدلو ملآن قال: الحمد لله.

فقلت: يا أبة ما الفائدة بذلك ؟

فقال: يا بني أما سمعت قول الله عز وجل: { أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْرا فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِمَاءٍ مَعِينٍ } [الملك: 30] والأخبار عنه في هذا الباب كثيرة جدا، وقد صنف أحمد في الزهد كتابا حافلا عظيما لم يسبق إلى مثله، ولم يلحقه أحد فيه، والمظنون بل المقطوع به أنه كان يأخذ بما أمكنه منه رحمه الله.

وقال إسماعيل بن إسحاق السراج: قال لي أحمد بن حنبل: هل تستطيع أن تريني الحارث المحاسبي إذا جاء منزلك ؟

فقلت: نعم !

وفرحت بذلك، ثم ذهبت إلى الحارث فقلت له: إني أحب أن تحضر الليلة عندي أنت وأصحابك.

فقال: إنهم كثير فأحضر لهم التمر والكسب.

فلما كان بين العشاءين جاؤوا، وكان الإمام أحمد قد سبقهم فجلس في غرفة بحيث يراهم ويسمع كلامهم ولا يرونه، فلما صلوا العشاء الآخرة لم يصلوا بعدها شيئا، بل جاؤوا فجلسوا بين يدي الحارث سكوتا مطرقي الرؤوس، كأنما على رؤوسهم الطير، حتى إذا كان قريبا من نصف الليل سأله رجل مسألة فشرع الحارث يتكلم عليها وعلى ما يتعلق بها من الزهد والورع والوعظ، فجعل هذا يبكي وهذا يئن وهذا يزعق.

قال: فصعدت إلى الإمام أحمد إلى الغرفة فإذا هو يبكي حتى كاد يغشى عليه، ثم لم يزالوا كذلك حتى الصباح، فلما أرادوا الانصراف قلت: كيف رأيت هؤلاء يا أبا عبد الله ؟

فقال: ما رأيت أحدا يتكلم في الزهد مثل هذا الرجل، وما رأيت مثل هؤلاء، ومع هذا فلا أرى لك أن تجتمع بهم.

قال البيهقي: يحتمل أنه كره له صحبتهم لأن الحارث بن أسد، وإن كان زاهدا، فإنه كان عنده شيء من علم الكلام، وكان أحمد يكره ذلك، أو كره له صحبتهم من أجل أنه لا يطيق سلوك طريقتهم وما هم عليه من الزهد والورع.

قلت: بل إنما كره ذلك لأن في كلامهم من التقشف وشدة السلوك التي لم يرد بها الشرع والتدقيق والمحاسبة الدقيقة البليغة ما لم يأت بها أمر، ولهذا لما وقف أبو زرعة الرازي على كتاب الحارث المسمى: بالرعاية، قال: هذا بدعة.

ثم قال للرجل الذي جاء بالكتاب: عليك بما كان عليه مالك والثوري والأوزاعي والليث، ودع عنك هذا فإنه بدعة.

وقال إبراهيم الحربي: سمعت أحمد بن حنبل يقول: إن أحببت أن يدوم الله لك على ما تحب فدم له على ما يحب.

وقال: الصبر على الفقر مرتبة لا ينالها إلا الأكابر.

وقال: الفقر أشرف من الغنى، فإن الصبر عليه مرارة وانزعاجه أعظم حالا من الشكر.

وقال: لا أعدل بفضل الفقر شيئا.

وكان يقول: على العبد أن يقبل الرزق بعد اليأس، ولا يقبله إذا تقدمه طمع أو استشراف.

وكان يحب التقليل من الدنيا لأجل خفة الحساب.

وقال إبراهيم: قال رجل لأحمد: هذا العلم تعلمته لله ؟

فقال له أحمد: هذا شرط شديد ولكن حبب إلي شيء فجمعته.

وفي رواية أنه قال: أما الله فعزيز، ولكن حبب إلى شيء فجمعته.

وروى البيهقي: أن رجلا جاء إلى الإمام أحمد فقال: إن أمي زمنه مقعده منذ عشرين سنة، وقد بعثتني إليك لتدعو لها.

فكأنه غضب من ذلك، وقال: نحن أحوج أن تدعو هي لنا من أن ندعو لها.

ثم دعا الله عز وجل لها.

فرجع الرجل إلى أمه فدق الباب، فخرجت إليه على رجليها وقالت: قد وهبني الله العافية.

وروي أن سائلا سأل فأعطاه الإمام أحمد قطعة فقام رجل إلى السائل فقال: هبني هذه القطعة حتى أعطيك عوضها، ما تساوي درهما.

فأبى فرقاه إلى خمسين درهما وهو يأبى وقال: إني أرجو من بركتها ما ترجوه أنت من بركتها.

ثم قال البيهقي رحمه الله:

باب ذكر ما جاء في محنة أبي عبد الله أحمد بن حنبل

في أيام المأمون، ثم المعتصم، ثم الواثق بسبب القرآن العظيم، وما أصابه من الحبس الطويل، والضرب الشديد، والتهديد بالقتل بسوء العذاب وأليم العقاب، وقلة مبالاته بما كان منهم في ذلك إليه، وصبره عليه وتمسكه بما كان عليه من الدين القويم والصراط المستقيم.

وكان أحمد عالما بما ورد بمثل حاله من الآيات المتلوة، والأخبار المأثورة، وبلغه ما أوصى به في المنام واليقظة فرضي وسلم إيمانا واحتسابا، وفاز بخير الدنيا ونعيم الآخرة، وهيأه الله بما آتاه من ذلك لبلوغ أعلى منازل أهل البلاء في الله من أوليائه، وألحق به محببيه فيما نال من كرامة الله تعالى إن شاء الله من غير بليه، وبالله التوفيق والعصمة.

قال الله تعالى: بسم الله الرحمن الرحيم { الم * أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ } [العنكبوت: 1 - 3] .

وقال الله تعالى: { وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ } [لقمان: 17] .

في سواها معنى ما كتبنا.

وقد روى الإمام أحمد الممتحن في مسنده قائلا فيه: حدثنا محمد بن جعفر، عن شعبة، عن عاصم بن بهدلة، سمعت مصعب بن سعد، يحدث عن سعد، قال: سألت رسول الله : أي الناس أشد بلاء ؟

فقال: «الأنبياء، ثم الأمثل فالأمثل، يبتلي الله الرجل على حسب دينه، فإن كان رقيق الدين ابتلي على حسب ذلك، وإن كان صلب الدين ابتلي على حسب ذلك، وما زال البلاء بالرجل حتى يمشي على الأرض وما عليه خطيئة».

وقد روى مسلم في صحيحه قال: حدثنا عبد الوهاب الثقفي، ثنا أيوب، عن أبي قلابة، عن أنس، قال: قال رسول الله : «ثلاثة من كن فيه فقد وجد حلاوة الإيمان: من كان الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله، وأن يقذف في النار أحب إليه من أن يرجع إلى الكفر بعد إذ أنقذه الله منه». أخرجاه في الصحيحين.

وقال أبو القاسم البغوي: حدثنا أحمد بن حنبل، ثنا أبو المغيرة، ثنا صفوان بن عمر السكسكي، ثنا عمرو بن قيس السكوني، ثنا عاصم بن حميد، قال: سمعت معاذ بن جبل، يقول: إنكم لم تروا إلا بلاء وفتنة، ولن يزداد الأمر إلا شدة، ولا الأنفس إلا شحا.

وبه قال معاذ: لن تروا من الأئمة إلا غلطة، ولن تروا أمرا يهولكم ويشتد عليكم إلا حضر بعده ما هو أشد منه.

قال البغوي: سمعت أحمد، يقول: اللهم رضنا.

وروى البيهقي، عن الربيع، قال: بعثني الشافعي بكتاب من مصر إلى أحمد بن حنبل، فأتيته وقد انفتل من صلاة الفجر فدفعت إليه الكتاب فقال: أقرأته ؟

فقلت: لا !

فأخذه فقرأه فدمعت عيناه، فقلت: يا أبا عبد الله ! وما فيه ؟

فقال: يذكر أنه رأى رسول الله في المنام فقال: «اكتب إلى أبي عبد الله أحمد بن حنبل وأقرأ عليه السلام مني وقل له: إنك ستمتحن وتدعى إلى القول بخلق القرآن فلا تجبهم، ويرفع الله لك علما إلى يوم القيامة».

قال الربيع: فقلت: حلاوة البشارة.

فخلع قميصه الذي يلي جلده فأعطانيه، فلما رجعت إلى الشافعي أخبرته فقال: إني لست أفجعك فيه، ولكن بله بالماء وأعطينيه حتى أتبرك به.

ملخص الفتنة والمحنة من كلام أئمة السنة أثابهم الله الجنة

قد ذكرنا فيما تقدم أن المأمون كان قد استحوذ عليه جماعة من المعتزلة فأزاغوه عن طريق الحق إلى الباطل، وزينوا له القول بخلق القرآن ونفي الصفات عن الله عز وجل.

قال البيهقي: ولم يكن في الخلفاء قبله من بني أمية وبني العباس خليفة إلا على مذهب السلف ومنهاجهم، فلما ولي هو الخلافة اجتمع به هؤلاء فحملوه على ذلك وزينوا له، واتفق خروجه إلى طرسوس لغزو الروم فكتب إلى نائبه ببغداد إسحاق بن إبراهيم بن مصعب يأمره أن يدعو الناس إلى القول بخلق القرآن، واتفق له ذلك آخر عمره قبل موته بشهور من سنة ثماني عشرة ومائتين.

فلما وصل الكتاب كما ذكرنا استدعى جماعة من أئمة الحديث فدعاهم إلى ذلك فامتنعوا، فتهددهم بالضرب وقطع الأرزاق فأجاب أكثرهم مكرهين، واستمر على الامتناع من ذلك الإمام أحمد بن حنبل، ومحمد بن نوح الجنديسابوري، فحملا على بعير وسيرا إلى الخليفة عن أمره بذلك، وهما مقيدان متعادلان في محمل على بعير واحد، فلما كانا ببلاد الرحبة جاءهما رجل من الأعراب من عبادهم يقال له: جابر بن عامر، فسلم على الإمام أحمد وقال له: يا هذا ! إنك وافد الناس فلا تكن شؤما عليهم، وإنك رأس الناس اليوم فإياك أن تجيبهم إلى ما يدعونك إليه فيجيبوا، فتحمل أوزارهم يوم القيامة، وإن كنت تحب الله فاصبر على ما أنت فيه، فإنه ما بينك وبين الجنة إلا أن تقتل، وإنك إن لم تقتل تمت، وإن عشت عشت حميدا.

قال أحمد: وكان كلامه مما قوَّى عزمي على ما أنا فيه من الامتناع من ذلك الذي يدعونني إليه.

فلما اقتربا من جيش الخليفة ونزلوا دونه بمرحلة جاء خادم وهو يمسح دموعه بطرف ثوبه ويقول: يعزُّ عليَّ أبا عبد الله أن المأمون قد سل سيفا لم يسله قبل ذلك، وأنه يقسم بقرابته من رسول الله لئن لم تجبه إلى القول بخلق القرآن ليقتلنك بذلك السيف.

قال: فجثى الإمام أحمد على ركبتيه ورمق بطرفه إلى السماء وقال: سيدي غرَّ حلمك هذا الفاجر حتى تجرأ على أولياءك بالضرب والقتل، اللهم فإن لم يكن القرآن كلامك غير مخلوق فاكفنا مؤنته.

قال: فجاءهم الصريخ بموت المأمون في الثلث الأخير من الليل.

قال أحمد: ففرحنا، ثم جاء الخبر بأن المعتصم قد ولي الخلافة، وقد انضم إليه أحمد بن أبي دؤاد، وأن الأمر شديد، فردونا إلى بغداد في سفينة مع بعض الأسارى، ونالني منهم أذىً كثير.

وكان في رجليه القيود، ومات صاحبه محمد بن نوح في الطريق وصلى عليه أحمد، فلما رجع أحمد إلى بغداد دخلها في رمضان، فأودع في السجن نحوا من ثمانية وعشرين شهرا، وقيل: نيفا وثلاثين شهرا، ثم أخرج إلى الضرب بين يدي المعتصم.

وقد كان أحمد وهو في السجن هو الذي يصلي في أهل السجن والقيود في رجليه.

ذكر ضربه رضي الله عنه بين يدي المعتصم

لما أحضره المعتصم من السجن زاد في قيوده، قال أحمد: فلم أستطع أن أمشي بها فربطتها في التكة وحملتها بيدي، ثم جاؤني بدابة فحملت عليها فكدت أن أسقط على وجهي من ثقل القيود، وليس معي أحد يمسكني، فسلم الله حتى جئنا دار المعتصم، فأدخلت في بيت وأغلق عليَّ وليس عندي سراج، فأردت الوضوء فمددت يدي فإذا إناء فيه ماء فتوضأت منه، ثم قمت ولا أعرف القبلة، فلما أصبحت إذ أنا على القبلة و لله الحمد.

ثم دعيت فأدخلت على المعتصم، فلما نظر إلي وعنده ابن أبي دؤاد قال: أليس قد زعمتم أنه حدث السن وهذا شيخ مكهل ؟

فلما دنوت منه وسلمت قال لي: ادنه، فلم يزل يدنيني حتى قربت منه، ثم قال: اجلس ! فجلست وقد أثقلني الحديد، فمكثت ساعة ثم قلت: يا أمير المؤمنين إلى م دعا إليه ابن عمك رسول الله ؟

قال: إلى شهادة أن لا إله إلا الله.

قلت: فإني أشهد أن لا إله إلا الله.

قال: ثم ذكرت له حديث ابن عباس في وفد عبد القيس ثم قلت: فهذا الذي دعا إليه رسول الله .

قال: ثم تكلم ابن أبي دؤاد بكلام لم أفهمه، وذلك أني لم أتفقه كلامه، ثم قال المعتصم: لولا أنك كنت في يد من قبلي لم أتعرض إليك.

ثم قال: يا عبد الرحمن ! ألم آمرك أن ترفع المحنة ؟

قال أحمد: فقلت: الله أكبر، هذا فرج المسلمين.

ثم قال ناظره: يا عبد الرحمن، كلمه.

فقال لي عبد الرحمن: ما تقول في القرآن؟ فلم أجبه.

فقال المعتصم: أجبه.

فقلت: ما تقول في العلم؟ فسكت.

فقلت: القرآن من علم الله، ومن زعم أن علم الله مخلوق فقد كفر بالله. فسكت.

فقالوا فيما بينهم: يا أمير المؤمنين ! كفَّرك وكفَّرنا. فلم يلتفت إلى ذلك.

فقال عبد الرحمن: كان الله ولا قرآن.

فقلت: كان الله ولا علم؟ فسكت.

فجعلوا يتكلمون من ههنا وههنا، فقلت: يا أمير المؤمنين ! أعطوني شيئا من كتاب الله أو سنة رسوله حتى أقول به.

فقال ابن أبي دؤاد: وأنت لا تقول إلا بهذا وهذا ؟

فقلت: وهل يقوم الإسلام إلا بهما.

وجرت مناظرات طويلة، واحتجوا عليه بقوله: { مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ } [الأنبياء: 2] .

وبقوله: { اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ } [الرعد: 16] .

وأجاب بما حاصله أنه عام مخصوص بقوله: { تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا } [الأحقاف: 25] .

فقال ابن أبي دؤاد: هو والله يا أمير المؤمنين ضالٌ مضلٌ مبتدعٌ، وهنا قضاتك والفقهاء فسلهم.

فقال لهم: ما تقولون ؟

فأجابوا بمثل ما قال ابن أبي دؤاد، ثم أحضروه في اليوم الثاني وناظروه أيضا، ثم في اليوم الثالث، وفي ذلك كله يعلو صوته عليهم، وتغلب حجته حججهم.

قال: فإذا سكتوا فتح الكلام عليهم ابن أبي دؤاد، وكان من أجهلهم بالعلم والكلام، وقد تنوعت بهم المسائل في المجادلة ولا علم لهم بالنقل، فجعلوا ينكرون الآثار ويردون الاحتجاج بها، وسمعت منهم مقالات لم أكن أظن أن أحدا يقولها، وقد تكلم معي ابن غوث بكلام طويل ذكر فيه الجسم وغيره بما لا فائدة فيه، فقلت: لا أدري ما تقول، إلا أني أعلم أن الله أحد صمد، وليس كمثله شيء، فسكت عني.

وقد أوردت لهم حديث الرؤية في الدار الآخرة، فحاولوا أن يضعفوا إسناده ويلفقوا عن بعض المحدثين كلاما يتسلقون به إلى الطعن فيه، وهيهات، وأنى لهم التناوش من مكان بعيد ؟

وفي غبون ذلك كله يتلطف به الخليفة ويقول: يا أحمد ! أجبني إلى هذا حتى أجعلك من خاصتي وممن يطأ بساطي.

فأقول: يا أمير المؤمنين ! يأتوني بآية من كتاب الله أو سنة عن رسول الله حتى أجيبهم إليها.

واحتج أحمد عليهم حين أنكروا الآثار بقوله تعالى: { يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئا } [مريم: 42] .

وبقوله: { وكلم الله موسى تكليما } [النساء: 164] .

وبقوله: { إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي } [طه: 14] .

وبقوله: { إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ } [النحل: 40] .

ونحو ذلك من الآيات. فلما لم يقم لهم معه حجة عدلوا إلى استعمال جاه الخليفة، فقالوا: يا أمير المؤمنين ! هذا كافر ضال مضل.

وقال له إسحاق بن إبراهيم نائب بغداد: يا أمير المؤمنين ! ليس من تدبير الخلافة أن تخلي سبيله ويغلب خليفتين.

فعند ذلك حمي واشتد غضبه، وكان ألينهم عريكة، وهو يظن أنهم على شيء.

قال أحمد: فعند ذلك قال لي: لعنك الله، طمعت فيك أن تجيبني فلم تجبني.

ثم قال: خذوه واخلعوه واسحبوه.

قال أحمد: فأخذت وسحبت وخلعت وجيء بالعاقبين والسياط وأنا أنظر، وكان معي شعرات من شعر النبي مصرورة في ثوبي، فجردوني منه وصرت بين العقابين.

فقلت: يا أمير المؤمنين ! الله الله، إن رسول الله قال: «لا يحل دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله إلا بإحدى ثلاث». وتلوت الحديث.

وأن رسول الله قال: «أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله، فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم»: فبم تستحل دمي، ولم آت شيئا من هذا؟ يا أمير المؤمنين ! اذكر وقوفك بين الله كوقوفي بين يديك، فكأنه أمسك.

ثم يزالوا يقولون له: يا أمير المؤمنين ! إنه ضال مضل كافر.

فأمر بي فقمت بين العقابين وجيء بكرسي فأقمت عليه، وأمرني بعضهم أن آخذ بيدي بأي الخشبتين فلم أفهم، فتخلعت يداي وجيء بالضرابين ومعهم السياط فجعل أحدهم يضربني سوطين ويقول له - يعني المعتصم -: شد قطع الله يديك.

ويجيء الآخر فيضربني سوطين، ثم الآخر كذلك فضربني أسواطا فأغمي عليَّ وذهب عقلي مرارا، فإذا سكن الضرب يعود عليَّ عقلي، وقام المعتصم إلي يدعوني إلى قولهم فلم أجبه، وجعلوا يقولون: ويحك ! الخليفة على رأسك، فلم أقبل وأعادوا الضرب ثم عاد إلي فلم أجبه، فأعادوا الضرب ثم جاء إلي الثالثة، فدعاني فلم أعقل ما قال من شدة الضرب، ثم أعادوا الضرب فذهب عقلي فلم أحس بالضرب وأرعبه ذلك من أمري وأمر بي فأطلقت ولم أشعر إلا وأنا في حجرة من بيت، وقد أطلقت الأقياد من رجلي، وكان ذلك في اليوم الخامس والعشرين من رمضان من سنة إحدى وعشرين ومائتين، ثم أمر الخليفة بإطلاقه إلى أهله، وكان جملة ما ضرب نيفا وثلاثين سوطا، وقيل: ثمانين سوطا، لكن كان ضربا مبرحا شديدا جدا.

وقد كان الإمام أحمد رجلا رقيقا أسمر اللون، كثير التواضع، رحمه الله.

ولما حمل من دار الخلافة إلى دار إسحاق بن إبراهيم وهو صائم، أتوه بسويق ليفطر من الضعف فامتنع من ذلك وأتم صومه، وحين حضرت صلاة الظهر صلى معهم فقال له ابن سماعة القاضي: وصليت في دمك !

فقال له أحمد: قد صلى عمر وجرحه يثعب دما، فسكت.

ويروى أنه لما أقيم ليضرب انقطعت تكة سراويله فخشي أن يسقط سراويله فتكشف عورته فحرك شفتيه فدعا لله فعاد سراويله كما كان.

ويروى أنه قال: يا غياث المستغيثين، يا إله العالمين، إن كنت تعلم أني قائم لك بحق فلا تهتك لي عورة.

ولما رجع إلى منزله جاءه الجرايحي فقطع لحما ميتا من جسده وجعل يداويه والنائب في كل وقت يسأل عنه، وذلك أن المعتصم ندم على ما كان منه إلى أحمد ندما كثيرا، وجعل يسأل النائب عنه والنائب يستعلم خبره، فلما عوفي فرح المعتصم والمسلمون بذلك، ولما شفاه الله بالعافية بقي مدة وإبهاماه يؤذيهما البرد، وجعل كل من آذاه في حل إلا أهل البدعة، وكان يتلو في ذلك قوله تعالى: { وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا } [النور: 22] الآية.

ويقول: ماذا ينفعك أن يعذب أخوك المسلم بسببك؟ وقد قال تعالى: «فمن عفا وأصلح فأجره على الله إنه لا يحب الظالمين» [الشورى: 40] .

وينادي المنادي يوم القيامة: «ليقم من أجره على الله فلا يقوم إلا من عفا»، وفي صحيح مسلم، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله : «ثلاث أقسم عليهن: ما نقص مال من صدقة، وما زاد الله عبدا بعفو إلا عزا، ومن تواضع لله رفعه الله».

وكان الذين ثبتوا على الفتنة فلم يجيبوا بالكلية أربعة: أحمد بن حنبل وهو رئيسهم، ومحمد بن نوح بن ميمون الجنديسابوري ومات في الطريق، ونعيم بن حماد الخزاعي، وقد مات في السجن، وأبو يعقوب البويطي، وقد مات في سجن الواثق على القول بخلق القرآن، وكان مثقلا بالحديد، وأحمد بن نصر الخزاعي وقد ذكرنا كيفية مقتله.

ثناء الأئمة على الإمام أحمد بن حنبل

قال البخاري: لما ضرب أحمد بن حنبل كنا بالبصرة فسمعت أبا الوليد الطيالسي يقول: لو كان أحمد في بني إسرائيل لكان أحدوثة.

وقال إسماعيل بن الخليل: لو كان أحمد في بني إسرائيل لكان نبيا.

وقال المزني: أحمد بن حنبل يوم المحنة، وأبو بكر يوم الردة، وعمر يوم السقيفة، وعثمان يوم الدار، وعلي يوم الجمل وصفين.

وقال حرملة: سمعت الشافعي يقول: خرجت من العراق فما تركت رجلا أفضل ولا أعلم ولا أورع ولا أتقى من أحمد بن حنبل.

وقال شيخ أحمد يحيى بن سعيد القطان: ما قدم على بغداد أحد أحب إلي من أحمد بن حنبل.

وقال قتيبة: مات سفيان الثوري ومات الورع، ومات الشافعي وماتت السنن، ويموت أحمد بن حنبل وتظهر البدع.

وقال: إن أحمد بن حنبل قام في الأمة مقام النبوة.

قال البيهقي: - يعني في صبره على ما أصابه من الأذى في ذات الله -.

وقال أبو عمر بن النحاس - وذكر أحمد يوما - فقال: رحمه الله في الدين ما كان أبصره، وعن الدنيا ما كان أصبره، وفي الزهد ما كان أخبره، وبالصالحين ما كان ألحقه، وبالماضين ما كان أشبهه، عرضت عليه الدنيا فأباها، والبدع فنفاها.

وقال بشر الحافي بعد ما ضرب أحمد بن حنبل: أدخل أحمد الكير فخرج ذهبا أحمر.

وقال الميموني: قال لي علي بن المديني بعد ما امتحن أحمد، وقيل: قبل أن يمتحن: يا ميمون ما قام أحد في الإسلام ما قام أحمد بن حنبل.

فعجبت من هذا عجبا شديدا وذهبت إلى أبي عبيد القاسم بن سلام فحكيت له مقالة علي بن المديني فقال: صدق ! إن أبا بكر وجد يوم الردة أنصارا وأعوانا، وإن أحمد بن حنبل لم يكن له أنصار ولا أعوان.

ثم أخذ أبو عبيد يطري أحمد ويقول: لست أعلم في الإسلام مثله.

وقال إسحاق بن راهويه: أحمد حجة بين الله وبين عبيده في أرضه.

وقال علي بن المديني: إذا ابتليت بشيء فأفتاني أحمد بن حنبل لم أبال إذا لقيت ربي كيف كان.

وقال أيضا: إني اتخذت أحمد حجة فيما بيني وبين الله عز وجل، ثم قال: ومن يقوى على ما يقوى عليه أبو عبد الله ؟

وقال يحيى بن معين: كان في أحمد بن حنبل خصال ما رأيتها في عالم قط: كان محدثا، وكان حافظا، وكان عالما، وكان ورعا، وكان زاهدا، وكان عاقلا.

وقال يحيى بن معين أيضا: أراد الناس منا أن نكون مثل أحمد بن حنبل، والله ما نقوى أن نكون مثله، ولا نطيق سلوك طريقه.

وقال الذهلي: اتخذت أحمد حجة فيما بيني وبين الله.

وقال هلال بن المعلى الرقي: منَّ الله على هذه الأمة بأربعة:

بالشافعي فهم الأحاديث وفسرها، وبين مجملها من مفصلها، والخاص والعام، والناسخ والمنسوخ. وبأبي عبيد بين غريبها. وبيحيى بن معين نفى الكذب عن الأحاديث. وبأحمد بن حنبل ثبت في المحنة، لولا هؤلاء الأربعة لهلك الناس.

وقال أبو بكر بن أبي داود: أحمد بن حنبل مقدم على كل من يحمل بيده قلما ومحبرة - يعني: في عصره -.

وقال أبو بكر محمد بن محمد بن رجاء: ما رأيت مثل أحمد بن حنبل، ولا رأيت من رأى مثله.

وقال أبو زرعة الرازي: ما أعرف في أصحابنا أسود الرأس أفقه منه.

وروى البيهقي، عن الحاكم، عن يحيى بن محمد العنبري قال: أنشدنا أبو عبد الله البوسندي في أحمد بن حنبل رحمه الله:

إن ابن حنبل إن سألت إمامنا * وبه الأئمة في الأنام تمسكوا

خلف النبي محمدا بعد الألى * خلفوا الخلائف بعده واستهلكوا

حذو الشراك على الشراك وإنما * يحذو المثال مثاله المستمسك

وقد ثبت في الصحيح عن رسول الله أنه قال: «لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك».

وروى البيهقي، عن أبي سعيد الماليني، عن ابن عدي، عن أبي القاسم البغوي، عن أبي الربيع الزهراني، عن حماد بن زيد، عن بقية بن الوليد، عن معاذ بن رفاعة، عن إبراهيم بن عبد الرحمن العذري. ح. قال البغوي: وحدثني زياد بن أيوب، حدثنا مبشر، عن معاذ، عن إبراهيم بن عبد الرحمن العذري. ح. قال البغوي: قال: قال رسول الله : «يحمل هذا العلم من كل خلف عدو له ينفون عنه تحريف الغالين وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين».

وهذا الحديث مرسل، وإسناده فيه ضعف، والعجب أن ابن عبد البر صححه، واحتج به على عدالة كل من حمل العلم، والإمام أحمد من أئمة أهل العلم، رحمه الله، وأكرم مثواه.

ما كان من أمر الإمام أحمد بعد المحنة

حين خرج من دار الخلافة صار إلى منزله فدووي حتى برأ، ولله الحمد، ولزم منزله فلا يخرج منه إلى جمعة ولا جماعة، وامتنع من التحديث، وكانت غلته من ملك له في كل شهر سبعة عشر درهما ينفقها على عياله ويتقنع بذلك، رحمه الله، صابرا محتسبا.

ولم يزل كذلك مدة خلافة المعتصم، وكذلك في أيام ابنه محمد الواثق، فلما ولي المتوكل على الله الخلافة استبشر الناس بولايته، فإنه كان محبا للسنة وأهلها، ورفع المحنة عن الناس، وكتب إلى الآفاق: لا يتكلم أحد في القول بخلق القرآن، ثم كتب إلى نائبه ببغداد - وهو: إسحاق بن إبراهيم - أن يبعث بأحمد بن حنبل إليه، فاستدعى إسحاق بالإمام أحمد إليه فأكرمه وعظمه، لما يعلم من إعظام الخليفة له وإجلاله إياه، وسأله فيما بينه وبينه عن القرآن فقال له أحمد: سؤالك هذا سؤال تعنت، أو استرشاد ؟

فقال: بل سؤال استرشاد.

فقال: هو كلام الله منزل غير مخلوق، فسكن إلى قوله في ذلك، ثم جهزه إلى الخليفة إلى سر من رأى ثم سبقه إليه. وبلغه أن أحمد اجتاز بابنه محمد بن إسحاق فلم يأته ولم يسلم عليه، فغضب إسحاق بن إبراهيم من ذلك وشكاه إلى الخليفة فقال المتوكل: يرد إن كان قد وطئ بساطي، فرجع الإمام أحمد من الطريق إلى بغداد.

وقد كان الإمام أحمد كارها لمجيئه إليهم، ولكن لم يهن ذلك على كثير من الناس، وإنما كان رجوعه عن قول إسحاق بن إبراهيم الذي كان هو السبب في ضربه.

ثم إن رجلا من المبتدعة يقال له: ابن البلخي وشى إلى الخليفة شيئا فقال: إن رجلا من العلويين قد أوى إلى منزل أحمد بن حنبل وهو يبايع له الناس في الباطن. فأمر الخليفة نائب بغداد أن يكبس منزل أحمد من الليل، فلم يشعروا إلا والمشاعل قد أحاطت بالدار من كل جانب حتى من فوق الأسطحة، فوجدوا الإمام أحمد جالسا في داره مع عياله فسألوه عما ذكر عنه.

فقال: ليس عندي من هذا علم، وليس من هذا شيء، ولا هذا من نيتي، وإني لأرى طاعة أمير المؤمنين في السر والعلانية، وفي عسري ويسري، ومنشطي ومكرهي، وأثره عليَّ، وإني لأدعو الله له بالتسديد والتوفيق، في الليل والنهار، في كلام كثير. ففتشوا منزله حتى مكان الكتب وبيوت النساء والأسطحة وغيرها، فلم يروا شيئا.

فلما بلغ المتوكل ذلك وعلم براءته مما نسب إليه، علم أنهم يكذبون عليه كثيرا. فبعث إليه يعقوب بن إبراهيم المعروف بقوصرة - وهو: أحد الحجبة - بعشرة آلاف درهم من الخليفة.

وقال: هو يقرأ عليك السلام ويقول: استنفق هذه، فامتنع من قبولها.

فقال: يا أبا عبد الله ! إني أخشى من ردك إياها أن يقع وحشة بينك وبينه، والمصلحة لك قبولها، فوضعها عنده ثم ذهب، فلما كان من آخر الليل استدعى أحمد أهله وبني عمه وعياله وقال: لم أنم هذه الليلة من هذا المال، فجلسوا وكتبوا أسماء جماعة من المحتاجين من أهل الحديث وغيرهم من أهل بغداد والبصرة، ثم أصبح ففرقها في الناس ما بين الخمسين إلى المائة والمائتين، فلم يبق منها درهما وأعطى منها لأبي أيوب وأبي سعيد الأشج، وتصدق بالكيس الذي كانت فيه، ولم يعط منها لأهله شيئا وهم في غاية الفقر والجهد، وجاء بنوا ابنه فقال: أعطني درهما. فنظر أحمد إلى ابنه صالح فتناول صالح قطعة فأعطاها الصبي فسكت أحمد.

وبلغ الخليفة أنه تصدق بالجائزة كلها حتى كيسها، فقال علي بن الجهم: يا أمير المؤمنين إنه قد قبلها منك، وتصدق بها عنك، وماذا يصنع أحمد بالمال؟ إنما يكفيه رغيف.

فقال: صدقت.

فلما مات إسحاق بن إبراهيم، وابنه محمد ولم يكن بينهما إلا القريب، وتولى نيابة بغداد عبد الله بن إسحاق كتب المتوكل إليه أن يحمل إليه الإمام أحمد، فقال لأحمد في ذلك، فقال: إني شيخ كبير وضعيف، فرد الجواب على الخليفة بذلك، فأرسل يعزم عليه لتأتيني، وكتب إلى أحمد: إني أحب أن آنس بقربك، وبالنظر إليك، ويحصل لي بركة دعائك.

فسار إليه الإمام أحمد - وهو عليل - في بنيه، وبعض أهله، فلما قارب العسكر تلقاه وصيف الخادم في موكب عظيم، فسلم وصيف على الإمام أحمد فرد السلام.

وقال له وصيف: قد أمكنك الله من عدوك ابن أبي داؤد، فلم يرد عليه جوابا، وجعل ابنه يدعو الله للخليفة ولوصيف، فلما وصلوا إلى العسكر بسر من رأى، أنزل أحمد في دار إيتاخ، فلما علم بذلك ارتحل منها، وأمر أن يستكري له دار غيرها، وكان رؤوس الأمراء في كل يوم يحضرون عنده ويبلغونه عن الخليفة السلام، ولا يدخلون عليه حتى يقلعون ما عليهم من الزينة والسلاح.

وبعث إليه الخليفة بالمفارش الوطيئة وغيرها من الآلات التي تليق بتلك الدار العظيمة، وأراد منه الخليفة أن يقيم هناك ليحدث الناس عوضا عما فاتهم منه في أيام المحنة وما بعدها من السنين المتطاولة، فاعتذر إليه بأنه عليل وأسنانه تتحرك، وهو ضعيف.

وكان الخليفة يبعث إليه في كل يوم مائدة فيها ألوان الأطعمة، والفاكهة والثلج، مما يقاوم مائة وعشرين درهما في كل يوم، والخليفة يحسب أنه يأكل من ذلك، ولم يكن أحمد يأكل شيئا من ذلك بالكلية، بل كان صائما يطوي، فمكث ثمانية أيام لم يستطعم بطعام، ومع ذلك هو مريض، ثم أقسم عليه ولده حتى شرب قليلا من السويق بعد ثمانية أيام.

وجاء عبيد الله بن يحيى بن خاقان بمال جزيل من الخليفة جائزة له فامتنع من قبوله، فألح عليه الأمير فلم يقبل.

فأخذها الأمير ففرقها على بنيه وأهله، وقال: إنه لا يمكن ردها على الخليفة.

وكتب الخليفة لأهله وأولاده في كل شهر بأربعة آلاف درهم، فمانع أبو عبد الله الخليفة، فقال الخليفة: لا بد من ذلك، وما هذا إلا لولدك.

فأمسك أبو عبد الله عن ممانعته، ثم أخذ يلوم أهله وعمه، وقال لهم: إنما بقي لنا أيام قلائل، وكأننا قد نزل بنا الموت فإما إلى جنة وإما إلى نار، فنخرج من الدنيا وبطوننا قد أخذت من مال هؤلاء. في كلام طويل يعظهم به.

فاحتجوا عليه بالحديث الصحيح: «ما جاءك من هذا المال، وأنت غير سائل ولا مستشرف فخذه». وأن ابن عمر وابن عباس قبلا جوائز السلطان.

فقال: وما هذا وذاك سواء، ولو أعلم أن هذا المال أخذ من حقه وليس بظلم ولا جور لم أبال.

ولما استمر ضعفه جعل المتوكل يبعث إليه بابن ماسويه المتطبب لينظر في مرضه، فرجع إليه فقال: يا أمير المؤمنين ! إن أحمد ليس به علة في بدنه، وإنما علته من قلة الطعام وكثرة الصيام والعبادة.

فسكت المتوكل ثم سألت أم الخليفة منه أن ترى الإمام أحمد، فبعث المتوكل إليه يسأله أن يجتمع بابنه المعتز ويدعو له، وليكن في حجره.

فتمنع من ذلك، ثم أجاب إليه رجاء أن يعجل برجوعه إلى أهله ببغداد.

وبعث الخليفة إليه بخلعة سنية ومركوب من مراكبه، فامتنع من ركوبه لأنه عليه ميثرة نمور فجيء ببغل لبعض التجار فركبه وجاء إلى مجلس المعتز، وقد جلس الخليفة وأمه في ناحية في ذلك المجلس، من وراء ستر رقيق، فلما جاء أحمد قال: سلام عليكم.

وجلس ولم يسلم عليه بالإمرة، فقالت أم الخليفة: الله الله يا بني ! في هذا الرجل ترده إلى أهله، فإن هذا ليس ممن يريد ما أنتم فيه.

وحين رأى المتوكل أحمد قال لأمه: يا أمه قد تأنست الدار.

وجاء الخادم ومعه خلعة سنية مبطنة وثوب وقلنسوة وطيلسان فألبسها أحمد بيده، وأحمد لا يتحرك بالكلية.

قال الإمام أحمد: ولما جلست إلى المعتز قال مؤدبه: أصلح الله الأمير، هذا الذي أمر الخليفة أن يكون مؤدبك !

فقال: إن علمني شيئا تعلمته.

قال أحمد: فتعجبت من ذكائه في صغره لأنه كان صغيرا جدا، فخرج أحمد عنهم وهو يستغفر الله ويستعيذ بالله من مقته وغضبه.

ثم بعد أيام أذن له الخليفة بالانصراف وهيأ له حزاقة فلم يقبل أن ينحدر فيها، بل ركب في زورق فدخل بغداد مختفيا، وأمر أن تباع تلك الخلعة، وأن يتصدق بثمنها على الفقراء والمساكين.

وجعل أياما يتألم من اجتماعه بهم، ويقول: سلمت منهم طول عمري، ثم ابتليت بهم في آخره.

وكان قد جاع عندهم جوعا عظيما كثيرا حتى كاد أن يقتله الجوع.

وقد قال بعض الأمراء للمتوكل: إن أحمد لا يأكل لك طعاما، ولا يشرب لك شرابا، ولا يجلس على فرشك، ويحرم ما تشربه.

فقال: والله لو نشر المعتصم وكلمني في أحمد ما قبلت منه.

وجعلت رسل الخليفة تفد إليه في كل يوم تستعلم أخباره وكيف حاله، وجعل يستفتيه في أموال ابن أبي داؤد فلا يجيب بشيء، ثم إن المتوكل أخرج ابن أبي داؤد من سر من رأى إلى بغداد بعد أن أشهد عليه نفسه ببيع ضياعه وأملاكه وأخذ أمواله كلها.

قال عبد الله بن أحمد: وحين رجع أبي من سامرا وجدنا عينيه قد دخلتا في موقيه، وما رجعت إليه نفسه إلا بعد ستة أشهر، وامتنع أن يدخل بيت قرابته أو يدخل بيتا هم فيه أو ينتفع بشيء مما هم فيه لأجل قبولهم أموال السلطان.

وكان مسير أحمد إلى المتوكل في سنة سبع وثلاثين ومائتين، ثم مكث إلى سنة وفاته، وكل يوم إلا ويسأل عنه المتوكل ويوفد إليه في أمور يشاوره فيها ويستشيره في أشياء تقع له.

ولما قدم المتوكل بغداد بعث إليه ابن خاقان ومعه ألف دينار ليفرقها على من يرى، فامتنع من قبولها وتفرقتها، وقال: إن أمير المؤمنين قد أعفاني مما أكره، فردها.

وكتب رجل رقعة إلى المتوكل يقول: يا أمير المؤمنين ! إن أحمد يشتم آباءك ويرميهم بالزندقة.

فكتب فيها المتوكل: أما المأمون فإنه خلط فسلط الناس على نفسه، وأما أبي المعتصم فإنه كان رجل حرب ولم يكن له بصر بالكلام، وأما أخي الواثق فإنه استحق ما قيل فيه.

ثم أمر أن يضرب الرجل لذي رفع إليه الرقعة مائتي سوط، فأخذه عبد الله بن إسحق بن إبراهيم فضربه خمسمائة سوط.

فقال له الخليفة: لم ضربته خمسمائة سوط ؟

فقال: مائتين لطاعتك، ومائتين لطاعة الله، ومائة لكونه قذف هذا الشيخ الرجل الصالح أحمد بن حنبل.

وقد كتب الخليفة إلى أحمد يسأله عن القول في القرآن سؤال استرشاد واستفادة لا سؤال تعنت ولا امتحان ولا عناد، فكتب إليه أحمد رحمه الله رسالة حسنة فيها آثار عن الصحابة وغيرهم، وأحاديث مرفوعة.

وقد أوردها ابنه صالح في المحنة التي ساقها، وهي مروية عنه وقد نقلها غير واحد من الحفاظ.

وفاة الإمام أحمد بن حنبل

قال ابنه صالح: كان مرضه في أول ربيع الأول من سنة إحدى وأربعين ومائتين، ودخلت عليه يوم الأربعاء ثاني ربيع الأول وهو محموم يتنفس الصعداء وهو ضعيف، فقلت: يا أبت ! ما كان غداؤك ؟

فقال: ماء الباقلا.

ثم إن صالحا ذكر كثرة مجيء الناس من الأكابر وعموم الناس لعيادته، وكثرة حرج الناس عليه، وكان معه خريقة فيها قطيعات ينفق على نفسه منها، وقد أمر ولده عبد الله أن يطالب سكان ملكه وأن يكفر عنه كفارة يمين، فأخذ شيئا من الأجرة فاشترى تمرا وكفَّر عن أبيه، وفضل من ذلك ثلاثة دراهم.

وكتب الإمام أحمد وصيته: بسم الله الرحمن الرحيم، هذا ما أوصى به أحمد بن حنبل، أوصى أنه يشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدا عبده ورسوله، أرسله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون.

وأوصى من أطاعه من أهله وقرابته أن يعبدوا الله في العابدين، وأن يحمدوه في الحامدين، وأن ينصحوا لجماعة المسلمين.

وأوصي أني قد رضيت بالله ربا، وبالإسلام دينا، وبمحمد نبيا.

وأوصي لعبد الله بن محمد المعروف ببوران عليَّ نحوا من خمسين دينارا وهو مصدق فيها، فيقضي ماله عليَّ من غلة الدار إن شاء الله، فإذا استوفى أعطى ولد صالح كل ذكر وأنثى عشرة دراهم.

ثم استدعى بالصبيان من ورثته فجعل يدعو لهم، وكان قد ولد له صبي قبل موته بخمسين يوما فسماه: سعيدا، وكان له ولد آخر اسمه: محمد قد مشى حين مرض فدعاه فالتزمه وقبله ثم قال: ما كنت أصنع بالولد على كبر السن ؟

فقيل له: ذرية تكون بعدك يدعون لك.

قال: وذاك إن حصل.

وجعل يحمد الله تعالى، وقد بلغه في مرضه عن طاوس أنه كان يكره أنين المريض فترك الأنين فلم يئن حتى كانت الليلة التي توفي في صبيحتها أنَّ، وكانت ليلة الجمعة الثاني عشر من ربيع الأول من هذه السنة، فأنَّ حين اشتد به الوجع.

وقد روي عن ابنه عبد الله، ويروي عن صالح أيضا أنه قال: حين احتضر أبي جعل يكثر أن يقول: لا بعد لا بعد.

فقلت: يا أبت ! ما هذه اللفظة التي تلهج بها في هذه الساعة ؟

فقال: يا بني ! إن إبليس واقف في زواية البيت وهو عاض على إصبعه وهو يقول: فتَّني يا أحمد ؟

فأقول: لا بعد، لا بعد - يعني: لا يفوته حتى تخرج نفسه من جسده على التوحيد - كما جاء في بعض الأحاديث قال إبليس: يا رب وعزتك وجلالك ما أزال أغويهم ما دامت أرواحهم في أجسادهم.

فقال الله: وعزتي وجلالي ولا أزال أغفر لهم ما استغفروني.

وأحسن ما كان من أمره أنه أشار إلى أهله أن يوضؤه فجعلوا يوضؤنه وهو يشير إليهم أن خللوا أصابعي وهو يذكر الله عز وجل في جميع ذلك، فلما أكملوا وضوءه توفي رحمه الله ورضي عنه.

وقد كانت وفاته يوم الجمعة حين مضى منه نحو من ساعتين، فاجتمع الناس في الشوارع، وبعث محمد بن طاهر حاجبه ومعه غلمان ومعهم مناديل فيها أكفان، وأرسل يقول: هذا نيابة عن الخليفة، فإنه لو كان حاضرا لبعث بهذا.

فأرسل أولاده يقولون: إن أمير المؤمنين كان قد أعفاه في حياته مما يكره، وأبوا أن يكفنوه بتلك الأكفان.

وأتي بثوب كان قد غزلته جاريته فكفنوه، واشتروا معه عوز لفافة وحنوطا واشتروا له راوية ماء، وامتنعوا أن يغسلوه بماء بيوتهم لأنه كان قد هجر بيوتهم فلا يأكل منها ولا يستعير من أمتعتهم شيئا، وكان لا يزال متغضبا عليهم لأنهم كانوا يتناولون ما رتب لهم على بيت المال، وهو في كل شهر أربعة آلاف درهم، وكان لهم عيال كثيرة وهم فقراء.

وحضر غسله نحو من مائة من بيت الخلافة من بني هاشم فجعلوا يقبلون بين عينيه ويدعون له ويترحمون عليه رحمه الله.

وخرج الناس بنعشه والخلائق حوله من الرجال والنساء ما لم يعلم عددهم إلا الله، ونائب البلد محمد بن عبد الله بن طاهر واقف في جملة الناس، ثم تقدم فعزَّى أولاد الإمام أحمد فيه، وكان هو الذي أمَّ الناس في الصلاة عليه، وقد أعاد جماعة الصلاة عليه عند القبر، وعلى القبر بعد أن دفن من أجل ذلك، ولم يستقر في قبره رحمه الله إلا بعد صلاة العصر وذلك لكثرة الخلق.

وقد روى البيهقي وغير واحد: أن الأمير محمد بن طاهر أمر بحزر الناس فوجدوا ألف ألف وثلثمائة ألف.

وفي رواية: وسبعمائة ألف سوى من كان في السفن.

وقال ابن أبي حاتم: سمعت أبا زرعة يقول: بلغني أن المتوكل أمر أن يمسح الموضع الذي وقف الناس فيه حيث صلوا على الإمام أحمد بن حنبل فبلغ مقاسه ألفي ألف وخمسمائة ألف.

قال البيهقي، عن الحاكم، سمعت أبا بكر أحمد بن كامل القاضي، يقول: سمعت محمد بن يحيى الزنجاني، سمعت عبد الوهاب الوراق، يقول: ما بلغنا أن جمعا في الجاهلية ولا في الإسلام اجتمعوا في جنازة أكثر من الجمع الذي اجتمع على جنازة أحمد بن حنبل.

فقال عبد الرحمن بن أبي حاتم: سمعت أبي، يقول: حدثني محمد بن العباس المكي، سمعت الوركاني - جار أحمد بن حنبل - قال: أسلم يوم مات أحمد عشرون ألفا من اليهود والنصارى والمجوس.

وفي بعض النسخ: أسلم عشرة آلاف بدل عشرين ألفا، فالله أعلم.

وقال الدارقطني: سمعت أبا سهل بن زياد، سمعت عبد الله بن أحمد، يقول: سمعت أبي، يقول: قولوا لأهل البدع بيننا وبينكم الجنائز حين تمر.

وقد صدق الله قول أحمد في هذا فإنه كان إمام السنة في زمانه، وعيون مخالفيه أحمد بن أبي داؤد وهو قاضي قضاة الدنيا لم يحتفل أحد بموته، ولم يلتفت إليه، ولما مات ما شيعه إلا قليل من أعوان السلطان.

وكذلك الحارث بن أسد المحاسبي مع زهده وورعه وتنقيره ومحاسبته نفسه في خطراته وحركاته، لم يصل عليه إلا ثلاثة أو أربعة من الناس.

وكذلك بشر بن غياث المريسي لم يصل عليه إلا طائفة يسيرة جدا فلله الأمر من قبل ومن بعد.

وقد روى البيهقي، عن حجاج بن محمد الشاعر، أنه قال: ما كنت أحب أن أقتل في سبيل الله ولم أصل على الإمام أحمد.

وروي عن رجل من أهل العلم أنه قال يوم دفن أحمد: دفن اليوم سادس خمسة وهم: أبو بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، وعمر بن عبد العزيز، وأحمد.

وكان عمره يوم مات سبعا وسبعين سنة وأياما أقل من شهر، رحمه الله تعالى.

ذكر ما رئي له من المنامات

وقد صح في الحديث لم يبق من النبوة إلا المبشرات.

وفي رواية: إلا الرؤيا الصالحة يراها المؤمن أو ترى له.

وروى البيهقي، عن الحاكم، سمعت علي بن حمشاد، سمعت جعفر بن محمد بن الحسين، سمعت سلمة بن شبيب، يقول: كنا عند أحمد بن حنبل وجاءه شيخ ومعه عكازة فسلم وجلس فقال: من منكم أحمد بن حنبل ؟

فقال أحمد: أنا ما حاجتك ؟

فقال: ضربت إليك من أربعمائة فرسخ أريت الخضر في المنام فقال لي: سر إلى أحمد بن حنبل وسل عنه وقل له: إنَّ ساكن العرش والملائكة راضون بما صبرت نفسك لله عز وجل.

وعن أبي عبد الله محمد بن خزيمة الإسكندراني، قال: لما مات أحمد بن حنبل اغتممت غما شديدا فرأيته في المنام وهو يتبختر في مشيته فقلت له: يا أبا عبد الله ! أي مشية هذه ؟

فقال: مشية الخدام في دار السلام.

فقلت: ما فعل الله بك ؟

فقال: أغفر لي وتوجني وألبسني نعلين من ذهب، وقال لي: يا أحمد ! هذا بقولك القرآن كلامي، ثم قال لي: يا أحمد ! ادعني بتلك الدعوات التي بلغتك عن سفيان الثوري، وكنت تدعو بهن في دار الدنيا، فقلت: يا رب كل شيء بقدرتك على كل شيء اغفر لي كل شيء، حتى لا تسألني عن شيء.

فقال لي: يا أحمد ! هذه الجنة قم فادخلها.

فدخلت فإذا أنا بسفيان الثوري وله جناحان أخضران يطير بهما من نخلة إلى نخلة، ومن شجرة إلى شجرة وهو يقول: { الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ } [الزمر: 74] .

قال فقلت له: ما فعل بشر الحافي ؟

فقال: بخ بخ، ومن مثل بشر؟ تركته بين يدي الجليل وبين يديه مائدة من الطعام والجليل مقبل عليه وهو يقول: كل يا من لم يأكل، واشرب يا من لم يشرب، وانعم يا من لم ينعم. أو كما قال.

وقال أبو محمد بن أبي حاتم: عن محمد بن مسلم بن وارة، قال: لما مات أبو زرعة رأيته في المنام فقلت له: ما فعل الله بك ؟

فقال: قال الجبار: ألحقوه بأبي عبد الله، وأبي عبد الله، وأبي عبد الله، مالك والشافعي وأحمد بن حنبل.

وقال أحمد بن خرّزاد الأنطاكي: رأيت في المنام كأن القيامة قد قامت، وقد برز الرب جل جلاله، لفصل القضاء، وكأن مناديا ينادي من تحت العرش: أدخلوا أبا عبد الله، وأبا عبد الله، وأبا عبد الله الجنة.

قال: فقلت لملك إلى جنبي: من هؤلاء ؟

فقال: مالك، والثوري، والشافعي، وأحمد بن حنبل.

وروى أبو بكر بن أبي خيثمة، عن يحيى بن أيوب المقدسي قال: رأيت رسول الله في النوم وهو نائم وعليه ثوب مغطى به وأحمد بن حنبل ويحيى بن معين يذبان عنه.

وقد تقدم في ترجمة أحمد بن أبي دؤاد، عن يحيى الجلاء أنه رأى كأن أحمد بن حنبل في حلقة بالمسجد الجامع، وأحمد بن أبي داؤد في حلقة أخرى، وكأن رسول الله واقف بين الحلقتين وهو يتلو هذه الآية: { فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلَاءِ } [الأنعام: 89] ويشير إلى حلقة ابن أبي داؤد { فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْما لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ } [الأنعام: 89] ويشير إلى أحمد بن حنبل وأصحابه.

ثم دخلت سنة ثنتين وأربعين ومائتين

فيها كانت زلازل هائلة في البلاد، فمنها ما كان بمدينة قومس، تهدمت منها دور كثيرة، ومات من أهلها نحو من خمسة وأربعين ألفا وستة وتسعين نفسا.

وكانت باليمن وخراسان وفارس والشام وغيرها من البلاد زلازل منكرة.

وفيها: أغارت الروم على بلاد الجزيرة فانتبهوا شيئا كثيرا وأسروا نحوا من عشرة آلاف من الذراري، فإنا لله وإنا إليه راجعون.

وفيها: حج بالناس عبد الصمد بن موسى بن إبراهيم الإمام بن محمد بن على نائب مكة.

وفيها: توفي من الأعيان الحسن بن علي بن الجعد قاضي مدينة المنصور.

أبو حسان الزيادي

قاضي الشرقية، واسمه: الحسن بن عثمان بن حماد بن حسان بن عبد الرحمن بن يزيد، البغدادي.

سمع: الوليد بن مسلم، ووكيع بن الجراح، والواقدي، وخلقا سواهم.

وعنه: أبو بكر بن أبي الدنيا، وعلي بن عبد الله الفرغاني، الحافظ المعروف: بطفل، وجماعة.

ترجمه ابن عساكر في تاريخه، قال: وليس هو من سلالة زياد بن أبيه، إنما تزوج بعض أجداده بأم ولد لزياد، فقيل له: الزيادي.

ثم أورد من حديثه بسنده عن جابر: «الحلال بين والحرام بين». الحديث.

وروي عن الخطيب، أنه قال: كان من العلماء الأفاضل من أهل المعرفة والثقة والأمانة، ولي قضاء الشرقية في خلافة المتوكل، وله تاريخ على السنين، وله حديث كثير.

وقال غيره: كان صالحا ديِّنا، قد عمل الكتب، وكانت له معرفة جيدة بأيام الناس، وله تاريخ حسن، وكان كريما مفضالا.

وقد ذكر ابن عساكر عنه أشياء حسنة منها: أنه أنفذ إليه بعض أصحابه يذكر له أنه قد أصابته ضائقة في عيد من الأعياد ولم يكن عنده غير مائة دينار فأرسلها بصرتها إليه.

ثم سأل ذلك الرجل صاحب له أيضا وشكا إليه مثلما شكا إلى الزيادي، فأرسل بها الآخر إلى ذلك الآخر، وكتب أبو حسان إلى ذلك الرجل الأخير الذي وصلت إليه أخيرا يستقرض منه شيئا، وهو لا يشعر بالأمر فأرسل إليه بالمائة في صرتها، فلما رآها تعجب من أمرها، وركب إليه يسأله عن ذلك فذكر أن فلانا أرسلها إليه، فاجتمعوا الثلاثة واقتسموا المائة الدينار، رحمهم الله وجزاهم عن مروءتهم خيرا.

وفيها: توفي أبو مصعب الزهري أحد رواة الموطأ عن مالك، وعبد الله بن ذكوان أحد القراء المشاهير، ومحمد بن أسلم الطوسي، ومحمد بن رمح، ومحمد بن عبد الله بن عمار الموصلي أحد أئمة الجرح والتعديل، والقاضي يحيى بن أكثم.

ثم دخلت سنة ثلاث وأربعين ومائتين

في ذي القعدة منها: توجه المتوكل على الله من العراق قاصدا مدينة دمشق ليجعلها له دار إقامة، ومحلة إمامة فأدركه عيد الأضحى بها، وتأسف أهل العراق على ذهاب الخليفة من بين أظهرهم، فقال في ذلك يزيد بن محمد المهبلي:

أظنُّ الشام تشمت بالعراق * إذا عزم الإمام على انطلاق

فإن يدع العراق وساكنيها * فقد تبلى المليحة بالطلاق

وحج بالناس فيها الذي حج بهم في التي قبلها وهو نائب مكة.

وفيها: توفي من الأعيان كما قال ابن جرير:

إبراهيم بن العباس

متولي ديوان الضياع.

قلت: هو: إبراهيم بن العباس بن محمد بن صول الصولي الشاعر الكاتب، وهو عم محمد بن يحيى الصولي، وكان جده صول بكر ملك جرجان وكان أصله منها، ثم تمجس ثم أسلم على يدي يزيد بن المهلب بن أبي صفرة، ولإبراهيم هذا ديوان شعر ذكره ابن خلكان واستجاد من شعره أشياء منها قوله:

ولربَّ نازلة يضيق بها الفتى * ذرعا وعند الله منها مخرج

ضاقت فلما استحكمت حلقاتها * فرجت وكنت أظنها لا تفرج

ومنها قوله:

كنت السواد لمقلتي * فبكى عليك الناظر

من شاء بعدك فليمت * فعليك كنت أحاذر

ومن ذلك ما كتب به إلى وزير المعتصم محمد بن عبد الملك بن الزيات:

وكنت أخي بإخاء الزمان * فلما ثنى صرت حربا عوانا

وكنت أذم إليك الزمان * فأصبحت منك أذم الزمانا

وكنت أعدك للنائبات * فها أنا أطلب منك الأمانا

وله أيضا:

لا يمنعنك خفض العيش في دعة * نزوع نفس إلى أهل وأوطان

تلقى بكل بلاد إن حللت بها * أهلا بأهل وأوطانا بأوطان

كانت وفاته بمنتصف شعبان من هذه السنة بسر من رأى.

والحسن بن مخلد بن الجراح خليفة إبراهيم بن شعبان.

قال: ومات هاشم بن فيجور في ذي الحجة.

قلت: وفيها توفي: أحمد بن سعيد الرباطي، والحارث بن أسد المحاسبي أحد أئمة الصوفية، وحرملة بن يحيى التجيبي صاحب الشافعي، وعبد الله بن معاوية الجمحي، ومحمد بن عمر العدني، وهارون بن عبد الله الحماني، وهناد بن السري.

ثم دخلت سنة أربع وأربعين ومائتين

في صفر منها: دخل الخليفة المتوكل إلى مدينة دمشق في أبهة الخلافة وكان يوما مشهودا، وكان عازما على الإقامة بها، وأمر بنقل دواوين الملك إليها، وأمر ببناء القصور بها، فبنيت بطريق داريا، فأقام بها مدة، ثم إنه استوخمها، ورأى أن هواءها بارد ندي وماءها ثقيل بالنسبة إلى هواء العراق ومائه، ورأى الهواء بها يتحرك من بعد الزوال في زمن الصيف فلا يزال في اشتداد وغبار إلى قريب من ثلث الليل، ورأى كثرة البراغيث بها، ودخل عليه فصل الشتاء فرأى من كثرة الأمطار والثلوج أمرا عجيبا، وغلت الأسعار وهو بها لكثرة الخلق الذين معه، وانقطعت الأجلاب بسبب كثرة الأمطار والثلوج.

فضجر منها، ثم جهز بغا إلى بلاد الروم، ثم رجع من آخر السنة إلى سامرا بعد ما أقام بدمشق شهرين وعشرة أيام، ففرح به أهل بغداد فرحا شديدا.

وفيها: أتى المتوكل بالحربة التي كانت تحمل بين يدي رسول الله ففرح بها فرحا شديدا، وقد كانت تحمل بين يدي رسول الله عليه وسلم يوم العيد وغيره، وقد كانت للنجاشي فوهبها للزبير بن العوام، فوهبها الزبير للنبي ، ثم إن المتوكل أمر صاحب الشرطة أن يحملها بين يديه كما كانت تحمل بين يدي رسول الله .

وفيها: غضب المتوكل على الطبيب بختيشوع ونفاه وأخذ ماله.

وحج بالناس فيها عبد الصمد المتقدم ذكره قبلها.

واتفق في هذه السنة يوم عيد الأضحى وخميس فطر اليهود وشعانين النصارى، وهذا عجيب غريب.

وفيها توفي: أحمد بن منيع، وإسحاق بن موسى الخطمي، وحميد بن مسعدة، وعبد الحميد بن بيان، وعلي بن حجر، والوزير محمد بن عبد الملك الزيات، ويعقوب بن السكيت صاحب إصلاح المنطق.

ثم دخلت سنة خمس وأربعين ومائتين

فيها: أمر المتوكل ببناء مدينة الماحوزة، وحفر نهرها فيقال: إنه أنفق على بنائها وبناء قصر الخلافة بها الذي يقال له: اللؤلؤة، ألفي ألف دينار.

وفيها: وقعت زلازل كثيرة في بلاد شتى، فمن ذلك بمدينة إنطاكية سقط فيها ألف وخمسمائة دار، وانهدم من سورها نيف وتسعون برجا، وسمعت من كوى دورها أصوات مزعجة جدا فخرجوا من منازلهم سراعا يهرعون، وسقط الجبل الذي إلى جانبها الذي يقال له: الأقرع فساخ في البحر، فهاج البحر عند ذلك وارتفع دخان أسود مظلم منتن، وغار نهر على فرسخ منها، فلا يدرى أين ذهب.

ذكر أبو جعفر بن جرير قال: وسمع فيها أهل تنيس ضجة دائمة طويلة مات منها خلق كثير.

قال: وزلزلت فيها الرها والرقة وحران ورأس العين وحمص ودمشق وطرسوس والمصيصة، وأذنة وسواحل الشام، ورجفت اللاذقية بأهلها فما بقي منها منزل إلا انهدم، وما بقي من أهلها إلا اليسير، وذهبت جبلة بأهلها.

وفيها: غارت مشاش - عين - مكة حتى بلغ ثمن القربة بمكة ثمانين درهما.

ثم أرسل المتوكل فأنفق عليها مالا جزيلا حتى خرجت.

وفيها: مات إسحاق بن أبي إسرائيل، وسوار بن عبد الله القاضي، وهلال الرازي.

وفيها: هلك نجاح بن سلمة، وقد كان على ديوان التوقيع، وقد كان حظيا عند المتوكل، ثم جرت له حكاية أفضت به إلى أن أخذ المتوكل أمواله وأملاكه وحواصله، وقد أورد قصته ابن جرير مطولة.

وفيها توفي: أحمد بن عبدة الضبي، وأبو الحيس القواس مقري مكة، وأحمد بن نصر النيسابوري، وإسحاق بن أبي إسرائيل، وإسماعيل بن موسى بن بنت السدي، وذو النور المصري، وعبد الرحمن بن إبراهيم دحيم، ومحمد بن رافع، وهشام بن عمار، وأبو تراب النخشبي.

وابن الراوندي

الزنديق، وهو: أحمد بن يحيى بن إسحاق، أبو الحسين بن الراوندي، نسبة إلى قرية بلاد قاشان ثم نشأ ببغداد، كان بها يصف الكتب في الزندقة، وكانت لديه فضيلة، ولكنه استعملها فيما يضره ولا ينفعه في الدنيا ولا في الآخرة.

وقد ذكرنا له ترجمة مطولة حسب ما ذكرها ابن الجوزي في سنة ثمان وتسعين ومائتين، وإنما ذكرناه ههنا لأن ابن خلكان ذكر أنه توفي في هذه السنة، وقد تلبس عليه ولم يحرجه بل مدحه فقال: هو: أبو الحسين أحمد بن إسحاق، الراوندي العالم المشهور، له مقالة في علم الكلام، وكان من الفضلاء في عصره، وله من الكتب المصنفة نحو مائة وأربعة عشر كتابا، منها: فضيحة المعتزلة، وكتاب التاج، وكتاب الزمردة، وكتاب القصب، وغير ذلك.

وله محاسن ومحاضرات مع جماعة من علماء الكلام، وقد انفرد بمذاهب نقلها عنه أهل الكتاب.

توفي سنة خمس وأربعين ومائتين، برحبة مالك بن طوق التغلبي، وقيل: ببغداد.

نقلت ذلك عن ابن خلكان بحروفه وهو غلط، وإنما أرخ ابن الجوزي وفاته في سنة ثمان وتسعين ومائتين، كما سيأتي له هناك ترجمة مطولة.

ذو النون المصري

ثوبان بن إبراهيم، وقيل: ابن الفيض بن إبراهيم، أبو الفيض المصري، أحد مشايخ المشهورين، وقد ترجمه ابن خلكان في الوفيات، وذكر شيئا من فضائله وأحواله، وأرخ وفاته في هذه السنة، وقيل: في التي بعدها، وقيل: في سنة ثمان وأربعين ومائتين، فالله اعلم.

وهو معدود في جملة من روى الموطأ عن مالك، وذكره ابن يونس في تاريخ مصر، وقال: كان أبوه نوبيا، وقيل: إنه كان من أهل أخميم، وكان حكيما فصيحا.

وقيل: وسئل عن سبب توبته، فذكر أنه رأى قبَّرة عمياء، نزلت من وكرها فانشقت لها الأرض عن سكرجتين من ذهب وفضة في إحداهما سمسم، وفي الأخرى ماء، فأكلت من هذه، وشربت من هذه، وقد شكى عليه مرة إلى المتوكل فأحضره من مصر إلى العراق، فلما دخل عليه وعظه فأبكاه، فرده مكرما، فكان بعد ذلك إذا ذكر عند المتوكل يثني عليه.

ثم دخلت سنة ست وأربعين ومائتين

في يوم عاشوراء منها: دخل المتوكل الماحوزة، فنزل بقصر الخلافة فيها، واستدعى بالقراء، ثم بالمطربين، وأعطى وأطلق، وكان يوما مشهودا.

وفي صفر منها: وقع الفداء بين المسلمين والروم، ففدي من المسلمين نحو من أربعة آلاف أسير.

وفي شعبان منها: أمطرت بغداد مطرا عظيما استمر نحوا من أحد وعشرين يوما، ووقع بأرض بلخ مطر ماؤه دم عبيط.

وفيها: حج بالناس محمد بن سليمان الزينبي.

وحج فيها من الأعيان: محمد بن عبد الله بن طاهر، وولي أمر الموسم.

وممن توفى فيها من الأعيان:

أحمد بن إبراهيم الدورقي، والحسين بن أبي الحسن المروزي، وأبو عمر الدوري أحد القراء المشاهير، ومحمد بن مصفى الحمصي.

دعبل بن علي

ابن رزين بن سليمان الخزاعي، مولاهم الشاعر الماجن، البليغ في المدح، وفي الهجاء أكثر.

حضر يوما عند سهل بن هارون الكاتب، وكان بخيلا فاستدعى بغدائه فإذا ديك في قصعة، وإذا هو قاس لا يقطعه سكين إلا بشدة، ولا يعمل فيه ضرس.

فلما حضر بين يديه فقد رأسه، فقال للطباخ: ويلك ! ماذا صنعت؟ أين رأسه ؟

قال: ظننت أنك لا تأكله فألقيته.

فقال: ويحك ! والله إني لأعيب على من يلقي الرجلين، فكيف بالرأس وفيه الحواس الأربع، ومنه يصوت، وبه فضل عينيه، وبهما يضرب المثل، وعرفه وبه يتبرك، وعظمه أهنى العظام، فإن كنت رغبت عن أكله فأحضره.

فقال: لا أدري أين هو ؟

فقال: بل أنا أدري هو في بطنك قاتلك الله.

فهجاه بأبيات ذكر فيها بخله ومسكه.

أحمد بن أبي الحواري

واسمه: عبد الله بن ميمون بن عياش بن الحارث، أبو الحسن، التغلبي الغطفاني، أحد العلماء الزهاد المشهورين، والعباد المذكورين، والأبرار المشكورين، ذوي الأحوال الصالحة، والكرامات الواضحة، أصله من الكوفة، وسكن دمشق وتخرج بأبي سليمان الداراني رحمهما الله.

وروى الحديث عن: سفيان بن عيينة، ووكيع، وأبي أسامة، وخلق.

وعنه: أبو داود، وابن ماجه، وأبو حاتم، وأبو زرعة الدمشقي، وأبو زرعة الرازي، وخلق كثير.

وقد ذكره أبو حاتم فأثنى عليه.

وقال يحيى بن معين: إني لأظن أن الله يسقي أهل الشام به.

وكان الجنيد بن محمد يقول: هو ريحانة الشام.

وروى ابن عساكر أنه كان قد عاهد أبا سليمان الدارني ألا يغضبه ولا يخالفه، فجاءه يوما وهو يحدث الناس فقال: يا سيدي ! هذا قد سجروا التنور فماذا تأمر ؟

فلم يرد عليه أبو سليمان لشغله بالناس، ثم أعادها أحمد ثانية، وقال له في الثالثة: اذهب فاقعد فيه، ثم اشتغل أبو سليمان في حديث الناس ثم استفاق فقال لمن حضره: إني قلت لأحمد اذهب فاقعد في التنور، وإني أحسب أن يكون قد فعل ذلك فقوموا بنا إليه، فذهبوا فوجدوه جالسا في التنور، ولم يحترق منه شيء ولا شعرة واحدة.

وروي أيضا أن أحمد بن أبي الحواري أصبح ذات يوم وقد ولد له ولد ولا يملك شيئا يصلح به الولد، فقال لخادمه: اذهب فاستدن لنا وزنة من دقيق، فبينما هو في ذلك إذ جاءه رجل بمائتي درهم فوضعها بين يديه، فدخل عليه رجل في تلك الساعة فقال: يا أحمد ! إنه قد ولد لي الليلة ولد ولا أملك شيئا فرفع طرفه إلى السماء وقال: يا مولاي هكذا بالعجلة.

ثم قال للرجل: خذ هذه الدراهم فأعطاه إياها كلها، ولم يبق منها شيئا، واستدان لأهله دقيقا.

وروى عنه خادمه أنه خرج للثغر لأجل الرباط، فما زالت الهدايا تفد إليه من بركة النهار إلى الزوال، ثم فرقها كلها إلى وقت الغروب، ثم قال لي: كن هكذا لا ترد على الله شيئا، ولا تدَّخر عنه شيئا.

ولما جاءت المحنة في زمن المأمون إلى دمشق بخلق القرآن عيَّن فيها أحمد بن أبي الحواري، وهشام بن عمار، وسليمان بن عبد الرحمن، وعبد الله بن ذكوان، فكلهم أجابوا إلا ابن أبي الحواري فحبس بدار الحجارة، ثم هدد فأجاب تورية مكرها، ثم أطلق رحمه الله.

وقد قام ليلة بالثغر يكرر هذه الآية: { إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } [الفاتحة: 5] حتى أصبح وقد ألقى كتبه في البحر وقال: نعم الدليل كنت لي على الله وإليه، ولكن الاشتغال بالدليل بعد معرفة المدلول عليه والوصول إليه محال.

ومن كلامه: لا دليل على الله سواه، وإنما يطلب العلم لآداب الخدمة.

وقال: من عرف الدنيا زهد فيها، ومن عرف الآخرة رغب فيها، ومن عرف الله آثر رضاه.

وقال: من نظر إلى الدنيا نظر إرادة وحب لها أخرج الله نور اليقين والزهد من قلبه.

وقال: قلت لأبي سليمان في ابتداء أمري: أوصني.

فقال: أتستوص أنت ؟

فقلت: نعم ! إن شاء الله تعالى.

فقال: خالف نفسك في كل مراداتها فإنها الأمارة بالسوء، وإياك أن تحقر إخوانك المسلمين، واجعل طاعة الله دثارا، والخوف منه شعارا، والإخلاص له زادا، والصدق حسنة، واقبل مني هذه الكلمة الواحدة ولا تفارقها ولا تغفل عنها: من استحيى من الله في كل أوقاته وأحواله وأفعاله، بلَّغه الله إلى مقام الأولياء من عباده.

قال: فجعلت هذه الكلمات أمامي في كل وقت أذكرها وأطالب نفسي بها.

والصحيح: أنه توفي في هذه السنة، وقيل: في سنة ثلاثين ومائتين، وقيل: غير ذلك، فالله أعلم.

ثم دخلت سنة سبع وأربعين ومائتين

في شوال منها: كان مقتل الخليفة المتوكل على الله على يد ولده المنتصر، وكان سبب ذلك أنه أمر ابنه عبد الله المعتز الذي هو ولي العهد من بعده أن يخطب بالناس في يوم جمعة، فأداها أداء عظيما بليغا، فبلغ ذلك من المنتصر كل مبلغ، وحنق على أبيه وأخيه، فأحضره أبوه وأهانه، وأمر بضربه في رأسه وصفعه، وصرح بعزله عن ولاية العهد من بعد أخيه، فاشتد أيضا حنقه أكثر مما كان.

فلما كان يوم عيد الفطر خطب المتوكل بالناس وعنده بعض ضعف من علة به، ثم عدل إلى خيام قد ضربت له أربعة أميال في مثلها، فنزل هناك ثم استدعى في يوم ثالث شوال بندمائه على عادته في سمره وحضرته وشربه، ثم تمالأ ولده المنتصر وجماعة من الأمراء على الفتك به، فدخلوا عليه ليلة الأربعاء لأربع خلون من شوال، ويقال: من شعبان من هذه السنة، وهو على السماط فابتدروه بالسيوف فقتلوه، ثم ولوا بعده ولده المنتصر.

ترجمة المتوكل على الله

جعفر بن المعتصم بن الرشيد بن محمد المهدي بن المنصور العباسي، وأم المتوكل أم ولد يقال لها: شجاع، وكانت من سروات النساء سنحا وحزما.

كان مولده بفم الصلح سنة سبع ومائتين، وبويع له بالخلافة بعد أخيه الواثق في يوم الأربعاء لست بقين من ذي الحجة، لسنة ثنتين وثلاثين ومائتين.

وقد روى الخطيب من طريقه، عن يحيى بن أكثم، عن محمد بن عبد الوهاب، عن سفيان، عن الأعمش، عن موسى بن عبد الله بن يزيد، عن عبد الرحمن بن هلال، عن جرير بن عبد الله، عن النبي قال: «من حرم الرفق حرم الخير».

ثم أنشأ المتوكل يقول:

الرفق يمن والأناة سعادة * فاستأن في رفق تلاق نجاحا

لا خير في حزم بغير رويَّة * والشك وهن إن أردت سراحا

وقال ابن عساكر في تاريخه: وحدث عن أبيه المعتصم، ويحيى بن أكثم القاضي.

وروى عنه: علي بن الجهم الشاعر، وهشام بن عمار الدمشقي.

وقدم المتوكل دمشق في خلافته، وبنى بها قصرا بأرض داريا.

وقال يوما لبعضهم: إن الخلفاء تتغضب على الرعية لتطيعها، وإني ألين لهم ليحبوني ويطيعوني.

وقال أحمد بن مروان المالكي: ثنا أحمد بن علي البصري، قال: وجه المتوكل إلى أحمد بن المعذل وغيره من العلماء فجمعهم في داره، ثم خرج عليهم فقام الناس كلهم إليه إلا أحمد بن المعذل.

فقال المتوكل لعبيد الله: إن هذا لا يرى بيعتنا ؟

فقال: يا أمير المؤمنين، بلى ! ولكن في بصره سوء.

فقال أحمد بن المعذل: يا أمير المؤمنين ! ما في بصري سوء، ولكن نزهتك من عذاب الله.

قال النبي : «من أحب أن يتمثل له الرجال قياما فليتبوأ مقعده من النار».

فجاء المتوكل فجلس إلى جنبه.

وروى الخطيب: أن علي بن الجهم دخل على المتوكل وفي يده درتان يقلبهما فأنشده قصيدته التي يقول فيها:

وإذا مررت ببئر عروة فاستقي من مائها *

فأعطاه التي في يمينه، وكانت تساوي مائة ألف.

ثم أنشده:

بسرِّ من رأى أمير * تغرف من بحره البحار

يرجى ويخشى لكل خطب * كأنه جنة ونار

الملك فيه وفي بنيه * ما اختلف الليل والنهار

يداه في الجود ضرتان * عليه كلتاهما تغار

لم تأت منه اليمين شيئا * إلا أتت مثله اليسار

قال: فأعطاه التي في يساره أيضا.

قال الخطيب: وقد رويت هذه الأبيات لعلي بن هارون البحتري في المتوكل.

وروى ابن عساكر، عن علي بن الجهم، قال: وقفت فتحية حظية المتوكل بين يديه وقد كتبت على خدها بالغالية جعفر فتأمل ذلك، ثم أنشأ يقول:

وكاتبة في الخد بالمسك جعفرا * بنفسي تحطُّ المسك من حيث أثرا

لئن أودعت سطرا من المسك خدها * لقد أودعت قلبي من الحب أسطرا

فيا من مناها في السريرة جعفر * سقا الله من سقيا ثناياك جعفرا

ويا من لملوك بملك يمينه * مطيع له فيما أسرَّ وأظهر

قال: ثم أمر المتوكل عربا فغنت به.

وقال الفتح بن خاقان: دخلت يوما على المتوكل فإذا هو مطرق مفكر فقلت: يا أمير المؤمنين ! مالك مفكر؟ فوالله ما على الأرض أطيب منك عيشا، ولا أنعم منك بالا.

قال: بلى ! أطيب مني عيشا رجل له دار واسعة، وزوجة صالحة، ومعيشة حاضرة، لا يعرفنا فنؤذيه، ولا يحتاج إلينا فنزدريه.

وكان المتوكل محببا إلى رعيته، قائما في نصرة أهل السنة، وقد شبهه بعضهم بالصديق في قتله أهل الردة، لأنه نصر الحق ورده عليهم حتى رجعوا إلى الدين، وبعمر بن عبد العزيز حين رد مظالم بني أمية، وقد أظهر السنة بعد البدعة، وأحمد أهل البدع وبدعتهم بعد انتشارها واشتهارها، فرحمه الله.

وقد رآه بعضهم في المنام بعد موته وهو جالس في نور قال: فقلت: المتوكل ؟

قال: المتوكل.

قلت: فما فعل بك ربك ؟

قال: غفر لي.

قلت: بماذا ؟

قال: بقليل من السنة أحييتها.

وروى الخطيب، عن صالح بن أحمد: أنه رأى في منامه ليلة مات المتوكل كأن رجلا يصعد به إلى السماء، وقائلا يقول:

ملك يقاد إلى مليك عادل * متفضل في العفو ليس بجائر

وروى عن عمرو بن شيبان الحلبي قال: رأيت ليلة المتوكل قائلا يقول:

يا نائم العين في أوطان جثمان * أفض دموعك يا عمرو بن شيبان

أما ترى الفئة الأرجاس ما فعلوا * بالهاشمي وبالفتح بن خاقان

وافى إلى الله مظلوما فضجَّ له * أهل السموات من مثنى ووحدان

وسوف يأتيكم من بعده فتن * توقعوها لها شأن من الشان

فابكوا على جعفر وابكوا خليفتكم * فقد بكاه جميع الأنس والجان

قال: فلما أصبحت أخبرت الناس برؤياي، فجاء نعي المتوكل أنه قد قتل في تلك الليلة، قال: ثم رأيته بعد هذا بشهر وهو واقف بين يدي الله عز وجل فقلت: ما فعل بك ربك ؟

فقال: غفر لي.

قلت: بماذا ؟

قال: بقليل من السنة أحييتها.

قلت: فما تصنع ههنا ؟

قال: أنتظر ابني محمدا أخاصمه إلى الله الحليم العظيم الكريم.

وذكرنا قريبا كيفية مقتله، وأنه قتل في ليلة الأربعاء أول الليل لأربع خلت من شوال من هذه السنة - أعني: سنة سبع وأربعين ومائتين - بالمتوكلية وهي الماحوزية.

وصلي عليه يوم الأربعاء، ودفن بالجعفرية وله من العمر أربعون سنة، وكانت مدة خلافته أربع عشرة سنة وعشرة أشهر وثلاثة أيام، وكان أسمر، حسن العينين، نحيف الجسم، خفيف العارضين، أقرب إلى القصر، والله سبحانه أعلم.

خلافة محمد المنتصر بن المتوكل

قد تقدم أنه تمالأ هو وجماعة من الأمراء على قتل أبيه، وحين قتل بويع له بالخلافة في الليل، فلما كان الصباح من يوم الأربعاء رابع شوال أخذت له البيعة من العامة، وبعث إلى أخيه المعتز فأحضره إليه فبايعه المعتز، وقد كان المعتز هو ولي العهد من بعد أبيه، ولكنه أكرهه وخاف فسلم وبايع، فلما أخذت البيعة له كان أول ما تكلم به أنه اتهم الفتح بن خاقان على قتل أبيه، وقتل الفتح أيضا، ثم بعث البيع له إلى الآفاق.

وفي ثاني يوم من خلافته: ولى المظالم لأبي عمرة أحمد بن سعيد، مولى بني هاشم فقال الشاعر:

يا ضيعة الإسلام لماّ ولي * مظالم الناس أبو عمره

صيِّر مأمونا على أمة * وليس مأمونا على بعره

وكانت البيعة له بالمتوكلية، وهي المأحوزة، فأقام بها عشرة أيام، ثم تحول هو وجميع قواده وحشمه منها إلى سامرا.

وفيها: في ذي الحجة أخرج المنتصر عمه علي بن المعتصم من سامرا إلى بغداد، ووكل به.

وحج بالناس محمد بن سليمان الزينبي.

وفيها: توفي من الأعيان:

إبراهيم بن سعيد الجوهري، وسفيان بن وكيع بن الجراح، وسلمة بن شبيب.

أبو عثمان المازني النحوي

واسمه: بكر بن محمد بن عثمان البصري، شيخ النحاة في زمانه.

أخذه عن: أبي عبيدة والأصمعي، وأبي زيد الأنصاري، وغيرهم.

وأخذ عنه: أبو العباس المبرد وأكثر عنه.

وللمازني مصنفات كثيرة في هذا الشأن، وكان شبيها بالفقهاء ورعا زاهدا ثقةً مأمونا.

روى عنه المبرد: أن رجلا من أهل الذمة طلب منه أن يقرأ عليه كتاب سيبويه ويعطيه مائة دينار، فامتنع من ذلك.

فلامه بعض الناس في ذلك فقال: إنما تركت أخذ الأجرة عليه لما فيه من آيات الله تعالى.

فاتفق بعد هذا أن جارية غنت بحضرة الواثق:

أظلوم إن مصابكم رجلا * رد السلام تحية ظلم

فاختلف من بحضرة الواثق في إعراب هذا البيت، وهل يكون رجلا مرفوعا أو منصوبا، وبم نصب؟ أهو اسم أو ماذا ؟

وأصرت الجارية على أن المازني حفظها هذا هكذا.

قال: فأرسل الخليفة إليه، فلما مثل بين يديه قال له: أنت المازني ؟

قال: نعم !

قال: من مازن تميم، أم من مازن ربيعة، أم مازن قيس ؟

فقلت: من مازن ربيعة.

فأخذ يكلمني بلغتي، فقال: باسمك ؟

وهم يقلبون الباء ميما والميم باء، فكرهت أن أقول مكر فقلت: بكر.

فأعجبه إعراضي عن المكر إلى البكر، وعرف ما أردت.

فقال: على م انتصب رجلا ؟

فقلت: لأنه معمول المصدر بمصابكم.

فأخذ اليزيدي يعارضه فعلاه المازني بالحجة، فأطلق له الخليفة ألف دينار، ورده إلى أهله مكرما.

فعوضه الله عن المائة الدينار - لما تركها لله سبحانه ولم يمكن الذمي من قراءة الكتاب لأجل ما فيه من القرآن - ألف دينار عشرة أمثالها.

روى المبرد عنه، قال: أقرأت رجلا كتاب سيبويه إلى آخره، فلما انتهى إلى آخره، قال لي: أما أنت أيها الشيخ فجزاك الله خيرا، وأما أنا فوالله ما فهمت منه حرفا.

توفي المازني في هذه السنة، وقيل: في سنة ثمان وأربعين.

ثم دخلت سنة ثمان وأربعين ومائتين

فيها: أغزى المنتصر وصيفا التركي الصائفة لقتال الروم، وذلك أن ملك الروم قصد بلاد الشام، فعند ذلك جهز المنتصر وصيفا، وجهز معه نفقات وعددا كثيرةً، وأمره إذا فرغ من قتال الروم أن يقيم بالثغر أربع سنين، وكتب له إلى محمد بن عبد الله بن طاهر نائب العراق كتابا عظيما فيه آيات كثيرة في التحريض للناس على القتال والترغيب فيه.

وفي ليلة السبت لسبع بقين من صفر: خلع أبو عبد الله المعتز والمؤيد إبراهيم أنفسهما من الخلافة، وأشهدا عليهما بذلك، وأنهما عاجزان عن الخلافة، والمسلمين في حلٍّ من بيعتهما، وذلك بعد ما تهددهما أخوهما المنتصر وتوعدهما بالقتل إن لم يفعلا ذلك، ومقصوده تولية ابنه عبد الوهاب بإشارة أمراء الأتراك بذلك.

وخطب بذلك على رؤوس الأشهاد بحضرة القواد والقضاة وأعيان الناس والعوام، وكتب بذلك إلى الآفاق ليعلموا بذلك، ويخطبوا له بذلك على المنابر، ويتوالى على محال الكتابة، والله غالب على أمره، فأراد أن يسلبهما الملك، ويجعله في ولده، والأقدار تكذبه وتخالفه، وذلك أنه لم يستكمل بعد قتل أبيه سوى ستة أشهر، ففي أواخر صفر من هذه السنة عرضت له علة كان فيها حتفه، وقد كان المنتصر رأى في منامه كأنه يصعد سلما فبلغ إلى آخر خمس وعشرين درجة.

فقصها على بعض المعبرين فقال: تلي خمسا وعشرين سنة الخلافة، وإذا هي مدة عمره قد استكملها في هذه السنة.

وقال بعضهم: دخلنا عليه يوما فإذا هو يبكي وينتحب شديدا، فسأله بعض أصحابه عن بكائه فقال: رأيت أبي المتوكل في منامي هذا وهو يقول: ويلك يا محمد ! قتلتني وظلمتني وغصبتني خلافتي، والله لا أمتعت بها بعدي إلا أياما يسيرة ثم مصيرك إلى النار.

قال: فما أملك عيني ولا جزعي.

فقال له أصحابه من الغرارين الذين يغرون الناس ويفتنونهم: هذه رؤيا، وهي تصدق وتكذب، قم بنا إلى الشراب ليذهب همك وحزنك.

فأمر بالشراب فأحضر، وجاء ندماؤه فأخذ في الخمر وهو منكسر الهمة، وما زال كذلك مكسورا حتى مات.

وقد اختلفوا في علته التي كان فيها هلاكه، فقيل: داء في رأسه فقطر في أذنه دهن فلما وصل إلى دماغه عوجل بالموت.

وقيل: بل ورمت معدته فانتهى الورم إلى قلبه فمات.

وقيل: بل أصابته ذبحة فاستمرت به عشرة أيام فمات.

وقيل: بل فصده الحجام بمفصد مسموم فمات من يومه.

قال ابن جرير: أخبرني بعض أصحابنا أن هذا الحجام رجع إلى منزله وهو محموم فدعا تلميذا له حتى يفصده فأخذ مبضع أستاذه ففصده به، وهو لا يشعر وأنسى الله سبحانه الحجام، فما ذكر حتى رآه قد فصده به، وتحكم فيه السم، فأوصى عند ذلك ومات من يومه.

وذكر ابن جرير أن أم الخليفة دخلت عليه وهو في مرضه الذي مات فيه فقالت له: كيف حالك ؟

فقال: ذهبت مني الدنيا والآخرة.

ويقال: إنه أنشد لما أحيط به وأيس من الحياة:

فما فرحت نفسي بدنيا أصبتها * ولكن إلى الرب الكريم أصير

فمات يوم الأحد لخمس بقين من ربيع الآخر من هذه السنة، وقت صلاة العصر، عن خمس وعشرين سنة، قيل: وستة أشهر.

ولا خلاف أنه إنما مكث بالخلافة ستة أشهر لا أزيد منها.

وذكر ابن جرير عن بعض أصحابه: أنه لم يزل يسمع الناس يقولون - العامة وغيرهم حين ولي المنتصر -: إنه لا يمكث في الخلافة سوى ستة أشهر، وذلك مدة خلافة من قتل أباه لأجلها، كما مكث شيرويه بن كسرى حين قتل أباه لأجل الملك.

وكذلك وقع، وقد كان المنتصر أعين أقنى قصيرا مهيبا جيد البدن، وهو أول خليفة من بنى العباس أبرز قبره بإشارة أمه حبشية الرومية.

ومن جيد كلامه قوله: والله ما عز ذو باطل قط، ولو طلع القمر من جبينه، ولا ذل ذو حق قط ولو أصفق العالم عليه.

(بحمد الله تعالى قد تم طبع الجزء العاشر من البداية والنهاية ويليه الجزء الحادي عشر، وأوله خلافة أحمد المستعين بالله. والله نسأل المعونة والتوفيق.)