انتقل إلى المحتوى

البداية والنهاية/الجزء الرابع عشر/صفحة واحدة

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة


ثم دخلت سنة ثمان وتسعين وستمائة

استهلت والخليفة الحاكم العباسي وسلطان البلاد المنصور لاجين ونائبه بمصر مملوكه سيف الدين منكوتمر، وقاضي الشافعية الشيخ تقي الدين بن دقيق العيد، والحنفي حسام الدين الرازي، والمالكي والحنبلي كما تقدم. ونائب الشام سيف الدين قبجق المنصوري، وقضاة الشام هم المذكورون في التي قبلها، والوزير تقي الدين توبة، والخطيب بدر الدين بن جماعة.

ولما كان في أثناء المحرم رجعت طائفة من الجيش من بلاد سيس، بسبب المرض الذي أصاب بعضهم، فجاء كتاب السلطان بالعتب الأكيد والوعيد الشديد لهم، وأن الجيش يخرج جميعه صحبة نائب السلطنة قبجق إلى هناك، ونصب مشانق لمن تأخر بعذر أو غيره، فخرج نائب السلطنة الأمير سيف الدين قبجق وصحبته الجيوش، وخرج أهل البلد للفرجة على الأطلاب على ما جرت به العادة، فبرز نائب السلطنة في أبهة عظيمة، فدعت له العامة وكانوا يحبونه.

واستمر الجيش سائرين قاصدين بلاد سيس، فلما وصلوا إلى حمص بلغ الأمير سيف الدين قبجق، وجماعة من الأمراء، أن السلطان قد تغلّت خاطره بسبب سعي منكوتمر فيهم، وعلموا أن السلطان لا يخالفه لمحبته له، فاتفق جماعة منهم على الدخول إلى بلاد التتر والنجاة بأنفسهم، فساقوا من حمص فيمن أطاعهم، وهم قبجق وبزلي وبكتمر السلحدار والأيلي، واستمروا ذاهبين.

فرجع كثير من الجيش إلى دمشق، وتخبطت الأمور وتأسفت العوام على قبجق لحسن سيرته، وذلك في ربيع الآخر من هذه السنة، فإنا لله وإنا إليه راجعون.

ذكر مقتل المنصور لاجين وعود الملك إلى محمد بن قلاوون

لما كان يوم السبت التاسع عشر ربيع الآخر، وصل جماعة من البريدية، وأخبروا بقتل السلطان الملك المنصور لاجين ونائبه سيف الدين منكوتمر، وأن ذلك كان ليلة الجمعة حادي عشرة، على يد الأمير سيف الدين كرجي الأشرفي، ومن وافقه من الأمراء، وذلك بحضور القاضي حسام الدين الحنفي، وهو جالس في خدمته يتحدثان، وقبل كانا يلعبان بالشطرنج، فلم يشعرا إلا وقد دخلوا عليهم فبادروا إلى السلطان بسرعة جهرة ليلة الجمعة فقتلوه، وقتل نائبه صبرا، صبيحة يوم الجمعة، وألقى على مزبلة، واتفق الأمراء على إعادة ابن أستاذهم الملك الناصر محمد بن قلاوون.

فأرسلوا وراءه، وكان بالكرك ونادوا له بالقاهرة، وخطب له على المنابر قبل قدومه، وجاءت الكتب إلى نائب الشام قبجق فوجدوه قد فر خوفا من غائلة لاجين، فسارت إليه البريدية فلم يدركوه إلا وقد لحق بالمغول عند رأس العين، من أعمال ماردين وتفارط الحال ولا قوة إلا بالله.

وكان الذي شمر العزم وراءهم، وساق ليردهم الأمير سيف الدين بلبان، وقام بأعباء البلد نائب القلعة علم الدين أرجواش، والأمير سيف الدين جاعان، واحتاطوا على ما كان له اختصاص بتلك الدولة، وكان منهم جمال الدين يوسف الرومي، محتسب البلد، وناظر المارستان.

ثم أطلق بعد مدة وأعيد إلى وظائفه، واحتيط أيضا على سيف الدين جاعان، وحسام الدين لاجين، والي البر، وأدخلا القلعة، وقتل بمصر الأمير سيف الدين طغجي، وكان قد ناب عن الناصر أربعة أيام، وكرجي الذي تولى قتل لاجين فقتلا، وألقيا على المزابل.

وجعل الناس من العامة وغيرهم يتأملون صورة طغجي، وكان جميل الصورة، ثم بعد الدلال والمال والملك وارتهم هناك قبور، فدفن السلطان لاجين وعند رجليه نائبه منكوتمر، ودفن الباقون في مضاجعهم هنالك.

وجاءت البشائر بدخول الملك الناصر إلى مصر، يوم السبت رابع جمادى الأولى، وكان يوما مشهودا، ودقت البشائر ودخل القضاة وأكابر الدولة إلى القلعة، وبويع بحضرة علم الدين أرجواش، وخطب له على المنابر بدمشق وغيرها، بحضرة أكابر العلماء والقضاة والأمراء، وجاء الخبر بأنه قد ركب وشق القاهرة، وعليه خلعة الخليفة، والجيش معه مشاة، فضربت البشائر أيضا.

وجاءت مراسيمه فقرئت على السدة، وفيها الرفق بالرعايا والأمر بالإحسان إليهم، فدعوا له، وقدم الأمير جمال الدين آقوش الأفرم، نائبا على دمشق، فدخلها يوم الأربعاء، قبل العصر ثاني عشرين جمادى الأولى، فنزل بدار السعادة على العادة، وفرح الناس بقدومه، وأشعلوا له الشموع، وكذلك يوم الجمعة أشعلوا له لما جاء إلى صلاة الجمعة بالمقصورة.

وبعد أيام أفرج عن جاعان ولاجين والي البر، وعادا إلى ما كانا عليه، واستقر الأمير حسام الدين الأستادار أتابكا للعساكر المصرية، والأمير سيف الدين سلار نائبا بمصر، وأخرج الأعسر في رمضان من الحبس، وولي الوزارة بمصر، وأخرج قرا سنقر المنصوري من الحبس، وأعطي نيابة الصبيبة، ثم لما مات صاحب حماه الملك المظفر نقل قرا سنقر إليها.

وكان قد وقع في أواخر دولة لاجين، بعد خروج قبجق من البلد محنة للشيخ تقي الدين بن تيمية، قام عليه جماعة من الفقهاء، وأرادوا إحضاره إلى مجلس القاضي جلال الدين الحنفي، فلم يحضر، فنودي في البلد في العقيدة التي كان قد سأله عنها أهل حماه، المسماة بالحموية، فانتصر له الأمير سيف الدين جاعان، وأرسل يطلب الذين قاموا عنده، فاختفى كثير منهم، وضرب جماعة ممن نادى على العقيدة، فسكت الباقون.

فلما كان يوم الجمعة، عمل الشيخ تقي الدين الميعاد بالجامع على عادته، وفسر في قوله تعالى: {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} 1، ثم اجتمع بالقاضي إمام الدين يوم السبت واجتمع عنده جماعة من الفضلاء وبحثوا في الحموية، وناقشوه في أماكن فيها، فأجاب عنها بما أسكتهم بعد كلام كثير، ثم ذهب الشيخ تقي الدين وقد تمهدت الأمور، وسكنت الأحوال، وكان القاضي إمام الدين معتقده حسنا ومقصده صالحا.

وفيها: وقف علم الدين سنجر الدويدار رواقه داخل باب الفرج مدرسة ودار حديث، وولى مشيخته الشيخ علاء الدين بن العطار، وحضر عنده القضاة والأعيان، وعمل لهم ضيافة، وأفرج عن قرا سنقر.

وفي يوم السبت حادي عشر شوال فتح مشهد عثمان الذي جدده ناصر الدين بن عبد السلام ناظر الجامع، وأضاف إليه مقصورة الخدم من شماليه، وجعل له إماما راتبا وحاكى به مشهد علي بن الحسين زين العابدين.

وفي العشر الأولى من ذي الحجة عاد القاضي حسام الدين الرازي إلى قضاء الشام، وعزل عن قضاء مصر، وعزل ولده عن قضاء الشام.

وفيها: في ذي القعدة كثرت الأراجيف بقصد التتر بلاد الشام، وبالله المستعان.

من الأعيان:

الشيخ نظام الدين

أحمد بن الشيخ جمال الدين محمود بن أحمد بن عبد السلام الحصري الحنفي، مدرس النورية ثامن المحرم، ودفن في تاسعه يوم الجمعة في مقابر الصوفية، كان فاضلا، ناب في الحكم في وقت، ودرّس بالنورية بعد أبيه، ثم درّس بعده الشيخ شمس الدين بن الصدر سليمان بن النقيب.

المفسر الشيخ العالم الزاهد جمال الدين أبو عبد الله بن محمد بن سليمان بن حسن بن الحسين البلخي

ثم المقدسي، الحنفي، ولد في النصف من شعبان سنة إحدى عشرة وستمائة بالقدس، واشتغل بالقاهرة، وأقام مدة بالجامع الأزهر، ودرس في بعض المدارس هناك، ثم انتقل إلى القدس فاستوطنه إلى أن مات في المحرم منها، وكان شيخا فاضلا في التفسير، وله فيه مصنف حافل كبير جمع فيه خمسين مصنفا من التفسير، وكان الناس يقصدون زيارته بالقدس الشريف ويتبركون به.

الشيخ أبو يعقوب المغربي المقيم بالقدس

كان الناس يجتمعون به، وهو منقطع بالمسجد الأقصى، وكان الشيخ تقي الدين بن تيمية يقول فيه: هو على طريقة ابن عربي وابن سبعين، توفي في المحرم من هذه السنة.

التقي توبة الوزير

تقي الدين توبة بن علي بن مهاجر بن شجاع بن توبة الربعي التكريتي، ولد سنة عشرين وستمائة يوم عرفة بعرفة، وتنقل بالخدم إلى أن صار وزيرا بدمشق مرات عديدة، حتى توفي ليلة الخميس ثاني جمادى الآخرة، وصلّي عليه غدوة بالجامع وسوق الخيل، ودفن بتربته تجاه دار الحديث الأشرفية بالسفح، وحضر جنازته القضاة والأعيان، وباشر بعده نظر الدواوين فخر الدين بن الشيرجي، وأخذ أمين الدين بن الهلال نظر الخزانة.

الأمير الكبير شمس الدين بيسرى

كان من أكابر الأمراء المتقدمين في خدمة الملوك، من زمن قلاوون وهلم جرا، توفي في السجن بقلعة مصر، وعمل له عزاء بالجامع الأموي، وحضره نائب السلطنة الأفرم والقضاة والأعيان.

السلطان الملك المظفر تقي الدين محمود

بن ناصر الدين محمد بن تقي الدين عمر بن شاهنشاه بن أيوب صاحب حماه، وابن ملوكها كابرا عن كابر، توفي يوم الخميس الحادي والعشرين من ذي القعدة، ودفن ليلة الجمعة.

الملك الأوحد نجم الدين يوسف بن الملك داود بن المعظم

ناظر القدس، توفي به ليلة الثلاثاء رابع ذي القعدة، ودفن برباطه عند باب حطة عن سبعين سنة، وحضر جنازته خلق كثير، وكان من خيار أبناء الملوك دينا وفضيلة وإحسانا إلى الضعفاء.

القاضي شهاب الدين يوسف

ابن الصالح محب الدين بن النحاس أحد رؤساء الحنفية، ومدرّس الزنجانية والظاهرية، توفي ببستانه بالمزة ثالث عشر ذي الحجة، ودرّس بعده بالزنجانية القاضي جلال الدين بن حسام الدين.

الصاحب نصر الدين أبو الغنائم

سالم بن محمد بن سالم بن هبة الله بن محفوظ بن صصرى التغلبي، كان أحسن حالا من أخيه القاضي نجم الدين، وقد سمع الحديث وأسمعه، كان صدرا معظما، ولي نظر الدواوين ونظر الخزانة.

ثم ترك المناصب وحج وجاور بمكة، ثم قدم دمشق فأقام بها دون السنة ومات، توفي يوم الجمعة ثامن وعشرين ذي الحجة، وصلّي عليه بعد الجمعة بالجامع، ودفن بتربتهم بسفح قاسيون، وعمل عزاؤه بالصاحبية.

ياقوت بن عبد الله

أبو الدر المستعصمي الكاتب، لقبه جمال الدين، وأصله رومي.

كان فاضلا مليح الخط مشهورا بذلك، كتب ختما حسانا، وكتب الناس عليه ببغداد، توفي بها في هذه السنة، وله شعر رائق، فمنه ما أورده البرزالي في تاريخه عنه:

تجدد الشمس شوقي كلما طعلت * إلى محياك يا سمعي ويا بصري

وأسهر الليل في أنس بلا ونس * إذ طيب ذكراك في ظلماته يسري

وكل يوم مضى لا أراك به * فلست محتسبا ماضيه من عمري

ليلي نهار إذا ما درت في خلدي * لأن ذكرك نور القلب والبصر

ثم دخلت سنة تسع وتسعين وستمائة

وفيها: كانت وقعة قازان، وذلك أن هذه السنة استهلت والخليفة والسلطان هما المذكوران في التي قبلها، ونائب مصر سلار، ونائب الشام آقوش الأفرم، وسائر الحكام هم المذكورون في التي قبلها، وقد تواترت الأخبار بقصد التتار بلاد الشام، وقد خاف الناس من ذلك خوفا شديدا، وجفل الناس من بلاد حلب وحماه، وبلغ كري الخيل من حماه إلى دمشق نحو المائتي درهم.

فلما كان يوم الثلاثاء ثاني المحرم ضربت البشائر بسبب خروج السلطان من مصر قاصدا الشام.

فلما كان يوم الجمعة ثامن ربيع الأول دخل السلطان إلى دمشق في مطر شديد ووحل كثير، ومع هذا خرج الناس لتلقيه، وكان قد أقام بغزة قريبا من شهرين، وذلك لما بلغه قدوم التتار إلى الشام، فتهيأ لذلك وجاء فدخل دمشق فنزل بالطارمة، وزينت له البلد، وكثرت له الأدعية، وكان وقتا شديدا، وحالا صعبا، وامتلأ البلد من الجافلين النازحين عن بلادهم، وجلس الأعسر وزير الدولة وطالب العمال واقترضوا أموال الأيتام وأموال الأسرى لأجل تقوية الجيش.

وخرج السلطان بالجيش من دمشق يوم الأحد سابع عشر ربيع الأول ولم يتخلف أحد من الجيوش، وخرج معهم خلق كثير من المتطوعة، وأخذ الناس في الدعاء والقنوت في الصلوات بالجامع وغيره، وتضرعوا واستغاثوا وابتهلوا إلى الله بالأدعية.

وقعة قازان

لما وصل السلطان إلى وادي الخزندار عند وادي سلمية.

فالتقى التتر هناك يوم الأربعاء السابع والعشرين من ربيع الأول، فالتقوا معهم فكسروا المسلمين، وولى السلطان هاربا، فإنا لله وإنا إليه راجعون.

وقتل جماعة من الأمراء وغيرهم ومن العوام خلق كثير، وفقد في المعركة قاضي قضاة الحنفية، وقد صبروا وأبلوا بلاء حسنا، ولكن كان أمر الله قدرا مقدورا، فولى المسلمون لا يلوى أحد على أحد، ثم كانت العاقبة بعد ذلك للمتقين، غير إنه رجعت العساكر على أعقابها للديار المصرية، واجتاز كثير منهم على دمشق، وأهل دمشق في خوف شديد على أنفسهم وأهليهم وأموالهم، ثم إنهم استكانوا واستسلموا للقضاء والقدر، وماذا يجدي الحذر إذا نزل القدر.

ورجع السلطان في طائفة من الجيش على ناحية بعلبك والبقاع، وأبواب دمشق مغلقة، والقلعة محصنة والغلاء شديد والحال ضيق وفرج الله قريب، وقد هرب جماعة من أعيان البلد وغيرهم إلى مصر، كالقاضي إمام الدين الشافعي، وقاضي المالكية الزواوي، وتاج الدين الشيرازي، وعلم الدين الصوابي والي البر، وجمال الدين بن النحاس والي المدينة، والمحتسب وغيرهم من التجار والعوام، وبقي البلد شاغرا ليس فيهم حاكم سوى نائب القلعة.

وفي ليلة الأحد ثاني ربيع الأول كسر المحبوسون بحبس باب الصغير الحبس وخرجوا منه على حمية، وتفرقوا في البلد، وكانوا قريبا من مائتي رجل، فنهبوا ما قدروا عليه، وجاؤوا إلى باب الجابية فكسروا أقفال الباب البراني، وخرجوا منه إلى بر البلد، فتفرقوا حيث شاؤوا لا يقدر أحد على ردهم، وعاثت الحرافشة في ظاهر البلد فكسروا أبواب البساتين وقلعوا من الأبواب والشبابيك شيئا كثيرا، وباعوا ذلك بأرخص الأثمان، هذا وسلطان التتار قد قصد دمشق بعد الوقعة.

فاجتمع أعيان البلد والشيخ تقي الدين بن تيمية في مشهد علي، واتفقوا على المسير إلى قازان لتلقيه، وأخذ الأمان منه لأهل دمشق، فتوجهوا يوم الاثنين ثالث ربيع الآخر فاجتمعوا به عند النبك، وكلمه الشيخ تقي الدين كلاما قويا شديدا فيه مصلحة عظيمة، عاد نفعها على المسلمين ولله الحمد.

ودخل المسلمون ليلتئذ من جهة قازان فنزلوا بالبدرانية، وغلقت أبواب البلد سوى باب توما، وخطب الخطيب بالجامع يوم الجمعة، ولم يذكر سلطانا في خطبته، وبعد الصلاة قدم الأمير إسماعيل ومعه جماعة من الرسل فنزلوا ببستان الظاهر عند الطرن.

وحضر الفرمان بالأمان وطيف به في البلد، وقرئ يوم السبت ثامن الشهر بمقصورة الخطابة، ونثر شيء من الذهب والفضة.

وفي ثاني يوم من المناداة بالأمان طلبت الخيول والسلاح والأموال المخبأة عند الناس من جهة الدولة، وجلس ديوان الاستخلاص إذ ذاك بالمدرسة القيمرية، وفي يوم الاثنين عاشر الشهر قدم سيف الدين قبجق المنصوري فنزل في الميدان، واقترب جيش التتر وكثر العيث في ظاهر البلد. وقتل جماعة وغلت الأسعار بالبلد جدا، وأرسل قبجق إلى نائب القلعة ليسلمها إلى التتر فامتنع أرجواش من ذلك أشد الامتناع، فجمع له قبجق أعيان البلد فكلموه أيضا فلم يجبهم إلى ذلك، وصمم على ترك تسليمها إليهم وبها عين تطرف.

فإن الشيخ تقي الدين بن تيمية أرسل إلى نائب القلعة يقول له ذلك: لو لم يبق فيها إلا حجر واحد، فلا تسلمهم ذلك إن استطعت، وكان في ذلك مصلحة عظيمة لأهل الشام، فإن الله حفظ لهم هذا الحصن والمعقل الذي جعله الله حرزا لأهل الشام التي لا تزال دار إيمان وسنة، حتى ينزل بها عيسى ابن مريم.

وفي يوم دخول قبجق إلى دمشق، دخل السلطان ونائبه سلار إلى مصر، كما جاءت البطاقة بذلك إلى القلعة، ودقت البشائر بها، فقوي جأش الناس بعض قوة، ولكن الأمر كما يقال:

كيف السبيل إلى سعاد ودونها * قلل الجبال ودونهن حتوف

الرجل حافية ومالي مركب * والكف صفر والطريق مخوف

وفي يوم الجمعة رابع عشر ربيع الآخر، خطب لقازان على منبر دمشق بحضور المغول بالمقصورة، ودعي له على السدة بعد الصلاة وقرئ عليها مرسوم بنيابة قبجق على الشام، وذهب إليه الأعيان فهنؤه بذلك، فأظهر الكرامة وأنه في تعب عظيم مع التتر.

ونزل شيخ المشايخ محمود بن علي الشيباني بالمدرسة العادلية الكبيرة.

وفي يوم السبت النصف من ربيع الآخر شرعت التتار وصاحب سيس في نهب الصالحية ومسجد الأسدية ومسجد خاتون ودار الحديث الأشرفية بها، واحترق جامع التوبة بالعقيبية، وكان هذا من جهة الكرج والأرمن من النصارى الذين هم مع التتار قبحهم الله.

وسبوا من أهلها خلقا كثيرا وجما غفيرا، وجاء أكثر الناس إلى رباط الحنابلة فاحتاطت به التتار فحماه منهم شيخ الشيوخ المذكور، وأعطى في الساكن مال له صورة ثم أقحموا عليه فسبوا منه خلقا كثيرا من بنات المشايخ وأولادهم، فإنا لله وإنا إليه راجعون.

ولما نكب دير الحنابلة في ثاني جمادى الأولى قتلوا خلقا من الرجال وأسروا من النساء كثيرا، ونال قاضي القضاة تقي الدين أذى كثير، ويقال إنهم قتلوا من أهل الصالحية قريبا من أربعمائة، وأسروا نحوا من أربعة آلاف أسير، ونهبت كتب كثيرة من الرباط الناصري والضيائية، وخزانة ابن البزوري، وكانت تباع وهي مكتوب عليها الوقفية، وفعلوا بالمزة مثل ما فعلوا بالصالحية.

وكذلك بداريا وبغيرها، وتحصن الناس منهم في الجامع بداريا ففتحوه قسرا وقتلوا منهم خلقا وسبوا نساءهم وأولادهم، فإنا لله وإنا إليه راجعون.

وخرج الشيخ ابن تيمية في جماعة من أصحابه يوم الخميس، العشرين من ربيع الآخر إلى ملك التتر وعاد بعد يومين ولم يتفق اجتماعه به، حجبه عنه الوزير سعد الدين والرشيد مشير الدولة المسلماني ابن يهودي، والتزما له بقضاء الشغل، وذكرا له أن التتر لم يحصل لكثير منهم شيء إلى الآن، ولا بد لهم من شيء.

واشتهر بالبلد أن التتر يريدون دخول دمشق فانزعج الناس لذلك وخافوا خوفا شديدا، وأرادوا الخروج منها والهرب على وجوههم، وأين الفرار ولات حين مناص، وقد أخذ من البلد فوق العشرة آلاف فرس، ثم فرضت أموال كثيرة على البلد موزعة على أهل الأسواق كل سوق بحسبه من المال، فلا قوة إلا بالله.

وشرع التتر في عمل مجانيق بالجامع ليرموا بها القلعة من صحن الجامع، وغلقت أبوابه ونزل التتار في مشاهده يحرسون أخشاب المجانيق، وينهبون ما حوله من الأسواق، وأحرق أرجوان ما حول القلعة من الأبنية، كدار الحديث الأشرفية وغير ذلك، إلى حد العادلية الكبيرة، وأحرق دار السعادة لئلا يتمكنوا من محاصرة القلعة من أعاليها، ولزم الناس منازلهم لئلا يسخروا في طم الخندق.

وكانت الطرقات لا يرى بها أحد إلا القليل، والجامع لا يصلي فيه أحد إلا اليسير، ويوم الجمعة لا يتكامل فيه الصف الأول وما بعده إلا بجهد جهيد، ومن خرج من منزله في ضرورة يخرج بثياب زيهم ثم يعود سريعا، ويظن أنه لا يعود إلى أهله، وأهل البلد قد أذاقهم الله لباس الجوع والخوف بما كانوا يصنعون، فإنا لله وإنا إليه راجعون.

والمصادرات والتراسيم والعقوبات عمالة في أكابر أهل البلد ليلا ونهارا، حتى أخذ منهم شيء كثير من الأموال والأوقاف، كالجامع وغيره، ثم جاء مرسوم بصيانة الجامع وتوفير أوقافه وصرف ما كان يؤخذ بخزائن السلاح وإلى الحجاز، وقرئ ذلك المرسوم بعد صلاة الجمعة بالجامع في تاسع عشر جمادى الأولى.

وفي ذلك اليوم توجه السلطان قازان وترك نوابه بالشام في ستين ألف مقاتل نحو بلاد العراق، وجاء كتابه إنا قد تركنا نوابنا بالشام في ستين ألف مقاتل، وفي عزمنا العود إليها في زمن الخريف، والدخول إلى الديار المصرية وفتحها، وقد أعجزتهم القلعة أن يصلوا إلى حجر منها.

وخرج سيف الدين قبجق لتوديع قطلوشاه نائب قازان، وسار وراءه وضربت البشائر بالقلعة فرحا لرحيلهم، ولم تفتح القلعة، وأرسل أرجواش ثاني يوم من خروج قبجق القعلية إلى الجامع فكسروا أخشاب المنجنيقات المنصوبة به، وعادوا إلى القلعة سريعا سالمين، واستصحبوا معهم جماعة ممن كانوا يلوذون بالتتر قهرا إلى القلعة، منهم الشريف القمي، وهو شمس الدين محمد بن محمد بن أحمد بن أبي القاسم المرتضي العلوي.

وجاءت الرسل من قبجق إلى دمشق فنادوا بها طيبوا أنفسكم وافتحوا دكاكينكم وتهيئوا غدا لتلقي سلطان الشام سيف الدين قبجق، فخرج الناس إلى أماكنهم فأشرفوا عليها فرأوا ما بها من الفساد والدمار، وانفك رؤساء البلد من التراسيم بعدما ذاقوا شيئا كثيرا.

قال الشيخ علم الدين البرزالي: ذكر لي الشيخ وجيه الدين بن المنجا أنه حمل إلى خزانة قازان ثلاثة آلاف ألف وستمائة ألف درهم، سوى ما تمحق من التراسيم والبراطيل، وما أخذ غيره من الأمراء والوزراء، وأن شيخ المشايخ حصل له نحو ستمائة ألف درهم، والأصيل بن النصير الطوسي مائة ألف، والصفي السخاوي ثمانون ألفا.

وعاد سيف الدين قبجق إلى دمشق يوم الخميس بعد الظهر خامس عشرين جمادى الأولى ومعه الألبكي وجماعة، وبين يديه السيوف مسللة، وعلى رأسه عصابة، فنزل بالقصر ونودي بالبلد: نائبكم قبجق قد جاء فافتحوا دكاكينكم واعملوا معاشكم ولا يغرر أحد بنفسه هذا الزمان والأسعار في غاية الغلاء والقلة، قد بلغت الغرارة إلى أربعمائة، واللحم بنحو العشرة، والخبز كل رطل بدرهمين ونصف، والعشرة الدقيق بنحو الأربعين، والجبن الأوقية بدرهم، والبيض كل خمسة بدرهم.

ثم فرج عنهم في أواخر الشهر، ولما كان في أواخر الشهر نادى قبجق بالبلد أن يخرج الناس إلى قراهم وأمر جماعة وانضاف إليه خلق من الأجناد، وكثرت الأراجيف على بابه، وعظم شأنه ودقت البشائر بالقلعة وعلى باب قبجق يوم الجمعة رابع جمادى الآخرة.

وركب قبجق بالعصائب في البلد والشاويشية بين يديه، وجهز نحوا من ألف فارس نحو خربة اللصوص، ومشى مشي الملوك في الولايات وتأمير الأمراء والمراسيم العالية النافذة، وصار كما قال الشاعر:

يا لك من قنبرة بمعمري * خلا لكِ الجو فبيضي واصفِري ونقِّري ماشئت أن تنقِّري

ثم إنه ضمن الخمارات ومواضع الزنا من الحانات وغيرها، وجعلت دار ابن جرادة خارج من باب توما خمارة وحانة أيضا، وصار له على ذلك في كل يوم ألف درهم، وهي التي دمرته ومحقت آثاره، وأخذ أموالا أخر من أوقاف المدارس وغيرها.

ورجع بولاي من جهة الأغوار، وقد عاث في الأرض فسادا، ونهب البلاد وخرب ومعه طائفة من التتر كثيرة، وقد خربوا قرى كثيرة، وقتلوا من أهلها وسبوا خلقا من أطفالها، وجبى لبولاي من دمشق أيضا جباية أخرى، وخرج طائفة من القلعة فقتلوا طائفة من التتر ونهبوهم، وقتل جماعة من المسلمين في غبون ذلك وأخذوا طائفة ممن كان يلوذ بالتتر.

ورسم قبجق لخطيب البلد وجماعة من الأعيان أن يدخلوا القلعة فيتكلموا مع نائبها في المصالحة فدخلوا عليه يوم الاثنين ثاني عشر جمادى الآخرة، فكلموه وبالغوا معه فلم يجب إلى ذلك، وقد أجاد وأحسن وأرجل في ذلك بيض الله وجهه.

وفي ثامن رجب طلب قبجق القضاة والأعيان فحلَّفهم على المناصحة للدولة المحمودية - يعني قازان - فحلفوا له.

وفي هذا اليوم خرج الشيخ تقي الدين بن تيمية إلى مخيم بولاي فاجتمع به في فكاك من كان معه من أسارى المسلمين، فاستنقذ كثيرا منهم من أيديهم، وأقام عنده ثلاثة أيام ثم عاد، ثم راح إليه جماعة من أعيان دمشق، ثم عادوا من عنده فشلحوا عند باب شرقي وأخذ ثيابهم وعمائمهم ورجعوا في شر حالة، ثم بعث في طلبهم فاختفى أكثرهم وتغيبوا عنه، ونودي بالجامع بعد الصلاة ثالث رجب من جهة نائب القلعة بأن العساكر المصرية قادمة إلى الشام.

وفي عشية يوم السبت رحل بولاي وأصحابه من التتر وانشمروا عن دمشق وقد أراح الله منهم، وساروا من على عقبة دمر فعاثوا في تلك النواحي فسادا، ولم يأت سابع الشهر وفي حواشي البلد منهم أحد، وقد أزاح الله عز وجل شرهم عن العباد والبلاد، ونادى قبجق في الناس قد أمنت الطرقات ولم يبق بالشام من التتر أحد، وصلى قبجق يوم الجمعة عاشر رجب بالمقصورة، ومعه جماعة عليهم لأمة الحرب من السيوف والقسي والتراكيش فيها النشاب، وأمنت البلاد.

وخرج الناس للفرجة في غيض السفرجل على عادتهم، فعاثت عليهم طائفة من التتر، فلما رأوهم رجعوا إلى البلد هاربين مسرعين، ونهب بعض الناس بعضا، ومنهم من ألقى نفسه في النهر.

وإنما كانت هذه الطائفة مجتازين ليس لهم قرار، وتقلق قبجق من البلد، ثم أنه خرج منها في جماعة من رؤسائها وأعيانها منهم عز الدين ابن القلانسي ليتلقوا الجيش المصري، وذلك أن جيش مصر خرج إلى الشام في تاسع رجب، وجاءت البريدية بذلك.

وبقي البلد ليس به أحد، ونادى أرجواش في البلد:

احفظوا الأسوار وأخرجوا ما كان عندكم من الأسلحة، ولا تهملوا الأسوار والأبواب، ولا يبيتن أحد إلا على السور، ومن بات في داره شنق، فاجتمع الناس على الأسوار لحفظ البلاد، وكان الشيخ تقي الدين بن تيمية يدور كل ليلة على الأسوار يحرض الناس على الصبر والقتال، ويتلو عليهم آيات الجهاد والرباط.

وفي يوم الجمعة سابع عشر رجب أعيدت الخطبة بدمشق لصاحب مصر ففرح الناس بذلك، وكان يخطب لقازان بدمشق وغيرها من بلاد الشام مائة يوم سواء.

وفي بكرة يوم الجمعة المذكور دار الشيخ تقي الدين بن تيمية رحمه الله وأصحابه على الخمارات والحانات، فكسروا آنية الخمور وشققوا الظروف وأراقوا الخمور، وعزروا جماعة من أهل الحانات المتخذة لهذه الفواحش، ففرح الناس بذلك.

ونودي يوم السبت ثامن عشر رجب بأن تزين البلد لقدوم العساكر المصرية، وفتح باب الفرج مضافا إلى باب النصر يوم الأحد تاسع عشر رجب، ففرح الناس بذلك وانفرجوا لأنهم لم يكونوا يدخلون إلا من باب النصر، وقدم الجيش الشامي صحبة نائب دمشق جمال الدين آقوش الأفرم يوم السبت عاشر شعبان، وثاني يوم دخل بقية العساكر وفيهم الأميران: شمس الدين قراسنقر المنصوري، وسيف الدين قطلبك في تجمل.

وفي هذا اليوم فتح باب العريش، وفيه درّس القاضي جلال الدين القزويني بالأمينية عوضا عن أخيه قاضي القضاة إمام الدين توفي بمصر.

وفي يوم الاثنين والثلاثاء والأربعاء تكامل دخول العساكر صحبة نائب مصر سيف الدين سلار، وفي خدمته الملك العادل كتبغا، وسيف الدين الطراخي في تجمل باهر، ونزلوا في المرج، وكان السلطان قد خرج عازما على المجيء فوصل إلى الصالحية، ثم عاد إلى مصر.

وفي يوم الخميس النصف من شعبان أعيد القاضي بدر الدين بن جماعة إلى قضاة القضاة بدمشق مع الخطابة بعد إمام الدين، ولبس معه في هذا اليوم أمين الدين العجمي خلعة الحسبة، وفي يوم سابع عشرة لبس خلعة نظر الدواوين تاج الدين الشيرازي عوضا عن فخر الدين بن الشيرجي، ولبس أقبجاشد الدواوين في باب الوزير شمس الدين سنقر الأعسر.

وباشر الأمير عز الدين أيبك الدويدار النجيبي ولاية البر، بعد ما جعل من أمراء الطبلخانة، ودرّس الشيخ كمال الدين ابن الزملكاني بأم الصالح عوضا عن جلال الدين القزويني، يوم الأحد الحادي والعشرين من شعبان.

وفي هذا اليوم ولي قضاء الحنفية شمس الدين بن الصفي الحريري عوضا عن حسام الدين الرومي، فقد يوم المعركة في ثاني رمضان ورفعت الستائر عن القلعة في ثالث رمضان.

وفي مستهل رمضان جلس الأمير سيف الدين سلار بدار العدل في الميدان الأخضر وعنده القضاة والأمراء يوم السبت، وفي السبت الآخر خلع على عز الدين القلانسي خلعة سنية، وجعل ولده عماد الدين شاهدا في الخزانة، وفي هذا اليوم رجع سلار بالعساكر إلى مصر، وانصرفت العساكر الشامية إلى مواضعها وبلدانها.

وفي يوم الاثنين عاشر رمضان درس علي بن الصفي بن أبي القاسم البصراوي الحنفي بالمدينة المقدمية.

وفي شوال فيها: عرفت جماعة ممن كان يلوذ بالتتر ويؤذي المسلمين، وشنق منهم طائفة وسمر آخرون وكحل بعضه وقطعت ألسن وجرت أمور كثيرة.

وفي منتصف شوال درس بالدولعية قاضي القضاة جمال الدين الزرعي نائب الحكم عوضا عن جمال الدين بن الباجريقي.

وفي يوم الجمعة العشرين منه ركب نائب السلطنة جمال الدين آقوش الأفرم في جيش دمشق إلى جبال الجرد وكسروان، وخرج الشيخ تقي الدين بن تيمية ومعه خلق كثير من المتطوعة والحوارنة لقتال أهل تلك الناحية، بسب فساد نيتهم وعقائدهم وكفرهم وضلالهم، وما كانوا عاملوا به العساكر لما كسرهم التتر، وهربوا حين اجتازوا ببلادهم وثبوا عليهم ونهبوهم، وأخذوا أسلحتهم وخيولهم وقتلوا كثيرا منهم.

فلما وصلوا إلى بلادهم جاء رؤساؤهم إلى الشيخ تقي الدين بن تيمية فاستتابهم، وبين للكثير منهم الصواب، وحصل بذلك خير كثير، وانتصار كبير على أولئك المفسدين، والتزموا برد ما كانوا أخذوه من أموال الجيش، وقرر عليهم أموالا كثيرة يحملونها إلى بيت المال، وأقطعت أراضيهم وضياعهم، ولم يكونوا قبل ذلك يدخلون في طاعة الجند ولا يلتزمون أحكام الملة، ولا يدينون دين الحق، ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله.

وعاد نائب السلطنة يوم الأحد ثالث عشر ذي القعدة، وتلقاه الناس بالشموع إلى طريق بعلبك وسط النهار.

وفي يوم الأربعاء سادس عشرة نودي في البلد أن يعلق الناس الأسلحة بالدكاكين، وأن يتعلم الناس الرمي فعملت الإماجات في أماكن كثيرة من البلد، وعلقت الأسلحة بالأسواق، ورسم قاضي القضاة بعمل الإماجات في المدارس، وأن يتعلم الفقهاء الرمي ويستعدوا لقتال العدو إن حضر، وبالله المستعان.

وفي الحادي والعشرين من ذي القعدة استعرض نائب السلطنة أهل الأسواق بين يديه، وجعل على كل سوق مقدما وحوله أهل سوقه.

وفي الخميس رابع عشرينه عرضت الأشراف مع نقيبهم نظام الملك الحسيني بالعدد والتجمل الحسن، وكان يوما مشهودا.

ومما كان من الحوادث في هذه السنة أن جدد إمام راتب عند رأس قبر زكريا، وهو الفقيه شرف الدين أبو بكر الحموي، وحضر عنده يوم عاشوراء القاضي إمام الدين الشافعي، وحسام الدين الحنفي وجماعة، ولم تطل مدته إلا شهورا، ثم عاد الحموي إلى بلده وبطلت هذه الوظيفة إلى الآن ولله الحمد.

من الأعيان:

القاضي حسام الدين أبو الفضائل

الحسن بن القاضي تاج الدين أبي المفاخر أحمد بن الحسن أنوشروان الرازي الحنفي، ولي قضاء ملطية مدة عشرين سنة، ثم قدم دمشق فوليها مدة، ثم انتقل إلى مصر فوليها مدة، وولده جلال الدين بالشام، ثم صار إلى الشام فعاد إلى الحكم بها، ثم لما خرج الجيش إلى لقاء قازان بوادي الخزندار عند وادي سلمية خرج معهم ففقد من الصف ولم يدر ما خبره، وقد قارب السبعين.

وكان فاضلا بارعا رئيسا، له نظم حسن، ومولده بإقسيس من بلاد الروم في المحرم سنة إحدى وثلاثين وستمائة، فقد يوم الأربعاء الرابع والعشرين من ربيع الأول منها، وقد قتل يومئذ عدة من مشاهير الأمراء، ثم ولي بعده القضاء شمس الدين الحريري.

القاضي الإمام العالي

إمام الدين أبو المعالي عمر بن القاضي سعد الدين أبي القاسم عبد الرحمن بن الشيخ إمام الدين أبي حفص عمر بن أحمد بن محمد القزويني الشافعي.

قدم دمشق هو وأخوه جلال الدين فقررا في مدارس، ثم انتزع إمام الدين قضاء القضاة بدمشق من بدر الدين بن جماعة كما تقدم في سنة سبع وسبعين، وناب عنه أخوه، وكان جميل الأخلاق كثير الإحسان رئيسا، قليل الأذى، ولما أزف قدوم التتار سافر إلى مصر، فلما وصل إليها لم يقم بها سوى أسبوع وتوفي ودفن بالقرب من قبة الشافعي عن ست وأربعين سنة، وصار المنصب إلى بدر الدين بن جماعة، مضافا إلى ما بيده من الخطابة وغيرها، ودرس أخوه بعده بالأمينية.

المسند المعمر الرحلة

شرف الدين أحمد بن هبة الله بن الحسن بن هبة الله بن عبد الله بن الحسن بن عساكر الدمشقي، ولد سنة أربع عشرة وستمائة، وسمع الحديث وروى، توفي خامس عشر جمادى الأولى عن خمس وثمانين سنة.

الخطيب الإمام العالم موفق الدين أبو المعالي

محمد بن محمد بن الفضل النهرواني القضاعي الحموي، خطيب حماه، ثم خطب بدمشق عوضا عن الفاروثي، ودرّس بالغزالية ثم عزل بابن جماعة، وعاد إلى بلده، ثم قدم دمشق عام قازان فمات بها.

الصدر شمس الدين

محمد بن سليمان بن حمايل بن علي المقدسي المعروف بابن غانم، وكان من أعيان الناس وأكثرهم مروءة، ودرس بالعصرونية، توفي وقد جاوز الثمانين، كان من الكتاب المشهورين المشكورين، وهو والد الصدر علاء الدين بن غانم.

الشيخ جمال الدين أبو محمد

عبد الرحيم بن عمر بن عثمان الباجريقي الشافعي، أقام مدة بالموصل يشتغل ويفتي، ثم قدم دمشق عام قازان فمات بها، وكان قد أقام بها مدة كذلك، ودرس بالقليجية والدولعية، وناب في الخطابة ودرّس بالغزالية نيابة عن الشمس الأيكي، وكان قليل الكلام مجموعا عن الناس.

وهو والد الشمس محمد المنسوب إلى الزندقة والانحلال، وله أتباع ينسبون إلى ما ينسب إليه، ويعكفون على ما كان يعكف عليه، وقد حدث جمال الدين المذكور بجامع الأصول عن بعض أصحاب مصنفات ابن الأثير، وله نظم ونثر حسن، والله سبحانه أعلم.

ثم دخلت سنة سبعمائة من الهجرة النبوية

استهلت والخليفة والسلطان ونواب البلاد والحكام بها هم المذكورون في التي قبلها، غير الشافعي والحنفي، ولما كان ثالث المحرم جلس المستخرج لاستخلاص أجرة أربعة أشهر عن جميع أملاك الناس وأوقافهم بدمشق، فهرب أكثر الناس من البلد، وجرت خبطة قوية وشق ذلك على الناس جدا.

وفي مستهل صفر وردت الأخبار بقصد التتر بلاد الشام، وأنهم عازمون على دخول مصر، فانزعج الناس لذلك وازدادوا ضعفا على ضعفهم، وطاشت عقولهم وألبابهم، وشرع الناس في الهرب إلى بلاد مصر والكرك والشوبك والحصون المنيعة، فبلغت الحمارة إلى مصر خمسمائة وبيع الجمل بألف والحمار بخمسمائة، وبيعت الأمتعة والثياب والغلات بأرخص الأثمان، وجلس الشيخ تقي الدين بن تيمية في ثاني صفر بمجلسه في الجامع، وحرض الناس على القتال، وساق لهم الآيات والأحاديث الواردة في ذلك، ونهى عن الإسراع في الفرار، ورغب في إنفاق الأموال في الذب عن المسلمين وبلادهم وأموالهم. وأن ما ينفق في أجرة الهرب إذا أنفق في سبيل الله كان خيرا، وأوجب جهاد التتر حتما في هذه الكرة، وتابع المجالس في ذلك، ونودي في البلاد لا يسافر أحد إلا بمرسوم وورقة فتوقف الناس عن السير وسكن جأشهم، وتحدث الناس بخروج السلطان من القاهرة بالعساكر ودقت البشائر لخروجه، لكن كان قد خرج جماعة من بيوتات دمشق كبيت ابن صصرى، وبيت ابن فضل الله، وابن منجا، وابن سويد، وابن الزملكاني، وابن جماعة.

وفي أول ربيع الآخر قوي الأرجاف بأمر التتر، وجاء الخبر بأنهم قد وصلوا إلى البيرة ونودي في البلد أن تخرج العامة مع العسكر، وجاء مرسوم النائب من المرج بذلك، فاستعرضوا في أثناء الشهر فعرض نحو خمسة آلاف من العامة بالعدة والأسلحة على قدر طاقتهم، وقنت الخطيب ابن جماعة في الصلوات كلها، واتبعه أئمة المساجد، وأشاع المرجفون بأن التتر قد وصلوا إلى حلب. وأن نائب حلب تقهقر إلى حماه، ونودي في البلد يتطييب قلوب الناس وإقبالهم على معايشهم، وأن السلطان والعساكر واصلة، وأبطل ديوان المستخرج وأقيموا، ولكن كانوا قد استخرجوا أكثر مما أمروا به وبقيت بواقي على الناس الذين قد اختفوا فعفى عما بقي، ولم يرد ما سلف.

لا جرم أن عواقب هذه الأفعال خسر ونكر، وأن أصحابها لا يفلحون، ثم جاءت الأخبار بأن سلطان مصر رجع عائدا إلى مصر بعد أن خرج منها قاصدا الشام، فكثر الخوف واشتد الحال، وكثرت الأمطار جدا، وصار بالطرقات من الأوحال والسيول ما يحول بين المرء وبين ما يريده من الانتشار في الأرض والذهاب فيها، فإنا لله وإنا إليه راجعون.

وخرج كثير من الناس خفافا وثقالا يتحملون بأهليهم وأولادهم، والمدينة خير لهم لو كانوا يعلمون، وجعلوا يحملون الصغار في الوحل الشديد والمشقة على الدواب والرقاب، وقد ضعفت الدواب من قلة العلف مع كثرة الأمطار والزلق والبرد الشديد والجوع وقلة الشيء فلا حول ولا قوة إلا بالله.

واستهل جمادى الأولى والناس على خطة صعبة من الخوف، وتأخر السلطان واقترب العدو، وخرج الشيخ تقي الدين بن تيمية رحمه الله تعالى في مستهل هذا الشهر وكان يوم السبت إلى نائب الشام في المرج فثبتهم وقوى جأشهم وطيب قلوبهم، ووعدهم النصر والظفر على الأعداء، وتلا قوله تعالى: {.. وَمَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنْصُرَنَّهُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ} 2. وبات عند العسكر ليلة الأحد، ثم عاد إلى دمشق، وقد سأله النائب والأمراء أن يركب على البريد إلى مصر يستحث السلطان على المجيء، فساق وراء السلطان، وكان السلطان قد وصل إلى الساحل فلم يدركه إلا وقد دخل القاهرة وتفارط الحال، ولكنه استحثهم على تجهيز العساكر إلى الشام إن كان لهم به حاجة.

وقال لهم فيما قال: إن كنتم أعرضتم عن الشام وحمايته أقمنا له سلطانا يحوطه ويحميه ويستغله في زمن الأمن، ولم يزل بهم حتى جردت العساكر إلى الشام.

ثم قال لهم: لو قدر أنكم لستم حكام الشام ولا ملوكه واستنصركم أهله وجب عليكم النصر، فكيف وأنتم حكامه وسلاطينه وهم رعاياكم وأنتم مسؤولون عنهم، وقوّى جأشهم وضمن لهم النصر هذه الكرة، فخرجوا إلى الشام، فلما تواصلت العساكر إلى الشام فرح الناس فرحا شديدا بعد أن كانوا قد يئسوا من أنفسهم وأهليهم وأموالهم، ثم قويت الأراجيف بوصول التتر، وتحقق عود السلطان إلى مصر.

ونادى ابن النحاس متولي البلد في الناس من قدر على السفر فلا يقعد بدمشق، فتصايح النساء والولدان، ورهق الناس ذلة عظيمة وخمدة، وزلزلوا زلزالا شديدا، وغلقت الأسواق وتيقنوا أن لا ناصر لهم إلا الله عز وجل، وأن نائب الشام لما كان فيه قوة مع السلطان عام أول لم يقو على التقاء جيش التتر، فكيف به الآن وقد عزم على الهرب؟

ويقولون: ما بقي أهل دمشق إلا طعمة العدو، ودخل كثير من الناس إلى البراري والقفار والمغر بأهليهم من الكبار والصغار، ونودي في الناس من كانت نيته الجهاد فليلحق بالجيش فقد اقترب وصول التتر، ولم يبق بدمشق من أكابرها إلا القليل.

وسافر ابن جماعة والحريري وابن صصرى وابن منجا، وقد سبقهم بيوتهم إلى مصر، وجاءت الأخبار بوصول التتر إلى سرقين وخرج الشيخ زين الدين الفارقي، والشيخ إبراهيم الرقي، وابن قوام، وشرف الدين بن تيمية، وابن خبارة إلى نائب السلطنة الأفرم فقووا عزمه على ملاقاة العدو، واجتمعوا بمهنا أمير العرب فحرضوه على قتال العدو فأجابهم بالسمع والطاعة، وقويت نياتهم على ذلك، وخرج طلب سلار من دمشق إلى ناحية المرج، واستعدوا للحرب والقتال بنيات صادقة.

ورجع الشيخ تقي الدين بن تيمية من الديار المصرية في السابع والعشرين من جمادى الأولى على البريد، وأقام بقلعة مصر ثمانية أيام يحثهم على الجهاد والخروج إلى العدو، وقد اجتمع بالسلطان والوزير وأعيان الدولة فأجبروه إلى الخروج، وقد غلت الأسعار بدمشق جدا، حتى بيع خاروفان بخمسمائة درهم، واشتد الحال.

ثم جاءت الأخبار بأن ملك التتار قد خاض الفرات راجعا عامه ذلك لضعف جيشه وقلة عددهم، فطابت النفوس لذلك، وسكن الناس وعادوا إلى منازلهم منشرحين آمنين مستبشرين.

ولما جاءت الأخبار بعدم وصول التتار إلى الشام في جمادى الآخرة تراجعت أنفس الناس إليهم وعاد نائب السلطنة إلى دمشق، وكان مخيما في المرج من مدة أربعة أشهر متتابعة، وهو من أعظم الرباط، وتراجع الناس إلى أوطانهم:

وكان الشيخ زين الدين الفارقي قد درّس بالناصرية لغيبة مدرسها كمال الدين بن الشريشني بالكرك هاربا، ثم عاد إليها في رمضان، وفي أواخر الشهر درس ابن الزكي بالدولعية عوضا عن جمال الدين الزرعي لغيبته.

وفي يوم الاثنين قرئت شروط الذمة على أهل الذمة وألزموا بها واتفقت الكلمة على عزلهم عن الجهات، وأخذوا بالصغار، ونودي بذلك في البلد وألزم النصارى بالعمائم الزرق، واليهود بالصفر، والسامرة بالحمر، فحصل بذلك خير كثير وتميزوا عن المسلمين.

وفي عاشر رمضان جاء المرسوم بالمشاركة بين أرجواش والأمير سيف الدين أقبجا في نيابة القلعة، وأن يركب كل واحد منهما يوما، ويكون الآخر بالقلعة يوما، فامتنع أرجواش من ذلك.

وفي شوال درّس بالإقبالية الشيخ شهاب الدين بن المجد عوضا عن علاء الدين القونوي بحكم إقامته بالقاهرة، وفي يوم الجمعة الثالث عشر من ذي القعدة، عزل شمس الدين بن الحريري عن قضاء الحنفية، بالقاضي جلال الدين بن حسام الدين على قاعدته وقاعدة أبيه، وذلك باتفاق من الوزير شمس الدين سنقر الأعسر ونائب السلطان الأفرم.

وفيها: وصلت رسل ملك التتار إلى دمشق فأنزلوا بالقلعة، ثم ساروا إلى مصر.

من الأعيان:

الشيخ حسن الكردي

المقيم بالشاغور في بستان له يأكل من غلته ويطعم من ورد عليه، وكان يزار فلما احتضر اغتسل وأخذ من شعره واستقبل القبلة وركع ركعات، ثم توفي رحمه الله يوم الاثنين الرابع جمادى الأولى، وقد جاوز المائة سنة.

الطواشي صفي الدين جوهر التفليسي

المحدث، اعتنى بسماع الحديث وتحصيل الأجزاء، وكان حسن الخلق صالحا لين الجانب رجلا حاميا زكيا، ووقف أجزاءه التي ملكها على المحدثين.

الأمير عز الدين

محمد بن أبي الهيجاء بن محمد الهيدباني الأربلي متولي دمشق، كان لديه فضائل كثيرة في التواريخ والشعر وربما جمع شيئا في ذلك، وكان يسكن بدرب سعور فعرف به، فيقال درب ابن أبي الهيجاء.

وهو أول منزل نزلناه حين قدمنا دمشق في سنة ست وسبعمائة، ختم الله لي بخير في عافية آمين، توفي ابن أبي الهيجاء في طريق مصر وله ثمانون سنة، وكان مشكور السيرة حسن المحاضرة.

الأمير جمال الدين آقوش الشريفي

والي الولاة بالبلاد القبلية، توفي في شوال وكانت له هيبة وسطوة وحرمة.

ثم دخلت سنة إحدى وسبعمائة

استهلت والحكام هم المذكورون في التي قبلها، والأمير سيف الدين سلار بالشام، ونائب دمشق الأفرم، وفي أولها عزل الأمير قطلبك عن نيابة البلاد الساحلية وتولاها الأمير سيف الدين استدمر، وعزل عن وزارة مصر شمس الدين الأعسر، وتولي سيف الدين أقجبا المنصوري نيابة غزة، وجعل عوضه بالقلعة الأمير سيف الدين بهادر السيجري، وهو من الرحبة.

وفي صفر رجعت رسل ملك التتر من مصر إلى دمشق فتلقاهم نائب السلطنة والجيش والعامة، وفي نصف صفر ولي تدريس النورية الشيخ صدر الدين علي البصراوي الحنفي، عوضا عن الشيخ ولي الدين السمرقندي وإنما كان وليها ستة أيام ودرّس بها أربعة دروس بعد بني الصدر سليمان، توفي وكان من كبار الصالحين يصلي كل يوم مائة ركعة، وفي يوم الأربعاء تاسع عشر ربيع الأول جلس قاضي القضاة وخطيب الخطباء بدر الدين بن جماعة بالخانقاه الشمساطية شيخ الشيوخ بها عن طلب الصوفية له بذلك. ورغبتهم فيه، وذلك بعد وفاة الشيخ يوسف بن حمويه الحموي، وفرحت الصوفية به، وجلس حوله ولم تجتمع هذه المناصب لغيره قبله، ولا بلغنا أنها اجتمعت إلى أحد بعده إلى زماننا هذا: القضاء والخطابة ومشيخة الشيوخ.

وفي يوم الاثنين الرابع والعشرين من ربيع الأول قتل الفتح أحمد بن الثقفي بالديار المصرية، حكم فيه القاضي زين الدين بن مخلوف المالكي بما ثبت عنده من تنقيصه للشريعة واستهزائه بالآيات المحكمات، ومعارضة المشتبهات بعضها ببعض، يذكر عنه أنه كان يحل المحرمات من اللواط والخمر وغير ذلك، لمن كان يجتمع فيه من الفسقة من الترك وغيرهم من الجهلة، هذا وقد كان له فضيلة وله اشتغال وهيئة جميلة في الظاهر، وبزته ولبسته جيدة.

ولما أوقف عند شباك دار الحديث الكاملية بين القصرين استغاث بالقاضي تقي الدين بن دقيق العيد فقال: ما تعرف مني؟ فقال: أعرف منك الفضيلة، ولكن حكمك إلى القاضي زين الدين، فأمر القاضي للوالي أن يضرب عنقه، فضرب عنقه وطيف برأسه في البلد، ونودي عليه هذا جزاء من طعن في الله ورسوله.

قال البرزالي في تاريخه: وفي وسط شهر ربيع الأول ورد كتاب من بلاد حماه من جهة قاضيها يخبر فيه أنه وقع في هذه الأيام ببارين من عمل حماه برد كبار على صور حيوانات مختلفة شتى، سباع وحيات وعقارب وطيور ومعز ونساء، ورجال في أوساطهم حوائص، وأن ذلك ثبت بمحضر عند قاضي الناحية، ثم نقل ثبوته إلى قاضي حماه.

وفي يوم الثلاثاء عاشر ربيع الآخر شنق الشيخ علي الحويرالي بواب الظاهرية على بابها، وذلك أنه اعترف بقتل الشيخ زين الدين السمرقندي.

وفي النصف منه حضر القاضي بدر الدين بن جماعة تدريس الناصرية الجوانية عوضا عن كمال الدين بن الشريشي، وذلك أنه ثبت محضر أنها لقاضي الشافعية بدمشق، فانتزعها من يد ابن الشريشي.

وفي يوم الثلاثاء التاسع والعشرين من جمادى الأولى قدم الصدر علاء الدين بن شرف الدين بن القلانسي على أهله من التتر بعد أسر سنتين وأياما، وقد حبس مدة ثم لطف الله به وتلطف حتى تخلص منهم ورجع إلى أهله، ففرحوا به.

وفي سادس جمادى الآخرة قدم البريد من القاهرة، وأخبر بوفاة أمير المؤمنين الخليفة الحاكم بأمر الله العباسي، وأن ولده ولي الخلافة من بعده، وهو أبو الربيع سليمان، ولقب بالمستكفي بالله، وأنه حضر جنازته الناس كلهم مشاة، ودفن بالقرب من الست نفيسة، وله أربعون سنة في الخلافة، وقدم مع البريد تقليد بالقضاء لشمس الدين الحريري الحنفي، ونظر الدواوين لشرف الدين بن مزهر، واستمرت الخاتونية الجوانية بيد القاضي جلال الدين بن حسام الدين بإذن نائب السلطنة.

وفي يوم الجمعة تاسع جمادى الآخرة خطب للخليفة المستكفي بالله وترحم على والده بجامع دمشق وأعيدت الناصرية إلى ابن الشريشي، وعزل عنها ابن جماعة ودرّس بها يوم الأربعاء الرابع عشر من جمادى الآخرة.

وفي شوال قدم إلى الشام جراد عظيم أكل الزرع والثمار وجرد الأشجار حتى صارت مثل العصي، ولم يعهد مثل هذا، وفي هذا الشهر عقد مجلس لليهود الخيابرة وألزموا بأداء الجزية أسوة أمثالهم من اليهود، فأحضروا كتابا معهم يزعمون أنه من رسول الله بوضع الجزية عنهم.

فلما وقف عليه الفقهاء تبينوا أنه مكذوب مفتعل لما فيه من الألفاظ الركيكة، والتواريخ المحبطة، واللحن الفاحش، وحاققهم عليه شيخ الإسلام ابن تيمية وبين لهم خطأهم وكذبهم، وأنه مزور مكذوب، فأنابوا إلى أداء الجزية، وخافوا من أن تستعاد منهم الشؤون الماضية.

قلت: وقد وقفت أنا على هذا الكتاب فرأيت فيها شهادة سعد بن معاذ عام خيبر، وقد توفي سعد قبل ذلك بنحو من سنتين، وفيه: وكتب علي بن أبو طالب؛ وهذا لحن لا يصدر عن أمير المؤمنين علي، لأن علم النحو إنما أسند إليه من طريق أبي الأسود الدؤلي عنه، وقد جمعت فيه جزءا مفردا، وذكرت ما جرى فيه أيام القاضي المارودي، وكتاب أصحابنا في ذلك العصر، وقد ذكره في الحاوي وصاحب الشامل في كتابه وغير واحد، وبينوا خطأه ولله الحمد والمنة.

وفي هذا الشهر ثار جماعة من الحسدة على الشيخ تقي الدين بن تيمية وشكوا منه أنه يقيم الحدود ويعزر ويحلق رؤوس الصبيان، وتكلم هو أيضا فيمن يشكو منه ذلك، وبّين خطأهم، ثم سكنت الأمور.

وفي ذي القعدة ضربت البشائر بقلعة دمشق أياما بسبب فتح أماكن من بلاد سيس عنوة، ففتحها المسلمون ولله الحمد.

وفيه قدم عز الدين بن ميسر على نظر الدواوين عوضا عن ابن مزهر.

وفي يوم الثلاثاء رابع ذي الحجة حضر عبد السيد بن المهذب ديّان اليهود إلى دار العدل ومعه أولاده فأسلموا كلهم، فأكرمهم نائب السلطنة وأمر أن يركب بخلعة وخلفه الدبادب تضرب والبوقات إلى داره، وعمل ليلتئذ ختمة عظيمة حضرها القضاة والعلماء، وأسلم على يديه جماعة كبيرة من اليهود، وخرجوا يوم العيد كلهم يكبرون مع المسلمين، وأكرمهم الناس إكراما زائدا.

وقدمت رسل ملك التتار في سابع عشر ذي الحجة فنزلوا بالقلعة، وسافروا إلى القاهرة بعد ثلاثة أيام وبعد مسيرهم بيومين مات أرجواس، وبعد موته بيومين قدم الجيش من بلاد سيس، وقد فتحوا جانبا منها، فخرج نائب السلطنة والجيش لتلقيهم، وخرج الناس للفرجة على العادة وفرحوا، بقدومهم ونصرهم.

من الأعيان:

أمير المؤمنين الخليفة الحاكم بأمر الله

أبو العباس أحمد بن المسترشد بالله الهاشمي العباسي البغدادي المصري، بويع بالخلافة بالدولة الظاهرية في أول سنة إحدى وستين وستمائة، فاستكمل أربعين سنة في الخلافة، وتوفي ليلة الجمعة ثامن عشر جمادى الأولى، وصلّي عليه وقت صلاة العصر بسوق الخيل، وحضر جنازته الأعيان والدولة كلهم مشاة.

وكان قد عهد بالخلافة إلى ولده المذكور أبي الربيع سليمان.

خلافة المستكفي بالله أمير المؤمنين ابن الحاكم بأمر الله العباسي

لما عهد إليه كتب تقليده بذلك وقرئ بحضرة السلطان والدولة يوم الأحد العشرين من ذي الحجة من هذه السنة، وخطب له على المنابر بالبلاد المصرية والشامية، وسارت بذلك البريدية إلى جميع البلاد الإسلامية.

وتوفي فيها:

الأمير عز الدين

أيبك بن عبد الله النجيبي الدويدار والي دمشق، واحد أمراء الطبلخانة بها، وكان مشكور السيرة، ولم تطل مدته، ودفن بقاسيون، توفي يوم الثلاثاء سادس عشر ربيع الأول.

الشيخ الإمام العالم شرف الدين أبو الحسن

علي بن الشيخ الإمام العالم العلامة الحافظ الفقيه تقي الدين أبي عبد الله محمد بن الشيخ أبي الحسن أحمد بن عبد الله بن عيسى بن أحمد بن محمد اليونيني البعلبكي، وكان أكبر من أخيه الشيخ قطب الدين بن الشيخ الفقيه، ولد شرف الدين سنة إحدى وعشرين وستمائة، فأسمعه أبوه الكثير واشتغل وتفقه، وكان عابدا عاملا كثير الخشوع.

دخل عليه إنسان وهو بخزانة الكتب فجعل يضربه بعصا في رأسه ثم بسكين فبقي متمرضا أياما، ثم توفي إلى رحمة الله يوم الخميس حادي عشر رمضان ببعلبك، ودفن بباب بطحا، وتأسف الناس عليه لعلمه وعمله وحفظه الأحاديث، وتودده إلى الناس وتواضعه وحسن سمته ومرؤءته تغمده الله برحمته.

الصدر ضياء الدين

أحمد بن الحسين بن شيخ السلامية والد القاضي قطب الدين موسى الذي تولى فيها بعد نظر الجيش بالشام وبمصر أيضا، توفي يوم الثلاثاء عشرين ذي القعدة ودفن بقاسيون، وعمل عزاؤه بالرواحية.

الأمير الكبير المرابط المجاهد

علم الدين أرجواش بن عبد الله المنصوري، نائب القلعة بالشام كان ذا هيبة وهمة وشهامة وقصد صالح، قدر الله على يديه حفظ معقل المسلمين لما ملكت التتار الشام أيام قازان، وعصت عليهم القلعة ومنعها الله منهم على يدي هذا الرجل، فإنه التزم أن لا يسلمها إليهم ما دام بها عين تطرف، واقتدت بها بقية القلاع الشامية، وكانت وفاته بالقلعة ليلة السبت الثاني والعشرين من ذي الحجة، وأخرج منها ضحوة يوم السبت فصلّي عليه وحضر نائب السلطنة فمن دونه جنازته، ثم حمل إلى سفح قاسيون ودفن بتربته رحمه الله.

الأبرقوهي المسند المعمر المصري

هو الشيخ الجليل المسند الرحلة، بقية السلف شهاب الدين أبو المعالي أحمد بن إسحاق بن محمد بن المؤيد بن علي بن إسماعيل بن أبي طالب، الأبرقوهي الهمداني ثم المصري، ولد بأبرقوه من بلاد شيراز في رجب أو شعبان سنة خمس عشرة وستمائة، وسمع الكثير من الحديث على المشايخ المكثرين، وخرجت له مشيخات، وكان شيخا حسنا لطيفا مطيقا، توفي بمكة بعد خروج الحجيج بأربعة أيام رحمه الله. وفيها توفي:

صاحب مكة

الشريف أبو نمى محمد بن الأمير أبي سعد حسن بن علي بن قتادة الحسني صاحب مكة منذ أربعين سنة، وكان حليما وقورا ذا رأي وسياسة وعقل ومروءة.

وفيها: ولد كاتبه إسماعيل بن عمر بن كثير القرشي المصري الشافعي عفا الله عنه، والله سبحانه أعلم.

ثم دخلت سنة اثنتين وسبعمائة من الهجرة

استهلت والحكام هم المذكورون في التي قبلها، وفي يوم الأربعاء ثاني صفر فتحت جزيرة أرواد بالقرب من أنطرسوس، وكانت من أضر الأماكن على أهل السواحل، فجاءتها المراكب من الديار المصرية في البحر وأردفها جيوش طرابلس، ففتحت ولله الحمد نصف النهار، وقتلوا من أهلها قريبا من ألفين وأسروا قريبا من خمسمائة، وكان فتحها من تمام فتح السواحل، وأراح الله المسلمين من شر أهلها.

وفي يوم الخميس السابع عشر من شهر صفر وصل البريد إلى دمشق فأخبر بوفاة قاضي القضاة ابن دقيق العيد، ومعه كتاب من السلطان إلى قاضي القضاة ابن جماعة، فيه تعظيم له واحترام وإكرام يستدعيه إلى قربه ليباشر وظيفة القضاء بمصر على عادته فتهيأ لذلك، ولما خرج خرج معه نائب السلطنة الأفرم وأهل الحل والعقد، وأعيان الناس ليودعوه، وستأتي ترجمة ابن دقيق العيد في الوفيات، ولما وصل ابن جماعة إلى مصر أكرمه السلطان إكراما زائدا.

وخلع عليه خلعة صوف وبغلة تساوي ثلاثة آلاف درهم، وباشر الحكم بمصر يوم السبت رابع ربيع الأول، ووصلت رسل التتار في أواخر ربيع الأول قاصدين بلاد مصر، وباشر شرف الدين الفزاري مشيخة دار الحديث الظاهرية يوم الخميس ثامن ربيع الآخر عوضا عن شرف الدين الناسخ، وهو أبو حفص عمر بن محمد بن حسن بن خواجا إمام الفارسي، توفي بها عن سبعين سنة، وكان فيه بر ومعروف وأخلاق حسنة، رحمه الله.

وذكر الشيخ شرف الدين المذكور درسا مفيدا وحضر عنده جماعة من الأعيان، وفي يوم الجمعة حادي عشر جمادى الأولى خلع على قاضي القضاة نجم الدين بن صصرى بقضاء الشام عوضا عن ابن جماعة، وعلى الفارقي بالخطابة، وعلى الأمير ركن الدين بيبرس العلاوي بشد الدواوين وهنأهم الناس، وحضر نائب السلطنة والأعيان المقصورة لسماع الخطبة، وقرئ تقليد ابن صصرى بعد الصلاة ثم جلس في الشباك الكمالي وقرئ تقليده مرة ثانية.

وفي جمادى الأولى وقع بيد نائب السلطنة كتاب مزور فيه أن الشيخ تقي الدين بن تيمية والقاضي شمس الدين بن الحريري وجماعة من الأمراء والخواص الذين بباب السلطنة يناصحون التتر ويكاتبوهم، ويريدون تولية قبجق على الشام، وأن الشيخ كمال الدين بن الزملكاني يعلمهم بأحوال الأمير جمال الدين الأفرم، وكذلك كمال الدين بن العطار.

فلما وقف عليه نائب السلطنة عرف أن هذا مفتعل، ففحص عن واضعه فإذا هو فقير كان مجاورا بالبيت الذي كان مجاور محراب الصحابة، يقال له اليعفوري، وآخر معه يقال له أحمد الغناري، وكانا معروفين بالشر والفضول، ووجد معهما مسودة هذا الكتاب، فتحقق نائب السلطنة ذلك فعزرا تعزيرا عنيفا، ثم وسطا بعد ذلك، وقطعت يد الكاتب الذي كتب لهما هذا الكتاب، وهو التاج المناديلي.

وفي أواخر جمادى الأولى انتقل الأمير سيف الدين بلبان الجوكندار المنصوري إلى نيابة القلعة عوضا عن أرجواش.

عجيبة من عجائب البحر

قال الشيخ علم الدين البرزالي في تاريخه: قرأت في بعض الكتب الواردة من القاهرة أنه لما كان بتاريخ يوم الخميس رابع جمادى الآخرة ظهرت دابة من البحر عجيبة الخلقة من بحر النيل إلى أرض المنوفية، بين بلاد منية مسعود واصطباري والراهب.

وهذه صفتها: لونها لون الجاموس بلا شعر، وآذانها كأذن الجمل، وعيناها وفرجها مثل الناقة، يغطي فرجها ذنب طوله شبر ونصف طرفه كذنب السمكة، ورقبتها مثل غلظ التليس المحشو تبنا، وفمها وشفتاها مثل الكربال، ولها أربعة أنياب اثنان من فوق واثنان من أسفل، طول كل واحد دون الشبر في عرض أصبعين. وفي فمها ثمان وأربعون ضرسا وسن مثل بيادق الشطرنج، وطول يديها من باطنها إلى الأرض شبران ونصف ومن ركبتها إلى حافرها مثل بطن الثعبان، أصفر مجعد، ودور حافرها مثل السكرجة بأربعة أظافير مثل أظافير الجمل، وعرض ظهرها مقدار ذراعين ونصف، وطولها من فمها إلى ذنبها خمسة عشر قدما. وفي بطنها ثلاثة كروش، ولحمها أحمر وزفر مثل السمك، وطعمه كلحم الجمل، وغلظه أربعة أصابع ما تعمل فيه السيوف، وحمل جلدها على خمسة جمال في مقدار ساعة من ثقله على جمل بعد جمل وأحضروه إلى بين يدي السلطان بالقلعة وحشوه تبنا وأقاموه بين يديه، والله أعلم.

وفي شهر رجب قويت الأخبار بعزم التتار على دخول بلاد الشام، فانزعج الناس لذلك واشتد خوفهم جدا، وقنت الخطيب في الصلوات وقرئ البخاري، وشرع الناس في الجفل إلى الديار المصرية والكرك والحصون المنيعة، وتأخر مجيء العساكر المصرية عن إبانها فاشتد لذلك الخوف.

وفي شهر رجب باشر نجم الدين بن أبي الطيب نظر الخزانة عوضا عن أمين الدين سليمان.

وفي يوم السبت ثالث شعبان باشر مشيخة الشيوخ بعد ابن جماعة القاضي ناصر الدين عبد السلام، وكان جمال الدين الزرعي يسد الوظيفة إلى هذا التاريخ.

وفي يوم السبت عاشر شعبان ضربت البشائر بالقلعة وعلى أبواب الأمراء بخروج السلطان بالعساكر من مصر لمناجزة التتار المخذولين، وفي هذا اليوم بعينه كانت وقعة عرض وذلك أنه التقى جماعة من أمراء الإسلام فيهم استدمر و بهادرأخي وكجكن وغرلو العادلي، وكل منهم سيف من سيوف الدين في ألف وخمسمائة فارس.

وكان التتار في سبعة آلاف فاقتتلوا وصبر المسلمون صبرا جيدا، فنصرهم الله وخذل التتر، فقتلوا منهم خلقا وأسروا آخرين، وولوا عند ذلك مدبرين، وغنم المسلمون منهم غنائم، وعادوا سالمين لم يفقد منهم إلا القليل ممن أكرمه الله بالشهادة، ووقعت البطاقة بذلك، ثم قدمت الأسارى يوم الخميس نصف شعبان، وكان يوم خميس النصارى.

أوائل وقعة شقحب

وفي ثامن عشر قدمت طائفة كبيرة من جيش المصريين فيهم الأمير ركن الدين بيبرس الجاشنكير، والأمير حسام الدين لاجين المعروف بالاستادار المنصوري، والأمير سيف الدين كراي المنصوري، ثم قدمت بعدهم طائفة أخرى فيهم بدر الدين أمير سلاح، وأيبك الخزندار فقويت القلوب واطمأن كثير من الناس.

ولكن الناس في جفل عظيم من بلاد حلب وحماه وحمص وتلك النواحي وتقهقر الجيش الحلبي والحموي إلى حمص، ثم خافوا أن يدهمهم التتر فجاؤوا فنزلوا المرج يوم الأحد خامس شعبان.

ووصل التتار إلى حمص وبعلبك وعاثوا في تلك الأراضي فسادا، وقلق الناس قلقا عظيما، وخافوا خوفا شديدا، واختبط البلد لتأخر قدوم السلطان ببقية الجيش، وقال الناس: لا طاقة لجيش الشام مع هؤلاء المصريين بلقاء التتار لكثرتهم، وإنما سبيلهم أن يتأخروا عنهم مرحلة مرحلة.

وتحدث الناس بالأراجيف فاجتمع الأمراء يوم الأحد المذكور بالميدان وتحالفوا على لقاء العدو، وشجعوا أنفسهم، ونودي بالبلد أن لا يرحل أحد منه، فسكن الناس وجلس القضاة بالجامع وحلفوا جماعة من الفقهاء والعامة على القتال.

وتوجه الشيخ تقي الدين بن تيمية إلى العسكر الواصل من حماه فاجتمع بهم في القطيعة فأعلمهم بما تحالف عليه الأمراء والناس من لقاء العدو، فأجابوا إلى ذلك وحلفوا معهم، وكان الشيخ تقي الدين بن تيمية يحلف للأمراء والناس إنكم في هذه الكرة منصورون، فيقول له الأمراء: قل إن شاء الله، فيقول إن شاء الله تحقيقا لا تعليقا.

وكان يتأول في ذلك أشياء من كتاب الله منها قوله تعالى: {ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنْصُرَنَّهُ اللَّهُ} 3.

وقد تكلم الناس في كيفية قتال هؤلاء التتر من أي قبيل هو، فإنهم يُظهرون الإسلام وليسوا بغاة على الإمام، فإنهم لم يكونوا في طاعته في وقت ثم خالفوه.

فقال الشيخ تقي الدين: هؤلاء من جنس الخوارج الذين خرجوا على علي ومعاوية، ورأوا أنهم أحق بالأمر منهما، وهؤلاء يزعمون أنهم أحق بإقامة الحق من المسلمين، ويعيبون على المسلمين ما هم متلبسون به من المعاصي والظلم، وهم متلبسون بما هو أعظم منه بأضعاف مضاعفة، فتفطن العلماء والناس لذلك.

وكان يقول للناس: إذا رأيتموني من ذلك الجانب وعلى رأسي مصحف فاقتلوني، فتشجع الناس في قتال التتار وقويت قلوبهم ونياتهم ولله الحمد.

ولما كان يوم الرابع والعشرين من شعبان خرجت العساكر الشامية فخيمت على الجسورة من ناحية الكسوة، ومعهم القضاة، فصار الناس فيهم فريقين فريق يقولون إنما ساروا ليختاروا موضعا للقتال فإن المرج فيه مياه كثيرة فلا يستطيعون معها القتال.

وقال فريق: إنما ساروا لتلك الجهة ليهربوا وليلحقوا بالسلطان.

فلما كانت ليلة الخميس ساروا إلى ناحية الكسوة فقويت ظنون الناس في هربهم، وقد وصلت التتار إلى قارة.

وقيل إنهم وصلوا إلى القطيعة، فانزعج الناس لذلك شديدا ولم يبق حول القرى والحواضر أحد، وامتلأت القلعة والبلد وازدحمت المنازل والطرقات، واضطرب الناس وخرج الشيخ تقي الدين بن تيمية صبيحة يوم الخميس من الشهر المذكور من باب النصر بمشقة كبيرة، وصحبته جماعة ليشهد القتال بنفسه ومن معه، فظنوا إنما خرج هاربا فحصل اللوم من بعض الناس وقالوا أنت منعتنا من الجفل وهاأنت هارب من البلد؟ فلم يرد عليهم وبقي البلد ليس فيه حاكم.

وجلس اللصوص والحرافيش فيه وفي بساتين الناس يخربون وينتهبون ما قدروا عليه، ويقطعون المشمش قبل أوانه والباقلاء والقمح وسائر الخضراوات.

وحيل بين الناس وبين خبر الجيش، وانقطعت الطرق إلى الكسوة وظهرت الوحشة على البلد والحواضر، وليس للناس شغل غير الصعود إلى المآذن ينظرون يمينا وشمالا، وإلى ناحية الكسوة فتارة يقولون: رأينا غبرة فيخافون أن تكون من التتر، ويتعجبون من الجيش مع كثرتهم وجودة عدتهم وعددهم، أين ذهبوا؟ فلا يدرون ما فعل الله بهم، فانقطعت الآمال وألح الناس في الدعاء والابتهال وفي الصلوات وفي كل حال، وذلك يوم الخميس التاسع والعشرين من شعبان.

وكان الناس في خوف ورعب لا يعبر عنه، لكن كان الفرج من ذلك قريبا، ولكن أكثرهم لا يفلحون، كما جاء في حديث أبي رزين: «عجب ربك من قنوط عباده وقرب غيره ينظر إليكم أزلين قنطين فيظل يضحك يعلم أن فرجكم قريب».

فلما كان آخر هذا اليوم وصل الأمير فخر الدين إياس المرقبي أحد أمراء دمشق، فبشر الناس بخير، هو أن السلطان قد وصل وقت اجتمعت العساكر المصرية والشامية، وقد أرسلني أكشف هل طرق البلد أحد من التتر، فوجد الأمر كما يحب لم يطرقها أحد منهم، وذلك أن التتار عرجوا من دمشق إلى ناحية العساكر المصرية، ولم يشتغلوا بالبلد، وقد قالوا إن غلبنا فإن البلد لنا، وإن غلبنا فلا حاجة لنا به.

ونودي بالبلد في تطييب الخواطر، وأن السلطان قد وصل، فاطمأن الناس وسكنت قلوبهم، وأثبت الشهر ليلة الجمعة القاضي تقي الدين الحنبلي، فإن السماء كانت مغيمة فعلقت القناديل وصليت التراويح واستبشر الناس بشهر رمضان وبركته، وأصبح الناس يوم الجمعة في هم شديد وخوف أكيد، لأنهم لا يعلمون ما خبر الناس.

فبينما هم كذلك إذ جاء الأمير سيف الدين غرلو العادلي فاجتمع بنائب القلعة ثم عاد سريعا إلى العسكر، ولم يدر أحد ما أخبر به، ووقع الناس في الأراجيف والخوض.

صفة وقعة شقحب

أصبح الناس يوم السبت على ما كانوا عليه من الخوف وضيق الأمر، فرأوا من المآذن سوادا وغبرة من ناحية العسكر والعدو، فغلب على الظنون أن الوقعة في هذا اليوم، فابتهلوا إلى الله عز وجل بالدعاء في المساجد والبلد، وطلع النساء والصغار على الأسطحة وكشفوا رؤوسهم وضج البلد ضجة عظيمة، ووقع في ذلك الوقت مطر عظيم غزير، ثم سكن الناس، فلما كان بعد الظهر قرئت بطاقة بالجامع تتضمن أن في الساعة الثانية من نهار السبت هذا اجتمعت الجيوش الشامية والمصرية مع السلطان في مرج الصفر، وفيها طلب الدعاء من الناس والأمر بحفظ القلعة والتحرز على الأسوار فدعا الناس في المآذن والبلد، وانقضى النهار وكان يوما مزعجا هائلا، وأصبح الناس يوم الأحد يتحدثون بكسر التتر، وخرج الناس إلى ناحية الكسوة فرجعوا ومعهم شيء من المكاسب، ومعهم رؤوس من رؤوس التتر، وصارت كسرة التتار تقوى وتتزايد قليلا قليلا حتى اتضحت جملة، ولكن الناس لما عندهم من شدة الخوف وكثرة التتر لا يصدقون، فلما كان بعد الظهر قرئ كتاب السلطان إلى متولي القلعة يخبر فيه باجتماع الجيش ظهر يوم السبت بشقحب وبالكسوة.

ثم جاءت بطاقة بعد العصر من نائب السلطان جمال الدين آقوش الأفرم إلى نائب القلعة مضمونها أن الوقعة كانت من العصر يوم السبت إلى الساعة الثانية من يوم الأحد، وأن السيف كان يعمل في رقاب التتر ليلا ونهارا وأنهم هربوا وفروا واعتصموا بالجبال والتلال، وأنه لم يسلم منهم إلا القليل، فأمسى الناس وقد استقرت خواطرهم وتباشروا لهذا الفتح العظيم والنصر المبارك، ودقت البشائر بالقلعة من أول النهار المذكور ونودي بعد الظهر بإخراج الجفال من القلعة لأجل نزول السلطان بها، وشرعوا في الخروج.

وفي يوم الاثنين رابع الشهر رجع الناس من الكسوة إلى دمشق فبشروا الناس بالنصر.

وفيه دخل الشيخ تقي الدين بن تيمية البلد ومعه أصحابه من الجهاد، ففرح الناس به ودعوا له وهنؤه بما يسر الله على يديه من الخير، وذلك أنه ندبه العسكر الشامي أن يسير إلى السلطان يستحثه على السير إلى دمشق فسار إليه فحثه على المجيء إلى دمشق بعد أن كاد يرجع إلى مصر. فجاء هو وإياه جميعا فسأله السلطان أن يقف معه في معركة القتال، فقال له الشيخ: السنة أن يقف الرجل تحت راية قومه، ونحن من جيش الشام لا نقف إلا معهم، وحرض السلطان على القتال، وبشره بالنصر وجعل يحلف بالله الله لا إله إلا هو إنكم منصورون عليهم في هذه المرة، فيقول له الأمراء: قل إن شاء الله، فيقول إن شاء الله تحقيقا لا تعليقا. وأفتى الناس بالفطر مدة قتالهم وأفطر هو أيضا، وكان يدور على الأجناد والأمراء فيأكل من شيء معه في يده ليعلمهم أن إفطارهم ليتقووا على القتال أفضل فيأكل الناس، وكان يتأول في الشاميين قوله : «إنكم ملاقوا العدو غدا، والفطر أقوى لكم»، فعزم عليهم في الفطر عام الفتح كما في حديث أبي سعيد الخدري.

وكان الخليفة أبو الربيع سليمان في صحبة السلطان، ولما اصطفت العساكر والتحم القتال ثبت السلطان ثباتا عظيما، وأمر بجواده فقيد حتى لا يهرب، وبايع الله تعالى في ذلك الموقف وجرت خطوب عظيمة، وقتل جماعة من سادات الأمراء يومئذ، منهم الأمير حسام الدين لاجين الرومي أستاذ دار السلطان، وثمانية من الأمراء المقدمين معه، وصلاح الدين بن الملك السعيد الكامل بن السعيد بن الصالح إسماعيل، وخلق من كبار الأمراء، ثم نزل النصر على المسلمين قريب العصر يومئذ، واستظهر المسلمون عليهم ولله الحمد والمنة.

فلما جاء الليل لجأ التتر إلى اقتحام التلول والجبال والآكام، فأحاط بهم المسلمون يحرسونهم من الهرب، ويرمونهم عن قوس واحدة إلى وقت الفجر، فقتلوا منهم ما لا يعلم عدده إلا الله عز وجل. وجعلوا يجيئون بهم في الحبال فتضرب أعناقهم، ثم اقتحم منهم جماعة الهزيمة فنجا منهم قليل، ثم كانوا يتساقطون في الأودية والمهالك، ثم بعد ذلك غرق منهم جماعة في الفرات بسبب الظلام، وكشف الله بذلك عن المسلمين غمة عظيمة شديدة، ولله الحمد والمنة.

ودخل السلطان إلى دمشق يوم الثلاثاء خامس رمضان وبين يديه الخليفة، وزينت البلد، وفرح كل واحد من أهل الجمعة والسبت والأحد، فنزل السلطان في القصر الأبلق والميدان، ثم تحول إلى القلعة يوم الخميس وصلّى بها الجمعة وخلع على نواب البلاد وأمرهم بالرجوع إلى بلادهم، واستقرت الخواطر، وذهب اليأس وطابت قلوب الناس.

وعزل السلطان ابن النحاس عن ولاية المدينة، وجعل مكانة الأمير علاء الدين أيدغدي أمير علم، وعزل صارم الدين إبراهيم وإلى الخاص عن ولاية البر وجعل مكانه الأمير حسام الدين لاجين الصغير، ثم عاد السلطان إلى الديار المصرية يوم الثلاثاء ثالث شوال بعد أن صام رمضان وعيّد بدمشق.

وطلب الصوفية من نائب دمشق الأفرم أن يولي عليهم مشيخة الشيوخ للشيخ صفي الدين الهندي، فأذن له في المباشرة يوم الجمعة سادس شوال عوضا عن ناصر الدين بن عبد السلام، ودخل السلطان القاهرة يوم الثلاثاء ثالث عشرين شوال، وكان يوما مشهودا، وزينت القاهرة.

وفيها: جاءت زلزلة عظيمة يوم الخميس بكرة الثالث والعشرين من ذي الحجة من هذه السنة، وكان جمهورها بالديار المصرية وتلاطمت بسببها البحار فكسرت المراكب وتهدمت الدور، ومات خلق كثير لا يعلمهم إلا الله، وشققت الحيطان ولم ير مثلها في هذه الأعصار، وكان منها بالشام طائفة لكن كان ذلك أخف من سائر البلاد غيرها.

وفي ذي الحجة باشر الشيخ أبو الوليد بن الحاج الإشبيلي المالكي إمام محراب المالكية بجامع دمشق بعد وفاة الشيخ شمس الدين محمد الصنهاجي.

من الأعيان:

ابن دقيق العيد

الشيخ الإمام العالم العلامة الحافظ قاضي القضاة تقي الدين ابن دقيق العيد القشيري المصري، ولد يوم السبت الخامس والعشرين من شعبان سنة خمس وعشرين وستمائة، بساحل مدينة ينبع من أرض الحجاز، سمع الكثير ورحل في طلب الحديث، وخرج وصنف فيه إسنادا ومتنا مصنفات عديدة، فريدة مفيدة، وانتهت إليه رياسة العلم في زمانه، وفاق أقرانه ورحل إليه الطلبة ودرّس في أماكن كثيرة.

ثم ولي قضاء الديار المصرية في سنة خمس وتسعين وستمائة، ومشيخة دار الحديث الكاملية، وقد اجتمع به الشيخ تقي الدين بن تيمية، فقال له تقي الدين بن دقيق العيد لما رأى تلك العلوم منه: ما أظن بقي يخلق مثلك، وكان وقورا قليل الكلام غزير الفوائد كثير العلوم في ديانة نزاهة، وله شعر رائق، توفي يوم الجمعة حادي عشر شهر صفر، وصلّي عليه يوم الجمعة المذكور بسوق الخيل، وحضر جنازته نائب السلطنة والأمراء، ودفن بالقرافة الصغرى رحمه الله.

الشيخ برهان الدين الإسكندري

إبراهيم بن فلاح بن محمد بن حاتم، سمع الحديث وكان دينا فاضلا، ولد سنة ست وثلاثين وستمائة، وتوفي يوم الثلاثاء رابع وعشرين شوال عن خمس وستين سنة.

وبعد شهور بسواء كانت وفاة:

الصدر جمال الدين بن العطار

كاتب الدرج منذ أربعين سنة، أبو العباس أحمد بن أبي الفتح محمود بن أبي الوحش أسد بن سلامة بن فتيان الشيباني، كان من خيار الناس وأحسنهم تقية، ودفن بتربة لهم تحت الكهف بسفح قاسيون، وتأسف الناس عليه لإحسانه إليهم رحمه الله.

الملك العادل زين الدين كتبغا

توفي بحماه نائبا عليها بعد صرخد يوم الجمعة يوم عيد الأضحى ونقل إلى تربته بسفح قاسيون غربي الرباط الناصري، يقال لها العادلية، وهي تربة مليحة ذات شبابيك وبوابة ومأذنة، وله عليها أوقاف دارة على وظائف من قراءة وأذان وإمامة وغير ذلك، وكان من كبار الأمراء المنصورية.

وقد ملك البلاد بعد مقتل الأشرف خليل بن المنصور، ثم انتزع الملك منه لاجين وجلس في قلعة دمشق، ثم تحول إلى صرخد، وكان بها إلى أن قتل لاجين وأخذ الملك الناصر بن قلاوون، فاستنابه بحماه حتى كانت وفاته كما ذكرنا، وكان من خيار الملوك وأعد لهم وأكثرهم برا، وكان من خيار الأمراء والنواب رحمه الله.

ثم دخلت سنة ثلاث وسبعمائة

استهلت والحكام هم المذكورون في التي قبلها.

وفي صفر تولي الشيخ كمال الدين بن الشريشي نظارة الجامع الأموي وخلع عليه وباشره مباشرة مشكورة، وساوى بين الناس وعزل نفسه في رجب منها.

وفي شهر صفر تولى الشيخ شمس الدين الذهبي خطابة كفر بطنا وأقام بها.

ولما توفي الشيخ زين الدين الفارقي في هذه السنة كان نائب السلطنة في نواحي البلقاء يكشف بعض الأمور، فلما قدم تكلموا معه في وظائف الفارقي فعين الخطابة لشرف الدين الفزاري، وعين الشامية البرانية ودار الحديث للشيخ كمال الدين بن الشريشي، وذلك بإشارة الشيخ تقي الدين بن تيمية، وأخذ منه الناصرية للشيخ كمال الدين بن الزملكاني ورسم بكتابة التواقيع بذلك، وباشر الشيخ شرف الدين الإمامة والخطابة، وفرح الناس به لحسن قراءته وطيب صوته وجودة سيرته.

فلما كان بكرة يوم الاثنين ثاني عشرين ربيع الأول وصل البريد من مصر صحبة الشيخ صدر الدين بن الوكيل، وقد سبقه مرسوم السلطان له بجميع جهات الفارقي مضافا إلى ما بيده من التدريس، فاجتمع بنائب السلطنة بالقصر، وخرج من عنده إلى الجامع ففتح له باب دار الخطابة فنزلها وجاءه الناس يهنئونه، وحضر عنده القراء والمؤذنون، وصلى بالناس العصر وباشر الإمامة يومين فأظهر الناس التألم من صلاته وخطابته، وسعوا فيه إلى نائب السلطنة فمنعه من الخطابة وأقره على التداريس ودار الحديث.

وجاء توقيع سلطاني للشيخ شرف الدين الفزاري بالخطابة، فخطب يوم الجمعة سابع عشر جمادى الأولى، وخلع عليه بطرحة، وفرح الناس به، وأخذ الشيخ كمال الدين بن الزملكاني تدريس الشامية البرانية من يد ابن الوكيل، وباشرها في مستهل جمادى الأولى واستقرت دار الحديث بيد ابن الوكيل مع مدرستيه الأوليتين، وأظنهما العذراوية والشامية الجوانية.

ووصل البريد في ثاني عشر جمادى الأولى بإعادة السنجري إلى نيابة القلعة وتولية نائبها الأمير سيف الدين الجوكندراني نيابة حمص عوضا عن عز الدين الحموي، توفي.

وفي يوم السبت ثاني عشر رمضان قدمت ثلاثة آلاف فارس من مصر، وأضيف إليها ألفان من دمشق وساروا وأخذوا معهم نائب حمص الجوكندراني ووصلوا إلى حماه فصحبهم نائبها الأمير سيف الدين قبجق، وجاء إليهم استدمر نائب طرابلس، وانضاف إليهم قراسنقر نائب حلب وانفصلوا كلهم عنها وافترقوا فرقتين: فرقة سارت صحبة قبجق إلى ناحية ملطية، وقلعة الروم، والفرقة الأخرى صحبة قراسنقر حتى دخلوا الدربندات وحاصروا تل حمدون فتسلموه عنوة في ثالث ذي القعدة بعد حصار طويل. فدقت البشائر بدمشق لذلك، ووقع مع صاحب سيس على أن يكون للمسلمين من نهر جيهان إلى حلب وبلاد ما رواء النهر إلى ناحيتهم لهم، وأن يعجلوا حمل سنتين، ووقعت الهدنة على ذلك، وذلك بعد أن قتل خلق من أمراء الأرمن ورؤسائهم، وعادت العساكر إلى دمشق مؤيدين منصورين، ثم توجهت العساكر المصرية صحبة مقدمهم أمير سلاح إلى مصر.

وفي أواخر السنة كان موت قازان وتولية أخيه خربندا.

وهو ملك التتار قازان واسمه محمود بن أرغون بن أبغا، وذلك في رابع عشر شوال أو حادي عشرة أو ثالث عشرة، بالقرب من همدان، ونقل إلى تربته بيبرين بمكان يسمى الشام، ويقال إنه مات مسموما، وقام في الملك بعده أخوه خربندا محمد بن أرغون، ولقبوه الملك غياث الدين، وخطب له على منابر العراق وخراسان وتلك البلاد.

وحج في هذه السنة الأمير سيف الدين سلار نائب مصر وفي صحبته أربعون أميرا، وجميع أولاد الأمراء، وحج معهم وزير مصر الأمير عز الدين البغدادي، وتولى مكانه بالبركة ناصر الدين محمد الشيخي.

وخرج سلار في أبهة عظيمة جدا، وأمير ركب المصريين الحاج إباق الحسامي، وترك الشيخ صفي الدين مشيخة الشيوخ فوليها القاضي عبد الكريم بن قاضي القضاة محي الدين بن الزكي، وحضر الخانقاه يوم الجمعة الحادي عشر من ذي القعدة وحضر عنده ابن صصرى وعز الدين القلانسي، والصاحب ابن ميسر، والمحتسب وجماعة.

وفي ذي القعدة وصل من التتر مقدم كبير قد هرب منهم إلى بلاد الإسلام وهو الأمير بدر الدين جنكي بن البابا، وفي صحبته نحو من عشرة، فحضروا الجمعة في الجامع، وتوجهوا إلى مصر، فأكرم وأعطى إمرة ألف، وكان مقامه ببلاد آمد، وكان يناصح السلطان ويكاتبه ويطلعه على عورات التتر، فلهذا عظم شأنه في الدولة الناصرية.

من الأعيان ملك التتر قازان.

الشيخ القدورة العابد أبو إسحاق

أبو إسحاق إبراهيم بن أحمد بن محمد بن معالي بن محمد بن عبد الكريم الرقي الحنبلي، كان أصله من بلاد الشرق، ومولده بالرقة في سنة سبع وأربعين وستمائة، واشتغل وحصل وسمع شيئا من الحديث، وقدم دمشق فسكن بالمئذنة الشرقية في أسفلها بأهله إلى جانب الطهارة بالجامع.

وكان معظما عند الخاص والعام، فصيح العبارة كثير العبادة، خشن العيش حسن المجالسة لطيف الكلام كثير التلاوة، قوي التوجه من أفراد العالم، عارفا بالتفسير والحديث والفقه والأصلين، وله مصنفات وخطب، وله شعر حسن.

توفي بمنزلة ليلة الجمعة خامس عشر المحرم وصلّي عليه عقيب الجمعة ونقل إلى تربة الشيخ أبي عمر بالسفح، وكانت جنازته حافلة رحمه الله وأكرم مثواه.

وفي هذا الشهر توفي الأمير زين الدين قراجا أستاذ دار الأفرم ودفن بتربته بميدان الحصا عند النهر.

والشيخ شمس الدين محمد بن إبراهيم بن عبد السلام

عرف بابن الحبلى، كان من خيار الناس يتردد إلى عكا أياما حين ما كانت في أيدي الفرنج، في فكاك أسارى المسلمين، جزاه الله خيرا وعتقه من النار وأدخله الجنة برحمته.

الخطيب ضياء الدين

أبو محمد عبد الرحمن بن الخطيب جمال الدين أبي الفرج عبد الوهاب بن علي بن أحمد بن عقيل السلمي خطيب بعلبك نحوا من ستين سنة، هو ووالده، ولد سنة أربع عشرة وستمائة وسمع الكثير وتفرد عن القزويني، وكان رجلا جيدا حسن القراءة من كبار العدول، توفي ليلة الاثنين ثالث صفر، ودفن بباب سطحا.

الشيخ زين الدين الفارقي

عبد الله بن مروان بن عبد الله بن فهر بن الحسن، أبو محمد الفارقي شيخ الشافعية، ولد سنة ثلاث وثلاثين وستمائة، وسمع الحديث الكثير، واشتغل ودرس بعدة مدارس، وأفتى مدة طويلة، وكانت له همة وشهامة وصرامة، وكان يباشر الأوقاف جيدا، وهو الذي عمر دار الحديث بعد خرابها بيد قازان.

وقد باشرها سبعا وعشرين سنة من بعد النووي إلى حين وفاته، وكانت معه الشامية البرانية وخطابة الجامع الأموي تسعة أشهر، باشر به الخطابة قبل وفاته، وقد انتقل إلى دار الخطابة وتوفي بها يوم الجمعة بعد العصر، وصلّي عليه ضحوة السبت، صلى عليه ابن صصرى عند باب الخطابة وبسوق الخيل قاضي الحنفية شمس الدين بن الحريري، وعند جامع الصالحية قاضي الحنابلة تقي الدين سليمان. ودفن بتربة أهله شمالي تربة الشيخ أبي عمر رحمه الله، وباشر بعده الخطابة شرف الدين الفزاري ومشيخه دار الحديث ابن الوكيل، والشامية البرانية ابن الزملكاني وقد تقدم ذلك.

الأمير الكبير عز الدين أيبك الحموي

ناب بدمشق مدة، ثم عزل عنها إلى صرخد، ثم نقل قبل موته بشهر إلى نيابة حمص، وتوفي بها يوم العشرين من ربيع الآخر، ونقل إلى تربته بالسفح غربي زاوية ابن قوام، وإليه ينسب الحمام بمسجد القصب الذي يقال له حمام الحموي، عمره في أيام نيابته.

الوزير فتح الدين

أبو محمد عبد الله بن محمد بن أحمد بن خالد بن محمد بن نصر بن صقر القرشي المخزومي ابن القيسراني، كان شيخا جليلا أدبيا شاعرا مجودا من بيت رياسة ووزارة، ولي وزارة دمشق مدة ثم أقام بمصر موقعا مدة.

وكان له اعتناء بعلوم الحديث وسماعه، وله مصنف في أسماء الصحابة الذين خرج لهم في الصحيحين، وأورد شيئا من أحاديثهم في مجلدين كبيرين موقوفين بالمدرسة الناصرية بدمشق، وكان له مذاكرة جيدة محررة باللفظ والمعنى، وقد خرج عنه الحافظ الدمياطي، وهو آخر من توفي من شيوخه، توفي بالقاهرة في يوم الجمعة الحادي والعشرين من ربيع الآخرة، وأصلهم من قيسارية الشام.

وكان جده موفق الدين أبو البقاء خالد وزيرا لنور الدين الشهيد، وكان من الكتاب المجيدين المتقنين، له كتابة جيدة محررة جدا، توفي في أيام صلاح الدين سنة ثمان وثمانين وخمسمائة، وأبوه محمد بن نصر بن صقر ولد بعكة قبل أخذ الفرنج لها سنة ثمان وسبعين وأربعمائة، فلما أخذت بعد السبعين وأربعمائة انتقل أهلهم إلى حلب وكانوا بها، وكان شاعرا مطبقا له ديوان مشهور، وكان له معرفة جيدة بالنجوم وعلم الهيئة وغير ذلك.

ترجمة والد ابن كثير مؤلف هذا التاريخ

وفيها: توفي الوالد وهو الخطيب شهاب الدين أبو حفص عمر بن كثير بن ضو بن كثير بن ضو بن درع القرشي من بني حصلة، وهم ينتسبون إلى الشرف وبأيديهم نسب، وقف على بعضها شيخنا المزي فأعجبه ذلك وابتهج به، فصار يكتب في نسبي بسبب ذلك: القرشي، من قرية يقال لها الشركوين غربي بصرى، بينها وبين أذرعات، ولد بها في حدود سنة أربعين وستمائة.

واشتغل بالعلم عند أخواله بني عقبة ببصرى، فقرأ البداية في مذهب أبي حنيفة، وحفظ جمل الزجاجي، وعني بالنحو والعربية واللغة، وحفظ أشعار العرب حتى كان يقول الشعر الجيد الفائق الرائق في المدح والمراثي وقليل من الهجاء، وقرر بمدارس بصرى بمنزل الناقة شمالي البلد حيث يزار، وهو المبرك المشهور عند الناس والله أعلم بصحة ذلك.

ثم انتقل إلى خطابة القرية شرقي بصرى وتمذهب للشافعي، وأخذ عن النووي والشيخ تقي الدين الفزاري، وكان يكرمه ويحترمه فيما أخبرني شيخنا العلامة ابن الزملكاني، فأقام بها نحوا من ثنتي عشرة سنة، ثم تحول إلى خطابة مجيدل القرية التي منها الوالدة، فأقاما بها مدة طويلة في خير وكفاية وتلاوة كثيرة.

وكان يخطب جيدا، وله مقول عند الناس، ولكلامه وقع لديانته وفصاحته وحلاوته، وكان يؤثر الإقامة في البلاد لما يرى فيها من الرفق ووجود الحلال له ولعياله، وقد ولد له عدة أولاد من الوالدة ومن أخرى قبلها.

أكبرهم إسماعيل ثم يونس وإدريس، ثم من الوالدة عبد الوهاب، وعبد العزيز، ومحمد، وأخوات عدة، ثم أنا أصغرهم، وسميت باسم الأخ إسماعيل لأنه كان قد قدم دمشق فاشتغل بها بعد أن حفظ القرآن على والده وقرأ مقدمة في النحو، وحفظ (التنبيه) وشرحه على العلامة تاج الدين الفزاري وحصل (المنتخب في أصول الفقة) قاله لي شيخنا ابن الزملكاني، ثم إنه سقط من سطح الشامية البرانية فمكث أياما ومات، فوجد الوالد عليه وجدا كثيرا، ورثاه بأبيات كثيرة.

فلما ولدت له أنا بعد ذلك سماني باسمه، فأكبر أولاده إسماعيل وآخرهم وأصغرهم إسماعيل، فرحم الله من سلف وختم بخير لمن بقي، توفي والدي في شهر جمادى الأولى سنة ثلاث وسبعمائة، في قرية مجيدل القرية، ودفن بمقبرتها الشمالية عند الزيتون وكنت إذ ذاك صغيرا ابن ثلاث سنين أو نحوها لا أدركه إلا كالحلم.

ثم تحولنا من بعده في سنة سبع وسبعمائة إلى دمشق صحبة كمال الدين عبد الوهاب، وقد كان لنا شقيقا، وبنا رفيقا شفوقا، وقد تأخرت وفاته إلى سنة خمسين، فاشتغلت على يديه في العلم فيسر الله تعالى منه ما يسر، وسهل منه ما تعسر والله أعلم.

وقد قال شيخنا الحافظ علم الدين البرازلي في معجمه فيما أخبرني عنه شمس الدين محمد بن سعد المقدسي مخرجه له، ومن خط المحدث شمس الدين بن سعد هذا نقلت، وكذلك وقفت على خط الحافظ البرزالي مثله في السفينة الثانية من السفن الكبار: قال عمر بن كثير القرشي خطيب القرية وهي قرية من أعمال بصرى رجل فاضل له نظم جيد ويحفظ كثيرا من اللغز وله همة وقوة.

كتبت عنه من شعره بحضور شيخنا تاج الدين الفزاري.

وتوفي في جمادى الأولى سنة ثلاث وسبعمائة بمجيدل القرية من عمل بصرى، أنشدنا الخطيب شهاب الدين أبو حفص عمر بن كثير القرشي خطيب القرية بها لنفسه في منتصف شعبان من سنة سبع وثمانين وستمائة:

نأى النوم عن جفني فبت مسهدا * أخا كلف حلف الصبابة موجدا

سمير الثريا والنجوم مدلها * فمن ولهي خلت الكواكب ركدا

طريحا على فرش الصبابة والأسى * فما ضركم لو كنتم لي عودا

تقلبني أيدي الغرام بلوعةٍ * أرى النار من تلقائها لي أبردا

ومزق صبري بعد جيران حاجزٍ * سعير غرام بات في القلب موقدا

فأمطرته دمعي لعل زفيره * يقل فزادته الدموع توقدا

فبت بليل نابغي ولا أرى * على النأي من بعد الأحبة صعدا

فيالك من ليل تباعد فجره * عليَّ إلى أن خلته قد تخلدا

غراما ووجدا لا يحد أقله * بأهيف معسول المراشف أغيدا

له طلعة كالبدر زان جمالها * بطرة شعر حالك اللون أسودا

يهز من القدر الرشيق مثقفا * ويشهر من جفنيه سيفا مهندا

وفي ورد خديه وآس عذاره * وضوء ثناياه فنيت تجلدا

غدا كل حسنٍ دونه متقاصرا * وأضحى له رب الجمال موحدا

إذا مارنا واهتز عند لقائه * سباك، فلم تملك لسانا ولا يدا

وتسجد إجلالا له وكرامةً * وتقسم قد أمسيت في الحسن أوحدا

ورب أخي كفرٍ تأمل حسنه * فأسلم من إجلاله وتشهدا

وأنكر عيسى والصليب ومريما * وأصبح يهوى بعد بغضٍ محمدا

أيا كعبة الحسن التي طاف حولها * فؤادي، أما للصد عندك من فدا؟

قنعت بطيفٍ من خيالك طارقٍ * وقد كنت لا أرضى بوصلك سرمدا

فقد شفني شوقٌ تجاوز حده * وحسبك من شوقٍ تجاوز واعتدا

سألتك إلا ما مررت بحينا * بفضلك يا رب الملاحة والندا

لعل جفوني أن تغيض دموعها * ويسكن قلبٌ مذ هجرت فما هدا

غلطت بهجراني ولو كنت صابيا * لما صدك الواشون عني ولا العدا

وعدتها ثلاثة وعشرون بيتا والله يغفر له ما صنع من الشعر.

ثم دخلت سنة أربع وسبعمائة

استهلت والخليفة والسلطان والحكام والمباشرون هم المذكورون في التي قبلها، وفي يوم الأحد ثالث ربيع الأول حضرت الدروس والوظائف التي أنشأها الأمير بيبرس الجاشنكير المنصوري بجامع الحاكم بعد أن جدده من خرابه بالزلزلة التي طرأت على ديار مصر في آخر سنة ثنتين وسبعمائة.

وجعل القضاة الأربعة هم المدرسين للمذاهب، وشيخ الحديث سعد الدين الحارثي، وشيخ النحو أثير الدين أبو حيان، وشيخ القراءات السبع الشيخ نور الدين الشطنوفي، وشيخ إفادة العلوم الشيخ علاء الدين القونوي.

وفي جمادى الآخرة باشر الأمير ركن الدين بيبرس الحجوبية مع الأمير سيف الدين بكتمر، وصارا حاجبين كبيرين في دمشق.

وفي رجب أحضر إلى الشيخ تقي الدين بن تيمية شيخ كان يلبس دلقا كبيرا متسعا جدا يسمى المجاهد إبراهيم القطان، فأمر الشيخ بتقطيع ذلك الدلق فتناهبه الناس من كل جانب وقطعوه حتى لم يدعوا فيه شيئا وأمر بحلق رأسه، وكان ذا شعر، وقلم أظفاره وكانوا طوالا جدا، وحف شاربه المسبل على فمه المخالف للسنة، واستتابه من كلام الفحش وأكل ما يغير العقل من الحشيشة وما لا يجوز من المحرمات وغيرها.

وبعده استحضر الشيخ محمد الخباز البلاسي فاستتابه أيضا عن أكل المحرمات ومخالطة أهل الذمة، وكتب عليه مكتوبا أن لا يتكلم في تعبير المنامات ولا في غيرها بما لاعلم له به.

وفي هذا الشهر بعينه راح الشيخ تقي الدين بن تيمية إلى مسجد النارنج وأمر أصحابه ومعهم حجارون بقطع صخرة كانت هناك بنهر قلوط تزار وينذر لها، فقطعها وأراح المسلمين منها ومن الشرك بها، فأزاح عن المسلمين شبهة كان شرها عظيما.

وبهذا وأمثاله حسدوه وأبرزوا له العداوة، وكذلك بكلامه بابن عربي وأتباعه، فحسد على ذلك وعودي، ومع هذا لم تأخذه في الله لومة لائم، ولا بالى، ولم يصلوا إليه بمكروه، وأكثر ما نالوا منه الحبس مع أنه لم ينقطع في بحث لا بمصر ولا بالشام، ولم يتوجه لهم عليه ما يشين وإنما أخذوه وحبسوه بالجاه كما سيأتي، وإلى الله إياب الخلق وعليه حسابهم.

وفي رجب جلس قاضي القضاة نجم الدين بن صصرى بالمدرسة العادلية الكبيرة وعملت التخوت بعدما جددت عمارة المدرسة، ولم يكن أحد يحكم بها بعد وقعة قازان بسبب خرابها، وجاء المرسوم للشيخ برهان الدين الفزاري بوكالة بيت المال فلم يقبل، وللشيخ كمال الدين بن الزملكاني بنظر الخزانة فقبل وخلع عليه بطرحة، وحضر بها يوم الجمعة، وهاتان الوظيفتان كانتا مع نجم الدين بن أبي الطيب توفي إلى رحمة الله.

وفي شعبان سعى جماعة في تبطيل الوقيد ليلة النصف وأخذوا خطوط العلماء في ذلك، وتكلموا مع نائب السلطنة فلم يتفق ذلك، بل أشعلوا وصليت صلاة ليلة النصف أيضا.

وفي خامس رمضان وصل الشيخ كمال الدين بن الشريشي من مصر بوكالة بيت المال، ولبس الخلعة سابع رمضان، وحضر عند ابن صصرى بالشباك الكمالي.

وفي سابع شوال عزل وزير مصر ناصر الدين بن الشيخي وقطع إقطاعه ورسم عليه وعوقب إلى أن مات في ذي القعدة، وتولى الوزارة سعد الدين محمد بن محمد بن عطاء وخلع عليه.

وفي يوم الخميس الثاني والعشرين من ذي القعدة حكم قاضي القضاة جمال الدين الزواوي بقتل الشمس محمد بن جمال الدين بن عبد الرحمن الباجريقي، وإراقة دمه وإن تاب وإن أسلم، بعد إثبات محضر عليه يتضمن كفر الباجريقي المذكور، وكان ممن شهد فيه عليه الشيخ مجد الدين التونسي النحوي الشافعي، فهرب الباجريقي إلى بلاد الشرق فمكث بها مدة سنين ثم جاء بعد موت الحاكم المذكور كما سيأتي.

وفي ذي القعدة كان نائب السلطنة في الصيد فقصدهم في الليل طائفة من الأعراب فقاتلهم الأمراء، فقتلوا من العرب نحو النصف، وتوغل في العرب الأمير يقال له: سيف الدين بهادرتمر احتقارا بالعرب، فضربه واحد منهم برمح فقتله، فكرت الأمراء عليهم فقتلوا منهم خلقا أيضا، وأخذوا واحدا منهم زعموا أنه هو الذي قتله فصلب تحت القلعة، ودفن الأمير المذكور بقبر الست.

وفي ذي القعدة تكلم الشيخ شمس الدين بن النقيب، وجماعة من العلماء في الفتاوى الصادرة من الشيخ علاء الدين بن العطار شيخ دار الحديث النورية والقوصية، وأنها مخالفة لمذهب الشافعي. وفيها: تخبيط كثير، فتوهم من ذلك وراح إلى الحنفي فحقن دمه وأبقاه على وظائفه، ثم بلغ ذلك نائب السلطنة فأنكر على المنكرين عليه، ورسم عليهم ثم اصطلحوا، ورسم نائب السلطنة أن لا تثار الفتن بين الفقهاء.

وفي مستهل ذي الحجة ركب الشيخ تقي الدين بن تيمية، ومعه جماعة من أصحابه إلى جبل الجرد والكسروانيين ومعه نقيب الأشراف زين الدين بن عدنان فاستتابوا خلقا منهم وألزموهم بشرائع الإسلام، ورجع مؤيدا منصورا.

من الأعيان:

الشيخ تاج الدين بن شمس الدين بن الرفاعي

شيخ الأحمدية بأم عبيدة من مدة مديدة، وعنه تكتب إجازات الفقراء، ودفن هناك عند سلفة بالبطائح.

الصدر نجم الدين بن عمر

ابن أبي القاسم بن عبد المنعم بن محمد بن الحسن بن أبي الكتائب بن محمد بن أبي الطيب، وكيل بيت المال، وناظر الخزانة، وقد ولي في وقت نظر المارستان النوري وغير ذلك، وكان مشكور السيرة رجلا جيدا، وقد سمع الحديث وروى أيضا.

توفي ليلة الثلاثاء الخامس عشر من جمادى الآخرة، ودفن بتربتهم بباب الصغير.

ثم دخلت سنة خمس وسبعمائة

استهلت والخليفة المستكفي والسلطان الملك الناصر، والمباشرون هم المذكورون فيما مضى، وجاء الخبر أن جماعة من التتر كمنوا لجيش حلب وقتلوا منهم خلقا من الأعيان وغيرهم، وكثر النوح ببلاد حلب بسبب ذلك.

وفي مستهل المحرم حكم جلال الدين القزويني أخو قاضي القضاة إمام الدين نيابة عن ابن صصرى، وفي ثانيه خرج نائب السلطنة بمن بقي من الجيوش الشامية، وقد كان تقدم بين يديه طائفة من الجيش مع ابن تيمية في ثاني المحرم، فساروا إلى بلاد الجرد والرفض والتيامنة.

فخرج نائب السلطنة الأفرم بنفسه بعد خروج الشيخ لغزوهم، فنصرهم الله عليهم وأبادوا خلقا كثيرا منهم ومن فرقتهم الضالة، ووطئوا أراضي كثيرة من صنع بلادهم، وعاد نائب السلطنة إلى دمشق في صحبته الشيخ ابن تيمية والجيش.

وقد حصل بسبب شهود الشيخ هذه الغزوة خير كثير، وأبان الشيخ علما وشجاعة في هذه الغزوة، وقد امتلأت قلوب أعدائه حسدا له وغما.

وفي مستهل جمادى الأولى، قدم القاضي أمين الدين أبو بكر ابن القاضي وجيه الدين عبد العظيم بن الرفاقي المصري من القاهرة على نظر الدواوين بدمشق، عوضا عن عز الدين بن مبشر.

ما جرى للشيخ تقي الدين بن تيمية مع الأحمدية وكيف عقدت له المجالس الثلاثة

وفي يوم السبت تاسع جمادى الأولى حضر جماعة كثيرة من الفقراء الأحمدية إلى نائب السلطنة بالقصر الأبلق، وحضر الشيخ تقي الدين بن تيمية فسألوا من نائب السلطنة بحضرة الأمراء، أن يكف الشيخ تقي الدين إمارته عنهم، وأن يسلم لهم حالهم، فقال لهم الشيخ: هذا ما يمكن، ولا بد لكل أحد أن يدخل تحت الكتاب والسنة قولا وفعلا، ومن خرج عنهما وجب الإنكار عليه.

فأرادوا أن يفعلوا شيئا من أحوالهم الشيطانية التي يتعاطونها في سماعاتهم، فقال الشيخ: تلك أحوال شيطانية باطلة، وأكثر أحوالهم من باب الحيل والبهتان، ومن أراد منهم أن يدخل النار فليدخل أولا إلى الحمام وليغسل جسده غسلا جيدا، ويدلكه بالخل والأشنان، ثم يدخل بعد ذلك إلى النار إن كان صادقا، ولو فرض أن أحدا من أهل البدع دخل النار بعد أن يغتسل، فإن ذلك لا يدل على صلاحه ولا على كرامته؛ بل حاله من أحوال الدجاجلة المخالفة للشريعة إذا كان صاحبها على السنة، فما الظن بخلاف ذلك.

فابتدر شيخ المنيبع الشيخ صالح وقال: نحن أحوالنا إنما تنفق عند التتر ليست تنفق عند الشرع.

فضبط الحاضرون عليه تلك الكلمة، وكثر الإنكار عليهم من كل أحد، ثم اتفق الحال على أنهم يخلعون الأطواق الحديد من رقابهم، وأن من خرج عن الكتاب والسنة ضربت عنقه.

وصنف الشيخ جزءا في طريقة الأحمدية، وبين فيه أحوالهم ومسالكهم وتخيلاتهم، وما في طريقتهم من مقبول ومردود بالكتاب، وأظهر الله السنة على يديه أخمد بدعتهم ولله الحمد والمنة.

وفي العشر الأوسط من هذا الشهر خلع علي جلال الدين بن معبد، وعز الدين خطاب، وسيف الدين بكتمر مملوك بكتاش الحسامي بالأمرة ولبس التشاريف، وركبوا بها وسلموا لهم جبل الجرد والكسروان والبقاع.

وفي يوم الخميس ثالث رجب خرج الناس للاستسقاء إلى سطح المزة، ونصبوا هناك منبرا، وخرج نائب السلطنة، وجميع الناس من القضاة والعلماء والفقراء، وكان مشهدا هائلا وخطبة عظيمة بليغة، فاستسقوا فلم يسقوا يومهم ذلك

أول المجالس الثلاثة لشيخ الإسلام ابن تيمية

وفي يوم الاثنين ثامن رجب حضر القضاة والعلماء، وفيهم الشيخ تقي الدين بن تيمية عند نائب السلطنة بالقصر، وقرئت عقيدة الشيخ تقي الدين الواسطية، وحصل بحث في أماكن منها، وأخرت مواضع إلى المجلس الثاني.

فاجتمعوا يوم الجمعة بعد الصلاة ثاني عشر الشهر المذكور وحضر الشيخ صفي الدين الهندي، وتكلم مع الشيخ تقي الدين كلاما كثيرا، ولكن ساقيته لاطمت بحرا، ثم اصطلحوا على أن يكون الشيخ كمال الدين بن الزملكاني هو الذي يحاققه من غير مسامحة، فتناظرا في ذلك، وشكر الناس من فضائل الشيخ كمال الدين بن الزملكاني وجودة ذهنه وحسن بحثه حيث قاوم ابن تيمية في البحث، وتكلم معه.

ثم انفصل الحال على قبول العقيدة، وعاد الشيخ إلى منزله معظما مكرّما، وبلغني أن العامة حملوا له الشمع من باب النصر إلى القصاعين على جاري عادتهم في أمثال هذه الأشياء، وكان الحامل على هذه الاجتماعات كتاب ورد من السلطان في ذلك، كان الباعث على إرساله قاضي المالكية ابن مخلوف، والشيخ نصر المنبجي شيخ الجاشنكير وغيرهما من أعدائه.

وذلك أن الشيخ تقي الدين بن تيمية كان يتكلم في المنبجي وينسبه إلى اعتقاد ابن عربي، وكان للشيخ تقي الدين من الفقهاء جماعة يحسدونه لتقدمه عند الدولة، وانفراده بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وطاعة الناس له ومحبتهم له وكثرة أتباعه وقيامه في الحق وعلمه وعمله، ثم وقع بدمشق خبط كثير وتشويش بسبب غيبة نائب السلطنة، وطلب القاضي جماعة من أصحاب الشيخ وعزر بعضهم، ثم اتفق أن الشيخ جمال الدين المزي الحافظ قرأ فصلا بالرد على الجهمية من كتاب (أفعال العباد) للبخاري تحت قبة النسر بعد قراءة ميعاد البخاري بسبب الاستسقاء.

فغضب بعض الفقهاء الحاضرين وشكاه إلى القاضي الشافعي ابن صصرى، وكان عدو الشيخ فسجن المزي، فبلغ الشيخ تقي الدين فتألم لذلك وذهب إلى السجن فأخرجه منه بنفسه، وراح إلى القصر فوجد القاضي هنالك، فتقاولا بسبب الشيخ جمال الدين المزي، فحلف ابن صصرى لا بد أن يعيده إلى السجن وإلا عزل نفسه، فأمر النائب بإعادته تطييبا لقلب القاضي فحبسه عنده في القوصية أياما ثم أطلقه.

ولما قدم نائب السلطنة ذكر له الشيخ تقي الدين ما جرى في حقه وحق أصحابه في غيبته، فتألم النائب لذلك ونادى في البلد أن لا يتكلم أحد في العقائد، ومن عاد إلى تلك حل ماله ودمه، ورتبت داره وحانوته، فسكنت الأمور.

وقد رأيت فصلا من كلام الشيخ تقي الدين في كيفية ما وقع في هذه المجالس الثلاثة من المناظرات.

ثم عقد المجلس الثالث في يوم سابع شعبان بالقصر واجتمع الجماعة على الرضى بالعقيدة المذكورة، وفي هذا اليوم عزل ابن صصرى نفسه عن الحكم بسبب كلام سمعه من بعض الحاضرين في المجلس المذكور، وهو من الشيخ كمال الدين بن الزملكاني، ثم جاء كتاب السلطان في السادس والعشرين من شعبان فيه إعادة ابن صصرى إلى القضاء، وذلك بإشارة المنبجي.

وفي الكتاب إنا كنا سمعنا بعقد مجلس للشيخ تقي الدين بن تيمية، وقد بلغنا ما عقد له من المجالس، وأنه على مذهب السلف وإنما أردنا بذلك براءة ساحته مما نسب إليه، ثم جاء كتاب آخر في خامس رمضان يوم الاثنين وفيه الكشف عن ما كان وقع للشيخ تقي الدين بن تيمية في أيام جاغان، والقاضي إمام الدين القزويني وأن يحمل هو والقاضي ابن صصرى إلى مصر، فتوجها على البريد نحو مصر، وخرج مع الشيخ خلق من أصحابه وبكوا وخافوا عليه من أعدائه، وأشار عليه نائب السلطنة ابن الأفرم بترك الذهاب إلى مصر، وقال له: أنا أكاتب السلطان في ذلك، وأصلح القضايا. فامتنع الشيخ من ذلك، وذكر له أن في توجهه لمصر مصلحة كبيرة، ومصالح كثيرة.

فلما توجه لمصر ازدحم الناس لوداعه ورؤيته حتى انتشروا من باب داره إلى قرب الجسورة، فيما بين دمشق والكسوة، وهم فيما بين باكٍ وحزين، ومتفرج ومتنزه، ومزاحم متغال فيه.

فلما كان يوم السبت دخل الشيخ تقي الدين غزة فعمل في جامعها مجلسا عظيما، ثم دخلا معا إلى القاهرة والقلوب معه وبه متعلقة، فدخلا مصر يوم الاثنين الثاني والعشرين من رمضان، وقيل إنهما دخلاها يوم الخميس.

فلما كان يوم الجمعة بعد الصلاة عقد للشيخ مجلس بالقلعة اجتمع فيه القضاة وأكابر الدولة، وأراد أن يتكلم على عادته فلم يتمكن من البحث والكلام، وانتدب له الشمس ابن عدنان خصما احتسابا، وادعى عليه عند ابن مخلوف المالكي أنه يقول: إن الله فوق العرش حقيقة، وأن الله يتكلم بحرف وصوت.

فسأله القاضي جوابه فأخذ الشيخ في حمد الله والثناء عليه، فقيل له: أجب، ما جئنا بك لتخطب.

فقال: ومن الحاكم في؟

فقيل له: القاضي المالكي.

فقال له الشيخ: كيف تحكم في وأنت خصمي؟

فغضب غضبا شديدا، وانزعج وأقيم مرسما عليه وحبس في برج أياما، ثم نقل منه ليلة العيد إلى الحبس المعروف بالجب، هو وأخوه شرف الدين عبد الله وزين الدين عبد الرحمن.

وأما ابن صصرى فإنه جدد له توقيع بالقضاء بإشارة المنبجي شيخ الجاشنكير حاكم مصر، وعاد إلى دمشق يوم الجمعة سادس ذي القعدة والقلوب له ماقتة والنفوس منه نافرة، وقرئ تقليده بالجامع وبعده قرئ كتاب فيه الحط على الشيخ تقي الدين ومخالفته في العقيدة، وأن ينادى بذلك في البلاد الشامية، وألزم أهل مذهبه بمخالفته، وكذلك وقع بمصر. قام عليه جاشنكير وشيخه نصر المنبجي، وساعدهم جماعة كثيرة من الفقهاء والفقراء، وجرت فتن كثيرة منتشرة، نعوذ بالله من الفتن، وحصل للحنابلة بالديار المصرية إهانة عظيمة كثيرة، وذلك أن قاضيهم كان قليل العلم مزجى البضاعة، وهو شرف الدين الحراني، فلذلك نال أصحابهم ما نالهم، وصارت حالهم حالهم.

وفي شهر رمضان جاء كتاب من مقدم الخدام بالحرم النبوي يستأذن السلطان في بيع طائفة من قناديل الحرم النبوي لينفق ذلك ببناء مئذنة عند باب السلام الذي عند المطهرة، فرسم له بذلك، وكان في جملة القناديل قنديلان من ذهب زنتهما ألف دينار، فباع ذلك وشرع في بنائها وولي سراج الدين عمر قضاءها مع الخطابة فشق ذلك على الروافض.

وفي يوم الخميس ثاني عشر ذي القعدة وصل البريد من مصر بتولية القضاء لشمس الدين محمد بن إبراهيم بن داود الأذرعي الحنفي قضاء الحنفية، عوضا عن شمس الدين بن الحسيني معزولا وبتولية الشيخ برهان الدين بن الشيخ تاج الدين الفزاري خطابة دمشق، عوضا عن عمه الشيخ شرف الدين توفي إلى رحمة الله، وخلع عليهما بذلك وباشرا في يوم الجمعة ثالث عشر الشهر وخطب الشيخ برهان الدين خطبة حسنة حضرها الناس والأعيان.

ثم بعد خمسة أيام عزل نفسه عن الخطابة وآثر بقاءه على تدريس البادرائية حين بلغه أنها طلبت لتؤخذ منه، فبقي منصب الخطابة شاغرا ونائب الخطيب يصلي بالناس ويخطب، ودخل عيد الأضحى وليس للناس خطيب، وقد كاتب نائب السلطنة في ذلك فجاء المرسوم بإلزامه بذلك.

وفيه: لعلمنا بأهليته وكفايته واستمراره على ما بيده من تدريس البادرائية، فباشرها القيسي جمال الدين بن الرحبي، سعى في البادرائية فأخذها وباشرها في صفر من السنة الآتية بتوقيع سلطاني، فعزل الفزاري نفسه عن الخطابة ولزم بيته، فراسله نائب السلطنة بذلك، فصمم على العزل وأنه لا يعود إليها أبدا، وذكر أنه عجز عنها، فلما تحقق نائب السلطنة ذلك أعاد إليه مدرسته وكتب له بها توقيعا بالعشر الأول من ذي الحجة، وخلع على شمس الدين بن الخطيري بنظر الخزانة عوضا عن ابن الزملكاني.

وحج بالناس الأمير شرف الدين حسن بن حيدر.

من الأعيان:

الشيخ عيسى بن الشيخ سيف الدين الرحبي

ابن سابق بن الشيخ يونس القيسي ودفن بزاويتهم التي بالشرق الشمالي بدمشق غربي الوراقة والعزية يوم الثلاثاء سابع المحرم.

الملك الأوحد ابن الملك تقي الدين شادي بن الملك

الزاهر مجير الدين داود بن الملك المجاهد أسد الدين شيركوه بن ناصر الدين محمد بن أسد الدين شيركوه بن شادي، توفي بجبل الجرد في آخر نهار الأربعاء ثاني صفر، وله من العمر سبع وخمسون سنة فنقل إلى تربتهم بالسفح، وكان من خيار الملوك والدولة، معظما عند الملوك والأمراء، وكان يحفظ القرآن وله معرفة بعلوم، ولديه فضائل.

الصدر علاء الدين

علي بن معالي الأنصاري الحراني الحاسب، يعرف بابن الزريز، وكان فاضلا بارعا في صناعة الحساب انتفع به جماعة، توفي في آخر هذه السنة فجأة ودفن بقاسيون، وقد أخذت الحساب عن الحاضري عن علاء الدين الطيوري عنه.

الخطيب شرف الدين أبو العباس

أحمد بن إبراهيم بن سباع بن ضياء الفزاري، الشيخ الإمام العلامة أخو العلامة شيخ الشافعية تاج الدين عبد الرحمن، ولد سنة ثلاثين وسمع الحديث الكثير، وانتفع على المشايخ في ذلك العصر كابن الصلاح وابن السخاوي وغيرهما، وتفقه وأفتى وناظر وبرع وساد أقرانه، وكان أستاذا في العربية واللغة والقراءات وإيراد الأحاديث النبوية، والتردد إلى المشايخ للقراءة عليهم.

وكان فصيح العبارة حلو المحاضرة، لا تمل مجالسته، وقد درّس بالطبية، وبالرباط الناصري مدة، ثم تحول عنه إلى خطابة جامع جراح، ثم انتقل إلى خطابة جامع دمشق بعد الفارقي في سنة ثلاث ولم يزل به حتى توفي يوم الأربعاء عشية التاسع من شوال، عن خمس وسبعين سنة، وصلّي عليه صبيحة يوم الخميس على باب الخطابة، ودفن عند أبيه وأخيه بباب الصغير رحمهم الله، وولي الخطابة ابن أخيه.

شيخنا العلامة برهان الدين الحافظ الكبير الدمياطي

وهو الشيخ الإمام العالم الحافظ شيخ المحدثين شرف الدين أبو محمد عبد المؤمن بن خلف بن أبي الحسن بن شرف بن الخضر بن موسى الدمياطي، حامل لواء هذا الفن - أعني صناعة الحديث وعلم اللغة - في زمانه مع كبر السن والقدر، وعلو الإسناد وكثرة الرواية، وجودة الدراية، وحسن التآليف وانتشار التصانيف، وتردد الطلبة إليه من سائر الآفاق، ومولده في آخر سنة ثلاث عشرة وستمائة.

وقد كان أول سماعه في سنة ثنتين وثلاثين بالإسكندرية، سمع الكثير على المشايخ ورحل وطاف وحصل وجمع فأوعى، ولكن ما منع ولا بخل، بل بذل وصنّف ونشر العلم، وولي المناصب بالديار المصرية، وانتفع الناس به كثيرا، وجمع معجما لمشايخه الذين لقيهم بالشام والحجاز والجزيرة والعراق وديار مصر يزيدون على ألف وثلاثمائة شيخ، وهو مجلدان.

وله الأربعون المتباينة الإسناد وغيرها، وله كتاب في الصلاة الوسطى مفيد جدا، ومصنف في صيام ستة أيام من شوال أفاد فيه وأجاد، وجمع ما لم يسبق إليه، وله كتاب (الذكر والتسبيح) عقيب الصلوات، وكتاب (التسلي في الاغتباط بثواب من يقدم من الإفراط)، وغير ذلك من الفوائد الحسان، ولم يزل في إسماع الحديث إلى أن أدركته وفاته وهو صائم في مجلس الإملاء غشي عليه فحمل إلى منزله فمات من ساعته يوم الأحد عاشر ذي القعدة بالقاهرة، ودفن من الغد بمقابر باب النصر وكانت جنازته حافلة جدا رحمه الله تعالى.

ثم دخلت سنة ست وسبعمائة

استهلت والحكام هم المذكرون في التي قبلها والشيخ تقي الدين بن تيمية مسجون بالجب من قلعة الجبل، وفي يوم الأربعاء جاء البريد بتولية الخطابة للشيخ شمس الدين إمام الكلاسة وذلك في ربيع الأول، وهنئ بذلك فأظهر التكره لذلك والضعف عنه، ولم يحصل له مباشرة لغيبة نائب السلطنة في الصيد، فلما حضر أذن له فباشر يوم الجمعة العشرين من الشهر، فأول صلاة صلاها الصبح يوم الجمعة، ثم خلع عليه وخطب بها يومئذ.

وفي يوم الأربعاء ثامن عشر ربيع الأول باشر نيابة الحكم عن القاضي نجم الدين أحمد بن عبد المحسن بن حسن المعروف بالدمشقي عوضا عن تاج الدين بن صالح بن تامر بن خان الجعبري، وكان معمرا قديم الهجرة كثير الفضائل، دينا ورعا، جيد المعاشرة، وكان قد ولي الحكم في سنة سبع وخمسين وستمائة، فلما ولي ابن صصرى كره نيابته.

وفي يوم الأحد العشرين من ربيع الآخر قدم البريد من القاهرة ومعه تجديد توقيع القاضي شمس الدين الأزرعي الحنفي، فظن الناس أنه بولاية القضاء لابن الحريري فذهبوا ليهنئوه مع البريد إلى الظاهرية، واجتمع الناس لقراءة التقليد على العادة فشرع الشيخ علم الدين البرزالي في قراءته فلما وصل إلى الاسم تبين له أنه ليس له وأنه للأزرعي، فبطل القارئ وقام الناس مع البريدي إلى الأزرعي، وحصلت كسرة وخمدة على الحريري والحضارين.

ووصل مع البريدي أيضا كتاب فيه طلب الشيخ كمال الدين بن الزملكاني إلى القاهرة، فتوهم من ذلك وخاف أصحابه عليه سبب انتسابه إلى الشيخ تقي الدين بن تيمية، فتلطف به نائب السلطنة، ودارى عنه حتى أعفي من الحضور إلى مصر، ولله الحمد.

وفي يوم الخميس تاسع جمادى الأولى دخل الشيخ ابن براق إلى دمشق وبصحبته مائة فقير كلهم محلقي ذقونهم موفري شواربهم عكس ما وردت به السنة، على رؤوسهم قرون لبابيد. ومعه أجراس وكعاب وجواكين خشب، فنزلوا بالمنيبع وحضروا الجمعة برواق الحنابلة، ثم توجهوا نحو القدس فزاروا، ثم استأذنوا في الدخول إلى الديار المصرية فلم يؤذن لهم، فعادوا إلى دمشق فصاموا بها رمضان ثم انشمروا راجعين إلى بلاد الشرق، إذ لم يجدوا بدمشق قبولا، وقد كان شيخهم براق روميا من بعض قرى دوقات من أبناء الأربعين. وقد كانت له منزلة عند قازان ومكانة، وذلك أنه سلط عليه نمرا فزجره فهرب منه وتركه، فحظي عنده وأعطاه في يوم واحد ثلاثين ألفا ففرقها كلها فأحبه، ومن طريقة أصحابه أنهم لا يقطعون لهم صلاة، ومن ترك صلاة ضربوه أربعين جلدة، وكان يزعم أن طريقه الذي سلكه إنما سلكه ليخرب على نفسه، ويرى أنه زي المسخرة، وأن هذا هو الذي يليق بالدنيا، والمقصود إنما هو الباطن والقلب وعمارة ذلك، ونحن إنما نحكم بالظاهر، والله أعلم بالسرائر.

وفي يوم الأربعاء سادس جمادى الآخرة حضر مدرس النجيبية بهاء الدين يوسف بن كمال الدين أحمد بن عبد العزيز العجمي الحلبي، عوضا عن الشيخ ضياء الدين الطوسي توفي، وحضر عنده ابن صصرى وجماعة من الفضلاء، وفي هذه السنة صليت صلاة الرغائب في النصف بجامع دمشق بعد أن كانت قد أبطلها ابن تيمية منذ أربع سنين.

ولما كانت ليلة النصف حضر الحاجب ركن الدين بيبرس العلائي ومنع الناس من الوصول إلى الجامع ليلتئذ، وغلقت أبوابه فبات كثير من الناس في الطرقات وحصل للناس أذى كثير، وإنما أراد صيانة الجامع من اللغو والرفث والتخليط.

وفي سابع عشر رمضان حكم القاضي تقي الدين الحنبلي بحقن دم محمد الباجريقي، وأثبت عنده محضرا بعداوة ما بينه وبين الشهود الستة الذين شهدوا عليه عند المالكي، حين حكم بإراقة دمه، وممن شهد بهذه العداوة ناصر الدين بن عبد السلام وزين الدين بن الشريف عدنان، وقطب الدين بن شيخ السلامية وغيرهم.

وفيها: باشر كمال الدين بن الزملكاني نظر ديوان ملك الأمراء عوضا عن شهاب الدين الحنفي، وذلك في آخر رمضان، وخلع عليه بطيلسان وخلعة، وحضر بها دار العدل.

وفي ليلة عيد الفطر أحضر الأمير سيف الدين سلار نائب مصر القضاة الثلاثة وجماعة من الفقهاء فالقضاة الشافعي والمالكي والحنفي، والفقهاء الباجي والجزري والنمراوي، وتكلموا في إخراج الشيخ تقي الدين بن تيمية من الحبس، فاشترط بعض الحاضرين عليه شروطا بذلك، منها أنه يلتزم بالرجوع عن بعض العقيدة وأرسلوا إليه ليحضر ليتكلموا معه في ذلك، فامتنع من الحضور وصمم. وتكررت الرسل إليه ست مرات، فصمم على عدم الحضور، ولم يلتفت إليهم ولم يعدهم شيئا، فطال عليهم المجلس فتفرقوا وانصرفوا غير مأجورين.

وفي يوم الأربعاء ثاني شوال أذن نائب السلطنة الأفرم للقاضي جلال الدين القزويني أن يصلي بالناس ويخطب بجامع دمشق عوضا عن الشيخ شمس الدين إمام الكلاسة توفي، فصلى الظهر يومئذ وخطب الجمعة واستمر بالإمامة والخطابة حتى وصل توقيعه بذلك من القاهرة، وفي مستهل ذي القعدة حضر نائب السلطنة والقضاة والأمراء والأعيان وشكرت خطبته.

وفي مستهل ذي القعدة كمل بناء الجامع الذي ابتناه وعمره الأمير جمال الدين نائب السلطنة الأفرم عند الرباط الناصري بالصالحية، ورتب فيه خطيبا يخطب يوم الجمعة وهو القاضي شمس الدين محمد بن العز الحنفي، وحضر نائب السلطنة والقضاة وشكرت خطبة الخطيب به، ومد الصاحب شهاب الدين الحنفي سماطا بعد الصلاة بالجامع المذكور وهو الذي كان الساعي في عمارته، والمستحث عليها، فجاء في غاية الإتقان والحسن، تقبل الله منهم.

وفي ثالث ذي القعدة استناب ابن صصرى القاضي صدر الدين سليمان بن هلال بن شبل الجعبري خطيب داريا في الحكم، عوضا عن جلال الدين القزويني، بسبب اشتغاله بالخطابة عن الحكم، وفي يوم الجمعة التاسع والعشرين من ذي القعدة قدم قاضي القضاة صدر الدين أبو الحسن علي بن الشيخ صفي الدين الحنفي البصراوي إلى دمشق من القاهرة متوليا قضاء الحنفية عوضا عن الأزرعي، مع ما بيده من تدريس النورية والمقدمية وخرج الناس لتلقيه وهنأوه.

وحكم بالنورية وقرئ تقليده بالمقصورة الكندية في الزاوية الشرقية، من جامع بني أمية.

وفي ذي الحجة ولي الأمير عز الدين بن صبرة على البلاد القبلية والي الولاة، عوضا عن الأمير جمال الدين آقوش الرستمي، بحكم ولايته شد الدواوين بدمشق، وجاء كتاب من السلطان بولاية وكالته للرئيس عز الدين بن حمزة القلانسي عوضا عن ابن عمه شرف الدين، فكره ذلك.

وفي اليوم الثامن والعشرين من ذي الحجة أخبر نائب السلطنة بوصول كتاب من الشيخ تقي الدين من الحبس الذي يقال له: الجب، فأرسل في طلبه فجيء به فقرئ على الناس فجعل يشكر الشيخ ويثني عليه وعلى علمه وديانته وشجاعته وزهده، وقال: ما رأيت مثله، وإذا هو كتاب مشتمل على ما هو عليه في السجن من التوجه إلى الله، وأنه لم يقبل من أحد شيئا لا من النفقات السلطانية ولا من الكسوة ولا من الإدرارات ولا غيرها، ولا تدنس بشيء من ذلك.

وفي هذا الشهر يوم الخميس السابع والعشرين منه طلب أخوا الشيخ تقي الدين شرف الدين وزين الدين من الحبس إلى مجلس نائب السلطان سلار، وحضر ابن مخلوف المالكي وطال بينهم كلام كثير فظهر شرف الدين بالحجة على القاضي المالكي بالنقل والدليل والمعرفة، وخطأه في مواضع ادّعى فيها دعاوى باطلة، وكان الكلام في مسألة العرش ومسألة الكلام، وفي مسألة النزول.

وفي يوم الجمعة ثاني عشرين ذي الحجة وصل على البريد من مصر نصر الدين محمد بن الشيخ فخر الدين بن أخي قاضي القضاة البصراوي، وزوج ابنته على الحسبة بدمشق عوضا عن جمال الدين يوسف العجمي وخلع عليه بطيلسان ولبس الخلعة ودار بها في البلد في مستهل سنة سبع وسبعمائة، وفي هذه السنة عمر في حرم مكة بنحو مائة ألف.

وحج بالناس من الشام الأمير ركن الدين بيبرس المجنون.

من الأعيان:

القاضي تاج الدين

صالح بن أحمد بن حامد بن علي الجعدي الشافعي نائب الحكم بدمشق ومفيد الناصرية.

كان ثقة دينا عدلا مرضيا زاهدا، حكم من سنة سبع وخمسين وستمائة، له فضائل وعلوم، وكان حسن الشكل والهيئة، توفي في ربيع الأول عن ست وسبعين سنة، ودفن بالسفح وناب في الحكم بعده نجم الدين الدمشقي.

الشيخ ضياء الدين الطوسي

أبو محمد عبد العزيز بن محمد بن علي الشافعي مدرس النجيبية شارح (الحاوي)، ومختصر (ابن الحاجب) كان شيخا فاضلا بارعا، وأعاد في الناصرية أيضا، توفي يوم الأربعاء بعد مرجعه من الحمام تاسع عشر من جمادى الأولى، وصلّي عليه يوم الخميس ظاهر باب النصر، وحضر نائب السلطنة وجماعة من الأمراء والأعيان، ودفن بالصوفية، ودرّس بعده بالمدرسة بهاء الدين بن العجمي.

الشيخ جمال الدين إبراهيم بن محمد بن سعد الطيبي

المعروف بابن السوابلي، والسوابل الطاسات.

كان معظما ببلاد الشرق جدا، كان تاجرا كبيرا توفي في هذا الشهر المذكور.

الشيخ الجليل سيف الدين الرجيحي

ابن سابق بن هلال بن يونس شيخ اليونسية بمقامهم، صلّي عليه سادس رجب بالجامع ثم أعيد إلى داره التي سكنها داخل باب توما، وتعرف بدار أمين الدولة فدفن بها، وحضر جنازته خلق كثير من الأعيان والقضاة والأمراء، وكانت له حرمة كبيرة عند الدولة وعند طائفته، وكان ضخم الهامة جدا محلوق الشعر، وخلف أموالا وأولادا.

الأمير فارس الدين الروادي

توفي في العشر الأخير من رمضان، وكان قد رأى النبي قبل وفاته بأيام وهو يقول له: أنت مغفور لك، أو نحو هذا، وهو من أمراء حسام الدين لاجين.

الشيخ العابد خطيب دمشق شمس الدين

شمس الدين محمد بن الشيخ أحمد بن عثمان الخلاطي إمام الكلاسة، كان شيخا حسنا بهي المنظر كثير العبادة، عليه سكون ووقار، باشر إمامة الكلاسة قريبا من أربعين سنة ثم طلب إلى أن يكون خطيبا بدمشق بالجامع من غير سؤال منه ولا طلب، فباشرها ستة أشهر ونصف أحسن مباشرة.

وكان حسن الصوت طيب النغمة عارفا بصناعة الموسيقى، مع ديانة وعبادة، وقد سمع الحديث توفي فجأة بدار الخطابة يوم الأربعاء ثامن شوال عن ثنتين وستين سنة، وصلّي عليه بالجامع وقد امتلأ بالناس، ثم صلّي عليه بسوق الخيل وحضر نائب السلطنة والأمراء والعامة، وقد غلقت الأسواق ثم حمل إلى سفح قاسيون رحمه الله.

ثم دخلت سنة سبع وسبعمائة

استهلت والحكام هم المذكورون في التي قبلها، والشيخ تقي الدين بن تيمية معتقل في قلعة الجبل بمصر، وفي أوائل المحرم أظهر السلطان الملك الناصر الغضب على الأمير ابن سلار والجاشنكير وامتنع من العلامة وأغلق القلعة وتحصن فيها، ولزم الأميران بيوتهما، واجتمع عليهما جماعة من الأمراء وحوصرت القلعة وجرت خبطة عظيمة، وغلقت الأسواق.

ثم راسلوا السلطان فتأكدت الأمور وسكنت الشرور على دخن، وتنافر قلوب. وقوي الأميران أكثر مما كانا قبل ذلك وركب السلطان ووقع الصلح على دخن.

وفي المحرم وقعت الحرب بين التتر وبين أهل كيلان، وذلك أن ملك التتر طلب منهم أن يجعلوا في بلادهم طريقا إلى عسكره فامتنعوا من ذلك، فأرسل ملك التتر خربندا جيشا كثيفا ستين ألفا من المقاتلة، أربعين ألفا مع قطلوشاه وعشرين ألفا مع جوبان، فأمهلهم أهل كيلان حتى توسطوا بلادهم، ثم أرسلوا عليهم خليجا من البحر ورموهم بالنفط فغرق كثير منهم واحترق آخرون، وقتلوا بأيديهم طائفة كثيرة، فلم يفلت منهم إلا القليل.

وكان فيمن قتل أمير التتر الكبير قطلوشاه، فاشتد غضب خربندا على أهل كيلان، ولكنه فرح بقتل قطلوشاه فإنه كان يريد قتل خربندا فكفى أمره عنهم، ثم قتل بعده بولاي.

ثم إن ملك التتر أرسل الشيخ براق الذي قدم الشام فيما تقدم إلى أهل كيلان يبلغهم عنه رسالة فقتلوه وأراحوا الناس منه، وبلادهم من أحصن البلاد وأطيبها لا تستطاع، وهم أهل سنة وأكثرهم حنابلة لا يستطيع مبتدع أن يسكن بين أظهرهم.

وفي يوم الجمعة رابع عشر صفر اجتمع قاضي القضاة بدر الدين بن جماعة بالشيخ تقي الدين بن تيمية في دار الأوحدي من قلعة الجبل، وطال بينهما الكلام ثم تفرقا قبل الصلاة، والشيخ تقي الدين مصمم على عدم الخروج من السجن.

فلما كان يوم الجمعة الثالث والعشرين من ربيع الأول جاء الأمير حسام الدين مهنا بن عيسى ملك العرب إلى السجن بنفسه وأقسم على الشيخ تقي الدين ليخرجن إليه، فلما خرج أقسم عليه ليأتين معه إلى دار سلار، فاجتمع به بعض الفقهاء بدار سلار وجرت بينهم بحوث كثيرة.

ثم فرقت بينهم الصلاة، ثم اجتمعوا إلى المغرب وبات الشيخ تقي الدين عند سلار، ثم اجتمعوا يوم الأحد بمرسوم السلطان جميع النهار، ولم يحضر أحد من القضاة بل اجتمع من الفقهاء خلق كثير، أكثر من كل يوم.

منهم الفقيه نجم الدين بن رفع، وعلاء الدين التاجي، وفخر الدين ابن بنت أبي سعد، وعز الدين النمراوي، وشمس الدين بن عدنان وجماعة من الفقهاء وطلبوا القضاة فاعتذروا بأعذار، بعضهم بالمرض، وبعضهم بغيره، لمعرفتهم بما ابن تيمية منطوي عليه من العلوم والأدلة، وأن أحدا من الحاضرين لا يطيقه، فقبل عذرهم نائب السلطنة ولم يكلفهم الحضور بعد أن رسم السلطان بحضورهم أو بفصل المجلس على خير.

وبات الشيخ عند نائب السلطنة وجاء الأمير حسام الدين مهنا يريد أن يستصحب الشيخ تقي الدين معه إلى دمشق، فأشار سلار بإقامة الشيخ بمصر عنده ليرى الناس فضله وعلمه، وينتفع الناس به ويشتغلوا عليه.

وكتب الشيخ كتابا إلى الشام يتضمن ما وقع له من الأمور.

قال البرزالي: وفي شوال منها شكى الصوفية بالقاهرة على الشيخ تقي الدين وكلموه في ابن عربي وغيره إلى الدولة، فردوا الأمر في ذلك إلى القاضي الشافعي، فعقد له مجلس وادّعى عليه ابن عطاء بأشياء فلم يثبت عليه منها شيء، لكنه قال لا يستغاث إلا بالله، لا يستغاث بالنبي استغاثة بمعنى العبارة، ولكن يتوسل به ويتشفع به إلى الله فبعض الحاضرين قال: ليس عليه في هذا شيء ورأى القاضي بدر الدين بن جماعة أن هذا فيه قلة أدب.

فحضرت رسالة إلى القاضي أن يعمل معه ما تقتضيه الشريعة، فقال القاضي: قد قلت له ما يقال لمثله، ثم إن الدولة خيروه بين أشياء إما أن يسير إلى دمشق أو الإسكندرية بشروط أو الحبس، فاختار الحبس فدخل عليه جماعة في السفر إلى دمشق ملتزما ما شرط، فأجاب أصحابه إلى ما اختاروا جبرا لخواطرهم، فركب خيل البريد ليلة الثامن عشر من شوال ثم أرسلوا خلفه من الغد بريدا آخر فردوه وحضر عند قاضي القضاة ابن جماعة وعنده جماعة من الفقهاء.

فقال له بعضهم: إن الدولة ما ترضى إلا بالحبس، فقال القاضي: وفيه مصلحة له واستناب شمس الدين التونسي المالكي وأذن له أن يحكم عليه بالحبس فامتنع وقال: ما ثبت عليه شيء، فأذن لنور الدين الزواوي المالكي فتحير، فلما رأى الشيخ توقفهم في حبسه قال: أنا أمضي إلى الحبس وأتبع ما تقتضيه المصلحة، فقال نور الدين الزواوي: يكون في موضع يصلح لمثله فقيل له الدولة ما ترضى إلا بمسمى الحبس.

فأرسل إلى حبس القضاة في المكان الذي كان فيه تقي الدين ابن بنت الأعز حين سجن، وأذن له أن يكون عنده من يخدمه، وكان ذلك كله بإشارة نصر المنبجي لوجاهته في الدولة، فإنه كان قد استحوذ على عقل الجاشنكير الذي تسلطن فيما بعد، وغيره من الدولة، والسلطان مقهور معه، واستمر الشيخ في الحبس يستفتي ويقصده الناس ويزورونه. وتأتيه الفتاوى المشكلة التي لا يستطيعها الفقهاء من الأمراء وأعيان الناس، فيكتب عليها بما يحير العقول من الكتاب والسنة.

ثم عقد للشيخ مجلس بالصالحية بعد ذلك كله، ونزل الشيخ بالقاهرة بدار ابن شقير، وأكب الناس على الاجتماع به ليلا ونهارا.

وفي سادس رجب باشر الشيخ كمال الدين بن الزملكاني نظر ديوان المارستان عوضا عن يوسف العجمي توفي، وكان محتسبا بدمشق مدة فأخذها منه نجم الدين بن البصراوي قبل هذا بستة أشهر، وكان العجمي موصوفا بالأمانة.

وفي ليلة النصف من شعبان أبطلت صلاة ليلة النصف لكونها بدعة وصين الجامع من الغوغاء والرعاع، وحصل بذلك خير كثير ولله الحمد والمنة.

وفي رمضان قدم الصدر نجم الدين البصراوي ومعه توقيع بنظر الخزانة عوضا عن شمس الدين الخطيري مضافا إلى ما بيده من الحسبة، ووقع في أواخر رمضان مطر قوي شديد، وكان الناس لهم مدة لم يمطروا، فاستبشروا بذلك، ورخصت الأسعار، ولم يمكن الناس الخروج إلى المصلى من كثرة المطر، فصلوا بالجامع، وحضر نائب السلطنة فصلى بالمقصورة، وخرج المحمل، وأمير الحج عامئذ سيف الدين بلبان البدري التتري.

وفيها: حج القاضي شرف الدين البارزي من حماه.

وفي ذي الحجة وقع حريق عظيم بالقرب من الظاهرية مبدؤه من الفرن تجاهها الذي يقال له فرن العوتية، ثم لطف الله وكف شرها وشررها.

قلت: وفي هذه السنة كان قدومنا من بصرى إلى دمشق بعد وفاة الوالد، وكان أول ما سكنا بدرب سعور الذي يقال له درب ابن أبي الهيجاء بالصاغة العتيقة عند الطوريين، ونسأل الله حسن العاقبة والخاتمة آمين.

من الأعيان:

الأمير ركن الدين بيبرس

العجمي الصالحي، المعروف بالجالق، كان رأس الجمدارية في أيام الملك الصالح نجم الدين أيوب وأمره الملك الظاهر.

كان من أكابر الدولة كثير الأموال، توفي بالرملة لأنه كان في قسم إقطاعه في نصف جمادى الأولى، ونقل إلى القدس فدفن به.

الشيخ صالح الأحمدي الرفاعي

شيخ المينبع، كان التتر يكرمونه لما قدموا دمشق، ولما جاء قطلوشاه نائب التتر نزل عنده، وهو الذي قال للشيخ تقي الدين بن تيمية بالقصر: نحن ما ينفق حالنا إلا عند التتر، وأما عند الشرع فلا.

ثم دخلت سنة ثمان وسبعمائة

استهلت والحكام هم المذكورون في التي قبلها، والشيخ تقي الدين قد أخرج من الحبس، والناس قد عكفوا عليه زيارة وتعلما واستفتاء وغير ذلك.

وفي مستهل ربيع الأول أفرج عن الأمير نجم الدين خضر بن الملك الظاهر، فأخرج من البرج وسكن دار الأفرم بالقاهرة، ثم كانت وفاته في خامس رجب من هذه السنة.

وفي أواخر جمادى الأولى تولى نظر ديوان ملك الأمراء زين الدين الشريف بن عدنان عوضا عن ابن الزملكاني، ثم أضيف إليه نظر الجامع أيضا عوضا عن ابن الخطيري، وتولى نجم الدين بن الدمشقي نظر الأيتام عوضا عن نجم الدين بن هلال.

وفي رمضان عزل الصاحب أمين الدين الرفاقي عن نظر الدواوين بدمشق وسافر إلى مصر.

وفيها: عزل كمال الدين بن الشريشي نفسه عن وكالة بيت المال، وصمم على الاستمرار على العزل وعرض عليه العود فلم يقبل، وحملت إليه الخلعة لما خلع على المباشرين فلم يلبسها، واستمر معزولا إلى يوم عاشوراء من السنة الآتية، فجدد تقليده وخلع عليه في الدولة الجديدة.

وفيها: خرج الملك الناصر محمد بن قلاوون من الديار المصرية قاصدا الحج، وذلك في السادس والعشرين من رمضان، وخرج معه جماعة من الأمراء لتوديعه فردهم، ولما اجتاز بالكرك عدل إليها فنصب له الجسر.

فلما توسطه كسر به فسلم من كان أمامه وقفز به الفرس فسلم، وسقط من كان وراءه وكانوا خمسين فمات منهم أربعة وتهشم أكثرهم في الوادي الذي تحت الجسر، وبقي نائب الكرك الأمير جمال الدين آقوش خجلا يتوهم أن يكون هذا يظنه السلطان عن قصد، وكان قد عمل للسلطان ضيافة عزم عليها أربعة عشر ألفا فلم يقع الموقع لاشتغال السلطان بهم وما جرى له ولأصحابه ثم خلع على النائب وأذن له في الانصراف إلى مصر فسافر، واشتغل السلطان بتدبير المملكة في الكرك وحدها.

وكان يحضر دار العدل ويباشر الأمور بنفسه، وقدمت عليه زوجته من مصر، فذكرت له ما كانوا فيه من ضيق الحال وقلة النفقات.

ذكر سلطنة الملك المظفر ركن الدين بيبرس الجاشنكير بشيخ المنبجي عدو ابن تيمية

لما استقر الملك الناصر بالكرك وعزم على الإقامة بها كتب كتابا إلى الديار المصرية يتضمن عزل نفسه عن المملكة، فأثبت ذلك على القضاة بمصر، ثم نفذ على قضاة الشام وبويع الأمير ركن الدين بيبرس الجاشنكير في السلطنة في الثالث والعشرين من شوال يوم السبت بعد العصر، بدار الأمير سيف الدين سلار، اجتمع بها أعيان الدولة من الأمراء وغيرهم وبايعوه وخاطبوه بالملك المظفر، وركب إلى القلعة ومشوا بين يديه، وجلس على سرير الملكة بالقلعة. ودقت البشائر وسارت البريدية بذلك إلى سائر البلدان.

وفي مستهل ذي القعدة وصل الأمير عز الدين البغدادي إلى دمشق، فاجتمع بنائب السلطنة والقضاة والأمراء والأعيان بالقصر الأبلق فقرأ عليهم كتاب الناصر إلى أهل مصر، وأنه قد نزل عن الملك وأعرض عنه، فأثبته القضاة وامتنع الحنبلي من إثباته وقال: ليس أحد يترك الملك مختارا، ولولا أنه مضطهد ما تركه، فعزل وأقيم غيره، واستحلفهم للسلطان الملك المظفر، وكتبت العلامة على القلعة، وألقابه على محال المملكة.

ودقت البشائر وزينت البلد، ولما قرئ كتاب الملك الناصر على الأمراء بالقصر، وفيه: إني قد صحبت الناس عشر سنين ثم اخترت المقام بالكرك، تباكى جماعة من الأمراء وبايعوا كالمكرهين، وتولى مكان الأمير ركن الدين بيبرس الجاشنكير الأمير سيف الدين بن علي، ومكان ترعكي سيف الدين بنخاص، ومكان بنخاص الأمير جمال الدين آقوش الذي كان نائب الكرك.

وخطب للمظفر يوم الجمعة على المنابر بدمشق وغيرها، وحضر نائب السلطنة الأفرم والقضاة، وجاءت الخلع وتقليد نائب السلطنة في تاسع عشر ذي القعدة، وقرأ تقليد النائب كاتب السر القاضي محيي الدين بن فضل الله بالقصر بحضرة الأمراء، وعليهم الخلع كلهم.

وركب المظفر بالخلعة السوداء الخليفية، والعمامة المدورة والدولة بين يديه عليهم الخلع يوم السبت سابع ذي القعدة، والصاحب ضياء الدين النساي حامل تقليد السلطان من جهة الخليفة في كيس أطلس أسود، وأوله: إنه من سليمان وإنه بسم الله الرحمن الرحيم، ويقال إنه خلع في القاهرة قريب ألف خلعة ومائتي خلعة، وكان يوما مشهودا، وفرح بنفسه أياما يسيرة، وكذا شيخه المنبجي، ثم أزال الله عنهما نعمته سريعا.

وفيها: خطب ابن جماعة بالقلعة وباشر الشيخ علاء الدين القونوي تدريس الشريفية.

من الأعيان:

الشيخ الصالح عثمان الحلبوني

أصله من صعيد مصر، فأقام مدة بقرية حلبون وغيرها من تلك الناحية، ومكث مدة لا يأكل الخبز، واجتمع عليه جماعة من المريدين وتوفي بقرية برارة في أواخر المحرم، ودفن بها وحضر جنازته نائب الشام والقضاة وجماعة من الأعيان.

الشيخ الصالح

أبو الحسن علي بن محمد بن كثير الحراني الحنبلي إمام مسجد عطية، ويعرف بابن المقري روى الحديث وكان فقيها بمدارس الحنابلة.

ولد بحران سنة أربع وثلاثين وستمائة، وتوفي بدمشق في العشر الأخير من رمضان، ودفن بسفح قاسيون، وتوفي قبله الشيخ زين الدين الحراني بغزة، وعمل عزاؤه بدمشق رحمهما الله.

السيد الشريف زين الدين

أبو علي الحسن بن محمد بن عدنان الحسيني نقيب الأشراف، كان فاضلا بارعا فصيحا متكلما، يعرف طريقة الاعتزال ويباحث الإمامية، ويناظر على ذلك بحضرة القضاة وغيرهم، وقد باشر قبل وفاته بقليل نظر الجامع ونظر ديوان الأفرم، توفي يوم الخامس من ذي القعدة عن خمس وخمسين سنة، ودفن بتربتهم بباب الصغير.

الشيخ الجليل ظهير الدين

أبو عبد الله محمد بن عبد الله بن أبي الفضل بن منعة البغدادي، شيخ الحرم الشريف بمكة بعد عمه عفيف الدين منصور بن منعة، وقد سمع الحديث وأقام ببغداد مدة طويلة، ثم سار إلى مكة، بعد وفاة عمه، فتولى مشيخة الحرم إلى أن توفي.

ثم دخلت سنة تسع وسبعمائة

استهلت وخليفة الوقت المستكفي أمير المؤمنين بن الحاكم بأمر الله العباسي، وسلطان البلاد الملك المظفر ركن الدين بيبرس الجاشنكير، ونائبه بمصر الأمير سيف الدين سلار، وبالشام آقوش الأفرم، وقضاة مصر والشام هم المذكورون في التي قبلها.

وفي ليلة سلخ صفر توجه الشيخ تقي الدين بن تيمية من القاهرة إلى الإسكندرية صحبة أمير مقدم، فأدخله دار السلطان وأنزله في برج منها فسيح متسع الأكناف، فكان الناس يدخلون عليه ويتشغلون في سائر العلوم، ثم كان بعد ذلك يحضر الجمعات ويعمل المواعيد على عادته في الجامع.

وكان دخوله إلى الإسكندرية يوم الأحد، وبعد عشرة أيام وصل خبره إلى دمشق فحصل عليه تألم وخافوا عليه غائلة الجاشنكير وشيخه المنبجي، فتضاعف له الدعاء، وذلك أنهم لم يمكنوا أحدا من أصحابه أن يخرج معه إلى الإسكندرية، فضاقت له الصدور، وذلك أنه تمكن منه عدوه نصر المنبجي.

وكان سبب عداوته له أن الشيخ تقي الدين كان ينال من الجاشنكير ومن شيخه نصر المنبجي، ويقول: زالت أيامه وانتهت رياسته، وقرب انقضاء أجله، ويتكلم فيهما وفي ابن عربي وأبتاعه، فأرادوا أن يسيروه إلى الإسكندرية كهيئة المنفي لعل أحدا من أهلها يتجاسر عليه فيقتله غيلة، فما زاد ذلك الناس إلا محبة فيه وقربا منه وانتفاعا به واشتغالا عليه، وحنوا وكرامة له.

وجاء كتاب من أخيه يقول فيه: إن الأخ الكريم قد نزل بالثغر المحروس على نية الرباط، فإن أعداء الله قصدوا بذلك أمروا يكيدونه بها ويكيدون الإسلام وأهله. وكانت تلك كرامة في حقنا، وظنوا أن ذلك يؤدي إلى هلاك الشيخ فانقلبت عليهم مقاصدهم الخبيثة وانعكست من كل الوجوه، وأصبحوا وأمسوا وما زالوا عند الله وعند الناس العارفين سود الوجوه يتقطعون حسرات وندما على ما فعلوا، وانقلب أهل الثغر أجمعين إلى الأخ مقبلين عليه مكرمين له وفي كل وقت ينشر من كتاب الله وسنة رسوله ما تقر به أعين المؤمنين. وذلك شجى في حلوق الأعداء.

واتفق أنه وجد بالإسكندرية إبليس قد باض فيها وفرخ وأضل بها فرق السبعينية والعربية فمزق الله بقدومه عليهم شملهم، وشتت جموعهم شذر مذر، وهتك أستارهم وفضحهم، واستتاب جماعة كثيرة منهم، وتوب رئيسا من رؤسائهم واستقر عند عامة المؤمنين وخواصهم من أمير وقاض وفقيه، ومفتٍ وشيخ وجماعة المجتهدين. إلا من شذ من الأغمار الجهال، مع الذلة والصغار - محبة الشيخ وتعظيمه وقوبل كلامه والرجوع إلى أمره ونهيه، فعلت كلمة الله بها على أعداء الله ورسوله، ولعنوا سرا وجهرا وباطنا وظاهرا، في مجامع الناس بأسمائهم الخاصة بهم، وصار ذلك عند نصر المنبجي المقيم المقعد، ونزل به من الخوف والذل ما لا يعبر عنه، وذكر كلاما كثيرا.

والمقصود أن الشيخ تقي الدين أقام بثغر الإسكندرية ثمانية أشهر مقيما ببرج متسع مليح نظيف له شباكان: أحدهما إلى جهة البحر، والآخر إلى جهة المدينة، وكان يدخل عليه من شاء، ويتردد إليه الأكابر والأعيان والفقهاء، ويقرؤون عليه ويستفيدون منه، وهو في أطيب عيش وأشرح صدر.

وفي آخر ربيع الأول عزل الشيخ كمال الدين بن الزملكاني عن نظر المارستان بسبب انتمائه إلى ابن تيمية بإشارة المنبجي، وباشره شمس الدين عبدا لقادر بن الخطيري.

وفي يوم الثلاثاء ثالث ربيع الآخر ولي قضاء الحنابلة بمصر الشيخ الإمام الحافظ سعد الدين أبو محمود مسعود بن أحمد ابن مسعود بن زين الدين الحارثي، شيخ الحديث بمصر، بعد وفاة القاضي شرف الدين أبي محمد عبد الغني بن يحيى بن محمد بن عبد الله بن نصر بن أبي بكر الحراني.

وفي جمادى الأولى برزت المراسيم السلطانية المظفرية إلى البلاد السواحلية بإبطال الخمور وتخريب الحانات ونفي أهلها، ففعل ذلك وفرح المسلمون بذلك فرحا شديدا.

وفي مستهل جمادى الآخرة وصل بريد بتولية قضاء الحنابلة بدمشق للشيخ شهاب الدين أحمد بن شريف الدين حسن بن الحافظ جمال الدين أبي موسى عبد الله بن الحافظ عبد الغني المقدسي، عوضا عن التقي سليمان بن حمزة بسبب تكلمه في نزول الملك الناصر عن الملك، وإنه إنما نزل عنه مضطهدا بذلك، ليس بمختار، وقد صدق فيما قال.

وفي عشرين جمادى الآخرة وصل البريد بولاية شد الدواوين للأمير سيف الدين بكتمر الحاجب، عوضا عن الرستمي فلم يقبل، وبنظر الخزانة للأمير عز الدين أحمد بن زين الدين محمد بن أحمد بن محمود المعروف بابن القلانسي، فباشرهما وعزل عنها البصراوي محتسب البلد.

وفي هذا الشهر باشر قاضي القضاة ابن جماعة مشيخة سعيد السعداء بالقاهرة بطلب الصوفية له، ورضوا منه بالحضور عندهم في الجمعة مرة واحدة، وعزل عنها الشيخ كريم الدين الأيكي، لأنه عزل منها الشهود، فثاروا عليه وكتبوا في حقه محاضر بأشياء قادحة في الدين، فرسم بصرفه عنهم، وعومل بنظير ما كان يعامل به الناس، ومن جملة ذلك قيامه على شيخ الإسلام ابن تيمية وافتراؤه عليه الكذب، مع جهله وقلة ورعه، فجعل الله له هذا الخزي على يدي أصحابه وأصدقائه جزاء وفاقا.

وفي شهر رجب كثر الخوف بدمشق وانتقل الناس من ظاهرها إلى داخلها، وسبب ذلك أن السلطان الملك الناصر محمد بن قلاوون ركب من الكرك قاصدا دمشق يطلب عوده إلى الملك، وقد مالأه جماعة من الأمراء وكاتبوه في الباطن وناصحوه، وقفز إليه جماعة من أمراء المصريين.

وتحدث الناس بسفر نائب دمشق الأفرم إلى القاهرة، وأن يكون مع الجم الغفير، فاضطرب الناس ولم تفتح أبواب البلد إلى ارتفاع النهار، وتخبطت الأمور فاجتمع القضاة وكثير من الأمراء بالقصر وجددوا البيعة للملك المظفر.

وفي آخر نهار السبت غلقت أبواب البلد بعد العصر وازدحم الناس بباب النصر وحصل لهم تعب عظيم، وازدحم البلد بأهل القرى وكثر الناس بالبلد، وجاء البريد بوصول الملك الناصر إلى الخمان، فانزعج نائب الشام لذلك وأظهر أنه يريد قتاله ومنعه من دخول البلد.

وقفز إليه الأميران ركن الدين بيبرس المجنون، وبيبرس العلمي، وركب إليه الأمير سيف الدين بكتمر حاجب الحجاب يشير عليه بالرجوع، ويخبره بأنه لا طاقة له بقتال المصريين، ولحقه الأمير سيف الدين بهادرا يشير عليه بمثل ذلك، ثم عاد إلى دمشق يوم الثلاثاء خامس رجب وأخبر أن السلطان الملك الناصر قد عاد إلى الكرك، فسكن الناس ورجع نائب السلطنة إلى القصر، وتراجع بعض الناس إلى مساكنهم، واستقروا بها.

صفة عود الملك الناصر محمد بن الملك المنصور قلاوون إلى الملك وزاول دولة المظفر الجاشنكير بيبرس وخذلانه وخذلان شيخه نصر المنبجي الاتحادي الحلولي

لما كان ثالث عشر شعبان جاء الخبر بقدوم الملك الناصر إلى دمشق، فساق إليه الأميران سيف الدين قطلوبك والحاج بهادر إلى الكرك، وحضاه على المجيء إليها، واضطرب نائب دمشق وركب في جماعة من أتباعه على الهجن في سادس عشر شعبان ومعه ابن صبح صاحب شقيف أرنون.

وهيئت بدمشق أبهة السلطنة والإقامات اللائقة به، والعصائب والكوسات، وركب من الكرك في أبهة عظيمة، وأرسل الأمان إلى الأفرم، ودعا له المؤذنون في المئذنة ليلة الاثنين سابع عشر شعبان، وصبح بالدعاء له والسرور بذكره، ونودي في الناس بالأمان، وأن يفتحوا دكاكينهم ويأمنوا في أوطانهم، وشرع الناس في الزينة ودقت البشائر ونام الناس في الأسطحة ليلة الثلاثاء ليتفرجوا على السلطان حين يدخل البلد.

وخرج القضاة، والأمراء والأعيان لتلقيه.

قال كاتبه ابن كثير: وكنت فيمن شاهد دخوله يوم الثلاثاء وسط النهار في أبهة عظيمة، وبسط له من عند المصلى وعليه أبهة الملك وبسطت الشقاق الحرير تحت أقدام فرسه، كلما جاوز شقة طويت من ورائه، والجد على رأسه والأمراء السلحدارية عن يمينه وشماله، وبين يديه، والناس يدعون له ويضجون بذلك ضجيجا عاليا، وكان يوما مشهودا.

قال الشيخ علم الدين البرزالي: وكان على السلطان يومئذ عمامة بيضاء، وكارثة حمراء، وكان الذي حمل الغاشية على رأس السلطان الحاج بهادر وعليه خلعة معظمة مذهبة بفرو فاخم.

ولما وصل إلى القلعة نصب له الجسر ونزل إليها نائبها الأمير سيف الدين السنجري، فقبل الأرض بين يديه، فأشار إليه إني الآن لا أنزل ههنا، وسار بفرسه إلى جهة القصر الأبلق والأمراء بين يديه، فخطب له يوم الجمعة.

وفي بكرة يوم السبت الثاني والعشرين من الشهر وصل الأمير جمال الدين آقوش الأفرم نائب دمشق مطيعا للسلطان، فقبل الأرض بين يديه، فترجل له السلطان وأكرمه وأذن له في مباشرة النيابة على عادته، وفرح الناس بطاعة الأفرم له، ووصل إليه أيضا الأمير سيف الدين قبجق نائب حماه، والأمير سيف الدين استدمر نائب طرابلس يوم الاثنين الرابع والعشرين من شعبان، وخرج الناس لتلقيهما، وتلقاهما السلطان كما تلقى الأفرم.

وفي هذا اليوم رسم السلطان بتقليد قضاء الحنابلة وعوده إلى تقي الدين سليمان، وهنأه الناس وجاء إلى السلطان إلى القصر فسلم عليه ومضى إلى الجوزية فحكم بها ثلاثة أشهر وأقيمت الجمعة الثانية بالميدان وحضر السلطان والقضاة إلى جانبه، وأكابر الأمراء والدولة وكثير من العامة.

وفي هذا اليوم وصل إلى السلطان الأمير قراسنقر المنصوري نائب حلب وخرج دهليز السلطان يوم الخميس رابع رمضان ومعه القضاة والقراء وقت العصر، وأقيمت الجمعة خامس رمضان بالميدان أيضا.

ثم خرج السلطان من دمشق يوم الثلاثاء تاسع رمضان، وفي صحبته ابن صصرى وصدر الدين الحنفي قاضي العساكر، والخطيب جلال الدين، والشيخ كمال الدين بن الزملكاني، والموقعون وديوان الجيش وجيش الشام بكماله قد اجتمعوا عليه من سائر مدنه وأقاليمه بنوا به وأمرائه، فلما انتهى السلطان إلى غزة دخلها في أبهة عظيمة.

وتلقاه الأمير سيف الدين بهادر هو وجماعة من أمراء المصريين، فأخبروه أن الملك المظفر قد خلع نفسه من المملكة، ثم تواتر قدوم الأمراء من مصر إلى السلطان وأخبروه بذلك، فطابت قلوب الشاميين واستبشروا بذلك ودقت البشائر وتأخر مجيء البريد بصورة الناصري.

واتفق في يوم هذا العيد أنه خرج نائب الخطيب الشيخ تقي الدين الجزري المعروف بالمقضاي في السناجق إلى المصلّى على العادة، واستناب في البلد الشيخ مجد الدين التونسي، فلما وصلوا إلى المصلّى وجدوا خطيب المصلّى قد شرع في الصلاة فنصبت السناجق في صحن المصلّى وصلى بينهما تقي الدين المقضاي ثم خطب، وكذلك فعل ابن حسان داخل المصلّى، فعقد فيه صلاتان وخطبتان يومئذ، ولم يتفق مثل هذا فيما نعلم.

وكان دخول السلطان الملك الناصر إلى قلعة الجبل آخر يوم عيد الفطر من هذه السنة، ورسم لسلار أن يسافر إلى الشوبك، واستناب بمصر الأمير سيف الدين بكتمر الجوكندار الذي كان نائب صفد، وبالشام الأمير قراسنقر المنصوري، وذلك في العشرين من شوال، واستوزر الصاحب فخر الدين الخليلي بعدها بيومين، وباشر القاضي فخر الدين كاتب الممالك نظر الجيوش بمصر بعد بهاء الدين عبد الله بن أحمد بن علي بن المظفر الحلي، توفي ليلة الجمعة عاشر شوال، وكان من صدور المصريين وأعيان الكبار، وقد روى شيئا من الحديث، وصرف الأمير جمال الدين آقوش الأفرم إلى نيابة صرخد وقدم إلى دمشق الأمير زين الدين كتبغا رأس نوبة الجمدارية شد الدواوين، وأستاذ دار الاستادارية عوضا عن سيف الدين أقجبا، وتغيرت الدولة وانقلبت قلبة عظيمة.

قال الشيخ علم الدين البرزالي: ولما دخل السلطان إلى مصر يوم عيد الفطر لم يكن له دأب إلا طلب الشيخ تقي الدين بن تيمية من الإسكندرية معززا مكرما مبجلا، فوجه إليه في ثاني يوم من شوال بعد وصوله بيوم أو يومين، فقدم الشيخ تقي الدين على السلطان في يوم ثامن الشهر وخرج مع الشيخ خلق من الإسكندرية يودعونه، واجتمع بالسلطان يوم الجمعة فأكرمه وتلقاه ومشى إليه في مجلس حفل فيه قضاة المصريين والشاميين، وأصلح بينه وبينهم، ونزل الشيخ إلى القاهرة وسكن بالقرب من مشهد الحسين، والناس يترددون إليه، والأمراء والجند وكثير من الفقهاء والقضاة منهم من يعتذر إليه ويتنصل مما وقع منه، فقال: أنا حاللت كل من أذاني.

قلت: وقد أخبرني القاضي جمال الدين بن القلانسي بتفاصيل هذا المجلس وما وقع فيه من تعظيمه وإكرامه مما حصل له من الشكر والمدح من السلطان والحاضرين من الأمراء، وكذلك أخبرني بذلك قاضي القضاة منصور الدين الحنفي، ولكن أخبار ابن القلانسي أكثر تفصيلا، وذلك أنه كان إذ ذاك قاضي العساكر، وكلاهما كان حاضرا هذا المجلس. ذكر لي أن السلطان لما قدم عليه الشيخ تقي الدين بن تيمية نهض قائما للشيخ أول ما رآه، ومشى له إلى طرف الإيوان واعتنقا هناك هنيهة، ثم أخذ معه ساعة إلى طبقة فيها شباك إلى بستان فجلسا ساعة يتحدثان، ثم جاء ويد الشيخ في يد السلطان، فجلس السلطان وعن يمينه ابن جماعة قاضي مصر، وعن يساره ابن الخليلي الوزير، وتحته ابن صصرى.

ثم صدر الدين علي الحنفي وجلس الشيخ تقي الدين بين يدي السلطان على طرف طراحته، وتكلم الوزير في إعادة أهل الذمة إلى لبس العمائم البيض بالعلائم، وأنهم قد التزموا للديوان بسبع مائة ألف في كل سنة، زيادة على الحالية، فسكت الناس وكان فيهم قضاة مصر والشام وكبار العلماء من أهل مصر والشام من جملتهم ابن الزملكاني.

قال ابن القلانسي: وأنا في مجلس السلطان إلى جنب ابن الزملكاني، فلم يتكلم أحد من العلماء ولا من القضاة، فقال لهم السلطان: ما تقولون يستفتيهم في ذلك، فلم يتكلم أحد، فجثى الشيخ تقي الدين على ركبتيه وتكلم مع السلطان في ذلك بكلام غليظ ورد على الوزير ما قاله ردا عنيفا، وجعل يرفع صوته والسلطان يتلافاه ويسكته بترفق وتؤدة وتوقير.

وبالغ الشيخ في الكلام، وقال ما لا يستطيع أحد أن يقوم بمثله، ولا بقريب منه، وبالغ في التشنيع على من يوافق في ذلك. وقال للسلطان: حاشاك أن يكون أول مجلس جلسته في أبهة الملك تنصر فيه أهل الذمة لأجل حطام الدنيا الفانية، فاذكر نعمة الله عليك إذ رد ملكك إليك، وكبت عدوك ونصرك على أعدائك فذكر أن الجاشنكير هو الذي جدد عليهم ذلك، فقال: والذي فعله الجاشنكير كان من مراسيمك لأنه إنما كان نائبا لك، فأعجب السلطان ذلك واستمر بهم على ذلك وجرت فصول يطول ذكرها.

وقد كان السلطان أعلم بالشيخ من جميع الحاضرين، ودينه وزينته وقيامه بالحق وشجاعته، وسمعت الشيخ تقي الدين يذكر ما كان بينه وبين السلطان من الكلام لما انفردا في ذلك الشباك الذي جلسا فيه، وأن السلطان استفتى الشيخ في قتل بعض القضاة بسبب ما كانوا تكلموا فيه، وأخرج له فتاوى بعضهم بعزله من الملك ومبايعة الجاشنكير، وأنهم قاموا عليك وآذوك أنت أيضا، وأخذ يحثه بذلك على أن يفتيه في قتل بعضهم. وإنما كان حنقه عليهم بسبب ما كانوا سعوا فيه من عزله ومبايعة الجاشنكير، ففهم الشيخ مراد السلطان فأخذ في تعظيم القضاة والعلماء، وينكر أن ينال أحدا منهم بسوء، وقال له: إذا قتلت هؤلاء لا تجد بعدهم مثلهم، فقال له: إنهم قد آذوك وأرادوا قتلك مرارا، فقال الشيخ: من آذاني فهو في حلّ، ومن آذى الله ورسوله فالله ينتقم منه، وأنا لا أنتصر لنفسي، وما زال به حتى حلم عنهم السلطان وصفح.

قال: وكان قاضي المالكية ابن مخلوف يقول: «ما رأينا مثل ابن تيمية حرضنا عليه فلم نقدر عليه وقدر علينا فصفح عنا وحاجج عنا»، ثم إن الشيخ بعد اجتماعه بالسلطان نزل إلى القاهرة وعاد إلى بث العلم ونشره. وأقبلت الخلق عليه ورحلوا إليه يشتغلون عليه ويستفتونه ويجيبهم بالكتابة والقول، وجاء الفقهاء يعتذرون مما وقع منهم في حقه فقال: قد جعلت الكل في حل، وبعث الشيخ كتابا إلى أهله يذكر ما هو فيه من نعم الله وخيره الكثير، ويطلب منهم جملة من كتب العلم التي له ويستعينوا على ذلك بجمال الدين المزي، فإنه يدري كيف يستخرج له ما يريده من الكتب التي أشار إليها.

وقال في هذا الكتاب: والحق كل ما له في علو وازدياد وانتصار، والباطل في انخفاض وسفول واضمحلال، وقد أذل الله رقاب الخصوم، وطلب أكابرهم من السلم من يطول وصفه، وقد اشترطنا عليهم من الشروط ما فيه عز الإسلام والسنة، وما فيه قمع الباطل والبدعة. وقد دخلوا تحت ذلك كله وامتنعنا من قبول ذلك منهم، حتى يظهر إلى الفعل، فلم نثق لهم بقول ولا عهد، ولم نجبهم إلى مطلوبهم حتى يصير المشروط معمولا، والمذكور مفعولا، ويظهر من عز الإسلام والسنة للخاصة والعامة ما يكون من الحسنات التي تمحو سيئاتهم، وذكر كلاما طويلا يتضمن ما جرى له مع السلطان في قمع اليهود والنصارى وذلهم، وتركهم على ما هم عليه من الذلة والصغار، والله سبحانه أعلم.

وفي شوال أمسك السلطان جماعة من الأمراء قريبا من عشرين أميرا، وفي سادس عشر شوال وقع بين أهل حوران من قيس ويمن فقتل منهم مقتلة عظيمة جدا، قتل من الفريقين نحو من ألف نفس بالقرب من السوداء، وهم يسمونها السويداء، ووقعة السويداء، وكانت الكسرة على يمن فهربوا من قيس حتى دخل كثير منهم إلى دمشق في أسوأ حال وأضعفه، وهربت قيس خوفا من الدولة، وبقيت القرى خالية والزروع سائبة. فإنا لله وإنا إليه راجعون.

وفي يوم الأربعاء سادس القعدة قدم الأمير سيف الدين قبجق المنصوري نائبا على حلب فنزل القصر ومعه جماعة من أمراء المصريين، ثم سافر إلى حلب بمن معه من الأمراء والأجناد، واجتاز الأمير سيف الدين بهادر بدمشق ذاهبا إلى طرابلس نائبا والفتوحات السواحلية عوضا عن الأمير سيف الدين استدمر، ووصل جماعة ممن كان قد سافر مع السلطان إلى مصر في ذي القعدة. منهم: قاضي قضاة الحنفية صدر الدين، ومحيي الدين بن فضل الله وغيرهما، فقمت وجلست يوما إلى القاضي صدر الدين الحنفي بعد مجيئه من مصر فقال لي: أتحب ابن تيمية؟ قلت: نعم، فقال لي وهو يضحك: والله لقد أحببت شيئا مليحا، وذكر لي قريبا مما ذكر ابن القلانسي، لكن سياق ابن القلانسي أتم.

مقتل الجاشنكيري

كان قد فر الخبيث في جماعة من أصحابه، فلما خرج الأمير سيف الدين قراسنقر المنصوري من مصر متوجها إلى نيابة الشام عوضا من الأفرم، فلما كان بغزة في سابع ذي القعدة ضرب حلقة لأجل الصيد، فوقع في وسطها الجاشنكير في ثلاثمائة من أصحابه فأحيط بهم، وتفرق عنه أصحابه فأمسكوه ورجع معه قراسنقر وسيف الدين بهادر على الهجن.

فلما كان بالخطارة تلقاهم استدمر فتسلمن منهم ورجعا إلى عسكرهم ودخل به، استدمر على السلطان فعاتبه ولامه، وكان آخر العهد به، قتل ودفن بالقرافة ولم ينفعه شيخه المنبجي ولا أمواله، بل قتل شر قتلة ودخل قراسنقر دمشق يوم الاثنين الخامس والعشرين من ذي القعدة فنزل بالقصر، وكان في صحبته ابن صصرى، وابن الزملكاني، وابن القلانسي، وعلاء الدين بن غانم، وخلق من الأمراء المصريين والشاميين.

وكان الخطيب جلال الدين القزويني قد وصل قبلهم يوم الخميس الثاني والعشرين من الشهر، وخطب يوم الجمعة على عادته، فلما كان يوم الجمعة الأخرى وهو التاسع والعشرون من الشهر خطب بجامع دمشق القاضي بدر الدين محمد بن عثمان بن يوسف بن حداد الحنبلي عن إذن نائب السلطنة، وقرئ تقليده على المنبر بعد الصلاة بحضرة القضاة والأكابر والأعيان، وخلع عليه عقيب ذلك خلعة سنية، واستمر يباشر الإمامة والخطابة اثنين وأربعين يوما، ثم أعيد الخطيب جلال الدين بمرسوم سلطاني وباشر يوم الخميس ثاني عشر المحرم من السنة الآتية.

وفي ذي الحجة درس كمال الدين بن الشيرازي بالمدرسة الشامية البرانية، انتزعها من يد الشيخ كمال الدين بن الزملكاني، وذلك أن استدمر ساعده على ذلك.

وفيها: أظهر ملك التتر خربندا الرفض في بلاده، وأمر الخطباء أولا أن لا يذكروا في خطبتهم إلا علي بن أبي طالب رضي الله عنه وأهل بيته، ولما وصل خطيب بلاد الأزج إلى هذا الموضع من خطبته بكى بكاءا شديدا وبكى الناس معه ونزل ولم يتمكن من إتمام الخطبة، فأقيم من أتمها عنه وصلى بالناس وظهر على الناس بتلك البلاد من أهل السنة أهل البدعة، فإنا لله وإنا إليه راجعون.

ولم يحج فيها أحد من أهل الشام بسبب تخبيط الدولة وكثرة الاختلاف.

من الأعيان:

الخطيب ناصر الدين أبو الهدى

أحمد بن الخطيب بدر الدين يحيى بن الشيخ عز الدين بن عبد السلام خطيب العقيبة بداره بها، وقد باشر نظر الجامع الأموي وغير ذلك، توفي يوم الأربعاء النصف من المحرم، وصلّي عليه بجامع العقيبة، ودفن عند والده بباب الصغير، وقد روى الحديث وباشر الخطابة بعد والده بدر الدين وحضر عنده نائب السلطنة والقضاة والأعيان.

قاضي الحنابلة بمصر

شرف الدين أبو محمد عبد الغني بن يحيى بن محمد بن عبد الله بن نصر بن أبي بكر الحراني، ولد بحران سنة خمس وأربعين وستمائة، وسمع الحديث وقدم مصر فباشر نظر الخزانة وتدريس الصالحية ثم أضيف إليه القضاء، وكان مشكور السيرة كثير المكارم توفي ليلة الجمعة رابع عشر ربيع الأول دفن بالقرافة؛ وولي بعده سعد الدين الحارثي كما تقدم.

الشيخ نجم الدين

أيوب بن سليمان بن مظفر المصري المعروف بمؤذن النجيبي، كان رئيس المؤذنين بجامع دمشق ونقيب الخطباء، وكان حسن الشكل رفيع الصوت، واستمر بذلك نحوا من خمسين سنة إلى أن توفي في مستهل جمادى الأولى.

وفي هذا الشهر توفي:

الأمير شمس الدين سنقر الأعسر المنصوري

تولى الوزارة بمصر مع شد الدواوين معا، وباشر شد الدواوين بالشام مرات، وله دار وبستان بدمشق مشهوران به، وكان فيه نهضة وله همة عالية وأموال كثيرة، توفي بمصر.

الأمير جمال الدين آقوش بن عبد الله الرسيمي

شاد الدواوين بدمشق، وكان قبل ذلك والي الولاة بالجهة القبلية بعد الشريفي، وكانت له سطوة توفي يوم الأحد تاسع عشر جمادى الأولى ودفن ضحوة بالقبة التي بناها تجاه قبة الشيخ رسلان، وكان فيه كفاية وخبرة.

وباشر بعده شد الدواوين أقبجا.

وفي شعبان أو في رجب توفي:

التاج أحمد بن سعيد الدولة

وكان مسلمانيا وكان سفير الدولة، وكانت له مكانة عند الجاشنكير بسبب صحبته لنصر المنبجي شيخ الجاشنكير، وقد عرضت عليه الوزارة فلم يقبل، ولما توفي تولى وظيفته ابن أخته كريم الدين الكبير.

الشيخ شهاب الدين

أحمد بن محمد بن أبي المكرم بن نصر الأصبهاني رئيس المؤذنين بالجامع الأموي، ولد سنة اثنتين وستمائة، وسمع الحديث وباشر وظيفة الأذان من سنة خمس وأربعين إلى أن توفي ليلة الثلاثاء خامس ذي القعدة، وكان رجلا جيدا والله سبحانه أعلم.

ثم دخلت سنة عشر وسبعمائة

استهلت وخليفة الوقت المستكفي بالله أبو الربيع سليمان العباسي، وسلطان البلاد الملك الناصر محمد بن المنصور قلاوون، والشيخ تقي الدين بن تيمية مقيم بمصر معظما مكرما، ونائب مصر الأمير سيف الدين بكتمر أمير خزندار، وقضاته هم المذكورون في التي قبلها، سوى الحنبلي فإنه سعد الدين الحارثي، والوزير بمصر فخر الدين الخليلي، وناظر الجيوش فخر الدين كاتب المماليك، ونائب الشام قراسنقر المنصوري، وقضاة دمشق هم هم، ونائب حلب قبجق، ونائب طرابلس الحاج بهادر والأفرم بصرخد.

وفي محرم منها باشر الشيخ أمين الدين سالم بن أبي الدرين وكيل بيت المال إمام مسجد هشام تدريس الشامية الجوانية، والشيخ صدر الدين سليمان بن موسى الكردي تدريس العذراوية، كلاهما انتزعها من ابن الوكيل بسبب إقامته بمصر، وكان قد وفد إلى المظفر فألزمه رواتب لانتمائه إلى المنبجي، ثم عاد بتوقيع سلطاني إلى مدرستيه، فأقام بهما شهرا أو سبعة وعشرين يوما. ثم استعادهما منه ورجعنا إلى المدرسين الأولين: الأمين سالم، والصدر الكردي، ورجع الخطيب جلال الدين إلى الخطابة في سابع عشر المحرم، وعزل عنها البدر بن الحداد، وباشر الصاحب شمس الدين نظر الجامع والأسرى والأوقاف قاطبة يوم الاثنين، ثم خلع عليه وأضيف إليه شرف الدين بن صصرى في نظر الجامع، وكان ناظره مستقلا به قبلهما.

وفي يوم عاشوراء قدم استدمر إلى دمشق متوليا نيابة حماه، وسافر إليها بعد سبعة أيام.

وفي المحرم باشر بدر الدين بن الحداد نظر المارستان عوضا عن شمس الدين بن الخطيري، ووقعت منازعة بين صدر الدين بن المرحل وبين الصدر سليمان الكردي بسبب العذراوية، وكتبوا إلى الوكيل محضرا يتضمن من القبائح والفضائح والكفريات على ابن الوكيل، فبادر ابن الوكيل إلى القاضي تقي الدين سليمان الحنبلي، فحكم بإسلامه وحقن دمه، وحكم بإسقاط التعزير عنه والحكم بعدالته واستحقاقه إلى المناصب.

وكانت هذه هفوة من الحنبلي، ولكن خرجت عنه المدرستان العذراوية لسليمان الكردي، والشامية الجوانية للأمين سالم، ولم يبق معه سوى دار الحديث الأشرفية.

وفي ليلة الاثنين السابع من صفر وصل النجم محمد بن عثمان البصراوي من مصر متوليا الوزارة بالشام، ومعه توقيع بالحسبة لأخيه فخر الدين سليمان، فباشرا المنصبين بالجامع، ونزلا بدرب سفون الذي يقال له درب ابن أبي الهيجاء، ثم انتقل الوزير إلى دار الأعسر عند باب البريد، واستمر نظر الخزانة لعز الدين أحمد بن القلانسي أخي الشيخ جلال الدين.

وفي مستهل ربيع الأول باشر القاضي جمال الدين الزرعي قضاء القضاة بمصر عوضا عن ابن جماعة، وكان قد أخذ منه قبل ذلك في ذي الحجة مشيخة الشيوخ، وأعيدت إلى الكريم الأيكي، وأخذت منه الخطابة أيضا.

وجاء البريد إلى الشام بطلب القاضي شمس الدين بن الحريري لقضاء الديار المصرية، فسار في العشرين من ربيع الأول وخرج معه جماعة لتوديعه، فلما قدم على السلطان أكرمه وعظمه وولاه قضاء الحنفية وتدريس الناصرية والصالحية، وجامع الحاكم، وعزل عن ذلك القاضي شمس الدين السروجي فمكث أياما ثم مات.

وفي نصف هذا الشهر مسك من دمشق سبعة أمراء ومن القاهرة أربعة عشر أميرا.

وفي ربيع الآخر اهتم السلطان بطلب الأمير سيف الدين سلار فحضر هو بنفسه إليه فعاتبه، ثم استخلص منه أمواله وحواصله في مدة شهر، ثم قتل بعد ذلك فوجد معه من الأموال والحيوان والأملاك والأسلحة والمماليك والبغال والحمير أيضا والرباع شيئا كثيرا.

وأما الجواهر والذهب والفضة فشيء لا يحد ولا يوصف في كثرته، وحاصل الأمر أنه قد استأثر لنفسه طائفة كبيرة من بيت المال وأموال المسلمين تجري إليه، ويقال إنه كان مع ذلك كثير العطاء كريما محببا إلى الدولة والرعية والله أعلم.

وقد باشر نيابة السلطنة بمصر من سنة ثمان وتسعين إلى أن قتل يوم الأربعاء رابع عشرين هذا الشهر، ودفن بتربته ليلة الخميس بالقرافة، سامحه الله.

وفي ربيع الآخر درس القاضي شمس الدين بن المعز الحنفي بالظاهرية عوضا عن شمس الدين الحريري، وحضر عنده خاله الصدر علي قاضي قضاة الحنفية وبقية القضاة والأعيان.

وفي هذا الشهر كان الأمير سيف الدين استدمر قد قدم دمشق لبعض أشغاله، وكان له حنو على الشيخ صدر الدين بن الوكيل، فاستنجز له مرسوما بنظر دار الحديث وتدريس العذراوية، فلم يباشر ذلك حتى سافر استدمر، فاتفق أنه وقعت له بعد يومين كائنة بدار ابن درباس الصالحية.

وذكر أنه وجد عنده شيء من المنكرات، واجتمع عليه جماعة من أهل الصالحية مع الحنابلة وغيرهم، وبلغ ذلك نائب السلطنة فكاتب فيه، فورد الجواب بعزله عن المناصب الدينية، فخرجت عنه دار الحديث الأشرفية وبقي بدمشق وليس بيده وظيفة لذلك.

فلما كان في آخر رمضان سافر إلى حلب فقرر له نائبها استدمر شيئا على الجامع، ثم ولاه تدريسا هناك وأحسن إليه، وكان الأمير استدمر قد انتقل إلى نيابة حلب في جمادى الآخرة عوضا عن سيف الدين قبجق توفي، وباشر مملكة حماه بعده الأمير عماد الدين إسماعيل بن الأفضل علي بن محمود بن تقي الدين عمر بن شاهنشاه بن أيوب، وانتقل جمال الدين آقوش الأفرم من صرخد إلى نيابة طرابلس عوضا عن الحاج بهادر.

وفي يوم الخميس سادس عشر شعبان باشر الشيخ كمال الدين ابن الزملكاني مشيخة دار الحديث الأشرفية عوضا عن ابن الوكيل، وأخذ في التفسير والحديث والفقه، فذكر من ذلك دروسا حسنة، ثم لم يستمر بها سوى خمسة عشر يوما حتى انتزعها منه كمال الدين بن الشريشي فباشرها يوم الأحد ثالث شهر رمضان.

وفي شعبان رسم قراسنقر نائب الشام بتوسعة المقصورة، فأخرت سدة المؤذنين إلى الركنين المؤخرين تحت قبة النسر، ومنعت الجنائز من دخول الجامع أياما ثم أذن في دخولهم.

وفي خامس رمضان قدم فخر الدين إياس الذي كان نائبا في قلعة الروم إلى دمشق شاد الدواوين عوضا عن زين الدين كتبغا المنصوري.

وفي شوال باشر الشيخ علاء الدين علي بن إسماعيل القونوي مشيخة الشيوخ بالديار المصرية عوضا عن الشيخ كريم الدين عبد الكريم بن الحسين الأيكي توفي، وكان له تحرير وهمة، وخلع على القونوي خلعة سنية، وحضر سعيد السعداء بها.

وفي يوم الخميس ثالث ذي القعدة خلع على الصاحب عز الدين القلانسي خلعة الوزراء بالشام عوضا عن النجم البصراوي بحكم إقطاعه إمرة عشرة وإعراضه عن الوزارة.

وفي يوم الأربعاء سادس عشر ذي القعدة عاد الشيخ كمال الدين بن الزملكاني إلى تدريس الشامية البرانية.

وفي هذا اليوم لبس تقي الدين بن الصاحب شمس الدين بن السلعوس خلعة النظر على الجامع الأموي، ومسك الأمير سيف الدين استدمر نائب حلب في ثاني ذي الحجة ودخل إلى مصر، وكذلك مسك نائب البيرة سيف الدين ضرغام بعده بليال.

من الأعيان:

قاضي القضاة شمس الدين أبو العباس

أحمد بن إبراهيم بن عبد الغني السروجي الحنفي، شارح (الهداية)، كان بارعا في علوم شتى، وولي الحكم بمصر مدة وعزل قبل موته بأيام، توفي يوم الخميس ثاني عشر ربيع الآخر ودفن بقرب الشافعي وله اعتراضات على الشيخ تقي الدين بن تيمية في علم الكلام، أضحك فيها على نفسه، وقد رد عليه الشيخ تقي الدين في مجلدات، وأبطل حجته.

وفيها توفي سلار مقتولا كما تقدم.

الصاحب أمين الدولة

أبو بكر بن الوجيه عبد العظيم بن يوسف المعروف بابن الرقاقي، والحاج بهادر نائب طرابلس مات بها.

والأمير سيف الدين قبجق نائب حلب مات بها ودفن بتربته بحماه، ثاني جمادى الآخرة وكان شهما شجاعا، وقد ولي نيابة دمشق في أيام لاجين، ثم قفز إلى التتر خوفا من لاجين، ثم جاء مع التتر.

وكان على يديه فرج المسلمين كما ذكرنا عام قازان، ثم تنقلت به الأحوال إلى أن مات بحلب، ثم وليها بعده استدمر ومات أيضا في آخر السنة.

وفيها توفي:

الشيخ كريم الدين بن الحسين الأيكي

شيخ الشيوخ بمصر، كان له صلة بالأمراء، وقد عزل مرة عن المشيخة بابن جماعة، توفي ليلة السبت سابع شوال بخانقاه سعيد السعداء، وتولاها بعدة الشيخ علاء الدين القونوي كما تقدم.

الفقيه عز الدين عبد الجليل

النمراوي الشافعي، كان فاضلا بارعا، وقد صحب سلار نائب مصر وارتفع في الدنيا بسببه.

ابن الرفعة

هو الإمام العلامة نجم الدين أحمد بن محمد شارح (التنبيه)، وله غير ذلك، وكان فقيها فاضلا وإماما في علوم كثيرة رحمهم الله.

ثم دخلت سنة إحدى عشرة وسبعمائة

استهلت والحكام هم المذكورون في التي قبلها غير الوزير بمصر فإنه عزل وتولى سيف الدين بكتمر وزيرا، والنجم البصراوي عزل أيضا بعز الدين القلانسي، وقد انتقل الأفرم إلى نيابة طرابلس بإشارة ابن تيمية على السلطان بذلك، ونائب حماه الملك المؤيد عماد الدين على قاعدة أسلافه، وقد مات نائب حلب استدمر وهي شاغرة عن نائب فيها، وأرغون الدوادار الناصري قد وصل إلى دمشق لتسفير قراسنقر منها إلى حلب وإحضار سيف الدين كراي إلى نيابة دمشق. وغالب العساكر بحلب والأعراب محدقة بأطراف البلاد، فخرج قراسنقر المنصوري من دمشق في ثالث المحرم في جميع حواصله وحاشيته وأتباعه، وخرج الجيش لتوديعه، وسار معه أرغون لتقريره بحلب وجاء المرسوم إلى نائب القلعة الأمير سيف الدين بهادر السنجري أن يتكلم في أمور دمشق إلى أن يأتيه نائب، فحضر عنده الوزير والموقعون وباشر النيابة. وقويت شوكته وقويت شوكة الوزير إلى أن ولي ولايات عديدة منها لابن أخيه عماد الدين نظر الأسرار، واستمر في يده، وقدم نائب السلطنة سيف الدين كراي المنصوري إلى دمشق نائبا عليها.

وفي يوم الخميس الحادي عشرين من المحرم خرج الناس لتلقيه وأوقدوا الشموع، وأعيدت مقصورة الخطابة إلى مكانها رابع عشرين المحرم، وانفرج الناس ولبس النجم البصراوي خلعة الإمرة يوم الخميس ثالث عشر صفر على قاعدة الوزراء بالطرحة، وركب مع المقدمين الكبار وهو أمير عشرة بأقطاع يضاهي إقطاع كبر الطبلخانات.

وفي يوم الأربعاء سابع عشر ربيع الأول جلس القضاة الأربعة بالجامع لإنفاذ أمر الشهود بسبب تزوير وقع من بعضهم، فاطلع عليه نائب السلطنة فغضب وأمر بذلك، فلم يكن منه كبير شيء، ولم يتغير حال.

وفي هذا اليوم ولي الشريف نقيب الأشراف أمين الدين جعفر بن محمد بن محيي الدين عدنان نظر الدواودين عوضا عن شهاب الدين الواسطي، وأعيد تقي الدين بن الزكي إلى مشيخة الشيوخ.

وفيه ولي ابن جماعة تدريس الناصرية بالقاهرة، وضياء الدين النسائي تدريس الشافعي، والميعاد العام بجامع طولون، ونظر الأحباس أيضا.

وولي الوزارة بمصر أمين الملك أبو سعيد عوضا عن سيف الدين بكتمر الحاجب في ربيع الآخر.

وفي هذا الشهر احتيط على الوزير عز الدين ابن القلانسي بدمشق، ورسم عليه مدة شهرين، وكان نائب السلطنة كثير الحنق عليه، ثم أفرج عنه وأعيد بدر الدين بن جماعة إلى الحكم بديار مصر في حادي عشر ربيع الآخر، مع تدريس دار الحديث الكاملية، وجامع طولون والصالحية والناصرية، وجعل له إقبال كثير من السلطان.

واستقر جمال الدين الزرعي على قضاء العسكر وتدريس جامع الحاكم، ورسم له أن يجلس مع القضاة بين الحنفي والحنبلي بدار العدل عند السلطان.

وفي مستهل جمادى الأولى أشهد القاضي نجم الدين الدمشقي نائب ابن صصرى على نفسه بالحكم ببطلان البيع في الملك الذي اشتراه ابن القلانسي من تركة المنصوري في الرمثا والثوجة والفصالية لكونه بدون ثمن المثل، ونفذه بقية الحكام.

وأحضر ابن القلانسي إلى دار السعادة وادّعى عليه بريع ذلك، ورسم عليه بها، ثم حكم قاضي القضاة تقي الدين الحنبلي بصحة هذا البيع وبنقض ما حكم به الدمشقي، ثم نفذ بقية الحكام ما حكم به الحنبلي.

وفي هذا الشهر قرر على أهل دمشق ألف وخمسمائة فارس لكل فارس خمسمائة درهم، وضربت على الأملاك والأوقاف، فتألم الناس من ذلك تألما عظيما وسعى إلى الخطيب جلال الدين فسعى إلى القضاة واجتمع الناس بكرة يوم الاثنين ثالث عشر الشهر، واحتفلوا بالاجتماع، وأخرجوا معهم المصحف العثماني والأثر النبوي والسناجق الخليفية، ووقفوا في الموكب فلما رآهم كراي تغيظ عليهم وشتم القاضي والخطيب، وضرب مجد الدين التونسي ورسم عليهم ثم أطلقهم بضمان وكفالة، فتألم الناس من ذلك كثيرا، فلم يمهله الله إلا عشرة أيام فجاءة الأمر فجأة فعزل وحبس، ففرح الناس بذلك فرحا شديدا، ويقال إن الشيخ تقي الدين بلغه ذلك الخبر عن أهل الشام فأخبر السلطان بذلك فبعث من فوره فمسكه شر مسكة، وصفة مسكه أن تقدم الأمير سيف الدين أرغون الدوادار فنزل في القصر، فلما كان يوم الخميس الثالث والعشرين من جمادى الأولى خلع على الأمير سيف الدين كراي خلعة سنية، فلبسها وقبل العتبة، وحضر الموكب ومد السماط، فقيد بحضرة الأمراء وحمل على البريد إلى الكرك صحبة غرلو العادلي، وبيبرس المجنون.

وخرج عز الدين القلانسي من الترسيم من دار السعادة، فصلى في الجامع الظهر ثم عاد إلى داره وقد أوقدت له الشموع ودعا له الناس، ثم رجع إلى دار الحديث الأشرفية فجلس فيها نحوا من عشرين يوما، حتى قدم الأمير جمال الدين نائب الكرك.

وفي هذا الشهر مسك نائب صفت الأمير سيف الدين بكتمر أمير خزندار، وعوض عنه بالكرك بيبرس الدوادار المنصوري، ومسك نائب غزة، وعوض عنه بالجاولي، فاجتمع في حبس الكرك استدمر نائب حلب، وبكتمر نائب مصر، وكراي نائب دمشق، وقطلوبك نائب صفت، وقلطنمز نائب غزة وبنحاص.

وقدم جمال الدين آقوش المنصوري الذي كان نائب الكرك على نيابة دمشق إليها في يوم الأربعاء رابع عشر ربيع الآخر، وتلقاه الناس وأشعلت له الشموع، وفي صحبته الخطيري لتقريره في النيابة، وقد باشر نيابة الكرك من سنة تسعين وستمائة إلى سنة تسع وسبعمائة وله بها آثار حسنة، وخرج عز الدين بن القلانسي لتلقي النائب.

وقرئ يوم الجمعة كتاب السلطان على السدة بحضرة النائب والقضاة والأعيان، وفيه الأمر بالإحسان إلى الرعية وإطلاق البواقي التي كانت قد فرضت عليهم أيام كراي، فكثرت الأدعية للسلطان وفرح الناس.

وفي يوم الاثنين التاسع عشر خلع على الأمير سيف الدين بهادراص بنيابة صفت فقبل العتبة وسار إليها يوم الثلاثاء.

وفيه لبس الصدر بدر الدين بن أبي الفوارس خلعة نظر الدواوين بدمشق، مشاركا للشريف ابن عدنان وبعد ذلك بيومين قدم تقليد عز الدين بن القلانسي وكالة السلطان على ما كان عليه، وأنه أعفي عن الوزارة لكراهته لذلك.

وفي رجب باشر ابن السلعوس نظر الأوقاف عوضا عن شمس الدين عدنان.

وفي شعبان ركب نائب السلطنة بنفسه إلى أبواب السجون فأطلق المحبوسين بنفسه، فتضاعفت له الأدعية في الأسواق وغيرها.

وفي هذا اليوم قدم الصاحب عز الدين بن القلانسي من مصر فاجتمع بالنائب وخلع عليه ومعه كتاب يتضمن احترامه وإكرامه واستمراره على وكالة السلطان، ونظر الخاص والإنكار لما ثبت عليه بدمشق، وأن السلطان لم يعلم بذلك ولا وكل فيه، وكان المساعد له على ذلك كريم الدين ناظر الخاص السلطاني، والأمير سيف الدين أرغون الدوادار.

وفي شعبان منع ابن صصرى الشهود والعقاد من جهته، وامتنع غيرهم أيضا وردهم المالكي.

وفي رمضان جاء البريد بتولية زين الدين كتبغا المنصوري حجوبية الحجاب، والأمير بدر الدين ملتوبات القرماني شد الدواوين عوضا عن طوغان، وخلع عليهما معا.

وفيها: ركب بهادر السنجري نائب قلعة دمشق على البريد إلى مصر وتولاها سيف الدين بلبان البدري، ثم عاد السنجري في آخر النهار على نيابة البيرة، فسار إليها وجاء الخبر بأنه قد احتيط على جماعة من قصاد المسلمين ببغداد، فقتل منهم ابن العقاب وابن البدر، وخلص عبيدة وجاء سالما.

وخرج المحمل في شوال وأمير الحاج الأمير علاء الدين طيبغا أخو بهادراص.

وفي آخر ذي القعدة جاء الخبر بأن الأمير قراسنقر رجع من طريق الحجاز بعد أن وصل إلى بركة زيرا، وأنه لحق بمهنا بن عيسى فاستجار به خائفا على نفسه ومعه جماعة من خواصه، ثم سار من هناك إلى التتر بعد ذلك كله، وصحبه الأفرم والزردكش.

وفي العشرين من ذي القعدة وصل الأمير سيف الدين أرغون في خمسة آلاف إلى دمشق وتوجهوا إلى ناحية حمص، وتلك النواحي.

وفي سابع ذي الحجة وصل الشيخ كمال الدين بن الشريشي من مصر مستمرا على وكالته ومع توقيع بقضاء العسكر الشامي، وخلع عليه في يوم عرفة.

وفي هذا اليوم وصلت ثلاثة آلاف عليهم سيف الدين ملي من الديار المصرية فتوجهوا وراء أصحابهم إلى البلاد الشمالية.

وفي آخر الشهر وصل شهاب الدين الكاشنغري من القاهرة ومعه توقيع بمشيخة الشيوخ، فنزل في الخانقاه وباشرها بحضرة القضاة والأعيان، وانفصل ابن الزكي عنها.

وفيه باشر الصدر علاء الدين بن تاج الدين بن الأثير كتابة السر بمصر، وعزل عنها شرف الدين بن فضل الله، إلى كتابة السر بدمشق عوضا عن أخيه محيي الدين، واستمر محيي الدين على كتابة الدست بمعلوم أيضا والله أعلم.

من الأعيان:

الشيخ الرئيس بدر الدين

محمد بن رئيس الأطباء أبي إسحاق إبراهيم بن محمد بن طرخان الأنصاري، من سلالة سعد بن معاذ السويدي، من سويداء حوران، سمع الحديث وبرع في الطب، توفي في ربيع الأول ببستانه بقرب الشبلية، ودفن في تربة له في قبة فيها عن ستين سنة.

الشيخ شعبان بن أبي بكر بن عمر الأربلي

شيخ الحلبية بجامع بني أمية، كان صالحا مباركا فيه خير كثير، كان كثير العبادة وإيجاد الراحة للفقراء، وكانت جنازته حافلة جدا، صلّي عليه بالجامع بعد ظهر يوم السبت تاسع عشرين رجب ودفن بالصوفية وله سبع وثمانون سنة، وروى شيئا من الحديث، وخرجت له مشيخة حضرها الأكابر رحمه الله.

الشيخ ناصر الدين يحيى بن إبراهيم

ابن محمد بن عبد العزيز العثماني، خادم المصحف العثماني نحوا من ثلاثين سنة، وصلّي عليه بعد الجمعة سابع رمضان ودفن بالصوفية، وكان لنائب السلطنة الأفرم فيه اعتقاد ووصله منه افتقاد، وبلغ خمسا وستين سنة.

الشيخ الصالح الجليل القدوة أبو عبد الله محمد بن الشيخ القدوة إبراهيم

بن الشيخ عبد الله الأموي، توفي في العشرين من رمضان بسفح قاسيون، وحضر الأمراء والقضاة والصدور جنازته وصلّي عليه بالجامع المظفري، ثم دفن عند والده وغلق يومئذ سوق الصالحية له، وكانت له وجاهة عند الناس وشفاعة مقبولة، وكان عنده فضيلة وفيه تودد، وجمع أجزاء في أخبار جيدة، وسمع الحديث وقارب السبعين رحمه الله.

ابن الوحيد الكاتب

هو الصدر شرف الدين أبو عبد الله محمد بن شريف بن يوسف الزرعي المعروف بابن الوحيد، كان موقعا بالقاهرة وله معرفة بالإنشاء وبلغ الغاية في الكتابة في زمانه، وانتفع الناس به، وكان فاضلا مقداما شجاعا، توفي بالمرستان المنصوري بمصر سادس عشر شوال.

الأمير ناصر الدين

محمد بن عماد الدين حسن بن النسائي أحد أمراء الطبلخانات، وهو حاكم البندق، ولي ذلك بعد سيف دين بلبان، توفي في العشرين الأخر من رمضان.

التميمي الداري

توفي يوم عيد الفطر ودفن بالقرافة الصغرى، وقد ولي الوزارة بمصر، وكان خبيرا كافيا، مات معزولا، وقد سمع الحديث وسمع عليه بعض الطلبة.

وفي ذي القعدة جاء الخبر إلى دمشق بوفاة الأمير الكبير استدمر وبنخاص في السجن بقلعة الكرك.

القاضي الإمام العلامة الحافظ سعد الدين مسعود الحارثي الحنبلي

الحاكم بمصر، سمع الحديث وجمع وخرج وصنف، وكانت له يد طولى في هذه الصناعة والأسانيد والمتون، وشرح قطعة من سنن أبي داود فأجاد وأفاد، وحسن الإسناد رحمه الله تعالى، والله أعلم.

ثم دخلت سنة اثنتي عشرة وسبعمائة

استهلت والحكام هم المذكورون في التي قبلها، وفي خامس المحرم توجه الأمير عز الدين ازدمر الزردكاش وأميران معه إلى الأفرم، وساروا بأجمعهم حتى لحقوا بقراسنقر وهو عند مهنا، وكاتبوا السلطان وكانوا كالمستجيرين من الرمضاء بالنار، وجاء البريد في صفر بالاحتياط على حواصل الأفرم وقراسنقر والزردكاش وجميع ما يتعلق بهم، وقطع خبز مهنا وجعل مكانه في الإمرة أخاه محمدا.

وعادت العساكر صحبة أرغون من البلاد الشمالية، وقد حصل عند الناس من قراسنقر وأصحابه هم وغم وحزن، وقدم سودي من مصر على نيابة حلب فاجتاز بدمشق فخرج الناس والجيش لتلقيه، وحضر السماط وقرئ المنشور بطلب جمال الدين نائب دمشق إلى مصر، فركب من ساعته على البريد إلى مصر وتكلم في نيابته لغيبة لاجين.

وطلب في هذا اليوم قطب الدين موسى شيخ السلامية ناظر الجيش إلى مصر، فركب في آخر النهار إليها فتولى بها نظر الجيش عوضا عن فخر الدين الكاتب كاتب المماليك بحكم عزله ومصادرته وأخذ أمواله الكثيرة منه، في عاشر ربيع الأول.

وفي الحادي عشر منه باشر الحكم للحنابلة بمصر القاضي تقي الدين أحمد بن المعز عمر بن عبد الله بن عمر بن عوض المقدسي، وهو ابن بنت الشيخ شمس الدين بن العماد أول قضاة الحنابلة، وقدم الأمير سيف الدين تمر على نيابة طرابلس عوضا عن الأفرم بحكم هربه إلى التتر.

وفي ربيع الآخر مسك بيبرس العلائي نائب حمص وبيبرس المجنون وطوغان وجماعة آخرون من الأمراء ستة في نهار واحد وسيروا إلى الكرك معتقلين بها.

وفيه: مسك نائب مصر الأمير ركن الدين بيبرس الدوادار المنصوري، وولي بعده أرغون الدوادار، ومسك نائب الشام جمال الدين نائب الكرك وشمس الدين سنقر الكمالي حاجب الحجاب بمصر، وخمسة أمراء آخرون وحبسوا كلهم بقلعة الكرك، في برج هناك.

وفيه: وقع حريق داخل باب السلامية احترق فيه دور كثيرة منها دار ابن أبي الفوارس ودار الشريف القباني.

نيابة تنكز على الشام

في يوم الخميس العشرين من ربيع الآخر دخل الأمير سيف الدين تنكز بن عبد الله المالكي الناصري نائبا على دمشق بعد مسك نائب الكرك، ومعه جماعة من مماليك السلطان منهم الحاج أرقطاي على حيز بيبرس العلائي، وخرج الناس لتلقيه وفرحوا به كثيرا، ونزل بدار السعادة ووقع عند قدومه مصر فرح عظيم، وكان ذلك اليوم يوم الرابع والعشرين من آب. وحضر يوم الجمعة الخطبة بالمقصورة وأشعلت له الشموع في طريقه، وجاء توقيع لابن صصرى بإعادة قضاء العسكر إليه، وأن ينظر الأوقاف فلا يشاركه أحد في الاستنابة في البلاد الشامية على عادة من تقدمه من قضاة الشافعية.

وجاء مرسوم لشمس الدين أبي طالب بن حميد بنظر الجيش عوضا عن ابن شيخ السلامية بحكم إقامته بمصر، ثم بعد أيام وصل الصدر معين الدين هبة الله بن خشيش ناظر الجيش وجعل ابن حميد بوظيفة ابن البدر، وسافر ابن البدر على نظر جيش طرابلس، وتولى أرغون نيابة مصر وعاد فخر الدين كاتب المماليك إلى وظيفته مع استمرار قطب الدين بن شيخ السلامية مباشرا معه.

وفي هذا الشهر قام الشيخ محمد بن قوام ومعه جماعة من الصالحين على ابن زهرة المغربي الذي كان يتكلم بالكلاسة وكتبوا عليه محضرا يتضمن استهانته بالمصحف، وأنه يتكلم في أهل العلم، فأحضر إلى دار العدل فاستسلم وحقن دمه وعزر تعزيرا بليغا عنيفا وطيف به في البلد باطنه وظاهره، وهو مكشوف الرأس ووجهه مقلوب وظهره مضروب، ينادي عليه هذا جزاء من يتكلم في العلم بغير معرفة.

ثم حبس وأطلق فهرب إلى القاهرة، ثم عاد على البريد في شعبان ورجع إلى ما كان عليه.

وفيها: قدم بهادراص من نيابة صعد إلى دمشق وهنأه الناس.

وفيها: قدم كتاب من السلطان إلى دمشق أن لا يولي أحد بمال ولا برشوة فإن ذلك يفضي إلى ولاية من لا يستحق الولاية، وإلى ولاية غير الأهل، فقرأه ابن الزملكاني على السدة وبلغه عنه ابن حبيب المؤذن، وكان سبب ذلك الشيخ تقي الدين بن تيمية رحمه الله.

وفي رجب وشعبان حصل للناس خوف بدمشق بسبب أن التتر قد تحركوا للمجيء إلى الشام، فانزعج الناس من ذلك وخافوا، وتحول كثير منهم إلى البلد، وازدحموا في الأبواب، وذلك في شهر رمضان وكثرت الأراجيف بأنهم قد وصلوا إلى الرحبة، وكذلك جرى واشتهر بأن ذلك بإشارة قراسنقر وذويه فالله أعلم.

وفي رمضان جاء كتاب السلطان أن من قتل لا يجني أحد عليه، بل يتبع القاتل حتى يقتص منه بحكم الشرع الشريف، فقرأه ابن الزملكاني على السدة بحضرة نائب السلطنة ابن تنكز وسببه ابن تيمية، هو أمر بذلك وبالكتاب الأول قبله.

وفي أول رمضان وصل التتر إلى الرحبة فحاصروها عشرين يوما وقاتلهم نائبها الأمير بدر الدين موسى الأزدكشي خمسة أيام قتالا عظيما، ومنعهم منها فأشار رشيد الدولة بأن ينزلوا إلى خدمة السلطان خربندا ويهدوا له هدية ويطلبون منه العفو، فنزل القاضي نجم الدين إسحاق وأهدوا له خمسة رؤوس خيل، وعشرة أباليج سكر، فقبل ذلك ورجع إلى بلاده.

وكانت بلاد حلب وحماه وحمص قد أجلوا منها وخرب أكثرها ثم رجعوا إليها لما تحققوا رجوع التتر عن الرحبة، وطابت الأخبار وسكنت النفوس ودقت البشائر وتركت الأئمة القنوت، وخطب الخطيب يوم العيد وذكر الناس بهذه النعمة.

وكان سبب رجوع التتر قلة العلف وغلاء الأسعار وموت كثير منهم، وأشار على سلطانهم بالرجوع الرشيد وجوبان.

وفي ثامن شوال دقت البشائر بدمشق بسبب خروج السلطان من مصر لأجل ملاقاة التتر، وخرج الركب في نصف شوال وأميرهم حسام الدين لاجين الصغير، الذي كان والي البر وقدمت العساكر المصرية أرسالا، وكان قدوم السلطان ودخوله دمشق ثالث عشرين شوال، واحتفل الناس لدخوله ونزل القلعة وزينت البلد وضربت البشائر، ثم انتقل بعد ليلتئذ إلى القصر، وصلى الجمعة بالجامع بالمقصورة، وخلع على الخطيب.

وجلس في دار العدل يوم الاثنين، وقدم وزيره أمين الملك يوم الثلاثاء عشرين الشهر، وقدم صحبة السلطان الشيخ الإمام العالم العلامة تقي الدين أبو العباس أحمد بن تيمية إلى دمشق يوم الأربعاء مستهل ذي القعدة، وكانت غيبته عنها سبع سنين، ومعه أخواه وجماعة من أصحابه، وخرج خلق كثير لتلقيه وسروا بقدومه وعافيته ورؤيته، واستبشروا به حتى خرج خلق من السناء أيضا لرؤيته.

وقد كان السلطان صحبه معه من مصر فخرج معه بنية الغزاة، فلما تحقق عدم الغزاة وأن التتر رجعوا إلى بلادهم فارق الجيش من غزة وزار القدس وأقام به أياما، ثم سافر على عجلون وبلاد السواد وزرع، ووصل دمشق في أول يوم من ذي القعدة، فدخلها فوجد السلطان قد توجه إلى الحجاز الشريف في أربعين أميرا من خواصه يوم الخميس ثاني ذي القعدة.

ثم إن الشيخ بعد وصوله إلى دمشق واستقراره بها لم يزل ملازما لاشتغال الناس في سائر العلوم، ونشر العلم، وتصنيف الكتب، وإفتاء الناس بالكلام والكتابة المطولة، والاجتهاد في الأحكام الشرعية ففي بعض الأحكام يفتي بما أدى إليه اجتهاده من موافقة أئمة المذاهب الأربعة، وفي بعضها يفتي بخلافهم وبخلاف المشهور في مذاهبهم، وله اختيارات كثيرة مجلدات عديدة أفتى فيها بما أدى إليه اجتهاده، واستدل على ذلك من الكتاب والسنة وأقوال الصحابة والسلف.

فلما سار السلطان إلى الحج فرق العساكر والجيوش بالشام وترك أرغون بدمشق.

وفي يوم الجمعة لبس الشيخ كمال الدين الزملكاني خلعة وكالة بيت المال عوضا عن ابن الشريشي، وحضر بها الشباك وتكلم وزير السلطان في البلد، وطلب أموالا كثيرة وصادر وضرب بالمقارع وأهان جماعة من الرؤساء، منهم ابن فضل الله محيي الدين.

وفيه عين شهاب الدين بن جهبل لتدريس الصلاحية بالمقدس عوضا عن نجم الدين داود الكردي توفي، وقد كان مدرسا بها من نحو ثلاثين سنة، فسافر ابن جهبل إلى القدس بعد عيد الأضحى.

وفيها: مات ملك القفجاق المسمى طغطاي خان، وكان له في الملك ثلاث وعشرون سنة، وكان عمره ثمانيا وثلاثين سنة، وكان شهما شجاعا على دين التتر في عبادة الأصنام والكواكب، يعظم المجسمة والحكماء والأطباء ويكرم المسلمين أكثر من جميع الطوائف. كان جيشه هائلا لا يجسر أحد على قتاله لكثرة جيشه وقوتهم وعددهم وعددهم، ويقال: إنه جرد مرة تجريدة من كل عشرة من جيشه واحدا فبلغت التجريدة مائتي ألف وخمسين ألفا، توفي في رمضان منها وقام في الملك من بعده ابن أخيه أزبك خان، وكان مسلما فأظهر دين الإسلام ببلاده، وقتل خلقا من أمراء الكفرة وعلت الشرائع المحمدية على سائر الشرائع هناك ولله الحمد والمنة على الإسلام والسنة.

من الأعيان:

الملك المنصور صاحب ماردين

وهو نجم الدين أبو الفتح غازي بن الملك المظفر قرارسلان بن الملك السعيد نجم الدين غازي بن الملك المنصور ناصر الدين أرتق بن غازي بن المني بن تمرتاش بن غازي بن أرتق الأرتقي أصحاب ماردين من عدة سنين، كان شيخا حسنا مهيبا كامل الخلقة بدينا سمينا إذا ركب يكون خلفه محفة، خوفا من أن يمسه لغوب فيركب فيها.

توفي في تاسع ربيع الآخر ودفن بمدرسته تحت القلعة، وقد بلغ من العمر فوق السبعين، ومكث في الملك قريبا من عشرين سنة، وقام من بعده في الملك ولده العادل فمكث سبعة عشر يوما، ثم ملك أخوه المنصور.

وفيها مات:

الأمير سيف الدين قطلوبك الشيخي

كان من أمراء دمشق الكبار

الشيخ الصالح

نور الدين أبو الحسن علي بن محمد بن هارون بن محمد بن هارون بن علي بن حميد الثعلبي الدمشقي، قارئ الحديث بالقاهرة ومسندها، روى عن ابن الزبيدي وابن الليثي وجعفر الهمداني وابن الشيرازي وخلق، وقد خرج له الإمام العلامة تقي الدين السبكي مشيخة، وكان رجلا صالحا توفي بكرة الثلاثاء تاسع عشر ربيع الآخر، وكانت جنازته حافلة.

الأمير الكبير الملك المظفر

شهاب الدين غازي بن الملك الناصر داود بن المعظم، سمع الحديث وكان رجلا متواضعا توفي بمصر ثاني عشر رجب، ودفن بالقاهرة.

قاضي القضاة شمس الدين أبو عبد الله محمد

بن إبراهيم بن داود بن خازم الأزرعي الحنفي، كان فاضلا درس وأفتى وولي قضاء الحنفية بدمشق سنة ثم عزل واستمر على تدريس الشبلية مدة ثم سافر إلى مصر فأقام بسعيد السعداء خمسة أيام، وتوفي يوم الأربعاء ثاني عشرين رجب فالله أعلم.

ثم دخلت سنة ثلاث عشرة وسبعمائة

استهلت والحكام هم هم، والسلطان في الحجاز لم يقدم بعد، وقد قدم الأمير سيف الدين تجليس يوم السبت مستهل المحرم من الحجاز وأخبر بسلامة السلطان وأنه فارقه من المدينة النبوية، أنه قد قارب البلاد، فدقت البشائر فرحا بسلامته، ثم جاء البريد فأخبر بدخوله إلى الكرك ثاني المحرم يوم الأحد، فلما كان يوم الثلاثاء حادي عشر المحرم دخل دمشق وقد خرج الناس لتلقيه على العادة، وقد رأيته مرجعه من هذه الحجة على شفته ورقة قد ألصقها عليها.

فنزل بالقصر وصلى الجمعة رابع عشر المحرم بمقصورة الخطابة، وكذلك الجمعة التي تليها ولعب في الميدان بالكرة يوم السبت النصف من المحرم، وولي نظر الدواوين للصاحب شمس الدين غبريال يوم الأحد حادي عشر المحرم وشد الدواوين لفخر الدين إياس الأعسري عوضا عن القرماني. وسافر القرماني إلى نيابة الرحبة وخلع عليهما وعلى وزيره، وخلع على ابن صصرى وعلى الفخر كاتب المماليك، وكان مع السلطان في الحج، وولى شرف الدين بن صصرى حجابة الديوان وباشر فخر الدين ابن شيخ السلامية نظر الجامع، وباشر بهاء الدين بن عليم نظر الأوقاف، والمنكورسي شد الأوقاف.

وتوجه السلطان راجعا إلى الديار المصرية بكرة الخميس السابع والعشرين من المحرم، وتقدمت الجيوش بين يديه ومعه.

وفي أواخر صفر اجتاز على البريد في الرسلية إلى مهنا الشيخ صدر الدين الوكيل وموسى بن مهنا والأمير علاء الدين الطنبغا فاجتمعوا به في تدمر، ثم عاد الطنبغا وابن الوكيل إلى القاهرة.

وفي جمادى الآخرة مسك أمين الملك وجماعة من الكبار معه وصودروا بأموال كثيرة، وأقيم عوضه بدر الدين بن التركماني الذي كان والي الخزانة.

وفي رجب كملت أربعة مناجيق واحد لقلعة دمشق، وثلاثة تحمل إلى الكرك، ورمى باثنين على باب الميدان وحضر نائب السلطنة تنكز والعامة، وفي شعبان تكامل حفر النهر الذي عمله سودي نائب حلب بها.

وكان طوله من نهر الساجور إلى نهر قويق أربعين ألف ذراع في عرض ذراعين وعمق ذراعين، وغرم عليه ثلاثمائة ألف درهم، وعمل بالعدل ولم يظلم فيه أحدا.

وفي يوم السبت ثامن شوال خرج الركب من دمشق وأميره سيف الدين بلباي التتري، وحج صاحب حماه في هذه السنة وخلق من الروم والغرباء.

وفي يوم السبت السادس والعشرين من ذي الحجة وصل القاضي قطب الدين موسى ابن شيخ السلامية من مصر على نظر الجيوش الشامية كما كان قبل ذلك، وراح معين الدين بن الخشيش إلى مصر في رمضان صحبة الصاحب شمس الدين بن غبريال، وبعد وصول ناظر الجيوش بيومين وصلت البشائر بمقتضى إزالة الإقطاعات لما رآه السلطان بعد نظره في ذلك أربعة أشهر.

من الأعيان:

الشيخ الإمام المحدث فخر الدين أبو عمرو عفان بن محمد

بن عثمان بن أبي بكر بن محمد بن داود التوزي بمكة يوم الأحد حادي ربيع الآخر، وقد سمع الكثير، وأجازه خلق يزيدون على ألف شيخ، وقرأ الكتب الكبار وغيرها، وقرأ صحيح البخاري أكثر من ثلاثين مرة رحمه الله.

عز الدين محمد بن العدل

شهاب الدين أحمد بن عمر بن إلياس الرهاوي، كان يباشر استيفاء الأوقاف وغير ذلك، وكان من أخصاء أمين الملك، فلما مسك بمصر أرسل إلى هذا وهو معتقل بالعذراوية ليحضر على البريد فمرض فمات بالمدرسة العذراوية ليلة الخميس التاسع عشر من جمادى الآخرة، وله من العمر خمس وثلاثون سنة، وكان قد سمع من ابن طبرزد الكندي، ودفن من الغد بباب الصغير، وترك من بعده ولدين ذكرين جمال الدين محمد، وعز الدين.

الشيخ الكبير المقرئ

شمس الدين المقصاي، هو أبو بكر بن عمر بن السبع الجزري المعروف بالمقصاي نائب الخطيب وكان يقرئ الناس بالقراءات السبع وغيرها من الشواذ، وله إلمام بالنحو، وفيه ورع واجتهاد، توفي ليلة السبت حادي عشرين جمادى الآخرة، ودفن من الغد بسفح قاسيون تجاه الرباط الناصري، وقد جاوز الثمانين رحمه الله.

ثم دخلت سنة أربع عشرة وسبعمائة

استهلت والحكام هم هم في التي قبلها إلا الوزير أمين الملك فمكانه بدر الدين التركماني وفي رابع المحرم عاد الصاحب شمس الدين غبريال من مصر على نظر الدواوين وتلقاه أصحابه.

وفي عاشر المحرم يوم الجمعة قرئ كتاب السلطان على السدة بحضرة نائب السلطنة والقضاة والأمراء يتضمن بإطلاق البواقي من سنة ثمان وتسعين وستمائة إلى آخر سنة ثلاث عشرة وسبعمائة، فتضاعفت الأدعية للسلطان، وكان القارئ جمال الدين بن القلانسي ومبلغه صدر الدين بن صبح المؤذن.

ثم قرئ في الجمعة الأخرى مرسوم آخر فيه الإفراج عن المسجونين، وأن لا يؤخذ من كل واحد إلا نصف درهم، ومرسوم آخر فيه إطلاق السخر في الغصب وغيره عن الفلاحين، قرأه ابن الزملكاني وبلغه عنه أمين الدين محمد بن مؤذن النجيبي.

وفي المحرم استحضر السلطان إلى بين يديه الفقيه نور الدين علي البكري وهمّ بقتله شفع فيه الأمراء فنفاه ومنعه من الكلام في الفتوى والعلم، وكان قد هرب لما طلب من جهة الشيخ تقي الدين بن تيمية فهرب واختفى، وشفع فيه أيضا، ثم لما ظفر به السلطان الآن وأراد قتله شفع فيه الأمراء فنفاه ومنعه من الكلام والفتوى، وذلك لاجترائه وتسرعه على التكفير والقتل والجهل الحامل له على هذا وغيره.

وفي يوم الجمعة مستهل صفر قرأ ابن الزملكاني كتابا سلطانيا على السدة بحضرة نائب السلطان القاضي وفيه الأمر بإبطال ضمان القواسير وضمان النبيذ وغير ذلك، فدعا الناس للسلطان.

وفي أواخر ربيع الأول اجتمع القضاة بالجامع للنظر في أمر الشهود ونهوهم عن الجلوس في المساجد، وأن لا يكون أحد منهم في مركزين، وأن لا يتولوا ثبات الكتب ولا يأخذوا أجرا على أداء الشهادة، وأن لا يغتابوا أحدا وأن يتناصفوا في المعيشة، ثم جلسوا مرة ثانية لذلك وتواعدوا ثالثة فلم يتفق اجتماعهم، ولم يقطع أحد من مركزه.

وفي يوم الأربعاء الخامس والعشرين منه عقد مجلس في دار ابن صصرى لبدر الدين بن بضيان وأنكر عليه شيء من القراءات فالتزم بترك الإقراء بالكلية ثم استأذن بعد أيام في الإقراء فأذن له فجلس بين الظهر والعصر بالجامع وصارت له حلقة على العادة.

وفي منتصف رجب توفي نائب حلب الأمير سيف الدين سودي ودفن بتربته وولي مكانه علاء الدين الطنبغا الصالحي الحاجب بمصر، قبل هذه النيابة.

وفي تاسع شعبان خلع على الشريف شرف الدين عدنان بنقابة الأشراف بعد والده أمين الدين جعفر توفي في الشهر الماضي.

وفي خامس شوال دفن الملك شمس الدين دوباج بن ملكشاه بن رستم صاحب كيلان بتربته المشهورة بسفح قاسيون، وكان قد قصد الحج في هذا العام، فلما كان بغباغب أدركته منيته يوم السبت سادس عشرين رمضان فحمل إلى دمشق وصلي عليه ودفن في هذه التربة، اشتريت له وتممت وجاءت حسنة وهي مشهورة عند المكارية شرقي الجامع المظفري، وكان له في مملكة كيلان خمسة وعشرين سنة، وعمر أربعا وخسمين سنة. وأوصى أن يحج عنه جماعة ففعل ذلك وخرج الركب في ثالث شوال وأميره سيف الدين سنقر الإبراهيمي، وقاضيه محيي الدين قاضي الزبداني.

وفي يوم الخميس سابع ذي القعدة قدم القاضي بدر الدين بن الحداد من القاهرة متوليا حسبة دمشق فخلع عليه عوضا عن فخر الدين سليمان البصراوي، عزل فسافر سريعا إلى البرية ليشتري خيلا للسلطان يقدمها رشوة على المنصب المذكور، فاتفق موته في البرية في سابع عشر الشهر المذكور، وحمل إلى بصرى فدفن بها عند أجداده في ثامن ذي القعدة، وكان شابا حسنا كريم الأخلاق حسن الشكل.

وفي أواخره مسك نائب صفد بلبان طوباي المنصوري وسجن وتولى مكانه سيف الدين بلباي البدري.

وفي سادس ذي الحجة تولي ولاية البر الأمير علاء الدين علي بن محمود بن معبد البعلبكي، عوضا عن شرف الدين عيسى بن البركاسي، وفي يوم عيد الأضحى وصل الأمير علاء الدين بن صبح من مصر وقد أفرج عنه فسلم عليه الأمراء.

وفي هذا الشهر أعيد أمين الملك إلى نظر النظار بمصر وخلع على الصاحب بهاء الدين النسائي بنظر الخزانة عوضا عن سعد الدين حسن بن الأقفاصي.

وفيه: وردت البريدية بأمر السلطان للجيوش الشامية بالمسير إلى حلب وأن يكون مقدم العساكر كلها تنكز نائب الشام، وقدم من مصر ستة آلاف مقاتل عليهم الأمير سيف الدين بكتمر الأبوبكري، وفيهم تجليس وبدر الدين الوزيري، وكتشلي وابن طيبرس وشاطي وابن سلار وغيرهم، فتقدموا إلى البلاد الحلبية بين يدي نائب الشام تنكز.

وممن توفي فيها من الأعيان:

سودي نائب حلب في رجب

ودفن بتربته، وهو الذي كان السبب في إجراء نهر إليها، غرم عليه ثلاثمائة ألف درهم، وكان مشكور السيرة حميد الطريقة رحمه الله.

وفي شعبان توفي:

الصاحب شرف الدين

يعقوب بن مزهر وكان بارا بأهله وقرابته رحمه الله.

والشيخ رشيد أبو الفداء إسماعيل

أبو محمد القرشي الحنفي المعروف بابن المعلم، كان من أعلام الفقهاء والمفتيين، ولديه علوم شتى وفوائد وفرائد، وعنده زهد وانقطاع عن الناس، وقد درّس بالبلخية مدة ثم تركها لولده وسار إلى مصر فأقام بها، وعرض عليه قضاء دمشق فلم يقبل، وقد جاوز السبعين من العمر، توفي سحر يوم الأربعاء خامس رجب ودفن بالقرافة رحمه الله تعالى.

وفي شوال توفي:

الشيخ سليمان التركماني

الموله الذي كان يجلس على مصطبته بالعلبيين، وكان قبل ذلك مقيما بطهارة باب البريد، وكان لا يتحاشى من النجاسات ولا يتقيها، ولا يصلي الصلوات ولا يأتيها، وكان بعض الناس من الهمج له فيه عقيدة قاعدة الهمج الرعاع الذين هم أتباع كل ناعق من المولهين والمجانين، ويزعمون أنه يكاشف وأنه رجل صالح، ودفن بباب الصغير في يوم كثير الثلج.

وفي يوم عرفة توفيت: الشيخة الصالحة العابدة الناسكة

أم زينب فاطمة بنت عباس بن أبي الفتح بن محمد البغدادية

بظاهر القاهرة، وشهدها خلق كثير، وكانت من العالمات الفاضلات، تأمر بالمعروف وتنهي عن المنكر، وتقوم على الأحمدية في مواخاتهم النساء والمردان، وتنكر أحوالهم وأصول أهل البدع وغيرهم، وتفعل من ذلك ما لا تقدر عليه الرجال.

وقد كانت تحضر مجلس الشيخ تقي الدين بن تيمية فاستفادت منه ذلك وغيره، وقد سمعتُ الشيخ تقي الدين يثني عليها ويصفها بالفضيلة والعلم، ويذكر عنها أنها كانت تستحضر كثيرا من المغني أو أكثره، وأنه كان يستعد لها من كثرة مسائلها وحسن سؤالاتها وسرعة فهمها، وهي التي ختّمت نساءً كثيرا القرآن.

منهن أم زوجتي عائشة بنت صديق، زوجة الشيخ جمال الدين المزي، وهي التي أقرأت ابنتها زوجتي أمة الرحيم زينب رحمهن الله وأكرمهن برحمته وجنته، آمين.

ثم دخلت سنة خمس عشرة وسبعمائة

استهلت والحكام في البلاد هم المذكورون في التي قبلها.

فتح ملطية

في يوم الاثنين مستهل المحرم خرج سيف الدين تنكز في الجيوش قاصدا ملطية وخرجت الأطلاب على راياتها وأبرزوا ما عندهم من العدد وآلات الحرب، وكان يوما مشهودا، وخرج مع الجيش ابن صصرى لأنه قاضي العساكر وقاضي قضاة الشامية، فساروا حتى دخلوا حلب في الحادي عشر من الشهر. ومنها وصلوا في السادس عشر إلى بلاد الروم إلى ملطية، فشرعوا في محاصرتها في الحادي والعشرين من المحرم، وقد حصنت ومنعت وغلقت أبوابها، فلما رأوا كثرة الجيش نزل متوليها وقاضيها وطلبوا الأمان فأمنوا المسلمين ودخلوها، فقتلوا من الأرمن خلقا ومن النصارى وأسروا ذرية كثيرة، وتعدى ذلك إلى بعض المسلمين وغنموا شيئا كثيرا. وأخذت أموال كثير من المسلمين ورجعوا عنها بعد ثلاثة أيام يوم الأربعاء رابع عشرين المحرم إلى عين تاب إلى مرج دابق، وزينت دمشق ودقت البشائر.

وفي أول صفر رحل نائب ملطية متوجها إلى السلطان.

وفي نصف الشهر وصل قاضيها الشريف شمس الدين ومعه خلق من المسلمين من أهلها، وفي بكرة نهار الجمعة سادس عشر ربيع الأول دخل تنكز دمشق وفي خدمته الجيوش الشامية والمصرية، وخرج الناس للفرجة عليهم على العادة، وأقام المصريون قليلا، ثم ترحلوا إلى القاهرة.

وقد كانت ملطية إقطاعا للجوبان أطلقها له ملك التتر فاستناب بها رجلا كرديا فتعدى وأساء وظلم، وكاتب أهلها السلطان الناصر وأحبوا أن يكونوا من رعيته، فلما ساروا إليها وأخذوها وفعلوا ما فعلوا فيها جاءها بعد ذلك الجوبان فعمرها ورد إليها خلقا من الأرمن وغيرهم.

وفي التاسع عشر من هذا الشهر وصل إلينا الخبر بمسك بكتمر الحاجب وأيد غدي شقير وغيرهما، وكان ذلك يوم الخميس مستهل هذا الشهر، وذلك أنهم اتفقوا على السلطان فبلغه الخبر فمسكهم واحتيط على أموالهم وحواصلهم.

وظهر لبكتمر أموال كثيرة وأمتعة وأخشاب وحواصل كثيرة وقدم مجليس من القاهرة فاجتاز بدمشق إلى ناحية طرابلس، ثم قدم سريعا ومعه الأمير سيف الدين تمير نائب طرابلس تحت الحوطة، ومسك بدمشق الأمير سيف الدين بهادراص المنصوري فحمل الأول إلى القاهرة، وجعل مكانه في نيابة طرابلس كسناي، وحمل الثاني وحزن الناس عليه ودعوا له.

وفي يوم الخميس الحادي والعشرين من ربيع الآخر قدم عز الدين بن مبشر دمشق محتسبا وناظر الأوقاف وانصرف ابن الحداد عن الحسبة، وبهاء الدين عن نظر الأوقاف.

وفي ليلة الاثنين ثالث عشر جمادى الأولى وقع حريق قبالة مسجد الشنباشي داخل باب الصغير، احترق فيه دكاكين ودور وأموال وأمتعة.

وفي يوم الأربعاء سادس عشر جمادى الآخرة درّس قاضي ملطية الشريف شمس الدين بالمدرسة الخاتونية البرانية، عوضا عن قاضي القضاة الحنفي البصروي، وحضر عنده الأعيان، وهو رجل له فضيلة وخلق حسن، كان قاضيا بملطية وخطيبا بها نحوا من عشرين سنة.

وفي يوم الخميس رابع جمادى الآخرة أعيد ابن الحداد إلى الحبسة واستمر ابن مبشر ناظر الأوقاف.

وفي يوم الأربعاء تاسع جمادى الآخرة درس ابن صصرى بالأتابكية عوضا عن الشيخ صفي الدين الهندي.

وفي يوم الأربعاء الآخر حضر ابن الزمكاني درس الظاهرية الجوانية عوضا عن الهندي أيضا بحكم وفاته كما ستأتي ترجمته.

وفي أواخر رجب أخرج الأمير آقوش نائب الكرك من سجن القاهرة وأعيد إلى الإمرة.

وفي شعبان توجه خمسة آلاف من بلاد حلب فأغاروا على بلاد آمد، وفتحوا بلدانا كثيرة، وقتلوا وسبوا وعادوا سالمين، وخمسوا ما سبوا فبلغ سهم الخمس أربعة آلاف رأس وكسور.

وفي أواخر رمضان وصل قراسنقر المنصوري إلى بغداد ومعه زوجته الخاتون بنت أبغا ملك التتر، وجاء في خدمته خربندا واستأذنه في الغارة على أطراف بلاد المسلمين فلم يأذن له، ووثب عليه رجل فداوي من جهة صاحب مصر فلم يقدر عليه وقتل الفداوي.

وفي يوم الأربعاء سادس عشر رمضان درّس بالعادلية الصغيرة الفقيه الإمام فخر الدين محمد بن علي المصري المعروف بابن كاتب قطلوبك، بمقتضى نزول مدرسها كمال الدين بن الزملكاني له عنها، وحضر عنده القضاة والأعيان والخطيب وابن الزملكاني أيضا.

وفي هذا الشهر كملت عمارة القيسارية المعروفة بالدهشة عند الوراقين واللبادين وسكنها التجار، فتميزت بذلك أوقاف الجامع، وذلك بمباشرة الصاحب شمس الدين.

وفي ثامن شوال قتل أحمد الزوسي شهد عليه بالعظائم من ترك الواجبات واستحلال المحرمات واستهانته وتنقيصه بالكتاب والسنة، فحكم المالكي بإراقة دمه وإن أسلم، فاعتقل ثم قتل.

وفي هذا اليوم كان خروج الركب الشامي وأميره سيف الدين طقتمر وقاضيه قاضي ملطية.

وحج فيه قاضي حماه وحلب وماردين ومحيي الدين كاتب ملك الأمراء تنكز وصهره فخر الدين المصري.

من الأعيان:

شرف الدين أبو عبد الله

محمد بن العدل عماد الدين محمد بن أبي الفضل محمد بن أبي الفتح نصر الله بن المظفر بن أسعد بن حمزة بن أسد بن علي بن محمد التميمي الدمشقي ابن القلانسي، ولد سنة ست وأربعين وستمائة، وباشر نظر الخاص.

وقد شهد قبل ذلك في القيمة ثم تركها، وقد ترك أولادا وأموالا جمة، توفي ليلة السبت ثاني عشر صفر ودفن بقاسيون.

الشيخ صفي الدين الهندي

أبو عبد الله محمد بن عبد الرحيم بن محمد الأرموي الشافعي المتكلم، ولد بالهند سنة أربع وأربعين وستمائة، واشتغل على جده لأمه، وكان فاضلا، وخرج من دهلي في رجب سنة سبع وستين فحج وجاور بمكة أشهرا، ثم دخل اليمن فأعطاه ملكها المظفر أربعمائة دينار. ثم دخل مصر فأقام بها أربع سنين، ثم سافر إلى الروم على طريق إنطاكية فأقام إحدى عشرة سنة بقونية وبسيواس خمسا وبقيسارية سنة، واجتمع بالقاضي سراج الدين فأكرمه، ثم قدم إلى دمشق في سنة خمس وثمانين فأقام بها واستوطنها ودرّس بالرواحية والدولعية والظاهرية والأتابكية وصنف في الأصول والكلام، وتصدى للاشتغال والإفتاء.

ووقف كتبه بدار الحديث الأشرفية، وكان فيه بر وصلة، توفي ليلة الثلاثاء تاسع عشرين صفر ودفن بمقابر الصوفية، ولم يكن معه وقت موته سوى الظاهرية وبها مات، فدرّس بعده فيها ابن الزملكاني، وأخذ ابن صصرى الأتابكية.

القاضي المسند المعمر الرحلة

تقي الدين سليمان بن حمزة

بن أحمد بن عمر بن الشيخ أبي عمر المقدسي الحنبلي الحاكم بدمشق، ولد في نصف رجب سنة ثمان وعشرين وستمائة، وسمع الحديث الكثير وقرأ بنفسه وتفقه وبرع، وولي الحكم وحدث، وكان من خيار الناس وأحسنهم خلقا وأكثرهم مروءة.

توفي فجأة بعد مرجعه من البلد وحكمه بالجوزية، فلما صار إلى منزله بالدير تغيرت حاله ومات عقيب صلاة المغرب ليلة الاثنين حادي عشرين ذي القعدة، ودفن من الغد بتربة جده، وحضر جنازته خلق كثير وجم غفير رحمه الله.

الشيخ علي بن الشيخ علي الحريري

كان مقدما في طائفته، مات أبوه وعمره سنتان، توفي في قرية نسر في جمادى الأولى.

الحكيم الفاضل البارع بهاء الدين عبد السيد بن المهذب

إسحاق بن يحيى الطبيب الكحال المتشرف بالإسلام، ثم قرأ القرآن جميعه لأنه أسلم على بصيرة، وأسلم على يديه خلق كثير من قومه وغيرهم، وكان مباركا على نفسه وعليهم، وكان قبل ذلك ديان اليهود، فهداه الله تعالى، وتوفي يوم الأحد سادس جمادى الآخرة ودفن من يومه بسفح قاسيون، أسلم على يدي شيخ الإسلام ابن تيمية لما بين له بطلان دينهم وما هم عليه وما بدلوه من كتابهم وحرفوه من الكلم عن مواضعه رحمه الله.

ثم دخلت سنة ست عشرة وسبعمائة

استهلت وحكام البلاد هم المذكورون في التي قبلها غير الحنبلي بدمشق فإنه توفي في السنة الماضية.

وفي المحرم تكملت تفرقة المثالات السلطانية بمصر بمقتضى إزالة الأجناد، وعرض الجيش على السلطان، وأبطل، السلطان المكس بسائر البلاد القبلية والشامية.

وفيه: وقعت فتنة بين الحنابلة والشافعية بسبب العقائد، وترافعوا إلى دمشق فحضروا بدار السعادة عند نائب السلطنة تنكز فأصلح بينهم، وانفصل الحال على خير من غير محاققة ولا تشويش على أحد من الفريقين، وذلك يوم الثلاثاء سادس عشر المحرم.

وفي يوم الأحد سادس عشر صفر قرئ تقليد قاضي القضاة شمس الدين أبو عبد الله محمد بن مسلم بن مالك بن مزروع الحنبلي، بقضاء الحنابلة والنظر بأوقافهم عوضا عن تقي الدين سليمان بحكم وفاته رحمه الله، وتاريخ التقليد من سادس ذي الحجة، وقرئ بالجامع الأموي بحضور القضاة والصاحب والأعيان، ثم مشوا معه وعليه الخلعة إلى دار السعادة فسلم على النائب وراح إلى الصالحية، ثم نزل من الغد إلى الجوزية فحكم بها على عادة من تقدمه، واستناب بعد أيام الشيخ شرف الدين بن الحافظ.

وفي يوم الاثنين سابع صفر وصل الشيخ كمال الدين بن الشريشي من مصر على البريد ومعه توقيع بعود الوكالة إليه، فخلع عليه وسلم على النائب والخلعة عليه.

وفي هذا الشهر مسك الوزير عز الدين بن القلانسي واعتقل بالعذراوية وصودر بخمسين ألفا ثم أطلق له ما كان أخذ منه وانفصل من ديوان نظر الخاص.

وفي ربيع الآخر وصل من مصر فضل بن عيسى وأجري له ولابن أخيه موسى بن مهنا إقطاعات صيدا، وذلك بسبب دخول منها إلى بلاد التتر واجتماعهم بملكهم خربندا.

وفي يوم الاثنين سادس عشر جمادى الأولى باشر ابن صصرى مشيخة الشيوخ بالسميساطية بسؤال الصوفية وطلبهم له من نائب السلطنة، فحضرها وحضر عنده الأعيان في هذا اليوم عوضا عن الشريف شهاب الدين أبي القاسم محمد بن عبد الرحمن بن عبد الله بن عبد الرحيم بن عبد الكريم بن محمد بن علي بن الحسن بن الحسين بن يحيى بن موسى بن جعفر الصادق، وهو الكاشنغر، توفي عن ثلاث وستين سنة ودفن بالصوفية.

وفي جمادى الآخرة باشر بهاء الدين إبراهيم بن جمال الدين يحيى الحنفي المعروف بابن علية وهو ناظر ديوان النائب بالشام نظر الدواوين عوضا عن شمس الدين محمد بن عبد القادر الخطيري الحاسب الكاسب توفي، وقد كان مباشرا عدة من الجهات الكبار، مثل نظر الخزانة ونظر الجامع ونظر المارستان وغير ذلك، واستمر نظر المارستان من يومئذ بأيدي ديوان نائب السلطنة من كان، وصارت عادة مستمرة.

وفي رجب نقل صاحب حمص الأمير شهاب الدين قرطاي إلى نيابة طرابلس عوضا عن الأمير سيف الدين التركستاني بحكم وفاته، وولي الأمير سيف الدين إرقطاي نيابة حمص، وتولى نيابة الكرك سيف الدين طقطاي الناصري عوضا عن سيف الدين تيبغا.

وفي يوم الأربعاء عاشر رجب درس بالنجيبية القاضي شمس الدين الدمشقي عوضا عن بهاء الدين يوسف بن جمال الدين أحمد بن الظاهري العجمي الحلبي، سبط الصاحب كمال الدين بن العديم، توفي ودفن عند خاله ووالده بتربة العديم.

وفي آواخر شعبان وصل القاضي شمس الدين بن عز الدين يحيى الحراني أخو قاضي قضاة الحنابلة بمصر شرف الدين عبد الغني، إلى دمشق متوليا نظر الأوقاف بها عوضا عن الصاحب عز الدين أحمد بن محمد بن أحمد بن مبشر، توفي في مستهل رجب بدمشق، وقد باشر نظر الدواوين بها وبمصر، والحسبة وبالإسكندرية وغير ذلك، ولم يكن بقي معه في آخر وقت سوى نظر الأوقاف بدمشق، وقد قارب الثمانين ودفن بقاسيون.

وفي آخر شوال خرج الركب الشامي وأميرهم سيف الدين أرغون السلحدار الناصري الساكن عند دار الطراز بدمشق، وحج من مصر سيف الدين الدوادار وقاضي القضاة ابن جماعة، وقد زار القدس الشريف في هذه السنة بعد وفاة ولده الخطيب جمال الدين عبد الله، وكان قد رأس وعظم شأنه.

وفي ذي القعدة سار الأمير سيف الدين تنكز إلى زيارة القدس فغاب عشرين يوما.

وفيه: وصل الأمير سيف الدين بكتمر الحاجب إلى دمشق من مصر وقد كان معتقلا في السجن فأطلق وأكرم وولي نيابة صفد فسار إليها بعد ما قضى أشغاله بدمشق، ونقل القاضي حسام الدين القزويني من قضاء صفد إلى قضاء طرابلس، وأعيدت ولاية قضاء صفد إلى قاضي دمشق فولى فيها ابن صصرى شرف الدين الهاوندي، وكان متوليا طرابلس قبل ذلك.

ووصل مع بكتمر الحاجب الطواشي ظهير الدين مختار المعروف بالزرعي، متوليا الخزانة بالقلعة عوضا عن الطواشي ظهير الدين مختار البلستين توفي.

وفي هذا الشهر أعني ذا القعدة وصلت الأخبار بموت ملك التتر خربندا محمد بن أرغون بن أبغا بن هولاكو قان ملك العراق وخراسان وعراق العجم والروم وأذربيجان والبلاد الأرمينية وديار بكر. توفي في السابع والعشرين من رمضان ودفن بتربته بالمدنية التي، أنشأها التي يقال لها السلطانية، وقد جاوز الثلاثين من العمر وكان موصوفا بالكرم ومحبا للهو واللعب والعمائر، وأظهر الرفض. أقام سَنة على السنة ثم تحول إلى الرفض أقام شعائره في بلاده وحظي عنده الشيخ جمال الدين بن مطهر الحلي، تلميذ نصير الدين الطوسي، وأقطعه عدة بلاد، ولم يزل على هذا المذهب الفاسد إلى أن مات في هذه السنة، وقد جرت في أيامه فتن كبار ومصائب عظام، فأراح الله منه العباد والبلاد.

وقام في الملك بعده ولده أبو سعيد وله إحدى عشرة سنة، ومدبر الجيوش والممالك له الأمير جوبان، واستمر في الوزارة على شاه التبريزي، وأخذ أهل دولته بالمصادرة وقتل الأعيان ممن اتهمهم بقتل أبيه مسموما، ولعب كثير من الناس به في أول دولته ثم عدل إلى العدل وإقامة السنة، فأمر بإقامة الخطبة بالترضي عن الشيخين أولا ثم عثمان ثم علي رضي الله عنهم. ففرح الناس بذلك وسكنت بذلك الفتن والشرور والقتال الذي كان بين أهل تلك البلاد وبهراة وأصبهان وبغداد وإربل وساوه وغير ذلك، وكان صاحب مكة الأمير خميصة بن أبي نمي الحسني، قد قصد ملك التتر خربندا لينصره على أهل مكة فساعده الروافض هناك وجهزوا معه جيشا كثيفا من خراسان، فلما مات خربندا بطل ذلك بالكلية، وعاد خميصة خائبا خاسئا. وفي صحبته أمير من كبار الروافض من التتر يقال له الدلقندي، وقد جمع لخميصة أموالا كثيرة ليقيم بها الرفض في بلاد الحجاز، فوقع بهما الأمير محمد بن عيسى أخو مهنا، وقد كان في بلاد التتر أيضا ومعه جماعة من العرب، فقهرهما ومن كان معهما، ونهب ما كان معهما من الأموال وحضرت الرجال.

وبلغت أخبار ذلك إلى الدولة الإسلامية فرضي عنه الملك الناصر وأهل دولته، وغسل ذلك ذنبه عنده، فاستدعى به السلطان إلى حضرته فحضر سامعا مطيعا فأكرمه نائب الشام، فلما وصل إلى السلطان أكرمه أيضا، ثم إنه استفتى الشيخ تقي الدين بن تيمية، وكذلك أرسل إليه السلطان يسأله عن الأموال التي أخذت من الدلقندي، فأفتاهم أنها تصرف في المصالح التي يعود نفعها على المسلمين، لأنها كانت معدة لعناد الحق ونصرة أهل البدعة على السنة.

من الأعيان:

عز الدين المبشر، والشهاب الكاشنغيري شيخ الشيوخ والبهاء العجمي مدرس النجيبية.

وفيها: قتل خطيب المزة قتله رجل جبلي ضربه بفأس اللحام في رأسه في السوق فبقي أياما ومات، وأخذ القاتل فشنق في السوق الذي قتل فيه، وذلك يوم الأحد ثالث عشر ربيع الآخر ودفن هناك وقد جاوز الستين.

الشرف صالح بن محمد بن عربشاه

ابن أبي بكر الهمداني، مات في جمادى الآخرة ودفن بمقابر النيرب، وكان مشهورا بطيب القراءة وحسن السيرة، وقد سمع الحديث وروى جزءا.

ابن عرفة صاحب التذكرة الكندية

الشيخ الإمام المقرئ المحدث النحوي الأديب علاء الدين علي بن المظفر بن إبراهيم بن عمر بن زيد بن هبة الله الكندي الإسكندراني، ثم الدمشقي، سمع الحديث على أزيد من مائتي شيخ وقرأ القراءات السبع، وحصل علوما جيدة، ونظم الشعر الحسن الرائق الفائق، وجمع كتابا في نحو من خمسين مجلدا، فيه علوم جمة أكثرها أدبيات سماها التذكرة الكندية. وقفها بالسميساطية وكتب حسنا وحسب جيدا وخدم في عدة خدم، وولي مشيخة دار الحديث النفيسية في مدة عشر سنين وقرأ صحيح البخاري مرات عديدة، وأسمع الحديث، وكان يلوذ بشيخ الإسلام ابن تيمية، وتوفي ببستان عند قبة المسجد ليلة الأربعاء سابع عشر رجب، ودفن بالمزة عن ست وسبعين سنة.

الطواشي ظهير الدين مختار

البكنسي الخزندار بالقلعة وأحد أمراء الطبلخانات بدمشق، كان زكيا خبيرا فاضلا، يحفظ القرآن ويؤديه بصوت طيب، ووقف مكتبا للأيتام على باب قلعة دمشق، ورتب لهم الكسوة و الجامكية، وكان يمتحنهم بنفسه ويفرح بهم، وعمل تربة خارج باب الجابية ووقف عليها القريتين وبنى عندها مسجدا حسنا ووقفه بإمام وهي من أوائل ما عمل من الترب بذلك الخط، ودفن بها في يوم الخميس عاشر شعبان رحمه الله، وكان حسن الشكل والأخلاق، عليه سكينة ووقار وهيبة وله وجاهة في الدولة سامحه الله.

وولي بعده الخزانة سميه ظهير الدين مختار الزرعي.

الأمير بدر الدين

محمد بن الوزيري، كان من الأمراء المقدمين، ولديه فضيلة ومعرفة وخبرة، وقد ناب عن السلطان بدار العدل مرة بمصر، وكان حاجب الميسرة، وتكلم في الأوقاف وفيما يتعلق بالقضاة والمدرسين، ثم نقل إلى دمشق فمات بها في سادس عشر شعبان، ودفن بميدان الحصى فوق خان النجيبي، وخلف تركة عظيمة.

الشيخة الصالحة ست الوزراء

بنت عمر بن أسعد بن المنجا

راوية صحيح البخاري وغيره، جاوزت التسعين سنة، وكانت من الصالحات، توفيت ليلة الخميس ثامن عشر شعبان ودفنت بتربتهم فوق جامع المظفري بقاسيون.

القاضي محب الدين

أبو الحسن ابن قاضي القضاة تقي الدين بن دقيق العيد، استنابه أبوه في أيامه وزوجه بابنة الحاكم بأمر الله، ودرّس بالكهارية ورأس بعد أبيه، وكانت وفاته يوم الاثنين تاسع عشر رمضان، وقد قارب الستين، ودفن عند أبيه بالقرافة.

الشيخة الصالحة ست المنعم بنت عبد الرحمن

بن علي بن عبدوس الحرانية، والدة الشيخ تقي الدين بن تيمية، عمرت فوق السبعين سنة، ولم ترزق بنتا قط، توفيت يوم الأربعاء العشرين من شوال ودفنت بالصوفية وحضر جنازتها خلق كثير وجم غفير رحمها الله.

الشيخ نجم الدين موسى بن علي بن محمد

الجيلي ثم الدمشقي، الكاتب الفاضل المعروف بابن البصيص، شيخ صناعة الكتابة في زمانه لا سيما في المزوج والمثلث.

وقد أقام يكتب الناس خمسين سنة، وأنا ممن كتب عليه أثابه الله.

وكان شيخا حسنا بهي المنظر يشعر جيدا، توفي يوم الثلاثاء عاشر ذي القعدة ودفن بمقابر الباب الصغير وله خمس وستون سنة.

الشيخ تقي الدين الموصلي

أبو بكر بن أبي الكرم شيخ القراءة عند محراب الصحابة، وشيخ ميعاد بن عامر مدة طويلة، وقد انتفع الناس به نحوا من خمسين سنة في التلقين والقراءات، وختم خلقا كثيرا، وكان يقصد لذلك ويجمع تصديقات يقولها الصبيان ليالي ختمهم، وقد سمع الحديث وكان خيّرا دينا، توفي ليلة الثلاثاء سابع عشر ذي القعدة، ودفن بباب الصغير رحمه الله.


الشيخ الصالح الزاهد المقري

أبو عبد الله محمد بن الخطيب سلامة بن سالم بن الحسن بن ينبوب الماليني

أحد الصلحاء المشهورين بجامع دمشق، سمع الحديث وأقرأ الناس نحوا من خمسين سنة، وكان يفصح الأولاد في الحروف الصعبة، وكان مبتلى في فمه يحمل طاسة تحت فمه من كثرة ما يسيل منه من الريال وغيره وقد جاوز الثمانين بأربع سنين.

توفي بالمدرسة الصارمية يوم الأحد ثاني عشر ذي القعدة، ودفن بباب الصغير بالقرب من القندلاوي، وحضر جنازته خلق كثير جدا نحوا من عشرة آلاف رحمه الله تعالى.

الشيخ الصدر ابن الوكيل

هو العلامة أبو عبد الله محمد بن الشيخ الإمام مفتي المسلمين زين الدين عمر بن مكي بن عبد الصمد المعروف بابن المرحل وبابن الوكيل شيخ الشافعية في زمانه، وأشهرهم في وقته بالفضيلة وكثرة الاشتغال والمطالعة والتحصيل والافتنان بالعلوم العديدة.

وقد أجاد معرفة المذهب والأصلين، ولم يكن بالنحو بذاك القوي، وكان يقع منه اللحن الكثير، مع أنه قرأ منه المفصل للزمخشري، وكانت له محفوظات كثيرة، ولد في شوال سنة خمس وستين وستمائة، وسمع الحديث على المشايخ، من ذلك مسند أحمد على ابن علان، والكتب الستة، وقرئ عليه قطعة كبيرة من صحيح مسلم بدار الحديث عن الأمير الأربلي والعامري والمزي.

وكان يتكلم على الحديث بكلام مجموع من علوم كثيرة، من الطب والفلسفة وعلم الكلام، وليس ذلك بعلم، وعلوم الأوائل، وكان يكثر من ذلك، وكان يقول الشعر جيدا، وله ديوان مجموع مشتمل على أشياء لطيفة، وكان له أصحاب يحسدونه ويحبونه، وآخرون يحسدونه ويبغضونه، وكانوا يتكلمون فيه بأشياء ويرمونه بالعظائم.

وقد كان مسرفا على نفسه قد ألقى جلباب الحياء فيما يتعاطاه من القاذورات والفواحش، وكان ينصب العداوة للشيخ ابن تيمية ويناظره في كثير من المحافل والمجالس، وكان يعترف للشيخ تقي الدين بالعلوم الباهرة ويثني عليه، ولكنه كان يجاحف عن مذهبه وناحيته وهواه، وينافح عن طائفته.

وقد كان شيخ الإسلام ابن تيمية يثني عليه وعلى علومه وفضائله ويشهد له بالإسلام إذا قيل له عن أفعاله وأعماله القبيحة، وكان يقول: كان مخلطا على نفسه متبعا مراد الشيطان منه، يميل إلى الشهوة والمحاضرة، ولم يكن كما يقول فيه بعض أصحابه ممن يحسده ويتكلم فيه؛ هذا أو ما هو في معناه.

وقد درّس بعدة مدارس بمصر والشام، ودرس بدمشق بالشاميتين والعذراوية ودار الحديث الأشرفية، وولي في وقت الخطابة أياما يسيرة كما تقدم، ثم قام الخلق عليه وأخرجوها من يده، ولم يرق منبرها، ثم خالط نائب السلطنة الأفرم فجرت له أمور لا يمكن ذكرها ولا يحسبن من القبائح ثم آل به الحال على أن عزم على الانتقال من دمشق إلى حلب لاستحوازه على قلب نائبها، فأقام بها ودرّس. ثم تردد في الرسلية بين السلطان ومهنا صحبة أرغون والطنبغا، ثم استقر به المنزل بمصر ودرّس فيها بمشهد الحسين إلى أن توفي بها بكرة نهار الأربعاء رابع عشرين ذي الحجة بداره قريبا من جامع الحاكم، ودفن من يومه قريبا من الشيخ محمد بن أبي جمرة بتربة القاضي ناظر الجيش بالقرافة، ولما بلغت وفاته دمشق صلّي عليه بجامعها صلاة الغائب بعد الجمعة ثالث المحرم من السنة الآتية، ورثاه جماعة منهم ابن غانم علاء الدين، والقجقازي، والصفدي، لأنهم كانوا من عشرائه.

وفي يوم عرفة توفي:

الشيخ عماد الدين إسماعيل الفوعي

وكيل قجليس، وهو الذي بنى له الباشورة على باب الصغير بالبرانية الغربية، وكانت فيه نهضة وكفاية، وكان من بيت الرفض، اتفق أنه استحضره نائب السلطنة فضربه بين يديه، وقام النائب إليه بنفسه فجعل يضربه بالمهاميز في وجهه فرفع من بين يديه وهو تالف فمات في يوم عرفة، ودفن من يومه بسفح قاسيون وله دار ظاهر باب الفراديس.

ثم دخلت سنة سبع عشرة وسبعمائة

استهلت والحكام هم المذكورون في التي قبلها.

وفي صفر شرع في عمارة الجامع الذي أنشأه ملك الأمراء تنكز نائب الشام ظاهر باب النصر تجاه حكر السماق على نهر بانياس بدمشق وتردد القضاة والعلماء في تحرير قبلته، فاستقر الحال في أمرها على ما قاله الشيخ تقي الدين بن تيمية في يوم الأحد الخامس والعشرين منه، وشرعوا في بنائه بأمر السلطان، ومساعدته لنائبه في ذلك.

وفي صفر هذا جاء سيل عظيم بمدينة بعلبك أهلك خلقا كثيرا من الناس، وخرب دورا وعمائر كثيرة، وذلك في يوم الثلاثاء سابع وعشرين صفر.

وملخص ذلك أنه قبل ذلك جاءهم رعد وبرق عظيم معهما برد ومطر، فسالت الأودية، ثم جاءهم بعده سيل هائل خسف من سور البلد من جهة الشمال شرق مقدار أربعين ذراعا، مع أن سمك الحائط خمسة أذرع، وحمل برجا صحيحا ومعه من جانبيه مدينتين، فحمله كما هو حتى مر فحفر في الأرض نحو خمسمائة ذراع سعة ثلاثين ذراعا. وحمل السيل ذلك إلى غربي البلد، لا يمر على شيء إلا أتلفه، ودخل المدينة على حين غفلة من أهلها فأتلف ما يزيد على ثلثها، ودخل الجامع فارتفع فيه على قامة ونصف، ثم قوي على حائطه الغربي فأخربه وأتلف جميع ما فيه الحواصل والكتب والمصاحف وأتلف شيئا كثيرا من رباغ الجامع. وهلك تحت الهدم خلق كثير من الرجال والنساء والأطفال، فإنا لله وإنا إليه راجعون.

وغرق في الجامع الشيخ علي بن محمد بن الشيخ علي الحريري هو وجماعة معه من الفقراء، ويقال كان من جملة من هلك في هذه الكائنة من أهل بعلبك مائة وأربعة وأربعون نفسا سوى الغرباء، وجملة الدور التي خربها والحوانيت التي أتلفها نحو من ستمائة دار وحانوت، وجملة البساتين التي جرف أشجارها عشرون بستانا، ومن الطوحين ثمانية سوى الجامع والأمينية وأما الأماكن التي دخلها وأتلف ما فيها ولم تخرب فكثير جدا.

وفي هذه السنة زاد النيل زيادة عظيمة لم يسمع بمثلها من مدد، وغرق بلادا كثيرة، وهلك فيها ناس كثير أيضا، وغرق منية السبرج فهلك الناس فيها شيء كثير، فإنا لله وإنا إليه راجعون.

وفي مستهل ربيع الآخر منها أغار جيش حلب على مدينة آمد فنهبوا وسبوا وعادوا سالمين.

وفي يوم السبت تاسع وعشرين منه قدم قاضي المالكية إلى الشام من مصر وهو الإمام العلامة فخر الدين أبو العباس أحمد بن سلامة بن أحمد بن أحمد بن سلامة الإسكندري المالكي، على قضاء دمشق عوضا عن قاضي القضاة جمال الدين الزواوي لضعفه واشتداد مرضه، فالتقاه القضاة والأعيان، وقرئ تقليده بالجامع ثاني يوم وصوله، وهو مؤرخ بثاني عشر الشهر، وقدم نائبه الفقيه نور الدين السخاوي درّس بالجامع في جمادى الأولى. وحضر عنده الأعيان، وشكرت فضائله وعلومه ونزاهته وصرامته وديانته، وبعد ذلك بتسعة أيام توفي الزواوي المعزول، وقد باشر القضاء بدمشق ثلاثين سنة.

وفيها: أفرج عن الأمير سيف الدين بهادرآص من سجن الكرك وحمل إلى القاهرة وأكرمه السلطان، وكان سجنه بها مطاوعة لإشارة نائب الشام بسبب ما كان وقع بينهما بملطية.

وخرج المحمل في يوم الخميس تاسع شوال، وأمير الحج سيف الدين كجكني المنصوري.

وممن حج قاضي القضاة نجم الدين ابن صصرى وابن أخيه شرف الدين وكمال الدين بن الشيرازي والقاضي جلال الدين الحنفي والشيخ شرف الدين بن تيمية وخلق.

وفي سادس هذا الشهر درس بالجاروضية القاضي جلال الدين محمد بن الشيخ كمال الدين الشريشي بعد وفاة الشيخ شرف الدين بن أبي سلام، وحضر عنده الأعيان، وفي التاسع عشر منه درس ابن الزملكاني بالعذراوية عوضا عن ابن سلام، وفيه، درس الشيخ شرف الدين بن تيمية بالحنبلية عن إذن أخيه له بذلك بعد وفاة أخيهما لأمهما بدر الدين قاسم بن محمد ابن خالد.

ثم سافر الشيخ شرف الدين إلى الحج، وحضر الشيخ تقي الدين الدرس بنفسه، وحضر عنده خلق كثير من الأعيان وغيرهم حتى عاد أخوه، وبعد عوده أيضا، وجاءت الأخبار بأنه قد أبطلت الخمور والفواحش كلها من بلاد السواحل وطرابلس وغيرها، ووضعت مكوس كثيرة عن الناس هنالك، وبنيت بقرى النصيرية في كل قرية مسجد ولله الحمد والمنة.

وفي بكرة نهار الثلاثاء الثامن والعشرين من شوال وصل الشيخ الإمام العلامة شيخ الكتاب شهاب الدين محمود بن سليمان الحلبي على البريد من مصر إلى دمشق متوليا كتابة السر بها، عوضا عن شرف الدين عبد الوهاب بن فضل الله توفي إلى رحمة الله.

وفي ذي القعدة يوم الأحد درس بالصمصامية التي جددت للمالكية وقد وقف عليها الصاحب شمس الدين غبريال درسا، ودرس بها فقهاء، وعين تدريسها لنائب الحكم الفقيه نور الدين على بن عبد البصير المالكي، وحضر عنده القضاة والأعيان وممن حضر عنده الشيخ تقي الدين بن تيمية، وكان يعرفه من إسكندرية، وفيه درس بالدخوارية الشيخ جمال الدين محمد بن الشيخ شهاب الدين أحمد الكحال، ورتب في رياسة الطب عوضا عن أمين الدين سليمان الطبيب، بمرسوم نائب السلطنة تنكز، واختاره لذلك.

واتفق انه في هذا الشهر تجمع جماعة من التجار بماردين وانضاف إليهم خلق من الجفال من الغلا قاصدين بلاد الشام، حتى إذا كانوا بمرحلتين من رأس العين لحقهم ستون فارسا من التتار فمالوا عليهم بالنشاب وقتلوهم عن آخرهم، ولم يبق منهم سوى صبيانهم نحو سبعين صبيا، فقالوا من يقتل هؤلاء؟ فقال واحد: منهم أنا بشرط أن تنفلوني بمال من الغنيمة، فقتلهم كلهم عن آخرهم، وكان جملة من قتل من التجار ستمائة، ومن الجفلان ثلاثمائة من المسلمين، فإنا لله وإنا إليه راجعون. وردموا بهم خمس صهاريج هناك حتى امتلأت بهم رحمهم الله، ولم يسلم من الجميع سوى رجل واحد تركماني، هرب وجاء إلى رأس العين فأخبر الناس بما رأى وشاهد من هذا الأمر الفظيع المؤلم الوجيع، فاجتهد متسلم ديار بكر سوياي في طلب أولئك التتر حتى أهلكهم عن آخرهم، ولم يبق منهم سوى رجلين، لا جمع الله بهم شملا ولا بهم مرحبا ولا أهلا. آمين يا رب العالمين.

صفة خروج المهدي الضال بأرض جبلة

وفي هذه السنة خرجت النصيرية عن الطاعة وكان من بينهم رجل سموه محمد بن الحسن المهدي القائم بأمر الله، وتارة يدّعي علي بن أبي طالب فاطر السماوات والأرض، تعالى الله عما يقولون علوا كبيرا، وتارة يدّعي أنه محمد بن عبد الله صاحب البلاد، وخرج يكفر المسلمين وأن النصيرية على الحق، واحتوى هذا الرجل على عقول كثير من كبار النصيرية الضلال، وعين لكل إنسان منهم تقدمة ألف، وبلادا كثيرة ونيابات، وحملوا على مدينة جبلة فدخلوها وقتلوا خلقا من أهلها، وخرجوا منها يقولون «لا إله إلا علي، ولا حجاب إلا محمد، ولا باب إلا سلمان». وسبّوا الشيخين، وصاح أهل البلد واإسلاماه، واسلطاناه، واأميراه، فلم يكن لهم يومئذ ناصر ولا منجد، وجعلوا يبكون ويتضرعون إلى الله عز وجل، فجمع هذا الضال تلك الأموال فقسمها على أصحابه وأتباعه قبحهم الله أجمعين. وقال لهم لم يبق للمسلمين ذكر ولا دولة، ولو لم يبق معي سوى عشرة نفر لملكنا البلاد كلها.

ونادى في تلك البلاد إن المقاسمة بالعشر لا غير ليرغب فيه، وأمر أصحابه بخراب المساجد واتخاذها خمارات، وكانوا يقولون لمن أسروه من المسلمين: قل لا إله إلا علي، واسجد لإلهك المهدي، الذي يحيي ويميت حتى يحقن دمك، ويكتب لك فرمان؛ وتجهزوا وعملوا أمرا عظيما جدا.

فجردت إليهم العساكر فهزموهم وقتلوا منهم خلقا كثيرا، وجما غفيرا، وقتل المهدي أضلهم وهو يكون يوم القيامة مقدمهم إلى عذاب السعير، كما قال تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ مَرِيدٍ * كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ تَوَلَّاهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ * } ذلك بما قدمت يداك الآية 4.

وفيها: حج الأمير حسام الدين مهنا وولده سليمان في ستة آلاف، وأخوه محمد بن عيسى في أربعة آلاف، ولم يجتمع مهنا بأحد من المصريين ولا الشاميين، وقد كان في المصريين قجليس وغيره والله أعلم.

وممن توفي بها من الأعيان:

الشيخ الصالح أبو الحسن علي

بن محمد بن عبد الله المنتزه كان فاضلا، وكتب حسنا نسخ (التنبيه) و(العمدة) وغير ذلك، وكان الناس ينتفعون به ويقابلون عليه ذلك ويصححون عليه، ويجلسون إليه عند صندوق كان له في الجامع، توفي ليلة الاثنين سادس محرم ودفن بالصوفية، وقد صححت عليه في العمدة وغيره.

الشيخ شهاب الدين الرومي

أحمد بن محمد بن إبراهيم بن المراغي، درس بالعينية، وأم بمحراب الحنفية بمقصورتهم الغربية إذ كان محرابهم هناك، وتولى مشيخة الخاتونية، وكان يؤم بنائب السلطان الأفرم، وكان يقرأ حسنا بصوت مليح، وكانت له مكانة عنده، وربما راح إليه الأفرم ماشيا حتى يدخل عليه زاويته التي أنشأها بالشرق الشمالي على الميدان الكبير، ولما توفي بالمحرم ودفن بالصوفية قام ولداه عماد الدين وشرف الدين بوظائفه.

الشيخ الصالح العدل قمر الدين عثمان

بن أبي الوفا بن نعمة الله الأعزازي، كان ذا ثروة من المال كثير المروءة والبلاوة أدى الأمانة في ستين ألف دينار وجواهر لا يعلم بها إلا الله عز وجل، بعد ما مات صاحبها مجردا في الغزاة وهو عز الدين الجراحي نائب غزة، أودعه إياها فأداها إلى أهلها أثابه الله، ولهذا لما مات يوم الثلاثاء الثالث والعشرين من ربيع الآخر حضر جنازته خلق لا يعلمهم إلا الله تعالى، حتى قيل إنهم لم يجتمعوا في مثلها قبل ذلك، ودفن بباب الصغير رحمه الله.

قاضي القضاة جمال الدين أبو عبد الله

محمد بن سليمان بن يوسف الزواوي قاضي المالكية بدمشق، من سنة سبع وثمانين وستمائة، قدم مصر من المغرب واشتغل بها وأخذ عن مشايخها منهم الشيخ عز الدين بن عبد السلام، ثم قدم دمشق قاضيا في سنة سبع وثمانين وستمائة، وكان مولده تقريبا في سنة تسع وعشرين وستمائة. وأقام شعار مذهب مالك وعمر الصمصامية في أيامه وجدد عمارة النورية، وحدث بصحيح مسلم وموطأ مالك عن يحيى بن يحيى عن مالك، و(كتاب الشفا) للقاضي عياض، وعزل قبل وفاته بعشرين يوما عن القضاء، وهذا من خيره حيث لم يمت قاضيا، توفي بالمدرسة الصمصامية يوم الخميس التاسع من جمادى الآخرة، وصلّي عليه بعد الجمعة ودفن بمقابر باب الصغير تجاه مسجد النارنج وحضر الناس جنازته وأثنوا عليه خيرا، وقد جاوز الثمانين كمالك رحمه الله.

ولم يبلغ إلى سبعة عشر من عمره على مقتضى مذهبه أيضا.

القاضي الصدر الرئيس رئيس الكتاب شرف الدين

أبو محمد عبد الوهاب بن جمال الدين فضل الله بن الحلي القرشي العدوي المعمري، ولد سنة تسع وعشرين وستمائة وسمع الحديث وخدم وارتفعت منزلته حتى كتب الإنشاء بمصر، ثم نقل إلى كتابة السر بدمشق إلى أن توفي في ثامن رمضان، ودفن بقاسيون، وقد قارب التسعين، وهو ممتع بحواسه وقواه، وكانت له عقيدة حسنة في العلماء، ولا سيما في ابن تيمية وفي الصلحاء رحمه الله.

وقد رثاه الشهاب محمود كاتب السر بعده بدمشق، وعلاء الدين بن غانم وجمال الدين بن نباتة.

الفقيه الإمام العالم المناظر شرف الدين

أبو عبد الله الحسين بن الإمام كمال الدين علي بن إسحاق بن سلام الدمشقي الشافعي، ولد سنة ثلاث وسبعين وستمائة، واشتغل وبرع وحصل ودرس بالجاروخية والعذراوية، وأعاد بالظاهرية وأفتى بدار العدل، وكان واسع الصدر كثير الهمة كريم النفس مشكورا في فهمه وخطه وحفظه وفصاحته ومناظرته، توفي في رابع عشرين رمضان وترك أولادا ودينا كثيرا، فوفته عنه زوجته بنت زويزان تقبل الله منها وأحسن إليها.

الصاحب أنيس الملوك بدر الدين

عبد الرحمن بن إبراهيم الأربلي ولد سنة ثمان وثلاثين وستمائة، واشتغل بالأدب فحصل على جانب جيد منه وارتزق عند الملوك به.

فمن رقيق شعره ما أورده الشيخ علم الدين في ترجمته قوله:

ومدامة حمراء تشـ* ـبه خد من أهو ودمعي

يسعى بها قمر أعز * ز علي من نظري وسمعي

وقوله في مغنية:

وعزيزة هيفاء ناعمة الصبا * طوع العناق مريضة الأجفان

غنت وماس قومها فكأنها الـ * ـورقاء تسجع فوق غصن البان

الصدر الرئيس شرف الدين محمد بن جمال الدين إبراهيم

ابن شرف الدين عبد الرحمن بن أمين الدين سالم بن الحافظ بهاء الدين الحسن بن هبة الله بن محفوظ بن صصرى، ذهب إلى الحجاز الشريف، فلما كانوا ببردى اعتراه مرض ولم يزل به حتى مات، توفي بمكة وهو محرم ملبٍ، فشهد الناس جنازته وغبطوه بهذه الموتة.

وكانت وفاته يوم الجمعة آخر النهار سابع ذي الحجة ودفن ضحى يوم السبت بمقبرة بباب الحجون رحمه الله تعالى وأكرم مثواه.

ثم دخلت سنة ثمان عشرة وسبعمائة

الخليفة والسلطان هما هما، وكذلك النواب والقضاة سوى المالكي بدمشق فإنه العلامة فخر الدين بن سلامة بعد القاضي جمال الدين الزواوي رحمه الله.

ووصلت الأخبار في المحرم من بلاد الجزيرة وبلاد الشرق سنجار والموصل وماردين وتلك النواحي بغلاء عظيم وفناء شديد، وقلة الأمطار، وخوف التتار، وعدم الأقوات وغلاء الأسعار، وقلة النفقات، وزوال النعم، وحلول النقم، بحيث إنهم أكلوا ما وجدوه من الجمادات والحيوانات والميتات. وباعوا حتى أولادهم وأهاليهم، فبيع الولد بخمسين درهما وأقل من ذلك، حتى إن كثير كانوا لا يشترون من أولاد المسلمين، وكانت المرأة تصرح بأنها نصرانية ليشترى منها ولدها لتنتفع بثمنه ويحصل له من يطعمه فيعيش، وتأمن عليه من الهلاك، فإنا لله وإنا إليه راجعون.

ووقعت أحوال صعبة يطول ذكرها، وتنبو الأسماع عن وصفها، وقد ترحلت منهم فرقة قريب الأربعمائة إلى ناحية مراغة فسقط عليهم ثلج أهلكهم عن آخرهم، وصحبت طائفة منهم فرقة من التتار، فلما انتهوا إلى عقبة صعدها التتار ثم منعوهم أن يصعدوها لئلا يتكلفوا بهم فماتوا عن آخرهم، فلا حول ولا قوة إلا بالله العزيز الحكيم.

وفي بكرة الاثنين السابع من صفر قدم القاضي كريم الدين عبد الكريم بن العلم هبة الله وكيل الخاص السلطاني بالبلاد جميعها، قدم إلى دمشق فنزل بدار السعادة وأقام بها أربعة أيام وأمر ببناء جامع القبيبات، الذي يقال له جامع كريم الدين، وراح لزيارة بيت المقدس، وتصدق بصدقات كثيرة وافرة، وشرع ببناء جامع بعد سفره.

وفي ثاني صفر جاءت ريح شديدة ببلاد طرابلس على ذوق تركمان فأهلكت لهم كثيرا من الأمتعة، وقتلت أميرا منهم يقال له طرالي وزوجته وابنتيه وابني ابنيه وجاريته وأحد عشر نفسا، وقتلت جمالا كثيرة وغيرها. وكسرت الأمتعة والأثاث وكانت ترفع البعير في الهواء مقدار عشرة أرماح ثم تلقيه مقطعا، ثم سقط بعد ذلك مطر شديد وبرد عظيم بحيث أتلف زروعا كثيرة في قرى عديدة نحو من أربعة وعشرين قرية، حتى أنها لا ترد بدارها.

وفي صفر أخرج الأمير سيف الدين طغاي الحاصلي إلى نيابة صفد فأقيم بها شهرين ثم مسك، والصاحب أمين الدين إلى نظر الأوقاف بطرابلس على معلوم وافر.

قال الشيخ علم الدين وفي يوم الخميس منتصف ربيع الأول اجتمع قاضي القضاة شمس الدين بن مسلم بالشيخ الإمام العلامة تقي الدين بن تيمية، وأشار عليه في ترك الإفتاء في مسألة الحلف بالطلاق، فقبل الشيخ نصيحته وأجاب إلى ما أشار به، رعاية لخاطره وخواطر الجماعة المفتيين.

ثم ورد البريد في مستهل جمادى الأولى بكتاب من السلطان فيه منع الشيخ تقي الدين من الإفتاء في مسألة الحلف بالطلاق وانعقد بذلك مجلس، وانفصل الحال على ما رسم به السلطان، ونودي به في البلد، وكان قبل قدوم المرسوم قد اجتمع بالقاضي ابن مسلم الحنبلي جماعة من المفتين الكبار، وقالوا له أن ينصح الشيخ في ترك الإفتاء في مسألة الطلاق، فعلم الشيخ نصيحته، وأنه إنما قصد بذلك ترك ثوران فتنة وشر.

وفي عاشره جاء البريد إلى صفد بمسك سيف الدين طغاي، وتولية بدر الدين القرماني نيابة حمص.

وفي هذا الشهر كان مقتل رشيد الدولة فضل الله بن أبي الخير بن عالي الهمداني، كان أصله يهوديا عطارا، فتقدم بالطب وشملته السعادة حتى كان عند خربندا الجزء الذي لا يتجزأ، وعلت رتبته وكلمته، وتولى مناصب الوزراء، وحصل له من الأموال والأملاك والسعادة ما لا يحد ولا يوصف، وكان قد أظهر الإسلام. وكانت لديه فضائل جمة، وقد فسر القرآن وصنف كتبا كثيرة، وكان له أولاد وثروة عظيمة، وبلغ الثمانين من العمر، وكانت له يد جيدة يوم الرحبة، فإنه صانع عن المسلمين وأتقن القضية في رجوع ملك التتار عن البلاد الشامية، سنة ثنتي عشرة كما تقدم. وكان يناصح الإسلام، ولكن قد نال منه خلق كثير من الناس واتهموه على الدين وتكلموا في تفسيره هذا، ولا شك أنه كان مخبطا مخلطا، وليس لديه علم نافع، ولا عمل صالح.

ولما تولى أبو سعيد المملكة عزله وبقي مدة خاملا ثم استدعاه جوبان وقال له: أنت سقيت السلطان خربندا سما؟ فقال له: أنا كنت في غاية الحقارة والذلة، فصرت في أيامه وأيام أبيه في غاية العظمة والعزة، فكيف أعمد إلى سقيه والحالة هذه؟ فأحضرت الأطباء فذكروا صورة مرض خربندا وصفته، وأن الرشيد أشار بإسهاله لما عنده في باطنه من الحواصل، فانطلق باطنه نحوا من سبعين مجلسا، فمات بذلك على وجه أنه أخطأ في الطب.

فقال: فأنت إذا قتلته، فقتله وولده إبراهيم واحتيط على حواصله وأمواله، فبلغت شيئا كثيرا، وقطعت أعضاؤه وحمل كل جزء منها إلى بلدة، ونودي على رأسه بتبريز هذا رأس اليهودي الذي بدل كلام الله لعنه الله، ثم أحرقت جثته، وكان القائم عليه علي شاه.

وفي هذا الشهر - أعني جمادى الأولى - تولى قضاء المالكية بمصر تقي الدين الأخنائي عوضا عن زين الدين بن مخلوف توفي عن أربع وثمانين سنة، وله في الحكم ثلاث وثلاثون سنة.

وفي يوم الخميس عاشر رجب لبس صلاح الدين يوسف بن الملك الأوحد خلعة الإمرة بمرسوم السلطان.

وفي آخر رجب جاء سيل عظيم بظاهر حمص خرب شيئا كثيرا، وجاء إلى البلد ليدخلها فمنعه الخندق.

وفي شعبان تكامل بناء الجامع الذي عمره تنكز ظاهر باب النصر، وأقيمت الجمعة فيه عاشر شعبان، وخطب فيه الشيخ نجم الدين علي بن داود بن يحيى الحنفي المعروف بالفقجازي، من مشاهير الفضلاء ذوي الفنون المتعددة، وحضر نائب السلطنة والقضاة والأعيان والقراء والمنشدون وكان يوما مشهودا.

وفي يوم الجمعة التي يليها خطب بجامع القبيبات الذي أنشأه كريم الدين وكيل السلطان، وحضر فيه القضاة والأعيان، وخطب فيه الشيخ شمس الدين محمد بن عبد الواحد بن يوسف بن الرزين الحراني الأسدي الحنبلي، وهو من الصالحين الكبار، ذوي الزهادة والعبادة والنسك والتوجه وطيب الصوت وحسن السمت.

وفي حادي عشر رمضان خرج الشيخ شمس الدين بن النقيب إلى حمص حاكما بها مطلوبا مولى مرغوبا فيه، وخرج الناس لتوديعه.

وفي هذا الشهر حصل سيل عظيم بسلمية ومثله بالشوبك، وخرج المحمل في شوال وأمير الركب الأمير علاء الدين بن معبد والي البر، وقاضيه زين الدين ابن قاضي الخليل الحاكم بحلب.

وممن حج في هذه السنة من الأعيان:

الشيخ برهان الدين الفزاري وكمال الدين بن الشريشي وولده وبدر الدين بن العطار.

وفي الحادي والعشرين من ذي الحجة انتقل الأمير فخر الدين إياس الأعسري من شد الدواوين بدمشق إلى طرابلس أميرا.

وفي يوم الجمعة السابع عشر ذي الحجة أقيمت الجمعة في الجامع الذي أنشأه الصاحب شمس الدين غبريال ناظر الدواوين بدمشق خارج باب شرقي، إلى جانب ضرار بن الأزور بالقرب من محلة القساطلة.

وخطب فيه الشيخ شمس الدين محمد بن التدمري المعروف بالنيرباني، وهو من كبار الصالحين ذوي العبادة والزهادة، وهو من أصحاب شيخ الإسلام ابن تيمية، وحضره الصاحب المذكور وجماعة من القضاة والأعيان.

وفي يوم الاثنين والعشرين من ذي الحجة باشر الشيخ شمس الدين محمد بن عثمان الذهبي المحدث الحافظ بتربة أم الصالح عوضا عن كمال الدين بن الشريشي توفي بطريق الحجاز في شوال، وقد كان له في مشيختها ثلاث وثلاثون سنة، وحضر عند الذهبي جماعة من القضاة.

وفي يوم الثلاثاء صبيحة هذا الدرس أحضر الفقيه زين الدين بن عبيدان الحنبلي من بعلبك وحوقق على منام رآه زعم أنه رآه بين النائم واليقظان، وفيه تخليط وتخبيط وكلام كثير لا يصدر عن مستقيم المزاج، كان كتبه بخطه وبعثه لي بعض أصحابه، فاستسلمه القاضي الشافعي وحقن دمه وعزره، ونودي عليه في البلد ومنع من الفتوى وعقود الأنكحة ثم أطلق.

وفي يوم الأربعاء بكرة باشر بدر الدين محمد بن بضحان مشيخة الإقراء بتربة أم الصالح عوضا عن الشيخ مجد الدين التونسي، توفي وحضر عنده الأعيان الفضلاء، وقد حضرته يومئذ، وقبل ذلك باشر مشيخة الإقراء بالأشرفية عوضا عنه أيضا الشيخ محمد بن خروف الموصلي.

وفي يوم الخميس ثالث عشرين ذي الحجة باشر الشيخ الإمام العلامة الحافظ الحجة شيخنا ومفيدنا أبو الحجاج يوسف بن الزكي عبد الرحمن بن يوسف المزي مشيخة دار الحديث الأشرفية عوضا عن كمال الدين بن الشريشي، ولم يحضر عنده كبير أحد، لما في نفوس بعض الناس من ولايته لذلك، مع أنه لم يتولها أحد قبله أحق بها منه. ولا أحفظ منه، وما عليه منهم إذا لم يحضروا عنده فإنه لا يوحشه إلا حضورهم عنده، وبعدهم عنه أنس والله أعلم.

من الأعيان:

الشيخ الصالح العباد الناسك الورع الزاهد القدوة بقية السلف وقدوة الخلف

أبو عبد الله محمد بن الشيخ الصالح عمر بن السيد القدوة الناسك الكبير العارف أبي بكر بن قوام بن علي بن قوام البالسي

ولد سنة خمسين وستمائة ببالس، وسمع من أصحاب ابن طبرزد.

وكان شيخا جليلا بشوش الوجه حسن السمت، مقصدا لكل أحد، كثير الوقار عليه سيما العبادة والخير، وكان يوم قازان في جملة من كان مع الشيخ تقي الدين بن تيمية لما تكلم مع قازان، فحكى عن كلام شيخ الإسلام تقي الدين لقازان وشجاعته وجرأته عليه، وأنه قال لترجمانه قل للقان: أنت تزعم أنك مسلم ومعك مؤذنون وقاض وإمام وشيخ على ما بلغنا فغزوتنا وبلغت بلادنا على ماذا؟ وأبوك وجدك هلكا وكانا كافرين، وما غزوا بلاد الإسلام، بل عاهدوا قومنا، وأنت عاهدت فغدرت وقلت فما وفيت.

قال: وجرت له مع قازان وقطلوشاه وبولاي أمور ونوب، قام ابن تيمية فيها كلها لله، وقال الحق ولم يخش إلا الله عز وجل. قال وقرب إلى الجماعة طعاما فأكلوا منه إلا ابن تيمية فقيل له: ألا تأكل؟ فقال: كيف آكل من طعامكم وكله مما نهبتم من أغنام الناس وطبختموه بما قطعتم من أشجار الناس، قال: ثم إن قازان طلب منه الدعاء فقال في دعائه: اللهم إن كان هذا عبدك محمود إنما يقاتل لتكون كلمتك هي العليا وليكون الدين كله لك فانصره وأيده وملكه البلاد والعباد، وإن كان إنما قام رياء وسمعة وطلبا للدنيا ولتكون كلمته هي العليا وليذل الإسلام وأهله فأخذ له وزلزله ودمره واقطع دابره، قال: وقازان يؤمن على دعائه، ويرفع يديه.

قال: فجعلنا نجمع ثيابنا خوفا من أن تتلوث بدمه إذا أمر بقتله.

قال: فلما خرجنا من عنده قال له قاضي القضاة نجم الدين بن صصرى وغيره: كدت أن تهلكنا وتهلك نفسك، والله لا نصحبك من هنا، فقال: وأنا والله لا أصحبكم.

قال: فانطلقنا عصبة وتأخر هو في خاصة نفسه ومعه جماعة من أصحابه، فتسامعت به الخواقين والأمراء من أصحاب قازان فأتوه يتبركون بدعائه، وهو سائر إلى دمشق، وينظرون إليه، قال والله ما وصل إلى دمشق إلا في نحو ثلاثمائة فارس في ركابه، وكنت أنا من جملة من كان معه، وأما أولئك الذين أبوا أن يصحبوه فخرج عليهم جماعة من التتر فشلحوهم عن آخرهم، هذا الكلام أو نحوه.

وقد سمعت هذه الحكاية من جماعة غيره، وقد تقدم ذلك.

توفي الشيخ محمد بن قوام ليلة الاثنين الثاني والعشرين من صفر بالزاوية المعروفة بهم غربي الصالحية والناصرية والعادلية، وصلّي عليه بها ودفن بها وحضر جنازته ودفنه خلق كثير وجم غفير، وكان في جملة الجمع الشيخ تقي الدين بن تيمية، لأنه كان يحبه كثيرا، ولم يكن للشيخ محمد مرتب على الدولة ولا غيرهم، ولا لزاويته مرتب ولا وقف، وقد عرض عليه ذلك غير مرة فلم يقبل، وكان يزار، وكان لديه علم وفضائل جمة، وكان فهمه صحيحا وكانت له معرفة تامة، وكان حسن العقيدة وطويته صحيحة محبا للحديث وآثار السلف، كثير التلاوة والجمعية على الله عز وجل، وقد صنف جزءا فيه أخبار جيدة، رحمه الله وبل ثراه بوابل الرحمة آمين.

الشيخ الصالح الأديب البارع الشاعر المجيد

تقي الدين أبو محمد عبد الله بن الشيخ أحمد بن تمام بن حسان البلي ثم الصالحي الحنبلي

أخو الشيخ محمد بن تمام، ولد سنة خمس وثلاثين وستمائة وسمع الحديث، وصحب الفضلاء، وكان حسن الشكل والخلق، طيب النفس مليح المجاورة والمجالسة، كثير المفاكهة، أقام مدة بالحجاز واجتمع بابن سبعين وبالتقي الحوراني، وأخذ النحو عن ابن مالك وابنه بدر الدين وصحبه مدة، وقد صحبه الشهاب محمود مدة خمسين سنة، وكان يثني عليه بالزهد والفراغ من الدنيا، توفي ليلة السبت الثالث من ربيع الآخر ودفن بالسفح، وقد أورد الشيخ علم الدين البرزالي في ترجمته قطعة من شعره: فمن ذلك قوله:

أسكان المعاهد من فؤادي * لكم في خافق منه سكون

أكرر فيكم أبدا حديثي * فيحلو والحديث له شجون

وأنظمه عقيقا من دموعي * فتنثره المحاجر والجفون

وأبتكر المعاني في هواكم * وفيكم كل قافية تهون

وأسئل عنكم البكاء سرا * وسر هواكم سر مصون

وأغتبق النسيم لأن فيه * شمائل من معاطفكم تبين

فكم لي في محبتكم غرام * وكم لي في الغرام بكم فنون؟

قاضي القضاة زين الدين علي بن مخلوف

بن ناهض بن مسلم بن منعم بن خلف النويري المالكي الحاكم بالديار المصرية، سنة أربع وثلاثين وستمائة، وسمع الحديث واشتغل وحصل، وولي الحكم بعد ابن شاش سنة خمس وثمانين، وطالت أيامه إلى هذا العام، وكان غزير المروءة والاحتمال والإحسان إلى الفقهاء والشهود، ومن يقصده، توفي ليلة الأربعاء حادي عشر جمادى الآخرة، ودفن بسفح المقطم بمصر، وتولى الحكم بعده بمصر تقي الدين الأخنائي المالكي.

الشيخ إبراهيم بن أبي العلاء

المقري الصيت المشهور المعروف بابن شعلان، وكان رجلا جيدا في شهود المسمارية، ويقصد للختمات لصيت صوته، توفي يوم الجمعة وهو كهل ثالث عشر جمادى الآخرة ودفن بسفح قاسيون.

الشيخ الإمام العالم الزاهد أبو الوليد محمد

بن أبي القاسم أحمد بن محمد بن عبد الله بن أبي جعفر أحمد بن خلف بن إبراهيم بن أبي عيسى بن الحاج النجيبي القرطبي ثم الإشبيلي، ولد بإشبيلية سنة ثمان وثلاثين وستمائة.

وقد كان أهله بيت العلم والخطابة والقضاء بمدينة قرطبة، فلما أخذها الفرنج انتقلوا إلى إشبيلية وتمحقت أموالهم وكتبهم، وصادر ابن الأحمر جده القاضي بعشرين ألف دينار، ومات أبوه وجده في سنة إحدى وأربعين وسمتائة، ونشأ يتيما ثم حج وأقبل إلى الشام فاستقام بدمشق من سنة أربع وثمانين، وسمع من ابن البخاري وغيره، وكتب بيده نحوا من مائة مجلد، إعانة لولديه أبي عمر وأبي عبد الله على الاشتغال.

ثم كانت وفاته بالمدرسة الصلاحية يوم الجمعة وقت الأذان ثامن عشر رجب، وصلي عليه بعد العصر ودفن عند القندلاوي، بباب الصغير بدمشق، وحضر جنازته خلق كثير.

الشيخ كمال الدين ابن الشريشي

أحمد ابن الإمام العلامة جمال الدين بن أبي بكر بن محمد بن أحمد بن محمد بن سحمان البكري الوايلي الشريشي، كان أبوه مالكيا كما تقدم، واشتغل هو في مذهب الشافعي فبرع وحصل علوما كثيرة، وكان خبيرا بالكتابة مع ذلك، وسمع الحديث وكتب الطباق بنفسه، وأفتى ودرس وناظر وباشر بعدة مدارس ومناصب كبار، أول ما باشر مشيخة دار الحديث بتربة أم الصالح بعد والده من سنة خمس وثمانين وستمائة إلى أن توفي، وناب في الحكم عن ابن جماعة.

ثم ترك ذلك وولي وكالة بيت المال وقضاء العسكر ونظر الجامع مرات، ودرس بالشامية البرانية ودرس بالناصرية عشرين سنة، ثم انتزعها من يده ابن جماعة وزين الدين الفارقي، فاستعادها منهما وباشر مشيخة الرباط الناصري بقاسيون مدة، ومشيخة دار الحديث الأشرفية ثمان سنين، وكان مشكور السيرة فيما يولي من الجهات كلها، وقد عزم في هذه السنة على الحج فخرج بأهله فأدركته منيته بالحسا في سلخ شوال من هذه السنة، ودفن هناك رحمه الله، وتولى بعده الوكالة جمال الدين بن القلانسي، ودرس بالناصرية كمال الدين بن الشيرازي، وبدار الحديث الأشرفية الحافظ جمال الدين المزي، وبأم الصالح الشيخ شمس الدين الذهبي، وبالرباط النصاري ولده جمال الدين.

الشهاب المقري

أحمد بن أبي بكر بن أحمد البغدادي نقيب الأشراف المتعممين، كان عنده فضائل جمة نثرا ونظما مما يناسب الوقائع وما يحضر فيه من التهاني والتعازي، ويعرف الموسيقى والشعبذة، وضرب الرمل، ويحضر المجالس المشتملة على اللهو والمسكر واللعب والبسط، ثم انقطع عن ذلك كله لكبر سنه وهو مما يقال فيه وفي أمثاله:

ذهبت عن توبته سائلا * وجدتها توبة إفلاس

وكان مولده بدمشق سنة ثلاث وثلاثين وستمائة، وتوفي ليلة السبت خامس ذي القعدة ودفن بمقابر باب الصغير في قبر أعده لنفسه عن خمس وثمانين سنة، سامحه الله.

قاضي القضاة فخر الدين أبو العباس أحمد بن تاج الدين أبي الخير سلامة بن زين الدين أبي العباس أحمد بن سلام الإسكندري المالكي

ولد سنة إحدى وسبعين وستمائة، وبرع في علوم كثيرة، وولي نيابة الحكم في الإسكندرية فحمدت سيرته وديانته وصرامته.

ثم قدم على قضاء الشام للمالكية في السنة الماضية فباشرها أحسن مباشرة سنة ونصفا، إلى أن توفي بالصمصامية بكرة الأربعاء مستهل ذي الحجة، ودفن إلى جانب القندلاوي بباب الصغير، وحضر جنازته خلق كثير، وشكره الناس وأثنوا عليه رحمه الله تعالى.

ثم دخلت سنة تسع عشرة وسبعمائة

استهلت والحكام هم المذكورون في التي قبلها، وفي ليلة مستهل محرم هبت ريح شديدة بدمشق سقط بسببها شيء من الجدران، واقتلعت أشجارا كثيرة.

وفي يوم الثلاثاء سادس عشرين المحرم خلع على جمال الدين بن القلانسي بوكالة بيت المال عوضا عن ابن الشريشي.

وفي يوم الأربعاء الخامس من صفر درس بالناصرية الجوانية ابن صصرى عوضا عن ابن الشريشي أيضا، وحضر عنده الناس على العادة.

وفي عاشره باشر شد الدواوين جمال الدين آقوش الرحبي عوضا عن فخر الدين إياس، وكان آقوش متولي دمشق من سنة سبع وسبعمائة، وولي مكانه الأمير علم الدين طرقش الساكن بالعقبية.

وفي هذا اليوم نودي بالبلد بصوم الناس لأجل الخروج إلى الاستسقاء، وشرع في قراءة البخاري وتهيأ الناس ودعوا عقيب الصلوات وبعد الخطب، وابتهلوا إلى الله في الاستسقاء، فلما كان يوم السبت منتصف صفر، وكان سابع نيسان، خرج أهل البلد برمتهم إلى عند مسجد القدم، وخرج نائب السلطنة والأمراء مشاة يبكون ويتضرعون. واجتمع الناس هنالك وكان مشهدا عظيما، وخطب بالناس القاضي صدر الدين سليمان الجعفري وأمن الناس على دعائه، فلما أصبح الناس من اليوم الثاني جاءهم الغيث بإذن الله ورحمته ورأفته لا بحولهم ولا بقوتهم، ففرح الناس فرحا شديدا وعم البلاد كلها ولله الحمد والمنة وحده لا شريك له.

وفي أواخر الشهر شرعوا بإصلاح رخام الجامع وترميمه وحلي أبوابه وتحسين ما فيه.

وفي رابع عشر ربيع الآخر درس بالناصرية الجوانية ابن الشيرازي بتوقيع سلطاني، وأخذها من ابن صصرى وباشرها إلى أن مات.

وفي يوم الخميس سادس عشر جمادى الأولى باشر ابن شيخ السلامية فخر الدين أخو ناظر الجيش الحسبة بدمشق عوضا عن ابن الحداد، وباشر ابن الحداد نظر الجامع بدلا عن ابن شيخ السلامية، وخلع على كل منهما.

وفي بكرة الثلاثاء خامس جمادى الآخرة قدم من مصر إلى دمشق قاضي القضاة شرف الدين أبو عبد الله محمد إلى قاضي القضاة معين الدين أبي بكر بن الشيخ زكي الدين ظافر الهمداني المالكي، على قضاء المالكية بالشام، عوضا عن ابن سلامة توفي، وكان بينهما ستة أشهر، ولكن تقليد هذا مؤرخ بآخر ربيع الأول، ولبس الخلعة وقرئ تقليده بالجامع.

وفي هذا الشهر درّس بالخاتونية البرانية القاضي بدر الدين بن نويرة الحنفي، وعمره خمس وعشرون سنة، عوضا عن القاضي شمس الدين محمد قاضي ملطية توفي.

وفي يوم السبت خامس رمضان وصل إلى دمشق سيل عظيم أتلف شيئا كثيرا، وارتفع حتى دخل من باب الفرج، ووصل إلى العقبية وانزعج الناس له، وانتقلوا من أماكنهم، ولم تطل مدته لأن أصله كان مطرا وقع بأرض وابل السوق والحسينية.

وفي هذا اليوم باشر طرقشي شد الدواوين بعد موت جمال الدين الرحبي، وباشر ولاية المدينة صارم الدين الجوكندار، وخلع عليهما. ولما كان يوم الثلاثاء التاسع والعشرين من رمضان اجتمع القضاة وأعيان الفقهاء عند نائب السلطنة بدار السعادة وقرئ عليهم كتاب من السلطان يتضمن منع الشيخ تقي الدين بن تيمية من الفتيا بمسألة الطلاق، وانفصل المجلس على تأكيد المنع من ذلك.

وفي يوم الجمعة تاسع شوال خطب القاضي صدر الدين الداراني عوضا عن بدر الدين بن ناصر الدين بن عبد السلام، بجامع جراح، وكان فيه خطيبا قبله فتولاه بدر الدين حسن العقرباني واستمر ولده في خطابة داريا التي كانت بيد أبيه من بعده.

وفي يوم السبت عشرة خرج الركب وأميرهم عز الدين أيبك المنصوري أمير علم، وحج فيها صدر الدين قاضي القضاة الحنفي، وبرهان الدين بن عبد الحق، وشرف الدين بن تيمية، ونجم الدين الدمشقي وهو قاضي الركب، ورضي الدين المنطيقي، وشمس الدين بن الزريز خطيب جامع القبيبات، وعبد الله بن رشيق المالكي وغيرهم.

وفيها: حج سلطان الإسلام الملك الناصر محمد بن قلاوون ومعه جمع كثير من الأمراء، ووكيله كريم الدين وفخر الدين كاتب المماليك، وكاتب السر ابن الأثير، وقاضي القضاة ابن جماعة، وصاحب حماه الملك عماد الدين، والصاحب شمس الدين غبريال، في خدمة السلطان وكان في خدمته خلق كثير من الأعيان.

وفيها: كانت وقعة عظيمة بين التتار بسبب أن ملكهم أبا سعيد كان قد ضاق ذرعا بجوبان وعجز عن مسكه، فانتدب له جماعة من الأمراء عن أمره، منهم أبو يحيى خال أبيه، ودقماق وقرشي وغيرهم من أكابر الدولة، وأرادوا كبس جوبان فهرب وجاء إلى السلطان فأنهى إليه ما كان منهم.

وفي صحبته الوزير علي شاه، ولم يزل بالسلطان حتى رضي عن جوبان وأمده بجيش كثيف، وركب السلطان معه أيضا والتقوا مع أولئك فكسروهم وأسروهم، وتحكم فيهم جوبان فقتل منهم إلى آخر هذه السنة نحوا من أربعين أميرا.

من الأعيان:

الشيخ المقري شهاب الدين

أبو عبد الله الحسين بن سليمان بن فزارة بن بدر الكفري الحنفي، ولد تقريبا في سنة سبع وثلاثين وستمائة، وسمع الحديث وقرأ بنفسه كتاب الترمذي، وقرأ القراءات وتفرد بها مدة يشتغل الناس عليه، وجمع عليه السبع أكثر من عشرين طالبا.

وكان يعرف النحو والأدب وفنونا كثيرة وكانت مجالسته حسنة، وله فوائد كثيرة، درس بالطرخانية أكثر من أربعين سنة، وناب في الحكم عن الأذرعي مدة ولايته، وكان خيرا مباركا أضر في آخر عمره، وانقطع في بيته، مواظبا على التلاوة والذكر وإقراء القرآن إلى أن توفي ثالث عشر جمادى الأولى، وصلّي عليه بعد الظهر يومئذ بجامع دمشق، ودفن بقاسيون رحمه الله.

وفي هذا الشهر جاء الخبر بموت:

الشيخ الإمام تاج الدين

عبد الرحمن بن محمد بن أبي حامد التبريزي الشافعي المعروف بالأفضلي، بعد رجوعه من الحج ببغداد في العشر الأول من صفر، وكان صالحا فقيها مباركا، وكان ينكر على رشيد الدولة ويحط عليه، ولما قتل قال: كان قتله أنفع من قتل مائة ألف نصراني، وكان رشيد الدولة يريد أن يترضّاه فلم يقبل، وكان لا يقبل من أحد شيئا، ولما توفي دفن بتربة الشونيزي، وكان قد قارب الستين رحمه الله.

محيي الدين محمد بن مفضل بن فضل الله المصري

كاتب ملك الأمراء، ومستوفي الأوقاف، كان مشكور السيرة محببا للعلماء والصلحاء، فيه كرم وخدمة كثيرة للناس، توفي في رابع عشرين من جمادى الأولى، ودفن بتربة ابن هلال بسفح قاسيون وله ست وأربعون سنة، وباشر بعده في وظيفته أمين الدين بن النحاس.

الأمير الكبير غرلو بن عبد الله العادلي

كان من أكابر الدولة ومن الأمراء المقدمين الألوف، وقد ناب بدمشق عن أستاذه الملك العادل كتبغا نحوا من ثلاثة أشهر في سنة خمس وسبعين وستمائة، وأول سنة ست وتسعين، واستمر أميرا كبيرا إلى أن توفي في سابع جمادى الأولى يوم الخميس ودفن بتربته بشمالي جامع المظفري بقاسيون، وكان شهما شجاعا ناصحا للإسلام وأهله، مات في عشر الستين.

الأمير جمال الدين أقوش

الرحبي المنصوري، والي دمشق مدة طويلة، كان أصله من قرى إربل، وكان نصرانيا فسبي وبيع من نائب الرحبة، ثم انتقل إلى الملك المنصور فأعتقه وأمره، وتولى الولاية بدمشق نحوا من إحدى عشرة سنة ثم انتقل إلى شد الدواوين مدة أربعة أشهر، وكان محبوبا إلى العامة مدة ولايته.

الخطيب صلاح الدين

يوسف بن محمد بن عبد اللطيف بن المعتزل الحموي، له تصانيف وفوائد، وكان خطيب جامع السوق الأسفل بحماه، وسمع من ابن طبرزد، توفي في جمادى الآخرة.

العلامة فخر الدين أبو عمرو

عثمان بن علي بن يحيى بن هبة الله بن إبراهيم بن المسلم بن علي الأنصاري الشافعي المعروف بابن بنت أبي سعد المصري، سمع الحديث وكان من بقايا العلماء، وناب في الحكم بالقاهرة، ووليّ مكانه في ميعاد جامع طولون الشيخ علاء الدين القونوي شيخ الشيوخ، وفي ميعاد الجامع الأزهر شمس الدين بن علان، كانت وفاته ليلة الأحد الرابع والعشرين من جمادى الآخرة، ودفن بمصر وله من العمر سبعون سنة.

الشيخ الصالح العابد أبو الفتح

نصر بن سليمان بن عمر المنبجي، له زاوية بالحسينية يزار فيها ولا يخرج منها إلا إلى الجمعة، سمع الحديث، توفي يوم الثلاثاء بعد العصر السادس والعشرين من جمادى الآخرة، ودفن من الغد بزاويته المذكورة رحمه الله.

الشيخ الصالح المعمر الرحلة

عيسى بن عبد الرحمن بن معالي بن أحمد بن إسماعيل بن عطاف بن مبارك بن علي بن أبي الجيش المقدسي الصالح المطعم، راوي صحيح البخاري وغيره، وقد سمع الكثير من مشايخ عدة وترجمه الشيخ علم الدين البرزالي في تاريخه توفي ليلة السبت رابع عشر ذي الحجة، وصلّي عليه بعد الظهر في اليوم المذكور بالجامع المظفري، ودفن بالساحة بالقرب من تربة المولهين، وله أربع وسبعون سنة رحمه الله تعالى.

ثم دخلت سنة عشرين وسبعمائة

استهلت وحكام البلاد هم المذكورون في التي قبلها، وكان السلطان في هذه السنة في الحج، وعاد إلى القاهرة يوم السبت ثاني عشر المحرم، ودقت البشائر، ورجع الصاحب شمس الدين على طريق الشام وصحبته الأمير ناصر الدين الخازندار، وعاد صاحب حماه مع السلطان إلى القاهرة. وأنعم عليه السلطان ولقب بالملك المؤيد، ورسم أن يخطب له على منابرها وأعمالها، وأن يخطب بالمقام العالي المولوي السلطاني الملكي المؤيدي، على ما كان عليه عمه المنصور.

وفيها: عمّر ابن المرجاني شهاب الدين مسجد الخيف وأنفق عليه نحوا من عشرين ألفا.

وفي المحرم استقال أمين الدين من نظر طرابلس وأقام بالقدس.

وفي آخر صفر باشر نيابة الحكم المالكي القاضي شمس الدين محمد بن أحمد القفصي، وكان قد قدم مع قاضي القضاة شرف الدين من مصر.

وفي يوم الاثنين الخامس والعشرين من ربيع الأول ضربت عنق شخص يقال له عبد الله الرومي وكان غلاما لبعض التجار، وكان قد لزم الجامع، ثم ادّعى النبوة واستتيب فلم يرجع فضربت عنقه وكان أشقر أزرق العينين جاهلا، وكان قد خالطه شيطان حسن له ذلك، واضطرب عقله في نفس الأمر وهو في نفسه شيطان إنسي.

وفي يوم الاثنين ثاني ربيع الآخر عقد عقدُ السلطان على المرأة التي قدمت من بلاد القبجاق، وهي من بنات الملوك، وخلع على القاضي بدر الدين بن جماعة وكاتب السر وكريم الدين وجماعة الأمراء.

ووصلت العساكر في هذا الشهر إلى بلاد سيس وغرق في بحر جاهان من عساكر طرابلس نحو من ألف فارس، وجاءت مراسيم السلطان في هذا اليوم إلى الشام في الاحتياط على أخبار آل مهنا وإخراجهم من بلاد الإسلام، وذلك لغضب السلطان عليهم لعدم قدوم والدهم مهنا على السلطان.

وفي يوم الأربعاء رابع عشرين جمادى الأولى درس بالركنية الشيخ محي الدين الأسمر الحنفي وأخذت منه الجوهرية لشمس الدين البرقي الأعرج، وتدريس جامع القلعة لعماد الدين بن محيي الدين الطرسوسي، الذي ولي قضاء الحنفية بعد هذا، وأخذ من البرقي إمامة مسجد نور الدين له بحارة اليهود، ولعماد الدين بن الكيال، وإمامة الربوة الشيخ محمد الصبيبي.

وفي جمادى الآخرة اجتمعت الجيوش الإسلامية بأرض حلب نحوا من عشرين ألفا، عليهم كلهم نائب حلب الطنبغا وفيهم نائب طرابلس شهاب الدين قرطبة. فدخلوا بلاد الأرمن من إسكندرونة ففتحوا الثغر ثم تل حمدان ثم خاضوا جاهان فغرق منهم جماعة، ثم سلم الله من وصلوا إلى سيس فحاصروها وضيقوا على أهلها وأحرقوا دار الملك التي في البلد، وقطعوا أشجار البساتين وساقوا الأبقار والجواميس والأغنام وكذلك فعلوا بطرسوس، وخربوا الضياع والأماكن وأحرقوا الزروع. ثم رجعوا فخاضوا النهر المذكور فلم يغرق منهم أحد، وأخرجوا بعد رجوعهم مهنا وأولاده من بلادهم وساقوا خلفه إلى عانة وحديثة، ثم بلغ الجيوش موت صاحب سيس وقيام ولده من بعد، فشنوا الغارات على بلاده وتابعوها وغنموا وأسروا إلا في المرة الرابعة فإنه قتل منهم جماعة.

وفي هذه السنة كانت وقعة عظيمة ببلاد المغرب بين المسلمين والفرنج فنصر الله المسلمين على أعدائهم، فقتلوا منهم خمسين ألفا وأسروا خمسة آلاف، وكان في جملة القتلى خمسة وعشرين ملكا من ملوك الإفرنج، وغنموا شيئا كثيرا من الأموال. يقال كان من جملة ما غنموا سبعون قنطارا من الذهب والفضة، وإنما كان جيش الإسلام يومئذ ألفين وخمسمائة فارس غير الرماة، ولم يقتل منهم سوى إحدى عشر قتيلا، وهذا من غريب ما وقع وعجيب ما سمع.

وفي يوم الخميس ثاني عشرين رجب عقد مجلس بدار السعادة للشيخ تقي الدين بن تيمية بحضرة نائب السلطنة، وحضر فيه القضاة والمفتيون من المذاهب، وحضر الشيخ وعاتبوه على العود إلى الإفتاء بمسألة الطلاق، ثم حبس في القلعة فبقي فيها خمسة أشهر وثمانية عشر يوما، ثم ورد مرسوم من السلطان بإخراجه يوم الاثنين يوم عاشوراء من سنة إحدى وعشرين كما سيأتي إن شاء الله تعالى.

وبعد ذلك بأربعة أيام أضيف شد الأوقاف إلى الأمير علاء الدين بن معبد إلى ما بيده من ولاية البر وعزل بدر الدين المنكورسي عن الشام.

وفي آخر شعبان مسك الأمير علاء الدين الجاولي نائب غزة وحمل إلى الإسكندرية لأنه اتهم أنه يريد الدخول إلى دار اليمن، واحتيط على حواصله وأمواله، وكان له بر وإحسان وأوقاف، وقد بنى بغزة جامعا حسنا مليحا.

وفي هذا الشهر أراق ملك التتر أبو سعيد الخمور وأبطل الحانات، وأظهر العدل والإحسان إلى الرعايا، وذلك أنه أصابهم برد عظيم وجاءهم سيل هائل فلجؤوا إلى الله عز وجل، وابتهلوا إليه فسلموا فتابوا وأنابوا وعملوا الخير عقيب ذلك.

وفي العشر الأول من شوال جرى الماء بالنهر الكريمي الذي اشتراه كريم الدين بخمسة وأربعين ألفا وأجراه في جدول إلى جامعه بالقبيبات فعاش به الناس، وحصل به أنس إلى أهل تلك الناحية، ونصبت عليه الأشجار و البساتين، وعمل حوض كبير تجاه الجامع من الغرب يشرب منه الناس والدواب، وهو حوض كبير وعمل مطهرة، وحصل بذلك نفع كثير، ورفق زائد أثابه الله.

وخرج الركب في حادي عشر شوال وأميره الملك صلاح الدين بن الأوحد، وفيه زين الدين كتبغا الحاجب، وكمال الدين الزملكاني، والقاضي شمس الدين بن المعز، وقاضي حماه شرف الدين البازري، وقطب الدين ابن شيخ السلامية وبدر الدين بن العطار، وعلاء الدين بن غانم، ونور الدين السخاوي، وهو قاضي الركب. ومن المصريين قاضي الحنفية ابن الحريري، وقاضي الحنابلة ومجد الدين حرمي والشرف عيسى المالكي، وهو قاضي الركب. وفيه كملت عمارة الحمام الذي عمره الجيبغا غربي دار الطعم ودخله الناس.

وفي أواخر ذي الحجة وصل إلى دمشق من عند ملك التتر الخواجه مجد الدين إسماعيل بن محمد بن ياقوت السلامي، وفي صحبته هدايا وتحف لصاحب مصر من ملك التتر، وأشهر أنه إنما جاء ليصلح بين المسلمين والتتر، فتلقاه الجند والدولة، ونزل بدار السعادة يوما واحدا، ثم سار إلى مصر. وفيها: وقف الناس بعرفات موقفا عظيما لم يعهد مثله، أتوه من جميع أقطار الأرض، وكان مع العراقيين محامل كثيرة منها محمل قوم ما عليه من الذهب واللآلئ بألف ألف دينار مصرية، وهذا أمر عجيب.

من الأعيان:

الشيخ إبراهيم الدهستاني

وكان قد أسن وعمر، وكان يذكر أن عمره حين أخذت التتر بغداد أربعين سنة، وكان يحضر الجمعة هو وأصحابه تحت قبة النسر، إلى أن توفي ليلة الجمعة السابع والعشرين من ربيع الآخر بزاويته التي عند سوق الخيل بدمشق، ودفن بها وله من العمر مائة وأربع سنين، كما قال، فالله أعلم.

الشيخ محمد بن محمود بن علي

الشحام المقرئ شيخ ميعاد ابن عامر، كان شيخا حسنا بهيا مواظبا على تلاوة القرآن إلى أن توفي في ليلة توفي الدهستاني المذكور أو قبله بليلة رحمهما الله.

الشيخ شمس الدين بن الصائغ اللغوي

هو أبو عبد الله محمد بن حسين بن سباع بن أبي بكر الجذامي المصري الأصل، ثم انتقل إلى دمشق، ولد تقريبا سنة خمس وأربعين وستمائة بمصر، وسمع الحديث وكان أديبا فاضلا بارعا بالنظم والنثر، وعلم العروض والبديع والنحو واللغة، وقد اختصر صحاح الجوهري، وشرح مقصورة بن دريد.

وله قصيدة تائية تشتمل على ألفي بيت فأكثر، ذكر فيها العلوم والصنائع، وكان حسن الأخلاق لطيف المحاورة والمحضارة، وكان يسكن بين درب الحبالين والفراش عند بستان القط توفي بداره يوم الاثنين ثالث شعبان ودفن بباب الصغير.

ثم دخلت سنة إحدى وعشرين وسبعمائة

استهلت وحكام البلاد هم المذكورون في التي قبلها.

وفي أول يوم منها فتح حمام الزيت الذي في رأس درب الحجر، جدد عمارته رجل ساوي بعد ما كان قد درس ودثر من زمان الخوارزمية من نحو ثمانين سنة، وهو حمام جيد متسع.

وفي سادس المحرم وصلت هدية من ملك التتار أبي سعيد إلى السلطان صناديق وتحف ودقيق.

وفي يوم عاشوراء خرج الشيخ تقي الدين بن تيمية من القلعة بمرسوم السلطان وتوجه إلى داره، وكانت مدة إقامته خمسة أشهر وثمانية عشر يوما رحمه الله.

وفي رابع ربيع الآخر وصل إلى دمشق القاضي كريم الدين وكيل السلطان فنزل بدار السعادة وقدم قاضي القضاة تقي الدين بن عوض الحاكم الحنبلي بمصر وهو ناظر الخزانة أيضا، فنزل بالعادلية الكبيرة التي للشافعية، فأقام بها أياما، ثم توجه إلى مصر: جاء في بعض أشغال السلطان وزار القدس.

وفي هذا الشهر كان السلطان قد حفر بركة قريبا من الميدان وكان في جوارها كنيسة فأمر الوالي بهدمها، فلما هدمت تسلط الحرافيش وغيرهم على الكنائس بمصر يهدمون ما قدروا، عليه فانزعج السلطان لذلك وسأل القضاة ماذا يجب على من تعاطى ذلك منهم؟ فقالوا: يعزر.

فأخرج جماعة من السجون ممن وجب عليه قتل فقطع وصلب وحرم وحزن وعاقب، موهما أنه إنما عاقب من تعاطي تخريب ذلك، فسكن الناس وأمنت النصارى وظهروا بعد ما كانوا قد اختفوا أياما.

وفيه: ثارت الحرامية ببغداد ونهبوا سوق الثلاثاء وقت الظهر، فثار الناس وراءهم وقتلوا منهم قريبا من مائة وأسروا آخرين.

قال الشيخ علم الدين البرزالي ومن خطه نقلت: وفي يوم الأربعاء السادس من جمادى الأولى خرج القضاة والأعيان والمفتيون إلى القابون ووقفوا على قبلة الجامع الذي أمر ببنائه القاضي كريم الدين وكيل السلطان بالمكان المذكور، وحرروا قبلته واتفقوا على أن تكون مثل قبلة جامع دمشق.

وفيه: وقعت مراجعة من الأمير جوبان أحد المقدمين الكبار، بدمشق، وبين نائب السلطنة تنكز، فمسك جوبان ورفع إلى القلعة ليلتان، ثم حول إلى القاهرة فعوتب في ذلك، ثم أعطي خبزا يليق به.

وذكر علم الدين أن في هذا اليوم وقع حريق عظيم في القاهرة في الدور الحسنة والأماكن المليحة المرتفعة، وبعض المساجد، وحصل للناس مشقة عظيمة من ذلك، وقنتوا في الصلوات ثم كشفوا عن القضية فإذا هو من قبل النصارى بسبب ما كان أحرق من كنائسهم وهدم، فقتل السلطان بعضهم وألزم النصارى أن يلبسوا الزرقاء على رؤوسهم وثيابهم كلها، وأن يحملوا الأجراس في الحمامات، وأن لا يستخدموا في شيء من الجهات، فسكن الأمر وبطل الحريق.

وفي جمادى الآخرة خرب ملك التتار أبو سعيد البازار وزوج الخواطىء وأراق الخمور وعاقب في ذلك أشد العقوبة، وفرح المسلمون بذلك ودعوا له رحمه الله وسامحه.

وفي الثالث عشر من جمادى الآخرة أقيمت الجمعة بجامع القصب، وخطب به الشيخ علي المناخلي.

وفي يوم الخميس تاسع عشر جمادى الآخرة فتح الحمام الذي أنشأه تنكز تجاه جامعه، وأكري في كل يوم بأربعين درهما لحسنه وكثرة ضوئه ورخامه.

وفي يوم السبت تاسع عشر رجب خربت كنيسة القرائيين التي تجاه حارة اليهود بعد إثبات كونها محدثة وجاءت المراسيم السلطانية بذلك.

وفي أواخر رجب نفذت الهدايا من السلطان إلى أبي سعيد ملك التتار، صحبة الخواجا مجد الدين السلامي، وفيها خمسون جملا وخيول وحمار عتابي.

وفي منتصف رمضان أقيمت الجمعة بالجامع الكريمي بالقابون وشهدها يومئذ القضاة والصاحب وجماعة من الأعيان.

قال الشيخ علم الدين: وقدم دمشق الشيخ قوام الدين أمير كاتب ابن الأمير العميد عمر الأكفاني القازاني، مدرّس مشهد الإمام أبي حنيفة ببغداد، في أول رمضان، وقد حج في هذه السنة وتوجه إلى مصر وأقام بها أشهرا ثم مر بدمشق متوجها إلى بغداد فنزل بالخاتونية الحنفية، وهو ذو فنون وبحث وأدب وفقه.

وخرج الركب الشامي يوم الاثنين عاشر شوال وأميره شمس الدين حمزة التركماني، وقاضيه نجم الدين الدمشقي.

وفيها: حج تنكز نائب الشام وفي صحبته جماعة من أهله، وقدم من مصر الأمير ركن الدين بيبرس الحاجب لينوب عنه إلى أن يرجع، فنزل بالنجيبية البرانية.

وممن حج فيها: الخطيب جلال الدين القزويني، وعز الدين حمزة بن القلانسي، وابن العز شمس الدين الحنفي، وجلال الدين بن حسام الدين الحنفي، وبهاء الدين بن علية، وعلم الدين البرزالي ودرّس ابن جماعة بزاوية الشافعي يوم الأربعاء ثامن عشر شوال عوضا عن شهاب الدين أحمد بن محمد الأنصاري لسوء تصرفه، وخلع على ابن جماعة، وحضر عنده من الأعيان والعامة ما نشأ به جمعية الجمعة وأشعلت له شموع كثيرة وفرح الناس بزوال المعزول.

قال البرزالي، ومن خطه نقلت: وفي يوم الأحد سادس عشر شوال ذكر الدرس الإمام العلامة تقي الدين السبكي المحدث بالمدرسة الهكارية عوضا عن ابن الأنصاري أيضا، وحضر عنده جماعة منهم القونوي، وروى في الدرس حديث المتبايعين بالخيار، عن قاضي القضاة ابن جماعة.

وفي شوال عزل علاء الدين بن معبد عن ولاية البر وشد الأوقاف، وتولى ولاية الولاة بالبلاد القبلية بحوران عوضا عن بكتمر لسفره إلى الحجاز، وباشر أخوه بدر الدين شد الأوقاف، والأمير علم الدين الطرقشي ولاية البر مع شد الدواوين، وتوجه ابن الأنصاري إلى حلب متوليا وكالة بيت المال عوضا عن ناصر الدين أخي شرف الدين يعقوب ناظر حلب، بحكم ولاية التاج المذكور نظر الكرك.

وفي يوم عيد الفطر كرب الأمير تمرتاش بن جوبان نائب أبي سعيد على بلاد الروم في قيسارية في جيش كثيف من التتار والتركمان والقرمان، ودخل بلاد سيس فقتل وسبى وحرق وخرب، وكان قد أرسل لنائب حلب الطنبغا ليجهز له جيوشا ليكونون عونا له على ذلك، فلم يمكنه ذلك بغير مرسوم السلطان.

من الأعيان:

الشيخ الصالح المقري بقية السلف:

عفيف الدين أبو محمد عبد الله بن عبد الحق بن عبد الله بن عبد الواحد بن علي القرشي المخزومي الدلاصي

شيخ الحرم بمكة، أقام فيه أزيد من ستين سنة، يقرئ الناس القرآن احتسابا، وكانت وفاته ليلة الجمعة الرابع عشر من محرم بمكة، وله أزيد من تسعين سنة رحمه الله.

الشيخ الفاضل شمس الدين أبو عبد الله

محمد بن أبي بكر بن أبي القاسم الهمداني، أبوه الصالحي المعروف بالسكاكيني، ولد سنة خمس وثلاثين وستمائة بالصالحية، وقرأ بالروايات، واشتغل في مقدمة في النحو، ونظم قويا وسمع الحديث، وخرج له الفخر ابن البعلبكي جزءا عن شيوخه، ثم دخل في التشيع فقرأ على أبي صالح الحلي شيخ الشيعة، وصحب عدنان وقرأ عليه أولاده، وطلبه أمير المدينة النبوية الأمير منصور بن حماد فأقام عنده نحوا من سبع سنين. ثم عاد إلى دمشق وقد ضعف وثقل سمعه، وله سؤال في الخبر أجابه به الشيخ تقي الدين بن تيمية، وكل فيه عنه غيره، وظهر له بعد موته كتاب فيه انتصار لليهود وأهل الأديان الفاسدة فغسله تقي الدين السبكي لما قدم دمشق قاضيا، وكان بخطه، ولما مات لم يشهد جنازته القاضي شمس الدين بن مسلم. توفي يوم الجمعة سادس عشر صفر، ودفن بسفح قاسيون، وقتل ابنه قيماز على قذفه أمهات المؤمنين عائشة وغيرها رضي الله عنهن وقبح قاذفهن.

وفي يوم الجمعة مستهل رمضان صلّي بدمشق على غائبين وهم الشيخ نجم الدين عبد الله بن محمد الأصبهاني، توفي بمكة، وعلى جماعة توفوا بالمدينة النبوية منهم عبد الله بن أبي القاسم بن فرحون مدرس المالكية بها، والشيخ يحيى الكردي، والشيخ حسن المغربي السقا.

الشيخ الإمام العالم علاء الدين

علي بن سعيد بن سالم الأنصاري، إمام مشهد علي من جامع دمشق، كان بشوش الوجه متواضعا حسن الصوت بالقراءة ملازما لإقراء الكتاب العزيز بالجامع، وكان يؤم نائب السلطنة ولده العلامة، بهاء الدين محمد بن علي مدرس الأمينية، ومحتسب دمشق.

توفي ليلة الاثنين رابع رمضان ودفن بسفح قاسيون.

الأمير حاجب الحجاب:

زين الدين كتبغا المنصوري

حاجب دمشق، كان من خيار الأمراء وأكثرهم برا للفقراء، يحب الختم والمواعيد والمواليد وسماع الحديث، ويلزم أهله ويحسن إليهم، وكان ملازما لشيخنا أبي العباس ابن تيمية كثيرا، وكان يحج ويتصدق، توفي يوم الجمعة آخر النهار ثامن عشر شوال، ودفن من الغد بتربته قبلي القبيبات، وشهده خلق كثير وأثنوا عليه رحمه الله.

والشيخ بهاء الدين بن المقدسي والشيخ سعد الدين أبي زكريا يحيى المقدسي، والد الشيخ شمس الدين محمد بن سعد المحدث المشهور.

وسيف الدين الناسخ المنادي على الكتب، والشيخ أحمد الحرام المقرئ على الجنائز، وكان يكرر على التنبيه، ويسأل عن أشياء منا ما هو حسن ومنها ما ليس بحسن.

ثم دخلت سنة ثنتين وعشرين وسبعمائة

استهلت وأرباب الولايات هم المذكورون في التي قبلها، سوى والي البر بدمشق فإنه علم الدين طرقشي، وقد صرف ابن معبد إلى ولاية حوران لشهامته وصرامته وديانته وأمانته.

وفي المحرم حصلت زلزلة عظيمة بدمشق، وقى الله شرها، وقدم تنكز من الحجاز ليلة الثلاثاء حادي عشر المحرم، وكانت مدة غيبته ثلاثة أشهر.

وقدم ليلا لئلا يتكلف أحد لقدومه، وسافر نائب الغيبة عنه قبله بيومين لئلا يكلفه بهدية ولا غيرها، وقدم مغلطاي عبد الواحد الجحدار أحد الأمراء بمصر بخلعة سنية من السلطان لتنكز فلبسها وقبل العتبة على العادة، وفي يوم الأربعاء سادس صفر درس الشيخ نجم الدين القفجازي بالظاهرية للحنيفة، وهو خطيب جامع تنكز، وحضر عنده القضاة والأعيان، ودرس في قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} 5.

وذلك بعد وفاة القاضي شمس الدين بن العز الحنفي، توفي مرجعه من الحجاز، وتولى بعده نيابة القضاء عماد الدين الطرسوسي، وهو زوج ابنته، وكان ينوب عنه في حال غيبته، فاستمر بعده، ثم ولي الحكم بعده، مستنيبه فيها.

وفيه: قدم الخوارزمي حاجبا عوضا عن كتبغا، وفي ربيع الأول قدم إلى دمشق الشيخ قوام الدين مسعود بن الشيخ برهان الدين محمد بن الشيخ شرف الدين محمد الكرماني الحنفي، فنزل بالقصاعين وتردد إليه الطلبة ودخل إلى نائب السلطنة واجتمع به وهو شاب مولده سنة إحدى وسبعين وقد اجتمعت به، وكان عنده مشاركة في الفروع والأصول ودعواه أوسع من محصوله، وكانت لأبيه وجده مصنفات، ثم صار بعد مدة إلى مصر ومات بها كما سيأتي.

وفي ربيع الأول تكامل فتح إياس ومعاملتها وانتزاعها من أيدي الأرمن، وأخذ البرج الأطلس وبينه وبينها في البحر رمية، ونصف فأخذه المسلمون بإذن الله وخربوه، وكانت أبوابه مطلية بالحديد والرصاص، وعرض سوره ثلاثة عشر ذراعا بالنجار، وغنم المسلمون غنائم كثيرة جدا، وحاصروا كواره فقوى عليهم الحر والذباب، فرسم السلطان بعودهم فحرقوا ما كان معهم من المجانيق وأخذوا حديدها وأقبلوا سالمين غانمين، وكان معهم خلق كثير من المتطوعين.

وفي يوم الخميس الثالث والعشرين من جمادى الأولى كمل بسط داخل الجامع فاتسع على الناس، ولكن حصل حرج بحمل الأمتعة على خلاف العادة، فإن الناس كانوا يمرون وسط الرواق ويخرجون من باب البرادة، ومن شاء استمر يمشي إلى الباب الآخر بنعليه، ولم يكن ممنوعا سوى المقصورة لا يمكن أحد الدخول إليها بالمداسات، بخلاف باقي الرواقات، فأمر نائب السلطة بتكميل بسطه بإشارة ناظره ابن مراحل. وفي جمادى الآخرة رجعت العساكر من بلاد سيس ومقدمهم أقوش نائب الكرك.

وفي آخر رجب باشر القاضي محيي الدين بن إسماعيل بن جهبل نيابة الحكم عن ابن صصرى عوضا عن الداراني الجعفري، واستغنى الداراني بخطبة جامع العقبية عنها.

وفي ثالث رجب ركب نائب السلطنة إلى خدمة السلطان فأكرمه وخلع عليه، وعاد في أول شعبان ففرح به الناس.

وفي رجب كملت عمارة الحمام الذي بناه الأمير علاء الدين بن صبيح جوار داره شمالي الشامية البرانية.

وفي يوم الاثنين تاسع شعبان عقد الأمير سيف الدين أبو بكر بن أرغون نائب السلطنة عقده على ابنة الناصر، وختن في هذا اليوم جماعة من أولاد الأمراء بين يديه، ومد سماطا عظيما، ونثرت الفضة على رؤوس المطهرين، وكان يوما مشهودا، ورسم السلطان في هذا اليوم وضع المكس عن المأكولات بمكة، وعوض صاحبها عن ذلك بإقطاع في بلد الصعيد.

وفي أواخر رمضان كملت عمارة الحمام الذي بناه بهاء الدين بن عليم بزقاق الماجية من قاسيون بالقرب من سكنه، وانتفع به أهل تلك الناحية ومن جاورهم.

وخرج الركب الشامي يوم الخميس ثامن شوال وأميره سيف الدين بلبطي نائب الرحبة، وكان سكنه داخل باب الجابية بدرب ابن صبرة، وقاضيه شمس الدين بن النقيب قاضي حمص.

من الأعيان:

القاضي شمس الدين بن العز الحنفي

أبو عبد الله محمد بن الشيخ شرف الدين أبي البركات محمد بن الشيخ عز الدين أبي العز صالح بن أبي العز بن وهيب بن عطاء بن جبير بن كابن بن وهيب الأذرعي الحنفي، أحد مشايخ الحنفية وأئمتهم وفضلائهم في فنون من العلوم متعددة، حكم نيابة نحوا من عشرين سنة.

وكان سديد الأحكام محمود السيرة، جيد الطريقة كريم الأخلاق كثير البر والصلة والإحسان إلى أصحابه وغيرهم، وخطب في جامع الأفرم مدة، وهو أول من خطب به ودرس بالمعظمية واليغمورية والقليجية والظاهرية، وكان ناظر أوقافها، وأذن للناس بالإفتاء، وكان كبيرا معظما مهيبا.

توفي بعد مرجعه من الحج بأيام قلائل، يوم الخميس سلخ المحرم، وصلّي عليه يومئذ بعد الظهر بجامع الأفرم، ودفن عند المعظمية عند أقاربه، وكانت جنازته حافلة، وشهد له الناس بالخير وغبطوه لهذه الموتة رحمه الله.

ودرس بعده في الظاهرية نجم الدين الفقجازي، وفي المعظمية والقليجية والخطابة الأفرم ابنه علاء الدين، وباشر بعده نيابة الحكم القاضي عماد الدين الطرسوسي، مدرس القلعة.

الشيخ الإمام العالم أبو إسحاق بقية السلف رضي الدين:

أبو إسحاق إبراهيم بن محمد بن إبراهيم بن أبي بكر بن محمد بن إبراهيم الطبري المكي الشافعي

إمام المقام أكثر من خمسين سنة، سمع الحديث من شيوخ بلده والواردين إليها ولم يكن له رحلة، وكان يفتي الناس من مدة طويلة، ويذكر أنه اختصر شرح السنة للبغوي.

توفي يوم السبت بعد الظهر ثامن ربيع الأول بمكة، ودفن من الغد، وكان من أئمة المشايخ.

شيخنا العلامة الزاهد ركن الدين بقية السلف ركن الدين:

أبو يحيى زكريا بن يوسف بن سليمان بن حماد البجلي الشافعي

نائب الخطابة، ومدرس الطيبية والأسدية، وله حلقة للاشتغال بالجامع، يحضر بها عنده الطلبة، كان يشتغل في الفرائض وغيرها، مواظبا على ذلك، توفي يوم الخميس الثالث والعشرين من جمادى الأولى عن سبعين سنة، ودفن قريبا من شيخه تاج الدين الفزاري رحمهما الله.

نصير الدين أبو محمد عبد الله بن وجيه الدين أبي عبد الله علي

بن محمد بن علي بن أبي طالب بن سويد بن معالي ابن محمد بن أبي بكر الربعي التغلبي التكريتي أحد صدور دمشق، قدم أبوه قبله إليها وعظم في أيام الظاهر وقبله، وكان مولده في حدود خمسين وستمائة، ولهم الأموال الكثيرة والنعمة الباذخة، توفي يوم الخميس عشرين رجب، ودفن بتربتهم بسفح قاسيون رحمه الله.

وفي يوم الأحد حادي عشر شوال توفي:

شمس الدين محمد بن المغربي

التاجر السفار، باني خان الصنمين الذي على جادة الطريق للسبيل رحمه الله وتقبل منه، وهو في أحسن الأماكن وأنفعها.

الشيخ الجليل نجم الدين

نجم الدين أبو عبد الله الحسين بن محمد بن إسماعيل القرشي المعروف بابن عنقود المصري، كانت له وجاهة وإقدام على الدولة، توفي بكرة الجمعة ثالث عشرين شوال، ودفن بزاويته، وقام بعده فيها ابن أخيه.

شمس الدين محمد بن الحسن

ابن الشيخ الفقيه محيي الدين أبو الهدى أحمد بن الشيخ شهاب الدين أبي شامة، ولد سنة ثلاث وخمسين وستمائة فأسمعه أبوه على المشايخ وقرأ القرآن واشتغل بالفقه وكان ينسخ ويكثر التلاوة ويحضر المدارس والسبع الكبير، توفي في سابع عشرين شوال، ودفن عند والده بمقابر باب الفراديس.

الشيخ العابد جلال الدين جلال الدين

أبو إسحاق إبراهيم بن زين الدين محمد بن أحمد بن محمود بن محمد العقيلي المعروف بابن القلانسي، ولد سنة أربع وخمسين وستمائة، وسمع على ابن عبد الدائم جزء ابن عرفة، ورواه غير مرة، وسمع على غيره أيضا، واشتغل بصناعة الكتابة والإنشاء ثم انقطع وترك ذلك كله وأقبل على العبادة والزهادة، وبنى له الأمراء بمصر زاوية وترددوا إليه.

وكان فيه بشاشة وفصاحة، وكان ثقيل السمع، ثم انتقل إلى القدس وقدم دمشق مرة فاجتمع به الناس وأكرموه، وحدث بها ثم عاد إلى القدس وتوفي بها ليلة الأحد ثالث ذي القعدة، ودفن بمقابر ماملي رحمه الله، وهو خال المحتسب عز الدين بن القلانسي، وهذا خال الصاحب تقي الدين بن مراحل.

الشيخ الإمام قطب الدين محمد بن عبد الصمد

بن عبد القادر السنباطي المصري، اختصر الروضة وصنف كتاب التعجيز ودرّس بالفاضلية وناب في الحكم بمصر، وكان من أعيان الفقهاء، توفي يوم الجمعة رابع عشر ذي الحجة عن سبعين سنة، وحضر بعده تدريس الفاضلية ضياء الدين المنادي، نائب الحكم بالقاهرة وحضر عنده ابن جماعة، والأعيان والله أعلم.

ثم دخلت سنة ثلاث وعشرين وسبعمائة

استهلت بيوم الأحد في كانون الأصم، والحكام هم المذكورون في التي قبلها، غير أن والي البر بدمشق هو الأمير علاء الدين علي بن الحسن المرواني، باشرها في صفر من السنة الماضية.

وفي صفر من هذه السنة باشر ولاية المدينة الأمير شهاب الدين بن يرق عوضا عن صارم الدين الجوكنداري.

وفي صفر عوفي القاضي كريم الدين وكيل السلطان من مرض كان قد أصابه، فزينت القاهرة وأشعلت الشموع وجمع الفقراء بالمارستان المنصوري ليأخذوا من صدقته.

فمات بعضهم من الزحام في سلخ ربيع الأول، ودرّس الإمام العلامة المحدّث تقي الدين السبكي الشافعي بالمنصورية بالقاهرة عوضا عن القاضي جمال الدين الزرعي، بمقتضى انتقاله إلى دمشق، وحضر عنده علاء الدين شيخ الشيوخ القونوي الشافعي عوضا عن النجم ابن صصرى، في يوم الجمعة رابع جمادى الأولى، فنزل العادلية وقد قدم على القضاة ومشيخة الشيوخ وقضاء العساكر وتدريس العادلية والغزالية والأتابكية.

وفي يوم الأحد مسك القاضي كريم الدين بن عبد الكريم بن هبة الله بن الشديد وكيل السلطان وكان قد بلغ من المنزلة والمكانة عند السلطان ما لم يصل إليه غيره من الوزراء الكبار واحتيط على أمواله وحواصله، ورسم عليه عند نائب السلطنة، ثم رسم له أن يكون بتربته التي بالقرافة، ثم نفي إلى الشوبك وأنعم عليه بشيء من المال، ثم أذن له بالإقامة بالقدس الشريف برباطه.

ومسك ابن أخيه كريم الدين الصغير ناظر الدواوين، وأخذت أمواله وحبس في البرج، وفرح العامة بذلك ودعوا للسلطان سبب مسكهما، ثم أخرج إلى صفد.

وطلب من القدس أمين الملك عبد الله فوليّ الوزارة بمصر وخلع عليه عودا على بدء، وفرح العامة بذلك وأشعلوا له الشموع، وطلب الصاحب بدر الدين غبريال من دمشق فركب ومعه أموال كثيرة، ثم خوّل أموال كريم الدين الكبير، وعاد إلى دمشق مكرما.

وقدم القاضي معين الدين بن الحشيشي على نظر الجيوش الشامية عوضا عن القطب بن شيخ السلامية عزل عنها، ورسم عليه في العذراوية نحوا من عشرين يوما ثم أذن له في الانصراف إلى منزله مصروفا عنها.

وفي جمادى الأولى عزل طرقشي عن شد الدواوين وتولاها الأمير بكتمر.

وفي ثاني جمادى الآخرة باشر ابن جهبل نيابة الحكم عن الزرعي، وكان قد باشر قبلها بأيام نظر الأيتام عوضا عن ابن هلال.

وفي شعبان أعيد الطرقشي إلى الشد وسافر بكتمر إلى نيابة الإسكندرية، وكان بها إلى أن توفي.

وفي رمضان قدم جماعة من حجاج الشرق وفيهم بنت الملك أبغا بن هولاكو، وأخت أرغون وعمة قازان وخربندا، فأكرمت وأنزلت بالقصر الأبلق، وأجريت عليها الإقامات والنفقات إلى أوان الحج، وخرج الركب يوم الاثنين ثامن شوال وأميره قطلجا الأيوبكري، الذي بالقصاعين وقاضي الركب شمس الدين قاضي القضاة ابن مسلم الحنبلي.

وحج معهم جمال الدين المزي، وعماد الدين بن الشيرجي، وأمين الدين الوافي، وفخر الدين البعلبكي، وجماعة، وفوض الكلام في ذلك إلى شرف الدين بن سعد الدين بن نجيح. كذا أخبرني شهاب الدين الظاهري.

ومن المصريين قاضي القضاة بدر الدين بن جماعة وولده عز الدين وفخر الدين كاتب المماليك، وشمس الدين الحارثي، وشهاب الدين الأذرعي، وعلاء الدين الفارسي.

وفي شوال باشر تقي الدين السبكي مشيخة دار الحديث الظاهرية بالقاهرة بعد زكي الدين المنادي ويقال له عبد العظيم بن الحافظ شرف الدين الدمياطي، ثم انتزعت من السبكي لفتح الدين بن سيد الناس اليعمري، باشرها في ذي القعدة.

وفي يوم الخميس مستهل ذي الحجة خلع على قطب الدين ابن شيخ السلامية وأعيد إلى نظر الجيش مصاحبا لمعين الدين بن الحشيشي، ثم بعد مدة مديدة استقل قطب الدين بالنظر وحده وعزل ابن حشيش.

من الأعيان:

الإمام المؤرخ كمال الدين الفوطي

أبو الفضل عبد الرزاق أحمد بن محمد بن أحمد بن الفوطي عمر بن أبي المعالي الشيباني البغدادي، المعروف بابن الفوطي، وهو جده لأمه، ولد سنة اثنتين وأربعين وستمائة ببغداد، وأسر في واقعة التتار ثم تخلص من الأسر، فكان مشارفا على الكتب بالمستنصرية، وقد صنف تاريخا في خمس وخمسين مجلدا، وآخر في نحو عشرين، وله مصنفات كثيرة، وشعر حسن، وقد سمع الحسن من محيي الدين بن الجوزي، توفي ثالث المحرم ودفن بالشونيزية.

قاضي القضاة نجم الدين بن صصرى

أبو العباس أحمد بن العدل عماد الدين بن محمد بن العدل أمين الدين سالم بن الحافظ المحدث بهاء الدين أبي المواهب بن هبة الله بن محفوظ بن الحسن بن الحسن بن محمد بن الحسن بن أحمد بن محمد بن صصرى التغلبي الربعي الشافعي قاضي القضاة بالشام، ولد في ذي القعدة سنة خمس وخمسين وستمائة.

وسمع الحديث واشتغل وحصل وكتب عن القاضي شمس الدين بن خلكان وفيات الأعيان، وسمعها عليه، وتفقه بالشيخ تاج الدين الفزاري، وعلى أخيه شرف الدين في النحو، وكان له يد في الإنشاء وحسن العبارة، ودرذس بالعادلية الصغيرة سنة ثنتين وثمانين، وبالأمينية سنة تسعين، وبالغزالية سنة أربع وتسعين.

وتولى قضاء العساكر في دولة العادل كتبغا، ثم تولى قضاء الشام سنة ثنتين وسبعمائة، بعد ابن جماعة حين طلب لقضاء مصر، بعد ابن دقيق العيد.

ثم أضيف إليه مشيخة الشيوخ مع تدريس العادلية والغزالية والأتابكية، وكلها مناصب دنيوية انسلخ منها وانسلخت منه، ومضى عنها وتركها لغيره، وأكبر أمنيته بعد وفاته أنه لم يكن تولاها وهي متاع قليل من حبيب مفارق، وقد كان رئيسا محتشما وقورا كريما جميل الأخلاق، معظما عند السلطان والدولة.

توفي فجأة ببستانه بالسهم ليلة الخميس سادس عشر ربيع الأول وصلّي عليه بالجامع المظفري، وحضر جنازته نائب السلطنة والقضاة والأمراء والأعيان، وكانت جنازته حافلة ودفن بتربتهم عند الركنية.

علاء الدين علي بن محمد

ابن عثمان بن أحمد بن أبي المنى بن محمد بن نحلة الدمشقي الشافعي، ولد سنة ثمان وخمسين وستمائة وقرأ (المحرر)، ولازم الشيخ زين الدين الفارقي ودرّس بالدولعية والركنية، وناظر بيت المال، وابتنى دارا حسنة إلى جانب الركنية، ومات وتركها في ربيع الأول، ودرّس بعده بالدولعية القاضي جمال الدين بن جملة، وبالركنية القاضي ركن الدين الخراساني.

وفي ربيع الأول قتل:

الشيخ ضياء الدين

عبد الله الزربندي النحوي، كان قد اضطرب عقله فسافر من دمشق إلى القاهرة فأشار شيخ الشيوخ القونوي فأودع بالمارستان فلم يوافق ثم دخل إلى القلعة وبيده سيف مسلول فقتل نصرانيا، فحمل إلى السلطان وظنوه جاسوسا فأمر بشنقه فشنق، وكنت ممن اشتغل عليه في النحو.

الشيخ الصالح المقري الفاضل

شهاب الدين أحمد بن الطبيب بن عبيد الله الحلي العزيزي الفوارسي المعروف بابن الحلبية، سمع من خطيب مرداو ابن عبد الدائم، واشتغل وحصل وأقرأ الناس، وكانت وفاته في ربيع الأول عن ثمان وسبعين سنة، ودفن بالسفح.

شهاب الدين أحمد بن محمد

ابن قطنية الذرعي التاجر المشهور بكثرة الأموال والبضائع والمتاجر، قيل بلغت زكاة ماله في سنة قازان خمسة وعشرين ألف دينار، وتوفي في ربيع الآخر من هذه السنة، ودفن بتربته التي بباب بستانه المسمى بالمرفع عند ثورا، في طريق القابون، وهي تربة هائلة، وكانت له أملاك.

القاضي الإمام جمال الدين

أبو بكر بن عباس بن عبد الله الخابوري، قاضي بعلبك، وأكبر أصحاب الشيخ تاج الدين الفزاري، قدم من بعلبك ليلتقي بالقاضي الذرعي فمات بالمدرسة البادرائية ليلة السبت السابع جمادى الأولى ودفن بقاسيون، وله من العمر سبعون سنة أضغاث حلم.

الشيخ المعمر المسن جمال الدين

عمر بن إلياس بن الرشيد البعلبكي التاجر، ولد سنة ثنتين وستمائة، وتوفي في ثاني عشر جمادى الأولى عن مائة وعشرين سنة، ودفن بمطحا رحمه الله.

الشيخ الإمام المحدث صفي الدين القرافي

صفي الدين أبو الثناء محمود بن أبي بكر بن محمد الحسني بن يحيى بن الحسين الأرموي، الصوفي، ولد سنة ست وأربعين وستمائة، وسمع الكثير ورحل وطلب وكتب الكثير، وذيل على (النهاية) لابن الأثير، وكان قد قرأ (التنبيه) واشتغل في اللغة فحصل منها طرفا جيدا.

ثم اضطرب عقله في سنة سبع وسبعين وغلبت عليه السوداء، وكان يفيق منها في بعض الأحيان فيذاكر صحيحا ثم يعترضه المرض المذكور، ولم يزل كذلك حتى توفي في جمادى الآخرة من هذه السنة في المارستان النوري، ودفن بباب الصغير.

الخاتون المصونة

خاتون بنت الملك الصالح إسماعيل ابن العادل بن أبي بكر بن أيوب بن شادي بدارها، وتعرف بدار كافور، وكانت رئيسة محترمة، ولم تتزوج قط، وليس في طبقتها من بني أيوب غيرها في هذا الحين، توفيت يوم الخميس الحادي والعشرين من شعبان، ودفنت بتربة أم الصالح رحمهما الله.

شيخنا الجليل المعمر الرحلة بهاء الدين

بهاء الدين أبو القاسم ابن الشيخ بدر الدين أبي غالب المظفر بن نجم الدين بن أبي الثناء محمود ابن الإمام تاج الأمناء أبي الفضل أحمد بن محمد بن الحسن بن هبة الله بن عبد الله بن الحسين بن عساكر الدمشقي الطبيب المعمر، ولد سنة تسع وعشرين وستمائة، سمع حضورا وسماعا على الكثير من المشايخ، وقد خرج له الحافظ علم الدين البرزالي مشيخة سمعناها عليه في سنة وفاته، وكذلك خرج له الحافظ صلاح الدين العلائي عوالي من حديثه، وكتب له المحدث المفيد ناصر الدين بن طغربك مشيخة في سبع مجلدات تشتمل على خمسمائة وسبعين شيخا، سماعا وإجازة وقرئت عليه فسمعها الحافظ وغيرهم.

قال البرزالي: وقد قرأت عليه ثلاثا وعشرين مجلدا بحذف المكررات، ومن الأجزاء خمسمائة وخمسين جزء بالمكررات.

قال: وكان قد اشتغل بالطب، وكان يعالج الناس بغير أجرة، وكان يحفظ كثيرا من الأحاديث والحكايات والأشعار، وله نظم وخدم من عدة جهات الكتابة، ثم ترك ذلك ولزم بيته، وإسماع الحديث وتفرد في آخر عمره في أشياء كثيرة، وكان سهلا في التسميع، ووقف آخر عمره داره دار حديث، وخص الحافظ البرزالي والمزي بشيء من بره، وكانت وفاته يوم الاثنين وقت الظهر خامس وعشرين شعبان، ودفن بقاسيون رحمه الله.

الوزير ثم الأمير نجم الدين

حمد بن الشيخ فخر الدين عثمان بن أبي القاسم البصراوي الحنفي، درس ببصرى بعد عمه القاضي صدر الدين الحنفي، ثم ولي الحسبة بدمشق ونظر الخزانة، ثم ولي الوزارة، ثم سأل الإقالة منها فعوض بإمرية عشرة عنها بإقطاع هائل، وعومل في ذلك معاملة الوزراء في حرمته ولبسته، حتى كانت وفاته ببصرى يوم الخميس ثامن عشرين شعبان، ودفن هناك، وكان كريما ممدحا وهابا نهابا كثير الصدقة والإحسان إلى الناس، ترك أموالا وأولادا ثم تفانوا كلهم بعده وتفرقت أمواله، ونكحت نساؤه وسكنت منازله.

الأمير صارم الدين بن قراسنقر الجوكندار

مشد الخاص، ثم ولي بدمشق ولاية ثم عزل عنها قبل موته بستة أشهر، توفي تاسع رمضان ودفن بتربته المشرفة المبيضة شرقي مسجد النارنج كان قد أعدها لنفسه.

الشيخ أحمد الأعقف الحريري

شهاب الدين أحمد بن حامد بن سعيد التنوخي الحريري، ولد سنة أربع وأربعين وستمائة، واشتغل في صباه على الشيخ تاج الدين الفزاري في التنبيه، ثم صحب الحريرية وخدمهم ولزم مصاحبة الشيخ نجم الدين بن إسرائيل، وسمع الحديث، وحج غير مرة، وكان مليح الشكل كثير التودد إلى الناس، حسن الأخلاق، توفي يوم الأحد ثالث عشرين رمضان بزاويته بالمزة، ودفن بمقبرة المزة، وكانت جنازته حافلة.

وفي يوم الجمعة ثامن عشرين رمضان صلّي بدمشق على غائب وهو الشيخ هارون المقدسي، توفي ببعلبك في العشر الأخير من رمضان، وكان صالحا مشهورا عند الفقراء، وفي يوم الخميس ثالث ذي القعدة توفي:

الشيخ المقري أبو عبد الله

محمد بن إبراهيم بن يوسف بن غصن الأنصاري القصري ثم السبتي بالقدس، ودفن بماملي، وكانت له جنازة حافلة حضرها كريم الدين والناس مشاة، ولد سنة ثلاث وخمسين وستمائة، وكان شيخا مهيبا أحمر اللحية من الحناء، اجتمعت به وبحثت معه في هذه السنة حين زرت القدس الشريف، وهي أول زيارة زرته، وكان مالكي المذهب، قد قرأ الموطأ في ثمانية أشهر، وأخذ النحو عن أبي الربيع شارح المجمل للزجاجي من طريق شريح.

شيخنا الأصيل شمس الدين

شمس الدين أبو نصر بن محمد بن عماد الدين أبي الفضل محمد بن شمس الدين أبي نصر محمد بن هبة الله بن محمد بن يحيى بن بندار بن مميل الشيرازي، مولده في شوال سنة تسع وعشرين وستمائة، وسمع الكثير وأسمع وأفاد في علية شيخنا المزي تغمده الله برحمته، قرأ عليه عدة أجزاء بنفسه أثابه الله وكان شيخا حسنا خيرا مباركا متواضعا، يذهب الربعات والمصاحف، له في ذلك يد طولى، ولم يتدنس بشيء من الولايات، ولا تدنس بشيء من وظائف المدارس ولا الشهادات، إلى أن توفي في يوم عرفة ببستانه من المزة، وصلّي عليه بجامعها ودفن بتربتها رحمه الله.

الشيخ العابد أبو بكر

أبو بكر بن أيوب بن سعد الذرعي الحنبلي، قيم الجوزية، كان رجلا صالحا متعبدا قليل التكلف، وكان فاضلا، وقد سمع شيئا من دلائل النبوة عن الرشيدي العامري، توفي فجأة ليلة الأحد تاسع عشر ذي الحجة بالمدرسة الجوزية، وصلّي عليه بعد الظهر بالجامع، ودفن بباب الصغير وكانت جنازته حافلة، وأثنى عليه الناس خيرا رحمه الله، وهو والد العلامة شمس الدين محمد بن قيم الجوزية صاحب المصنفات الكثيرة النافعة الكافية.

الأمير علاء الدين بن شرف الدين

محمود بن إسماعيل بن معبد البعلبكي أحد أمراء الطبلخانات، كان والده تاجرا ببعلبك فنشأ ولده هذا واتصل بالدولة، علت منزلته، حتى أعطي طبلخانة وباشر ولاية البريد بدمشق مع شد الأوقاف ثم صرف إلى ولاية الولاة بحوران، فاعترضه مرض، وكان سبط البدن عبله، فسأل أن يقال فأجيب فأقام ببستانه بالمزة إلى أن توفي في خامس عشرين ذي الحجة، وصلّي عليه هناك، ودفن بمقبرة المزة، كان من خيار الأمراء وأحسنهم، مع ديانة وخير سامحه الله.

وفي هذا اليوم توفي:

الفقيه الناسك شرف الدين الحراني

شرف الدين أبو عبد الله محمد بن محمد بن سعد الله بن عبد الأحد بن سعد الله بن عبد القاهر بن عبد الواحد بن عمر الحراني، المعروف بابن النجيح، توفي في وادي بني سالم، فحمل إلى المدينة فغسل وصلّي عليه في الروضة ودفن بالبقيع شرقي قبر عقيل، فغبطه الناس في هذه الموتة وهذا القبر، رحمه الله.

وكان ممن غبطه الشيخ شمس الدين بن مسلم قاضي الحنابلة، فمات بعده ودفن عنده وذلك بعده بثلاث سنين رحمهما الله.

وجاء يوم حضر جنازة الشيخ شرف الدين محمد المذكور شرف الدين بن أبي العز الحنفي قبل ذلك بجمعة، مرجعه من الحج بعد انفصاله عن مكة بمرحلتين، فغبط الميت المذكور بتلك الموتة فرزق مثلها بالمدينة.

وقد كان شرف الدين بن نجيح هذا قد صحب شيخنا العلام تقي الدين بن تيمية، وكان معه في مواطن كبار صعبة لا يستطيع الإقدام عليها إلا الأبطال الخلص الخواص، وسجن معه، وكان من أكبر خدامه وخواص أصحابه، ينال فيه الأذى وأوذي بسببه مرات، وكلما له في ازدياد محبة فيه وصبرا على أذى أعدائه.

وقد كان هذا الرجل في نفسه وعند الناس جيدا مشكور السيرة جيد العقل والفهم، عظيم الديانة والزهد، ولهذا كانت عاقبته هذه الموتة عقيب الحج، وصلّي عليه بروضة مسجد رسول الله ، ودفن بالبقيع بقيع الفرقد بالمدينة النبوية، فختم له بصالح عمله، وقد كان كثير من السلف يتمنى أن يموت عقيب عمل صالح يعمله، وكانت له جنازة حافلة رحمه الله تعالى، والله سبحانه أعلم.

ثم دخلت سنة أربع وعشرين وسبعمائة

استهلت والحكام هم المذكورون في التي قبلها: الخليفة المستكفي بالله أبو الربيع سليمان بن الحاكم بأمر الله العباسي، وسلطان البلاد الملك الناصر، ونائبه بمصر سيف الدين أرغون ووزيره أمين الملك، وقضاته بمصر هم المذكورون في التي قبلها، ونائبه بالشام تنكز، وقضاة الشام الشافعي جمال الدين الذرعي، والحنفي الصدر علي البصراوي، والمالكي شرف الدين الهمداني. والحنبلي شمس الدين بن مسلم، وخطيب الجامع الأموي جلال الدين القزويني، ووكيل بيت المال جمال الدين بن القلانسي، ومحتسب البلد فخر الدين بن شيخ السلامية، وناظر الدواوين شمس الدين غبريال ومشد الدواوين علم الدين طرقشي، وناظر الجيش قطب الدين بن شيخ السلامية، ومعين الدين بن الخشيش، وكاتب السر شهاب الدين محمود، ونقيب الأشراف شرف الدين بن عدنان، وناظر الجامع بدر الدين بن الحداد، وناظر الخزانة عز الدين بن القلانسي، ووالي البر علاء الدين بن المرواني، ووالي دمشق شهاب الدين برق.

وفي خامس عشر ربيع الأول باشر عز الدين بن القلانسي الحسبة عوضا عن ابن شيخ السلامية مع نظر الخزانة، وفي هذا الشهر حمل كريم الدين وكيل السلطان من القدس إلى الديار المصرية، فاعتقل ثم أخذت منه أموال وذخائر كثيرة، ثم نفي إلى الصعيد وأجري عليه نفقات سلطانية له ولمن معه من عياله، وطلب كريم الدين الصغير وصودر بأموال جمة.

وفي يوم الجمعة الحادي عشر من ربيع الآخر قرئ كتاب السلطان بالمقصورة من الجامع الأموي بحضرة نائب السلطنة والقضاة، يتضمن إطلاق مكس الغلة بالشام المحروس جميعه، فكثرت الأدعية للسلطان، وقدم البريد إلى نائب الشام يوم الجمعة خامس عشرين ربيع الآخر بعزل قاضي الشافعية الذرعي. فبلغه ذلك فامتنع بنفسه من الحكم، وأقام بالعادلية بعد العزل خمسة عشر يوما ثم انتقل منها إلى الأتابكية، واستمرت بيده مشيخة الشيوخ وتدريس الأتابكية، واستدعى نائب السلطان شيخنا الإمام الزاهد برهان الدين الفزاري، فعرض عليه القضاء فامتنع فألح عليه بكل ممكن فأبى وخرج من عنده فأرسل في أثره الأعيان إلى مدرسته فدخلوا عليه بكل حيلة فامتنع من قبول الولاية، وصمم أشد التصميم جزاه الله خيرا عن مروءته.

فلما كان يوم الجمعة جاء البريد فأخبر بتوليته قضاء الشام، وفي هذا اليوم خلع على تقي الدين سليمان بن مراجل بنظر الجامع عوضا عن بدر الدين بن الحداد توفي، وأخذ من ابن مراجل نظر المارستان الصغير لبدر الدين بن العطار، وخسف القمر ليلة الخميس للنصف من جمادى الآخرة بعد العشاء، فصلى الخطيب صلاة الكسوف بأربع سور: ق، واقتربت، والوقعة، والقيامة، ثم صلى العشاء ثم خطب بعدها ثم أصبح فصلى بالناس الصبح، ثم ركب على البريد إلى مصر فرزق من السلطان فتولاه وولاه بعد أيام القضاء، ثم كرّ راجعا إلى الشام فدخل دمشق في خامس رجب على القضاء مع الخطابة وتدريس العادلية والغزالية، فباشر ذلك كله، وأخذت منه الأمينية فدرّس فيها جمال الدين بن القلانسي، مع وكالة بيت المال، وأضيف إليه قضاء العساكر وخوطب بقاضي القضاة جلال الدين القزويني.

وفيها: قدم ملك التكرور إلى القاهرة بسبب الحج في خامس عشرين رجب، فنزل بالقرافة ومعه من المغاربة والخدم نحو من عشرين ألفا، ومعهم ذهب كثير بحيث إنه نزل سعر الذهب درهمين في كل مثقال، ويقال له الملك الأشرف موسى بن أبي بكر، وهو شاب جميل الصورة، له مملكة متسعة مسيرة ثلاث سنين. ويذكر أن تحت يده أربعة وعشرين ملكا، كل ملك تحت يده خلق وعساكر، ولما دخل قلعة الجبل ليسلم على السلطان أمر بتقبيل الأرض فامتنع من ذلك، فأكرمه السلطان، ولم يمكن من الجلوس أيضا حتى خرج من بين يدي السلطان وأحضر له حصان أشهب بزناري أطلس أصفر، وهيئت له هجن وآلات كثيرة تليق بمثله. وأرسل هو إلى السلطان أيضا بهدايا كثيرة من جملتها أربعون ألف دينار، إلى النائب بنحو عشرة آلاف دينار، وتحف كثيرة.

وفي شعبان ورمضان زاد النيل بمصر زيادة عظيمة، لم ير مثلها من نحو مائة سنة أو أزيد منها ومكث على الأراضي نحو ثلاثة أشهر ونصف، وغرق أقصابا كثيرة، ولكن كان نفعه أعظم من ضره.

وفي يوم الخميس ثامن عشر شعبان استناب القاضي جلال الدين القزويني نائبين في الحكم، وهما يوسف بن إبراهيم بن جملة المحجي الصالحي، وقد ولي القضاء فيما بعد ذلك كما سيأتي، ومحمد بن علي بن إبراهيم المصري، وحكما يومئذ، ومن الغد جاء البريد ومعه تقليد قضاء حلب للشيخ كمال الدين بن الزملكاني، فاستدعاه نائب السلطنة وفاوضه في ذلك فامتنع. فراجعه النائب ثم راجع السلطان فجاء البريد في ثاني عشر رمضان بإمضاء الولاية فشرع للتأهب لبلاد حلب، وتمادى في ذلك حتى كان خروجه إليها في بكرة يوم الخميس رابع عشر شوال. ودخل حلب يوم الثلاثاء سادس عشرين شوال فأكرم إكراما زائدا، ودرّس بها وألقى علوما أكبر من تلك البلاد، وحصل لهم الشرف بفنونه وفوائده، وحصل لأهل الشام الأسف على دروسه الأنيقة الفائقة، وما أحسن ما قال الشاعر وهو شمس الدين محمد الحناط في قصيدة له مطولة أولها قوله:

أسفت لفقدك جلق الفيحاء * وتباشرت بقدومك الشهباء

وفي ثاني عشر رمضان عزل أمين الملك عن وزارة مصر وأضيفت الوزارة إلى الأمير علاء الدين مغلطاي الحمالي، أستاذ دار السلطان.

وفي أواخر رمضان طلب الصاحب شمس الدين غبريال إلى القاهرة فولي بها نظر الدواوين عوضا عن كريم الدين الصغير، وقدم كريم الدين المذكور إلى دمشق في شوال، فنزل بدار العدل من القصاعين.

وولى سيف الدين قديدار ولاية مصر، وهو شهم سفاك للدماء، فأراق الخمور وأحرق الحشيشة وأمسك الشطار، واستقامت به أحوال القاهرة ومصر، وكان هذا الرجل ملازما لابن تيمية مدة مقامه بمصر.

وفي رمضان قدم إلى مصر الشيخ نجم الدين عبد الرحيم بن الشحام الموصلي من بلاد السلطان أزبك، وعنده فنون من علم الطب وغيره، ومعه كتاب بالوصية به فأعطي تدريس الظاهرية البرانية نزل له عنها جمال الدين بن القلانسي، فباشرها في مستهل ذي الحجة، ثم درّس بالجاروضية.

ثم خرج الركب في تاسع شوال وأميره كوكنجبار المحمدي، وقاضيه شهاب الدين الظاهري.

وممن خرج إلى الحج: برهان الدين الفزاري، وشهاب الدين قرطاي الناصري نائب طرابلس، وصاروحا وشهرى وغيرهم.

وفي نصف شوال زاد السلطان في عدة الفقهاء بمدرسته الناصرية، كان فيها من كل مذهب ثلاثون ثلاثون، فزادهم إلى أربعة وخمسين من كل مذهب، وزادهم في الجوامك أيضا.

وفي الثالث والعشرين منه وجد كريم الدين الكبير وكيل السلطان قد شنق نفسه داخل خزانة له قد أغلقها عليه من داخل: ربط حلقه في حبل وكان تحت رجليه قفص فدفع القفص برجليه فمات في مدينة أسوان، وستأتي ترجمته.

وفي سابع عشر ذي القعدة زينت دمشق بسبب عافية السلطان من مرض كان قد أشفى منه على الموت، وفي ذي القعدة درّس جمال الدين بن القلانسي بالظاهرية الجوانية عوضا عن ابن الزملكاني، سافر على قضاء حلب، وحضر عنده القاضي القزويني، وجاء كتاب صادق من بغداد إلى المولى شمس بن حسان يذكر فيه أن الأمير جوبان أعطى الأمير محمد حسيناه قدحا فيه خمر ليشربه، فامتنع من ذلك أشد الامتناع، فألح عليه وأقسم فأبى أشد الإباء. فقال له: إن لم تشربها وإلا كلفتك أن تحمل ثلاثين تومانا، فقال: نعم أحمل ولا أشربها، فكتب عليه حجة بذلك، وخرج من عنده إلى أمير آخر يقال له: بكتي، فاستقرض منه ذلك المال ثلاثين تومانا فأبى أن يقرضه إلا بربح عشرة توامين، فاتفقا على ذلك، فبعث بكتي إلى جوبان يقول له: المال الذي طلبته من حسيناه عندي فإن رسمت حملته إلى الخزانة الشريفة، وإن رسمت تفرقه على الجيش.

فأرسل جوبان إلى محمد حسيناه فأحضره عنده فقال له: تزن أربعين تومانا ولا تشرب قدحا من خمر؟ قال: نعم، فأعجبه ذلك منه ومزق الحجة المكتوبة عليه، وحظي عنده وحكمه في أموره كلها، وولاه ولايات كتابه، وحصل لجوبان إقلاع ورجوع عن كثير مما كان يتعاطاه، رحم الله حسيناه.

وفي هذه السنة كانت فتنة بأصبهان قتل بسببها ألوف من أهلها، واستمرت الحرب بينهم شهورا.

وفيها: كان غلاء مفرط بدمشق، بلغت الغرارة مائتين وعشرين، وقلت الأقوات.

ولولا أن الله أقام للناس من يحمل لهم الغلة من مصر لاشتد الغلاء وزاد أضعاف ذلك، فكان مات أكثر الناس، واستمر ذلك مدة شهور من هذه السنة، وإلى أثناء سنة خمس وعشرين، حتى قدمت الغلات ورخصت الأسعار ولله الحمد والمنة.

من الأعيان:

توفي في مستهل المحرم:

بدر الدين بن ممدوح بن أحمد الحنفي

قاضي قلعة الروم بالحجاز الشريف، وقد كان عبدا صالحا، حج مرات عديدة، وربما أحرم من قلعة الروم أو حرم بيت المقدس، وصلّي عليه بدمشق صلاة الغائب، وعلى شرف الدين بن العز، وعلى شرف الدين بن نجيح توفوا في أقل من نصف شهر كلهم بطريق الحجاز بعد فراغهم من الحج، وذلك أنهم غبطوا ابن نجيح صاحب الشيخ تقي الدين بن تيمية بتلك الموتة كما تقدم، فرزقوها فماتوا عقيب عملهم الصالح بعد الحج.

الحجة الكبيرة خوندا بنت مكية

زوجة الملك الناصر، وقد كانت زوجة أخيه الملك الأشرف ثم هجرها الناصر وأخرجها من القلعة، وكانت جنازتها حافلة، ودفنت بتربتها التي أنشأتها.

الشيخ محمد بن جعفر بن فرعوش

ويقال له اللباد ويعرف بالمؤله، كان يقرئ الناس بالجامع نحوا من أربعين سنة، وقد قرأت عليه شيئا من القراءات، وكان يعلم الصغار عقد الراء والحروف والمتقنة كالراء ونحوها، وكان متقللا من الدنيا لا يقتني شيئا، وليس له بيت ولا خزانة، إنما كان يأكل في السوق وينام في الجامع، توفي في مستهل صفر وقد جاوز السبعين، ودفن في باب الفراديس رحمه الله.

وفي هذا اليوم توفي بمصر:

الشيخ أيوب السعودي

وقد قارب المائة، أدرك الشيخ أبا السعود وكانت جنازته مشهودة.

ودفن بتربة شيخه بالقرافة وكتب عنه قاضي القضاة تقي الدين السبكي في حياته، وذكر الشيخ أبو بكر الرحبي أنه لم ير مثل جنازته بالقاهرة منذ سكنها رحمه الله.

الشيخ الإمام الزاهد نور الدين

أبو الحسن علي بن يعقوب بن جبريل البكري المصري الشافعي، له تصانيف، وقرأ مسند الشافعي على وزيرة بنت المنجا، ثم إنه أقام بمصر.

وقد كان في جملة من ينكر على شيخ الإسلام ابن تيمية، أراد بعض الدولة قتله فهرب واختفى عنده كما تقدم لما كان ابن تيمية مقيما بمصر، وما مثاله إلا مثال ساقية ضعيفة كدرة لاطمت بحرا عظيما صافيا، أو رملة أرادت زوال جبل، وقد أضحك العقلاء عليه، وقد أراد السلطان قتله فشفع فيه بعض الأمراء، ثم أنكر مرة شيئا على الدولة فنفي من القاهرة إلى بلدة يقال لها: ديروط، فكان بها حتى توفي يوم الاثنين سابع ربيع الآخر، ودفن بالقرافة، وكانت جنازته مشهورة غير مشهودة، وكان شيخه ينكر عليه إنكاره على ابن تيمية، ويقول له أنت لا تحسن أن تتكلم.

الشيخ محمد الباجريقي

الذي تنسب إليه الفرقة الضالة الباجريقية، والمشهور عنهم إنكار الصانع جل جلاله، وتقدست أسماؤه وقد كان والده جمال الدين بن عبد الرحيم بن عمر الموصلي رجلا صالحا من علماء الشافعية، ودرس في أماكن بدمشق، ونشأ ولده هذا بين الفقهاء واشتغل بعض شيء ثم أقبل على السلوك ولازم جماعة يعتقدونه ويزورونه ويرزقونه ممن هو على طريقه، وآخرون لا يفهمونه. ثم حكم القاضي المالكي بإراقة دمه فهرب إلى الشرق، ثم إنه أثبت عداوة بينه وبين الشهود فحكم الحنبلي بحقن دمه فأقام بالقانون مدة سنين حتى كانت وفاته ليلة الأربعاء سادس عشر ربيع الآخر، ودفن بالقرب من مغارة الدم بسفح قاسيون في قبة في أعلى ذيل الجبل تحت المغارة، وله من العمر ستون سنة.

شيخنا القاضي أبو زكريا

محي الدين أبو زكريا يحيى بن الفاضل جمال الدين إسحاق بن خليل بن فارس الشيباني الشافعي اشتغل على النواوي ولازم ابن المقدسي، وولي الحكم بزرع وغيرها، ثم قام بدمشق يشتغل في الجامع، ودرس في الصارمية وأعاد في مدارس عدة إلى أن توفي في سلخ ربيع الآخر ودفن بقاسيون، وقد قارب الثمانين رحمه الله، وسمع كثيرا، وخرج له الذهبي شيئا وسمعنا عليه الدار قطني وغيره.

الفقيه الكبير الصدر الإمام العالم الخطيب بالجامع بدر الدين

أبو عبد الله محمد بن عثمان بن يوسف بن محمد بن الحداد الآمدي الحنبلي، سمع الحديث واشتغل وحفظ المحرر في مذهب أحمد وبرع على ابن حمدان وشرحه عليه في مدة سنين، وقد كان ابن حمدان يثني عليه كثيرا وعلى ذهنه وذكائه، ثم اشتغل بالكتابة ولزم خدمة الأمير قراسنقر بحلب، فولاه نظر الأوقاف وخطابة حلب بجامعها الأعظم.

ثم لما صار إلى دمشق ولاه خطابة الأموي فاستمر خطيبا فيها اثنين وأربعين يوما، ثم أعيد إليها جلال الدين القزويني، ثم ولي نظر المارستان والحسبة ونظر الجامع الأموي، وعين لقضاء الحنابلة في وقت، ثم توفي ليلة الأربعاء سابع جمادى الآخرة ودفن بباب الصغير رحمه الله.

الكاتب المفيد قطب الدين

أحمد بن مفضل بن فضل الله المصري، أخو محيي الدين كاتب تنكز، والد الصاحب علم الدين كان خبيرا بالكتابة وقد ولي استيفاء الأوقاف بعد أخيه، وكان أسن من أخيه، وهو الذي علّمه صناعة الكتابة وغيرها، توفي ليلة الاثنين ثاني رجب وعمل عزاؤه بالسميساطية، وكان مباشر أوقافها.

الأمير الكبير ملك العرب محمد بن عيسى بن مهنا

أخو مهنا، توفي بسلمية يوم السبت سابع رجب، وقد جاوز الستين كان مليح الشكل حسن السيرة عاملا عارفا رحمه الله.

وفي هذا الشهر وصل الخبر إلى دمشق بموت:

الوزير الكبير علي شاه بن أبي بكر التبريزي

وزير أبي سعيد بعد قتل سعد الدين الساوي، وكان شيخا جليلا فيه دين وخير، وحمل إلى تبريز فدفن بها في الشهر الماضي رحمه الله.

الأمير سيف الدين بكتمر

والي الولاة صاحب الأوقاف في بلدان شتى: من ذلك مدرسة بالصلب، وله درس بمدرسة أبي عمر وغير ذلك، توفي بالإسكندرية، وهو نائبها خامس رمضان رحمه الله.

شرف الدين أبو عبد الله

محمد ابن الشيخ الإمام العلامة زين الدين بن المنجا بن عثمان بن أسعد بن المنجا التنوخي الحنبلي، أخو قاضي القضاة علاء الدين، سمع الحديث ودرس وأفتى، وصحب الشيخ تقي الدين بن تيمية، وكان فيه دين ومودة وكرم وقضاء حقوق كثيرة، توفي ليلة الاثنين رابع شوال، وكان مولده في سنة خمس وسبعين وستمائة، ودفن بتربتهم بالصالحية.

الشيخ حسن الكردي الموله

كان يخالط النجاسات والقاذورات، ويمشي حافيا، وربما تكلم بشيء من الهذيانات التي تشبه علم المغيبات، وللناس فيه اعتقاد كما هو المعروف من أهل العمى والضلالات، مات في شوال.

كريم الدين الذي كان وكيل السلطان

عبد الكريم بن العلم هبة الله المسلماني، حصل له من الأموال والتقدم والمكانة الخطيرة عند السلطان ما لم يحصل لغيره في دولة الأتراك، وقد وقف الجامعين بدمشق أحدهما جامع القبيبات والحوض الكبير الذي تجاه باب الجامع، واشترى له نهر ماء بخمسين ألفا فانتفع به الناس انتفاعا كثيرا، ووجدوا رفقا، والثاني الجامع الذي بالقابون.

وله صدقات كثيرة تقبل الله منه وعفا عنه، وقد مسك في آخر عمره ثم صودر ونفي إلى الشوبك، ثم إلى القدس، ثم الصعيد فخنق نفسه كما قيل بعمامته بمدينة أسوان، وذلك في الثالث والعشرين من شوال، وقد كان حسن الشكل تام القامة، ووجد له بعد موته ذخائر كثيرة سامحه الله.

الشيخ الإمام العالم علاء الدين علي بن إبراهيم

بن داود بن سليمان بن العطار، شيخ دار الحديث النورية، ومدرس القوصية بالجامع، ولد يوم عيد الفطر سنة أربع وخمسين وستمائة، وسمع الحديث واشتغل على الشيخ محيي الدين النواوي ولازمه حتى كان يقال له مختصر النواوي.

وله مصنفات وفوائد ومجاميع وتخاريج، وباشر مشيخة النورية من سنة أربع وتسعين إلى هذه السنة، مدة ثلاثين سنة، توفي يوم الاثنين منها مستهل ذي الحجة فولي بعده النورية علم الدين البرزالي، وتولى الغوصية شهاب الدين بن حرز الله وصلّي عليه بالجامع، ودفن بقاسيون رحمه الله، والله سبحانه أعلم.

ثم دخلت سنة خمس وعشرين وسبعمائة

استهلت وحكام البلاد هم المذكورون في التي قبلها، وأولها يوم الأربعاء.

وفي خامس صفر منها: قدم إلى دمشق الشيخ شمس الدين محمود الأصبهاني بعد مرجعه من الحج وزيارة القدس الشريف وهو رجل فاضل له مصنفات منها: شرح مختصر ابن الحاجب، وشرح التجريد وغير ذلك، ثم إنه شرح الحاجبية أيضا وجمع له تفسيرا بعد صيرورته إلى مصر، ولما قدم إلى دمشق أكرم واشتغل عليه الطلبة، وكان حظيا عند القاضي جلال الدين القزويني، ثم إنه ترك الكل وصار يتردد إلى الشيخ تقي الدين بن تيمية وسمع عليه من مصنفاته ورده على أهل الكلام، ولازمه مدة فلما مات الشيخ تقي الدين تحول إلى مصر وجمع التفسير.

وفي ربيع الأول جرد السلطان تجريدة نحو خمسة آلاف إلى اليمن لخروج عمه عليه، وصحبتهم خلق كثير من الحجاج، منهم الشيخ فخر الدين النويري.

وفيها: منع شهاب الدين بن مري البعلبكي من الكلام على الناس بمصر، على طريقة الشيخ تقي الدين بن تيمية، وعزره القاضي المالكي بسبب الاستغاثة، وحضر المذكور بين يدي السلطان وأثنى عليه جماعة من الأمراء، ثم سفر إلى الشام بأهله فنزل ببلاد الخليل، ثم انتزح إلى بلاد الشرق وأقام بسنجار وماردين ومعاملتهما يتكلم ويعظ الناس إلى أن مات رحمه الله كما سنذكره.

وفي ربيع الآخر عاد نائب الشام من مصر وقد أكرمه السلطان والأمراء.

وفي جمادى الأولى وقع بمصر مطر لم يسمع بمثله بحيث زاد النيل بسببه أربع أصابع، وتغير أياما.

وفيه: زادت دجلة ببغداد حتى غرقت ما حول بغداد وانحصر الناس بها ستة أيام لم تفتح أبوابها، وبقيت مثل السفينة في وسط البحر، وغرق خلق كثير من الفلاحين وغيرهم، وتلف للناس ما لا يعمله إلا الله، وودع أهل البلد بعضهم بعضا، ولجأوا إلى الله تعالى وحملوا المصاحف على رؤوسهم في شدة الشوق في أنفسهم حتى القضاة والأعيان، وكان وقتا عجيبا، ثم لطف الله بهم فغيض الماء وتناقص، وتراجع الناس إلى ما كانوا عليه من أمورهم الجائرة وغير الجائرة.

وذكر بعضهم انه غرق بالجانب الغربي نحو من ستة آلاف وستمائة بيت، وإلى عشرة سنين لا يرجع ما غرق.

وفي أوائل جمادى الآخرة فتح السلطان خانقاه سرياقوس التي أنشأها وساق إليها خليجا وبنى عندها محلة، وحضر السلطان بها ومعه القضاة والأعيان والأمراء وغيرهم. ووليها مجد الدين الأقصرائي، وعمل السلطان بها وليمة كبيرة، وسمع على قاضي القضاة ابن جماعة عشرين حديثا بقراءة ولده عز الدين بحضرة الدولة منهم أرغون النائب، وشيخ الشيوخ القونوي وغيرهم، وخلع على القارئ عز الدين وأثنوا عليه ثناء زائدا، وأجلس مكرما، وخلع أيضا على والده ابن جماعة وعلى المالكي وشيخ الشيوخ، وعلى مجد الدين الأقصرائي شيخ الخانقاه المذكورة، وغيرهم.

وفي يوم الأربعاء رابع عشر رجب درس بقبة المنصورية في الحديث الشيخ زين الدين بن الكتاني الدمشقي، بإشارة نائب الكرك وأرغون، وحضر عنده الناس، وكان فقيها جيدا، وأما الحديث فليس من فنه ولا من شغله.

وفي أواخر رجب قدم الشيخ زين الدين بن عبد الله بن المرحل من مصر على تدريس الشامية البرانية، وكانت بيد ابن الزملكاني فانتقل إلى قضاء حلب، فدرّس بها في خامس شعبان وحضر القاضي الشافعي وجماعة.

وفي سلخ رجب قدم القاضي عز الدين بن بدر الدين بن جماعة من مصر ومعه ولده، وفي صحبته الشيخ جمال الدين الدمياطي وجماعة من الطلبة بسبب سماع الحديث، فقرأ بنفسه وقرأ الناس له واعتنوا بأمره، وسمعنا معهم وبقراءته شيئا كثيرا، نفعهم الله بما قرأوا وبما سمعوا، ونفع بهم.

وفي يوم الأربعاء ثاني عشر شوال درس الشيخ شمس الدين بن الأصبهاني، بالرواحية بعد ذهاب ابن الزملكاني إلى حلب، وحضر عنده القضاة والأعيان، وكان فيهم شيخ الإسلام ابن تيمية، وجرى يومئذ بحث في العام إذا خص، وفي الاستثناء بعد النفي ووقع إنتشار وطال الكلام في ذلك المجلس، وتكلم الشيخ تقي الدين كلاما أبهت الحاضرين.

وتأخر ثبوت عيد الفطر إلى قريب الظهر يوم العيد، فلما ثبت دقت البشائر وصلى الخطيب العيد من الغد بالجامع، ولم يخرج الناس إلى المصلى، وتغضب الناس على المؤذنين وسجن بعضهم.

وخرج الركب في عاشره وأميره صلاح الدين بن أيبك الطويل، وفي الركب صلاح الدين بن أوحد، والمنكورسي، وقاضيه شهاب الدين الظاهر.

وفي سابع عشره درس بالرباط الناصري بقاسيون حسام الدين القزويني الذي كان قاضي طرابلس، قايضه بها جمال الدين بن الشريشني إلى تدريس المسرورية، وكان قد جاء توقيعه بالعذراوية والظاهرية فوقف في طريقه قاضي القضاة جمال الدين ونائباه ابن جملة والفخر المصري. وعقد له ولكمال الدين بن الشيرازي مجلسا، ومعه توقيع بالشامية البرانية، فعطل الأمر عليهما لأنهما لم يظهرا استحقاهما في ذلك المجلس، فصارت المدرستان العذراوية والشامية لابن المرحل كما ذكرنا.

وعظم القزويني بالمسرورية فقايض منها لابن الشريشي إلى الرباط الناصري، فدرّس به في هذا اليوم وحضر عنده القاضي جلال الدين، ودرّس بعده ابن الشريشي بالمسرورية وحضر عنده الناس أيضا.

وفيه: عادت التجريدة اليمنية وقد فقد منهم خلق كثير من الغلمان وغيرهم، فحبس مقدمهم الكبير ركن الدين بيبرس لسوء سيرته فيهم.

من الأعيان:

الشيخ إبراهيم الصباح

وهو إبراهيم بن منير البعلبكي، كان مشهورا بالصلاح مقيما بالمئذنة الشرقية، توفي ليلة الأربعاء مستهل المحرم ودفن بالباب الصغير، وكانت جنازته حافلة، حمله الناس على رؤوس الأصابع، وكان ملازما لمجلس الشيخ تقي الدين بن تيمية.

إبراهيم الموله

الذي يقال له القميني لإقامته بالقمامين خارج باب شرقي، وربما كاشف بعض العوام، ومع هذا لم يكن من أهل الصلاة، وقد استتابه الشيخ تقي الدين بن تيمية وضربه على ترك الصلوات ومخالطة القاذورات وجمع النساء والرجال حوله في الأماكن النجسة.

توفي كهلا في هذا الشهر.

الشيخ عفيف الدين

محمد بن عمر بن عثمان بن عمر الصقلي ثم الدمشقي، إمام مسجد الرأس، آخر من حدث عن ابن الصلاح ببعض سنن البيهقي، سمعنا عليه شيئا منها، توفي في صفر.

الشيخ الصالح العابد الزاهد الناسك عبد الله بن موسى بن أحمد الجزري

الذي كان مقيما بزاوية أبي بكر من جامع دمشق، كان من الصالحين الكبار مباركا خيرا، عليه سكينة ووقار.

وكانت له مطالعة كثيرة، وله فهم جيد وعقل جيد، وكان من الملازمين لمجالس الشيخ تقي الدين بن تيمية، وكان ينقل من كلامه أشياء كثيرة ويفهمها يعجز عنها كبار الفقهاء.

توفي يوم الاثنين سادس عشرين صفر، وصلّي عليه بالجامع ودفن بباب الصغير وكانت جنازته حافلة محمودة.

الشيخ الصالح الكبير المعمر الرجل الصالح

تقي الدين بن الصائغ المقري المصري، الشافعي، آخر من بقي من مشايخ القراء وهو أبو عبد الله محمد بن أحمد بن عبد الخالق بن علي بن سالم بن مكي، توفي في صفر ودفن بالقرافة وكانت جنازته حافلة، قارب التسعين ولم يبق له منها سوى سنة واحدة، وقد قرأ عليه غير واحد وهو ممن طال عمره وحسن عمله.

الشيخ الإمام صدر الدين أبو زكريا يحيى

بن علي بن تمام بن موسى الأنصاري السبكي الشافعي، سمع الحديث وبرع في الأصول والفقه، ودرّس بالسيفية وباشرها بعده ابن أخيه تقي الدين السبكي الذي تولى قضاء الشام فيما بعد.

الشهاب محمود هو الصدر الكبير الشيخ الإمام العالم العلامة شيخ صناعة الإنشاء الذي لم يكن بعد القاضي الفاضل مثله في صنعة الإنشاء، وله خصائص ليست للفاضل من كثرة النظم والقصائد المطولة الحسنة البليغة، فهو شهاب الدين أبو الثنا محمود بن سلمان بن فهد الحلبي ثم الدمشقي.

ولد سنة أربع وأربعين وستمائه بحلب، وسمع الحديث وعني باللغة والأدب والشعر وكان كثير الفضائل بارعا في علم الإنشاء نظما ونثرا، وله في ذلك كتب ومصنفات حسنة فائقة، وقد مكث في ديوان الإنشاء نحوا من خمسين سنة.

ثم ولي كتابة السر بدمشق نحوا من ثمان سنين إلى أن توفي ليلة السبت ثاني عشرين شعبان في منزله قرب باب النطفانيين وهي دار القاضي الفاضل، وصلّي عليه بالجامع ودفن بتربة له أنشأها بالقرب من اليغمورية وقد جاوز الثمانين رحمه الله.

شيخنا عفيف الدين الأمدي

عفيف الدين إسحاق بن يحيى بن إسحاق بن إبراهيم بن إسماعيل الأمدي، ثم الدمشقي الحنفي شيخ دار الحديث الظاهرية.

ولد في حدود الأربعين وستمائة، وسمع الحديث على جماعة كثيرين، منهم يوسف بن خليل ومجد الدين بن تيمية، وكان شيخا حسنا بهي المنظر سهل الإسماع يحب الرواية ولديه فضيلة، توفي ليلة الاثنين ثاني عشرين رمضان، ودفن بقاسيون، وهو والد فخر الدين ناظر الجيوش والجامع.

وقبله بيوم توفي الصدر معين الدين يوسف بن زغيب الرحبي أحد كبار التجار الأمناء.

وفي رمضان توفي:

البدر العوام

وهو محمد بن علي البابا الحلبي، وكان فردا في العوم، وطيب الأخلاق، انتفع به جماعة من التجار في بحر اليمن كان معهم فغرق بهم المركب، فلجأوا إلى صخرة في البحر، وكانوا ثلاثة عشر، ثم إنه غطس فاستخرج لهم أموالا من قرار البحر بعد أن أفلسوا وكادوا أن يهلكوا.

وكان فيه ديانة وصيانة، وقد قرأ القرآن وحج عشر مرات، وعاش ثمانا وثمانين سنة رحمه الله، وكان يسمع الشيخ تقي الدين بن تيمية كثيرا.

وفيه توفي:

الشهاب أحمد بن عثمان الأمشاطي

الأديب في الأزجال والموشحات والمواليا والدوبيت والبلاليق، وكان أستاذ أهل هذه الصناعة مات في عشر الستين.

القاضي الإمام العالم الزاهد صدر الدين

سليمان بن هلال بن شبل بن فلاح بن خصيب الجعفري الشافعي المعروف بخطيب داريا، ولد سنة ثنتين وأربعين وستمائة، بقرية بسرا من عمل السواد، وقدم مع والده فقرأ بالصالحية القرآن على الشيخ نصر بن عبيد، وسمع الحديث وتفقه على الشيخ محيي الدين النووي، والشيخ تاج الدين الفزاري.

وتولى خطابة داريا وأعاد بالناصرية، وتولى نيابة القضاء لابن صصرى مدة، وكان متزهدا لا يتنعم بحمام ولا كتان ولا غيره، ولم يغير ما اعتاده في البر، وكان متواضعا، وهو الذي استسقى بالناس في سنة تسع عشرة فسقوا كما ذكرنا.

وكان يذكر له نسبا إلى جعفر الطيار، بينه وبينه عشرة آباء، ثم ولي خطابة العقيبية فترك نيابة الحكم وقال هذه تكتفي إلى أن توفي ليلة الخميس ثامن ذي القعدة، ودفن بباب الصغير، وكانت جنازته مشهورة رحمه الله، وتولى بعده الخطابة ولده شهاب الدين.

أحمد بن صبيح المؤذن

الرئيس بالعروس بجامع دمشق مع البرهان بدر الدين أبو عبد الله محمد بن صبيح بن عبد الله التفليسي مولاهم المقري المؤذن، كان مع أحسن الناس صوتا في زمانه، وأطيبهم نغمة، ولد سنة ثنتين وخمسين وستمائة تقريبا، وسمع الحديث في سنة سبع وخمسين، وممن سمع عليه ابن عبد الدائم وغيره من المشايخ، وحدّث وكان رجلا حسنا، أبوه مولى لامرأة اسمها شامة بنت كامل الدين التفليسي، امرأة فخر الدين الكرخي، وباشر مشارفة الجامع وقراءة المصحف، وأذن عند نائب السلطنة مدة، وتوفي في ذي الحجة بالطواويس، وصلّي عليه بجامع العقيبية، ودفن بمقابر باب الفراديس.

خطاب باني خان خطاب

الذي بين الكسوة وغباغب، الأمير الكبير عز الدين خطاب بن محمود بن رتقش العراقي، كان شيخا كبيرا له ثروة من المال كبيرة، وأملاك وأموال، وله حمام بحكر السماق، وقد عمر الخان المشهور به بعد موته إلى ناحية الكتف المصري، مما يلي غباغب، وهو برج الصفر، وقد حصل لكثير من المسافرين به رفق، توفي ليلة سبع عشرة ربيع الآخر ودفن بتربته بسفح قاسيون، رحمه الله تعالى. وفي ذي القعدة منها توفي رجل آخر اسمه:

ركن الدين خطاب بن الصاحب كمال الدين

أحمد ابن أخت ابن خطاب الرومي السيواسي، له خانقاه ببلده بسيواس، عليها أوقاف كثيرة وبر وصدقة، توفي وهو ذاهب إلى الحجاز الشريف بالكرك، ودفن بالقرب من جعفر وأصحابه بمؤتة رحمه الله.

وفي العشر الأخير من ذي القعدة توفي:

بدر الدين أبو عبد الله

محمد بن كمال الدين أحمد بن أبي الفتح بن أبي الوحش أسد بن سلامة بن سليمان بن فتيان الشيباني المعروف بابن العطار، ولد سنة سبعين وستمائة، وسمع الحديث الكثير، وكتب الخط المنسوب واشتغل بالتنبيه ونظم الشعر، وولي كتابه الدرج، ثم نظر الجيش ونظر الأشراف، وكانت له حظوة في أيام الأفرم، ثم حصل له خمول قليل، وكان مترفا منعما له ثروة ورياسة وتواضع وحسن سيرة، ودفن بسفح قاسيون بتربتهم رحمه الله.

القاضي محيي الدين أبو محمد بن الحسن

بن محمد بن عمار بن فتوح الحارثي، قاضي الزبداني مدة طويلة، ثم ولي قضاء الكرك وبها مات في العشرين من ذي الحجة، وكان مولده سنة خمس وأربعين وستمائة، وقد سمع الحديث واشتغل، وكان حسن الأخلاق متواضعا، وهو والد الشيخ جمال الدين بن قاضي الزبداني مدرس الظاهرية رحمه الله.

ثم دخلت سنة ست وعشرين وسبعمائة

استهلت والحكام هم المذكورون في التي قبلها، سوى كاتب سر دمشق شهاب الدين محمود فإنه توفي، وولي المنصب من بعده ولده الصدر شمس الدين.

وفيها: تحول التجار في قماش النساء المخيط من الدهشة التي للجامع إلى دهشة سوق علي.

وفي يوم الأربعاء ثمان المحرم باشر مشيخة الحديث الظاهرية الشيخ شهاب الدين بن جهبل بعد وفاة العفيف إسحاق وترك تدريس الصلاحية بالقدس الشريف، واختار دمشق، وحضر عنده القضاة والأعيان.

وفي أولها فتح الحمام الذي بناه الأمير سيف الدين جوبان بجوار داره بالقرب من دار الجالق، وله بابان أحدهما إلى جهة مسجد الوزير، وحصل به نفع.

وفي يوم الاثنين ثاني صفر قدم الصاحب غبريال من مصر على البريد متوليا نظر الدواوين بدمشق على عادته، وانفصل عنها الكريم الصغير، وفرح الناس به.

وفي يوم الثلاثاء حادي عشرين ربيع الأول بكرة ضربت عنق ناصر بن الشرف أبي الفضل بن إسماعيل بن الهيثي بسوق الخيل على كفره واستهانته واستهتاره بآيات الله، وصحبته الزنادقة كالنجم بن خلكان، والشمس محمد الباجريقي، وابن المعمار البغدادي، وكل فيهم انحلال وزندقة مشهور بها بين الناس.

قال الشيخ علم الدين الرزالي: وربما زاد هذا المذكور المضروب العنق عليهم بالكفر والتلاعب بدين الإسلام، والاستهانة بالنبوة والقرآن.

قال: وحضر قتله العلماء والأكابر وأعيان الدولة.

قال: وكان هذا الرجل في أول أمره قد حفظ (التنبيه)، وكان يقرأ في الختم بصوت حسن، وعنده نباهة وفهم، وكان منزلا في المدارس والترب، ثم إنه انسلخ من ذلك جميعه، وكان قتله عزا للإسلام وذلا للزنادقة وأهل البدع.

قلت: وقد شهدت قتله، وكان شيخنا أبو العباس بن تيمية حاضرا يومئذ، وقد أتاه وقرعه على ما كان يصدر منه قبل قتله، ثم ضُربت عنقه وأنا شاهد ذلك.

وفي شهر ربيع الأول رسم في إخراج الكلاب من مدينة دمشق فجعلوا في الخندق من جهة باب الصغير من ناحية باب شرقي، الذكور على حدة والإناث على حده، وألزم أصحاب الدكاكين بذلك، وشددوا في أمرهم أياما.

وفي ربيع الأول ولي الشيخ علاء الدين المقدسي معيد البادرانية مشيخة الصلاحية بالقدس الشريف، وسافر إليها.

وفي جمادى الآخرة عزل قرطاي عن ولاية طرابلس ووليها طينال، وأقر قرطاي على خبز القرماني بدمشق بحكم سجن القرماني بقلعة دمشق.

قال البرزالي: وفي يوم الاثنين عند العصر سادس عشر شعبان اعتقل الشيخ الإمام العالم العلامة تقي الدين بن تيمية بقلعة دمشق، حضر إليه من جهة نائب السلطنة تنكز مشدا الأوقاف، وابن الخطيري أحد الحجاب بدمشق، وأخبراه أن مرسوم السلطان ورد بذلك، وأحضرا معهما مركوبا ليركبه، وأظهر السرور والفرح بذلك، وقال: أنا كنت منتظرا لذلك، وهذا فيه خير كثير ومصلحة كبيرة، وركبوا جميعا من داره إلى باب القلعة، وأخليت له قاعة وأجرى إليها الماء ورسم له بالإقامة فيها، وأقام معه أخوه زين الدين يخدمه بإذن السلطان، ورسم له ما يقوم بكفايته.

قال البرزالي: وفي يوم الجمعة عاشر الشهر المذكور قرئ بجامع دمشق الكتاب السلطاني الوارد باعتقاله ومنعه من الفتيا، وهذه الواقعة سببها فتيا وجدت بخطه في السفر وإعمال المطي إلى زيارة قبور الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، وقبور الصالحين.

قال: وفي يوم الأربعاء منتصف شعبان أمر قاضي القضاة الشافعي في حبس جماعة من أصحاب الشيخ تقي الدين في سجن الحكم، وذلك بمرسوم نائب السلطنة وإذنه له فيه، فيما تقتضيه الشريعة في أمرهم، وعزر جماعة منهم على دواب ونودي عليهم ثم أطلقوا، سوى شمس الدين محمد بن قيم الجوزية فإنه حبس بالقلعة، وسكتت القضية.

قال: وفي أول رمضان وصلت الأخبار إلى دمشق أنه أجريت عين ماء إلى مكة شرفها الله وانتفع الناس بها انتفاعا عظيما، وهذه العين تعرف قديما بعين باذان، أجراها جوبان من بلاد بعيدة حتى دخلت إلى نفس مكة، ووصلت إلى عند الصفا وباب إبراهيم، واستقى الناس منها فقيرهم وغنيهم وضعيفهم وشريفهم، كلهم فيها سواء، وارتفق أهل مكة بذلك رفقا كثيرا ولله الحمد والمنة. وكانوا قد شرعوا في حفرها وتجديدها في أوائل هذه السنة إلى العشر الأخر من جمادى الأولى، واتفق أن في هذه السنة كانت الآبار التي بمكة قد يبست وقل ماؤها، وقل ماء زمزم أيضا، فلولا أن الله تعالى لطف بالناس بإجراء هذه القناة لنزح عن مكة أهلها، أو هلك كثير مما يقيم بها. وأما الحجيج في أيام الموسم فحصل لهم بها رفق عظيم زائد عن الوصف، كما شاهدنا ذلك في سنة إحدى وثلاثين عام حججنا.

وجاء كتاب السلطان إلى نائبه بمكة بإخراج الزيديين من المسجد الحرام، وأن لا يكون لهم فيه إمام ولا مجتمع، ففعل ذلك.

وفي يوم الثلاثاء رابع شعبان درّس بالشامية الجوانية شهاب الدين أحمد بن جهبل، وحضر عنده القاضي القزويني الشافعي وجماعة عوضا عن الشيخ أمين الدين سالم بن أبي الدر إمام مسجد ابن هشام توفي، ثم بعد أيام جاء توقيع بولاية القاضي الشافعي فباشرها في عشرين رمضان.

وفي عاشر شوال خرج الركب الشامي وأميره سيف الدين جوبان، وحج عامئذ القاضي شمس الدين بن مسلم قاضي قضاة الحنابلة، وبدر الدين ابن قاضي القضاة جلال الدين القزويني، ومعه تحف وهدايا وأمور تتعلق بالأمير سيف الدين أرغون نائب مصر، فإنه حج في هذه السنة ومعه أولاده وزوجته بنت السلطان، وحج فخر الدين ابن شيخ السلامية، وصدر الدين المالكي، وفخر الدين البعلبكي وغيره.

وفي يوم الأربعاء عاشر القعدة درّس بالحنبلية برهان الدين أحمد بن هلال الزرعي الحنبلي، بدلا عن شيخ الإسلام ابن تيمية، وحضر عنده القاضي الشافعي وجماعة من الفقهاء وشق ذلك على كثير من أصحاب الشيخ تقي الدين، وكان ابن الخطيري الحاجب قد دخل على الشيخ تقي الدين قبل هذا اليوم فاجتمع به وسأله عن أشياء بأمر نائب السلطنة. ثم يوم الخميس دخل القاضي جمال الدين بن جملة وناصر الدين مشد الأوقاف، وسألاه عن مضمون قوله في مسألة الزيارة، فكتب ذلك في درج وكتب تحته قاضي الشافعية بدمشق: قابلت الجواب عن هذا السؤال المكتوب على خط ابن تيمية إلى أن قال: وإنما المحز6 جعله زيارة قبر النبي وقبور الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم معصية بالإجماع مقطوعا بها.

فانظر الآن هذا التحريف على شيخ الإسلام، فإن جوابه على هذه المسألة ليس فيه منع زيارة قبور الأنبياء والصالحين، وإنما فيه ذكر قولين في شد الرحل والسفر إلى مجرد زيارة القبور؛ وزيارة القبور من غير شد رحل إليها مسألة، وشد الرحل لمجرد الزيارة مسألة أخرى، والشيخ لم يمنع الزيارة الخالية عن شد رحل، بل يستحبها ويندب إليها، وكتبه ومناسكه تشهد بذلك. ولم يتعرض إلى هذه الزيارة في هذه الوجه في الفتيا، ولا قال إنها معصية، ولا حكى الإجماع على المنع منها، ولا هو جاهل قول الرسول: «زوروا القبور فإنها تذكركم الآخرة»، والله سبحانه لا يخفى عليه شيء، ولا يخفى عليه خافية، {وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ} 7.

وفي يوم الأحد رابع القعدة فتحت المدرسة الحمصية تجاه الشامية الجوانية، ودرّس بها محيي الدين الطرابلسي قاضي هكار، وتلقب بأبي رباح، وحضر عنده القاضي الشافعي.

وفي ذي القعدة سافر القاضي جمال الدين الزرعي من الأتابكية إلى مصر، ونزل عن تدريسها لمحيي الدين بن جهبل.

وفي ثاني عشر ذي الحجة درس بالنجيبية ابن قاضي الزبداني عوضا عن الدمشقي نائب الحكم مات بالمدرسة المذكورة.

من الأعيان:

ابن المطهر الشيعي جمال الدين

أبو منصور حسن بن يوسف بن مطهر الحلي العراقي الشيعي، شيخ الروافض بتلك النواحي، وله التصانيف الكثيرة، يقال تزيد على مائة وعشرين مجلدا، وعدتها خمسة وخمسون مصنفا، في الفقه والنحو والأصول والفلسفة والرفض وغير ذلك من كبار وصغار.

وأشهرها بين الطلبة شرح ابن الحاجب في أصول الفقه، وليس بذاك الفائق، ورأيت له مجلدين في أصول الفقه على طريقة المحصول والأحكام، فلا بأس بها فإنها مشتملة على نقل كثير وتوجيه جيد.

وله كتاب (منهاج الاستقامة في إثبات الإمامة)، خبط فيه في المعقول والمنقول، ولم يدر كيف يتوجه، إذ خرج عن الاستقامة.

وقد انتدب في الرد عليه الشيخ الإمام العلامة شيخ الإسلام تقي الدين أبو العباس بن تيمية في مجلدات أتى فيها بما يبهر العقول من الأشياء المليحة الحسنة، وهو كتاب حافل.

ولد ابن المطهر الذي لم تطهر خلائقه ولم يتطهر من دنس الرفض ليلة الجمعة سابع عشرين رمضان سنة ثمان وأربعين وستمائة، توفي ليلة الجمعة عشرين محرم من هذه السنة، وكان اشتغاله ببغداد وغيرها من البلاد، واشتغل على نصير الطوسي، وعلى غيره، ولما ترفّض الملك خربندا حظي عنده ابن المطهر وساد جدا وأقطعه بلادا كثيرة.

الشمس الكاتب محمد بن أسد الحراني المعروف بالنجار

كان يجلس ليكتب الناس عليه بالمدرسة القليجية، توفي في ربيع الآخر ودفن بباب الصغير.

العز حسن بن أحمد بن زفر

الأربلي ثم الدمشقي، كان يعرف طرفا صالحا من النحو والحديث والتاريخ، وكان مقيما بدويرة حمد صوفيا بها، وكان حسن المجالسة أثنى عليه البرزالي في نقله وحسن معرفته، مات بالمارستان الصغير في جمادى الآخرة ودفن بباب الصغير عن ثلاث وستين سنة.

الشيخ الإمام أمين الدين سالم بن أبي الدر

عبد الرحمن بن عبد الله الدمشقي الشافعي مدرس الشامية الجوانية، أخذها من ابن الوكيل قهرا وهو إمام مسجد ابن هشام، ومحدث الكرسي به، كان مولده في سنة خمس وأربعين وستمائة، واشتغل وحصل وأثنى عليه النووي وغيره، وأعاد وأفتى ودرّس، وكان خبيرا بالمحاكمات، وكان فيه مروءة وعصبية لمن يقصده، توفي في شعبان ودفن بباب الصغير.

الشيخ حماد

وهو الشيخ الصالح العابد الزاهد حماد الحلبي القطان، كان كثير التلاوة والصلوات، مواظبا على الإقامة بجامع التوبة بالعقيبة بالزاوية الغربية الشمالية، يقرئ القرآن ويكثر الصيام ويتردد الناس إلى زيارته، مات وقد جاوز السبعين سنة على هذا القدم، توفي ليلة الاثنين عشرين شعبان ودفن بباب الصغير، وكانت جنازته حافلة رحمه الله.

الشيخ قطب الدين اليونيني

وهو الشيخ الإمام العالم بقية السلف، قطب الدين أبو الفتح موسى ابن الشيخ الفقيه الحافظ الكبير شيخ الإسلام أبي عبد الله محمد بن أحمد بن عبد الله بن عيسى بن أحمد بن محمد البعلبكي اليونيني الحنبلي.

ولد سنة أربعين وستمائة بدار الفضل بدمشق، وسمع الكثير وأحضره والده المشايخ واستجاز له وبحث واختصر (مرآة الزمان) للسبط، وذيّل عليها ذيلا حسنا مرتبا أفاد فيه وأجاد بعبارة حسنة سهلة، بإنصاف وستر، وأتى فيه بأشياء حسنة وأشياء فائقة رائقة.

وكان كثير التلاوة حسن الهيئة متقللا في ملبسه ومأكله، توفي ليلة الخميس ثالث عشر شوال، ودفن بباب سطحا عند أخيه الشيخ شرف الدين رحمهما الله.

قاضي القضاة ابن مسلم

شمس الدين أبو عبد الله محمد بن مسلم بن مالك بن مزروع بن جعفر الصالحي الحنبلي، ولد سنة ستين وستمائة، ومات أبوه - وكان من الصالحين - سنة ثمان وستين، فنشأ يتيما فقيرا لا مال له.

ثم اشتغل وحصل وسمع الكثير وانتصب للإفادة والاشتغال، فطار ذكره، فلما مات التقي سليمان سنة خمس عشرة ولي قضاء الحنابلة، فباشره أتم مباشرة، وخرجت له تخاريج كثيرة، فلما كانت هذه السنة خرج للحج فمرض في الطريق فورد المدينة النبوية على ساكنها رسول الله أفضل الصلاة والسلام، يوم الاثنين الثالث والعشرين من ذي القعدة فزار قبر رسول الله ، وصلى في مسجده وكان بالأشواق إلى ذلك.

وكان قد تمنى ذلك لما مات ابن نجيح، فمات في عشية ذلك اليوم يوم الثلاثاء وصلّي عليه في مسجد رسول الله بالروضة، ودفن بالبقيع إلى جانب قبر شرف الدين ابن نجيح، الذي كان قد غبطه بموته هناك سنة حج هو وهو قبل هذه الحجة شرقي قبر عقيل رحمهم الله، وولي بعده القضاء عز الدين بن التقي سليمان.

القاضي نجم الدين

أحمد بن عبد المحسن بن حسن بن معالي الدمشقي الشافعي، ولد سنة تسع وأربعين واشتغل على تاج الدين الفزاري وحصل وبرع وولي الإعادة ثم الحكم بالقدس، ثم عاد إلى دمشق فدرس بالنجيبية، وناب في الحكم عن ابن صصرى مدة، توفي بالنجيبية المذكورة يوم الأحد ثامن عشرين ذي القعدة، وصلّي عليه العصر بالجامع، ودفن بباب الصغير.

ابن قاضي شهبة

الشيخ الإمام العالم شيخ الطلبة ومفيدهم كمال الدين أبو محمد عبد الوهاب بن ذؤيب الأسدي الشهبي الشافعي، ولد بحوران في سنة ثلاث وخمسين وستمائة، وقدم دمشق واشتغل على الشيخ تاج الدين الفزاري، ولازمه وانتفع به، وأعاد بحلقته، وتخرج به، وكذلك لازم أخاه الشيخ شرف الدين، وأخذ عنه النحو واللغة، وكان بارعا في الفقه والنحو، له حلقة يشتغل فيها تجاه محراب الحنابلة.

وكان يعتكف جميع شهر رمضان، ولم يتزوج قط، وكان حسن الهيئة والشيبة، حسن العيش والملبس متقللا من الدنيا، له معلوم يقوم بكفايته من إعادات وفقاهات وتصدير بالجامع، ولم يدرّس قط ولا أفتى، مع أنه كان ممن يصلح أن يأذن في الإفتاء، ولكنه كان يتورع عن ذلك.

وقد سمع الكثير: سمع المسند للإمام أحمد وغير ذلك، توفي بالمدرسة المجاهدية - وبها كانت إقامته - ليلة الثلاثاء حادي عشرين ذي الحجة، وصلّي عليه بعد صلاة الظهر، ودفن بمقابر باب الصغير.

وفيها كانت وفاة:

الشرف يعقوب بن فارس الجعبري

التاجر بفرجة ابن عمود، وكان يحفظ القرآن ويؤم بمسجد القصب، ويصحب الشيخ تقي الدين بن تيمية والقاضي نجم الدين الدمشقي، وقد حصل أموالا وأملاكا وثروة، وهو والد صاحبنا الشيخ الفقيه المفضل المحصل الزكي بدر الدين محمد، خال الولد عمر إن شاء الله.

وفيها توفي:

الحاج أبو بكر بن تيمراز الصيرفي

كانت له أموال كثيرة ودائرة ومكارم وبر وصدقات، ولكنه انكسر في آخر عمره، وكاد أن ينكشف فجبره الله بالوفاة رحمه الله.

ثم دخلت سنة سبع وعشرين وسبعمائة

استهلت بيوم الجمعة والحكام: الخليفة والسلطان والنواب والقضاة والمباشرون هم المذكورون في التي قبلها سوى الحنبلي كما تقدم.

وفي العشر من المحرم دخل مصر أرغون نائب مصر فمسك في حادي عشر وحبس، ثم أطلق أياما وبعثه السلطان إلى نائب حلب فاجتاز بدمشق بكرة الجمعة ثاني عشرين المحرم، فأنزله نائب السلطنة بداره المجاورة لجامعه، فبات بها ثم سافر إلى حلب، وقد كان قبله بيوم قد سافر من دمشق الجاي الدوادار إلى مصر، وصحبته نائب حلب علاء الدين الطنبغا معزولا عنها إلى حجوبية الحجاب بمصر.

وفي يوم الجمعة التاسع عشر ربيع الأول قرئ تقليد قاضي الحنابلة عز الدين محمد بن التقي سليمان بن حمزة المقدسي، عوضا عن ابن مسلم بمقصورة الخطابة بحضرة القضاة والأعيان، وحكم وقرئ قبل ذلك بالصالحية.

وفي أواخر هذا الشهر وصل البريد بتولية ابن النقيب الحاكم بحمص قضاء القضاة بطرابلس، ونقل الذي بها إلى حمص نائبا عن قاضي دمشق، وهو ناصر بن محمود الزرعي.

وفي سادس عشر ربيع الآخر عاد تنكز من مصر إلى الشام، وقد حصل له تكريم من السلطان.

وفي ربيع الأول حصلت زلزلة بالشام وقى الله شرها.

وفي يوم الخميس مستهل جمادى الأولى باشر نيابة الحنبلي القاضي برهان الدين الزرعي، وحضر عنده جماعة من القضاة.

وفي يوم الجمعة منتصف جمادى الآخرة جاء البريد بطلب القاضي القزويني الشافعي إلى مصر، فدخلها في مستهل رجب فخلع عليه بقضاء قضاة مصر مع تدريس الناصرية والصالحية ودار الحديث الكاملية، عوضا عن بدر الدين بن جماعة لأجل كبر سنه وضعف نفسه، وضرر عينيه، فجبروا خاطره فرتب له ألف درهم وعشرة أرادب قمح في الشهر، مع تدريس زاوية الشافعي. وأرسل ولده بدر الدين إلى دمشق خطيبا بالأموي، وعلى تدريس الشامية البرانية، على قاعدة والده جلال الدين القزويني في ذلك، فخلع عليه في أواخر رجب ثامن عشرين وحضر عنده الأعيان.

وفي رجب كان عرس الأمير سيف الدين قوصون الساقي الناصري، على بنت السلطان، وكان وقتا مشهودا، خلع على الأمراء والأكابر.

وفي صبيحة هذه الليلة عقد الأمير شهاب الدين أحمد بن الأمير بكتمر الساقي، على بنت تنكز نائب الشام، وكان السلطان وكيل أبيها تنكز والعقاد ابن الحريري، وخلع عليه وأدخلت في ذي الحجة من هذه السنة في كلفة كثيرة.

وفي رجب جرت فتنة كبيرة بالإسكندرية في سابع رجب، وذلك أن رجلا من المسلمين قد تخاصم هو ورجل من الفرنج، على باب البحر فضرب أحدهما الآخر بنعل، فرفع الأمر إلى الوالي فأمر بغلق باب البلد بعد العصر، فقال له الناس: إن لنا أموالا وعبيدا ظاهر البلد، وقد أغلقت الباب قبل وقته. ففتحه فخرج الناس في زحمة عظيمة، فقتل منهم نحو عشرة ونهبت عمائم وثياب وغير ذلك، وكان ذلك ليلة الجمعة فلما أصبح الناس ذهبوا إلى دار الوالي فأحرقوها وثلاث دور لبعض الظلمة. وجرت أحوال صعبة، ونهبت أموال، وكسرت العامة باب سجن الوالي فخرج منه من فيه، فبلغ نائب السلطنة فاعتقد النائب أنه السجن الذي فيه الأمراء، فأمر بوضع السيف في البلد وتخريبه.

ثم إن الخبر بلغ السلطان فأرسل الوزير طيبغا الجمالي سريعا فضرب وصادر، وضرب القاضي ونائبه وعزلهم، وأهان خلقا من الأكابر وصادرهم بأموال كثيرة جدا، وعزل المتولي ثم أعيد، ثم تولى القضاء بهاء الدين علم الدين الأخنائي الشافعي الذي تولى دمشق فيما بعد، وعزل قضاة الإسكندرية المالكي ونائباه، ووضعت السلاسل في أعناقهم وأهينوا، وضرب ابن السني غير مرة.

وفي يوم السبت عشرين شعبان وصل إلى دمشق قاضي قضاة حلب ابن الزملكاني على البريد فأقام بدمشق أربعة أيام ثم سار إلى مصر ليتولى قضاء قضاة الشام بحضرة السلطان، فاتفق موته قبل وصوله إلى القاهرة {وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ كَمَا فُعِلَ بِأَشْيَاعِهِمْ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا فِي شَكٍّ مُرِيبٍ} 8.

وفي يوم الجمعة سادس عشرين شعبان باشر صدر الدين المالكي مشيخة الشيوخ مضافا إلى قضاء قضاة المالكية، وحضر الناس عنده، وقرئ تقليده بذلك بعد انفصال الزرعي عنها إلى مصر.

وفي نصف رمضان وصل قاضي الحنفية بدمشق لقضاء القضاة عماد الدين أبي الحسن علي بن أحمد بن عبد الواحد الطرسوسي، الذي كان نائبا لقاضي القضاة صدر الدين علي البصروي، فخلفه بعده بالمنصب، وقرئ تقليده بالجامع، وخلع عليه وباشر الحكم، واستناب القاضي عماد الدين ابن العز، ودرس بالنورية مع القضاء، وشكرت سيرته.

وفي رمضان قدم جماعة من الأسارى مع تجار الفرنج فأنزلوا بالمدرسة العادلية الكبيرة، واستفكوا من ديوان الأسرى بنحو من ستين ألفا، وكثرت الأدعية لمن كان السبب في ذلك.

وفي ثامن شوال خرج الركب الشامي إلى الحجاز وأميره سيف الدين بالبان المحمدي، وقاضيه بدر الدين محمد بن محمد قاضي حران.

وفي شوال وصل تقليد قضاء الشافعية بدمشق لبدر الدين ابن قاضي القضاة ابن عز الدين بن الصائغ والخلعة معه، فامتنع من ذلك أشد الامتناع، وصمم، وألح عليه الدولة فلم يقبل وكثر بكاؤه وتغير مزاجه واغتاظ، فلما أصر على ذلك راجع تنكز السلطان في ذلك.

فلما كان شهر ذي القعدة اشتهر تولية علاء الدين علي بن إسماعيل القونوي قضاء الشام، فسار إليها من مصر وزار القدس ودخل دمشق يوم الاثنين سابع عشرين ذي القعدة، فاجتمع بنائب السلطنة ولبس الخلعة وركب مع الحجاب والدولة إلى العادلية. فقرئ تقليده بها وحكم بها على العادة، وفرح الناس به وبحسن سمته وطيب لفظه وملاحة شمائله وتودده، وولي بعده مشيخة الشيوخ بمصر مجد الدين الأقصرائي الصوفي شيخ سرياقوس.

وفي يوم السبت ثالث عشرين ذي القعدة لبس القاضي محيي الدين بن فضل الله الخلعة بكتابة السر عوضا عن ابن الشهاب محمود، واستمر ولده شرف الدين في كتابة الدست.

وفي هذه السنة تولى قضاء حلب عوضا عن ابن الزملكاني القاضي فخر الدين البازري.

وفي العشر الأول من ذي الحجة كمل ترخيم الجامع الأموي أعني حائطه الشمالي، وجاء تنكز حتى نظر إليه فأعجبه ذلك، وشكر ناظره تقي الدين بن مراجل.

وفي يوم الأضحى جاء سيل عظيم إلى مدينة بلبيس فهرب أهلها منها وتعطلت الصلاة والأضاحي فيها، ولم ير مثله من مدة سنين متطاولة، وخرب شيئا كثيرا من حواضرها وبساتينها، فإنا الله وإنا إليه راجعون.

من الأعيان:

الأمير أبو يحيى

زكريا بن أحمد بن محمد بن عبد الواحد أبي حفص الهنتاني الجياني المغربي، أمير بلاد المغرب.

ولد بتونس قبل سنة خمسين وستمائة، وقرأ الفقه والعربية، وكان ملوك تونس تعظمه وتكرمه، لأنه من بيت الملك والإمرة والوزارة.

ثم بايعه أهل تونس على الملك في سنة إحدى عشرة وسبعمائة، وكان شجاعا مقداما، وهو أول من أبطل ذكر ابن التومرت من الخطبة، مع أن جده أبا حفص الهنتاني كان من أخص أصحاب ابن التومرت.

توفي في المحرم من هذه السنة بمدينة الإسكندرية رحمه الله.

الشيخ الصالح ضياء الدين

ضياء الدين أبو الفدا إسماعيل بن رضي الدين أبي الفضل المسلم بن الحسن بن نصر الدمشقي، المعروف بابن الحموي، كان هو وأبوه وجده من الكتاب المشهورين المشكورين، وكان هو كثير التلاوة والصلاة والصيام والبر والصدقة والإحسان إلى الفقراء والأغنياء.

ولد سنة خمس وثلاثين وستمائة وسمع الحديث الكثير وخرج له البرزالي مشيخة سمعناها عليه، وكان من صدور أهل دمشق، توفي يوم الجمعة رابع عشر صفر، وصلّي عليه ضحوة يوم السبت، ودفن بباب الصغير، وحج وجاور وأقام بالقدس مدة.

مات وله ثنتان وسبعون سنة رحمه الله، وقد ذكر والده أنه حين ولد له فتح المصحف يتفاءل فإذا قوله: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ} 9، فسماه إسماعيل.

ثم ولد له آخر فسماه إسحاق، وهذا من الاتفاق الحسن رحمهم الله تعالى.

الشيخ علي المحارفي

علي بن أحمد بن هوس الهلالي، أصل جده من قرية إيل البسوق، وأقام والده بالقدس، وحج هو مرة وجاور بمكة سنة ثم حج، وكان رجلا صالحا مشهورا، ويعرف بالمحارفي، لأنه كان يحرف الأزقة ويصلح الرصفان لله تعالى.

وكان يكثر التهليل والذكر جهرة، وكان عليه هيبة ووقار، ويتكلم كلاما فيه تخويف وتحذير من النار، وعواقب الردى، وكان ملازما لمجالس ابن تيمية، وكانت وفاته يوم الثلاثاء ثالث عشرين ربيع الأول، ودفن بتربة الشيخ موفق الدين بالسفح، وكانت جنازته حافلة جدا رحمه الله.

الملك الكامل ناصر الدين

أبو المعالي محمد بن الملك السعيد فتح الدين عبد الملك بن السلطان الملك الصالح إسماعيل أبي الجيش ابن الملك العادل أبي بكر بن أيوب أحد أكابر الأمراء وأبناء الملوك، كان من محاسن البلد ذكاء وفطنة وحسن عشرة ولطافة كلام، بحيث يسرد كثيرا من الكلام بمنزلة الأمثال من قوة ذهنه وحذاقة فهمه، وكان رئيسا من أجواد الناس، توفي عشية الأربعاء عشرين جمادى الأولى، وصلّي عليه ظهر الخميس بصحن الجامع تحت النسر. ثم أرادوا دفنه عند جده لأمه الملك الكامل فلم يتيسر ذلك فدفن بتربة أم الصالح سامحه الله، وكان له سماع كثير سمعنا عليه منه، وكان يحفظ تاريخا جيدا، وقام ولده الأمير صلاح الدين مكانه في إمرة الطبلخانة، وجعل أخوه في عشرته ولبسا الخلع السلطانية بذلك.

الشيخ الإمام نجم الدين

أحمد بن محمد بن أبي الحزم القرشي المخزومي القمولي، كان من أعيان الشافعية، وشرح (الوسيط) وشرح (الحاجبية) في مجلدين، ودرّس وحكم بمصر، وكان محتسبا بها أيضا، وكان مشكور السيرة فيها، وقد تولى بعده الحكم نجم الدين بن عقيل، والحسبة ناصر الدين بن قار السبقوق، توفي في رجب وقد جاوز الثمانين، ودفن بالقرافة رحمه الله.

الشيخ الصالح أبو القاسم

عبد الرحمن بن موسى بن خلف الحزامي، أحد مشاهير الصالحين بمصر، توفي بالروضة وحمل إلى شاطئ النيل، وصلّي عليه وحمل على الرؤوس والأصابع، ودفن عند ابن أبي حمزة، وقد قارب الثمانين، وكان ممن يقصد إلى الزيارة رحمه الله.

القاضي عز الدين عبد العزيز بن أحمد

بن عثمان بن عيسى بن عمر بن الخضر الهكاري الشافعي، قاضي المحلة، كان من خيار القضاة، وله تصنيف على حديث المجامع في رمضان، يقال إنه استنبط فيه ألف حكم.

توفي في رمضان، وقد كان حصل كتبا جيدة منها (التهذيب) لشيخنا المزي.

الشيخ كمال الدين بن الزملكاني

شيخ الشافعية بالشام وغيرها، انتهت إليه رياسة المذهب تدريسا وإفتاء ومناظرة، ويقال في نسبة السماكي نسبة إلى أبي دجانة سماك بن خرشة والله أعلم.

ولد ليلة الاثنين ثامن شوال سنة ست وستين وستمائة، وسمع الكثير واشتغل على الشيخ تاج الدين الفزاري، وفي الأصول على القاضي بهاء الدين بن الزكي، وفي النحو على بدر الدين بن ملك وغيرهم، وبرع وحصل وساد أقرانه من أهل مذهبه، وحاز قصب السبق عليهم بذهنه الوقاد في تحصيل العلم الذي أسهره ومنعه الرقاد وعبارته التي هي أشهى من كل شيء معتاد، وخطه الذي هو أنضر من أزاهير الوهاد.

وقد درّس بعدة مدارس بدمشق، وباشر عدة جهات كبار، كنظر الخزانة ونظر المارستان النوري وديوان الملك السعيد، ووكالة بيت المال.

وله تعاليق مفيدة واختيارات حميدة سديدة ومناظرات سعيدة.

ومما علقه قطعة كبيرة من شرح (المنهاج) للنووي، ومجلد في الرد على الشيخ تقي الدين بن تيمية في مسألة الطلاق وغير ذلك، وأما دروسه في المحافل فلم أسمع أحدا من الناس درس أحسن منها ولا أحلى من عبارته، وحسن تقريره، وجودة احترازاته، وصحة ذهنه وقوة قريحته وحسن نظمه.

وقد درّس بالشامية البرانية والعذراوية الجوانية والرواحية والمسرورية، فكان يعطي كل واحدة منهن حقها بحيث كان يكاد ينسخ بكل واحد من تلك الدروس ما قبله من حسنه وفصاحته، ولا يهيله تعداد الدروس وكثرة لفقهاء والفضلاء، بل كلما كان الجمع أكثر والفضلاء أكبر كان الدرس أنضر وأبهر وأحلى وأنصح وأفصح.

ثم لما انتقل إلى قضاء حلب وما معه من المدارس العديدة عامله معاملة مثلها، وأوسع بالفضيلة جميع أهلها، وسمعوا من العلوم ما لم يسمعوا هم ولا آباؤهم.

ثم طلب إلى الديار المصرية ليولى الشامية دار السنة النبوية فعاجلته المنية قبل وصوله إليها، فمرض وهو سائر على البريد تسعة أيام، ثم عقب المرض بحراق الحمام فقبضه هاذم اللذات، وحال بينه وبين سائر الشهوات والإرادات، والأعمال بالنيات. ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة يتزوجها فهجرته إلى ما هاجر إليه، وكان من نيته الخبيثة إذا رجع إلى الشام متوليا أن يؤذي شيخ الإسلام ابن تيمية فدعا عليه فلم يبلغ أمله ومراده، فتوفي في سحر يوم الأربعاء سادس عشر شهر رمضان بمدينة بلبيس، وحمل إلى القاهرة ودفن بالقرافة ليلة الخميس جوار قبة الشافعي تغمدها الله برحمته.

الحاج علي المؤذن المشهور بالجامع الأموي

الحاج علي بن فرج بن أبي الفضل الكتاني، كان أبوه من خيار المؤذنين، فيه صلاح ودين وله قبول عند الناس، وكان حسن الصوت جهوره، وفيه تودد وخدم وكرم، وحج غير مرة وسمع من أبي عمر وغيره، توفي ليلة الأربعاء ثالث القعدة وصلّي عليه غدوة، ودفن بباب الصغيرة.

وفي ذي القعدة توفي:

الشيخ فضل بن الشيخ الرجيحي التونسي

وأجلس أخوه يوسف مكانه بالزاوية.

ثم دخلت سنة ثمان وعشرين وسبعمائة

في ذي القعدة منها كانت وفاة شيخ الإسلام أبي العباس أحمد بن تيمية قدس الله روحه كما ستأتي ترجمة وفاته في الوفيات إن شاء الله تعالى.

استهلت هذه السنة وحكام البلاد هم المذكورون في التي قبلها سوى نائب مصر وقاضي حلب. وفي يوم الأربعاء ثاني المحرم دّرس بحلقة صاحب حمص الشيخ الحافظ صلاح الدين العلائي، نزل له عنها شيخنا الحافظ المزي، وحضر عنده الفقهاء والقضاة والأعيان، وذكر درسا حسنا مفيدا.

وفي يوم الجمعة رابع المحرم حضر قاضي القضاة علاء الدين القونوي مشيخة الشيوخ بالسمساطية عوضا عن القاضي المالكي شرف الدين، وحضر عنده الفقهاء والصوفية على العادة.

وفي يوم الأحد ثامن عشر صفر درّس بالمسرورية تقي الدين عبد الرحمن بن الشيخ كمال الدين بن الزملكاني عوضا عن جمال الدين بن الشريشي بحكم انتقاله إلى قضاء حمص، وحضر الناس عنده وترحموا على والده.

وفي يوم الأحد خامس عشرين صفر وصل إلى دمشق الأمير الكبير صاحب بلاد الروم تمرتاش ابن جوبان، قاصدا إلى مصر، فخرج نائب السلطنة والجيش إلى تلقيه، وهو شاب حسن الصورة تام الشكل مليح الوجه.

ولما انتهى إلى السلطان بمصر أكرمه وأعطاه تقدمة ألف، وفرق أصحابه على الأمراء وأكرموا إكراما زائدا، وكان سبب قدومه إلى مصر أن صاحب العراق الملك أبا سعيد كان قد قتل أخاه جواجا رمشتق في شوال من السنة الماضية، فهمّ والده جوبان بمحاربة السلطان أبي سعيد فلم يتمكن من ذلك، وكان جوبان إذ ذاك مدبر الممالك، فخاف تمرتاش هذا عند ذلك من السلطان ففر هاربا بدمه إلى السلطان الناصر بمصر.

وفي ربيع الأول توجه نائب الشام سيف الدين تنكز إلى الديار المصرية لزيارة السلطان فأكرمه واحترمه واشترى في هذه السفرة دار الفلوس التي بالقرب من البزوريين والجوزية، وهي شرقيها، وقد كان سوق البزورية اليوم يسمى سوق القمح، فاشترى هذه الدار وعمرها دارا هائلة ليس بدمشق دار أحسن منها. وسماها دار الذهب، وهدم حمام سويد تلقاءها وجعله دار قرآن وحديث في غاية الحسن أيضا، ووقف عليها أماكن ورتب فيه المشايخ والطلبة كما سيأتي تفصيله في موضعه، واجتاز برجوعه من مصر بالقدس الشريف وزاره وأمر ببناء حمام به، وبناء دار حديث أيضا به، وخانقاه كما يأتي بيانه.

وفي آخر ربيع الأول وصلت القناة إلى القدس التي أمر بعمارتها وتجديدها سيف الدين تنكز قطلبك، فقام بعمارتها مع ولاة تلك النواحي، وفرح المسلمون بها ودخلت حتى إلى شط المسجد الأقصى، وعمل به بركة هائلة، وهي مرخمة ما بين الصخرة والأقصى، وكان ابتداء عملها من شوال من السنة الماضية.

وفي هذه المدة عمر سقوف شرافات المسجد الحرام وإيوانه، وعمرت بمكة طهارة ما يلي باب بني شيبة.

قال البرزالي: وفي هذا الشهر كملت عمارة الحمام الذي بسوق باب توما، وله بابان.

وفي ربيع الآخر نقض الترخيم الذي بحائط جامع دمشق القبلي من جهة الغرب مما يلي باب الزيادة، فوجدوا الحائط متجافيا فخيف من أمره، وحضر تنكز بنفسه ومعه القضاة وأرباب الخبرة، فاتفق رأيهم على نقضه وإصلاحه. وذلك يوم الجمعة بعد الصلاة سابع عشرين ربيع الآخر وكتب نائب السلطنة إلى السلطان يعلمه بذلك ويستأذنه في عمارته، فجاء المرسوم بالإذن بذلك، فشرع في نقضه يوم الجمعة خامس عشرين جمادى الأولى، وشرعوا في عمارته يوم الأحد تاسع جمادى الآخرة، وعمل محراب فيما بين الزيادة ومقصورة الخطابة يضاهي محراب الصحابة. ثم جدوا ولازموا في عمارته، وتبرع كثير من الناس بالعمل فيه من سائر الناس، فكان يعمل فيه كل يوم أزيد من مائة رجل، حتى كملت عمارة الجدار وأعيدت طاقاته وسقوفه في العشرين من رجب وذلك بهمة تقي الدين بن مراجل.

وهذا من العجب فإنه نقض الجدار وما يسامته من السقف، وأعيد في مدة لا يتخيل إلى أحد أن عمله يفرغ فيما يقارب هذه المدة جزما، وساعدهم على سرعة الإعادة حجارة وجدوها في أساس الصومعة الغربية التي عند الغزالية، وقد كان في كل زاوية من هذا المعبد صومعة كما في الغربية والشرقية القبلتين منه، فأبيدت الشماليتين قديما ولم يبق منهما من مدة ألوف من السنين سوى أس هذه المئذنة الغربية الشمالية، فكانت من أكبر العون على إعادة هذا الجدار سريعا.

ومن العجب أن ناظر الجامع ابن مراجل لم ينقص أحدا من أرباب المرتبات على الجامع شيئا مع هذه العمارة.

وفي ليلة السبت خامس جمادى الأولى وقع حريق عظيم بالقرايين واتصل بالرماحين، واحترقت القيسارية والمسجد الذي هناك، وهلك للناس شيء كثير من الفرا والجوخ والأقمشة، فإنا لله وإنا إليه راجعون.

وفي يوم الجمعة عاشره بعد الصلاة صلّي على القاضي شمس الدين بن الحريري قاضي قضاة الحنفية بمصر، وصلّي عليه صلاة الغائب بدمشق.

وفي هذا اليوم قدم البريد يطلب برهان الدين بن عبد الحق الحنفي إلى مصر ليلي القضاء بها بعد ابن الحريري، فخرج مسافرا إليها، ودخل مصرفي خامس عشرين جمادى الأولى، واجتمع بالسلطان فولاه القضاء وأكرمه وخلع عليه وأعطاه بغلة بزناري، وحكم بالمدرسة الصالحية بحضرة القضاة والحجاب، ورسم له بجميع جهات ابن الحريري.

وفي يوم الاثنين تاسع جمادى الآخرة أخرج ما كان عند الشيخ تقي الدين بن تيمية من الكتب والأوراق والدواة والقلم، ومنع من الكتب والمطالعة، وحملت كتبه في مستهل رجب إلى خزانة الكتب بالعادلية الكبيرة.

قال البرزالي: وكانت نحو ستين مجلدا، وأربع عشرة ربطة كراريس، فنظر القضاة والفقهاء فيها وتفرقوها بينهم، وكان سبب ذلك أنه أجاب لما كان رد عليه التقي ابن الاخنائي المالكي في مسألة الزيارة فرد عليه الشيخ تقي الدين واستجهله وأعلمه أنه قليل البضاعة في العلم، فطلع الاخنائي إلى السلطان، وشكاه فرسم السلطان عند ذلك بإخراج ما عنده من ذلك وكان ما كان، كما ذكرنا.

وفي أواخره رسم لعلاء الدين بن القلانسي في الدست، مكان أخيه جمال الدين توقيرا لخاطره عن المباشرة، وأن يكون معلومة على قضاء العساكر والوكالة، وخلع عليهما بذلك.

وفي يوم الثلاثاء ثالث عشرين رجب رسم للأئمة الثلاثة الحنفي والمالكي والحنبلي بالصلاة في الحائط القبلي من الأموي، فعين المحراب الجديد الذي بين الزيادة والمقصورة للإمام الحنفي، وعين محراب الصحابة للمالكي وعين محراب مقصورة الخضر الذي كان يصلي فيه المالكي للحنبلي، وعوض إمام محراب الصحابة بالكلاسة، وكان قبل ذلك في حال العمارة قد بلغ محراب الحنفية من المقصورة المعروفة بهم. ومحراب الحنابلة من خلفهم في الرواق الثالث الغربي وكانا بين الأعمدة، فنقلت تلك المحاريب وعوضوا بالمحاريب المستقرة بالحائط القبلي واستقر الأمر كذلك.

وفي العشرين من شعبان مسك الأمير تمرتاش بن جوبان الذي أتى هاربا إلى السلطان الناصر بمصر وجماعة من أصحابه، وحبسوا بقلعة مصر، فلما كان ثاني شوال أظهر موته، يقال إنه قتله السلطان وأرسل رأسه إلى أبي سعيد صاحب العراق ابن خربندا ملك التتار.

وفي يوم الاثنين ثاني شوال خرج الركب الشامي وأميره فخر الدين عثمان بن شمس الدين لؤلؤ الحلبي أحد أمراء دمشق، وقاضيه قاضي قضاة الحنابلة عز الدين بن التقي سليمان.

وممن حج: الأمير حسام الدين الشبمقدار، والأمير قبجق، والأمير حسام الدين بن النجيبي، وتقي الدين بن السلعوس، وبدر الدين بن الصائغ، وابنا جهبل والفخر المصري، والشيخ علم الدين البرزالي، وشهاب الدين الطاهري.

وقبل ذلك بيوم حكم القضاي المنفلوطي الذي كان حاكما ببعلبك بدمشق نيابة عن شيخه قاضي القضاة علاء الدين القونوي، وكان مشكور السيرة تألم أهل بعلبك لفقده، فحكم بدمشق عوضا عن القونوي بسبب عزمه على الحج، ثم لما رجع الفخر من الحج عاد إلى الحكم واستمر المنفلوطي يحكم أيضا، فصاروا ثلاث نواب: ابن جملة، والفخر المصري، والمنفلوطي.

وسافر ابن الحشيشي في ثاني عشرين شوال إلى القاهرة لينوب عن القاضي فخر الدين كاتب المماليك إلى حين رجوعه من الحجاز، فلما وصل ولي حجابة ديوان الجيش، واستمر هناك، واستقل قطب الدين ابن شيخ السلامية بنظر الجيش بدمشق على عادته.

وفي شوال خلع على أمين الملك بالديار المصرية وولي نظر الدواوين فباشره شهرا ويومين وعزل عنه.

وفاة شيخ الإسلام أبي العباس تقي الدين أحمد بن تيمية

قال الشيخ علم الدين البرزالي في تاريخه: وفي ليلة الاثنين العشرين من ذي العقدة توفي الشيخ الإمام العالم العلم العلامة الفقيه الحافظ الزاهد العابد المجاهد القدوة شيخ الإسلام تقي الدين أبو العباس أحمد ابن شيخنا الإمام العلامة المفتي شهاب الدين أبي المحاسن عبد الحليم ابن الشيخ الإمام شيخ الإسلام أبي البركات عبد السلام بن عبد الله بن أبي القاسم محمد بن الخضر بن محمد بن الخضر بن علي بن عبد الله بن تيمية الحراني ثم الدمشقي، بقلعة دمشق بالقاعة التي كان محبوسا بها، وحضر جمع كثير إلى القلعة، وأذن لهم في الدخول عليه، وجلس جماعة عنده قبل الغسل وقرؤا القرآن وتبركوا برؤيته وتقبيله، ثم انصرفوا، ثم حضر جماعة من النساء ففعلن مثل ذلك ثم انصرفن واقتصروا على من يغسله.

فلما فرغ من غسله أخرج ثم اجتمع الخلق بالقلعة والطريق إلى الجامع وامتلأ الجامع أيضا وصحته والكلاسة وباب البريد وباب الساعات إلى باب اللبادين والغوارة، وحضرت الجنازة في الساعة الرابعة من النهار أو نحو ذلك ووضعت في الجامع، والجند قد احتاطوا بها يحفظونها من الناس من شدة الزحام، وصلّي عليه أولا بالقلعة، تقدم في الصلاة عليه أولا الشيخ محمد بن تمام، ثم صلّي عليه بالجامع الأموي عقيب صلاة الظهر.

وقد تضاعف اجتماع الناس على ما تقدم ذكره، ثم تزايد الجمع إلى أن ضاقت الرحاب والأزقة والأسواق بأهلها ومن فيها، ثم حمل بعد أن صلّي عليه على الرؤوس والأصابع، وخرج النعش به من باب البريد واشتد الزحام وعلت الأصوات بالبكاء والنحيب والترحم عليه والثناء والدعاء له.

وألقى الناس على نعشه مناديلهم وعمائمهم وثيابهم، وذهبت النعال من أرجل الناس وقباقيبهم ومناديل وعمائم لا يلتفتون إليها لشغلهم بالنظر إلى الجنازة، وصار النعش على الرؤوس تارة يتقدم وتارة يتأخر، وتارة يقف حتى تمر الناس، وخرج الناس من الجامع من أبوابه كلها وهي شديدة الزحام، كل باب أشد زحمة من الآخر، ثم خرج الناس من أبواب البلد جميعها من شدة الزحام فيها، لكن كان معظم الزحام من الأبواب الأربعة: باب الفرج الذي أخرجت منه الجنازة، وباب الفراديس، وباب النصر، وباب الجابية.

وعظم الأمر بسوق الخيل وتضاعف الخلق وكثر الناس، ووضعت الجنازة هناك وتقدم للصلاة عليه هناك أخوه زين الدين عبد الرحمن، فلما قضيت الصلاة حمل إلى مقبرة الصوفية فدفن إلى جانب أخيه شرف الدين عبد الله رحمهما الله.

وكان دفنه قبل العصر بيسير، وذلك من كثرة من يأتي ويصلي عليه من أهل البساتين وأهل الغوطة وأهل القرى وغيرهم، وأغلق الناس حوانيتهم ولم يتخلف عن الحضور إلا من هو عاجز عن الحضور، مع الترحم والدعاء له، وأنه لو قدر ما تخلف، وحضر نساء كثيرات بحيث حزرن بخمسة عشر ألف امرأة، غير اللاتي كن على الأسطحة وغيرهن، الجميع يترحمن ويبكين عليه فيما قيل.

وأما الرجال فحزروا بستين ألفا إلى مائة ألف إلى أكثر من ذلك إلى مائتي ألف، وشرب جماعة الماء الذي فضل من غسله، واقتسم جماعة بقية السدر الذي غسل به، ودفع في الخيط الذي كان فيه الزئبق الذي كان في عنقه بسبب القمل مائة وخمسون درهما، وقيل إن الطاقية التي كانت على رأسه دفع فيها خمسمائة درهما.

وحصل في الجنازة ضجيج وبكاء كثير، وتضرع وختمت له ختمات كثيرة بالصالحية وبالبلد، وتردد الناس إلى قبره أياما كثيرة ليلا ونهارا يبيتون عنده ويصبحون، ورؤية له منامات صالحة كثيرة، ورثاه جماعة بقصائد جمة.

وكان مولده يوم الاثنين عاشر ربيع الأول بحران سنة إحدى وستين وستمائة، وقدم مع والده وأهله إلى دمشق، وهو صغير، فسمع الحديث من ابن عبد الدائم وابن أبي اليسر وابن عبدان، والشيخ شمس بن الحنبلي، والشيخ شمس الدين بن عطاء الحنفي، والشيخ جمال الدين بن الصيرفي، ومجد الدين بن عساكر، والشيخ جمال الدين البغدادي، والنجيب بن المقداد، وابن أبي الخير، وابن علان وابن أبي بكر اليهودي، والكمال عبد الرحيم، والفخر علي وابن شيبان والشرف بن القواس، وزينب بنت مكي، وخلق كثير سمع منهم الحديث، وقرأ بنفسه الكثير وطلب الحديث وكتب الطباق والإثبات ولازم السماع بنفسه مدة سنين، وقل أن سمع شيئا إلا حفظه، ثم اشتغل بالعلوم، وكان ذكيا كثير المحفوظ فصار إماما في التفسير وما يتعلق به، عارفا بالفقه، فيقال إنه كان أعرف بفقه المذاهب من أهلها الذين كانوا في زمانه وغيره، وكان عالما باختلاف العلماء، عالما في الأصول والفروع والنحو واللغة، وغير ذلك من العلوم النقلية والعقلية، وما قطع في مجلس ولا تكلم معه فاضل في فن من الفنون إلا ظن أن ذلك الفن فنه، ورآه عارفا به متقنا له، وأما الحديث فكان حامل رايته حافظا له مميزا بين صحيحه وسقيه، عارفا برجاله متضلعا من ذلك، وله تصانيف كثيرة وتعاليق مفيدة في الأصول والفروع، كمل منها جملة وبيضت وكتبت عنه وقرئت عليه أو بعضها، وجملة كبيرة لم يكملها وجملة كملها ولم تبيّض إلى الآن.

وأثنى عليه وعلى علومه وفضائله جماعة من علماء عصره، مثل القاضي الخويي، وابن دقيق العيد، وابن النحاس، والقاضي الحنفي قاضي قضاة مصر ابن الحريري وابن الزملكاني وغيرهم، ووجدت بخط ابن الزملكاني أنه قال: اجتمعت فيه شروط الاجتهاد على وجهها، وأن له اليد الطولي في حسن التصنيف وجودة العبارة والترتيب والتقسيم والتدين، وكتب على تصنيف له هذه الأبيات

ماذا يقول الواصفون له * وصفاته جلت عن الحصر

هو حجة لله قاهرة * هو بيننا أعجوبة الدهر

هو آية في الخلق ظاهرة * أنوارها أربت على الفجر

وهذا الثناء عليه وكان عمره يومئذ نحو الثلاثين سنة، وكان بيني وبينه مودة وصحبة من الصغر، وسماع الحديث والطلب من نحو سنة، وله فضائل كثيرة، وأسماء مصنفاته وسيرته وما جرى بينه وبين الفقهاء والدولة وحبسه مرات وأحواله لا يحتمل ذكر جميعها هذا الموضع، وهذا الكتاب.

ولما مات كنت غائبا عن دمشق بطريق الحجاز، ثم بلغنا خبر موته بعد وفاته بأكثر من خمسين يوما لما وصلنا إلى تبوك، وحصل التأسف لفقده رحمه الله تعالى.

هذا لفظه في هذا الموضع من تاريخه.

ثم ذكر الشيخ علم الدين بعد إيراد هذه الترجمة جنازة أبي بكر بن أبي داود وعظمها، وجنازة الإمام أحمد ببغداد وشهرتها، وقال الإمام أبو عثمان الصابوني: سمعت أبا عبد الرحمن السيوفي يقول: حضرت جنازة أبي الفتح القواس الزاهد مع الشيخ أبي الحسن الدارقطني فلما بلغ إلى ذلك الجمع العظيم أقبل علينا وقال: سمعت أبا سهل بن زياد القطان يقول سمعت عبد الله بن أحمد بن حنبل يقول سمعت أبي يقول: قولوا لأهل البدع بيننا وبينكم الجنائز، قال: ولا شك أن جنازة أحمد بن حنبل كانت هائلة عظيمة، بسبب كثرة أهل بلده واجتماعهم لذلك، وتعظيمهم له، وأن الدولة كانت تحبه.

والشيخ تقي الدين ابن تيمية رحمه الله توفي ببلدة دمشق، وأهلها لا يعشرون أهل بغداد حينئذ كثرة، ولكنهم اجتمعوا لجنازته اجتماعا لو جمعهم سلطان قاهر، وديوان حاصر لما بلغوا هذه الكثرة التي اجتمعوها في جنازته، وانتهوا إليها.

هذا مع أن الرجل مات بالقلعة محبوسا من جهة السلطان، وكثير من الفقهاء والفقراء يذكرون عنه للناس أشياء كثيرة، مما ينفر منها طباع أهل الأديان فضلا عن أهل الإسلام. وهذه كانت جنازته.

قال: وقد اتفق موته في سحر ليلة الاثنين المذكور، فذكر ذلك مؤذن القلعة على المنارة بها وتكلم به الحراس على الأبرجة، فما أصبح الناس إلا وقد تسامعوا بهذا الخطب العظيم والأمر الجسيم، فبادر الناس على الفور إلى الاجتماع حول القلعة من كل مكان أمكنهم المجيء منه، حتى من الغوطة والمرج، ولم يطبخ أهل الأسواق شيئا ولا فتحوا كثيرا من الدكاكين التي من شأنها أن تفتح أوائل النهار على العادة.

وكان نائب السلطنة تنكز قد ذهب يتصيد في بعض الأمكنة، فحارت الدولة ماذا يصنعون، وجاء الصاحب شمس الدين غبريال نائب القلعة فعزاه فيه، وجلس عنده، وفتح باب القلعة لمن يدخل من الخواص والأصحاب والأحباب، فاجتمع عند الشيخ في قاعته خلق من أخصاء أصحابه من الدولة وغيرهم من أهل البلد والصالحية، فجلسوا عنده يبكون ويثنون على، مثل ليلى يقتل المرء نفسه، وكنت فيمن حضر هناك مع شيخنا الحافظ أبي الحجاج المزي رحمه الله، وكشفت عن وجه الشيخ ونظرت إليه وقبلته، وعلى رأسه عمامة بعذب مغروزة وقد علاه الشيب أكثر مما فارقناه.

وأخبر الحاضرين أخوه زين الدين عبد الرحمن أنه قرأ هو والشيخ منذ دخل القلعة ثمانين ختمة وشرعا في الحادية والثمانين، فانتهينا فيها إلى آخر اقتربت الساعة {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ * فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ} 10.

فشرع عند ذلك الشيخان الصالحان الخيران عبد الله بن المحب وعبد الله الزرعي الضرير - وكان الشيخ رحمه الله يحب قراءتهما - فابتدآ من أول سورة الرحمن حتى ختموا القرآن وأنا حاضر أسمع وأرى.

ثم شرعوا في غسل الشيخ وخرجت إلى مسجد هناك ولم يدعوا عنده إلا من ساعد في غسله، منهم شيخنا الحافظ المزي وجماعة من كبار الصالحين الأخيار أهل العلم والإيمان، فما فرغ منه حتى امتلأت القلعة وضج الناس بالبكاء والثناء والدعاء والترحم، ثم ساروا به إلى الجامع فسلكوا طريق العمادية على العادلية الكبيرة، ثم عطفوا على ثلث الناطفانيين.

وذلك أن سويقة باب البريد كانت قد هدمت لتصلح، ودخلوا بالجنازة إلى الجامع الأموي، والخلائق فيه بين يدي الجنازة وخلفها وعن يمينها وشمالها ما لا يحصى عدتهم إلا الله تعالى، فصرخ صارخ وصاح صائح: هكذا تكون جنائز أئمة السنة، فتباكى الناس وضجوا عند سماع هذا الصارخ، ووضع الشيخ في موضع الجنائز مما يلي المقصورة.

وجلس الناس من كثرتهم وزحمتهم على غير صفوف، بل مرصوصين رصا لا يتمكن أحد من السجود إلا بكلفة جو الجامع، وبرى الأزقة والأسواق، وذلك قبل أذان الظهر بقليل، وجاء الناس من كل مكان، وقوي خلق الصيام لأنهم لا يتفرغون في هذا اليوم لأكل ولا لشرب، وكثر الناس كثرة لا تحد ولا توصف، فلما فرغ من أذان الظهر أقيمت الصلاة عقبه على السدة خلاف العادة، فلما فرغوا من الصلاة خرج نائب الخطيب لغيبة الخطيب بمصر فصلى عليه إماما، وهو الشيخ علاء الدين الخراط.

ثم خرج الناس من كل مكان من أبواب الجامع والبلد كما ذكرنا، واجتمعوا بسوق الخيل، ومن الناس من تعجل بعد أن صلى في الجامع إلى مقابر الصوفية، والناس في بكاء وتهليل في مخافته كل واحد بنفسه، وفي ثناء وتأسف، والنساء فوق الأسطحة من هناك إلى المقبرة يبكين ويدعين ويقلن هذا العالم.

وبالجملة كان يوما مشهودا لم يعهد مثله بدمشق إلا أن يكون في زمن بني أمية حين كان الناس كثيرين، وكانت دار الخلافة، ثم دفن عند أخيه قريبا من أذان العصر على التحديد، ولا يمكن أحد حصر من حضر الجنازة، وتقريب ذلك أنه عبارة عمن أمكنه الحضور من أهل البلد وحواضره ولم يتخلف من الناس إلا القليل من الصغار والمخدرات، وما علمت أحدا من أهل العلم إلا النفر اليسير تخلف عن الحضور في جنازته، وهم ثلاثة أنفس: وهم ابن جملة، والصدر، والقفجاري. وهؤلاء كانوا قد اشتهروا بمعاداته فاختفوا من الناس خوفا على أنفسهم، بحيث إنهم علموا متى خرجوا قتلوا وأهلكهم الناس، وتردد شيخنا الإمام العلامة برهان الدين الفزاري إلى قبره في الأيام الثلاثة وكذلك جماعة من علماء الشافعية، وكان برهان الدين الفزاري يأتي راكبا على حماره وعليه الجلالة والوقار رحمه الله.

وعملت له ختمات كثيرة، ورؤيت له منامات صالحة عجيبة، ورثي بأشعار كثيرة وقصائد مطولة جدا.

وقد أفردت له تراجم كثيرة، وصنف في ذلك جماعة من الفضلاء وغيرهم، وسألخص من مجموع ذلك ترجمة وجيزة في ذكر مناقبه وفضائله وشجاعته وكرمه ونصحه وزهادته وعبادته وعلومه المتنوعة الكثيرة المجودة وصفاته الكبار والصغار، التي احتوت على غالب العلوم ومفرداته في الاختيارات التي نصرها بالكتاب والسنة وأفتى بها.

وبالجملة كان رحمه الله من كبار العلماء وممن يخطئ ويصيب ولكن خطأه بالنسبة إلى صوابه كنقطة في بحر لجي، وخطأه أيضا مغفور له كما في صحيح البخاري: «إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجرا وإذا اجتهد فأخطأ فله أجر» فهو مأجور.

وقال الإمام مالك بن أنس: كل أحد يؤخذ من قوله ويترك إلا صاحب هذا القبر.

وفي سادس عشرين ذي القعدة نقل تنكز حواصله وأمواله من دار الذهب داخل باب الفراديس إلى الدار التي أنشأها، وتعرف بدار فلوس، فسميت دار الذهب، وعزل خزنداره ناصر الدين محمد بن عيسى، وولي مكانه مملوكه أباجي.

وفي ثاني عشرين القعدة جاء إلى مدينة عجلون سيل عظيم من أول النهار إلى وقت العصر، فهدم من جامعها وأسواقها ورباعها ودورها شيئا كثيرا، وغرق سبعة نفر وهلك للناس شيء كثير من الأموال والغلات والأمتعة والمواشي ما يقارب قيمته ألف ألف درهم والله أعلم، وإنا لله وإنا إليه راجعون.

وفي يوم الأحد ثامن عشر ذي الحجة ألزم القاضي الشافعي الشيخ علاء الدين القونوي جماعة الشهود بسائر المراكز أن يرسلوا في عمائمهم العذبات ليتميزوا بذلك عن عوام الناس، ففعلوا ذلك أياما ثم تضرروا من ذلك فأرخص لهم في تركها، ومنهم من استمر بها.

وفي يوم الثلاثاء عشرين ذي الحجة أفرج عن الشيخ الإمام العالم العلامة أبي عبد الله شمس الدين بن قيم الجوزية، وكان معتقلا بالقلعة أيضا، من بعد اعتقال الشيخ تقي الدين بأيام من شعبان سنة ست وعشرين إلى هذا الحين، وجاء الخبر بأن السلطان أفرج عن الجاولي والأمير فرج بن قراسنقر، ولاجين المنصوري، وأحضروا بعد العيد بين يديه، وخلع عليهم.

وفيه: وصل الخبر بموت الأمير الكبير جوبان نائب السلطان أبي سعيد على تلك البلاد، ووفاة قراسنقر المنصوري أيضا كلاهما في ذي القعدة من هذه السنة.

وجوبان هذا هو الذي ساق القناة الواصلة إلى المسجد الحرام، وقد غرم عليها أموالا جزيلة كثيرة، وله تربة بالمدينة النبوية، ومدرسة مشهورة، وله آثار حسنة، وكان جيد الإسلام له همة عالية وقد دبر الممالك في أيام أبي سعيد مدة طويلة على السداد، ثم أراد أبو سعيد مسكة فتخلص من ذلك كما ذكرنا.

ثم إن أبا سعيد قتل ابنه خواجا دمشق في السنة الماضية ففر ابنه الآخر تمرتاش هاربا إلى سلطان مصر، فآواه شهرا ثم ترددت الرسل بين الملكين في قتله فقتله صاحب مصر فيما قيل وأرسل برأسه إليه، ثم توفي أبوه بعده بقليل، والله أعلم بالسرائر.

وأما قراسنقر المنصوري فهو من جملة كبار أمراء مصر والشام، وكان من جملة من قتل الأشرف خليل بن المنصور كما تقدم، ثم ولي نيابة مصر مدة، ثم صار إلى نيابة دمشق ثم إلى نيابة حلب، ثم فر إلى التتر هو والأفرم والزركاشي فآواهم ملك التتار خربندا وأكرمهم وأقطعهم بلادا كثيرة، وتزوج قراسنقر بنت هولاكو ثم كانت وفاته بمراغة بلده التي كان حاكما بها في هذه السنة، وله نحو تسعين سنة والله أعلم.

من الأعيان:

شيخ الإسلام العلامة تقي الدين ابن تيمية كما تقدم ذكر ذلك في الحوادث وسنفرد له ترجمة على حدة إن شاء الله تعالى.

الشريف العالم عز الدين

عز الدين أبو إسحاق إبراهيم بن أحمد بن عبد المحسن العلوي الحسيني العراقي الإسكندري الشافعي، سمع الكثير وحفظ (الوجيز) في الفقه، و(الإيضاح) في النحو، وكان زاهدا متقللا من الدنيا وبلغ تسعين سنة وعقله وعلمه وذهنه ثابت متيقظ، ولد سنة ثمان وثلاثين وستمائة، وتوفي يوم الجمعة خامس المحرم، ودفن بالإسكندرية بين المادين رحمه الله.

الشمس محمد بن عيسى التكريدي

كانت فيه شهامة وحزامة، وكان يكون بين يدي الشيخ تقي الدين بن تيمية كالمنفذ لما يأمر به وينهى عنه.

ويرسله الأمراء وغيرهم في الأمور المهمة، وله معرفة وفهم بتبليغ رسالته على أتم الوجوه توفي في الخامس من صفر بالقبيبات، ودفن عند الجامع الكريمي رحمه الله تعالى.

الشيخ أبو بكر الصالحالي

أبو بكر بن شرف بن محسن بن معن بن عمان الصالحي، ولد سنة ثلاث وخمسين وستمائة، وسمع الكثير صحبة الشيخ تقي الدين بن تيمية والمزي، وكان ممن يحب الشيخ تقي الدين، وكان معهما كالخادم لهما، وكان فقيرا ذا عيال يتناول من الزكاة والصدقات ما يقوم بأوده. وأقام في آخر عمره بحمص، وكان فصيحا مفوها، له تعاليق وتصانيف في الأصول وغيرها، وكان له عبادة وفيه خير وصلاح، وكان يتكلم على الناس بعد صلاة الجمعة إلى العصر من حفظه.

وقد اجتمعت بأمره صحبة شيخنا المزي حين قدم من حمص فكان قوي العبارة فصيحها متوسطا بالعلم، له ميل إلى التصوف والكلام في الأحوال والأعمال والقلوب وغير ذلك، وكان يكثر ذكر الشيخ تقي الدين بن تيمية.

توفي بحمص في الثاني والعشرين من صفر من هذه السنة، وقد كان الشيخ يحض الناس على الإحسان إليه، وكان يعطيه ويرفده.

ابن الدواليبي البغدادي

الشيخ الصالح العالم العابد الرحلة المسند المعمر عفيف الدين أبو عبد الله محمد بن عبد المحسن ابن أبي الحسين بن عبد الغفار البغدادي الأرجي الحنبلي المعروف بابن الدواليبي، شيخ دار الحديث المستنصرية.

ولد في ربيع الأول سنة ثمان وثلاثين وستمائة، وسمع الكثير، وله إجازات عالية، واشتغل بحفظ الخرقي، وكان فاضلا في النحو وغيره، وله شعر حسن، وكان رجلا صالحا جاوز التسعين وصار رحلة العراق، وتوفي يوم الخميس رابع جمادى الأولى ودفن بمقبرة الإمام أحمد مقابر الشهداء رحمه الله، وقد أجازني فيمن أجاز من مشايخ بغداد ولله الحمد.

قاضي القضاة شمس الدين ابن الحريري

أبو عبد الله محمد بن صفي الدين أبي عمر وعثمان بن أبي الحسن عبد الوهاب الأنصاري الحنفي.

ولد سنة ثلاث وخسمين، وسمع الحديث واشتغل وقرأ (الهداية)، وكان فقيها جيدا، ودرّس بأماكن كثيرة بدمشق، ثم ولي القضاء بها، ثم خطب إلى قضاء الديار المصرية فاستمر بها مدة طويلة محفوظ العرض، لا يقبل من أحد هدية ولا تأخذه في الحكم لومة لائم، وكان يقول إن لم يكن ابن تيمية شيخ الإسلام فمن؟

وقال لبعض أصحابه: أتحب الشيخ تقي الدين؟ قال: نعم، قال: والله لقد أحببت شيئا مليحا.

توفي رحمه الله يوم السبت رابع جمادى الآخرة ودفن بالقرافة، وكان قد عين لمنصبه القاضي برهان الدين بن عبد الحق فنفذت وصيته بذلك، وأرسل إليه إلى دمشق فأحضر فباشر الحكم بعده وجميع جهاته.

الشيخ الإمام العالم المقري

شهاب الدين أبو العباس أحمد بن الشيخ الإمام تقي الدين محمد بن جبارة بن عبد الولي بن جبارة المقدسي المرداوي الحنبلي، شارح الشاطبية، ولد سنة تسع وأربعين وستمائة، وسمع الكثير وعني بفن القراءات فبرز فيه، وانتفع الناس به، وقد أقام بمصر مدة واشتغل بها على الفزاري في أصول الفقه، وتوفي بالقدس رابع رجب رحمه الله، كان يعد من الصلحاء الأخيار، سمع عن خطيب مردا وغيره.

ابن العاقولي البغدادي

الشيخ الإمام العلامة جمال الدين أبو محمد عبد الله بن محمد بن علي بن حماد بن تائب الواسطي العاقولي ثم البغدادي الشافعي، مدرّس المستنصرية مدة طويلة نحوا من أربعين سنة، وباشر نظر الأوقاف وعين لقضاء القضاة في وقت.

ولد ليلة الأحد عاشر رجب سنة ثمان وثلاثين وستمائة، وسمع الحديث وبرع واشتغل وأفتى من سنة سبع وخمسين إلى أن مات، وذلك مدة إحدى وسبعين سنة، وهذا شيء غريب جدا، وكان قوي النفس له وجاهة في الدولة، فكم كشف كربة عن الناس بسعيه وقصده.

توفي ليلة الأربعاء رابع عشرين شوال، وقد جاوز التسعين سنة، ودفن بداره، وكان قد وقفها على شيخ وعشرة صبيان يسمعون القرآن ويحفظونه، ووقف عليها أملاكه كلها.

تقبل الله منه ورحمه، ودرّس بعده بالمستنصرية قاضي القضاة قطب الدين.

الشيخ الصالح شمس الدين السلامي

شمس الدين محمد بن داود بن محمد بن ساب، السلامي البغدادي، أحد ذوي اليسار، وله بر تام بأهل العلم، ولا سيما أصحاب الشيخ تقي الدين.

وقد وقف كتبا كثيرة، وحج مرات، وتوفي ليلة الأحد رابع عشرين ذي القعدة بعد وفاة الشيخ تقي الدين بأربعة أيام، وصلّي عليه بعد صلاة الجمعة ودفن بباب الصغير رحمه الله وأكرم مثواه.

وفي هذه الليلة توفيت الوالدة مريم بنت فرج بن علي من قرية كان الوالد خطيبها، وهي مجيدل القرية سنة ثلاث وسبعين وستمائة، وصلّي عليها بعد الجمعة ودفنت بالصوفية شرقي قبر الشيخ تقي الدين بن تيمية رحمها الله تعالى.

ثم دخلت سنة تسع وعشرين وسبعمائة

استهلت والخليفة والحاكم هم المباشرون في التي قبلها، غير أن قطب الدين ابن شيخ السلامية اشتغل بنظر الجيش.

وفي المحرم طلب القاضي محيي الدين بن فضل الله كاتب سر دمشق وولده شهاب الدين، وشرف الدين بن شمس الدين بن الشهاب محمود إلى مصر على البريد، فباشر القاضي الصدر الكبير محيي الدين المذكور كتابة السر بها عوضا عن علاء الدين بن الأثير لمرض اعتراه، وأقام عنده ولده شهاب الدين، وأقبل شرف الدين الشهاب محمود إلى دمشق على كتابة السر عوضا عن ابن فضل الله.

وفيه: ذهب ناصر الدين مشد الأوقاف ناظرا على القدس والخليل، فعمر هنالك عمارات كثيرة لملك الأمراء تنكز، وفتح في الأقصى شباكين عن يمين المحراب وشماله وجاء الأمير نجم الدين داود بن محمد بن أبي بكر بن محمد بن يوسف بن الزيبق من شد الدواوين بحمص إلى شدها بدمشق. وفي الحادي والعشرين من صفر كمل ترخيم الحائط القبلي من جامع دمشق وبسط الجامع جميعه، وصلى الناس الجمعة به من الغد، وفتح باب الزيادة، وكان له أياما مغلقا وذلك في مباشرة تقي الدين بن مراجل.

وفي ربيع الآخر قدم من مصر أولاد الأمير شمس الدين قراسنقر إلى دمشق فسكنوا في دار أبيهم داخل باب الفراديس، في دهليز المقدمية، وأعيدت عليهم أملاكهم المخلفة عن أبيهم، وكانت تحت الحوطة، فلما مات في تلك البلاد أفرج عنها أو أكثرها.

وفي يوم الجمعة آخر شهر ربيع الآخر أنزل الأمير جوبان وولده من قلعة المدينة النبوية وهما ميتان مصبران في توابيتهما، فصلّي عليهما بالمسجد النبوي، ثم دفنا بالبقيع عن مرسوم السلطان، وكان مراد جوبان أن يدفن في مدرسته فلم يمكن من ذلك.

وفي هذا اليوم صلّي بالمدينة النبوية على الشيخ تقي الدين بن تيمية رحمه الله، وعلى القاضي نجم الدين البالسي المصري صلاة الغائب.

وفي يوم الاثنين منتصف جمادى الآخرة درّس القاضي شهاب الدين أحمد بن جهبل بالمدرسة البادرائية عوضا عن شيخنا برهان الدين الفزاري توفي إلى رحمة الله تعالى، وأخذ مشيخة دار الحديث منه الحافظ شمس الدين الذهبي، وحضرها في يوم الأربعاء سابع عشرة، ونزل عن خطابة بطنا للشيخ جمال الدين الملاتي المالكي، فخطب بها يوم الجمعة تاسع عشره.

وفي أواخر هذا الشهر قدم نائب حلب الأمير سيف الدين أرغون إلى دمشق قاصدا باب السلطان، فتلقاه نائب دمشق وأنزله بداره التي عند جامعه، ثم سار نحو مصر فغاب نحوا من أربعين يوما، ثم عاد راجعا إلى نيابة حلب.

وفي عاشر رجب طلب الصاحب تقي الدين بن عمر بن الوزير شمس الدين بن السلعوس إلى مصر فولي نظر الدواوين بها حتى مات عن قريب.

وخرج الركب يوم السبت تاسع شوال وأميره سيف الدين بلطي، وقاضيه شهاب الدين القيمري وفي الحجاج زوجة ملك الأمراء تنكز، وفي خدمتها الطواشي شبل الدولة وصدر الدين المالكي، وصلاح الدين ابن أخي الصاحب تقي الدين توبة، وأخوه شرف الدين، والشيخ علي المغربي، والشيخ عبد الله الضرير وجماعة.

وفي بكرة الأربعاء ثالث شوال جلس القاضي ضياء الدين علي بن سليم بن ربيعة للحكم بالعادلية الكبيرة نيابة عن قاضي القضاة القونوي، وعوضا عن الفخر المصري بحكم نزوله عن ذلك وإعراضه عنه تاسع عشر رمضان من هذه السنة.

وفي يوم الجمعة سادس ذي القعدة بعد أذان الجمعة صعد إلى منبر جامع الحاكم بمصر شخص من مماليك الجاولي يقال له أرصى، فادعى أنه المهدي وسجع سجعات يسيرة على رأي الكهان، فأنزل في شرخيبة، وذلك قبل حضور الخطيب بالجامع المذكور.

وفي ذي القعدة وما قبله وما بعده من أواخر هذه السنة وأوائل الأخرى وسعت الطرقات والأسواق داخل دمشق وخارجها، مثل سوق السلاح والرصيف والسوق الكبير وباب البريد ومسجد القصب إلى الزنجبيلية، وخارج باب الجباية إلى مسجد الدبان، وغير ذلك من الأماكن التي كانت تضيق عن سلوك الناس، وذلك بأمر تنكز، وأمر بإصلاح القنوات، واستراح الناس من ترتيش الماء عليهم بالنجاسات.

ثم في العشر الأخير من ذي الحجة رسم بقتل الكلاب فقتل منهم شيء كثير جدا، ثم جمعوا خارج باب الصغير مما يلي باب كيسان في الخندق، وفرق بين الذكور منهم والإناث ليموتوا سريعا، ولا يتوالدوا، وكانت الجيف والميتات تنقل إليهم فاستراح الناس من النجاسة من الماء والكلاب، وتوسعت لهم الطرقات.

وفي يوم الجمعة ثاني عشر ذي الحجة حضر مشيخة الشيوخ بالسمساطية قاضي القضاة شرف الدين المالكي بعد وفاة قاضي القضاة القونوي الشافعي، وقرئ تقليده بالسبحة بها وحضره الأعيان وأعيد إلى ما كان عليه.

من الأعيان:

الإمام العالم نجم الدين نجم الدين أبو عبد الله

محمد بن عقيل بن أبي الحسن بن عقيل البالسي الشافعي، شارح (التنبيه)، ولد سنة ستين وستمائة، وسمع الحديث واشتغل بالفقه وغيره من فنون العلم، فبرع فيها ولازم ابن دقيق العيد وناب عنه في الحكم، ودرس بالمغربية والطيبرسية وجامع مصر، وكان مشهورا بالفضيلة والديانة وملازمة الاشتغال.

توفي ليلة الخميس رابع عشر المحرم ودفن بالقرافة، وكانت جنازته حافلة، رحمه الله.

الأمير سيف الدين قطلوبك التشنكير الرومي

كان من أكابر الأمراء وولي الحجوبية في وقت، وهو الذي عمر القناة بالقدس، توفي يوم الاثنين سابع ربيع الأول ودفن بتربته شمال باب الفراديس، وهي مشهورة حسنة، وحضر جنازته بسوق الخيل النائب والأمراء.

محدث اليمن شرف الدين أحمد بن فقيه زبيد

أبي الحسين بن منصور الشماخي المذحجي، روى عن المكيين وغيرهم، وبلغت شيوخه خمسمائة أو أزيد، وكان رحلة تلك البلاد ومفيدها الخير، وكان فاضلا في صناعة الحديث والفقه وغير ذلك، توفي في ربيع الأول من هذه السنة.

نجم الدين أبو الحسن

علي بن محمد بن عمر بن عبد الرحمن بن عبد الواحد أبو محمد بن المسلم أحد رؤساء دمشق المشهورين، له بيت كبير ونسب عريق، ورياسة باذخة وكرم زائد، باشر نظر الأيتام مدة، وسمع الكثير وحدّث، وكانت لديه فضائل وفوائد، وله الثروة الكثيرة، ولد سنة تسع وأربعين وستمائة، ومات يوم الاثنين ضحوة خامس ربيع الآخر، وصلّي عليه بعد الظهر بالأموي، ودفن بسفح قاسيون بتربة أعدها لنفسه، وقبران عنده، وكتب على قبره: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} الآية 11، وسمعنا عليه الموطأ وغيره.

الأمير بكتمر الحاجب

صاحب الحمام المشهور خارج باب النصر في طريق مقابر الصوفية من ناحية الميدان، كانت وفاته بالقاهرة في عشرين ربيع الآخر، ودفن بمدرسته التي أنشأها إلى جانب داره هناك.

الشيخ شرف الدين عيسى بن محمد بن قراجا بن سليمان

السهروردي الصوفي الواعظ، له شعر ومعرفة بالألحان والأنغام، ومن شعره قوله:

بشراك يا سعد هذا الحي قد بانا * فحلها سيبطل الإبل والبانا

منازل ما وردنا طيب منزلها * حتى شربنا كؤوس الموت أحيانا

متنا غراما وشوقا في المسير لها * فمنذوا في نسيم القرب أحيانا

توفي في ربيع الآخر.

شيخنا العلامة برهان الدين الفزاري

هو الشيخ الإمام العالم العلامة شيخ المذهب وعلمه ومفيد أهله، شيخ الإسلام مفتي الفرق بقية السلف برهان الدين أبو إسحاق إبراهيم ابن الشيخ العلامة تاج الدين أبي محمد عبد الرحمن ابن الشيخ الإمام المقري المفتي برهان الدين أبي إسحاق إبراهيم بن سباع بن ضياء الفزاري المصري الشافعي.

ولد في ربيع الأول سنة ستين وستمائة، وسمع الحديث واشتغل على أبيه وأعاد في حلقته وبرع وساد أقرانه، وسائر أهل زمانه من أهل مذهبه في دراية المذهب ونقله وتحريره، ثم كان في منصب أبيه في التدريس بالبادرائية، وأشغل الطلبة بالجامع الأموي فانتفع به المسلمون.

وقد عرضت عليه المناصب الكبار فأباها، فمن ذلك أنه باشر الخطابة بعد عمه العلامة شرف الدين مدة ثم تركها وعاد إلى البادرائية، وعرض عليه قضاء قضاة الشام بعد ابن صصرى وألح نائب الشام عليه بنفسه وأعوانه من الدولة فلم يقبل، وصمم وامتنع أشد الامتناع، وكان مقبلا على شأنه عارفا بزمانه مستغرقا أوقاته في الاشتغال والعبادة ليلا ونهارا، كثير المطالعة وإسماع الحديث، وقد سمعنا عليه صحيح مسلم وغيره.

وكان يدرس بالمدرسة المذكورة، وله تعليق كثير على (التنبيه)، فيه من الفوائد ما ليس يوجد في غيره، وله تعليق على مختصر ابن الحاجب في أصول الفقه، وله مصنفات في غير ذلك كبار.

وبالجملة فلم أر شافعيا من مشايخنا مثله، وكان حسن الشكل عليه البهاء والجلالة والوقار، حسن الأخلاق، فيه حدث ثم يعود قريبا، وكرمه زائد وإحسانه إلى الطلبة كثير، وكان لا يقتني شيئا ويصرف مرتبه وجامكية مدرسته في مصالحه.

وقد درّس بالبادرائية من سنة سبعين وستمائة إلى عامه هذا، توفي بكرة يوم الجمعة سابع جمادى الأولى بالمدرسة المذكورة، وصلّي عليه عقب الجمعة بالجامع وحملت جنازته على الرؤوس وأطراف الأنامل، وكانت حافلة، ودفن عند أبيه وعمه وذويه بباب الصغير رحمه الله تعالى.

الشيخ الإمام العالم الزاهد الورع مجد الدين إسماعيل الحراني الحنبلي

ولد سنة ثمان وأربعين وستمائة، وقرأ القراءات وسمع الحديث في دمشق حين انتقل مع أهله إليها سنة إحدى وسبعين، واشتغل على الشيخ شمس الدين بن أبي عمر، ولازمه وانتفع به، وبرع في الفقه وصحة النقل وكثرة الصمت عما لا يعنيه، ولم يزل مواظبا على جهاته ووظائفه لا ينقطع عنها إلا من عذر شرعي، إلى أن توفي ليلة الأحد تاسع جمادى الأولى ودفن بباب الصغير رحمه الله تعالى.

وفي هذا الحين توفي:

الصاحب شرف الدين يعقوب بن عبد الله

الذي كان ناظر الدواوين بحلب، ثم انتقل إلى نظرها بطرابلس.

توفي بحماه، وكان محبا للعلماء وأهل الخير، وفيه كرم وإحسان، وهو والد القاضي ناصر الدين كاتب السر بدمشق، وقاضي العساكر الحلبية ومشيخة الشيوخ بالسمساطية، ومدرس الأسدية بحلب، والناصرية والشامية الجوانية بدمشق.

القاضي معين الدين

هبة الله بن علم الدين مسعود بن أبي المعالي عبد الله بن أبي الفضل بن الخشيشي الكاتب وناظر الجيش بمصر في بعض الأحيان، ثم بدمشق مدة طويلة مستقلا ومشاركا لقطب الدين ابن شيخ السلامية، وكان خبيرا بذلك يحفظه على ذهنه، وكانت له يد جيدة في العربية والأدب والحساب وله نظم جيد، وفيه تودد وتواضع.

توفي بمصر في نصف جمادى الآخرة ودفن بتربة الفخر كاتب المماليك.

قاضي القضاة علاء الدين القونوي

علاء الدين القونوي، أبو الحسن علي بن إسماعيل بن يوسف القونوي التبريزي الشافعي، ولد بمدينة قونية في سنة ثمان وستين وستمائة تقريبا واشتغل هناك، وقد دمشق سنة ثلاث وتسعين، وهو معدود من الفضلاء فازداد بها اشتغالا، وسمع الحديث وتصدر للاشتغال بجامعها ودرّس بالإقبالية، ثم سافر إلى مصر فدرّس بها في عدة مدارس كبار، وولي مشيخة الشيوخ بها وبدمشق، ولم يزل يشتغل بها وينفع الطلبة إلى أن قدم دمشق قاضيا عليها في سنة سبع وعشرين، وله تصانيف في الفقه وغيره، وكان يحرز علوما كثيرة منها النحو والتصريف والأصلان والفقه، وله معرفة جيدة (بكشاف) الزمخشري، وفهم الحديث، وفيه إنصاف كثير وأوصاف حسنة، وتعظيم لأهل العلم، وخرجت له مشيخة سمعناها عليه، وكان يتواضع لشيخنا المزي كثيرا، توفي ببستانه بالسهم يوم سبت بعد العصر رابع عشر ذي القعدة، وصلّي عليه من الغد، ودفن بسفح قاسيون سامحه الله.

الأمير حسام الدين لاجين المنصور الحسامي

ويعرف بلاجين الصغير، ولي البر بدمشق مدة، ثم نيابة غزة ثم نيابة البيرة، وبها مات في ذي القعدة، ودفن هناك، وكان ابتني تربة لزوجته ظاهر باب شرقي فلم يتفق دفنه بها {وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ} 12.

الصاحب عز الدين أبو يعلى

حمزة بن مؤيد الدين أبي المعالي أسعد بن عز الدين أبي غالب المظفر ابن الوزير مؤيد الدين أبي المعالي بن أسعد بن العميد أبي يعلى بن حمزة بن أسد بن علي بن محمد التميمي الدمشقي بن القلانسي، أحد رؤساء دمشق الكبار، ولد سنة تسع وأربعين وستمائة، وسمع الحديث من جماعة، ورواه وسمعنا عليه.

وله رياسة باذخة وأصالة كثيرة وأملاك هائلة كافية لما يحتاج إليه من أمور الدنيا ولم يزل معه صناعة للوظائف إلى أن ألزم بوكالة بيت السلطان، ثم بالوزارة في سنة عشرة كما تقدم، ثم عزل، وقد صودر في بعض الأحيان، وكانت له مكارم على الخواص والكبار، وله إحسان إلى الفقراء والمحتاجين.

ولم يزل معظما وجيها عند الدولة من النواب والملوك والأمراء وغيرهم إلى أن توفي ببستانه ليلة السبت سادس الحجة، وصلّي عليه من الغد، ودفن بتربته بسفح قاسيون، وله في الصالحية رباط حسن بمئذنة، وفيه دار حديث وبر وصدقة رحمه الله.

ثم دخلت سنة ثلاثون وسبعمائة

استهلت بالأربعاء والحكام بالبلاد هم المذكورون بالتي قبلها سوى الشافعي فإنه توفي وولي مكانه في رابع المحرم منها علم الدين محمد بن أبي بكر بن عيسى بن بدران السبكي الاخنائي الشافعي.

وقدم دمشق في الرابع والعشرين منه صحبة نائب السلطنة تنكز، وقد زار القدس وحضر معه تدريس التنكزية التي أنشأها بها.

ولما قدم دمشق نزل بالعادلية الكبيرة على العادة، ودرّس بها وبالغزالية، واستمر بنيابة المنفلوطي، ثم استناب زين الدين بن المرحل، وفي صفر باشر شرف الدين محمود بن الخطيري شد الأوقاف وانفصل عنها نجم الدين بن الزيبق إلى ولاية نابلس.

وفي ربيع الآخر شرع بترخيم الجانب الشرقي من الأموي نسبة الجانب الغربي، وشاور ابن مراجل النائب والقاضي على جمع الفصوص من سائر الجامع في الحائط القبلي، فرسما له بذلك.

وفي يوم الجمعة أقيمت الجمعة في إيوان الشافعية بالمدرسة الصالحية بمصر، وكان الذي أنشأ ذلك الأمير جمال الدين نائب الكرك، بعد أن استفتى العلماء في ذلك.

وفي ربيع الآخر تولى القضاء بحلب شمس الدين بن النقيب عوضا عن فخر الدين بن البازري، توفي، وولي شمس الدين بن مجد البعلبكي قضاء طرابلس عوضا عن ابن النقيب.

وفي آخر جمادى الأولى باشر نيابة الحكم عن الاخنائي محيي الدين بن جميل عوضا عن المنفلوطي توفي.

وفي هذا الشهر وقف الأمير الوزير علاء الدين مغلطاي الناصري مدرسة على الحنفية وفيها صوفية أيضا، ودرّس بها القاضي علاء الدين بن التركماني، وسكنها الفقهاء.

وفي جمادى الآخرة زينت البلاد المصرية والشامية ودقت البشائر بسبب عافية السلطان من وقعة انصدعت منها يده، وخلع على الأمراء والأطباء بمصر، وأطلقت الحبوس.

وفي جمادى الآخرة قدم على السلطان رسل من الفرنج يطلبون منه بعض البلاد الساحلية فقال لهم: لولا أن الرسل لا تقتل لقتلتكم، ثم سيرهم إلى بلادهم خاسئين.

وفي يوم الأحد سادس رجب حضر الدرس الذي أنشأه القاضي فخر الدين كاتب المماليك على الحنفية بمحرابهم بجامع دمشق، ودرّس به الشيخ شهاب الدين ابن قاضي الحصين، أخو قاضي القضاة برهان الدين بن عبد الحق بالديار المصرية.

وحضر عنده القضاة والأعيان، وانصرفوا من عنده إلى عند ابن أخيه صلاح الدين بالجوهرية، درّس بها عوضا عن حموه شمس الدين بن الزكي نزل له عنها.

وفي آخر رجب خطب بالجامع الذي أنشأه الأمير سيف الدين ألماس الحاجب ظاهر القاهرة بالشارع، وخطب بالجامع الذي أنشأه قوصون بين جامع طولون والصالحية، يوم الجمعة حادي عشر رمضان وحضر السلطان وأعيان الأمراء الخطبة، خطب به يومئذ قاضي القضاة جلال الدين القزويني الشافعي، وخلع عليه خلعة سنية، واستقل في خطابته بدر الدين بن شكري.

وخرج الركب الشامي يوم السبت حادي عشر شوال وأميره سيف الدين المرساوي صهر بلبان البيري، وقاضيه شهاب الدين ابن المجد عبد الله مدرّس الإقبالية، ثم تولى قضاء القضاة كما سيأتي.

وممن حج في هذه السنة: رضي الدين بن المنطيقي، والشمس الأردبيلي شيخ الجاروخية، وصفي الدين بن الحريري، وشمس الدين ابن خطيب بيروذ، والشيخ محمد النيرباني وغيرهم، فلما قضوا مناسكهم رجعوا إلى مكة لطواف الوداع، فبينما هم في سماع الخطبة إذ سمعوا جلبة الخيل من بني حسن وعبيدهم، قد حطموا على الناس في المسجد الحرام، فثار إلى قتالهم الأتراك فاقتتلوا فقتل أمير من الطبلخانات بمصر.

يقال له سيف الدين جخدار وابنه خليل، ومملوك له، وأمير عشيرة يقال له الباجي، وجماعة من الرجال والنساء ونهبت أموال كثيرة، ووقعت خبطة عظيمة في المسجد، وتهارب الناس إلى منازلهم بأبيار الزاهر، وما كادوا يصلون إليها وما أكملت الجمعة إلا بعد جهد، فإنا لله وإنا إليه راجعون.

واجتمعت الأمراء كلهم على الرجعة إلى مكة للأخذ بالثأر منهم، ثم كروا راجعين وتبعهم العبيد حتى وصلوا إلى مخيم الحجيج، وكادوا ينهبون الناس عامة جهرة، وصار أهل البيت في آخر الزمان يصدون الناس عن المسجد الحرام، وبنو الأتراك هم الذين ينصرون الإسلام وأهله ويكفون الأذية عنهم بأنفسهم وأموالهم، كما قال تعالى: {إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلَّا الْمُتَّقُونَ} 13.

من الأعيان:

علاء الدين بن الأثير

كاتب السر بمصر، علي بن أحمد بن سعيد بن محمد بن الأثير الحلبي الأصل، ثم المصري، كانت له حرمة ووجاهة وأموال وثروة ومكانة عند السلطان، حتى ضربه الفالج في آخر عمره فانعزل عن الوظيفة وباشرها ابن فضل الله في حياته.

الوزير العالم أبو القاسم

محمد بن محمد بن سهل بن محمد بن سهل الأزدي الغرناطي الأندلسي، من بيت الرياسة والحشمة ببلاد المغرب، قدم علينا إلى دمشق في جمادى الأولى سنة أربع وعشرين، وهو بعزم الحج، سمعت بقراءته (صحيح مسلم) في تسعة مجالس على الشيخ نجم الدين بن العسقلاني، قراءة صحيحة.

ثم كانت وفاته في القاهرة في ثاني عشرين المحرم، وكانت له فضائل كثيرة في الفقه والنحو والتاريخ والأصول، وكان عالي الهمة شريف النفس محترما ببلاده جدا، بحيث إنه يولي الملوك ويعزلهم، ولم يلِ هو مباشرة شيء ولا أهل بيته، وإنما كان يلقب بالوزير مجازا.

شيخنا الصالح العابد الناسك الخاشع شمس الدين أبو عبد الله محمد

بن الشيخ الصالح العابد شرف الدين أبي الحسن بن حسين بن غيلان البعلبكي الحنبلي، إمام مسجد السلالين بدار البطيخ العتيقة، سمع الحديث وأسمعه، وكان يقرئ القرآن طرفي النهار، وعليه ختمت القرآن في سنة أحد عشر وسبعمائة.

وكان من الصالحين الكبار، والعباد الأخيار، توفي يوم السبت سادس صفر وصلّي عليه بالجامع ودفن بباب الصغير، وكانت جنازته حافلة.

وفي هذا الشهر - أعني صفر- كانت وفاة والي القاهرة القديدار وله آثار غريبة ومشهورة.

بهادرآص الأمير الكبير

رأس ميمنة الشام، سيف الدين بهادرآص المنصوري أكبر أمراء دمشق، وممن طال عمره في الحشمة والثروة، وهو ممن اجتمعت فيه الآية الكريمة {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ} الآية 14.

وقد كان محببا إلى العامة، وله بر وصدقة وإحسان، توفي ليلة الثلاثاء ودفن بتربته خارج باب الجابية، وهي مشهورة أيضا.

الحجار ابن الشحنة

الشيخ الكبير المسند المعمر الرحلة شهاب الدين أبو العباس أحمد بن أبي طالب بن نعمة بن حسن بن علي بن بيان الديرمقرني، ثم الصالحي الحجار المعروف بابن الشحنة، سمع البخاري علي الزبيدي سنة ثلاثين وستمائة بقاسيون، وإنما ظهر سماعه سنة ست وسبعمائة ففرح بذلك المحدثون وأكثروا السماع عليه، فقرئ البخاري عليه نحوا من ستين مرة وغيره.

وسمعنا عليه بدار الحديث الأشرفية في أيام الشتويات نحوا من خمسمائة جزء بالإجازات والسماع، وسماعه من الزبيدي وابن التي، وله إجازة من بغداد فيها مائة وثمانية وثلاثون شيخا من العوالي المسندين، وقد مكث مدة مقدم الحجارين نحوا من خمس وعشرين سنة، ثم كان يخيط في آخر عمره، واستقرت عليه جامكيته لما اشتغل بإسماع الحديث.

وقد سمع عليه السلطان الملك الناصر، وخلع عليه وألبسه الخلعة بيده، وسمع عليه من أهل الديار المصرية والشامية أمم لا يحصون كثرة، وانتفع الناس بذلك، وكان شيخا حسنا بهي المنظر سليم الصدر ممتعا بحواسه وقواه، فإنه عاش مائة سنة محققا، وزاد عليها، لأنه سمع البخاري من الزبيدي في سنة ثلاثين وستمائة وأسمعه هو في سنة ثلاثين وسبعمائة في تاسع صفر بجامع دمشق، وسمعنا عليه يومئذ ولله الحمد.

ويقال إنه أدرك موت المعظم عيسى بن العادل لما توفي، والناس يسمعهم يقولون مات المعظم، وقد كانت وفاة المعظم في سنة أربع وعشرين وستمائة، وتوفي الحجار يوم الاثنين خامس عشرين صفر من هذه السنة، وصلّي عليه بالمظفري يوم الثلاثاء ودفن بتربة له عند زاوية الدومي، بجوار جامع الأفرم.

وكانت جنازته حافلة رحمه الله.

الشيخ نجم الدين بن عبد الرحيم بن عبد الرحمن

أبي نصر المحصل المعروف بابن الشحام، اشتغل ببلده ثم سافر وأقام بمدينة سراي من مملكة إربل، ثم قدم دمشق في سنة أربع وعشرين فدرّس بالظاهرية البرانية ثم بالجاروخية، وأضيف إليه مشيخة رباط القصر، ثم نزل عن ذلك لزوج ابنته نور الدين الأردبيلي، توفي في ربيع الأول وكان يعرف طرفا من الفقه والطب.

الشيخ إبراهيم الهدمة

 جاء من العراق من بلاد المشرق، فقدم الشام، وأقام بين القدس والخليل، في أرض كانت مواتا فأحياها وغرسها وزرع فيها أنواعا، وكان يقصد للزيارة، ويحكي الناس عنه كرامات صالحة،ويرجع نسبه الى آل البيت من سلالة البتول فاطمة الزهراء ابنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.الشيخ إبراهيم الهدمي بن أبي النور بدر الدين بن محمد بن يوسف بن بدران بن يعقوب بن مطر بن سالم بن أبي الوفا محمد بن محمد بن زيد بن الحسن بن محمد المرتضى بن زيد الشهيد بن الإمام زين العابدين علي بن الإمام الحسين السبط الشهيد  بن أمير المؤمنين علي بن أبى طالب كرم الله وجهه  وزوج السيدة فاطمة الزهراء البتول ابنة سيدنا محمد صلى الله علية وسلم وبارك على ذريته والمتقين. وقد بلغ مائة سنة، وتزوج في آخر عمره ورزق أولادا صالحين، توفي في جمادى الآخرة في بلدة الشيوخ ومقامه موجود حتى الان رحمه الله.

الست صاحبة التربة بباب الخواصين الخوندة المعظمة المحجبة المحترمة:

ستيته بنت الأمير سيف الدين

كركاي المنصوري، زوجة نائب الشام تنكز، توفيت بدار الذهب، وصلّي عليها بالجامع ثالث رجب، ودفنت بالتربة التي أمرت بإنشائها بباب الخواصين، وفيها مسجد وإلى جانبها رباط للنساء ومكتب للأيتام.

وفيها صدقات وبر وصلات، وقراء عليها، كل ذلك أمرت به، وكانت قد حجت في العام الماضي رحمها الله.

قاضي قضاة طرابلس

شمس الدين محمد بن عيسى بن محمود البعلبكي المعروف بابن المجد الشافعي، اشتغل ببلده وبرع في فنون كثيرة، وأقام بدمشق مدة يدرّس بالقوصية وبالجامع، ويؤم بمدرسة أم الصالح، ثم انتقل إلى قضاء طرابلس فأقام بها أربعة أشهر، ثم توفي في سادس رمضان وتولاها بعده ولده تقي الدين وهو أحد الفضلاء المشهورين، ولم تطل مدته حتى عزل عنها وأخرج منها.

الشيخ الصالح عبد الله بن أبي القاسم بن يوسف

بن أبي القاسم الحوراني، شيخ طائفتهم وإليه مرجع زاويتهم بحوران، كان عنده تفقه بعض شيء، وزهادة ويزار، وله أصحاب يخدمونه، وبلغ السبعين سنة، وخرج لتوديع بعض أهله إلى ناحية الكرك من ناحية الحجاز فأدركه الموت هناك، فمات في أول ذي القعدة.

الشيخ حسن بن علي

ابن أحمد الأنصاري الضرير كان بفرد عين أولا ثم عمي جملة، وكان يقرأ القرآن ويكثر التلاوة ثم انقطع إلى المنارة الشرقية، وكان يحضر السماعات ويستمع ويتواجد، ولكثير من الناس فيه اعتقاد على ذلك، ولمجاورته في الجامع وكثرة تلاوته وصلاته والله يسامحه، توفي يوم السبت في العشر الأول من ذي الحجة بالمئذنة الشرقية، وصلّي عليه بالجامع، ودفن بباب الصغير.

محيي الدين أبو الثناء محمود

ابن الصدر شرف الدين القلانسي، توفي في ذي الحجة ببستانه، ودفن بتربتهم بسفح قاسيون وهو جد الصدر جلال الدين بن القلانسي، وأخيه علاء، وهم ثلاثتهم رؤساء.

الشاب الرئيس صلاح الدين يوسف

بن القاضي قطب الدين موسى ابن شيخ السلامية، ناظر الجيش أبوه، نشأ هذا الشاب في نعمة وحشمة وترفه وعشرة واجتماع بالأصحاب، توفي يوم السبت تاسع عشرين ذي الحجة فاستراح من حشمته وعشرته إن لم تكن وبالا عليه، ودفن بتربتهم تجاه الناصرية بالسفح، وتأسف عليه أبواه ومعارفه وأصحابه سامحه الله.

ثم دخلت سنة إحدى وثلاثين وسبعمائة

استهلت والحكام هم المذكورون في التي قبلها، وقد ذكرنا ما كان من عبيد مكة إلى الحجاج، وأنه قتل من المصريين أميران، فلما بلغ الخبر السلطان عظم عليه ذلك، وامتنع من الأكل على السماط فيما يقال أياما، ثم جرد ستمائة فارس وقيل ألفا، والأول أصح، وأرسل إلى الشام أن يجرد مقدما آخر، فجرد الأمير سيف الدين الجي بغا العادلي. وخرج من دمشق يوم دخلها الركب في سادس عشرين المحرم، وأمر أن يسير إلى إيلة ليجتمع مع المصريين، وأن يسيروا جميعا إلى الحجاز.

وفي يوم الأربعاء تاسع صفر وصل نهر الساجور إلى مدينة حلب، وخرج نائب حلب أرغون ومعه الأمراء مشاة إليه في تهليل وتكبير وتحميد، يتلقون هذا النهر، ولم يكن أحد من المعالي ولا غيرهم أن يتكلم بغير ذكر الله تعالى. وفرح الناس بوصوله إليهم فرحا شديدا، وكانوا قد وسعوا في تحصيله من أماكن بعيدة احتاجوا فيها إلى نقب الجبال، وفيها صخور ضخام وعقدوا له قناطر على الأودية، وما وصل إلا بعد جهد جهيد، وأمر شديد، فلله الحمد وحده لا شريك له.

وحين رجع نائب حلب أرغون مرض مرضا شديدا ومات رحمه الله.

وفي سابع صفر وسع تنكز الطرقات بالشام ظاهر باب الجابية، وخرب كل ما يضيق الطرقات.

وفي ثاني ربيع الأول لبس علاء الدين القلانسي خلعة سنية لمباشرة نظر الدواوين ديوان ملك الأمراء، وديوان نظر المارستان، عوضا عن ابن العادل، ورجع ابن العادل إلى حجابة الديوان الكبير.

وفي يوم ثاني ربيع الأول لبس عماد الدين بن الشيرازي خلعة نظر الأموي عوضا عن ابن مراجل عزل عنه لا إلى بدل عنه، وباشر جمال الدين بن القويرة نظر الأسرى بدلا عن ابن الشيرازي.

وفي يوم الخميس آخر ربيع الأول لبس القاضي شرف الدين بن عبد الله بن شرف الدين حسن ابن الحافظ أبي موسى عبد الله ابن الحافظ عبد الغني المقدسي خلعة قضاء الحنابلة عوضا عن عز الدين بن التقي سليمان، توفي رحمه الله، وركب من دار السعادة إلى الجامع، فقرئ تقليده تحت النسر بحضرة القضاة والأعيان، ثم ذهب إلى الجوزية، فحكم بها ثم إلى الصالحية وهو لابس الخلعة، واستناب يومئذ ابن أخيه النقي عبد الله بن شهاب الدين أحمد.

وفي سلخ ربيع الآخر اجتاز الأمير علاء الدين الطنبغا بدمشق وهو ذاهب إلى بلاد حلب نائبا عليها، عوضا عن أرغون، توفي إلى رحمة الله، وقد تلقاه النائب والجيش.

وفي مستهل جمادى الأولى حضر الأمير الشريف رميثة بن أبي نمي إلى مكة، فقرئ تقليده بإمرة مكة من جهة السلطان، صحبة التجريدة، وخلع عليه وبايعه الأمراء المجردون من مصر والشام داخل الكعبة، وقد كان وصول التجاريد إلى مكة في سابع ربيع الأول، فأقاموا بباب المعلى، وحصل لهم خير كثير من الصلاة والطواف، وكانت الأسعار رخيصة معهم.

وفي يوم السبت سابع ربيع الآخر خلع على القاضي عز الدين بن بدر الدين بن جماعة بوكالة السلطان ونظر جامع طولون ونظر الناصرية، وهنأه الناس عوضا عن التاج ابن إسحاق عبد الوهاب، توفي ودفن بالقرافة.

وفي هذا الشهر تولى عماد الدين ابن قاضي القضاة الاخنائي تدريس الصارمية وهو صغير بعد وفاة النجم هاشم بن عبد الله البعلبكي الشافعي، وحضرها في رجب وحضر عنده الناس خدمة لأبيه.

وفي حادي عشرين جمادى الآخرة رجعت التجريدة من الحجاز صحبة الأمير سيف الدين الجي بغا، وكانت غيبتهم خمسة أشهر وأياما وأقاموا بمكة شهرا واحدا ويوما واحدا وحصل للعرب منهم رعب شديد، وخوف أكيد، وعزلوا عن مكة عطية، وولوا أخاه رميثة وصلّوا وطافوا واعتمروا، ومنهم من أقام هناك ليحج.

وفي ثاني رجب خلع على ابن أبي الطيب بنظر ديوان بيت المال عوضا عن ابن الصاين توفي.

وفي أوائل شعبان حصل بدمشق هواء شديد مزعج كسر كثيرا من الأشجار والأغصان، وألقى بعض الحيطان والجدران، وسكن بعد ساعة بإذن الله، فلما كان يوم تاسعه سقط برد كبار مقدار بيض الحمام، وكسر بعض جامات الحمام.

وفي شهر شعبان هذا خطب بالمدرسة المعزية على شاطئ النيل أنشأها الأمير سيف الدين طغزدمر، أمير مجلس الناصري، وكان الخطيب عز الدين عبد الرحيم بن الفرات الحنفي.

وفي نصف رمضان قدم الشيخ تاج الدين عمر بن علي بن سالم الملحي ابن الفاكهاني المالكي، نزل عند القاضي الشافعي، وسمع عليه شيئا من مصنفاته، وخرج إلى الحج عامئذ مع الشاميين، وزار القدس قبل وصوله إلى دمشق.

وفي هذا الشهر وطأ سوق الخيل وركبت في حصبات كثيرة، وعمل فيه نحو من أربعمائة نفس في أربعة أيام حتى ساووه وأصلحوه، وقد كان قبل ذلك يكون فيه مياه كثيرة، وملقات.

وفيه: أصلح سوق الدقيق داخل باب الجابية إلى الثابتية وسقف عليه السقوف.

وخرج الركب الشامي يوم الاثنين ثامن شوال وأميره عز الدين أيبك، أمير علم، وقاضيه شهاب الدين الظاهري.

وممن حج فيه: شهاب الدين بن جهبل، وأبو النسر، وابن جملة، والفخر المصري، والصدر المالكي، وشرف الدين الكفوي الحنفي، والبهاء ابن إمام المشهد، وجلال الدين الأعيالي ناظر الأيتام، وشمس الدين الكردي، وفخر الدين البعلبكي، ومجد الدين ابن أبي المجد، وشمس الدين ابن قيم الجوزية، وشمس الدين ابن خطيب بيرة، وشرف الدين قاسم العلجوني، وتاج الدين ابن الفاكهاني، والشيخ عمر السلاوي، وكاتبه إسماعيل بن كثير، وآخرون من سائر المذاهب.

حتى كان الشيخ بدر الدين يقول: اجتمع في ركبنا هذا أربعمائة فقيه وأربع مدارس وخانقاه، ودار حديث، وقد كان معنا من المتفتيين ثلاثة عشر نفسا، وكان في المصريين جماعة من الفقهاء منهم قاضي المالكية تقي الدين الأخنائي، وفخر الدين النويري، وشمس الدين بن الحارثي، ومجد الدين الأقصرائي، وشيخ الشيوخ الشيخ محمد المرشدي.

وفي ركب العراق الشيخ أحمد السروجي أشد، وكان من المشاهير.

وفي الشاميين الشيخ علي الواسطي صحبة ابن المرجاني، وأمير المصريين مغلطاي الجمالي الذي كان وزيرا في وقت، وكان إذ ذاك مريضا، ومررنا بعين تبوك وقد أصلحت في هذه السنة، وصينت من دوس الجمال والجمالين، وصار ماؤها في غاية الحسن والصفاء والطيب، وكانت وقفة الجمعة ومطرنا بالطواف، وكانت سنة مرخصة آمنة.

وفي نصف ذي الحجة رجع تنكز من ناحية قلعة جعبر، وكان في خدمته أكثر الجيش الشامي، وأظهر أبهة عظيمة في تلك النواحي.

وفي سادس عشر ذي الحجة وصل توقيع القاضي علاء الدين بن القلانسي بجميع جهات أخيه جمال الدين بحكم وفاته مضافا إلى جهاته، فاجتمع له من المناصب الكبار ما لم يجتمع لغيره من الرؤساء في هذه الأعصار، فمن ذلك:

وكالة بيت المال، وقضاء العسكر، وكتابة الدست، ووكالة ملك الأمراء، ونظر البمارستان، ونظر الحرمين، ونظر ديوان السعيد، وتدريس الأمينية والظاهرية والعصرونية وغير ذلك انتهى.

من الأعيان:

قاضي القضاة عز الدين المقدسي

عز الدين أبو عبد الله بن محمد بن قاضي القضاة تقي الدين سليمان بن حمزة بن أحمد بن عمر بن الشيخ أبي عمر المقدسي الحنبلي.

ولد سنة خمس وستين وستمائة، وسمع الحديث واشتغل على والده واستنابه في أيام ولايته، فلما ولي ابن مسلم لزم بيته يحضر درس الجوزية ودار الحديث الأشرفية بالجبل ويأوي إلى بيته.

فلما توفي ابن مسلم ولي قضاء الحنابلة بعده نحوا من أربع سنين، وكان فيه تواضع وتودد وقضاء لحوائج الناس، وكانت وفاته يوم الأربعاء تاسع صفر، وكان يوما مطيرا، ومع هذا شهد الناس جنازته، ودفن بتربتهم رحمهم الله، وولي بعده نائبه شرف الدين ابن الحافظ، وقد قارب الثمانين.

وفي نصف صفر توفي:

الأمير سيف الدين قجليس

سيف النعمة، وقد كان سمع على الحجار و وزيره بالقدس الشريف.

وفي منتصف صفر توفي الأمير الكبير سيف الدين أرغون بن عبد الله الدويدار الناصري، وقد عمل على نيابة مصر مدة طويلة، ثم غضب عليه السلطان فأرسله إلى نيابة حلب، فمكث بها مدة ثم توفي بها في سابع عشر ربيع الأول، ودفن بتربة اشتراها بحلب، وقد كان عنده فهم وفقه، وفيه ديانة وأتباع للشريعة.

وقد سمع البخاري على الحجار وكتبه جميعه بخطه، وأذن له بعض العلماء في الإفتاء، وكان يميل إلى الشيخ تقي الدين بن تيمية وهو بمصر، توفي ولم يكمل الخمسين سنة، وكان يكره اللهو رحمه الله.

ولما خرج يلتقي نهر الساجور خرج في ذل ومسكنة، وخرج معه الأمراء كذلك مشاة في تكبير وتهليل وتحميد، ومنع المغاني ومن اللهو واللعب في ذلك رحمه الله.

القاضي ضياء الدين أبو الحسن علي بن سليم بن ربيع

بن سليمان الأزرعي الشافعي، تنقل في ولاية الأقضية بمدارس كثيرة مدة ستين سنة، وحكم بطرابلس وعجلون وزرع وغيرها، وحكم بدمشق نيابة عن القونوي نحوا من شهر، وكان عنده فضيلة وله نظر كثير.

نظم (التنبيه) في نحو ست عشرة ألف بيت، وتصحيحها في ألف وثلاثمائة بيت، وله مدائح ومواليا وأزجال وغير ذلك، ثم كانت وفاته بالرملة يوم الجمعة ثالث عشرين ربيع الأول عن خمس وثمانين سنة رحمه الله، وله عدة أولاد منهم عبد الرزاق أحد الفضلاء، وهو ممن جمع بين علمي الشريعة والطبيعة.

أبو دبوس عثمان بن سعيد المغربي

تملك في وقت بلاد قابس، ثم تغلب عليه جماعة فانتزعوها منه، فقصد مصر فأقام بها وأقطع إقطاعا، وكان يركب مع الجند في زي المغاربة متقلدا سيفا، وكان حسن الهيئة يواظب على الخدمة إلى أن توفي في جمادى الأولى.

الإمام العلامة ضيا الدين أبو العباس أحمد

بن قطب الدين محمد بن عبد الصمد بن عبد القادر السنباطي الشافعي، مدرّس الحسامية ونائب الحكم بمصر، وأعاد في أماكن كثيرة، وتفقه على والده، توفي في جمادى الآخرة وتولى الحسامية بعده ناصر الدين التبريزي.

الصدر الكبير تاج الدين الكارمي

المعروف بابن الرهايلي، كان أكبر تجار دمشق الكارمية وبمصر، توفي في جمادى الآخرة، يقال إنه خلف مائة ألف دينار غير البضائع والأثاث والأملاك.

الإمام العلامة فخر الدين عثمان بن إبراهيم

بن مصطفى بن سليمان بن المارداني التركماني الحنفي شرح فخر الدين هذا الجامع وألقاه دروسا في مائة كراس، توفي في رجب وله إحدى وسبعون سنة، كان شجاعا عالما فاضلا، وقورا فصيحا حسن المفاكهة، وله نظم حسن، وولي بعده المنصورية ولده تاج الدين.

تقي الدين عمر ابن الوزير شمس الدين

محمد بن عثمان بن السلعوس، كان صغيرا لما مات أبوه تحت العقوبة، ثم نشأ في الخدم ثم طلبه السلطان في آخر وقت فولاه نظر الدواوين بمصر. فباشره يوما واحدا وحضر بين يدي السلطان يوم الخميس، ثم خرج من عنده وقد اضطرب حاله فما وصل إلى منزله إلا في محفة، ومات بكرة يوم السبت سادس عشرين ذي القعدة، وصلّي عليه بجامع عمرو بن العاص، ودفن عند والده بالقرافة، وكانت جنازته حافلة.

جمال الدين أبو العباس

أحمد بن شرف الدين بن جمال الدين محمد بن أبي الفتح نصر الله بن أسد بن حمزة بن أسد بن علي بن محمد التميمي الدمشقي بن القلانسي، قاضي العساكر ووكيل بيت المال ومدرّس الأمينية وغيرها حفظ (التنبيه) ثم (المحرر) للرافعي، وكان يستحضره، واشتغل على الشيخ تاج الدين الفزاري، وتقدم لطلب العلم والرئاسة، وباشر جهات كبارا.

ودرّس بأماكن وتفرد في وقته بالرياسة والبيت والمناصب الدينية والدنيوية، وكان فيه تواضع وحسن سمت وتودد وإحسان وبر بأهل العلم والفقراء والصالحين، وهو ممن أذن له في الإفتاء وكتب إنشاء ذلك وأنا حاضر على البديهة فأفاد وأجاد، وأحسن التعبير وعظم في عيني.

توفي يوم الاثنين ثامن عشرين ذي القعدة، ودفن بتربتهم بالسفح، وقد سمع الحديث على جماعة من المشايخ وخرج له فخر الدين البعلبكي مشيخة سمعناها عليه رحمه الله.

ثم دخلت سنة اثنتي وثلاثين وسبعمائة

استهلت وحكام البلاد هم هم، وفي أولها فتحت القيسارية التي كانت مسبك الفولاذ جوّا باب الصغير حولها ننكز قيسارية ببركة.

وفي يوم الأربعاء ذكر الدرس بالأمينية والظاهرية علاء الدين بن القلانسي عوضا عن أخيه جمال الدين، وذكر ابن أخيه أمين الدين محمد بن جمال الدين الدرس في العصرونية، تركها له عمه، وحضر عندهما جماعة من الأعيان.

وفي تاسع المحرم جاء إلى حمص سيل عظيم غرق بسببه خلق كثير وجم غفير، وهلك للناس أشياء كثيرة. وممن مات فيه نحو مائتي امرأة بحمام النائب، كن مجتمعات على عروس أو عروسين فهلكن جميعا.

وفي صفر أمر تنكز ببياض الجدران المقابلة لسوق الخيل إلى باب الفراديس، وأمر بتجديد خان الظاهر، فغرم عليه نحوا من سبعين ألفا.

وفي هذا الشهر وصل تابوت لاجين الصغير من البيرة فدفن بتربته خارج باب شرقي.

وفي تاسع ربيع الآخر حضر الدرس بالقيمازية عماد الدين الطرسوسي الحنفي عوضا عن الشيخ رضي الدين المنطيقي، توفي وحضر عنده القضاة والأعيان.

وفي أول ربيع الآخر خلع على الملك الأفضل محمد بن الملك المؤيد صاحب حماه وولاه السلطان الملك الناصر مكان أبيه بحكم وفاته، وركب بمصر بالعصائب والشبابة والغاشية أمامه.

وفي نصف هذا الشهر سافر الشيخ شمس الدين الأصفهاني شارح المختصر ومدرّس الرواحية إلى الديار المصرية على خيل البريد، وفارق دمشق وأهلها واستوطن القاهرة.

وفي يوم الجمعة تاسع جمادى الآخرة خطب بالجامع الذي أنشأه الأمير سيف الدين آل ملك، واستقر فيه خطيبا نور الدين علي بن شبيب الحنبلي.

وفيه: أرسل السلطان جماعة من الأمراء إلى الصعيد فأحاطوا على ستمائة رجل ممن كان يقطع الطريق فأتلف بعضهم.

وفي جمادى الآخرة تولى شد الدواوين بدمشق نور الدين بن الخشاب عوضا عن الطرقشي.

وفي يوم الأربعاء حادي عشر رجب خلع على قاضي القضاة علاء الدين بن الشيخ زين الدين بن المنجا بقضاء الحنابلة عوضا عن شرف الدين بن الحافظ، وقرئ تقليده بالجامع، وحضر القضاة والأعيان.

وفي اليوم الثاني استناب برهان الدين الزرعي.

وفي رجب باشر شمس الدين موسى بن التاج إسحاق نظر الجيوش بمصر عوضا عن فخر الدين كاتب المماليك توفي، وباشر ألنشو مكانه في نظر الخاص، وخلع عليه بطرحة، فلما كان في شعبان عزل هو وأخوه العلم ناظر الدواوين وصودروا وضربوا ضربا عظيما، وتولى نظر الجيش المكين بن قروينة، ونظر الدواوين أخوه شمس الدين بن قرونية.

وفي شعبان كان عرس أنوك، ويقال كان اسمه محمد بن السلطان الملك الناصر، على بنت الأمير سيف الدين بكتمر الساقي، وكان جهازها بألف ألف دينار، وذبح في هذا العرس من الأغنام والدجاج والإوز والخيل والبقر نحو من عشرين ألفا، وحملت حلوى بنحو ثمانية عشر ألف قنطار، وحمل له من الشمع ثلاثة آلاف قنطار، قاله الشيخ أبو بكر، وكان هذا العرس ليلة الجمعة حادي عشر شعبان.

وفي شعبان هذا حوّل القاضي محي الدين بن فضل الله من كتابة السر بمصر إلى كتابة السر بالشام، ونقل شرف الدين بن شمس الدين بن الشهاب محمود إلى كتابة السر بمصر، وأقيمت الجمعة بالشامية البرانية في خامس عشر شعبان، وحضرها القضاة والأمراء، وخطب بها الشيخ زين الدين عبد النور المغربي وذلك بإشارة الأمير حسام الدين اليشمقدار الحاجب بالشام، ثم خطب عنه كمال الدين بن الزكي.

وفيه: أمر نائب السلطنة بتبييض البيوت من سوق الخيل إلى ميدان الحصا، ففعل ذلك.

وفيه: زادت الفرات زيادة عظيمة لم يسمع بمثلها، واستمرت نحوا من اثني عشر يوما، فأتلفت بالرحبة أموالا كثيرة، وكسرت الجسر الذي عند دير بسر، وغلت الأسعار هناك فشرعوا في إصلاح الجسر، ثم انكسر مرة ثانية.

وفي يوم السبت تاسع شوال خرج الركب الشامي وأميره سيف الدين أوزان، وقاضيه جمال الدين بن الشريشي، وهو قاضي حمص الآن.

وحج السلطان في هذه السنة وصحبته قاضي القضاة القزويني وعز الدين بن جماعة، وموفق الدين الحنبلي، وسبعون أميرا.

وفي ليلة الخميس حادي عشرين شوال رسم على الصاحب عز الدين غبريال بالمدرسة النجيبية الجوانية، وصودر وأخذت منه أموال كثيرة، وأفرج عنه في المحرم من السنة الآتية.

من الأعيان:

الشيخ عبد الرحمن بن أبي محمد بن محمد

ابن سلطان القرامذي، أحد المشاهير بالعبادة والزهادة وملازمة الجامع الأموي، وكثرة التلاوة والذكر، وله أصحاب يجلسون إليه، وله مع هذا ثروة وأملاك، توفي في مستهل المحرم عن خمس أوست وثمانين سنة، ودفن بباب الصغير، وكان قد سمع الحديث واشتغل بالعلم ثم ترك ذلك واشتغل بالعبادة إلى أن مات.

الملك المؤيد صاحب حماة

عماد الدين إسماعيل بن الملك الأفضل نور الدين علي بن الملك المظفر تقي الدين محمود بن الملك المنصور ناصر الدين محمد بن الملك المظفر تقي الدين عمر بن شاهنشاه بن أيوب، كانت له فضائل كثيرة في علوم متعددة من الفقه والهيئة والطب وغير ذلك، وله مصنفات عديدة منها (تاريخ حافل) في مجلدين كبيرين، وله نظم (الحاوي) وغير ذلك، وكان يجب العلماء ويشاركهم في فنون كثيرة، وكان من فضلاء بني أيوب، ولي ملك حماه من سنة إحدى وعشرين إلى هذا الحين، وكان الملك الناصر يكرمه ويعظمه، وولي بعده ولده الأفضل علي، توفي في سحر يوم الخميس ثامن عشرين المحرم، ودفن ضحوة عند والديه بظاهر حماه.

القاضي الإمام تاج الدين السعدي

تاج الدين أبو القاسم عبد الغفار بن محمد بن عبد الكافي بن عوض بن سنان بن عبد الله السعدي الفقيه الشافعي.

سمع الكثير وخرج لنفسه معجما في ثلاث مجلدات، وقرأ بنفسه الكثير، وكتب الخط الجيد، وكان متقنا عارفا بهذا الفن، يقال إنه كتب بخطه نحوا من خمسمائة مجلد، وقد كان شافعيا مفتيا، ومع هذا ناب في وقت عن القاضي الحنبلي، وولي مشيخة الحديث بالمدرسة الصاحبية، وتوفي بمصر في مستهل ربيع الأول عن ثنتين وثمانين سنة، رحمه الله.

الشيخ رضي الدين بن سليمان

المنطقي الحنفي، أصله من أب كرم، من بلاد قونية، وأقام بحماه ثم بدمشق.

ودرس بالقيمازية، وكان فاضلا في المنطق والجدل، واشتغل عليه جماعة في ذلك، وبلغ من العمر ستا وثمانين سنة، وحج سبع مرات، توفي ليلة الجمعة سادس عشرين ربيع الأول، وصلّي عليه بعد الصلاة، ودفن بالصوفية.

وفي ربيع الأول توفي:

الإمام علاء الدين طيبغا

ودفن بتربته بالصالحية.

وكذلك الأمير سيف الدين زولاق، ودفن بتربته أيضا.

قاضي القضاة شرف الدين أبو محمد

عبد الله بن الحسن بن عبد الله بن الحافظ عبد الغني المقدسي الحنبلي، ولد سنة ست وأربعين وستمائة، وباشر نيابة ابن مسلم مدة، ثم ولي القضاء في السنة الماضية، ثم كانت وفاته فجأة في مستهل جمادى الأولى ليلة الخميس ودفن من الغد بتربة الشيخ أبي عمر.

الشيخ ياقوت الحبشي

الشاذلي الإسكندراني، بلغ الثمانين، وكان له اتباع، وأصحاب منهم شمس الدين بن اللبان الفقيه الشافعي، وكان يعظمه ويطريه وينسب إليه مبالغات الله أعلم بصحتها وكذبها، توفي في جماد وكانت جنازته حافلة جدا.

النقيب ناصح الدين

محمد بن عبد الرحيم بن قاسم بن إسماعيل الدمشقي، نقيب المتعممين، تتلمذ أولا للشهاب المقري، ثم كان بعده في المحافل العزاء والهناء، وكان يعرف هذا الفن جيدا، وكان كثير الطلب من الناس، ويطلبه الناس لذلك، ومع هذا مات وعليه ديون كثيرة، توفي أواخر رجب.

القاضي فخر الدين كاتب المماليك

وهو محمد بن فضل الله ناظر الجيوش بمصر، أصله قبطي فأسلم وحسن إسلامه، وكانت له أوقاف كثيرة، وبر وإحسان إلى أهل العلم، وكان صد'ا معظما، حصل له من السلطان حظ وافر، وقد جاوز السبعين وإليه تنسب الفخرية بالقدس الشريف، توفي في نصف رجب واحتيط على أمواله وأملاكه بعد وفاته رحمه الله.

الأمير سيف الدين الجاي الدويدار الملكي الناصري

كان فقيها حنفيا فاضلا، كتب بخطه ربعة وحصل كتبا كثيرة معتبرة، وكان كثير الإحسان إلى أهل العلم، توفي في سلخ رجب رحمه الله.

الطبيب الماهر الحاذق الفاضل أمين الدين سليمان

بن داود بن سليمان، كان رئيس الأطباء بدمشق ومدرسهم مدة، ثم عزل بجمال الدين بن الشهاب الكحال مدة قبل موته لأمر تعصب عليه فيه نائب السلطنة، توفي يوم السبت سادس عشرين شوال ودفن بالقبيبات.

الشيخ الإمام العالم المقري شيخ القراء برهان الدين

أبو إسحاق إبراهيم بن عمر بن إبراهيم بن خليل الجعبري، ثم الخليلي الشافعي، صاحب المصنفات الكثيرة في القراءات وغيرها، ولد سنة أربعين وستمائة بقلعة جعبر، واشتغل ببغداد، ثم قدم دمشق وأقام ببلد الخليل نحو أربعين سنة يقرئ الناس، وشرح الشاطبية وسمع الحديث، وكانت له إجازة من يوسف بن خليل الحافظ، وصنف بالعربية والعروض والقراءات نظما ونثرا وكان من المشايخ المشهورين بالفضائل والرياسة والخير والديانة والعفة والصيانة، توفي يوم الأحد خامس شهر رمضان، ودفن ببلد الخليل تحت الزيتونة، وله ثنتان وتسعون سنة رحمه الله.

قاضي القضاة علم الدين أبو عبد الله محمد بن القاضي

شمس الدين أبي بكر بن عيسى بن بدران بن رحمة الأخنائي السعدي المصري الشافعي الحاكم بدمشق وأعمالها، كان عفيفا نزها ذكيا سار العبارة محبا للفضائل، معظما لأهلها كثير لإسماع الحديث في العادلية الكبيرة، توفي يوم الجمعة ثالث عشر ذي القعدة، ودفن بسفح قاسيون عند زوجته تجاه تربة العادل كتبغا من ناحية الجبل.

قطب الدين موسى

ابن أحمد بن الحسين ابن شيخ السلامية ناظر الجيوش الشامية، كانت له ثروة وأموال كثيرة، وله فضائل وأفضال وكرم وإحسان إلى أهل الخير، وكان مقصدا في المهمات، توفي يوم الثلاثاء ثاني ذي الحجة وقد جاوز السبعين، ودفن بتربته تجاه الناصرية بقاسيون، وهو والد الشيخ الإمام العلامة عز الدين حمزة مدرّس الحنبلية.

ثم دخلت سنة ثلاث وثلاثين وسبعمائة

استهلت يوم الأربعاء والحاكم هم المذكورون في التي قبلها، وليس للشافعية قاضٍ، وقاضي الحنفية عماد الدين الطرسوسي، وقاضي المالكية شرف الدين الهمداني، وقاضي الحنابلة علاء الدين بن المنجا، وكاتب السر محيي الدين بن فضل الله، وناظر الجامع عماد الدين بن الشيرازي.

وفي ثاني المحرم قدم البشير بسلامة السلطان من الحجاز وباقتراب وصوله إلى البلاد، فدقت البشائر وزينت البلد.

وأخبر البشير بوفاة الأمير سيف الدين بكتمر الساقي وولده شهاب الدين أحمد وهما راجعان في الطريق، بعد أن حجا قريبا من مصر: الوالد أولا، ثم من بعده ابنه بثلاثة أيام بعيون القصب، ثم نقلا إلى تربتهما بالقرافة، ووجد لبكتمر من الأموال والجواهر واللآلي والقماش والأمتعة والحواصل شيء كثير، لا يكاد ينحصر ولا ينضبط.

وأفرج عن الصاحب شمس الدين غبريال في المحرم، وطلب في صفر إلى مصر فتوجه على خيل البريد، واحتيط على أهله بعد مسيره وأخذت منهم أموال كثيرة لبيت المال.

وفي أواخر صفر قدم الصاحب أمين الملك على نظر الدواوين بدمشق عوضا عن غبريال، وبعده بأربعة أيام قدم القاضي فخر الدين بن الحلي على نظر الجيش بعد وفاة قطب الدين ابن شيخ السلامية.

وفي نصف ربيع الأول لبس ابن جملة خلعة القضاء للشافعية بدمشق بدار السعادة، ثم جاء إلى الجامع وهي عليه، وذهب إلى العادلية وقرىء تقليده بها بحضرة الأعيان، ودرّس بالعادلية والغزالية يوم الأربعاء ثاني عشر الشهر المذكور.

وفي يوم الاثنين رابع عشرينه حضر ابن أخيه جمال الدين محمود إعادة القيمرية نزل له عنها، ثم استنابه بعد ذلك في المجلس، وخرج إلى العادلية فحكم بها، ثم لم يستمر بعد ذلك، عزل عن النيابة بيومه، واستناب بعده جمال الدين إبراهيم بن شمس الدين محمد بن يوسف الحسباني، وله همة وعنده نزاهة وخبرة بالأحكام.

وفي ربيع الأول ولي شهاب قرطاي نيابة طرابلس وعزل عنها طينال إلى نيابة غزة وتولى نائب غزة حمص، وحصل للذي جاء بتقاليدهم مائة ألف درهم منهم، وفي ربيع الآخر أعيد القاضي محيي الدين بن فضل الله وولده إلى كتابة سر مصر، ورجع شرف الدين بن الشهاب محمود إلى كتابة سر الشام كما كان.

وفي منتصف هذا الشهر ولي نقابة الأشراف عماد الدين موسى الحسيني عوضا عن أخيه شرف الدين عدنان توفي في الشهر الماضي ودفن بتربتهم عند مسجد الدبان.

وفيه درّس الفخر المصري بالدولعية عوضا عن ابن جملة بحكم ولايته القضاء.

وفي خامس عشرين رجب درّس بالبادرائية القاضي علاء الدين علي بن شريف ويعرف بابن الوحيد، عوضا عن ابن جهبل توفي في الشهر الماضي، وحضر عنده القضاة والأعيان، وكنت إذ ذاك بالقدس أنا والشيخ شمس الدين بن عبد الهادي وآخرون، وفيه رسم السلطان الملك الناصر بالمنع من رمي البندق، وأن لا تباع قسيها ولا تعمل، وذلك لإفساد رماة البندق أولاد الناس، وأن الغالب على من تعاناه اللواط والفسق وقلة الدين، ونودي بذلك في البلاد المصرية والشامية.

قال البرزالي: وفي نصف شعبان أمر السلطان بتسليم المنجمين إلى والي القاهرة فضربوا وحبسوا لإفسادهم حال النساء، فمات منهم أربعة تحت العقوبة، ثلاثة من المسلمين ونصراني، وكتب إلي بذلك الشيخ أبو بكر الرحبي.

وفي أول رمضان وصل البريد بتولية الأمير فخر الدين بن الشمس لؤلؤ ولاية البر بدمشق بعد وفاة شهاب الدين بن المرواني، ووصل كتاب من مكة إلى دمشق في رمضان يذكر فيه أنها وقعت صواعق ببلاد الحجاز فقتلت جماعة متفرقين في أماكن شتى، وأمطار كثيرة جدا.

وجاء البريد في رابع رمضان بتولية القاضي محيي الدين بن جميل قضاء طرابلس فذهب إليها، ودرّس ابن المجد عبد الله بالرواحية عوضا عن الأصبهاني بحكم إقامته بمصر.

وفي آخر رمضان أفرج عن الصاحب علاء الدين وأخيه شمس الدين موسى بن التاج إسحاق بعد سجنهما سنة ونصفا.

وخرج الركب الشامي يوم الخميس عاشر شوال وأميره بدر الدين بن معبد وقاضيه علاء الدين ابن منصور مدرّس الحنفية بمدرسة تنكز، وفي الحجاج صدر الدين المالكي، وشهاب الدين الظهيري، ومحيي الدين ابن الأعقف وآخرون.

وفي يوم الأحد ثالث عشره درّس بالأتابكية ابن جملة عوضا عن ابن جميل تولى قضاء طرابلس.

وفي يوم الأحد عشرينه حكم القاضي شمس الدين محمد بن كامل التدرمي، الذي كان في خطابه الخليل بدمشق نيابة عن ابن جملة، وفرح الناس بدينه وفضيلته.

وفي ذي القعدة مسك تنكز دواداره ناصر الدين محمد، وكان عنده بمكانة عظيمة جدا، وضربه بين يديه ضربا مبرحا، واستخلص منه أموالا كثيرة.

ثم حبسه بالقلعة ثم نفاه إلى القدس، وضرب جماعة من أصحابه منهم علاء الدين بن مقلد حاجب العرب، وقطع لسانه مرتين، ومات وتغيرت الدولة وجاءت دولة أخرى مقدمها عنده حمزة الذي كان سميره وعشيره في هذه المدة الأخيرة، وانزاحت النعمة عن الدوادار ناصر الدين وذويه ومن يليه.

وفي يوم الثلاثاء ثامن عشرين ذي القعدة ركّب على الكعبة باب حديد أرسله السلطان مرصعا من السبط الأحمر كأنه آبنوس، مركب عليه صفائح من فضة زنتها خمسة وثلاثون ألفا وثلاثمائة وكسر، وقلع الباب العتيق، وهو من خشب الساج، وعليه صفائح تسلمها بنو شيبة، وكان زنتها ستين رطلا فباعوها كل درهم بدرهمين، لأجل التبرك. وهذا خطأ وهو ربا وكان ينبغي أن يبيعوها بالذهب لئلا يحصل ربا بذلك - وترك خشب الباب العتيق داخل الكعبة، وعليه اسم صاحب اليمن في الفردتين، واحدة عليها: الله يا ولي يا علي اغفر ليوسف بن عمر بن علي.

من الأعيان:

الشيخ العالم تقي الدين محمود علي

ابن محمود بن مقبل الدقوقي أبو الثناء البغدادي محدث بغداد منذ خمسين سنة، يقرأ لهم الحديث وقد ولي مشيخة الحديث بالمستنصرية، وكان ضابطا محصلا بارعا، وكان يعظ ويتكلم في الأعزية والأهنية.

وكان فردا في زمانه وبلاده رحمه الله، توفي في المحرم وله قريب السبعين سنة، وشهد جنازته خلق كثير، ودفن بتربة الإمام أحمد، ولم يخلف درهما واحدا، وله قصيدتان رثا بهما الشيخ تقي الدين بن تيمية كتب بهما إلى الشيخ الحافظ البرزالي رحمه الله تعالى.

الشيخ الإمام العالم عز القضاة فخر الدين أبو محمد

عبد الواحد بن منصور بن محمد بن المنير المالكي الإسكندري، أحد الفضلاء المشهورين، له تفسير في ست مجلدات، وقصائد في رسول الله حسنة، وله في كان وكان، وقد سمع الكثير وروى، توفي في جماد الأولى عن ثنتين وثمانين سنة، ودفن بالإسكندرية رحمه الله.

ابن جماعة قاضي القضاة

العالم شيخ الإسلام بدر الدين أبو عبد الله محمد بن الشيخ الإمام الزاهد أبي إسحاق إبراهيم بن سعد الله بن جماعة بن حازم بن صخر الكناني الحموي الأصل، ولد ليلة السبت رابع ربيع الآخر سنة تسع وثلاثين وستمائة بحماة، وسمع الحديث واشتغل بالعلم، وحصل علوما متعددة، وتقدم وساد أقرانه.

وباشر تدريس القيمرية، ثم ولي الحكم والخطابة بالقدس الشريف، ثم نقل منه إلى قضاء مصر في الأيام الأشرفية، ثم باشر تداريس كباريها في ذلك الوقت، ثم ولي قضاء الشام وجمع له معه الخطابة مشيخة الشيوخ وتدريس العادلية وغيرها مدة طويلة، كل هذا مع الرياسة والديانة والصيانة والورع، وكف الأذى، وله التصانيف الفائقة النافعة.

وجمع له خطبا كان يخطب بها في طيب صوت فيها وفي قراءته في المحراب وغيره، ثم نقل إلى قضاء الديار المصرية بعد وفاة الشيخ تقي الدين بن دقيق العيد، فلم يزل حاكما بها إلى أن أضر وكبر وضعفت أحواله.

فاستقال فأقيل وتولي مكانه القزويني، وبقيت معه بعض الجهات ورتبت له الرواتب الكثيرة الدارّة إلى أن توفي ليلة الاثنين بعد عشاء الآخرة حادي عشرين جمادى الأولى، وقد أكمل أربعا وتسعين سنة وشهرا وأياما، وصلّي عليه من الغد قبل الظهر بالجامع الناصري بمصر، ودفن بالقرافة، وكانت جنازته حافلة هائلة رحمه الله.

الشيخ الإمام الفاضل مفتي المسلمين شهاب الدين

أبو العباس أحمد بن محيي الدين يحيى بن تاج الدين إسماعيل بن طاهر بن نصر الله بن جهبل الحلبي الأصل ثم الدمشقي الشافعي، كان من أعيان الفقهاء، ولد سنة سبعين وستمائة واشتغل بالعلم ولزم المشايخ ولازم الشيخ الصدر بن الوكيل.

ودرس بالصلاحية بالقدس، ثم تركها وتحول إلى دمشق فباشر مشيخة دار الحديث الظاهرية مدة، ثم ولي مشيخة البادرائية فترك الظاهرية وأقام بتدريس البادرائية إلى أن مات، ولم يأخذ معلوما من واحدة منهما، توفي يوم الخميس بعد العصر تاسع جمادى الآخرة، وصلّي عليه بعد الصلاة ودفن بالصوفية، وكانت جنازته حافلة.

تاج الدين عبد الرحمن بن أيوب

مغسل الموتى في سنة ستين وستمائة، يقال إنه غسل ستين ألف ميت، وتوفي في رجب وقد جاوز الثمانين.

الشيخ فخر الدين أبو محمد

عبد الله بن محمد بن عبد العظيم بن السقطي الشافعي، كان مباشرا شهادة الخزانة، وناب في الحكم عند باب النصر ودفن بالقرافة.

الإمام الفاضل مجموع الفضائل شهاب الدين أبو العباس

أحمد بن عبد الوهاب البكري، نسبة إلى أبي بكر الصديق رضي الله عنه، كان لطيف المعاني ناسخا مطيقا يكتب في اليوم ثلاث كراريس، وكتب البخاري ثماني مرات ويقابله ويجلده ويبيع النسخة من ذلك بألف ونحوه، وقد جمع تاريخا في ثلاثين مجلدا، وكان ينسخه ويبيعه أيضا بأزيد من ألف، وذكر أن له كتابا سماه (منتهى الأرب في علم الأدب) في ثلاثين مجلدا أيضا، وبالجملة كان نادرا في وقته، توفي يوم الجمعة عشرين رمضان رحمه الله.

الشيخ الصالح الزاهد الناسك الكثير الحج:

علي بن الحسن بن أحمد الواسطي

المشهور بالخير والصلاح، وكثرة العبادة والتلاوة والحج، يقال إنه حج أزيد من أربعين حجة، وكانت عليه مهابة ولديه فضيلة، توفي وهو محرم يوم الثلاثاء ثامن عشرين ذي القعدة، وقد قارب الثمانين رحمه الله.

الأمير عز الدين إبراهيم بن عبد الرحمن

ابن أحمد بن القواس، كان مباشرا الشد في بعض الجهات السلطانية، وله دار حسنة بالعقبية الصغيرة، فلما جاءت الوفاة أوصى أن تجعل مدرسة، ووقف عليها أوقافا، وجعل تدريسها للشيخ عماد الدين الكردي الشافعي، توفي يوم الأربعاء عشرين ذي الحجة.

ثم دخلت سنة أربع وثلاثين وسبعمائة

استهلت بيوم الأحد وحكام البلاد هم المذكورون في التي قبلها.

وفي يوم الجمعة ثاني ربيع الأول أقيمت الجمعة بالخاتونية البرانية، وخطب بها شمس الدين النجار المؤذن المؤقت بالأموي، وترك خطابة جامع القابون.

وفي مستهل هذا الشهر سافر الأمير شمس الدين محمد التدمري إلى القدس حاكما به، وعزل عن نيابة الحكم بدمشق.

وفي ثالثه قدم من مصر زين الدين عبد الرحيم ابن قاضي القضاة بدر الدين بن جماعة بخطابة القدس، فخلع عليه من دمشق ثم سافر إليها.

وفي آخر ربيع الأول باشر الأمير ناصر الدين بن بكتاش الحسامي شد الأوقاف عوضا عن شرف الدين محمود بن الخطيري، سافر بأهله إلى مصر أميرا نيابة بها عن أخيه بدر الدين مسعود.

وعزل القاضي علاء الدين بن القلانسي، وسائر الدواوين والمباشرين الذين في باب ملك الأمراء تنكز وصودروا بمائتي ألف درهم، واستدعي من غزة ناظرها جمال الدين يوسف صهر السني المستوفي، فباشر نظر ديوان النائب ونظر المارستان النوري أيضا على العادة.

وفي شهر ربيع الأول أمر تنكز بإصلاح باب توما فشرع فيه فرفع بابه عشرة أذرع، وجددت حجارته وحديده في أسرع وقت، وفي هذا الوقت حصل بدمشق سيل خرّب بعض الجدران ثم تناقص.

وفي أوائل ربيع الآخر قدم من مصر جمال الدين آقوش نائب الكرك مجتازا إلى طرابلس نائبها عوضا عن قرطاي توفي.

وفي جمادى الأولى طلب القاضي شهاب الدين ابن المجد عبد الله إلى دار السعادة فولي وكالة بيت المال عوضا عن ابن القلانسي، ووصل تقليده من مصر بذلك، وهنأه الناس.

وفيه: طلب الأمير نجم الدين بن الزيبق من ولاية نابلس فولي شد الدواوين بدمشق، وقد شغر منصبه شهورا بعد ابن الخشاب.

وفي رمضان خطب الشيخ بدر الدين أبو اليسر بن الصائغ بالقدس عوضا عن زين الدين بن جماعة لإعراضه عنها واختياره العود إلى بلده.

قضية القاضي ابن جملة

لما كان في العشر الأخير من رمضان وقع بين القاضي ابن جملة وبين الشيخ الظهير شيخ ملك الأمراء - وكان هو السفير في تولية ابن جملة القضاء - فوقع بينهما منافسة ومحاققة في أمور كانت بينه وبين الدوادار المتقدم ذكره ناصر الدين، فحلف كل واحد منهما على خلاف ما حلف به الآخر عليه، وتفاصلا من دار السعادة في المسجد.

فلما رجع القاضي إلى منزله بالعادلية أرسل إليه الشيخ الظهير ليحكم فيه بما فيه المصلحة، وذلك عن مرسوم النائب، وكأنه كان خديعة في الباطن وإظهارا لنصرة القاضي عليه في الظاهر، فبدر به القاضي بادي الرأي فعزره بين يديه، ثم خرج من عنده فتسلمه أعوان ابن جملة فطافوا به البلد على حمار يوم الأربعاء سابع عشرين رمضان، وضربوه ضربا عنيفا.

ونادوا عليه: هذا جزاء من يكذب ويفتات على الشرع، فتألم الناس له لكونه في الصيام.

وفي العشر الأخير من رمضان، ويوم سبع وعشرين، وهو شيخ كبير صائم، فيقال: إنه ضرب يومئذ ألفين ومائة وإحدى وسبعين درة والله أعلم، فما أمسى حتى استفتى على القاضي المذكور وداروا على المشايخ بسبب ذلك عن مرسوم النائب.

فلما كان يوم تاسع عشرين رمضان عقد نائب السلطنة بين يديه بدار السعادة مجلسا حافلا بالقضاة وأعيان المفتيين من سائر المذاهب، وأحضر ابن جملة قاضي الشافعية والمجلس قد احتفل بأهله، ولم يأذنوا لابن جملة في الجلوس، بل قام قائما ثم أجلس بعد ساعة جيدة في طرف الحلقة، إلى جانب المحفة التي فيها الشيخ الظهير.

وادعى عليه عند بقية القضاة أنه حكم فيه لنفسه، واعتدى عليه في العقوبة، وأفاض الحاضرون في ذلك، وانتشر الكلام وفهموا من نفس النائب الحط على ابن جملة، والميل عنه بعد أن كان إليه، فما انفصل المجلس حتى حكم القاضي شرف الدين المالكي بفسقه وعزله وسجنه، فانفض المجلس على ذلك، ورسم على ابن جملة بالعذراوية ثم نقل إلى القلعة جزاء وفاقا والحمد لله وحده.

وكان له في القضاء سنة ونصف إلا أياما وكان يباشر الأحكام جيدا، وكذا الأوقاف المتعلقة به، وفيه نزاهة وتمييز الأوقاف بين الفقهاء والفقراء، وفيه صرامة وشهامة وإقدام، لكنه أخطأ في هذه الواقعة وتعدى فيها فآل أمره إلى هذا.

وخرج الركب يوم الاثنين عاشر شوال وأميره الجي بغا وقاضيه مجد الدين ابن حيان المصري.

وفي يوم الاثنين رابع عشرينه درس بالإقبالية الحنفية نجم الدين ابن قاضي القضاة عماد الدين الطرسوسي الحنفي عوضا عن شمس الدين محمد بن عثمان بن محمد الأصبهاني بن العجمي الحبطي، ويعرف بابن الحنبلي. وكان فاضلا دينا متقشفا كثير الوسوسة في الماء جدا، وأما المدرّس مكانه وهو نجم الدين بن الحنفي فإنه ابن خمس عشرة سنة، وهو في النباهة والفهم، وحسن الاشتغال والشكل والوقار، بحيث غبط الحاضرون كلهم أباه على ذلك، ولهذا آل أمره أن تولى قضاء القضاة في حياة أبيه، نزل له عنه وحمدت سيرته وأحكامه.

وفي هذا الشهر أثبت محضر في حق الصاحب شمس الدين غبريال المتوفي هذه السنة أنه كان يشتري أملاكا من بيت المال ويوقفها ويتصرف فيها تصرف الملاك لنفسه، وشهد بذلك كمال الدين الشيرازي وابن أخيه عماد الدين وعلاء الدين القلانسي وابن خاله عماد الدين القلانسي، وعز الدين بن المنجا، وتقي الدين بن مراجل، وكمال الدين بن الغويرة، وأثبت على القاضي برهان الدين الزرعي الحنبلي ونفذه بقية القضاة، وامتنع المحتسب عز الدين بن القلانسي من الشهادة فرسم عليه بالعذراوية قريبا من شهر، ثم أفرج عنه وعزل عن الحسبة، واستمر على نظر الخزانة.

وفي يوم الأحد ثامن عشرين ذي القعدة حملت خلعة القضاء إلى الشيخ شهاب الدين بن المجد وكيل بيت المال يومئذ، فلبسها وركب إلى دار السعادة، وقرئ تقليده بحضرة نائب السلطنة والقضاة ثم رجع إلى مدرسته الإقبالية فقرئ بها أيضا وحكم بين خصمين، وكتب على أوراق السائلين، ودرّس بالعادلية والغزالية والأتابكيتين مع تدريس الإقبالية عوضا عن ابن جملة.

وفي يوم الجمعة حضر الأمير حسام الدين مهنا بن عيسى وفي صحبته صاحب حماه الأفضل، فتلقاهما تنكز وأكرمهما، وصلّيا الجمعة عند النائب ثم توجها إلى مصر، فتلقاهما أعيان الأمراء وأكرم السلطان مهنا بن عيسى وأطلق له أموالا جزيلة كثيرة، من الذهب والفضة والقماش، وأقطعه عدة قرى ورسم له بالعود إلى أهله، ففرح الناس بذلك.

قالوا: وكان جميع ما أنعم به عليه السلطان قيمة مائة ألف دينار، وخلع عليه وعلى أصحابه مائة وسبعين خلعة.

وفي يوم الأحد سادس ذي الحجة حضر درس الرواحية الفخر المصري عوضا عن قاضي القضاة ابن المجد وحضر عنده القضاة الأربعة وأعيان الفضلاء.

وفي يوم عرفة خلع على نجم الدين بن أبي الطيب بوكالة بيت المال، عوضا عن ابن المجد، وعلى عماد الدين بن الشيرازي بالحسبة عوضا عن عز الدين بن القلانسي وخرج الثلاثة من دار السعادة بالطرحات.

من الأعيان:

الشيخ الأجل التاجر بدر الدين

بدر الدين لؤلؤ بن عبد الله عتيق النقيب شجاع الدين إدريس، وكان رجلا حسنا يتجر في الجوخ، مات فجأة عصر يوم الخميس خامس محرم، وخلّف أولادا وثروة، ودفن بباب الصغير، وله بر وصدقة ومعروف، وسبع بمسجد ابن هشام.

الصدر أمين الدين محمد بن فخر الدين أحمد

بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن محمد بن يوسف بن أبي العيش الأنصاري الدمشقي باني المسجد المشهور بالربوة، على حافة بردى، والطهارة الحجارة إلى جانبه، والسوق الذي هناك، وله بجامع النيرب ميعاد.

ولد سنة ثمان وخسمين وستمائة، وسمع البخاري وحدث به، وكان من أكابر التجار ذوي اليسار، توفي بكرة الجمعة سادس المحرم ودفن بتربته بقاسيون رحمه الله.

الخطيب الإمام العالم عماد الدين أبو حفص عمر الخطيب

ظهير الدين عبد الرحيم بن يحيى بن إبراهيم بن علي بن جعفر بن عبد الله بن الحسن القرشي الزهري النابلسي، خطيب القدس، وقاضي نابلس مدة طويلة، ثم جمع له بين خطابة القدس وقضائها، وله اشتغال وفي فضيلة.

وشرح صحيح مسلم في مجلدات، وكان سريع الحفظ سريع الكتابة، توفي ليلة الثلاثاء عاشر المحرم، ودفن بماملا رحمه الله.

الصدر شمس الدين محمد بن إسماعيل

بن حماد التاجر بقيسارية الشرب، كتب (المنسوب) وانتفع به الناس، وولي التجار لأمانته وديانته، وكانت له معرفة ومطالعة في الكتب، توفي تاسع صفر عن نحو ستين سنة.

ودفن بقاسيون رحمه الله.

جمال الدين قاضي القضاة الزرعي

هو أبو الربيع سليمان بن الخطيب مجد الدين عمر بن سالم بن عمر بن عثمان الأذرعي الشافعي، ولد سنة خمس وأربعين وستمائة بأذرعات، واشتغل بدمشق فحصّل، وناب في الحكم بزرع مدة فعرف بالزرعي لذلك، وإنما هو من أذرعات وأصله من بلاد المغرب.

ثم ناب بدمشق ثم انتقل إلى مصر فناب في الحكم بها، ثم استقل بولاية القضاء بها نحوا من سنة، ولي قضاء الشام مدة مع مشيخة الشيوخ نحوا من سنة، ثم عزل وبقي على مشيخة الشيوخ نحوا من سنة مع تدريس الأتابكية، ثم تحول إلى مصر فولي بها التدريس وقضاء العسكر.

ثم توفي بها يوم الأحد سادس صفر وقد قارب السبعين رحمه الله، وقد خرج له البرزالي مشيخة سمعناها عليه وهو بدمشق عن اثنين وعشرين شيخا.

الشيخ الإمام العالم الزاهد زين الدين

أبو محمد عبد الرحمن بن محمود بن عبيدان البعلبكي الحنبلي، أحد فضلاء الحنابلة، ومن صنف في الحديث والفقه والتصوف وأعمال القلوب وغير ذلك، كان فاضلا له أعمال كثيرة، وقد وقعت له كائنة في أيام الظاهر أنه أصيب في عقله أو زوال فكره، أو قد عمل على الرياضة فاحترق باطنه من الجوع، فرأى خيالات لا حقيقة لها فاعتقد أنها أمر خارجي، وإنما هو خيال فكري فاسد.

وكانت وفاته في نصف صفر ببعلبك، ودفن بباب سطحا ولم يكمل الستين، وصلّي عليه بدمشق صلاة الغائب، وعلى القاضي الزرعي معا.

الأمير شهاب الدين نائب طرابلس

له أوقاف وصدقات، وبر وصلات، توفي بطرابلس يوم الجمعة ثامن عشر صفر ودفن هناك رحمه الله.

الشيخ عبد الله بن يوسف بن أبي بكر الاسعردي الموقت

كان فاضلا في صناعة الميقات وعلم الاصطرلاب وما جرى مجراه، بارعا في ذلك، غير أنه لا ينفع به لسوء أخلاقه وشراستها، ثم إنه ضعف بصره فسقط من قيسارية بحسى عشية السبت عاشر ربيع الأول، ودفن بباب الصغير.

الأمير سيف الدين بلبان

طرفا بن عبد الله الناصري، كان من المقدمين بدمشق، وجرت له فصول يطول ذكرها، ثم توفي بداره عند مئذنة فيروز ليلة الأربعاء حادي عشرين ربيع الأول، ودفن بتربة اتخذها إلى جانب داره، ووقف عليها مقرئين، وبنى عندها مسجدا بإمام ومؤذن.

شمس الدين محمد بن يحيى بن محمد بن قاضي حران

ناظر الأوقاف بدمشق، مات الليلة التي مات فيها الذي قبله، ودفن بقاسيون، وتولى مكانه عماد الدين الشيرازي.

الشيخ الإمام ذو الفنون تاج الدين أبو حفص

عمر بن علي بن سالم بن عبد الله اللخمي الإسكندراني، المعروف بابن الفاكهاني، ولد سنة أربع وخسمين وستمائة، وسمع الحديث واشتغل بالفقه على مذهب مالك، وبرع وتقدم بمعرفة النحو وغيره، وله مصنفات في أشياء متفرقة.

قدم دمشق في سنة إحدى وثلاثين وسبعمائة في أيام الاخنائي، فأنزله في دار السعادة وسمعنا عليه ومعه، وحج من دمشق عامئذ وسمع عليه في الطريق، ورجع إلى بلاده، توفي ليلة الجمعة سابع جمادى الأولى، وصلّي عليه بدمشق حين بلغهم خبر موته.

الشيخ الصالح العابد الناسك أيمن

أمين الدين أيمن بن محمد، وكان يذكر أن اسمه محمد بن محمد إلى سبع عشر نفسا كلهم اسمه محمد، وقد جاور بالمدينة مدة سنين إلى أن توفي ليلة الخميس ثامن ربيع الأول، ودفن بالبقيع وصلّي عليها بدمشق صلاة الغائب.

الشيخ نجم الدين القباني الحموي

عبد الرحمن بن الحسن بن يحيى اللخمي القبابي، قرية من قرى أشمون الرمان، أقام بحماه في زاوية بزار ويلتمس دعاؤه، وكان عابدا ورعا زاهدا آمرا بالمعروف وناهيا عن المنكر، حسن الطريقة إلى أن توفي بها آخر نهار الاثنين رابع عشر رجب، عن ست وستين سنة.

وكانت جنازته حافلة هائلة جدا، ودفن شمالي حماه، كان عنده فضيلة، واشتغل على مذهب الإمام أحمد بن حنبل، وله كلام حسن يؤثر عنه رحمه الله.

الشيخ فتح الدين بن سيد الناس

الحافظ العلامة البارع، فتح الدين بن أبي الفتح محمد بن الإمام أبي عمرو محمد بن الإمام الحافظ الخطيب أبي بكر محمد بن أحمد بن عبد الله بن محمد بن يحيى بن سيد الناس الربعي اليعمري الأندلسي الإشبيلي ثم المصري، ولد في العشر الأول من ذي الحجة سنة إحدى وسبعين وستمائة.

وسمع الكثير وأجاز له الرواية عنهم جماعات من المشايخ، ودخل دمشق سنة تسعين فسمع من الكندي وغيره، واشتغل بالعلم فبرع وساد أقرانه في علوم شتى من الحديث والفقه والنحو من العربية، وعلم السير والتواريخ وغير ذلك من الفنون.

وقد جمع سيرة حسنة في مجلدين، وشرح قطعة حسنة من أول جامع الترمذي، رأيت منها مجلدا بخطه الحسن، وقد حرر وحبّر وأفاد وأجاد، ولم يسلم من بعض الانتقاد، وله الشعر الرائق الفائق، والنثر الموافق، والبلاغة التامة، وحسن الترصيف والتصنيف، وجودة البديهة، وحسن الطوية، وله (العقيدة السالفية) الموضوعة على الآي والأخبار والآثار والاقتفاء بالآثار النبوية، ويذكر عنه سوء أدب في أشياء أخر سامحه الله فيها.

وله مدائح في رسول الله حِسان، وكان شيخ الحديث بالظاهرية بمصر، وخطب بجامع الخندق.

ولم يكن في مصر في مجموعه مثله في حفظ الأسانيد والمتون والعلل والفقه والملح والأشعار والحكايات، توفي فجأة يوم السبت حادي عشر شعبان، وصلّي عليه من الغد، وكانت جنازته حافلة، ودفن عند ابن أبي جمرة رحمه الله.

القاضي مجد الدين بن حرمي

ابن قاسم بن يوسف العامري الفاقوسي الشافعي، وكيل بيت المال، ومدرّس الشافعي وغيره، كانت له همة ونهضة، وعلت سنه وهو مع ذلك يحفظ ويشغل ويشتغل، ويلقي الدروس من حفظه إلى أن توفي ثاني ذي الحجة.

وولي تدريس الشافعي بعده شمس الدين بن القماح، والقطبية بهاء الدين بن عقيل، والوكالة نجم الدين الأسعردي المحتسب، وهو كان وكيل بيت الظاهر.

ثم دخلت سنة خمس وثلاثين وسبعمائة

استهلت وحكام البلاد هم المذكورون في التي قبلها، وناظر الجامع عز الدين بن المنجا، والمحتسب عماد الدين الشيرازي وغيرهم.

وفي مستهل المحرم يوم الخميس درّس بأم الصالح الشيخ خطيب تبرور عوضا عن قاضي القضاة شهاب الدين بن المجد، وحضر عنده القضاة والأعيان.

وفي سادس المحرم رجع مهنا بن عيسى من عند السلطان فتلقاه النائب والجيش، وعاد إلى أهله في عز وعافية.

وفيه: أمر السلطان بعمارة جامع القلعة وتوسيعه، وعمارة جامع مصر العتيق.

وقدم إلى دمشق القاضي جمال الدين محمد بن عماد الدين بن الأثير كاتب سر بها عوضا عن ابن الشهاب محمود.

ووقع في هذا الشهر والذي بعده موت كثير في الناس بالخانوق.

وفي ربيع الأول مسك الأمير نجم الدين بن الزيبق مشد الدواوين، وصودر وبيعت خيوله وحواصله، وتولاه بعده سيف الدين تمر مملوك بكتمر الحاجب، وهو مشد الزكاة.

وفيه: كملت عمارة حمام الأمير شمس الدين حمزة الذي تمكن عند تنكز بعد ناصر الدين الدوادار، ثم وقعت الشناعة عليه بسبب ظلمه في عمارة هذا الحمام فقابله النائب على ذلك وانتصف للناس منه، وضربه بين يديه وضربه بالبندق بيده في وجهه، وسائر جسده، ثم أودعه القلعة ثم نقله إلى بحيرة طبرية فغرقه فيها، وعزل الأمير جمال الدين نائب الكرك عن نيابة طرابلس حسب سؤاله في ذلك، وراح إليها طيغال وقدم نائب الكرك إلى دمشق وقد رسم له بالإقامة في سلخد، فلما تلقاه نائب السلطنة والجيش نزل في دار السعادة وأخذ سيفه بها ونقل إلى القلعة، ثم نقل إلى صفد ثم إلى الإسكندرية ثم كان آخر العهد به.

وفي جمادى الأولى احتيط على دار الأمير بكتمر الحاجب الحسامي بالقاهرة، ونبشت وأخذ منها شيء كثير جدا، وكان جد أولاده نائب الكرك المذكور.

وفي يوم السبت تاسع جمادى الآخرة باشر حسام الدين أبو بكر ابن الأمير عز الدين أيبك النجيبي شد الأوقاف عوضا عن ابن بكتاش، اعتقل، وخلع على المتولي وهنأه الناس.

وفي منتصف هذا الشهر علّق الستر الجديد على خزانة المصحف العثماني، وهو من خز طوله ثمانية أذرع وعرضه أربعة أذرع ونصف، غرم عليه أربعة آلاف وخمسمائة، وعمل في مدة سنة ونصف.

وخرج الركب الشامي يوم الخميس تاسع شوال وأميره علاء الدين المرسي، وقاضيه شهاب الدين الظاهري.

وفيه: رجع جيش حلب إليها وكانوا عشرة آلاف سوى من تبعهم من التركمان، وكانوا في بلاد أذنة وطرسوس وإياس، وقد خربوا وقتلوا خلقا كثيرا، ولم يعدم منهم سوى رجل واحد غرق بنهر جاهان، ولكن كان قتل الكفار من كان عندهم من المسلمين نحوا من ألف رجل، يوم عيد الفطر فإنا لله وإنا إليه راجعون.

وفيه: وقع حريق عظيم بحماة فاحترق منه أسواق كثيرة، وأملاك وأوقاف، وهلكت أموال لا تحصر، وكذلك احترق أكثر مدينة إنطاكية، فتألم المسلمون لذلك.

وفي ذي الحجة خرب المسجد الذي كان في الطريق بين باب النصر وبين باب الجابية، عن حكم القضاة بأمر نائب السلطنة، وبني غربيه مسجد حسن أحسن وأنفع من الأول.

وتوفي فيها من الأعيان:

الشيخ الصالح المعمر رئيس المؤذنين بجامع دمشق

برهان الدين إبراهيم بن محمد بن أحمد بن محمد الواني، ولد سنة ثلاث وأربعين وستمائة، وسمع الحديث، وروى، وكان حسن الصوت والشكل، محببا إلى العوام، توفي يوم الخميس سادس صفر ودفن بباب الصغير، وقام من بعده في الرياسة ولده أمين الدين محمد الواني المحدث المفيد، وتوفي بعده ببضع وأربعين يوما رحمهما الله.

الكاتب المطبق المجود المحرر بهاء الدين محمود

ابن خطيب بعلبك محيي الدين محمد بن عبد الرحيم بن عبد الوهاب السلمي، ولد سنة ثمان وثمانين وستمائة، واعتنى بهذه الصناعة فبرع فيها، وتقدم على أهل زمانه قاطبة في النسخ وبقية الأقلام، وكان حسن الشكل طيب الأخلاق، طيب الصوت حسن التودد، توفي في سلخ ربيع الأول، ودفن بتربة الشيخ أبي عمر رحمه الله.

علاء الدين السنجاري

واقف دار القرآن عند باب الناطفانيين شمالي الأموي بدمشق، علي بن إسماعيل بن محمود كان أحد التجار الصدق الأخيار، ذوي اليسار المسارعين إلى الخيرات، توفي بالقاهرة ليلة الخميس ثالث عشر جمادى الآخرة، ودفن عند قبر القاضي شمس الدين بن الحريري.

العدل نجم الدين التاجر

عبد الرحيم بن أبي القاسم عبد الرحمن الرحبي باني التربة المشهورة بالمزة، وقد جعل لها مسجدا ووقف عليها أوقافا دارّة، وصدقات هناك، وكان من أخيار أبناء جنسه، عدل مرضى عند جميع الحكام، وترك أولادا وأموالا جمة، ودارا هائلة، وبساتين بالمزة، وكان وفاته يوم الأربعاء سابع عشرين جمادى الآخرة ودفن بتربته المذكورة بالمزة رحمه الله.

الشيخ الإمام الحافظ قطب الدين

أبو محمد عبد الكريم بن عبد النور بن منير بن عبد الكريم بن علي بن عبد الحق بن عبد الصمد بن عبد النور الحلبي الأصل ثم المصري، أحد مشاهير المحدثين بها، والقائمين بحفظ الحديث وروايته وتدوينه وشرحه والكلام عليه، ولد سنة أربع وستين وستمائة بحلب، وقرأ القرآن بالروايات، وسمع الحديث وقرأ الشاطبية والألفية، وبرع في فن الحديث.

وكان حنفي المذهب وكتب كثيرا وصنف شرحا لأكثر البخاري، وجمع تاريخا لمصر ولم يكملهما، وتكلم على السيرة التي جمعها الحافظ عبد الغني وخرج لنفسه أربعين حديثا متباينة الإسناد.

وكان حسن الأخلاق مطرحا للكلفة طاهر اللسان كثير المطالعة والاشتغال، إلى أن توفي يوم الأحد سلخ رجب، ودفن من الغد مستهل شعبان عند خاله نصر المنبجي، وخلف تسعة أولاد رحمه الله.

القاضي الإمام زين الدين أبو محمد

عبد الكافي بن علي بن تمام بن يوسف السبكي، قاضي المحلة، ووالده العلامة قاضي القضاة تقي الدين السبكي الشافعي، سمع من ابن الأنماطي وابن خطيب المزة، وحدث وتوفي تاسع شعبان، وتبعته زوجته ناصرية بنت القاضي جمال الدين إبراهيم بن الحسين السبكي، ودفنت بالقرافة، وقد سمعت من ابن الصابوني شيئا من سنن النسائي، وكذلك ابنتها محمدية، وقد توفيت قبلها.

تاج الدين علي بن إبراهيم

ابن عبد الكريم المصري، ويعرف بكاتب قطلبك، وهو والد العلامة فخر الدين شيخ الشافعية ومدرّسهم في عدة مدارس، ووالده هذا لم يزل في الخدمة والكتابة إلى أن توفي عنده بالعادلية الصغيرة ليلة الثلاثاء ثالث عشر شعبان، وصلّي عليه من الغد بالجامع، ودفن بباب الصغير.

الشيخ الصالح عبد الكافي

ويعرف بعبيد بن أبي الرجال بن حسين بن سلطان بن خليفة المنيني، ويعرف بابن أبي الأزرق، مولده في سنة أربع وأربعين وستمائة بقريته من بلاد بعلبك، ثم أقام بقرية منين، وكان مشهورا بالصلاح وقرئ عليه شيء من الحديث وجاوز التسعين.

الشيخ محمد بن عبد الحق

ابن شعبان بن علي الأنصاري، المعروف بالسياح، له زاوية بسفح قاسيون بالوادي الشمالي، مشهورة به، كان قد بلغ التسعين، وسمع الحديث وأسمعه، كانت له معرفة بالأمور وعنده بعض مكاشفة، وهو رجل حسن، توفي أواخر شوال من هذه السنة.

الأمير سلطان العرب حسام الدين

مهنا بن عيسى بن مهنا، أمير العرب بالشام، وهم يزعمون أنهم من سلالة جعفر بن يحيى بن خالد البرمكي، من ذرية الولد الذي جاء من العباسة أخت الرشيد فالله أعلم.

وقد كان كبير القدر محترما عند الملوك كلهم، بالشام ومصر والعراق، وكان دينا خيرا متحيزا للحق، وخلف أولادا وورثة وأموالا كثيرة، وقد بلغ سنا عالية.

وكان يحب الشيخ تقي الدين بن تيمية حبا زائدا، هو وذريته وعربه، وله عندهم منزلة وحرمة وإكرام، يسمعون قوله ويمتثلونه، وهو الذي نهاهم أن يغير بعضهم على بعض، وعرفهم أن ذلك حرام، وله في ذلك مصنف جليل.

وكانت وفاة مهنا هذا ببلاد سلمية في ثامن عشر ذي القعدة، ودفن هناك رحمه الله.

الشيخ الزاهد فضل العلجوني

فضل بن عيسى بن قنديل العجلوني الحنبلي المقيم بالمسمارية، أصله من بلاد حبراحي، كان متقللا من الدنيا يلبس ثيابا طوالا وعمامة هائلة، وهي بأرخص الأثمان، وكان يعرف تعبير الرؤيا ويُقصد لذلك، وكان لا يقبل من أحد شيئا، وقد عرضت عليه وظائف بجوامك كثيرة فلم يقبلها، بل رضي بالرغيد الهني من العيش الخشن إلى أن توفي في ذي الحجة، وله نحو تسعين سنة، ودفن بالقرب من قبر الشيخ تقي الدين بن تيمية رحمهما الله، وكانت جنازته حافلة جدا.

ثم دخلت سنة ست وثلاثين وسبعمائة

استهلت بيوم الجمعة والحكام هم المذكورون في التي قبلها.

وفي أول يوم منها ركب تنكز إلى قلعة جعبر ومعه الجيش والمناجنيق فغابوا شهرا وخمسة أيام وعادوا سالمين.

وفي ثامن صفر فتحت الخانقاه التي أنشأها سيف الدين قوصون الناصري خارج باب القرافة، وتولى مشيختها الشيخ شمس الدين الأصبهاني المتكلم.

وفي عاشر صفر خرج ابن جملة من السجن بالقلعة وجاءت الأخبار بموت ملك التتار أبي سعيد بن خربندا بن أرغون بن أبغا بن هولاكو بن تولى بن جنكيز خان، في يوم الخميس ثاني عشر ربيع الآخر بدار السلطنة بقراباغ، وهي منزلهم في الشتاء، ثم نقل إلى تربته بمدينته التي أنشأها قريبا من السلطانية مدينة أبيه، وقد كان من خيار ملوك التتار وأحسنهم طريقة وأثبتهم على السنة وأقومهم بها.

وقد عز أهل السنة بزمانه وذلت الرافضة، بخلاف دولة أبيه، ثم من بعده لم يقم للتتار قائمة، بل اختلفوا فتفرقوا شذر مذر إلى زماننا هذا، وكان القائم من بعده بالأمر ارتكاوون من ذرية أبغا، ولم يستمر له الأمر إلا قليلا.

وفي يوم الأربعاء عاشر جمادى الأولى درّس بالناصرية الجوانية بدر الدين الأردبيلي عوضا عن كمال الدين بن الشيرازي توفي، وحضر عنده القضاة.

وفيه: درّس بالظاهرية البرانية الشيخ الإمام المقري سيف الدين أبو بكر الحريري عوضا عن بدر الدين الأردبيلي، تركها لما حصلت له الناصرية الجوانية، وبعده بيوم درس بالنجيبية كاتبه إسماعيل بن كثير عوضا عن الشيخ جمال الدين ابن قاضي الزبداني تركها حين تعين له تدريس الظاهرية الجوانية.

وحضر عنده القضاة والأعيان كان درسا حافلا أثنى عليه الحاضرون وتعجبوا من جمعه وترتيبه، وكان ذلك في تفسير قوله تعالى: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} 15 وانساق الكلام إلى مسألة ربا الفضل.

وفي يوم الأحد رابع عشره ذكر الدرس بالظاهرية المذكورة ابن قاضي الزبداني عوضا عن علاء الدين بن القلانسي توفي، وحضر عنده القضاة والأعيان، وكان يوما مطيرا.

وفي أول جمادى الآخرة وقع غلاء شديد بديار مصر واشتد ذلك إلى شهر رمضان، وتوجه خلق كثير في رجب إلى مكة نحوا من ألفين وخمسمائة، منهم عز الدين بن جماعة، وفخر الدين النويري وحسن السلامي، وأبو الفتح السلامي، وخلق.

وفي رجب كملت عمارة جسر باب الفرج وعمل عليه باشورة ورسم باستمرار فتحه إلى بعد العشاء الآخرة كبقية سائر الأبواب، وكان قبل ذلك يغلق من المغرب.

وفي سلخ رجب أقيمت الجمعة بالجامع الذي أنشأه نجم الدين بن خيلخان تجاه باب كيسان من القبلة، وخطب فيه الشيخ الإمام العلامة شمس الدين ابن قيم الجوزية.

وفي ثاني شعبان باشر كتابة السر بدمشق القاضي علم الدين محمد بن قطب الدين أحمد بن مفضل، عوضا عن كمال الدين ابن الأثير، عزل وراح إلى مصر.

وفي يوم الأربعاء رابع رمضان ذكر الدرس بالأمينية الشيخ بهاء الدين ابن إمام المشهد عوضا عن علاء الدين بن القلانسي.

وفي العشرين منه خلع على الصدر نجم الدين بن أبي الطيب بنظر الخزانة مضافا إلى ما بيده من وكالة بيت المال، بعد وفاة ابن القلانسي بشهور.

وخرج الركب الشامي يوم الاثنين ثامن شوال وأميره قطلودمر الخليلي.

وممن حج فيه: قاضي طرابلس محيي الدين بن جهبل، والفخر المصري، وابن قاضي الزبداني، وابن العز الحنفي، وابن غانم، والسخاوي، وابن قيم الجوزية، وناصر الدين بن البربوه الحنفي، وجاءت الأخبار بوقعة جرت بين التتار قتل فيها خلق كثير منهم، وانتصر على باشا وسلطانه الذي كان قد أقامه، وهو موسى كاوون على ارباكاوون وأصحابه، فقتل هو ووزيره ابن رشيد الدولة، وجرت خطوب كثيرة طويلة، وضربت البشائر بدمشق.

وفي ذي القعدة خلع على ناظر الجامع الشيخ عز الدين بن المنجا بسب إكماله البطائن في الرواق الشمالي والغربي والشرقي، ولم يكن قبل ذلك له بطائن.

وفي يوم الأربعاء سابع الحجة ذكر الدرس بالشبلية القاضي نجم الدين ابن قاضي القضاة عماد الدين الطرسوسي الحنفي، وهو ابن سبع عشرة سنة، وحضر عنده القضاة والأعيان، وشكروا من فضله ونباهته، وفرحوا لأبيه فيه.

وفيها: عزل ابن النقيب عن قضاء حلب ووليها ابن خطيب جبرين، وولي الحسبة بالقاهرة ضياء الدين يوسف بن أبي بكر بن محمد خطيب بيت الأبار، خلع عليه السلطان.

وفي ذي القعدة رسم السلطان باعتقال الخليفة المستكفي وأهله، وأن يمنعوا من الاجتماع، فآل أمرهم كما كان أيام الظاهر والمنصور.

من الأعيان:

السلطان أبو سعيد ابن خربندا

وكان آخر من اجتمع شمل التتار عليه، ثم تفرقوا من بعده.

الشيخ البندنيجي

شمس الدين علي بن محمد بن ممدود بن عيسى البندنيجي الصوفي، قدم علينا من بغداد شيخنا كبيرا راويا لأشياء كثيرة، فيها (صحيح مسلم) و(الترمذي) وغير ذلك، وعنده فوائد، ولد سنة أربع وأربعين وستمائة، وكان والده محدثا فأسمعه أشياء كثيرة على مشايخ عدة، وكان موته بدمشق رابع المحرم.

قاضي قضاة بغداد قطب الدين أبو الفضائل

محمد بن عمر بن الفضل التبريزي الشافعي المعروف بالأحوس، سمع شيئا من الحديث واشتغل بالفقه والأصول والمنطق والعربية والمعاني والبيان، وكان بارعا في فنون كثيرة ودرّس بالمستنصرية بعد العاقولي، وفي مدارس كبار، وكان حسن الخلق كثير الخير على الفقراء والضعفاء، متواضعا يكتب حسنا أيضا، توفي في آخر المحرم ودفن بتربة له عند داره ببغداد رحمه الله.

الأمير صارم الدين إبراهيم

بن محمد بن أبي القاسم بن أبي الزهر، المعروف بالمغزال، كانت له مطالعة وعنده شيء من التاريخ، ويحاضر جيدا، ولما توفي يوم الجمعة وقت الصلاة السادس والعشرين من المحرم دفن بتربة له عند حمام العديم.

الأمير علاء الدين مغلطاي الخازن

نائب القلعة وصاحب التربة تجاه الجامع المظفري من الغرب، كان رجلا جيدا، له أوقاف وبر وصدقات، توفي يوم الجمعة بكرة عاشر صفر، ودفن بتربته المذكورة.

القاضي كمال الدين

أحمد بن محمد بن محمد بن عبد الله بن هبة الله بن الشيرازي الدمشقي، ولد سنة سبعين، وسمع الحديث وتفقه على الشيخ تاج الدين الفزاري، والشيخ زين الدين الفارقي، وحفظ مختصر (المزني) ودرّس في وقت بالبادرائية، وفي وقت بالشامية البرانية.

ثم ولي تدريس الناصرية الجوانية مدة سنين إلى حين وفاته، وكان صدرا كبيرا، ذكر لقضاء قضاة دمشق غير مرة، وكان حسن المباشرة والشكل، توفي في ثالث صفر ودفن بتربتهم بسفح قاسيون رحمه الله.

الأمير ناصر الدين

محمد بن الملك المسعود جلال الدين عبد الله بن الملك الصالح إسماعيل بن العادل، كان شيخا مسنا قد اعتنى (بصحيح البخاري) يختصره، وله فهم جيد ولديه فضيلة، وكان يسكن المزة وبها توفي ليلة السبت خامس عشرين صفر، وله أربع وسبعون سنة، ودفن بتربتهم بالمزة رحمه الله.

علاء الدين علي بن شرف الدين

محمد بن القلانسي قاضي العسكر ووكيل بيت المال، وموقع الدست، ومدرّس الأمينية والظاهرية وغير ذلك من المناصب، ثم سلبها كلها سوى التدريسين، وبقي معزولا إلى حين أن توفي بكرة السبت خامس وعشرين صفر، ودفن بتربتهم.

عز الدين أحمد بن الشيخ زين الدين

محمد بن أحمد بن محمود العقيلي، ويعرف بابن القلانسي، محتسب دمشق وناظر الخزانة، كان محمود المباشرة، ثم عزل الحسبة واستمر بالخزانة إلى أن توفي يوم الاثنين تاسع عشر جمادى الأولى ودفن بقاسيون.

الشيخ علي بن أبي المجد بن شرف بن أحمد الحمصي

ثم الدمشقي مؤذن البربوة خمسا وأربعين سنة، وله ديوان شعر وتعاليق وأشياء كثيرة مما ينكر أمرها، وكان محلولا في دينه، توفي جمادى الأولى أيضا.

الأمير شهاب الدين بن برق

متولي دمشق، شهد جنازته خلق كثير، توفي ثاني شعبان ودفن بالصالحية وأثنى عليه الناس.

الأمير فخر الدين ابن الشمس لؤلؤ

متولي البر، كان مشكورا أيضا، توفي رابع شعبان، وكان شيخا كبيرا، توفي ببستانه ببيت لهيا ودفن بتربته هناك وترك ذرية كثيرة رحمه الله.

عماد الدين إسماعيل ابن شرف الدين

محمد بن الوزير فتح الدين عبد الله بن محمد بن أحمد بن خالد بن صغير بن القيسراني.

أحد كتاب الدست، وكان من خيار الناس محببا إلى الفقراء والصالحين، وفيه مروءة كثيرة، وكتب بمصر ثم صار إلى حلب كاتب سرها، ثم انتقل إلى دمشق فأقام بها إلى أن مات ليلة الأحد ثالث عشر القعدة، وصلّي عليه من الغد بجامع دمشق، ودفن بالصوفية عن خمس وستين سنة، وقد سمع شيئا من الحديث على الأبرقوهي وغيره.

وفي ذي القعدة توفي شهاب الدين ابن القديسة المحدث بطريق الحجاز الشريف.

وفي ذي الحجة توفي الشمس محمد المؤذن المعروف بالنجار ويعرف بالبتي، وكان يتكلم وينشد في المحافل والله سبحانه أعلم.

ثم دخلت سنة سبع وثلاثين وسبعمائة

استهلت بيوم الجمعة والخليفة المستكفي بالله قد اعتقله السلطان الملك الناصر، ومنعه من الاجتماع بالناس، ونائب الشام تنكز بن عبد الله الناصري، والقضاة والمباشرون هم المذكورون في التي قبلها، سوى كاتب السر فإنه علم الدين بن القطب، ووالي البر الأمير بدر الدين بن قطلوبك بن شنشنكير، ووالي المدينة حسام الدين طرقطاي الجوكنداري.

وفي أول يوم منها يوم الجمعة وصلت الأخبار بأن علي باشا كسر جيشه، وقيل إنه قتل.

ووصلت كتب الحجاج في الثاني والعشرين من المحرم تصف مشقة كثيرة حصلت للحجاج من موت الجمال وإلقاء الأحمال ومشي كثير من النساء والرجال، فإنا لله وإنا إليه راجعون، والحمد لله على كل حال.

وفي آخر المحرم قدم إلى دمشق القاضي حسام الدين حسن بن محمد الغوري قاضي بغداد، وكان والوزير نجم الدين محمود بن علي بن شروان الكردي، وشرف الدين عثمان بن حسن البلدي فأقاموا ثلاثة أيام ثم توجهوا إلى مصر فحصل لهم قبول تام من السلطان، فاستقضى الأول على الحنفية كما سيأتي، واستوزر الثاني وأمّر الثالث.

وفي يوم عاشوراء أحضر شمس الدين محمد بن الشيخ شهاب الدين بن اللبان الفقيه الشافعي إلى مجلس الحكم الجلالي، وحضر معه شهاب الدين بن فضل الله مجد الدين الأقصرائي شيخ الشيوخ، وشهاب الدين الأصبهاني، فادّعى عليه بأشياء منكرة من الحلول والاتحاد والغلو في القرمطة وغير ذلك، فأقر ببعضها فحكم عليه بحقن دمه ثم توسط في أمره وأبقيت عليه جهاته، ومنع من الكلام على الناس، وقام في صفه جماعة من الأمراء والأعيان.

وفي صفر احترق بقصر حجاج حريق عظيم أتلف دورا ودكاكين عديدة.

وفي ربيع الأول ولد للسلطان ولد فدقت البشائر وزينت البلد أياما.

وفي منتصف ربيع الآخر أمر الأمير صارم الدين إبراهيم الحاجب الساكن تجاه جامع كريم الدين طبلخاناه، وهو من كبار أصحاب الشيخ تقي الدين رحمه الله، وله مقاصد حسنة صالحة، وهو في نفسه رجل جيد.

وفيه: أفرج عن الخليفة المستكفي وأطلق من البرج في حادي عشرين ربيع الآخر ولزم بيته.

وفي يوم الجمعة عشرين جمادى الآخرة أقيمت الجمعة في جامعين بمصر، أحدهما أنشأه الأمير عز الدين أيدمر بن عبد الله الخطيري، ومات بعد ذلك باثني عشر يوما رحمه الله، والثاني أنشأته امرأة يقال لها الست حدق دادة السلطان الناصر عند قنطرة السباع.

وفي شعبان سافر القاضي شهاب الدين أحمد بن شرف بن منصور النائب في الحكم بدمشق إلى قضاء طرابلس، وناب بعده الشيخ شهاب الدين أحمد بن النقيب البعلبكي.

وفيه: خلع على عز الدين بن جماعة بوكالة بيت المال بمصر، وعلى ضياء الدين ابن خطيب بيت الأبار بالحسبة بالقاهرة، مع ما بيده من نظر الأوقاف وغيره.

وفيه: أمر الأمير ناظر القدس بطبلخاناه ثم عاد إلى القدس.

وفي عاشر رمضان قدمت من مصر مقدمتان ألفان إلى دمشق سائرة إلى بلاد سيس، وفيهم علاء الدين، فاجتمع به أهل العلم وهو من أفاضل الحنفية، وله مصنفات في الحديث وغيره.

وخرج الركب الشامي يوم الاثنين عاشر شوال وأميره بهادر قبجق، وقاضية محيي الدين الطرابلسي مدرّس الحمصية، وفي الركب تقي الدين شيخ الشيوخ، وعماد الدين بن الشيرازي، ونجم الدين الطرسوسي، وجمال الدين المرداوي، وصاحبه شمس الدين بن مفلح، والصدر المالكي والشرف بن القيسراني، والشيخ خالد المقيم عند دار الطعم، وجمال الدين بن الشهاب محمود.

وفي ذي القعدة وصلت الأخبار بأن الجيش تسلموا من بلاد سيس سبع قلاع، وحصل لهم خير كثير ولله الحمد، وفرح المسلمون بذلك.

وفيه: كانت وقعة هائلة بين التتار انتصر فيها الشيخ وذووه.

وفيها: نفي السلطان الملك الناصر محمد بن قلاوون الخليفة وأهله وذويه، وكانوا قريبا من مائة نفس إلى بلاد قوص، ورتب لهم هناك ما يقوم بمصالحهم، فإنا لله وإنا إليه راجعون.

من الأعيان:

الشيخ علاء الدين بن غانم

أبو الحسن علي بن محمد بن سليمان بن حمائل بن علي المقدسي أحد الكبار المشهورين بالفضائل وحسن الترسل، وكثرة الأدب والأشعار والمروءة التامة، مولده سنة إحدى وخمسين وستمائة، وسمع الحديث الكثير، وحفظ القرآن و(التنبيه)، وباشر الجهات، وقصده الناس في الأمور المهمات وكان كثير الإحسان إلى الخاص والعام.

توفي مرجعه في الحج في منزلة تبوك يوم الخميس ثالث عشر المحرم، ودفن هناك رحمه الله، ثم تبعه أخوه شهاب الدين أحمد في شهر رمضان، وكان أصغر منه سنا بسنة، وكان فاضلا أيضا بارعا كثير الدعابة.

الشرف محمود الحريري

المؤذن بالجامع الأموي، بنى حماما بالنيرب، ومات في آخر المحرم.

الشيخ الصالح العابد ناصر الدين محمد

بن الشيخ إبراهيم بن معضاد بن شداد بن ماجد بن مالك الجعبري ثم المصري، ولد سنة خمسين وستمائة بقلعة جعبر، وسمع صحيح مسلم وغيره، وكان يتكلم على الناس ويعظهم ويستحضر أشياء كثيرة من التفسير وغيره، كان فيه صلاح وعبادة، توفي في الرابع والعشرين من المحرم، ودفن بزاويتهم عند والده خارج باب النصر.

الشيخ شهاب الدين عبد الحق الحنفي

أحمد بن علي بن أحمد بن علي بن يوسف بن قاضي الحنفيين ويعرف بابن عبد الحق الحنفي، شيخ المذهب ومدرّس الحنفية وغيرها، وكان بارعا فاضلا دينا، توفي في ربيع الأول.

الشيخ عماد الدين إبراهيم بن

علي بن عبد الرحمن بن عبد المنعم بن نعمة المقدسي النابلسي الحنبلي الإمام العالم العابد شيخ الحنابلة بها وفقيههم من مدة طويلة، توفي في ربيع الأول.

الشيخ الإمام العابد الناسك محب الدين عبد الله

بن أحمد بن المحب عبد الله بن أحمد بن أبي بكر محمد بن إبراهيم بن أحمد بن عبد الرحمن بن إسماعيل بن منصور المقدسي الحنبلي، سمع الكثير وقرأ بنفسه، وكتب الطباق وانتفع الناس به، وكانت له مجالس وعظ من الكتاب والسنة في الجامع الأموي وغيره، وله صوت طيب بالقراءة جدا، وعليه روح وسكينة ووقار.

وكانت مواعيده مفيدة ينتفع بها الناس، وكان شيخ الإسلام تقي الدين بن تيمية يحبه ويحب قراءته، توفي يوم الاثنين سابع ربيع الأول، وكانت جنازته حافلة، ودفن بقاسيون وشهد الناس له بخير، رحمه الله تعالى، وبلغ خمسا وخسمين سنة.

المحدث البارع المحصل المفيد المخرج المجيد

ناصر الدين محمد بن طغربل بن عبد الله الصيرفي أبوه، الخوارزمي الأصل، سمع الكثير وقرأ بنفسه، وكان سريع القراءة، وقرأ الكتب الكبار والصغار، وجمع وخرج شيئا كثيرا، وكان بارعا في هذا الشأن، رحل فأدركته منيته بحماه يوم السبت ثاني ربيع الأول، ودفن من الغد بمقابر طيبة رحمه الله.

شيخنا الإمام العالم العابد شمس الدين

أبو محمد عبد الله بن العفيف محمد بن الشيخ تقي الدين يوسف بن عبد المنعم بن نعمة المقدسي النابلسي الحنبلي، إمام مسجد الحنابلة بها، ولد سنة سبع وأربعين وستمائة.

وسمع الكثير وكان كثير العبادة حسن الصوت، عليه البهاء والوقار وسحن الشكل والسمت، قرأت عليه عام ثلاث وثلاثين وسبعمائة مرجعنا من القدس كثيرا من الأجزاء والفوائد، وهو والد صاحبنا الشيخ جمال الدين يوسف أحد مفتية الحنابلة وغيرهم، والمشهورين بالخير والصلاح، توفي يوم الخميس ثاني عشرين ربيع الآخر ودفن هناك رحمه الله.

الشيخ محمد بن عبد الله بن المجد

إبراهيم المرشدي المقيم بمنية مرشد، يقصده الناس للزيارة، ويضيف الناس على حسب مراتبهم وينفق نفقات كثيرة جدا، ولم يكن يأخذ من أحد شيئا فيما يبدو للناس، والله أعلم بحاله. وأصله من قرية دهروط، وأقام بالقاهرة مدة واشتغل بها، ويقال إنه قرأ (التنبيه) في الفقه، ثم انقطع بمنية مرشد واشتهر أمره في الناس وحج مرات، وكان إذا دخل القاهرة يزدحم عليه الناس، ثم كانت وفاته يوم الخميس ثامن رمضان ودفن بزاويته، وصلّي عليه بالقاهرة ودمشق وغيرها.

الأمير أسد الدين عبد القادر

بن المغيث عبد العزيز بن الملك المعظم عيسى بن العادل، ولد سنة ثنتين وأربعين وستمائة، وسمع الكثير وأسمع، وكان يأتي كل سنة من مصر إلى دمشق ويكرم أهل الحديث، ولم يبق من بعده من بني أيوب أعلا سنا منه، توفي بالرملة في سلخ رمضان رحمه الله.

الشيخ الصالح الفاضل حسن بن إبراهيم

بن حسن الحاكي الحكري إمام مسجد هناك، ومذكّر الناس في كل جمعة، ولديه فضائل، وفي كلامه نفع كثير إلى أن توفي في العشرين من شوال، ولم ير الناس مثل جنازته بديار مصر رحمه الله تعالى.

ثم دخلت سنة ثمان وثلاثين وسبعمائة

استهلت بيوم الأربعاء والخليفة المستكفي منفي ببلاد قوص، ومعه أهله وذووه، ومن يلوذ به، وسلطان البلاد الملك الناصر محمد بن الملك المنصور، ولا نائب بديار مصر ولا وزير، ونائبه بدمشق تنكز، وقضاة البلاد ونوابها ومباشروها هم المذكورون في التي قبلها.

وفي ثالث ربيع الأول رسم السلطان بتسفير علي ومحمد ابني داود بن سليمان بن داود بن العاضد آخر خلفاء الفاطميين إلى الفيوم يقيمون به.

وفي يوم الجمعة ثاني عشر ربيع الآخر عزل القاضي علم الدين بن القطب عن كتابة السر وضرب وصودر، ونكب بسببه القاضي فخر الدين المصري، وعزل عن مدرسته الدولعية وأخذها ابن جملة، والعادلية الصغيرة باشرها ابن النقيب، ورسم عليه بالعذراوية مائة يوم، وأخذ شيء من ماله.

وفي ليلة الأحد ثالث عشرين ربيع الأول بعد المغرب هبت ريح شديدة بمصر وأعقبها رعد وبرق وبرد بقدر الجوز، وهذا شيء لم يشاهدوا مثله من أعصار متطاولة بتلك البلاد.

وفي عاشر جمادى الأولى استهل الغيث بمكة من أول الليل، فلما انتصف الليل جاء سيل عظيم هائل لم ير مثله من دهر طويل، فخّرب دورا كثيرة نحوا من ثلاثين أو أكثر، وغرق جماعة وكسر أبواب المسجد، ودخل الكعبة وارتفع فيها نحوا من ذراع أو أكثر، وجرى أمر عظيم حكاه الشيخ عفيف الدين الطبري.

وفي سابع عشرين من جمادى الأولى عزل القاضي جلال الدين عن قضاء مصر، واتفق وصول خبر موت قاضي الشام ابن المجد بعد أن عزل بيسير، فولاه السلطان قضاء الشام فسار إليها راجعا عودا على بدء.

ثم عزل السلطان برهان الدين بن عبد الحق قاضي الحنفية، وعزل قاضي الحنابلة تقي الدين، ورسم على ولده صدر الدين بأداء ديون الناس إليهم، وكانت قريبا من ثلاثمائة ألف، فلما كان يوم الاثنين تاسع عشر جمادى الآخرة بعد سفر جلال الدين بخمسة أيام طلب السلطان أعيان الفقهاء إلى بين يديه فسألهم عن من يصلح للقضاء بمصر فوقع الاختيار على القاضي عز الدين بن جماعة. فولاه في الساعة الراهنة، وولى قضاء الحنفية لحسام الدين حسن بن محمد الغوري قاضي بغداد، وخرجا من بين يديه إلى المدرسة الصالحية، وعليهما الخلع، ونزل عز الدين بن جماعة من دار الحديث الكاملية لصاحبه الشيخ عماد الدين الدمياطي، فدرّس فيها وأورد حديث «إنما الأعمال بالنيات». بسنده، وتكلم عليه.

وعزل أكثر نواب الحكم واستمر بعضهم، واستمر بالمنادي الذي أشار بتوليته.

ولما كان يوم خامس عشرين منه ولي قضاء الحنابلة الإمام العالم موفق الدين أبو محمد عبد الله بن محمد بن عبد الملك المقدسي عوضا عن المعزول، ولم يبق من القضاة سوى الاخنائي المالكي.

وفي رمضان فتحت الصبابية التي أنشأها شمس الدين بن تقي الدين بن الصباب التاجر دار قرآن ودار حديث، وقد كانت خربة شنيعة قبل ذلك.

وفي رمضان باشر علاء الدين علي ابن القاضي محيي الدين بن فضل الله كتابة السر بمصر بعد وفاة أبيه كما سيأتي ترجمته، وخلع عليه وعلى أخيه بدر الدين، ورسم لهما أن يحضرا مجلس السلطان، وذهب أخوه شهاب الدين إلى الحج.

وفي هذا الشهر سقط بالجانب الغربي من مصر بَرَد كالبيض وكالرمان، فأتلف شيئا كثيرا، ذكر ذلك البرزالي ونقله من كتاب (الشهاب الدمياطي).

وفي ثالث عشرين رمضان درّس بالقبة المنصورية بمشيخة الحديث شهاب الدين العسجدي عوضا عن زين الدين الكناني توفي، فأورد حديثا من مسند الشافعي بروايته عن الجاولي بسنده، ثم صرف عنها بالحجة بالشيخ أثير الدين أبي حيان، فساق حديثا عن شيخه ابن الزبير ودعا للسلطان وحضر عنده القضاة والأعيان، وكان مجلسا حافلا.

وفي ذي القعدة حضر تدريس الشامية البرانية قاضي القضاة شمس الدين بن النقيب عوضا عن القاضي جمال الدين بن جملة توفي، وحضر خلق كثير من الفقهاء والأعيان، وكان مجلسا حافلا.

وفي ثاني ذي الحجة درّس بالعادلية الصغيرة تاج الدين عبد الرحيم ابن قاضي القضاة جلال الدين القزويني عوضا عن الشيخ شمس الدين بن النقيب بحكم ولايته الشامية البرانية، وحضر عنده القضاة والأعيان.

وفي هذا الشهر درّس القاضي صدر الدين بن القاضي جلال الدين بالأتابكية، وأخوه الخطيب بدر الدين بالغزالية والعادلية نيابة عن أبيه.

انتهى والله أعلم.

من الأعيان:

الأمير الكبير بدر الدين محمد بن فخر الدين عيسى بن التركماني

باني جامع المقياس بديار مصر في أيام وزارته بها، ثم عزل أميرا إلى الشام، ثم رجع إلى مصر إلى أن توفي بها في خامس ربيع الآخر، وتوفي بالحسينية، وكان مشكورا رحمه الله، انتهى.

قاضي القضاة شهاب الدين

محمد بن المجد بن عبد الله بن الحسين بن علي الرازي الأربلي الأصل، ثم الدمشقي الشافعي، قاضي الشافعية بدمشق.

ولد سنة ثنتين وستين وستمائة، واشتغل وبرع وحصل وأفتى سنة ثلاث وتسعين، ودرّس بالإقبالية ثم الرواحية وتربة أم الصالح، وولي وكالة بيت المال، ثم صار قاضي قضاة الشام إلى أن توفي بمستهل جمادى الأولى بالمدرسة العادلية، ودفن بمقابر باب الصغير رحمه الله.

الشيخ الإمام العالم ابن المرحل زين الدين

محمد بن عبد الله بن الشيخ زين الدين عمر بن مكي بن عبد الصمد بن المرحل مدرّس الشامية البرانية والعذراوية بدمشق، وكان قبل ذلك بمشهد الحسين، وكان فاضلا بارعا فقيها أصوليا مناظرا، حسن الشكل طيب الأخلاق دينا صينا، وناب في وقت بدمشق عن علم الدين الأخنائي فحمدت سيرته.

وكانت وفاته ليلة الأربعاء تاسع عشر رجب، ودفن من الغد عند مسجد الديان في تربة لهم هناك، وحضر جنازته القاضي جلال الدين، وكان قد قدم من الديار المصرية له يومان فقط، وقدم بعده القاضي برهان الدين عبد الحق بخمسة أيام، هو وأهله وأولاده أيضا.

وباشر بعده تدريس الشامية البرانية قاضي القضاة جمال الدين بن جملة، ثم كانت وفاته بعده بشهور، وذلك يوم الخميس رابع عشر ذي القعدة.

وهذه ترجمته في تاريخ الشيخ علم الدين البرزالي:

قاضي القضاة جمال الدين الصالحي

جمال الدين أبو المحاسن يوسف بن إبراهيم بن جملة بن مسلم بن همام بن حسين بن يوسف الصالحي الشافعي المحجي والده، بالمدرسة السرورية وصلّي عليه عقيب الظهر يوم الخميس رابع عشر ذي الحجة، ودفن بسفح قاسيون، ومولده في أوائل سنة ثنتين وثمانين وستمائة.

وسمع من ابن البخاري وغيره، وحدّث وكان رجلا فاضلا في فنون، اشتغل وحصّل وأفتى وأعاد ودرّس، وله فضائل جمة ومباحث وفوائد وهمة عالية وحرمة وافرة، وفيه تودد وإحسان وقضاء للحقوق، وولي القضاء بدمشق نيابة واستقلالا، ودرّس بمدارس كبار، ومات وهو مدّرس الشامية البرانية، وحضر جنازته خلق كثير من الأعيان رحمه الله.

شيخ الإسلام قاضي القضاة ابن البارزي

شرف الدين أبو القاسم هبة الله بن قاضي القضاة نجم الدين عبد الرحيم بن القاضي شمس الدين أبي الطاهر إبراهيم بن هبة الله بن مسلم بن هبة الله الجهيني الحموي، المعروف بابن البارزي قاضي القضاة بحماه، صاحب التصانيف الكثيرة المفيدة في الفنون العديدة.

ولد في خامس رمضان سنة خمس وأربعين وستمائة، وسمع الكثير وحصّل فنونا كثيرة، وصنف كتبا جما كثيرة، وكان حسن الأخلاق كثير المحاضرة حسن الاعتقاد في الصالحين، وكان معظما عند الناس، وأذن لجماعة من البلد في الإفتاء، وعمي في آخر عمره وهو يحكم مع ذلك مدة.

ثم نزل عن المنصب لحفيده نجم الدين عبد الرحيم بن إبراهيم، وهو في ذلك لا يقطع نظره عن المنصب، وكانت وفاته ليلة الأربعاء العشرين من ذي القعدة بعد أن صلى العشاء والوتر، فلم تفته فريضة ولا نافلة، وصلّي عليه من الغد ودفن بعقبة نقيرين، وله من العمر ثلاث وتسعون سنة.

الشيخ الإمام العالم شهاب الدين أحمد

بن البرهان شيخ الحنفية بحلب، شارح (الجامع الكبير)، وكان رجلا صالحا منقطعا عن الناس، وانتفع الناس به، وكانت وفاته ليلة الجمعة الثامن والعشرين من رجب، وكانت له معرفة بالعربية والقراءات، ومشاركات في علوم أخر رحمه الله، والله أعلم.

القاضي محيي الدين بن فضل الله كاتب السر

هو أبو المعالي يحيى بن فضل الله بن المحلي بن دعجان بن خلف العدوي العمري، ولد في حادي عشر شوال سنة خمس وأربعين وستمائة بالكرك، وسمع الحديث وأسمعه.

وكان صدرا كبيرا معظما في الدولة في حياة أخيه شرف الدين وبعده، وكتب السر بالشام وبالديار المصرية، وكانت وفاته ليلة الأربعاء تاسع رمضان بديار مصر، ودفن من الغد بالقرافة وتولى المنصب بعده ولده علاء الدين، وهو أصغر أولاده الثلاثة المعينين لهذا المنصب.

الشيخ الإمام العلامة ابن الكتاني

زين الدين بن الكتاني، شيخ الشافعية بديار مصر، وهو أبو حفص عمر بن أبي الحزم بن عبد الرحمن بن يونس الدمشقي الأصل، ولد بالقاهرة في حدود سنة ثلاث خمسين وستمائة.

واشتغل بدمشق ثم رحل إلى مصر واستوطنها وتولى بها بعض الأقضية بالحكر، ثم ناب عن الشيخ تقي الدين بن دقيق العيد فحمدت سيرته، ودرّس بمدارس كبار، ولي مشيخة دار الحديث بالقبة المنصورية، وكان بارعا فاضلا، عنده فوائد كثيرة جدا، غير أنه كان سيئ الأخلاق منقبضا عن الناس، لم يتزوج قط.

وكان حسن الشكل بهي المنظر، يأكل الطيبات ويلبس اللين من الثياب، وله فوائد وفرائد وزوائد على (الروضة) وغيرها، وكان فيه استهتار لبعض العلماء فالله يسامحه، وكانت وفاته يوم الثلاثاء المنتصف من رمضان، ودفن بالقرافة رحمه الله انتهى.

الشيخ الإمام العلامة ابن القويع

ركن الدين بن القريع أبو عبد الله محمد بن عبد الرحمن بن يوسف بن عبد الرحمن بن عبد الجليل الوسي الهاشمي الجعفري التونسي المالكي، المعروف بابن القويع، كان من أعيان الفضلاء وسادة الأذكياء، ممن جمع الفنون الكثيرة والعلوم الأخروية الدينية الشرعية الطيبة.

وكان مدرّسا بالمنكود مرية، وله وظيفة في المارستان المنصوري، وبها توفي في بكرة السابع عشر من ذي الحجة، وترك مالا وأثاثا ورثه بيت المال.

وهذا آخر ما أرخه شيخنا الحافظ علم الدين البرزالي في كتابه الذي ذيل به على تاريخ الشيخ شهاب الدين أبي شامة المقدسي، وقد ذيلت على تاريخه إلى زماننا هذا، وكان فراغي من الانتقاء من تاريخه في يوم الأربعاء العشرين من جمادى الآخرة من سنة إحدى وخمسين وسبعمائة، أحسن الله خاتمتها آمين.

وإلى هنا انتهى ما كتبته من لدن خلق آدم إلى زماننا هذا ولله الحمد والمنة.

وما أحسن ما قال الحريري:

وإن تجد عيبا فسد الخللا * فجلّ من لا عيب فيهِ وعلا

كتبه إسماعيل بن كثير بن صنو القرشي الشافعي عفا الله تعالى عنه آمين.


ثم دخلت سنة تسع وثلاثين وسبعمائة

استهلت وسلطان الإسلام والمسلمين بالديار المصرية وما والاها والديار الشامية وما والاها والحرمين الشريفين الملك الناصر محمد بن الملك المنصور قلاوون، ولا نائب له ولا وزير أيضا بمصر، وقضاة مصر.

أما الشافعي فقاضي القضاة عز الدين ابن قاضي القضاة صدر الدين محمد بن إبراهيم بن جماعة، وأما الحنفي فقاضي القضاة حسام الدين الغوري، حسن بن محمد، وأما المالكي فتقي الدين الأخنائي، وأما الحنبلي فموفق الدين بن نجا المقدسي، ونائب الشام الأمير سيف الدين تنكز وقضاته جلال الدين القزويني الشافعي المعزول عن الديار المصرية، والحنفي عماد الدين الطرسوسي، والمالكي شرف الدين الهمداني، والحنبلي علاء الدين بن المنجا التنوخي.

ومما حدث في هذه السنة إكمال دار الحديث السكرية وباشر مشيخة الحديث بها الشيخ الإمام الحافظ مؤرخ الإسلام محمد بن شمس الدين محمد بن أحمد الذهبي، وقرر فيها ثلاثون محدثا لكل منهم جراية وجامكية كل شهر سبعة دراهم ونصف رطل خبز. وقرر للشيخ ثلاثون رطل خبز، وقرر فيها ثلاثون نفرا يقرأون القرآن لكل عشرة شيخ، ولكل واحد من القراء نظير ما للمحدثين، ورتب لها إمام وقارئ حديث ونواب، ولقارئ الحديث عشرون درهما وثمان أواق خبز، وجاءت في غاية الحسن في شكالاتها وبنائها، وهي نجاه دار الذهب التي أنشأها الواقف الأمير تنكز.

ووقف عليها عدة أماكن: منها سوق القشاشيين بباب الفرج، طوله عشرون ذراعا شرقا وغربا، سماه في كتاب (الوقف)، وبندر زيدين، وحمام بحمص وهو الحمام القديم، ووقف عليها حصصا في قرايا أخر، ولكنه تغلب على ما عدا القشاشيين، وبندر زيدين، وحمام حمص.

وفيها: قدم القاضي تقي الدين علي بن عبد الكافي السبكي الشافعي من الديار المصرية حاكما على دمشق وأعمالها، وفرح الناس به، ودخل الناس يسلمون عليه لعلمه وديانته وأمانته، ونزل بالعادلية الكبيرة على عادة من تقدمه، ودرّس بالغزالية والأتابكية.

واستناب ابن عمه القاضي بهاء الدين أبو البقاء، ثم استناب ابن عمه أبا الفتح، وكانت ولايته الشام بعد وفاة قاضي القضاة جلال الدين محمد بن عبد الرحيم القزويني الشافعي، على ما سيأتي بيانه في الوفيات من هذه السنة.

من الأعيان في المحرم سنة تسع وثلاثين وسبعمائة

العلامة قاضي القضاة فخر الدين

عثمان بن الزين علي بن عثمان الحلبي، ابن خطيب جبرين الشافعي، ولي قضاء حلب وكان إماما صنف شرح (مختصر ابن الحاجب) في الفقه، وشرح (البديع) لابن الساعاتي، وله فوائد غزيرة ومصنفات جليلة، تولى حلب بعد عزل الشيخ ابن النقيب، ثم طلبه السلطان فمات هو وولده الكمال وله بضع وسبعون سنة.

وممن توفي فيها:

قاضي القضاة جلال الدين محمد بن عبد الرحمن

القزويني الشافعي، قدم هو وأخوه أيام التتر من بلادهم إلى دمشق، وهما فاضلان، بعد التسعين وستمائة فدرس إمام الدين في تربة أم الصالح وأعاد جلال الدين بالبادرائية عند الشيخ برهان الدين بن الشيخ تاج الدين شيخ الشافعية.

ثم تقلبت بهم الأحوال إلى أن ولي إمام الدين قضاء الشافعية بدمشق، انتزع له من يد القاضي بدر الدين بن جماعة، ثم هرب سنة قازان إلى الديار المصرية مع الناس فمات هنالك، وأعيد ابن جماعة إلى القضاء، وخلت خطابة البلد سنة ثلاث وسبعمائة، فوليها جلال الدين المذكور.

ثم ولي القضاء بدمشق سنة خمس وعشرين مع الخطابة، ثم انتقل إلى الديار المصرية سنة سبع وعشرين بعد أن عجز قاضي القضاة بدر الدين بن جماعة بسبب الضرر في عينيه فلما كان في سنة ثمان وثلاثين تعصب عليه السلطان الملك الناصر بسبب أمور يطول شرحها، ونفاه إلى الشام، واتفق موت قاضي القضاة شهاب الدين بن المجد عبد الله كما تقدم.

فولاه السلطان قضاء الشام عودا على بدء، فاستناب ولده بدر الدين على نيابة القضاء الذي هو خطيب دمشق، كانت وفاته في أواخر هذه السنة، ودفن بالصوفية، وكانت له يد طولى في المعاني والبيان، ويفتي كثيرا، وله مصنفات في المعاني مصنف مشهور اختصر فيه (المفتاح) للسكاكي، وكان مجموع الفضائل، مات وكان عمره قريبا من السبعين أو جاوزها.

رابع ذي الحجة يوم الأحد:

الشيخ الإمام الحافظ ابن البرزالي

علم الدين أبو محمد القاسم بن محمد بن البرزالي مؤرخ الشام الشافعي، ولد سنة وفاة الشيخ ابن أبي شامة سنة خمس وستين وستمائة

وقد كتب تاريخا ذيل به على الشيخ شهاب الدين، من حين وفاته ومولد البرزالي إلى أن توفي في هذه السنة، وهو محرم، فغسل وكفن ولم يستر رأسه، وحمله الناس على نعشه وهم يبكون حوله، وكان يوما مشهودا.

وسمع الكثير أزيد من ألف شيخ، وخرج له المحدث شمس الدين بن سعد مشيخة لم يكملها، وقرأ شيئا كثيرا، وأسمع شيئا كثيرا وكان له خط حسن، وخلق حسن، وهو مشكور عند القضاة ومشايخه أهل العلم، سمعت العلامة ابن تيمية يقول: نقل البرزالي نقر في حجر.

وكان أصحابه من كل الطوائف يحبونه ويكرمونه، وكان له أولاد ماتوا قبله، وكتبت ابنته فاطمة البخاري في ثلاثة عشر مجلدا فقابله لها، كان يقرأ فيه على الحافظ المزي تحت القبة، حتى صارت نسختها أصلا معتمدا يكتب منها الناس.

وكان شيخ حديث بالنورية وفيها وقف كتبه بدار الحديث السنية، وبدار الحديث القوصية وفي الجامع وغيره وعلى كراسي الحديث، وكان متواضعا محببا إلى الناس، متوددا إليهم، توفي عن أربع وسبعين سنة رحمه الله.

المؤرخ شمس الدين محمد بن إبراهيم الجوزي

جمع تاريخا حافلا، كتب فيه أشياء يستفيد منها الحافظ كالمزي، والذهبي، والبرزالي يكتبون عنه ويعتمدون على نقله، وكان شيخا قد جاوز الثمانين، وثقل سمعه وضعف خطه، وهو والد الشيخ ناصر الدين محمد وأخوه مجد الدين.

ثم دخلت سنة أربعين وسبعمائة

استهلت هذه السنة وسلطان المسلمين الملك الناصر، وولاته وقضاته المذكورون في التي قبلها إلا الشافعي بالشام فتوفي القزويني وتولى العلامة السبكي.

ومما وقع الحوادث العظيمة الهائلة أن جماعة من رؤوس النصارى اجتمعوا في كنيستهم وجمعوا من بينهم مالا جزيلا فدفعوه إلى راهبين قدما عليها من بلاد الروم، يحسنان صنعة النفط، اسم أحدهما ملاني والآخر عازر فعملا كحطا من نفط، وتلطفا حتى عملاه لا يظهر تأثيره لا بعد أربع ساعات وأكثر من ذلك، فوضعا في شقوق دكاكين التجار في سوق الرجال عند الدهشة في عدة دكاكين من آخر النهار، بحيث لا يشعر أحد بهما، وهما في زي المسلمين.

فلما كان في أثناء الليل لم يشعر الناس إلا والنار قد عملت في تلك الدكاكين حتى تعلقت في درابزينات المأذنة الشرقية المتجهة للسوق المذكور، وأحرقت درابزينات، وجاء نائب السلطنة تنكز والأمراء أمراء الألوف، وصعدوا المنارة وهي تشعل نارا، واحترسوا عن الجامع فلم ينله شيء من الحريق ولله الحمد والمنة.

وأما المئذنة فإنها تفجرت أحجارها واحترقت السقالات التي تدل السلالم فهدمت وأعيد بناؤها بحجارة جدد، وهي المنارة الشرقية التي جاء في الحديث أنه ينزل عليها عيسى ابن مريم كما سيأتي الكلام عليه في نزول عيسى عليه السلام والبلد محاصر بالدجال.

والمقصود أن النصارى بعد ليال عمدوا إلى ناحية الجامع من المغرب إلى القيسارية بكمالها، وبما فيها من الأقواس والعدد، فإنا لله وإنا إليه راجعون.

وتطاير شرر النار إلى ما حول القيسارية من الدور والمساكن والمدارس، واحترق جانب من المدرسة الأمينية إلى جانب المدرسة المذكورة وما كان مقصودهم إلا وصول النار إلى معبد المسلمين، فحال الله بينهم وبين ما يرومون، وجاء نائب السلطنة والأمراء وحالوا بين الحريق والمسجد، جزاهم الله خيرا.

ولما تحقق نائب السلطنة أن هذا من فعلهم أمر بمسك رؤوس النصارى فأمسك منهم نحوا من ستين رجلا، فأخذوا بالمصادرات والضرب والعقوبات وأنواع المثلات، ثم بعد ذلك صلب منهم أزيد من عشرة على الجمال، وطاف بهم في أرجاء البلاد وجعلوا يتماوتون واحدا بعد واحد، ثم أحرقوا بالنار حتى صاروا رمادا لعنهم الله، انتهى والله أعلم.

سبب مسك تنكز

لما كان يوم الثلاثاء الرابع والعشرين من ذي الحجة جاء الأمير طشتمر من صفد مسرعا وركب جيش دمشق ملبسا، ودخل نائب السلطنة من قصره مسرعا إلى دار السعادة، وجاء الجيش فوقفوا على باب النصر، وكان أراد أن يلبس ويقابل فعذلوه في ذلك.

وقالوا: المصلحة الخروج إلى السلطان سامعا مطيعا، فخرج بلا سلاح، فلما برز إلى ظاهر البلد التف عليه الفخري وغيره، وأخذوه وذهبوا به إلى ناحية الكسوة، فلما كان عند قبة يلبغا نزلوا وقيدوه وخصاياه من قصره، ثم ركب البريد وهو مقيد وساروا به إلى السلطان.

فلما وصل أمر بمسيره إلى الإسكندرية، وسألوا عن ودائعه فأقر ببعض، ثم عوقب حتى أقر بالباقي، ثم قتلوه ودفنوه بالإسكندرية، ثم نقلوه إلى تربته بدمشق رحمه الله، وقد جاوز الستين، وكان عادلا مهيبا عفيف الفرج واليد، والناس في أيامه في غاية الرخص والأمن والصيانة فرحمه الله، وبل بالرحمة ثراه.

وله أوقاف كثيرة من ذلك مرستان بصفد، وجامع بنابلس وعجلون، وجامع بدمشق، ودار حديث بالقدس ودمشق، ومدرسة وخانقاه بالقدس، ورباط وسوق موقوف على المسجد الأقصى، وفتح شباكا في المسجد.

انتهى والله تعالى أعلم.

من الأعيان:

أمير المؤمنين المستكفي بالله

أبو الربيع سليمان بن الحاكم بأمر الله بن العباس أحمد بن أبي علي الحسن بن أبي بكر بن علي بن أمير المؤمنين المسترشد بالله الهاشمي العباسي، البغدادي الأصل والمولد، مولده سنة ثلاث وثمانين وستمائة أو في التي قبلها.

وقرأ واشتغل قليلا، وعهد إليه أبوه بالأمر وخطب له عند وفاة والده سنة إحدى وسبعمائة، وفوض جميع ما يتعلق به من الحل والعقد إلى السلطان الملك الناصر، وسار إلى غزو التتر فشهد مصاف شقحب.

ودخل دمشق في شعبان سنة اثنتين وسبعمائة وهو راكب مع السلطان، وجميع كبراء الجيش مشاة، ولما أعرض السلطان عن الأمر وانعزل بالكرك التمس الأمراء من المستكفي أن يسلطن من ينهض بالملك، فقلد الملك المظفر ركن الدين بيبرس الجاشنكير وعقد له اللواء وألبسه خلعة السلطنة.

ثم عاد الناصر إلى مصر وعذر الخليفة في فعله، ثم غضب عليه وسيره إلى قوص فتوفي في هذه السنة في قوص في مستهل شعبان.

ثم دخلت سنة إحدى وأربعين وسبعمائة

استهلت يوم الأربعاء وسلطان المسلمين الملك الناصر محمد بن الملك المنصور قلاوون، وقضاته بمصر هم المذكورون في التي قبلها، وليس في دمشق نائب سلطنة، وإنما الذي يسد الأمور الأمير سيف الدين طشتمر الملقب بالحمص الأخضر، الذي جاء بالقبض على الأمير سيف الدين تنكز، ثم جاء المرسوم بالرجوع إلى صفد فركب من آخر النهار وتوجه إلى بلده، وحواصل الأمير تنكز تحت الحوطة كما هي.

وفي صبيحة يوم السبت رابع المحرم من السنة المذكورة قدم من الديار المصرية خمسة أمراء الأمير سيف الدين بشتك الناصري ومعه برصبغا الحاجب، وطاشار الدويدار وبنعرا وبطا.

فنزل بشتاك بالقصر الأبلق والميادين، وليس معه من مماليكه إلا القليل، وإنما جاء لتجديد البيعة إلى السلطان لما توهموا من ممالأة بعض الأمراء لنائب الشام المنفصل، وللحوطة على حواصل الأمير سيف الدين تنكز المنفصل عن نيابة الشام وتجهيزها للديار المصرية.

وفي صبيحة يوم الاثنين سادسه دخل الأمير علاء الدين الطنبغا إلى دمشق نائبا، وتلقاه الناس وبشتك والأمراء المصريون، ونزلوا إلى عتبته فقبلوا العتبة الشريفة، ورجعوا معه إلى دار السعادة، وقرئ تقليده.

وفي يوم الاثنين ثالث عشرة مسك من الأمراء المقدمين أميران كبيران الجي بغا العادلي، وطنبغا الحجي، ورفعا إلى القلعة المنصورة واحتيط على حواصلهما.

وفي يوم الثلاثاء تحملوا بيت ملك الأمراء سيف الدين تنكز وأهله وأولاده إلى الديار المصرية.

وفي يوم الأربعاء خامس عشرة ركب نائب السلطنة الأمير علاء الدين طنبغا ومعه الأمير سيف الدين بشتك الناصري، الحاجة رقطية، وسيف الدين قطلوبغا الفخري وجماعة من الأمراء المقدمين واجتمعوا بسوق الخيل واستدعوا بمملوكي الأمير سيف الدين تنكز وهما جغاي وطغاي. فأمر بتوسيطهما فوسطا وعلقا على الخشب ونودي عليهما: هذا جزاء من تجاسر على السلطان الناصر.

وفي يوم الثلاثاء الحادي والعشرين من هذا الشهر كانت وفاة الأمير سيف الدين تنكز نائب الشام بقلعة إسكندرية، قيل مخنوقا وقيل مسموما وهو الأصح، وقيل غير ذلك، وتأسف الناس عليه كثيرا، وطال حزنهم عليه، وفي كل وقت يتذكرون ما كان منه من الهيبة والصيانة والغيرة على حريم المسلمين ومحارم الإسلام، ومن إقامته على ذوي الحاجات وغيرهم، ويشتد تأسفهم عليه رحمه الله.

وقد أخبر القاضي أمين الدين بن القلانسي رحمه الله شيخنا الحافظ العلامة عماد الدين بن كثير رحمه الله أن الأمير سيف الدين تنكز مسك يوم الثلاثاء، ودخل مصر يوم الثلاثاء، ودخل الإسكندرية يوم الثلاثاء، وتوفي يوم الثلاثاء وصلّي عليه بالإسكندرية، ودفن بمقبرتها في الثالث والعشرين من المحرم بالقرب من قبر القباري وكانت له جنازة جيدة.

وفي يوم الخميس سابع شهر صفر قدم الأمير سيف الدين طشتمر الذي مسك تنكز إلى دمشق فنزل بوطأة برزة بجيشه ومن معه، ثم توجه إلى حلب المحروسة نائبا بها عوضا عن الطنبغا المنفصل عنها.

وفي صبيحة يوم الخميس ثالث عشر ربيع الأول نودي في البلد بجنازة الشيخ الصالح العابد الناسك القدوة الشيخ محمد بن تمام توفي بالصالحية، فذهب الناس إلى جنازته إلى الجامع المظفري، واجتمع الناس على صلاة الظهر فضاق الجامع المذكور عن أن يسعهم، وصلّى الناس في الطرقات وأرجاء الصالحية.

وكان الجمع كثيرا جدا لم يشهد الناس جنازة بعد جنازة الشيخ تقي الدين بن تيمية مثلها، لكثرة من حضرها من الناس رجالا ونساء، وفيهم القضاة والأعيان والأمراء وجمهور الناس يقاربون عشرين ألفا.

وانتظر الناس نائب السلطنة فاشتغل بكتاب ورد عليه من الديار المصرية، فصلّى عليه الشيخ بعد صلاة الظهر بالجامع المظفري، ودفن عند أخيه في تربة بين تربة الموفق وبين تربة الشيخ أبي عمر رحمهم الله وإيانا.

وفي أول شهر جمادى الأولى توفيت الشيخة العابدة الصالحة العالمة قارئة القرآن أم فاطمة عائشة بنت إبراهيم بن صديق زوجة شيخنا الحافظ جمال الدين المزي عشية يوم الثلاثاء مستهل هذا الشهر وصلّي عليها بالجامع صبيحة يوم الأربعاء ودفنت بمقابر الصوفية غربي قبر الشيخ تقي الدين بن تيمية رحمهم الله. كانت عديمة النظير في نساء زمانها لكثرة عبادتها وتلاوتها وإقرائها القرآن العظيم بفصاحة وبلاغة وأداء صحيح، يعجز كثير من الرجال عن تجويده، وختمت نساء كثيرا، وقرأ عليها من النساء خلق وانتفعن بها وبصلاحها ودينها وزهدها في الدنيا، وتقللها منها، مع طول العمر بلغت ثمانين سنة أنفقتها في طاعة الله صلاة وتلاوة. وكان الشيخ محسنا إليها مطيعا، لا يكاد يخالفها لحبه لها طبعا وشرعا فرحمها الله وقدس روحها، ونور مضجعها بالرحمة آمين.

وفي يوم الأربعاء الحادي والعشرين منه درّس بمدرسة الشيخ أبي عمر بسفح قاسيون الشيخ الإمام شمس الدين محمد بن أحمد بن عبد الهادي المقدسي الحنبلي، في التدريس البكتمري عوضا عن القاضي برهان الدين الزرعي، وحضر عنده المقادسة وكبار الحنابلة، ولم يتمكن أهل المدينة من الحضور لكثرة المطر والوحل يومئذ.

وتكامل عمارة المنارة الشرقية في الجامع الأموي في العشر الأخير من رمضان، واستحسن الناس بناءها وإتقانها، وذكر بعضهم أنه لم يبن في الإسلام منارة مثلها ولله الحمد.

ووقع لكثير من الناس في غالب ظنونهم أنها المنارة البيضاء الشرقية التي ذكرت في حديث النواس بن سمعان في نزول عيسى ابن مريم على المنارة البيضاء في شرقي دمشق، فلعل لفظ الحديث انقلب على بعض الرواة، وإنما كان على المنارة الشرقية بدمشق، وهذه المنارة مشهورة بالشرقية بمقابلتها أختها الغربية، والله سبحانه وتعالى أعلم.

وفي يوم الثلاثاء سلخ شهر شوال عقد مجلس في دار العدل بدار السعادة وحضرته يومئذ واجتمع القضاة والأعيان على العادة وأحضر يومئذ عثمان الدكاكي قبحه الله تعالى، وادّعي عليه بعظائم من القول لم يؤثر مثلها عن الحلاج ولا عن ابن أبي الغدافر السلقماني، وقامت عليه البيّنة بدعوى الإلهية لعنه الله، وأشياء أخر من التنقيص بالأنبياء ومخالطته أرباب الريب من الباجريقية وغيرهم من الاتحادية عليهم لعائن الله. ووقع منه في المجلس من إساءة الأدب على القاضي الحنبلي وتضمن ذلك تكفيره من المالكية أيضا، فادّعى أن له دوافع وقوادح في بعض الشهود، فرد إلى السجن مقيدا مغلولا مقبوحا، أمكن الله منه بقوته وتأييده.

ثم لما كان يوم الثلاثاء الحادي والعشرين من ذي القعدة أحضر عثمان الدكاكي المذكور إلى دار السعادة وأقيم إلى بين يدي الأمراء والقضاة وسئل عن القوادح في الشهود فعجز فلم يقدر، وعجز عن ذلك فتوجه عليه الحكم، فسئل القاضي المالكي الحكم عليه فحمد الله وأثنى عليه وصلى على رسوله ثم حكم بإراقة دمه وإن تاب، فأخذ المذكور فضربت رقبته بدمشق بسوق الخيل، ونودي عليه: هذا جزاء من يكون على مذهب الاتحادية.

وكان يوما مشهودا بدار السعادة، حضر خلق من الأعيان والمشايخ، وحضر شيخنا جمال الدين المزي الحافظ، وشيخنا الحافظ شمس الدين الذهبي، وتكلما وحرضا في القضية جدا، وشهدا بزندقة المذكور بالاستفاضة، وكذا الشيخ زين الدين أخو الشيخ تقي الدين بن تيمية، وخرجا القضاة الثلاثة المالكي والحنفي والحنبلي، وهم نفذوا حكمه في المجلس فحضورا قتل المذكور وكنت مباشرا لجميع ذلك من أوله إلى آخره.

وفي يوم الجمعة الثامن والعشرين من ذي القعدة أفرج عن الأميرين العقيلين بالقلعة وهما طنبغا حجا والجي بغا، وكذلك أفرج عن خزاندارية تنكز الذين تأخروا بالقلعة، وفرح الناس بذلك.

ذكر وفاة الملك الناصر محمد بن قلاوون

في صبيحة يوم الأربعاء السابع والعشرين من ذي الحجة قدم إلى دمشق الأمير سيف الدين قطلوبغا الفخري فخرج نائب السلطنة وعامة الأمراء لتلقيه، وكان قدومه على خيل البريد، فأخبر بوفاة السلطان الملك الناصر، كانت وفاته يوم الأربعاء آخره.

وأنه صلّي عليه ليلة الجمعة بعد العشاء ودفن مع أبيه الملك المنصور على ولده أنوك، وكان قبل موته أخذ العهد لابنه سيف الدين أبي بكر ولقبه بالملك المنصور.

فلما دفن السلطان يلية الجمعة حضره من الأمراء قليل، وكان قد ولي عليه الأمير علم الدين الجاولي، ورجل آخر منسوب إلى الصلاح يقال له الشيخ عمر بن محمد بن إبراهيم الجعبري، وشخص آخر من الجبارية، ودفن كما ذكرنا ولم يحضر ولده ولي عهده دفنه، ولم يخرج من القلعة ليلتئذ عن مشورة الأمراء لئلا يتخبط الناس.

وصلّى عليه القاضي عز الدين بن جماعة إماما، والجاولي وايدغمش وأمير آخر والقاضي بهاء الدين بن حامد ابن قاضي دمشق السبكي، وجلس الملك المنصور سيف الدنيا والدين أبو المعالي أبو بكر على سرير المملكة.

وفي صبيحة يوم الخميس الحادي والعشرين من ذي الحجة سنة إحدى وأربعين وسبعمائة، بايعه الجيش المصري، وقدم الفخري لأخذ البيعة من الشاميين، ونزل بالقصر الأبلق وبايع الناس للملك المنصور بن الناصر بن المنصور.

ودقت البشائر بالقلعة المنصورة بدمشق صبيحة يوم الخميس الثامن والعشرين منه، وفرح الناس بالملك الجديد، وترحموا على الملك ودعوا له وتأسفوا عليه رحمه الله.

ثم دخلت سنة اثنتين وأربعين وسبعمائة

استهلت بيوم الأحد وسلطان الإسلام بالديار المصرية والبلاد الشامية وما والاها الملك المنصور سيف الدين أبو بكر بن الملك السلطان الناصر ناصر الدين محمد بن السلطان الملك المنصور سيف الدين قلاوون الصالحي، ونائب الشام الأمير علاء الدين طنبغا وقضاة الشام ومصر هم المذكورون في التي قبلها، وكذا المباشرون سوى الولاة.

شهر الله المحرم:

ولاية الخليفة الحاكم بأمر الله

وفي هذا اليوم بويع بالخلافة أمير المؤمنين أبو القاسم أحمد بن المستكفي بالله أبي الربيع سليمان العباسي ولبس السواد وجلس مع الملك المنصور على سرير المملكة، وألبسه خلعة سوداء أيضا، فجلسا وعليهما السواد، وخطب الخليفة يومئذ خطبة بليغة فصيحة مشتملة على أشياء من المواعظ والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

وخلع يومئذ على جماعة من الأمراء والأعيان، وكان يوما مشهودا، وكان أبو القاسم هذا قد عهد إليه أبوه بالخلافة، ولكن لم يمكنه الناصر من ذلك، وولى أبا إسحاق إبراهيم ابن أخي أبي الربيع، ولقبه الواثق بالله، وخطب به بالقاهرة جمعة واحدة فعزله المنصور وقرر أبا القاسم هذا، وأمضى العهد ولقبه المستنصر بالله كما ذكرنا.

وفي يوم الأحد ثامن المحرم مسك الأمير سيف الدين بشتك الناصري آخر النهار، وكان قد كتب تقليده بنيابة الشام وخلع عليه بذلك وبرز ثقله، ثم دخل على الملك المنصور ليودعه فرحب به وأجلسه وأحضر طعاما وأكلا، وتأسف الملك على فراقه، وقال: تذهب وتتركني وحدي.

ثم قام لتوديعه وذهب بشتك من بين يديه ثماني خطوات أو نحوها، ثم تقدم إليه ثلاثة نفر فقطع أحدهم سيفه من وسطه بسكين، ووضع الآخر يده على فمه وكتفه الآخر، وقيدوه وذلك كله بحضرة السلطان، ثم غيب ولم يدر أحد إلى أين صار، ثم قالوا لمماليكه: اذهبوا أنتم فائتوا بمركوب الأمير غدا، فهو بائت عند السلطان.

وأصبح السلطان وجلس على سرير المملكة وأمر بمسك جماعة من الأمراء وتسعة من الكبار، واحتاطوا على حواصله وأمواله وأملاكه، فيقال إنه وجد عنده من الذهب ألف ألف دينار، وسبعمائة ألف دينار.

وفاة شيخنا الحافظ أبي الحجاج المزي

تمرض أياما يسيرة مرضا لا يشغله عن شهود الجماعة، وحضور الدروس، وإسماع الحديث.

فلما كان يوم الجمعة حادي عشر صفر أسمع الحديث إلى قريب وقت الصلاة، ثم دخل منزله ليتوضأ ويذهب للصلاة فاعترضه في باطنه مغص عظيم، ظن أنه قولنج، وما كان إلا طاعون، فلم يقدر على حضور الصلاة، فلما فرغنا من الصلاة أخبرت بأنه منقطع، فذهبت إليه فدخلت عليه فإذا هو يرتعد رعدة شديدة من قوة الألم الذي هو فيه، فسألته عن حاله فجعل يكرر الحمد الله، ثم أخبرني بما حصل له من المرض الشديد، وصلى الظهر بنفسه، ودخل إلى الطهارة وتوضأ على البركة، وهو في قوة الوجع ثم اتصل به هذا الحال إلى الغد من يوم السبت.

فلما كان وقت الظهر لم أكن حاضره إذ ذاك، لكن أخبرتنا بنته زينب زوجتي أنه لما أذن الظهر تغير ذهنه قليلا، فقالت: يا أبة أذن الظهر، فذكر الله وقال: أريد أن أصلي فتيمم وصلى ثم اضطجع فجعل يقرأ آية الكرسي حتى جعل لا يفيض بها لسانه ثم قبضت روحه بين الصلاتين، رحمه الله يوم السبت ثاني عشر صفر، فلم يمكن تجهيزه تلك الليلة.

فلما كان من الغد يوم الأحد ثالث عشر صفر صبيحة ذلك اليوم، غسل وكفن وصلّي عليه بالجامع الأموي، وحضر القضاة والأعيان وخلائق لا يحصون كثرة، وخرج بجنازته من باب النصر، وخرج نائب السلطنة الأمير علاء الدين طنبغا ومعه ديوان السلطان، والصاحب وكاتب السر وغيرهم من الأمراء، فصلوا عليه خارج باب النصر، أمهم عليه القاضي تقي الدين السبكي الشافعي، وهو الذي صلّى عليه بالجامع الأموي.

ثم ذهب به إلى مقابر الصوفية فدفن هناك إلى جانب زوجته المرأة الصالحة الحافظة لكتاب الله، عائشة بن إبراهيم بن صديق، غربي قبر الشيخ تقي الدين بن تيمية رحمهم الله أجمعين.

كائنة غريبة جدا

قدم يوم الأربعاء الثلاثين من صفر أمير من الديار المصرية ومعه البيعة للملك الأشرف علاء الدين كجك بن الملك الناصر، وذلك بعد عزل أخيه المنصور، لما صدر عنه من الأفعال التي ذكر أنه تعاطاها من شرب المسكر وغشيان المنكرات، وتعاطي ما لا يليق به، ومعاشرة الخاصكية من المردان وغيرهم. فتمالأ على خلعه كبار الأمراء لما رأوا الأمر تفاقم إلى الفساد العريض فأحضروا الخليفة الحاكم بأمر الله أبي الربيع سليمان فأثبت بين يديه ما نسب إلى الملك المنصور المذكور من الأمور فحينئذ خلعه وخلعه الأمراء الكبار وغيرهم، واستبدلوا مكانه أخاه هذا المذكور، وسيروه إذ ذاك إلى قوص مضيقا عليه ومع إخوة له ثلاثة، وقيل أكثر. وأجلسوا الملك الأشرف هذا على السرير، وناب له الأمير سيف الدين قوصون الناصري، واستمرت الأمور على السداد وجاءت إلى الشام فبايعه الأمراء يوم الأربعاء المذكور، وضربت البشائر عشية الخميس مستهل ربيع الأول وخطب له بدمشق يوم الجمعة بحضرة نائب السلطنة والقضاة والأمراء.

وفي يوم الأربعاء سابع عشر ربيع الأول حضر بدار الحديث الأشرفية قاضي القضاة تقي الدين السبكي عوضا عن شيخنا الحافظ جمال الدين المزي، ومشيخة دار الحديث النورية عوضا عن ابنه رحمه الله.

وفي شهر جمادى الأولى اشتهر أن نائب حلب الأمير سيف الدين طشتمر الملقب بالحمص الأخضر قائم في نصرة ابن السلطان الأمير أحمد الذي بالكرك، وأنه يستخدم لذلك ويجمع الجموع فالله أعلم.

وفي العشر الثاني منه وصلت الجيوش صحبة الأمير سيف الدين قطلوبغا الفخري إلى الكرك في طلب ابن السلطان الأمير أحمد.

وفي هذا الشهر كثر الكلام في أمر الأمير أحمد بن الناصر الذي بالكرك، بسبب محاصرة الجيش الذي صحبة الفخري له، واشتهر أن نائب حلب الأمير سيف الدين طشتمر الملقب بالحمص الأخضر قائم بجنب أولاد السلطان الذين أخرجوا من الديار المصرية إلى الصعيد، وفي القيام بالمدافعة عن الأمير أحمد، ليصرف عنه الجيش، وترك حصاره وعزم بالذهاب إلى الكرك لنصرة أحمد ابن أستاذه.

وتهيأ له نائب الشام بدمشق، ونادى في الجيش لملتقاه ومدافعته عما يريد من إقامة الفتنة وشق العصا، واهتم الجند لذلك، وتأهبوا واستعدوا، ولحقهم في ذلك كلفة كثيرة، وانزعج الناس بسبب ذلك وتخوفوا أن تكون فتنة، وحسبوا إن وقع قتال بينهم أن تقوم العشيرات في الجبال وحوران، وتتعطل مصالح الزراعات وغير ذلك.

ثم قدم من حلب صاحب السلطان في الرسلية إلى نائب دمشق الأمير علاء الدين الطنبغا ومع مشافهة، فاستمع لها فبعث معه صاحب الميسرة أمان الساقي، فذهبا إلى حلب ثم رجعا في أواخر جمادى الآخرة وتوجها إلى الديار المصرية، واشتهر أن الأمر على ما هو عليه حتى توافق على ما ذكر من رجوع أولاد الملك الناصر إلى مصر، ما عدا المنصور، وأن يخلي عن محاصرة الكرك.

وفي العشر الأخير من جمادى الأولى توفي مظفر الدين موسى بن مهنا ملك العرب ودفن بتدمر، وفي صبيحة يوم الثلاثاء ثاني جمادى الآخرة عند طلوع الشمس توفي الخطيب بدر الدين محمد بن القاضي جلال الدين القزويني بدار الخطابة بعد رجوعه من الديار المصرية كما قدمنا، فخطب جمعة واحدة وصلى بالناس إلى ليلة الجمعة الأخرى.

ثم مرض فخطب عنه أخوه تاج الدين عبد الرحيم على العادة ثلاثة جمع، وهو مريض إلى أن توفي يومئذ، وتأسف الناس عليه لحسن شكله وصباحة وجهه وحسن ملتقاه وتواضعه، واجتمع الناس للصلاة عليه للظهر فتأخر تجهيزه إلى العصر فصلى عليه بالجامع قاضي القضاة تقي الدين السبكي، وخرج به الناس إلى الصوفية، وكانت جنازته حافلة جدا، فدفن عند أبيه بالتربة التي أنشأها الخطيب بدر الدين هناك رحمه الله.

وفي يوم الجمعة خامس الشهر بعد الصلاة خرج نائب السلطنة الأمير علاء الدين الطنبغا وجميع الجيش قاصدين للبلاد الحلبية للقبض على نائب حلب الأمير سيف الدين طشتمر، لأجل ما أظهر من القيام مع ابن السلطان الأمير أحمد الذي في الكرك، وخرج الناس في يوم شديد المطر كثير الوحل، وكان يوما مشهدا عصيبا، أحسن الله العقابة.

وأمر القاضي تقي الدين السبكي الخطيب المؤذنين بزيادة أذكار على الذي كان سنه فيهم الخطيب بدر الدين من التسبيح والتحميد والتهليل الكثير ثلاثا وثلاثين، فزادهم السبكي قبل ذلك: استغفر الله العظيم ثلاثا، اللهم أنت السلام ومنك السلام تباركت ياذا الجلال والإكرام.

ثم أثبت ما في (صحيح مسلم) بعد صلاتي الصبح والمغرب: اللهم أجرنا من النار سبعا، أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق ثلاثا، وكانوا قبل تلك السنوات قد زادوا بعد التأذين الآية ليلة الجمعة والتسليم على رسول الله ، يبتدئ الرئيس منفردا ثم يعيد عليه الجماعة بطريقة حسنة، وصار ذلك سببا لاجتماع الناس في صحن الجامع لاستماع ذلك.

وكلما كان المتبدىء حسن الصوت كانت الجماعة أكثر اجتماعا، ولكن طال بسبب ذلك الفصل، وتأخرت الصلاة عن أول وقتها انتهى.

كائنة غريبة

وفي ليلة الأحد عشية السبت نزل الأمير سيف الدين قطلوبغا الفخري بظاهر دمشق بين الجسورة وميدان الحصى بالأطلاب الذين جاؤوا معه من البلاد المصرية لمحاصرة الكرك للقبض على ابن السلطان الأمير أحمد بن الناصر، فمكثوا على الثنية محاصرين مضيقين عليه إلى أن توجه نائب الشام إلى حلب، ومضت هذه الأيام المذكورة، فما درى الناس إلا وقد جاء الفخري وجموعه.

وقد بايعوا الأمير أحمد وسموه الناصر بن النصار وخلعوا بيعة أخيه الملك الأشرف علاء الدين كجك واعتلوا بصغره، وذكروا أن أتابكة الأمير سيف الدين قوصون الناصري قد عدى على ابني السلطان فقتلهما خنقا ببلاد الصعيد: جهز إليهما من تولى ذلك، وهما الملك المنصور أبو بكر ورمضان، فتنكر الأمير بسبب ذلك، قالوا: هذا يريد أن يجتاح هذا البيت ليتمكن هو من أخذ المملكة.

فحموا لذلك وبايعوا ابن أستاذهم وجاؤوا في الذهاب خلف الجيش ليكونوا عونا للأمير سيف الدين طشتمر نائب حلب ومن معه، وقد كتبوا إلى الأمراء يستميلونهم إلى هذا، ولما نزلوا بظاهر دمشق خرج إليهم من بدمشق من الأكابر والقضاة والمباشرين، مثل والي البر، ووالي المدينة، وابن سمندار، وغيرهم فلما كان الصباح خرج أهالي دمشق عن بكرة أبيهم، على عادتهم في قدوم السلاطين، ودخلو الحجاج، بل أكثر من ذلك من بعض الوجوه.

وخرج القضاة والصاحب والأعيان والولاة وغيرهم، ودخل الأمير سيف الدين قطلوبغا في دست نيابة السلطنة التي فوضها إليه الملك الناصر الجديد وعن يمينه الشافعي، وعن شماله الحنفي على العادة، والجيش كله محدق به في الحديد، والعقارات والبوقات والنشابة السلطانية والسناجق الخليفية والسلطانية تخفق، والناس في الدعاء والثناء للفخري، وهم في غاية الاستبشار والفرح، وربما نال بعض جهلة الناس من النائب الآخر الذي ذهب إلى حلب، ودخلت الأطلاب بعده على ترتيبهم.

وكان يوما مشهودا، فنزل شرقي دمشق قريبا من خان لاجين، وبعث في هذا اليوم فرسم على القضاة والصاحب، وأخذ من أموال الأيتام وغيرها خمسمائة ألف، وعوضهم عن ذلك بقرية من بيت المال، وكتب بذلك سجلات، واستخدم جيدا، وانضاف إليه من الأمراء الذين كانوا قد تخلفوا بدمشق جماعة منهم تمر الساقي مقدم، وابن قراسنقر، وابن الكامل، وابن المعظم، وابن البلدي وغيرهم.

وبايع هؤلاء كلهم مع مباشري دمشق للملك الناصر بن الناصر، وأقام الفخري على خان لاجين، وخرج المتعيشون بالصنائع إلى عندهم وضربت البشائر بالقلعة صبيحة يوم الثلاثاء سادس عشر الشهر، ونودي بالبلد إن سلطانكم الملك الناصر أحمد بن الناصر محمد بن قلاوون، ونائبكم سيف الدين قطلوبغا الفخري، وفرح كثير من الناس بذلك، وانضاف إليه نائب صفد وبايعه نائب بعلبك، واستخدموا له رجالا وجندا، ورجع إليه الأمير سيف الدين سنجر الجمقدار رأس الميمنة بدمشق.

وكان قد تأخر في السفر عن تائب دمشق علاء الدين الطنبغا، بسبب مرض عرض له، فلما قدم الفخري رجع إليه وبايع الناصر بن الناصر، ثم كاتب نائب حماه تغردمر الذي ناب بمصر للملك المنصور، فأجابه إلى ذلك وقدم على العسكر يوم السبت السابع والعشرين من الشهر المذكور، في تجمل عظيم وخزائن كثيرة، وثقل هائل.

وفي صبيحة يوم الأحد الثامن والعشرين من الشهر المذكور كسفت الشمس قبل الظهر، وفي صبيحة يوم الاثنين التاسع والعشرين من جمادى الآخرة، قدم نائب غزة الأمير آق سنقر في جيش غزة، وهو قريب من ألفين، فدخلوا دمشق وقت الفجر وغدوا إلى معسكر الفخري، فانضافوا إليهم ففرحوا بهم كثيرا، وصار في قريب من خمسة آلاف مقاتل أو يزيدون.

استهل شهر رجب الفرد والجماعة من أكابر التجار مطلوبون بسبب أموال طلبها منهم الفخري، يقوي بها جيشه الذي معه، ومبلغ ذلك الذي أراده منهم ألف ألف درهم، ومعه مرسوم الناصر بن الناصر ببيع أملاك الأمير سيف الدين قوصون، إتابك الملك الأشرف علاء الدين كجك، ابن الناصر التي بالشام، بسبب إبائه عن مبايعة أحمد بن الناصر، فأشار على الفخري من أشار بأن يباع للتجار من أملاك الخاص، ويجعل مال قوصون من الخاص، فرسم بذلك، وأن يباع للتجار قرية دوية قومت بألف ألف وخمسمائة ألف، ثم لطف الله وأفرج عنهم بعد ليلتين أو ثلاث، وتعوضوا عن ذلك بحواصل قوصون.

واستمر الفخري بمن معه ومن أضيف إليه من الأمراء والأجناد مقيمين بثنية العقاب، واستخدم من رجال البقاع جماعة كثيرة أكثر من ألف رامٍ، وأميرهم يحفظ أفواه الطرق، وأزف قدوم الأمير علاء الدين طنبغا بمن معه من عساكر دمشق، وجمهور الحلبيين وطائفة الطرابلسيين وتأهب هؤلاء لهم.

فلما كان الحادي من الشهر اشتهر أن الطنبغا وصل إلى القسطل وبعث طلائعه فالتقت بطلائع الفخري، ولم يكن بينهم قتال ولله الحمد والمنة وأرسل الفخري إلى القضاة ونوابهم وجماعة من الفقهاء فخرجوا ورجع الشافعي من أثناء الطريق، فلما وصلوا أمرهم بالسعي بينه وبين الطنبغا في الصلح، وأن يوافق الفخري في أمره، وأن يبايع الناصر بن الناصر، فأبى فردهم إليه غير مرة، وكل ذلك يمتنع عليهم.

فلما كان يوم الاثنين رابع عشرة عند العصر جاء بريد إلى متولي البلد عند العصر من جهة الفخري يأمره بغلق أبواب البلد، فغلقت الأبواب، وذلك لأن العساكر توجهوا وتواقفوا للقتال، فإنا لله وإنا أليه راجعون.

وذلك أن الطنبغا لما علم أن جماعة قطلوبغا على ثنية العقاب دار الذروة من ناحية المعيصرة، وجاء بالجيوش من هناك، فاستدار له الأمير سيف الدين قطلوبغا الفخري بجماعته إلى ناحيته، ووقف له في طريقه، وحال بينه وبين الوصول إلى البلد، وانزعج الناس انزعاجا عظيما، وغلقت القياسر والأسواق وخاف الناس بعضهم من بعض أن يكون نهب.

فركب متولي البلد الأمير ناصر الدين بن بكباشي ومعه أولاده ونوابه والرجالة، فسار في البلد وسكن الناس ودعوا له، فلما كان قريب المغرب فتح لهم باب الجابية ليدخل من هو من أهل البلد، فجرت في الباب على ما قيل زحمة عظيمة، وتسخط الجند على الناس في هذه الليلة، واتفق أنها ليلة الميلاد، وبات المسلمون مهمومون بسبب العسكر واختلافهم فأصبحت أبواب البلد مغلقة في يوم الثلاثاء سوى باب الجابية، والأمر على ما هو عليه.

فلما كان عشية هذا اليوم تقارب الجيشان واجتمع الطنبغا وأمراؤه، واتفق أمراء دمشق وجمهورهم الذين هم معه على أن لا يقاتلوا مسلما ولا يسلوا في وجه الفخري وأصحابه سيفا، وكان قضاة الشام قد ذهبوا إليه مرارا للصلح، فيأبى عليهم إلا الاستمرار على ما هو عليه، وقويت نفسه عليه انتهى.

والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب.

عجيبة من عجائب الدهر

فبات الناس متقابلين في هذه الليلة وليس بين الجيشين إلا مقدار ميلين أو ثلاثة، وكانت ليلة مطيرة، فما أصبح الصبح إلا وقد ذهب من جماعة الطنبغا إلى الفخري خلق كثير من أجناد الحلفاء ومن الأمراء والأعيان، وطلعت الشمس وارتفعت قليلا فنفذ الطنبغا القضاة وبعض الأمراء إلى الفخري يتهدده ويتوعده ويقوي نفسه عليه.

فما ساروا عنه قليلا إلا ساقت العساكر من الميمنة والميسرة ومن القلب، ومن كل جانب مقفرين إلى الفخري، وذلك لما هم فيه من ضيق العيش وقلة ما بأيديهم من الأطعمة وعلف الدواب، وكثرة ما معهم من الكلف.

فرأوا أن هذا حال يطول عليهم، ومقتوا أمرهم غاية المقت، وتطايبت قلوبهم وقلوب أولئك مع أهل البلد على كراهته لقوة نفسه فيما لا يجدي عليه ولا عليهم شيئا، فبايعوا على المخامرة عليه، فلم يبق معه سوى حاشيته في أقل من ساعة واحدة، فلما رأى الحال على هذه الصفة كر راجعا هاربا من حيث جاء وصحبته الأمير سيف الدين رقطبة نائب طرابلس، وأميران آخران.

والتقت العساكر والأمراء، وجاءت البشارة إلى دمشق قبل الظهر ففرح الناس فرحا شديدا جدا، الرجال والنساء والولدان، حتى من لانوبة له، ودقت البشائر بالقلعة المنصورة، فأرسلوا في طلب من هرب، وجلس الفخري هنالك بقية اليوم يحلف الأمراء على أمره الذي جاء له، فحلفوا له.

ودخل دمشق عشية يوم الخميس في أبهة عظيمة، وحرمة وافرة، فنزل القصر الأبلق ونزل الأمير تغردمر بالميدان الكبير، ونزل عمارى بدار السعادة وأخرجوا الموساوي الذي كان معتقلا بالقلعة، وجعلوه مشدا على حوطات حواصل الطنبغا وكان قد تغضب الفخري على جماعة من الأمراء منهم الأمير حسام الدين السمقدار، أمير حاجب بسبب أنه صاحب لعلاء الدين الطنبغا.

فلما وقع ما وقع هرب فيمن هرب، ولكن لم يأت الفخري، بل دخل البلد فتوسط في الأمر: لم يذهب مع ذاك ولا جاء مع هذا، ثم إنه استدرك ما فاته فرجع من البار إلى الفخري، وقيل بل رسم عليه حين جاء وهو مهموم جدا، ثم إنه أعطي منديل الأمان، وكان معهم كاتب السر القاضي شهاب الدين بن فضل الله.

ثم أفرج عنهم، ومنهم الأمير سيف الدين حفطية كان شديد الحنق عليه، فأطلقه من يومه وأعاده إلى الحجوبية، وأظهر مكارم أخلاق عظيمة، ورياسة كبيرة، وكان للقاضي علاء الدين بن المنجا قاضي قضاة الحنابلة في هذه الكائنة سعى مشكور، ومراجعة كبيرة للأمير علاء الدين الطنبغا، حتى خيف عليه منه، وخاطر بنفسه معه، فأنجح الله مقصده وسلمه منه، وكبت عدوه ولله الحمد والمنة.

وفي يوم السبت السادس والعشرين منه قلد قضاء العساكر المنصورة الشيخ فخر الدين بن الصائغ عوضا عن القاضي الحنفي، الذي كان مع النائب المنفصل، وذلك أنهم نقموا عليه إفتاءه الطنبغا بقتال الفخري، وفرح بولايته أصحاب الشيخ تقي الدين بن تيمية رحمه الله، وذلك لأنه من أخص من صحبه قديما، وأخذ عنه فوائد كثيرة وعلوما.

وفي يوم الأربعاء سلخ رجب آخر النهار قدم الأمير قماري من عند الملك الناصر بن الناصر من الكرك وأخبره بما جرى من أمرهم وأمر الطنبغا، ففرح بذلك وأخبر قماري بقدوم السلطان ففرح الناس بذلك واستعدوا له بآلات المملكة وكثرت مطالبته أرباب الأموال والذمة بالجزية.

وفي مستهل رجب من هذه السنة ركب الفخري في دست النيابة بالموكب المنصور، وهو أول ركوبه فيه، وإلى جانبه قماري وعلى قماري خلعة هائلة، وكثر دعاء الناس للفخري يومئذ، وكان يوما مشهودا.

وفي هذا اليوم خرج جماعة من المقدمين الألوف إلى الكرك بأخبار ابن السلطان بما جرى: منهم تغردمر، وإقبغا عبد الواحد وهو الساقي، وميكلي بغا وغيرهم.

وفي يوم السبت ثالثه استدعى الفخري القاضي الشافعي وألح عليه في إحضار الكتب في سلة الحكم التي كانت أخذت من عند الشيخ تقي الدين بن تيمية رحمه الله من القلعة المنصورة في أيام جلال الدين القزويني، فأحضرها القاضي بعد جهد ومدافعة، وخاف على نفسه منه، فقبضها منه الفخري بالقصر وأذن له في الانصراف من عنده، وهو متغضب عليه، وربما همّ بعزله لممانعته إياها، وربما قال قائل هذه فيها كلام يتعلق بمسألة الزيارة، فقال الفخري: كان الشيخ أعلم بالله وبرسوله منكم. واستبشر الفخري بإحضارها إليه واستدعي بأخي الشيخ زين الدين عبد الرحمن، وبالشيخ شمس الدين عبد الرحمن بن قيم الجوزية وكان له سعي مشكور فيها، فهنأهما بإحضاره الكتب، وبيّت الكتب تلك الليلة في خزانته للتبرك وصلى به الشيخ زين الدين أخو الشيخ صلاة المغرب بالقصر، وأكرمه الفخري إكراما زائدا لمحبته الشيخ رحمه الله.

وفي يوم الأحد رابعه دقت البشائر بالقلعة وفي باب الميدان لقدوم بشير بالقبض على قوصون بالديار المصرية، واجتمع الناس لذلك واستبشر كثير منهم بذلك.

وأقبل جماعة من الأمراء إلى الكرك لطاعة الناصر بن الناصر، واجتمعوا مع الأمراء الشاميين عند الكرك، وطلبوا منه أن ينزل إليهم فأبى وتوهم أن هذه الأمور كلها مكيدة ليقبضوه ويسلموه إلى قوصون، وطلب منهم أن ينظر في أمره وردهم إلى دمشق.

وفي هذه الأيام وما قبلها وما بعدها أخذ الفخري من جماعة التجار بالأسواق وغيرها زكاة أموالهم سنة، فتحصل من ذلك زيادة على مائة ألف وسبعة آلاف، وصودر أهل الذمة بقريب من ذلك زيادة على الجزية التي أخذت منهم عن ثلاث سنين سلفا وتعجيلا.

ثم نودي في البلد يوم الاثنين الحادي والعشرين من الشهر مناداة صادرة من الفخري برفع الظلامات والطلبات وإسقاط ما تبقى من الزكاة والمصادرة، غير أنهم احتاطوا على جماعة من المشاة المكثرين ليشتروا منهم بعض أملاك الخاص، والبرهان بن بشارة الحنفي تحت المصادرة والعقوبة على طلب المال الذي وجده في طميرة وجدها فيما ذكر عنه والله أعلم.

وفي يوم الجمعة الرابع والعشرين منه بعد الصلاة دخل الأمراء الستة الذين توجهوا نحو الكرك لطلب السلطان أن يقدم إلى دمشق فأبى عليهم في هذا الشهر، ووعدهم وقتا آخر فرجعوا، وخرج الفخري لتلقيهم، فاجتمعوا قبلي جامع القبيبات الكريمي، ودخلوا كلهم إلى دمشق في جمع كثير من الأتراك الأمراء والجند، وعليهم خمدة لعدم قدوم السلطان أيده الله.

وفي يوم الأحد قدم البريد خلف قماري وغيره من الأمراء يطلبهم إلى الكرك، واشتهر أن السلطان رأى النبي في المنام وهو يأمره بالنزول من الكرك وقبول المملكة، فانشرح الناس لذلك.

وتوفي الشيخ عمر بن أبي بكر بن اليثمي البسطي يوم الأربعاء التاسع والعشرين، كان رجلا صالحا كثير التلاوة والصلاة والصدقة، وحضور مجالس الذكر والحديث، له همة وصولة على الفقراء المتشبهين بالصالحين وليسوا منهم.

سمع الحديث من الشيخ فخر الدين بن البخاري وغيره وقرأت عليه عن ابن البخاري مختصر المشيخة، ولازم مجالس الشيخ تقي الدين بن تيمية رحمه الله، وانتفع به، ودفن بمقابر باب الصغير.

وفي شهر رمضان المعظم أوله يوم الجمعة، كان قد نودي في الجيش: آن الرحيل لملتقى السلطان في سابع الشهر، ثم تأخر ذلك إلى بعد العشر، ثم جاء كتاب من السلطان بتأخر ذلك إلى بعد العيد وقدم في عاشر الشهر علاء الدين بن تقي الدين الحنفي، ومع ولاية من السلطان الناصر بنظر البيمارستان النوري، ومشيخة الربوة ومرتب على الجهات السلطانية.

وكان قد قدم قبله القاضي شهاب الدين بن البارزي بقضاء حمص من السلطان أيده الله تعالى، ففرح الناس بذلك حيث تكلم السلطان في المملكة وباشر وأمر وولى ووقّع ولله الحمد.

وفي يوم الأربعاء ثالث عشره دخل الأمير سيف الدين طشتمر الملقب بالحمص الأخضر من البلاد الحلبية إلى دمشق المحروسة، وتلقاه الفخري والأمراء والجيش بكماله، ودخل في أبهة حسنة ودعا له الناس وفرحوا بقدومه بعد شتاته في البلاد وهربه من بين يدي الطنبغا حين قصده إلى حلب كما تقدم ذكره.

وفي يوم الخميس رابع عشرة خرجت الجيوش من دمشق قاصدين إلى غزة لنظرة السلطان حين يخرج من الكرك السعيد، فخرج يومئذ مقدمان: تغردمر واقبغا عبد الواحد فبرزا إلى الكسوة.

فلما كان يوم السبت خرج الفخري ومعه طشتمر وجمهور الأمراء، ولم يقم بعده بدمشق إلا من احتيج لمقامهم لمهمات المملكة، وخرج مع القضاة الأربعة، وقاضي العساكر والموقعين والمصاحب وكاتب الجيش وخلق كثير.

وتوفي الشيخ الصالح العابد الناسك أحمد بن الملقب بالقصيدة ليلة الأحد الرابع والعشرين من رمضان، وصلّي عليه بجامع شكر، ودفن بالصوفية قريبا من قبر الشيخ جمال الدين المزي، تغمدهما الله برحمته.

وكان فيه صلاح كثير، ومواظبة على الصلاة في جماعة، وأمر بمعروف ونهي عن منكر مشكورا عند الناس بالخير، وكان يكثر من خدمة المرضى بالمارستان وغيره، وفيه إيثار وقناعة وتزهد كثير، وله أحوال مشهورة رحمه الله وإيانا.

واشتهر في أواخر الشهر المذكور أن السلطان الملك الناصر شهاب الدين أحمد خرج من الكرك المحروس صحبة جماعة من العرب والأتراك قاصدا إلى الديار المصرية، ثم تحرر خروجه منها في يوم الاثنين ثامن عشر الشهر المذكور فدخل الديار المصرية بعد أيام. هذا والجيش صامدون إليه، فلما تحقق دخوله مصر حثوا في السير إلى الديار المصرية، وبعث يستحثهم أيضا، واشتهر أنه لم يجلس على سرير الملك حتى يقدم الأمراء الشاميون صحبة نائبه الأمير سيف الدين قطلوبغا الفخري، ولهذا لم تدق البشائر بالقلاع الشامية ولا غيرها فيما بلغنا.

وجاءت الكتب والأخبار من الديار المصرية بأن يوم الاثنين عاشر شوال كان إجلاس السلطان الملك الناصر شهاب الدين أحمد على سرير المملكة، صعد هو والخليفة الحاكم بأمر الله أبو العباس أحمد بن المستكفي فوق المنبر، وهما لابسان السواد، والقضاة تحتهما على درج المنبر بحسب منازلهم، فخطب الخليفة، وخلع الأشرف كجك وولى هذا الناصر، وكان يوما مشهودا، وأظهر ولايته لطشتمر نيابة مصر، والفخري دمشق، وأيدغمش حلب فالله أعلم.

ودقت البشائر بدمشق ليلة الجمعة الحادي والعشرين من الشهر المذكور، واستمرت إلى يوم الاثنين مستهل ذي القعدة، وزينت البلد يوم الأحد ثالث عشرين منه، واحتفل الناس بالزينة.

وفي يوم الخميس المذكور دخل الأمير سيف الدين الملك أحد الرؤوس المشهورة بمصر إلى دمشق في طلب نيابة حماه حرسها الله تعالى، فلما كان يوم الجمعة بعد الصلاة ورد البريد من الديار المصرية فأخبر أن طشتمر الحمص الأخضر مسك، فتعجب الناس من هذه الكائنة كثيرا.

فخرج من بدمشق من أعيان الأمراء أمير الحج وغيره وخيم بوطأة برزة وخرج إلى الحج أمير فأخبره بذلك وأمروه عن مرسوم السلطان أن ينوب بدمشق حتى يأتي المرسوم بما يعتمد أمير الحج فأجاب إلى ذلك، وركب في الموكب يوم السبت السادس منه.

وأما الفخري فإنه لما تنسم هذا الخبر وتحققه وهو بالزعقة فرّ في طائفة من مماليكه قريب من ستين أو أكثر، فاحترق وساق سوقا حثيثا وجاءه الطلب من ورائه من الديار المصرية في نحو من ألف فارس، صحبة الأميرين: الطنبغا المارداني، ويبلغا التحناوي، ففاتهما وسبق واعترض له نائب غزة في جنده فلم يقدر عليه، فسلطوا عليه العشيرات ينهبوه فلم يقدروا عليه إلا في شيء يسير.

وقتل منهم خلقا، وقصد نحو صاحبه فيما يزعم الأمير سيف الدين إيدغمش نائب حلب راجيا منه أن ينصره وأن يوافقه على ما قام بنفسه، فلما وصل أكرمه وأنزله، وبات عنده، فلما أصبح قبض عليه وقيده ورده على البريد إلى الديار المصرية، ومعه التراسيم من الأمراء وغيرهم.

ولما كان يوم الاثنين سلخ ذي القعدة خرج السلطان الملك الناصر شهاب الدين أحمد بن الناصر محمد بن المنصور من الديار المصرية في طائفة من الجيش قاصدا إلى الكرك المحروس، ومعه أموال جزيلة، وحواصل وأشياء كثيرة.

فدخلها يوم الثلاثاء من ذي الحجة وصحبته طشتمر في محفة ممرضا، والفخري مقيدا، فاعتقلا بالكرك المحروس، وطلب السلطان آلات من أخشاب ونحوها وحدادين وصناع ونحوها لإصلاح مهمات بالكرك، وطلب أشياء كثيرة من دمشق، فحملت إليه.

ولما كان يوم الأحد السابع والعشرين من ذي الحجة ورد الخبر بأن الأمير ركن الدين بيبرس الأحمدي النائب بصفد ركب في مماليكه وخدمه ومن أطاعه، وخرج منها فارا بنفسه من القبض عليه، وذكر أن نائب غزة قصده ليقبض عليه بمرسوم السلطان ورد عليه من الكرك، فهرب الأحمدي بسبب ذلك.

ولما وصل الخبر إلى دمشق وليس بها نائب انزعج الأمراء لذلك، واجتمعوا بدار السعادة، وضربوا في ذلك مشورة ثم جردوا إلى ناحية بعلبك أميرا ليصدوه عن الذهاب إلى البرية.

فلما أصبح الصباح من يوم الاثنين جاء الخبر بأنه في نواحي الكسوة، ولا مانع من خلاصة، فركبوا كلهم ونادى المنادي: من تأخر من الجند عن هذا النفير شنق، واستوثقوا في الخروج وقصدوا ناحية الكسوة وبعثوا الرسل إليه، فذكر اعتذارا في خروجه وتخلص منهم، وذهب يوم ذلك، ورجعوا وقد كانوا ملبسين في يوم حار، وليس معهم من الأزواد ما يكفيهم سوى يومهم ذلك.

فلما كانت ليلة الثلاثاء ركب الأمراء في طلبه من ناحية ثنية العقاب، فرجعوا في اليوم الثاني وهو في صحبتهم، ونزل في القصور التي بناها تنكز رحمه الله، في طريق داريا، فأقام بها، وأجروا عليه مرتبا كاملا من الشعير والغنم وما يحتاج إليه مثله، ومعه مماليكه وخدمه.

فلما كان يوم الثلاثاء سادس المحرم ورد كتاب من جهة السلطان فقرئ على الأمراء بدار السعادة يتضمن إكرامه واحترامه والصفح عنه لتقدم خدمة على السلطان الملك الناصر وابنه الملك المنصور.

ولما كان يوم الأربعاء سابع المحرم جاء كتاب إلى الأمير ركن الدين بيبرس نائب الغيبة ابن الحاجب ألمش بالقبض على الأحمدي، فركب الجيش ملبسين يوم الخميس وأوكبوا بسوق الخيل وراسلوه - وقد ركب في مماليكه بالعدد وأظهر الامتناع - فكان جوابه أن لا أسمع ولا أطيع إلا لمن هو ملك الديار المصرية، فأما من هو مقيم بالكرك ويصدر عنه ما يقال عنه من الأفاعيل التي قد سارت بها الركبان، فلا.

فلما بلغ الأمراء هذا توقفوا في أمره وسكنوا ورجعوا إلى منازلهم، ورجع هو إلى قصره.

ثم دخلت سنة ثلاث وأربعين وسبعمائة

استهلت هذه السنة المباركة وسلطان المسلمين الملك الناصر ناصر الدين محمد بن الملك المنصور قلاوون، وهو مقيم بالكرك، قد حاز الحواصل السلطانية من قلعة الجبل إلى قلعة الكرك، ونائبه الديار المصرية الأمير سيف الدين آقسنقر السلاري، الذي كان نائبا بغزة، وقضاة الديار المصرية هم المذكورون في السنة الماضية، سوى القاضي الحنفي.

وأما دمشق فليس لها نائب إلى حينئذ غير أن الأمير ركن الدين بيبرس الحاجب كان استنابه الفخري بدمشق نائب غيبته، فهو الذي يسد الأمور مع الحاجب ألمش، وتمر المهمندار، والأمير سيف الدين الملقب بحلاوة، والي البر، والأمير ناصر الدين بن ركباس متولي البلد، هؤلاء الذين يسدون الأشغال والأمور السلطانية، والقضاة هم الذين ذكرناها في السنة الخالية، وخطيب البلد تاج الدين عبد الرحيم بن القاضي جلال الدين القزويني، وكاتب السر القاضي شهاب الدين بن فضل الله.

واستهلت هذه السنة والأمير ركن الدين بيبرس الأحمدي نازل بقصر تنكز بطريق داريا، وكتب السلطان واردة في كل وقت بالاحتياط عليه والقبض، وأن يمسك ويرسل إلى الكرك، هذا والأمراء يتوانون في أمره ويسوفون المراسيم، وقتا بعد وقت، وحينا بعد حين، ويحملهم على ذلك أن الأحمدي لا ذنب له، ومتى مسكه تطرف إلى غيره، مع أن السلطان يبلغهم عنه أحوال لا نرضيهم من اللعب والاجتماع مع الأراذل والأطراف ببلد الكرك، مع قتله الفخري وطشتمر قتلا فظيعا وسلبه أهلهما وسلبه لما على الحريم من الثياب والحلي، وإخراجهم في أسوأ حال من الكرك، وتقريبه النصارى وحضورهم عنده.

فحمل الأمراء هذه الصفات على أن بعثوا أحدهم يكشف أمره، فلم يصل إليه، ورجع هاربا خائفا، فلما رجع وأخبر الأمراء انزعجوا وتشوشوا كثيرا، واجتمعوا بسوق الخيل مرارا وضربوا مشورة بينهم، فاتفقوا على أن يخلعوه، فكتبوا إلى المصريين بذلك، وأعلموا نائب حلب أيدغمش ونواب البلاد، وبقوا متوهمين من هذا الحال كثيرا ومترددين.

ومنهم من يصانع في الظاهر وليس معهم في الباطن، وقالوا لا سمع له ولا طاعة حتى يرجع إلى الديار المصرية، ويجلس على سرير المملكة، وجاء كتابه إليهم يعيبهم ويعنفهم في ذلك، فلم يفد.

وركب الأحمدي في الموكب وركبوا عن يمينه وشماله وراحوا إليه إلى القصر، فسلموا عليه وخدموه، وتفاقم الأمر وعظم الخطب، وحملوا هموما عظيمة خوفا من أن يذهب إلى الديار المصرية فيلف عليه المصريون فيتلف الشاميين، فحمل الناس همهم فالله هو المسؤول أن يحسن العاقبة. فلما كان يوم الأحد السادس والعشرين من المحرم ورد مقدم البريدية ومعه كتب المصريين بأنه لم بلغهم خبر الشاميين كان عندهم من أمر السلطان أضعاف ما حصل عند الشاميين، فبادروا إلى ما كانوا عزموا عليه، ولكن ترددوا خوفا من الشاميين أن يخالفوهم فيه ويتقدموا في صحبة السلطان لقتالهم.

فلما أطمأنوا من جهة الشاميين صمموا على عزمهم فخلعوا الناصر أحمد وملكوا عليهم أخاه الملك الصالح إسماعيل بن الناصر محمد بن المنصور، جعله الله مباركا على المسلمين، وأجلسوه على السرير يوم الثلاثاء العشرين من المحرم المذكور، وجاء كتابه مسلما على أمراء الشام ومقدميه.

وجاءت كتب الأمراء على الأمراء بالسلام والأخبار بذلك ففرح المسلمون وأمراء الشام والخاصة والعامة بذلك فرحا شديدا، ودقت البشائر بالقلعة المنصورة يومئذ، ورسم بتزيين البلد فزين الناس صبيحة الثلاثاء السابع والعشرين منه، ولما كان يوم الجمعة سلخ المحرم خطب بدمشق للملك الصالح عماد الدنيا والدين إسماعيل بن الناصر بن المنصور.

وفي يوم الخميس سادس صفر درّس بالصدرية صاحبنا الإمام العلامة شمس الدين محمد بن أبي بكر بن أيوب الذرعي إمام الجوزية، وحضر عنده الشيخ عز الدين بن المنجا الذي نزل له عنها، وجماعة من الفضلاء.

وفي يوم الاثنين سادس عشر صفر دخل الأمير سيف الدين تغردمر من الديار المصرية إلى دمشق ذاهبا إلى نيابة حلب المحروسة، فنزل بالقابون.

وفي يوم الثلاثاء ثامن عشر صفر توفي الشيخ الإمام العالم العامل الزاهد عبد الله بن أبي الوليد المقري المالكي، إمام المالكية، هو وأخوه أبو عمرو، بالجامع الأموي بمحراب الصحابة.

توفي ببستان بقية السحف، وصلّي عليه بالمصلى ودفن عند أبيه رحمهما الله بمقابر باب الصغير، وحضر جنازته الأعيان والفقهاء والقضاة، وكان رجلا صالحا مجمعا على ديانته وجلالته رحمه الله.

وفي يوم الخميس العشرين من صفر دخل الأمير إيدغمش نائب السلطنة بدمشق ودخل إليها من ناحية القابون قادما من حلب، وتلقاه الجيش بكماله، وعليه خلعة النيابة، واحتفل الناس له وأشعلوا الشموع، وخرج أهل الذمة من اليهود والنصارى يدعون له ومعهم الشموع، وكان يوما مشهودا.

وصلى يوم الجمعة بالمقصورة، من الجامع الأموي، ومعه الأمراء والقضاة وقرئ تقليده هناك على السدة وعليه خلعته، ومعه الأمير سيف الدين ملكتم الرحولي، وعليه خلعة أيضا.

وفي يوم الثلاثاء الخامس والعشرين من صفر دخل الأمير علم الدين الجاولي دمشق المحروسة ذاهبا إلى نيابة حماه المحروسة، وتلقاه نائب السلطنة والأمراء إلى مسجد القدم، وراح فنزل بالقابون، وخرج القضاة والأعيان إليه، وسمع عليه من مسند الشافعي فإنه يرويه، وله فيه عمل، ورتبه ترتيبا حسنا ورأيته، وشرحه أيضا، وله أوقاف على الشافعية وغيرهم.

وفي يوم الجمعة الثامن والعشرين منه عقد مجلس بعد الصلاة بالشباك الكمالي من مشهد عثمان بسبب القاضي فخر الدين المصري، وصدر الدين عبد الكريم بن القاضي جلال الدين القزويني، بسبب العادلية الصغيرة، فاتفق الحال على أن نزل صدر الدين عن تدريسها، ونزل فخر الدين عن مائة وخمسين على الجامع.

وفي يوم الأحد سلخ الشهر المذكور حضر القاضي فخر الدين المصري ودرس بالعادلية الصغيرة وحضر الناس عنده على العادة، وأخذ في قوله تعالى: {هَذِهِ بِضَاعَتُنَا رُدَّتْ إِلَيْنَا} 16.

وفي آخر شهر ربيع الأول جاء المرسوم من الديار المصرية بأن يخرج تجريدة من دمشق بصحبة الأمير حسام الدين السمقدار لحصار الكرك الذي تحصن فيه ابن السلطان أحمد، واستحوذ على ما عنده من الأموال التي أخذها من الخزائن من ديار مصر، وبرز المنجنيق من القلعة إلى قبل جامع القبيبات، فنصب هناك وخرج الناس للتفرج عليه ورمي به ومن نيتهم أن يستصحبوه معهم للحصار.

وفي يوم الأربعاء ثاني ربيع الآخر قدم الأمير علاء الدين الطنبغا المارداني من الديار المصرية على قاعدته وعادته.

وفي يوم الخميس عاشره دخل إلى دمشق الأميران الكبيران ركن الدين بيبرس الأحمدي من طرابلس، وعلم الدين الجاولي من حماه سحرا، وحضرا الموكب ووقفا مكتفين لنائب السلطنة: الأحمدي عن يمينه والجاولي عن يساره، ونزلا ظاهر البلد، ثم بعد أيام يسيرة توجه الأحمدي إلى الديار المصرية على عادته وقاعدته رأس مشورة، وتوجه الجاولي إلى غزة المحروسة نائبا عليها، وكان الأمير بدر الدين مسعود بن الخطير على إمرة الطبلخانات بدمشق.

وفي يوم الخميس رابع عشره خرجت التجريدة من دمشق سحرا إلى مدينة الكرك، والأمير شهاب الدين بن صبح والي الولاة بحوران مشد المجانيق، وخرج الأمير سيف الدين بهادر الشمس الملقب بحلاوة والي البر بدمشق إلى ولاية الولاة بحوران.

وفي يوم الجمعة ثامن عشره وقع بين النائب والقاضي الشافعي بسبب كتاب ورد من الديار المصرية فيه الوصايا بالقاضي السبكي المذكور ومعه التوقيع بالخطابة له مضافا إلى القضاء وخلعة من الديار المصرية، فتغيظ عليه النائب لأجل أولاد الجلال، لأنهم عندهم عائلة كثيرة وهم فقراء، وقد نهاه عن السعي في ذلك، فتقدم إليه يومئذ أن لا يصلي عنده في الشباك الكمالي، فنهض من هناك وصلى في الغزالية.

وفي يوم الأحد العشرين منه دخل دمشق الأمير سيف الدين أريغا زوج ابنة السلطان الملك الناصر مجتازا ذاهبا إلى طرابلس نائبا بها، في تجمل وأبهة ونجائب وجنائب، وعدة وسرك كامل.

وفي يوم الخميس الرابع والعشرين منه دخل الأمير بدر الدين ابن الخطيري معزولا عن نيابة غزة المحروسة فأصبح يوم الخميس فركب في الموكب وسير مع نائب السلطنة، ونزل في داره وراح الناس للسلام عليه.

وفي يوم الثلاثاء ثالث عشر صفر زينت البلد لعافية السلطان الملك الصالح لمرض أصابه، ثم شفى منه.

وفي يوم الجمعة السادس عشرينه قبل العصر ورد البريد من الديار المصرية بطلب قاضي القضاة تقي الدين السبكي إليها حاكمها بها، فذهب الناس للسلام عليه ولتوديعه، وذلك بعد ما أرجف الناس به كثيرا.

واشتهر أنه سينعقد له مجلس للدعوى عليه بما دفعه من مال الأيتام إلى الطنبغا وإلى الفخري، وكتبت فتوى عليه بذلك في تغريمه، وداروا بها على المفتيين فلم يكتب لهم أحد فيها غير القاضي جلال الدين بن حسام الدين الحنفي، رأيت خطه عليها وحده بعد الصلاة، وسئلت في الإفتاء عليها فامتنعت، لما فيها من التشويش على الحاكم.

وفي أول مرسوم نائب السلطان أن يتأمل المفتون هذا السؤال ويفتوا بما يقتضيه حكم الشرع الشريف، وكانوا له في نية عجيبة ففرج الله عنه بطلبه إلى الديار المصرية، فسار إليها صحبة البريد ليلة الأحد، وخرج الكبراء والأعيان لتوديعه، وفي خدمته.

استهل جمادى الآخرة والتجريدة عمالة إلى الكرك والجيش المجردون من الحلقة قريب من ألف ويزيدون، ولما كان يوم الثلاثاء رابعه بعد الظهر مات الأمير علاء الدين أيدغمش نائب السلطنة بالشام المحروس في دار وحده في دار السعادة، فدخلوا عليه وكشفوا أمره وأحصروا وخشوا أن يكون اعتراه سكتة، ويقال إنه شفى فالله أعلم.

فانتظروا به إلى الغد احتياطا، فلما أصبح الناس اجتمعوا للصلاة عليه فصلّي عليه خارج باب النصر حيث يصلّى على الجنائز، وذهبوا به إلى نحو القبلة، ورام بعض أهله أن يدفن في تربة غبريال إلى جانب جامع القبيبات، فلم يمكن ذلك، فدفن قبلي الجامع على حافة الطريق، ولم يتهيأ دفنه إلا إلى بعد الظهر من يومئذ، وعملوا عنده ختمة ليلة الجمعة رحمه الله وسامحه.

واشتهر في أوائل هذا الشهر أن الحصار عمال على الكرك، وأن أهل الكرك خرجت طائفة منهم فقتل منهم خلق كثير، وقتل من الجيش واحد في الحصار، فنزل القاضي وجماعة ومعهم شيء من الجوهر، وتراضوا على أن يسلموا البلد.

فلما أصبح أهل الحصن تحصنوا ونصبوا المجانيق واستعدوا فلما كان بعد أيام رموا منجنيق الجيش فكسروا السهم الذي له، وعجزوا عن نقله فحرقوه برأي أمراء المقدمين، وجرت أمور فظيعة، فالله يحسن العاقبة.

ثم وقعت في أواخر هذا الشهر بين الجيش وأهل الكرك وقعة أخرى، وذلك أن جماعة من رجال الكرك خرجوا إلى الجيش ورموهم بالنشاب فخرج الجيش لهم من الخيام ورجعوا مشاة ملبسين بالسلاح فقتلوا من أهل الكرك جماعة من النصارى وغيرهم، وجرح من العسكر خلق، وقتل واحد أو اثنان وأسر الأمير سيف الدين أبو بكر بن بهادرآص، وقتل أمير العرب، وأسر آخرون فاعتقلوا بالكرك، وجرت أمور منكرة.

ثم بعدها تعرض العسكر راجعين إلى بلادهم لم ينالوا مرادهم منها، وذلك أنهم رقهم البرد الشديد وقلة الزاد، وحاصروا أولئك شديدا بلا فائدة فإن البلد بريد متطاولة ومجانيق، ويشق على الجيش الإقامة هناك في كوانين، والمنجنيق الذي حملوه معهم كسر، فرجعوا ليتأهبوا لذلك.

ولما كان في يوم الأربعاء الخامس والعشرين منه قدم من الديار المصرية على البريد القاضي بدر الدين بن فضل الله كاتبا على السر عوضا عن أخيه القاضي شهاب الدين، ومعه كتاب بالاحتياط على حواصل أخيه شهاب الدين، وعلى حواصل القاضي عماد الدين ابن الشيرازي المحتسب، فاحتيط على أموالهما وأخرج من في ديارهما من الحرم، وضربت الأخشاب على الأبواب، ورسم على المحتسب بالعذراوية، فسأل أن يحول إلى دار الحديث الأشرفية فحول إليها.

وأما القاضي شهاب الدين، فكان قد خرج ليلتقي الأمير سيف الدين تغردمر الحموي، الذي جاء تقليده بنيابة الشام بدمشق وكان بحلب، وجاء هذا الأمر وهو في أثناء الطريق، فرسم برجعته ليصادر هو والمحتسب، ولم يدر الناس ما ذنبهما.

وفي يوم الأحد ثامن شهر رجب آخر النهار رجع قاضي القضاء تقي الدين السبكي إلى دمشق على القضاء، ومعه تقليد بالخطابة أيضا، وذهب الناس إليه للسلام عليه.

ودخل نائب السلطنة الأمير سيف الدين تغردمر الحموي بعد العصر الخامس عشرينه من حلب، فتلقاه الأمراء إلى طريق القابون، ودعا له الناس دعاء كثيرا، وأحبوه لبغضهم النائب الذي كان قبله، وهو علاء الدين أيدغمش سامحه الله تعالى، فنزل بدار السعادة وحضر الموكب صبيحة يوم الاثنين.

واجتمع طائفة من العامة وسألوه أن لا يغير عليهم خطيبهم تاج الدين عبد الرحيم ابن جلال الدين، فلم يلتفت إليهم، بل عمل على تقليد القاضي تقي الدين السبكي الخطابة ولبس الخلعة، وأكثر العوام لما سمعوا بذلك الغوغاء، وصاروا يجتمعون حلقا حلقا بعد الصلوات ويكثرون الفرحة في ذلك، لما منع ابن الجلال، ولكن بقي هذا لم يباشر السبكي في المحراب.

واشتهر عن العوام كلام كثير وتوعدوا السبكي بالسفاهة عليه إن خطب، وضاق بذلك ذرعا، ونهوا عن ذلك فلم ينتهوا، وقيل لهم ولكثير منهم: الواجب عليكم السمع والطاعة لأولي الأمر، ولو أمر عليكم عبد حبشي.

فلم يرعووا، فلما كان يوم الجمعة العشرين منه اشتهر بين العامة بأن القاضي نزل عن الخطابة لابن الجلال، ففرح العوام بذلك وحشدوا في الجامع، وجاء نائب السلطنة إلى المقوصرة والأمراء معه، وخطب ابن الجلال على العادة، وفرح الناس بذلك وأكثروا من الكلام والهرج.

ولما سلم عليهم الخطيب حين صعد ردوا عليه ردا بليغا، وتكلفوا في ذلك وأظهرا بغضة القاضي السبكي، وتجاهروا بذلك، وأسمعوه كلاما كثيرا، ولما قضيت الصلاة قرئ تقليد النيابة على السدة، وخرج الناس فرحى بخطيبهم، لكونه استمر عليهم، واجتمعوا عليه يسلمون ويدعون له.

وفي يوم الأربعاء ثالث شعبان درّس القاضي برهان الدين بن عبد الحق بالمدرسة العذراوية بمرسوم سلطاني بتوليته وعزل القفجاري، وعقد لهما مجلس يوم الثلاثاء بدار العدل، فرجح جانب القاضي برهان الدين لحاجته وكونه لا وظيفة له.

وفي يوم الجمعة خامسه توفي الشيخ شهاب الدين أحمد بن الجزري أحد المسندين المكثرين الصالحين، مات عن خمس وتسعين سنة رحمه الله، وصلّي عليه يوم الجمعة بالجامع المظفري ودفن بالرواحية.

وفي يوم الأربعاء السابع عشر منه توفي الشيخ الإمام العالم العابد الناسك الصالح الشيخ شمس الدين محمد بن الزرير خطيب الجامع الكريمي بالقبيبات، وصلّي عليه بعد الظهر يومئذ بالجامع المذكور، ودفن قبلي الجامع المذكور، إلى جانب الطريق من الشرق رحمه الله.

واشتهر في أوائل رمضان أن مولودا ولد له رأسان وأربع أيد، وأحضر إلى بين يدي نائب السلطنة، وذهب الناس للنظر إليه في محلة ظاهر باب الفراديس، يقال لها حكى الوزير، وكنت فيمن ذهب إليه في جماعة من الفقهاء يوم الخميس ثالث الشهر المذكور بعد العصر، فأحضره أبوه - واسم أبيه سعادة - وهو رجل من أهل الجبل، فنظرت إليه فإذا هما ولدان مستقلان، فكل قد اشتبكت أفخاذهما بعضهما ببعض، وركب كل واحد منهما ودخل في الآخر والتحمت فصارت جثة واحدة وهما ميتان، فقالوا أحدهما ذكر الآخر أنثى وهما ميتان حال رؤيتي إليهما.

وقالوا إنه تأخر موت أحدهما عن الآخر بيومين أو نحوهما، وكتب بذلك محضر جماعة من الشهود.

وفي هذا اليوم احتيط على أربعة من الأمراء وهم أبناء الكامل صلاح الدين محمد، أمير طبلخانات، وغياث الدين محمد أمير عشرة، وعلاء الدين علي، وابن أيبك الطويل طبلخانات أيضا، وصلاح الدين خليل بن بلبان طرنا طبلخانات أيضا.

وذلك بسبب أنهم اتهموا على ممالأة الملك أحمد بن الناصر الذي في الكرك، ومكاتبته، والله أعلم بحالهم، فقيدوا وحملوا إلى القلعة المنصورة من باب اليسر مقابل باب دار السعادة الثلاث الطبلخانات والغياث من بابها الكبير وفرق بينهم في الأماكن.

وخرج المحمل يوم الخميس خمس عشرة ولبس الخطيب بن الجلال خلعة استقرار الخطابة في هذا اليوم، وركب بها مع القضاة على عادة الخطباء.

وفي هذا الشهر نصب المنجنيق الكبير على باب الميدان الأخضر وطول أكتافه ثمانية عشر ذراعا، وطول سهمه سبعة وعشرون ذراعا، وخرج الناس للفرجة عليه، ورمي به في يوم السبت حجرا زنته ستين رطلا، فبلغ إلى مقابلة القصر من الميدان الكبير، وذكر معلم المجانيق أنه ليس في حصون الإسلام مثله، وأنه عمله الحاج محمد الصالحي ليكون بالكرك، فقدر الله أنه خرج ليحاصر به الكرك، فالله يحسن العاقبة.

وفي أواخره أيضا مسك أربعة أمراء، وهم أقبغا عبد الواحد الذي كان مباشرا الاستدارية للملك الناصر الكبير، فصودر في أيام ابنه المنصور، وأخرج إلى الشام فناب بحمص فسار سيرة غير مرضية، وذمه الناس وعزل عنها وأعطي تقدمة ألف بدمشق، وجعل رأس الميمنة، فلما كان في هذه الأيام اتهم بممالأة السلطان أحمد بن الناصر الذي بالكرك، فمسك وحمل إلى القلعة ومعه الأمير سيف الدين بلو، والأمير سيف الدين سلامش، وكلهم بطبلخانات فرفعوا إلى القلعة المنصورة، فالله يحسن العاقبة.

وفي هذا الشهر خرج قضاء حمص عن نيابة دمشق بمرسوم سلطاني مجدد للقاضي شهاب الدين البارزي، وذلك بعد مناقشة كثيرة وقعت بينه وبين قاضي القضاة تقي الدين السبكي، وانتصر له بعض الدولة، واستخرج له المرسوم المذكور.

وفيه أيضا أفرد قضاء القدس الشريف أيضا باسم القاضي شمس الدين بن سالم الذي كان مباشرها مدة طويلة قبل ذلك نيابة، ثم عزل عنها وبقي مقيما ببلده غزة، ثم أعيد إليها مستقلا بها في هذا الوقت.

وفي هذا الشهر رجع القاضي شهاب الدين بن فضل الله من الديار المصرية ومعه توقيع بالمرتب الذي كان له أولا كل شهر ألف درهم، وأقام بعمارته التي أنشأها بسفح قاسيون شرقي الصالحية بقرب حمام النحاس.

وفي صبيحة مستهل ذي القعدة خرج المنجنيق قاصدا إلى الكرك على الجمال والعجل، وصحبته الأمير صارم الدين إبراهيم المسبقي، أمير حاجب، كان في الدولة السكرية، هو المقدم عليه يحوطه ويحفظه ويتولى تسييره بطلبه وأصحابه، وتجهز الجيش للذهاب إلى الكرك، وتأهبوا أتم الجهاز، وبرزت أثقالهم إلى ظاهر البلد وضربت الخيام فالله يحسن العاقبة.

وفي يوم الاثنين رابعه توفي الطواشي شبل الدولة كافور السكري، ودفن صبيحة يوم الثلاثاء خامسه في تربته التي أنشأها قديما ظاهر باب الجابية تجاه تربة الطواشي ظهير الدين الخازن بالقلعة، كان قبيل مسجد الدبان رحمه الله، وكان قديما للصاحب تقي الدين توبة التكريتي، ثم اشتراه تنكز بعد مدة طويلة من ابني أخيه صلاح الدين وشرف الدين بمبلغ جيد وعوضهما إقطاعا بزيادة على ما كان بأيديهما. وذلك رغبة في أمواله التي حصلها من أبواب السلطنة، وقد تعصب عليه أستاذه تنكز رحمه الله في وقت وصودر وجرت عليه فصول، ثم سلم بعد ذلك، ولما مات ترك أموالا جزيلة وأوقافا رحمه الله.

وخرجت التجريدة يوم الأربعاء سادسه والمقدم عليها الأمير بدر الدين بن الخطير ومعه مقدم آخر وهو الأمير علاء الدين بن قراسنقر.

وفي يوم السبت سلخ هذا الشهر توفي الشاب الحسن شهاب الدين أحمد بن فرج المؤذن بمئذنة العروس، وكان شهيرا بحسن الصوت ذا حظوة عظيمة عند أهل البلد، وكان رحمه الله كما في النفس وزيادة في حسن الصوت الرخيم المطرب، وليس في القراء ولا في المؤذنين قريب منه ولا من يدانيه في وقته، وكان في آخر وقته على طريقة حسنة، وعمل صالح، وانقطاع عن الناس، وإقبال على شأن نفسه فرحمه الله، وأكرم مثواه، وصلّي عليه بعد الظهر يومئذ ودفن عند أخيه بمقبرة الصوفية.

وفي يوم الخميس خامس ذي الحجة توفي الشيخ بدر الدين بن نصحان شيخ القراء السبع في البلد الشهير بذلك، وصلّي عليه بالجامع بعد الظهر يومئذ، ودفن بباب الفراديس رحمه الله.

وفي يوم الأحد تاسعه وهو يوم عرفة حضر الإقراء بتربة أم الصالح عوضا عن الشيخ بدر الدين بن نصحان القاضي شهاب الدين أحمد بن النقيب البعلبكي، وحضر عنده جماعة من الفضلاء وبعض القضاة، وكان حضوره بغتة، وكان متمرضا، فألقى شيئا من القراءات والإعراب عند قوله تعالى: {وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ} 17.

وفي أواخر هذا الشهر غلا السعر جدا وقل الخبز وازدحم الناس على الأفران زحمة عظيمة، وبيع خبز الشعير المخلوط بالزيوان والنقارة، وبلغت الغرارة بمائة وستة وثمانين درهما، وتقلص السعر جدا حتى بيع الخبز كل رطل بدرهم، وفوق ذلك بيسير، ودونه بحسب طيبه ورداءته، فإنا لله وإنا إليه راجعون.

وكثر السؤال وجاع العيال، وضعف كثير من الأسباب والأحوال، ولكن لطف الله عظيم فإن الناس مترقبون مغلا هائلا لم يسمع بمثله من مدة سنين عديدة، وقد اقترب أوانه، وشرع كثير من البلاد في حصاد الشعير وبعض القمح مع كثرة الفول وبوادر التوت، فلولا ذلك لكان غير ذلك، ولكن لطف الله بعباده، وهو الحاكم المتصرف الفعال لما يريد لا إله إلا هو.

ثم دخلت سنة أربع وأربعين وسبعمائة

استهلت هذه السنة وسلطان المسلمين الملك الناصر عماد الدنيا والدين إسماعيل بن الملك الناصر ناصر الدين محمد بن الملك المنصور سيف الدين قلاوون الصالحي، ونائبه بالديار المصرية الأمير سيف الدين آقسنقر السلاري، وقضاته هم هم المتقدم ذكرهم في العام الماضي، ونائبه بدمشق الأمير سيف الدين تغردمر الحموي، وقضاته هم المتقدم ذكرهم، وكذلك الصاحب والخطيب وناظر الجامع ولخزانة ومشد الأوقاف وولاية المدينة.

استهلت والجيوش المصرية والشامية محيطة بحصن الكرك محاصرون ويبالغون في أمره، والمنجنيق منصوب وأنواع آلات الحصار كثيرة، وقد رسم بتجريدة من مصر والشام أيضا تخرج إليها.

وفي يوم الخميس عاشر صفر دخلت التجريدة من الكرك إلى دمشق واستمرت التجريدة الجديدة على الكرك ألفان من مصر وألفان من الشام، والمنجنيق منقوض موضوع عند الجيش خارج الكرك، والأمور متوقفة على وبرد الحصار بعد رجوع الأحمدي إلى مصر.

وفي يوم السبت ثاني ربيع الأول توفي السيد الشريف عماد الدين الخشاب بالكوشك في درب السيرجي جوار المدرسة العزية، وصلّي عليه ضحًى بالجامع الأموي، ودفن بمقابر باب الصغير.

وكان رجلا شهما كثير العبادة والمحبة للسنة وأهلها، ممن واظب الشيخ تقي الدين بن تيمية رحمه الله وانتفع به، وكان من جملة أنصاره وأعوانه على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهو الذي بعثه إلى صيدنايا مع بعض القسيسين فلوث يده بالعذرة وضرب اللحمة التي يعظمونها هنالك، وأهانها غاية الإهانة لقوة إيمانه وشجاعته رحمه الله وإيانا.

وفي يوم الخميس سابعه اجتمع الصاحب ومشد الدواوين ووكيل بيت المال، ومشد الأوقاف ومباشرو الجامع ومعهم العمالين بالقول والمعاول، يحفرون إلى جانب السارية عند باب مشهد علي تحت تلك الصخرة التي كانت هناك، وذلك عن قول رجل جاهل، زعم أن هناك مالا مدفونا فشاوروا نائب السلطنة فأمرهم بالحفر.

واجتمع الناس والعامة فأمرهم فأخرجوا وأغلقت أبواب الجامع كلها ليتمكنوا من الحفر، ثم حفروا ثانيا وثالثا فلم يجدوا شيئا إلا التراب المحض، واشتهر هذا الحفير في البلد وقصده الناس للنظر إليه والتعجب من أمره، وانفصل الحال على أن حبس هذا الزاعم لهذا المحال، وطم الحفير كما كان.

وفي يوم الاثنين ثامن عشر ربيع الأول قدم قاضي حلب ناصر الدين بن الخشاب على البريد مجتازا إلى دمشق فنزل بالعادلية الكبيرة، وأخبر أنه صلى على المحدث البارع الفاضل الحافظ شمس الدين محمد بن علي بن أيبك السروجي المصري يوم الجمعة ثامن هذا الشهر بحلب رحمه الله، ومولده سنة خمس عشرة وسبعمائة، وكان قد أتقن طرفا جيدا في علم الحديث، وحفظ أسماء الرجال، وجمع وخرج.

وفي مستهل ربيع الآخر وقع حريق عظيم بسفح قاسيون احترق به سوق الصالحية الذي بالقرب من جامع المظفري، وكانت جملة الدكاكين التي احترقت قريبا من مائة وعشرين دكانا، ولم ير حريق من زمان أكبر منه ولا أعظم، فإنا لله وإنا إليه راجعون.

وفي يوم الجمعة سادسه رسم بأن يذكر بالصلاة يوم الجمعة في سائر مواذن البلد كما يذكر في مواذن الجامع، ففعل ذلك.

وفي يوم الثلاثاء عاشره طلب من القاضي تقي الدين السبكي قاضي قضاة الشافعية أن يقرض ديوان السلطان شيئا من أموال الغياب التي تحت يده، فامتنع من ذلك امتناعا كثيرا، فجاء شاد الدواوين وبعض حاشية نائب السلطنة ففتحوا مخزن الأيتام وأخذوا منه خمسين ألف درهم قهرا، ودفعوها إلى بعض العرب عما كان تأخر له في الديوان السلطاني، ووقع أمر كثير لم يعهد مثله.

وفي يوم الأربعاء عاشر جمادى الأولى توفي صاحبنا الشيخ الإمام العالم العلامة الناقد البارع في فنون العلوم شمس الدين محمد بن الشيخ عماد الدين أحمد بن عبد الهادي المقدسي الحنبلي، تغمده الله برحمته، وأسكنه بحبوحة جنته، مرض قريبا من ثلاثة أشهر بقرحة وحمى سل، ثم تفاقم أمره وأفرط به إسهال، وتزايد ضعفه إلى أن توفي يومئذ قبل أذان العصر.

فأخبرني والده أن آخر كلامه أن قال: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا رسول الله اللهم اجعلني من التوابين واجعلني من المتطهرين.

فصلّي عليه يوم الخميس بالجامع المظفري وحضر جنازته قضاة البلد وأعيان الناس من العلماء والأمراء والتجار والعامة، وكانت جنازته حافلة مليحة، عليها ضوء ونور، ودفن بالروضة إلى جانب قبر السيف ابن المجد رحمهما الله تعالى.

وكان مولده في رجب سنة خمس وسبعمائة فلم يبلغ الأربعين، وحصل من العلوم ما لا يبلغه الشيوخ الكبار، وتفنن في الحديث والنحو والتصريف والفقه والتفسير والأصلين والتاريخ والقراءات وله مجاميع وتعاليق مفيدة كثيرة، وكان حافظا جيدا لأسماء الرجال، وطرق الحديث، عارفا بالجرح والتعديل، بصيرا بعلل الحديث، حسن الفهم له، جيد المذاكرة صحيح الذهن مستقيما على طريقة السلف، واتباع الكتاب والسنة، مثابرا على فعل الخيرات.

وفي يوم الثلاثاء سلخه درّس بمحراب الحنابلة صاحبنا الشيخ الإمام العلامة شرف الدين بن القاضي شرف الدين الحنبلي في حلقة الثلاثاء عوضا عن القاضي تقي الدين بن الحافظ رحمه الله، وحضر عنده القضاء والفضلاء، وكان درسا حسنا أخذ في قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ} 18، وخرج إلى مسألة تفضيل بعض الأولاد.

وفي يوم الخميس ثاني شهر جمادى الأولى خرجت التجريدة إلى الكرك مقدمان من الأمراء، وهما الأمير شهاب الدين بن صبح، والأمير سيف الدين قلاوون، في أبهة عظيمة وتجمل وجيوش وبقارات، وإزعاج كثيرة.

وفي صبيحة يوم الاثنين الحادي والعشرين منه قتل بسوق الخيل حسن بن الشيخ السكاكيني على ما ظهر منه من الرفض الدال على الكفر المحض، شهد عليه عند القاضي شرف الدين المالكي بشهادات كثيرة تدل على كفره، وأنه رافضي جلد.

فمن ذلك تكفير الشيخين رضي الله عنهما، وقذفه أميّ المؤمنين عائشة وحفصة رضي الله عنهما، وزعم أن جبريل غلط فأوحى إلى محمد، وإنما كان مرسلا إلى علي، وغير ذلك من الأقوال الباطلة القبيحة قبحه الله، وقد فعل.

وكان والده الشيخ محمد السكاكيني يعرف مذهب الرافضة والشيعة جيدا، وكانت له أسئلة على مذهب أهل الخير، ونظم في ذلك قصيدة أجابه فيها شيخنا الإمام العلامة شيخ الإسلام بن تيمية رحمه الله، وذكر غير واحد من أصحاب الشيخ أن السكاكيني ما مات حتى رجع عن مذهبه، وصار إلى قول أهل السنة، فالله أعلم.

وأخبرت أن ولده حسنا هذا القبيح كان قد أراد قتل أبيه لما أظهر السنة.

وفي ليلة الاثنين خامس شهر رجب وصل بدن الأمير سيف الدين تنكز نائب الشام كان إلى تربته التي إلى جانب جامعه الذي أنشأه ظاهر باب النصر بدمشق، نقل من الإسكندرية بعد ثلاث سنين ونصف أو أكثر، بشفاعة ابنته زوجة الناصر عند ولده السلطان الملك الصالح، فأذن في ذلك وأرادوا أن يدفن بمدرسته بالقدس الشريف، فلم يمكن، فجيء به إلى تربته بدمشق وعملت له الختم وحضر القضاة والأعيان رحمه الله.

وفي يوم الثلاثاء حادي عشر شعبان المبارك توفي صاحبنا الأمير صلاح الدين يوسف التكريتي ابن أخي الصاحب تقي الدين بن توبة الوزير، بمنزلة بالقصاعين، كان شابا من أبناء الأربعين، ذا ذكاء وفطنة وكلام وبصيرة جيدة، وكان كثير المحبة إلى الشيخ تقي الدين بن تيمية رحمه الله، ولأصحابه خصوصا، ولكل من يراه من أهل العلم عموما.

وكان فيه إيثار وإحسان ومحبة الفقراء والصالحين، ودفن بتربتهم بسفح قاسيون رحمه الله، وفي يوم السبت الخامس عشر منه جاءت زلزلة بدمشق لم يشعر بها كثير من الناس لخفتها ولله الحمد والمنة، ثم تواترت الأخبار بأنها شعثت في بلاد حلب شيئا كثيرا من العمران حتى سقط بعض الأبراج بقلعة حلب، وكثير من دورها ومساجدها ومشاهدها وجدرانها، وأما في القلاع حولها فكثير جدا، وذكروا أن مدينة منبج لم يبق منها إلا القليل، وأن عامة السكانين بها هلكوا تحت الردم رحمهم الله.

وفي أواخر شهر شوال خرجت التجاريد إلى الكرك وهما أميران مقدمان الأمير علاء الدين فراسنقر، والأمير الحاج بيدمر، واشتهر في هذه الأيام أن أمر الكرك قد ضعف وتفاقم عليهم الأمر وضاقت الأرزاق عندهم جدا، ونزل منها جماعات من رؤسائها وخاصية الأمير أحمد بن الناصر مخامرين عليه، فسيروا من الصبح إلى قلاوون وصحبتهم مقدمون من الحلقة إلى الديار المصرية، وأخبروا أن الحواصل عند أحمد قد قلت جدا فالله المسؤول أن يحسن العاقبة.

وفي ليلة الأربعاء الثامن والعشرين من شهر ذي الحجة توفي القاضي الإمام العلامة برهان الدين بن عبد الحق شيخ الحنفية وقاضي القضاة بالديار المصرية مدة طويلة، بعد ابن الحريري.

ثم عزل وأقام بدمشق ودرّس في أيام تغردمر بالعذراوية لولده القاضي أمين الدين، فذكر بها الدرس يوم الأحد قبل وفاة والده بثلاثة أيام، وكان موت برهان الدين رحمه الله ببستانه من أراضي الأرزة بطريق الصالحية، ودفن من الغد بسفح قاسيون بمقبرة الشيخ أبي عمر رحمه الله، وصلّي عليه بالجامع المظفري، وحضر جنازته القضاة والأعيان والأكبار رحمه الله.

ثم دخلت سنة خمس وأربعين وسبعمائة

استهلت هذه السنة وسلطان الديار المصرية والديار الشامية وما يتعلق بذلك الملك الصالح بن إسماعيل بن السلطان الملك الناصر محمد بن الملك المنصور قلاوون، وقضاته بالديار المصرية والشامية هم المذكورون في السنة المتقدمة، ونائبه بمصر الحاج سيف الدين ووزيره المتقدم ذكره، وناظر الخاص القاضي مكين الدين، وناظر الجيوش القاضي علم الدين ابن القطب، والمحتسب المتقدم.

وشاد الدواوين علم الدين الناصري، وشاد الأوقاف الأمير حسام الدين النجيبي، ووكيل بيت المال القاضي علاء الدين شرنوخ، وناظر الخزانة القاضي تقي الدين بن أبي الطيب، وبقية المباشرين وأنظارهم المتقدم ذكرهم، وكاتب السر القاضي بدر الدين بن فضل الله كاتب السر، والقاضي أمين الدين بن القلانسي، والقاضي شهاب الدين بن القيسراني، والقاضي شرف الدين بن شمس الدين بن الشهاب محمود والقاضي علاء الدين شرنوخ.

شهر المحرم أول السبت استهل والحصار واقع بقلعة الكرك، وأما البلد فأخذ واستنيب فيه الأمير سيف الدين قبليه، قدم إليها من الديار المصرية، والتجاريد من الديار المصرية ومن دمشق محيطون بالقلعة، والناصر أحمد بن الناصر ممتنع من التسليم، ومن الإجابة إلى الإنابة. ومن الدخول في طاعة أخيه، وقد تفاقمت الأمور وطالت الحروب، وقتل خلق كثير بسبب ذلك، من الجيوش ومن أهل الكرك، وقد توجهت القضية إلى خير إن شاء الله.

وقبل ذلك بأيام يسيرة هرب من قلعة الكرك الأمير سيف الدين أبو بكر بن بهادرآص الذي كان أسر في أوائل حصار الكرك، وجماعة من مماليك الناصر أحمد، كان اتهمهم بقتل الشهيب أحمد، الذي كان يعتنى به ويحبه، واستبشر الجيوش بنزول أبي بكر من عنده وسلامته من يده.

وجهز إلى الديار المصرية معظما، وهذا والمجانيق الثلاثة مسلطة على القلعة من البلد تضرب عليها ليلا ونهارا، وتدمر في بنائها من داخل، فإن سورها لا يؤثر فيه شيء بالكلية، ثم ذكر أن الحصار فتر ولكن مع الاحتياط على أن لا يدخل إلى القلعة ميرة ولا شيء مما يستعينون به على المقام فيها، فالله المسؤول أن يحسن العاقبة.

وفي يوم الأربعاء الخامس والعشرين من صفر قدم البريد مسرعا من الكرك فأخبر بفتح القلعة، وأن بابها أحرق، وأن جماعة الأمير أحمد بن الناصر استغاثوا بالأمان، وخرج أحمد مقيدا وسير على البريد إلى الديار المصرية، وذلك يوم الاثنين بعدا لظهر الثالث والعشرين من هذا الشهر، ولله عاقبة الأمور.

وفي صبيحة يوم الجمعة رابع ربيع الأول دقت البشائر بالقلعة، وزينت البلد عن مرسوم السلطان الملك الصالح سرورا بفتح البلد، واجتماع الكلمة عليه، واستمرت الزينة إلى يوم الاثنين سابعه، فرسم برفعها بعد الظهر فتشوش كثير من العوام، وأرجف بعض الناس بأن أحمد قد ظهر أمره وبايعه الأمراء الذين هم عنده، وليس لذلك حقيقة، ودخلت الأطلاب من الكرك صبيحة يوم الأحد ثالث عشر ربيع الأول بالطبلخانات والجيوش، واشتهر إعدام أحمد بن الناصر.

وفي يوم الجمعة حادي عشر ربيع الأول صلّي بالجامع الأموي على الشيخ أمين الدين أبي حيان النحوي، شيخ البلاد المصرية من مدة طويلة، وكانت وفاته بمصر عن تسعين سنة وخمسة أشهر.

ثم اشتهر في ربيع الآخر قتل السلطان أحمد وحز رأسه وقطع يديه، ودفن جثته بالكرك، وحمل رأسه إلى أخيه الملك الصالح إسماعيل، وحضر بين يديه في الرابع والعشرين من هذا الشهر، ففرح الناس بذلك، ودخل الشيخ أحمد الزرعي على السلطان الملك الصالح فطلب منه أشياء كثيرة من تبطيل المظالم ومكوسات وإطلاق طبلخانات للأمير ناصر الدين بن بكتاش، وإطلاق أمراء محبوسين بقلعة دمشق وغير ذلك.

فأجابه إلى جميع ذلك، وكان جملة المراسيم التي أجيب فيها بضع وثلاثين مرسوما، فلما كان آخر شهر ربيع الآخر قدمت المراسيم التي سألها الشيخ أحمد من الملك الصالح، فأمضيت كلها، أو كثير منها، وأفرج عن صلاح الدين بن الملك الكامل، والأمير سيف الدين بلو، في يوم الخميس سلخ هذا الشهر ثم روجع في كثير منها وتوقف حالها.

وفي هذا الشهر عملت منارة خارج باب الفرج وفتحت مدرسة كانت دارا قديمة فجعلت مدرسة للحنفية ومسجدا، وعملت طهارة عامة، ومصلى للناس، وكل ذلك منسوب إلى الأمير سيف الدين تقطم الخليلي أمير حاجب كان، وهو الذي جدد الدار المعروفة به اليوم بالقصاعين.

وفي ليلة الاثنين عاشر جمادى الآخرة توفي صاحبنا المحدث تقي الدين محمد بن صدر الدين سليمان الجعبري زوج بنت الشيخ جمال الدين المزي، والد شرف الدين عبد الله، وجمال الدين إبراهيم وغيرهم.

وكان فقيها بالمدارس، وشاهدا تحت الساعات وغيرها، وعنده فضيلة جيدة في قراءة الحديث وشيء من العربية، وله نظم مستحسن، انقطع يومين وبعض الثالث وتوفي في الليلة المذكورة في وسط الليل، وكنت عنده وقت العشاء الآخرة ليلتئذ، وحدثني وضاحكني، وكان خفيف الروح رحمه الله.

ثم توفي في بقية ليلته رحمه الله، وكان أشهدني عليه بالتوبة من جميع ما يسخط الله عز وجل، وأنه عازم على ترك الشهود أيضا رحمه الله، صلّي عليه ظهر يوم الاثنين، ودفن بمقابر باب الصغير عند أبويه رحمهم الله.

وفي يوم الجمعة ثاني عشرين شهر رجب خطب القاضي عماد الدين بن العز الحنفي بجامع تنكز خارج باب النصر عن نزول الشيخ نجم الدين علي بن داود القفجاري له عن ذلك، وأيضا نائب السلطنة الأمير سيف الدين تغردمر وحضوره عنده في الجامع المذكور يومئذ.

وفي يوم الجمعة تاسع عشرين رجب توفي القاضي الإمام العالم جلال الدين أبو العباس أحمد ابن قاضي القضاة حسام الدين الرومي الحنفي، وصلّي عليه بعد صلاة الجمعة بمسجد دمشق، وحضره القضاة والأعيان ودفن بالمدرسة التي أنشأها إلى جانب الزردكاش قريبا في الخاتونية الجوانية، وكان قد ولي قضاء قضاة الحنفية في أيام ولاية أبيه الديار المصرية.

وكان مولده سنة إحدى وخمسين وستمائة، وقدم الشام مع أبيه فأقاموا بها، ثم لما ولي الملك المنصور لاجين ولى أباه قضاء الديار المصرية، وولده هذا قضاء الشام، ثم إنه عزل بعد ذلك واستمر على ثلاث مدراس من خيار مدارس الحنفية ثم حصل له صمم في آخر عمره، وكان ممتعا بحواسه سواه وقواه، وكان يذاكر في العلم وغير ذلك.

وفي يوم الأربعاء الرابع والعشرين من شعبان توفي الشيخ نجم الدين علي بن داود القفجاري خطيب جامع تنكز، ومدرّس الظاهرية، وقد نزل عنها قبل وفاته بقليل للقاضي عماد الدين بن العز الحنفي، وصلّي عليه بالجامع المذكور بعد صلاة الظهر يومئذ، وعند باب النصر، وعند جامع جراح ودفن بمقبرة ابن الشيرجي عند والده، وحضره القضاة والأعيان، وكان أستاذا في النحو وله علوم أخر، لكن كان نهاية في النحو والتصريف.

وفي هذا اليوم توفي الشيخ الصالح العابد الناسك الشيخ عبد الله الضرير الزرعي، وصلّي عليه بعد الظهر بالجامع الأموي وبباب النصر وعند مقابر الصوفية، ودفن بها قريبا من الشيخ تقي الدين ابن تيمية رحمه الله، وكان كثير التلاوة حسنها وصحيحها، كثير العبادة، يقرئ الناس من دهر طويل ويقوم بهم العشر الأخير من رمضان، في محراب الحنابلة بالجامع الأموي رحمه الله.

وفي يوم الجمعة ثاني شهر رمضان المعظم توفي الشيخ الإمام العالم العامل العابد الزاهد الورع أبو عمر بن أبي الوليد المالكي إمام محراب الصحابة الذي للمالكية، وصلّي عليه بعد الصلاة وحضر جنازته خلق كثير وجم غفير، وتأسف الناس عليه وعلى صلاحه وفتاويه النافعة الكثيرة، ودفن إلى جانب قبر أبيه وأخيه، إلى جانب قبر أبي الغندلاوي المالكي قريبا من مسجد التاريخ رحمه الله، وولي مكانه في المحراب ولده، وهو طفل صغير، فاستنيب له إلى حين صلاحيته، جبره الله ورحم أباه.

وفي صبيحة ليلة الثلاثاء سادس رمضان وقع ثلج عظيم لم ير مثله بدمشق من مدة طويلة، وكان الناس محتاجين إلى مطر، فلله الحمد والمنة، وتكاثف الثلج على الأسطحة، وتراكم حتى أعيى الناس أمره ونقلوه عن الأسطحة إلى الأزقة يحمل، ثم نودي بالأمر بإزالته من الطرقات فإنه سدها وتعطلت معايش كثير من الناس، فعوض الله الضعفاء بعملهم في الثلج، ولحق الناس كلفة كبيرة وغرامة كثيرة، فإنا لله وإنا إليه راجعون.

وفي يوم الجمعة الثالث والعشرين من رمضان صلّي بالجامع الأموي على نائب وهو الأمير علاء الدين الجاولي، وقد تقدم شيء من ترجمته رحمه الله.

وفي أول شوال يوم عيد الفطر وقع فيه ثلج عظيم بحيث لم يتمكن الخطيب من الوصول إلى المصلّى، ولا خرج نائب السلطنة، بل اجتمع الأمراء والقضاة بدار السعادة، وحضر الخطيب فصلّى بهم العيد بها، وكثير من الناس صلوا العيد في البيوت.

وفي يوم الأحد الحادي والعشرين من ذي الحجة درّس قاضي القضاة تقي الدين السبكي الشافعي بالشامية البرانية عن الشيخ شمس الدين ابن النقيب رحمه الله، وحضر عنده القضاة والأعيان والأمراء وخلق من الفضلاء، وأخذ في قوله تعالى: {قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ} 19 وما بعدها.

وفي ذي الحجة استفتي في قتل كلاب البلد فكتب جماعة من أهل البلد في ذلك، فرسم بإخراجهم يوم الجمعة من البلد الخامس والعشرين منه، لكن إلى الخندق ظاهر باب الصغير، وكان الأولى قتلهم بالكلية وإحراقهم لئلا تنتن بريحهم على ما أفتى به الإمام مالك بن أنس من جواز قتل الكلاب ببلدة معينة للمصلحة، إذا رأى الإمام ذلك، ولا يعارض ذلك النهي عن قتل الكلاب، ولهذا كان عثمان بن عفان يأمر في خطبته بقتل الكلاب وذبح الحمام.

ثم دخلت سنة ست وأربعين وسبعمائة

استهلت هذه السنة وسلطان المسلمين بالديار المصرية والشامية والحرمين والبلاد الحلبية وأعمال ذلك الملك الصالح عماد الدين إسماعيل بن الناصر بن المنصور، وقضاته بالديار المصرية والشامية هم المذكورون أيضا.

وفي يوم الجمعة سادس عشر محرم كملت عمارة الجامع الذي بالمزة الفوقانية الذي جدده وأنشأه الأمير بهاء الدين المرجاني، الذي بنى والده مسجد الخيف بمنى وهو جامع حسن متسع فيه روح وانشراح، تقبل الله من بانيه، وعقدت فيه الجمعة بجمع كثير وجم غفير من أهل المزة، ومن حضر من أهل البلد، وكنت أنا الخطيب - يعني الشيخ عماد الدين المصنف تغمده الله برحمته - ولله الحمد والمنة.

ووقع كلام وبحث في اشتراط المحلل في المسابقة، وكان سببه أن الشيخ شمس الدين ابن قيم الجوزية صنف فيه مصنفا من قبل ذلك، ونصر فيه ما ذهب إليه الشيخ تقي الدين بن تيمية في ذلك.

ثم صار يفتى به جماعة من الترك ولا يعزوه إلى الشيخ تقي الدين بن تيمية، فاعتقد من اعتقد أنه قوله وهو مخالف للأئمة الأربعة، فحصل عليه إنكار في ذلك، وطلبه القاضي الشافعي، وحصل كلام في ذلك، وانفصل الحال على أن أظهر الشيخ شمس الدين بن قيم الجوزية الموافقة للجمهور.

وفاة الملك الصالح إسماعيل

في يوم الأربعاء ثالث شهر ربيع الآخر من هذه السنة أظهر موت السلطان الملك الصالح عماد الدين إسماعيل ابن الناصر بن المنصور آخر النهار، وكان قد عهد بالأمر إلى أخيه لأبويه الملك الكامل سيف الدين أبي الفتوح شعبان، فجلس على سرير المملكة يوم الخميس رابعه، وكان يوما مشهودا، ثم قدم الخبر إلى دمشق عشية الخميس ليلة الجمعة الثاني عشر منه.

وكان البريد قد انقطع عن الشام نحو عشرين يوما للشغل بمرض السلطان، فقدم الأمير سيف الدين معزا للبيعة للملك الكامل، فركب عليه الجيش لتلقيه، فلما كان صبيحة الجمعة أخذت البيعة من النائب والمقدمين وبقية الأمراء والجند للسلطان الملك الكامل بدار السعادة، ودقت البشائر وزين البلد وخطب الخطباء يومئذ للملك الكامل، جعله الله وجها مباركا على المسلمين.

وفي صبيحة يوم الاثنين الثاني والعشرين من ربيع الآخر درّس القاضي جمال الدين حسين ابن قاضي القضاة تقي الدين السبكي الشافعي بالمدرسة الشامية البرانية، نزل له أبوه عنها، واستخرج له مرسوما سلطانيا بذلك، فحضر عنده القضاة والأعيان وجماعة من الأمراء والفقهاء، وجلس بين أبيه والقاضي الحنفي، وأخذ في الدرس في قوله تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ عِلْما وَقَالَا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنَا عَلَى كَثِيرٍ مِنْ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ} الآيات 20.

وتكلم الشريف مجد الدين المتكلم في الدرس بكلام فيه نكارة وبشاعة، فشنع عليه الحاضرون، فاستنيب بعد انقضاء الدرس وحكم بإسلامه، وقد طلب إلى الديار المصرية نائب دمشق الأمير سيف الدين تغردمر وهو متمرض، انقطع عن الجمعة بسبب المرض مرات، والبريد يذهب إلى حلب لمجيء نائبها الأمير سيف الدين يلبغا لنيابة دمشق، وذكر أن الحاج أرقطيه تعين لنيابة حلب.

وفي يوم الجمعة رابع جمادى الأولى خرجت أثقال الأمير سيف الدين تغردمر النائب وخيوله وهجنه ومواليه وحواصله وطبلخاناته وأولاده في تجمل عظيم، وأبهة هائلة جدا، وخرجت المحافل والكحارات والمحفات لنسائه وبناته وأهله في هيبة عجيبة، هذا كله وهو بدار السعادة.

فلما كان من وقت السحر في يوم السبت خامسه خرج الأمير سيف الدين تغردمر بنفسه إلى الكسوة في محفة لمرضه مصحوبا بالسلامة، فلما طلعت الشمس من يومئذ قدم من حلب أستاذ دار الأمير سيف الدين يلبغا البحتاوي فتسلم دار السعادة، وفرح الناس بهم، وذهب الناس للتهنئة والتودد إليهم.

ولما كان يوم السبت الثاني عشر من جمادى الأولى خرج الجيش بكماله لتلقي نائب السلطنة الأمير سيف الدين يلبغا فدخل في تجمل عظيم، ثم جاء فنزل عند باب السر، وقبل العتبه على العادة ثم مشى إلى دار السعادة.

وفي عشية يوم الاثنين رابع عشرة قطع نائب السلطنة ممن وجب قطعه في الحبس ثلاثة عشر رجلا وأضاف إلى قطع اليد قطع الرجل من كل منهم، لما بلغه أنه تكرر من جناياتهم، وصلب ثلاثة بالمسامير ممن وجب قتله، ففرح الناس بذلك لقمعه المفسدين وأهل الشرور، والعيث والفساد.

واشتهر في العشر الأوسط من جمادى الآخرة وفاة الأمير سيف الدين تغردمر بعد وصلوه إلى الديار المصرية بأيام، وكان ذلك ليلة الخميس مستهل هذا الشهر، وذكر أنه رسم على ولده وأستاذ داره، وطلب منهم مال جزيل، فالله أعلم.

وفي يوم الاثنين ثاني عشره توفي القاضي علاء الدين بن العز الحنفي نائب الحكم ببستانه بالصالحية ودفن بها، وذلك بعد عود المدرسة الظاهرية إليه، وأخذه إياها من عمه القاضي عماد الدين إسماعيل، كما قدمنا، ولم يدرس فيها إلا يوما واحدا، وهو متمرض، ثم عاد إلى الصالحية فتمادى به مرضه إلى أن مات رحمه الله.

وخرج الركب إلى الحجاز الشريف يوم السبت حادي عشر شوال، وخرج ناس كثير من البلد، ووقع مطر عظيم جدا، ففرح الناس به من جهة أن المطر كان قليلا جدا في شهر رمضان، وهو كانون الأصم، فلما وقع هذا استبشروا به وخافوا على الحجاج ضرره، ثم تداول المطر وتتابع ولله الحمد والمنة، لكن ترحل الحجاج في أوحال كثيرة وزلق كثير، والله المسلم والمعين والحامي.

ولما استقل الحجيج ذاهبين وقع عليهم مطر شديد بين الصمين فعوقهم أياما بها، ثم تحاملوا إلى زرع فلم يصلوها إلا بعد جهد جهيد وأمر شديد، ورجع كثير منهم وأكثرهم، وذكروا أشياء عظيمة حصلت لهم من الشدة وقوة الأمطار وكثرة الأوحال، ومنهم من كان تقدم إلى أرض بصرى، فحصل لهم رفق بذلك والله المستعان.

وقيل إن نساء كثيرة من المخدرات مشين حفاة فيما بين زرع والصميين وبعد ذلك، وكان أمير الحاج سيف الدين ملك آص وقاضيه شهاب الدين بن الشجرة الحاكم بمدينة بعلبك يومئذ والله المستعان، انتهى.

ثم دخلت سنة سبع وأربعين وسبعمائة

استهلت هذه السنة وسلطان البلاد بالديار المصرية والشامية والحرمين وغير ذلك الملك الكامل سيف الدين شعبان بن الملك الناصر محمد بن الملك المنصور قلاوون، وليس له بمصر نائب، وقضاة مصر هم المذكورون في التي قبلها، ونائب دمشق الأمير سيف الدين يلبغا اليحياوي، وقضاة دمشق هم المذكورون في التي قبلها.

إلا أن قاضي القضاة عماد الدين بن إسماعيل الحنفي نزل عن القضاء لولده قاضي القضاة نجم الدين، واستقل بالولاية وتدريس النورية، وبقي والده على تدريس الريحانية.

وفي يوم الجمعة السادس عشر من المحرم من هذه السنة توفي الشيخ تقي الدين الشيخ الصالح محمد بن الشيخ محمد بن قوام بزاويتهم بالسفح، وصُلّي عليه الجمعة بجامع الأفرم، ثم دفن بالزاوية وحضره القضاة والأعيان وخلق كثير، وكان بينه وبين أخيه ستة أشهر وعشرون يوما، وهذا أشد من ذلك.

وفتحت في أول السنة القيسارية التي أنشأها الأمير سيف الدين يلبغا نائب السلطنة ظاهر باب الفرج وضمنت ضمانا باهرا بنحو من سبعة آلاف كل شهر، وداخلها قيسارية تجارة في وسطها بركة ومسجد، وظاهرها دكاكين وأعاليها بيوت للسكن.

وفي صبيحة يوم الاثنين ثاني عشر ربيع الأول: عقد مجلس بمشهد عثمان للنور الخراساني، وكان يقرأ القرآن في جامع تنكز، ويعلم الناس أشياء من فرائض الوضوء والصلاة، ادُّعي عليه فيه أنه تكلم في بعض الأئمة الأربعة، وأنه تكلم في شيء من العقائد ويطلق عبارات زائدة على ما ورد به الحديث، وشهد عليه ببعض أشياء متعددة، فاقتضى الحال أن عزّر في هذا اليوم، وطيف به في البلد، ثم رد إلى السجن معتقلا.

فلما كان يوم الخميس الثاني عشرين منه شفع فيه الأمير أحمد بن مهنا ملك العرب عند نائب السلطنة فاستحضره بين يديه وأطلقه إلى أهله وعياله.

ولما كان تاريخ يوم الجمعة ثالث عشر جمادى الأولى صلّى نائب السلطنة الأمير سيف الدين يلبغا اليحياوي الناصري بجامع تنكز ظاهر دمشق برا باب النصر، وصلّى عنده القاضي الشافعي والمالكي وكبار الأمراء.

ولما أقيمت الصلاة صلّى وقعد بعض ممالكيه عن الصلاة ومعه السلاح حراسة له، ثم لما انصرف من الصلاة اجتمع بالأمراء المذكورين وتشاوروا طويلا، ثم نهض النائب إلى دار السعادة.

فلما كان آخر النهار برز بخدمه ومماليكه وحشمه ووطاقه وسلاحه وحواصله، ونزل قبلي مسجد القدم وخرج الجند والأمراء في آخر النهار وانزعج الناس، واتفق طلوع القمر خاسفا.

ثم خرج الجيش ملبسا تحت الثياب وعليه التراكيس بالنشاب والخيول والجنابات، ولا يدري الناس ما الخبر، وكان سبب ذلك أن نائب السلطنة بلغه أن نائب صفد قد ركب إليه ليقبض عليه، فانزعج لذلك وقال: لا أموت إلا على ظهر أفراسي، لا على فراشي.

وخرج الجند والأمراء خوفا من أن يفوتهم بالفرار، فنزلوا يمنة ويسرة، فلم يذهب من تلك المنزلة بل استمر بها يعمل النيابة ويجتمع بالأمراء جماعة وفرادى، ويستميلهم إلى ما هو فيه من الرأي، وهو خلع الملك الكامل شعبان لأنه يكثر من مسك الأمراء بغير سبب، ويفعل أفعالا لا تليق بمثله.

وذكروا أمورا كثيرة، وأن يولوا أخاه أمير حاجبي بن الناصر لحسن شكالته وجميل فعله، ولم يزل يفتلهم في الذروة والغارب حتى أجابوه إلى ذلك، ووافقوه عليه، وسلموا له ما يدعيه، وتابعوا على ما أشار إليه وبايعوه.

ثم شرع في البعث إلى نواب البلاد يستميلهم إلى ما مالأ عليه الدمشقيون وكثير من المصريين.

وشرع أيضا في التصرف في الأمور العامة الكلية، وأخرج بعض من كان الملك الكامل اعتقله بالقلعة المنصورة، ورد إليه إقطاعه بعد ما بعث الملك الكامل إلى من أقلعه منشورة، وعزل وولىّ وأخذ وأعطى.

وطلب التجار يوم الأربعاء ثامن عشرة ليباع عليهم غلال الحواصل السلطانية فيدفعوا أثمانها في الحال، ثم يذهبوا فيتسلموها من البلاد البرانية، وحضر عنده القضاة على العادة والأمراء والسادة، وهذا كله وهو مخيم بالمكان المذكور، لا يحصره بلد ولا يحويه سور.

وفي يوم الخميس رابع جمادى الآخرة خرجت تجريدة نحو عشرة طليعة لتلقي من يقدم من الديار المصرية من الأمراء وغيرهم، ببقاء الأمر على ما كان عليه، فلم يصدقهم النائب، وربما عاقب بعضهم، ثم رفعهم إلى القلعة، وأهل دمشق ما بين مصدق باختلاف المصريين وما بين قائل السلطان الكامل قائم الصورة مستمر على ما كان عليه، والتجاريد المصرية واصلة قريبا، ولا بد من وقوع خبطة عظيمة. وتشوشت أذهان الناس وأحوالهم بسبب ذلك، والله المسؤول أن يحسن العاقبة.

وحاصل القضية أن العامة ما بين تصديق وتكذيب، ونائب السلطنة وخواصه من كبار الأمراء على ثقة من أنفسهم، وأن الأمراء على خلاف شديد في الديار المصرية بين السلطان الكامل شعبان وبين أخيه أمير حاجي، والجمهور مع أخيه أمير حاجي.

ثم جاءت الأخبار إلى النائب بأن التجاريد المصرية خرجت تقصد الشام ومن فيه من الجند لتوطد الأمر، ثم إنه تراجعت رؤوس الأمراء في الليل إلى مصر واجتمعوا إلى إخوانهم ممن هو ممالىء لهم على السلطان، فاجتمعوا ودعوا إلى سلطنة أمير حاجي وضربت الطبلخانات وصارت باقي النفوس متجاهرة على نية تأييده، ونابذوا السلطان الكامل، وعدّوا عليه مساويه، وقتل بعض الأمراء، وفر الكامل وأنصاره فاحتيط عليه.

وخرج أرغون العلائي زوج ابنته واستظهر أيضا أمير حاجي فأجلسوه على السرير ولقبوه بالملك المظفر، وجاءت الأخبار إلى النائب بذلك، فضربت البشائر عنده، وبعث إلى نائب القلعة فامتنع من ضربها.

وكان قد طلب إلى الوطاق فامتنع من الحضور، وأغلق باب القلعة، فانزعج الناس واختبط البلد، وتقلص وجود الخير، وحصنت القلعة ودعوا للكامل بكرة وعشية على العادة، وأرجف العامة بالجيش على عادتهم في كثرة فصولهم، فحصل لبعضهم أذية.

فلما كان يوم الاثنين ثامن الشهر قدم نائب حماه إلى دمشق مطيعا لنائب السلطنة في تجمل وأبهة، ثم أجريت له عادة أمثاله.

وفي هذا اليوم: وقعت بطاقة بقدوم الأمير سيف الدين بيغرا حاجب الحجاب بالديار المصرية لأجل البيعة للسلطان الملك المظفر، فدقت البشائر بالوطاق، وأمر بتزيين البلد، فزين الناس وليسوا منشرحين، وأكثرهم يظن أن هذا مكر وخديعة، وأن التجاريد المصرية واصلة قريبا.

وامتنع نائب القلعة من دق البشائر وبالغ في تحصين القلعة، وغلق بابها، فلا يفتح إلا الخوخة البرانية والجوانية، وهذا الصنيع هو الذي يشوش خواطر العامة، يقولون: لو كان ثم شيء له صحة كان نائب القلعة يطلع على هذا قبل الوطاق.

فلما كان يوم الثلاثاء بعد الزوال، قدم الأمير سيف الدين بيغرا إلى الوطاق، وقد تلقوه وعظموه، ومعه تقليد النيابة من المظفر إلى الأمير سيف الدين يلبغا نائب السلطنة، وكتاب إلى الأمراء بالسلام.

ففرحوا بذلك وبايعوه وانضمت الكلمة ولله الحمد.

وركب بيغرا إلى القلعة فترجل وسل سيفه ودخل إلى نائب القلعة فبايعه سريعا، ودقت البشائر في القلعة بعد المغرب، حين بلغه الخبر، وطابت أنفس الناس، ثم أصبحت القلعة في الزينة وزادت الزينة في البلد وفرح الناس.

فلما كان يوم الخميس حادي عشر الشهر دخل نائب السلطنة من الوطاق إلى البلد والأطلاب بين يديه في تجمل وطبلخانات على عادة العرض، وقد خرج أهل البلد إلى الفرجة، وخرج أهل الذمة بالتوراة، وأشعلت الشموع، وكان يوما مشهودا.

وقد صلى في شهر رمضان من هذه السنة بالشامية البرانية صبي عمره ست سنين، وقد رأيته وامتحنته فإذا هو يجيد الحفظ والأداء، وهذا من أغرب ما يكون.

وفي العشر الأول من هذا الشهر فرغ من بناء الحمامين الذي بناهما نائب السلطنة بالقرب من الثابتية في خان السلطان العتيق، وما حولها من الرباع والقرب وغير ذلك.

وفي يوم الأحد حادي عشره اجتمع نائب السلطنة والقضاة الأربعة ووكيل بيت المال والدولة عند تل المستقين، من أجل أن نائب السلطنة قد عزم على بناء هذه البقعة جامعا بقدر جامع تنكز. فاشتوروا هنالك، ثم انفصل الحال على أن يعمل والله ولي التوفيق.

وفي يوم الخميس ثالث ذي القعدة صلّي على الشيخ زين الدين عبد الرحمن بن تيمية، أخو الشيخ تقي الدين رحمهما الله تعالى.

وفي يوم السبت ثاني عشرة توفي الشيخ علي القطناني بقطنا، وكان قد اشتهر أمره في هذه السنين، واتبعه جماعة من الفلاحين والشباب المنتمين إلى طريقة أحمد ابن الرفاعي، وعظم أمره وسار ذكره، وقصده الأكابر للزيارة مرات.

وكان يقيم السماعات على عادة أمثاله، وله أصحاب يظهرون إشارة باطلة، وأحوالا مفتعلة، وهذا مما كان ينقم عليه بسببه، فإنه إن لم يكن يعلم بحالهم فجاهل، وإن كان يقرهم على ذلك فهو مثلهم، والله سبحانه وتعالى أعلم.

وفي أواخر هذا الشهر - أعني ذي الحجة من العيد وما بعده - اهتم ملك الأمراء في بناء الجامع الذي بناه تحت القلعة وكان تل المستقين، وهدم ما كان هناك من أبنية، وعملت العجل وأخذت أحجار كثيرة من أرجاء البلد. وأكثر ما أخذت الأحجار من الرحبة التي للمصريين، من تحت المئذنة التي في رأس عقبة الكتاب، وتيسر منها أحجار كثيرة، والأحجار أيضا من جبل قاسيون وحمل على الجمال وغيرها.

وكان سلخ هذه السنة - أعني سنة سبع وأربعين وسبعمائة - قد بلغت غرارة القمح إلى مائتين فما دونها، وربما بيعت بأكثر من ذلك، فإنا لله وإنا إليه راجعون.

ثم دخلت سنة ثمان وأربعين وسبعمائة

استهلت هذه السنة وسلطان البلاد المصرية والشامية والحرمين وغير ذلك الملك المظفر أمير حاجي بن الملك الناصر محمد بن قلاوون، ونائبه بالديار المصرية الأمير سيف الدين أرقطية، وقضاة مصر هم الذين كانوا في الماضية بأعيانهم، ونائبه بالشام المحروسة سيف الدين يلبغا الناصري، وقضاة الشام هم المذكورون في التي قبلها بأعيانهم، غير أن القاضي عماد الدين الحنفي نزل لولده قاضي القضاة نجم الدين، فباشر في حياة أبيه، وحاجب الحجاب فخر الدين إياس.

واستهلت هذه السنة ونائب السلطنة في همة عالية في عمارة الجامع الذي قد شرع في بنائه غربي سوق الخيل، بالمكان الذي كان يعرف بالتل المستقين.

وفي ثالث المحرم توفي قاضي القضاة شرف الدين محمد بن أبي بكر الهمداني المالكي، وصلّي عليه بالجامع، ودفن بتربته بميدان الحصا، وتأسف الناس عليه لرياسته وديانته وأخلاقه وإحسانه إلى كثير من الناس رحمه الله.

وفي يوم الأحد الرابع والعشرين من المحرم وصل تقليد قضاء المالكية للقاضي جمال الدين المسلاتي الذي كان نائبا للقاضي شرف الدين قبله، وخلع عليه من آخر النهار.

وفي شهر ربيع الأول أخذوا لبناء الجامع المجدد بسوق الخيل، أعمدة كثيرة من البلد، فظاهر البلد يعلقون ما فوقه من البناء ثم يأخذونه ويقيمون بدله دعامة، وأخذوا من درب الصيقل وأخذوا العمود الذي كان بسوق العلبيين الذي في تلك الدخلة على رأسه مثل الكرة فيها حديد.

وقد ذكر الحافظ ابن عساكر: أنه كان فيه طلسم لعسر بول الحيوان إذا داروا بالدابة ينحل أراقيها.

فلما كان يوم الأحد السابع والعشرين من ربيع الأول من هذه السنة قلعوه، من موضعه بعد ما كان له في هذا الموضع نحوا من أربعة آلاف سنة والله أعلم.

وقد رأيته في هذا اليوم وهو ممدود في سوق العلبيين على الأخشاب ليجروه إلى الجامع المذكور من السوق الكبير، ويخرجوا به من باب الجابية الكبير، فلا إله إلا الله.

وفي أواخر شهر ربيع الأخر ارتفع بناء الجامع الذي أنشأه النائب وجفت العين التي كانت تحت جداره حين أسسوه ولله الحمد.

وفي سلخ ربيع الآخر وردت الأخبار من الديار المصرية بمسك جماعة من أعيان الأمراء كالحجازي وآقسنقر الناصري، ومن لف لفهما، فتحرك الجند بالشام ووقعت خبطة، ثم استهل شهر جمادى الأولى والجند في حركة شديدة، ونائب السلطنة يستدعي الأمراء إلى دار السعادة بسبب ما وقع بالديار المصرية، وتعاهد هؤلاء على أن لا يؤذي أحد، وأن يكونوا يدا واحدة.

وفي هذا اليوم تحول ملك الأمراء من دار السعادة إلى القصر الأبلق واحترز لنفسه، وكذلك حاشيته.

وفي يوم الأربعاء الرابع عشر منه قدم أمير من الديار المصرية على البريد ومعه كتاب من السلطان فيه التصريح بعزل ملك الأمراء يلبغا نائب الشام، فقرئ عليه بحضرة الأمراء بالقصر الأبلق، فتغمم لذلك وساءه.

وفيه طلبه إلى الديار المصرية على البريد ليوليّ نيابة الديار المصرية، والظاهر أن ذلك خديعة له، فأظهر الامتناع، وأنه لا يذهب إلى الديار المصرية أبدا، وقال: إن كان السلطان قد استكثر عليّ ولاية دمشق فيوليني أي البلاد شاء، فأنا راضٍ بها.

ورد الجواب بذلك، ولما أصبح من الغد وهو يوم الخميس وهو خامس عشره، ركب فخيم قريبا من الجسورة في الموضع الذي خيم فيه عام أول.

وفي الشهر أيضا كما تقدم، فبات ليلة الجمعة وأمر الأمراء بنصب الخيام هنالك على عادتهم عام أول.

فلما كان يوم الجمعة سادس عشره بعد الصلاة ما شعر الناس إلا والأمراء، قد اجتمعوا تحت القلعة وأحضروا من القلعة سنجقين سلطانيين أصفرين، وضربوا الطبول حربيا، فاجتمعوا كلهم تحت السنجق السلطاني، ولم يتأخر منهم سوى النائب وذويه كابنيه وإخوته وحاشيته، والأمير سيف الدين قلاوون أحد مقدمي الألوف وخبره أكبر أخبار الأمراء بعد النيابة.

فبعث إليه الأمراء أن هلم إلى السمع والطاعة للسلطان، فامتنع من ذلك وتكررت الرسل بينهم وبينه فلم يقبل، فساروا إليه في الطبلخانات والبوقات ملبسين لأمة الحرب.

فلما انتهوا إليه وجدوه قد ركب خيوله ملبسا واستعد للهرب، فلما واجههم هرب هو ومن معه وفروا فرار رجل واحد، وساق الجند وراءه فلم يكتنفوا له غبارا، وأقبل العامة وتركمان القبيبات، فانتهبوا ما بقي في معسكره من الشعير والأغنام والخيام، حتى جعلوا يقطعون الخيام والأطناب قطعا قطعا، فعدم له ولأصحابه من الأمتعة ما يساوي ألف ألف درهم، وانتدب لطلبه والمسير وراءه الحاجب الكبير الذي قدم من الديار المصرية قريبا شهاب الدين بن صبح، أحد مقدمي الألوف فسار على طريق الأشرفية ثم عدل إلى ناحية القريتين.

ولما كان يوم الأحد، قدم الأمير فخر الدين إياس نائب صفد فيها فتلقاه الأمراء والمقدمون، ثم جاء فنزل القصر وركب من آخر النهار في الجحافل، ولم يترك أحدا من الجند بدمشق إلا ركب معه وساق وراء يلبغا فانبرا نحو البرية.

فجعلت الأعراب يعترضونه من كل جانب، وما زالوا يكفونه حتى سار نحو حماة، فخرج نائبها وقد ضعف أمره جدا، هو وكل ومن معه من كثرة السوق ومصاولة الأعداء من كل جانب، فأُلقيَ بيده وأخذ سيفه وسيوف من معه واعتقلوا بحماه، وبعث بالسيوف إلى الديار المصرية.

وجاء الخبر إلى دمشق صبيحة يوم الأربعاء رابع عشر هذا الشهر، فضربت البشائر بالقلعة وعلى باب الميادين على العادة، وأحدقت العساكر بحماه من كل جانب ينتظرون ما رسم به السلطان من شأنه، وقام إياس بجيش دمشق على حمص، وكذلك جيش طرابلس، ثم دخلت العساكر راجعة إلى دمشق يوم الخميس التاسع والعشرين من الشهر.

وقدم يلبغا وهو مقيد على كديش هو وأبوه وحوله الأمراء الموكلون به ومن معه من الجنود، فدخلوا به بعد عشاء الآخرة فاجتازوا به فم السبعة بعد ما غلقت الأسواق، وطفئت السرج، وغلقت الطاقات، ثم مروا على الشيخ رسلان والباب الشرقي على باب الصغير، ثم من عند مسجد الديان على المصلّى، واستمروا ذاهبين نحو الديار المصرية.

وتواترت البريدية من السلطان بما رسم به في أمره وأصحابه الذين خرجوا معه من الاحتياط على حواصلهم وأموالهم وأملاكهم وغير ذلك.

وقدم البريد من الديار المصرية يوم الأربعاء ثالث جمادى الآخرة، فأخبر بقتل يلبغا فيما بين قاقون وغبرة، وأخذت رؤوسهما إلى السلطان وكذلك قتل بغبرة الأمراء الثلاثة الذين خرجوا من مصر وحاكم الوزير ابن سرد ابن البغدادي، والدوادار طغيتمر وبيدمر البدري، أحد المقدمين، كان قد نقم عليه السلطان ممالأة يلبغا، فأخرجهم من مصر مسلوبين جميع أموالهم وسيرهم إلى الشام.

فلما كانوا بغزة لحقهم البريد بقتلهم حيث وجدهم، وكذلك رسم بقتل يلبغا حيث التقاه من الطريق، فلما انفصل البريد من غزة التقى يلبغا في طريق وادي فحمة فخنقه ثم احتز رأسه وذهب به إلى السلطان.

وقدم أميران من الديار المصرية بالحوطة على حوصال يلبغا وطواشي من بيت المملكة، فتسلم مصاغا وجواهر نفيسة جدا، ورسم ببيع أملاكه وما كان وقفه على الجامع الذي كان قد شرع بعمارته بسوق الخيل، وكان قد اشتهر أنه وقف عليه القيسارية التي كان أنشأها ظاهر باب الفرج، والحمامين المتجاورين ظاهر باب الجابية غربي خان السلطان العتيق، وخصصا في قرايا أخرى كان قد استشهد على نفسه بذلك قبل ذلك فالله أعلم.

ثم طلب بقية أصحابه من حماه فحملوا إلى الديار المصرية وعدم خبرهم، فلا يدري على أي صفة هلكوا.

وفي صبيحة يوم الثلاثاء الثامن عشر من جمادى الآخرة من هذه السنة دخل الأمير سيف الدين أرغون شاه دمشق المحروسة نائبا عليها، وكان قدومه من حلب، انفصل عنها وتوجه إليها الأمير فخر الدين إياس الحاجب، فدخلها أرغون شاه في أبهة وعليه خلعة وعمامة بطرفين، وهو قريب الشكل من تنكز رحمه الله فنزل دار السعادة وحكم بها، وفيه صرامة وشهامة.

وفي يوم الخميس الثالث والعشرين منه صلّي على الأمير قراسنقر بالجامع الأموي وظاهر باب النصر، وحضر القضاة والأعيان والأمراء، ودفن بتربته بميدان الحصا بالقرب من جامع الكريمي.

وعملت ليلة النصف على العادة من إشعال القناديل ولم يشعل الناس لما هم فيه من الغلاء وتأخر المطر وقلة الغلة، كل رطل إلا وقية بدرهم، وهو متغير، وسائر الأشياء غالية. والزيت كل رطل بأربعة ونصف، ومثله الشيرج والصابون والأرز والعنبريس كل رطل بثلاثة، وسائر الأطعمات على هذا النحو، وليس شيء قريب الحال سوى اللحم بدرهمين وربع، ونحو ذلك.

وغالب أهل حوران يردون من الأماكن البعيدة ويجلبون القمح للمؤنة والبدار من دمشق، وبيع عندهم القمح المغربل كل مد بأربعة دراهم، وهم في جهد شديد، والله هو المأمول المسئول.

وإذا سافر أحد يشق عليه تحصيل الماء لنفسه ولفرسه ودابته، لأن المياه التي في الدرب كلها نفدت، وأما القدس فأشد حالا وأبلغ في ذلك.

ولما كان العشر الأخير من شعبان من هذه السنة منّ الله سبحانه وتعالى وله الحمد والمنة على عباده بإرسال الغيث المتدارك الذي أحيى العباد والبلاد، وتراجع الناس إلى أوطانهم لوجود الماء في الأودية والغدران، وامتلأت بركة زرع بعد أن لم يكن فيها قطرة.

وجاءت بذلك البشائر إلى نائب السلطنة، وذكر أن الماء عم البلاد كلها، وأن الثلج على جبل بني هلال كثير، وأما الجبال التي حول دمشق فعليها ثلوج كثيرة جدا، واطمأنت القلوب وحصل فرج شديد ولله الحمد والمنة، وذلك في آخر يوم بقي من تشرين الثاني.

وفي يوم الثلاثاء الحادي والعشرين من رمضان توفي الشيخ عز الدين محمد الحنبلي بالصالحية، وهو خطيب الجامع المظفري، وكان من الصالحين المشهورين رحمه الله، وكان كثيرا ما يلقن الأموات بعد دفنهم، فلقنه الله حجته وثبته بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة.

مقتل المظفر وتولية الناصر حسن بن الناصر

وفي العشر الأخير من رمضان جاء البريد من نائب غزة إلى نائب دمشق بقتل السلطان الملك المظفر حاجي بن الناصر محمد، وقع بينه وبين الأمراء فتحيزوا عنه إلى قبة النصر فخرج إليهم في طائفة قليلة فقتل في الحال وسحب إلى مقبرة هناك، ويقال: قطع قطعا، فإنا لله وإنا إليه راجعون.

ولما كان يوم الجمعة آخر النهار ورد من الديار المصرية أمير للبيعة لأخيه السلطان الناصر حسن بن السلطان الناصر محمد بن قلاوون، فدقت البشائر في القلعة المنصورة، وزين البلد بكماله ولله الحمد في السعة الراهنة من أمكن من الناس، وما أصبح صباح يوم السبت إلا زين البلد بكماله ولله الحمد على انتظام الكلمة، واجتماع الألفة.

وفي يوم الثلاثاء العشرين من شوال قدم الأمير فخر الدين إياس نائب حلب محتاطا عليه، فاجتمع بالنائب في دار السعادة، ثم أُدخل القلعة مضيقا عليه، ويقال: إنه قد فوض أمره إلى نائب دمشق، فمهما فعل فيه فقد أمضى له، فأقام بالقلعة المنصورة نحوا من جمعة، ثم أركب على البريد ليسار به إلى الديار المصرية، فلم يدر ما فعل به.

وفي ليلة الاثنين ثالث شهر ذي القعدة، توفي الشيخ الحافظ الكبير مؤرخ الإسلام وشيخ المحدثين شمس الدين أبو عبد الله محمد بن عثمان الذهبي بتربة أم الصالح، وصلّي عليه يوم الاثنين صلاة الظهر في جامع دمشق ودفن بباب الصغير، وقد ختم به شيوخ الحديث وحفاظه رحمه الله.

وفي يوم الأحد سادس عشر ذي القعدة حضرت تربة أم الصالح رحم الله واقفها عوضا عن الشيخ شمس الدين الذهبي، وحضر جماعة من أعيان الفقهاء وبعض القضاة، وكان درسا مشهودا ولله الحمد والمنة.

أوردت فيه حديث أحمد: عن الشافعي، عن مالك، عن الزهري، عن عبد الرحمن بن كعب بن مالك، عن أبيه أن رسول قال: «إنما نسمة المؤمن طائر معلق في شجر الجنة حتى يرجعه إلى جسده يوم يبعثه».

وفي يوم الأربعاء تاسع عشره أمر نائب السلطنة بجماعة انتهبوا شيئا من الباعة فقطعوا أحد عشر منهم، وسمر عشرة تسميرا تعزيرا وتأديبا انتهى والله أعلم.

ثم دخلت سنة تسع وأربعين وسبعمائة

استهلت وسلطان البلاد المصرية والشامية الملك الناصر ناصر الدين حسن بن الملك المنصور ونائبه بالديار المصرية الأمير سيف الدين يلبغا، ووزيره منجك، وقضاته عز الدين بن جماعة الشافعي وتقي الدين الأخنائي المالكي، وعلاء الدين بن التركماني الحنفي، وموفق الدين المقدسي الحنبلي. وكاتب سره القاضي علاء الدين بن محيي الدين بن فضل الله العمري، ونائب الشام المحروس بدمشق الأمير سيف الدين أرغون شاه الناصري، وحاجب الحجاب الأمير طيردمر الإسماعيلي، والقضاة بدمشق قاضي القضاة تقي الدين السبكي الشافعي، وقاضي القضاة نجم الدين الحنفي، وقاضي القضاة جلال الدين المسلاتي المالكي، وقاضي القضاة علاء الدين بن منجا الحنبلي. وكاتب سره القاضي ناصر الدين الحلبي الشافعي، وهو قاضي العساكر بحلب، ومدّرس الأسدية بها أيضا، مع إقامته بدمشق المحروسة.

وتواترت الأخبار بوقوع البلاء في أطراف البلاد، فذكر عن بلاد القرم أمر هائل وموتان فيهم كثير. ثم ذكر أنه انتقل إلى بلاد الفرنج حتى قيل: إن أهل قبرص مات أكثرهم أو يقارب ذلك. وكذلك وقع بغزة أمر عظيم، وقد جاءت مطالعة نائب غزة إلى نائب دمشق أنه مات من يوم عاشوراء إلى مثله من شهر صفر نحو من بضعة عشر ألفا، وقرئ البخاري في يوم الجمعة بعد الصلاة سابع ربيع الأول في هذه السنة، وحضر القضاة وجماعة من الناس، وقر أربعة بعد ذلك المقرؤن، ودعا الناس برفع الوباء عن البلاد.

وذلك أن الناس لما بلغهم من حلول هذا المرض في السواحل، وغيرها من أرجاء البلاد يتوهمون ويخافون وقوعه بمدينة دمشق، حماها الله وسلمها مع أنه قد مات جماعة من أهلها بهذا الداء.

وفي صبحية يوم تاسعه: اجتمع الناس بمحراب الصحابة وقرأوا متوزعين سورة نوح ثلاثة آلاف مرة وثلاثمائة وثلاثة وستين مرة، عن رؤيا رجل أنه رأى رسول الله أرشده إلى قراءة ذلك كذلك.

وفي هذا الشهر أيضا: كثر الموت في الناس بأمراض الطواعين وزاد الأموات كل يوم على المائة، فإنا لله وإنا إليه راجعون.

وإذا وقع في أهل بيت لا يكاد يخرج منه حتى يموت أكثرهم، ولكنه بالنظر إلى كثرة أهل البلد قليل.

وقد توفي في هذه الأيام من هذا الشهر خلقٌ كثير وجمٌ غفير، ولا سيما من النساء، فإن الموت فيهن أكثر من الرجال بكثير كثير، وشرع الخطيب في القنوت بسائر الصلوات والدعاء برفع الوباء من المغرب ليلة الجمعة سادس شهر ربيع الآخر من هذه السنة، وحصل للناس بذلك خضوع وخشوع وتضرع وإنابة. وكثرت الأموات في هذا الشهر جدا، وزادوا على المائتين في كل يوم، فإنا لله وإنا إليه راجعون.

وتضاعف عدد الموتى منهم، وتعطلت مصالح الناس، وتأخرت الموتى عن إخراجهم، وزاد ضمان الموتى جدا فتضرر الناس ولا سيما الصعاليك، فإنه يؤخذ على الميت شيءٌ كثير جدا، فرسم نائب السلطنة بإبطال ضمان النعوش والمغسلين والحمالين، ونودي بإبطال ذلك في يوم الاثنين سادس عشر ربيع الآخر، ووقف نعوش كثيرة في أرجاء البلد واتسع الناس بذلك، ولكن كثرت الموتى، فالله المستعان.

وفي يوم الاثنين الثالث والعشرين منه نودي في البلد أن يصوم الناس ثلاثة أيام وأن يخرجوا في اليوم الرابع وهو يوم الجمعة إلى عند مسجد القدم يتضرعون إلى الله ويسألونه في رفع الوباء عنهم، فصام أكثر الناس ونام الناس في الجامع، وأحيوا الليل كما يفعلون في شهر رمضان.

فلما أصبح الناس يوم الجمعة السابع والعشرين منه خرج الناس يوم الجمعة من كل فجٍ عميق، واليهود والنصارى والسامرة، والشيوخ والعجائز والصبيان، والفقراء والأمراء والكبراء والقضاة من بعد صلاة الصبح، فما زالوا هنالك يدعون الله تعالى حتى تعالى النهار جدا، وكان يوما مشهودا.

وفي يوم الخميس عاشر جمادى الأولى: صلى الخطيب بعد صلاة الظهر على ستة عشر ميتا جملة واحدة، فتهول الناس من ذلك وانذعروا، وكان الوباء يومئذٍ كثيرا، ربما يقارب الثلاثمائة بالبلد وحواضره، فإنا لله وإنا إليه راجعون.

وصلى بعد صلاة على خمسة عشر ميتا بجامع دمشق، وصلى على إحدى عشر نفسا رحمهم الله.

وفي يوم الاثنين الحادي والعشرين منه رسم نائب السلطنة بقتل الكلاب من البلد، وقد كانت كثيرة بأرجاء البلد وربما ضرت الناس وقطعت عليهم الطرقات في أثناء الليل، أما تنجيسها الأماكن فكثير، قد عم الابتلاء به وشق الاحتراز منه.

وقد جمعت جزءا من الأحاديث الواردة في قتلهم، واختلاف الأئمة في نسخ ذلك.

وقد كان عمر رضي الله عنه يأمر في خطبته بذبح الحمام وقتل الكلاب، ونص مالك في رواية ابن وهب على جواز قتل كلاب بلدة بعينها، إذا أذن الإمام في ذلك للمصلحة.

وفي يوم الاثنين الثامن والعشرين منه توفي زين الدين عبد الرحمن بن شيخنا الحافظ المزي، بدار الحديث النورية وهو شيخها، ودفن بمقابر الصوفية على والده.

وفي منتصف شهر جمادى الآخرة قوي الموت وتزايد وبالله المستعان، ومات خلائق من الخاصة والعامة ممن نعرفهم وغيرهم رحمهم الله وأدخلهم جنته، وبالله المستعان.

وكان يصلى في أكثر الأيام في الجامع على أزيد من مائة ميت فإنا لله وإنا إليه راجعون، وبعض الموتى لا يؤتى بهم إلى الجامع، وأما حول البلد وأرجائها فلا يعلم عدد من يموت بها إلا الله عز وجل رحمهم الله آمين.

وفي يوم الاثنين السابع والعشرين منه توفي الصدر شمس الدين بن الصباب التاجر السفّارباتي المدرسة الصابية، التي هي دار قرآن بالقرب من الظاهرية، وهي قبلي العادلية الكبيرة، وكانت هذه البقعة برهة من الزمان خربة شنيعة، فعمرها هذا الرجل وجعلها دار قرآن ودار حديث للحنابلة، ووقف هو وغيره عليها أوقافا جيدة رحمه الله تعالى.

وفي يوم الجمعة ثامن شهر رجب صلّي بعد الجمعة بالجامع الأموي على غائب: على القاضي علاء الدين ابن قاضي شهبة، ثم صلّي على إحدى وأربعين نفسا جملة واحدة، فلم يتسع داخل الجامع لصفهم بل خرجوا ببعض الموتى إلى ظاهر باب السر، وخرج الخطيب والنقيب فصلى عليهم كلهم هناك، وكان وقتا مشهودا، وعبرة عظيمة، فإنا لله وإنا إليه راجعون.

وفي هذا اليوم توفي التاجر المسمى: بافريدون، الذي بنى المدرسة التي بظاهر باب الجابية تجاه تربة بهادرآص، حائطها من حجارة ملونة، وجعلها دارا للقرآن العظيم ووقف عليها أوقافا جيدة، وكان مشهورا مشكورا رحمه الله وأكرم مثواه.

وفي يوم السبت ثالث رجب صلّي على الشيخ علي المغربي أحد أصحاب الشيخ تقي الدين بن تيمية بالجامع الأفرمي بسفح قاسيون، ودفن بالسفح رحمه الله، وكانت له عبادة وزهادة وتقشف وورع ولم يتول في هذه الدنيا وظيفة بالكلية ولم يكن له مال؛ بل كان يأتي بشيء من الفتوح يستنفقه قليلا قليلا، وكان يعاني التصوف، وترك زوجة وثلاثة أولاد رحمه الله.

وفي صبيحة يوم الأربعاء سابع رجب صلّي على القاضي زين الدين بن النجيح نائب القاضي الحنبلي، بالجامع المظفري، ودفن بسفح قاسيون، وكان مشكورا في القضاء، لديه فضائل كثيرة، وديانة وعبادة، وكان من أصحاب الشيخ تقي الدين بن تيمية، وكان قد وقع بينه وبين القاضي الشافعي مشاجرات بسبب أمور، ثم اصطلحا فيما بعد ذلك.

وفي يوم الاثنين ثاني عشره بعد أذان الظهر حصل بدمشق وما حولها ريح شديدة أثارت غبارا شديدا اصفر الجو منه ثم اسود حتى أظلمت الدنيا، وبقي الناس في ذلك نحوا من ربع ساعة يستجيرون الله ويستغفرون ويبكون، مع ما هم فيه من شدة الموت الذريع، ورجا الناس أن هذا الحال يكون ختام ما هم فيه من الطاعون، فلم يزدد الأمر إلا شدة، وبالله المستعان.

وبلغ المصلى عليهم في الجامع الأموي إلى نحو المائة وخمسين، وأكثر من ذلك، خارجا عمن لا يؤتى بهم إليه من أرجاء البلد وممن يموت من أهل الذمة، وأما حواضر البلد وما حولها فأمر كثير، يقال إنه بلغ ألفا في كثير من الأيام، فإنا لله وإنا إليه راجعون.

وصلّي بعد الظهر من هذا اليوم بالجامع المظفري على الشيخ إبراهيم بن المحب، الذي كان يحدث في الجامع الأموي وجامع تنكز، وكان مجلسه كثير الجمع لصلاحه وحسن ما كان يؤديه من المواعيد النافعة، ودفن بسفح قاسيون، وكانت جنازته حافلة رحمه الله.

وعملت المواعيد بالجامع الأموي ليلة سبع وعشرين من رجب، يقولون ليلة المعراج، ولم يجتمع الناس فيه على العادة لكثرة من مات منهم، ولشغل كثير من الناس بمرضاهم وموتاهم.

واتفق في هذه الليلة أنه تأخر جماعة من الناس في الخيم ظاهر البلد فجاؤوا ليدخلوا من باب النصر على عادتهم في ذلك، فكأنه اجتمع خلق منهم بين البابين فهلك كثير منهم كنحو ما يهلك الناس في هذا الحين على الجنائز، فانزعج نائب السلطنة فخرج فوجدهم فأمر بجمعهم.

فلما أصبح الناس أمر بتسميرهم، ثم عفا عنهم وضرب متولي البلد ضربا شديدا، وسمر نائبه في الليل، وسمر البواب بباب النصر، وأمر أن لا يمشي أحد بعد عشاء الآخرة، ثم تسمح لهم في ذلك.

واستهل شهر شعبان والفناء في الناس كثير جدا، وربما أنتنت البلد، فإنا لله وإنا إليه راجعون.

وتوفي الشيخ شمس الدين بن الصلاح مدرّس القيمرية الكبيرة بالمطرزيين، يوم الخميس ثالث عشر شعبان.

وفي يوم الجمعة رابع عشر شعبان صُلّي بعد الصلاة على جماعة كثيرة، منهم القاضي عماد الدين بن الشيرازي، محتسب البلد، وكان من أكابر رؤساء دمشق، وولي نظر الجامع مدة، وفي بعض الأوقات نظر الأوقاف، وجمع له في وقت بينهما، ودفن بسفح قاسيون.

وفي العشر الأخير من شهر شوال توفي الأمير قرابغا دويدار النائب، بداره غربي حكر السماق، وقد أنشأ له إلى جانبها تربة ومسجدا، وهو الذي أنشأ السويقة المجددة عند داره، وعمل لها بابين شرقيا وغربيا، وضمنت بقيمة كثيرة بسبب جاهه، ثم بارت وهجرت لقلة الحاجة إليها.

وحضر الأمراء والقضاة والأكابر جنازته، ودفن بتربته هناك، وترك أموالا جزيلة وحواصل كثيرة جدا، أخذه مخدومة نائب السلطنة.

وفي يوم الثلاثاء سابع شهر ذي القعدة توفي خطيب الجامع، الخطيب تاج الدين عبد الرحيم ابن القاضي جلال الدين محمد بن عبد الرحيم القزويني، بدار الخطابة، مرض يومين وأصابه ما أصاب الناس من الطاعون، وكذلك عامة أهل بيته من جواريه وأولاده، وتبعه أخوه بعد يومين صدر الدين عبد الكريم.

وصلّي على الخطيب تاج الدين بعد الظهر يومئذ عند باب الخطابة ودفن بتربتهم بالصوفية عند أبيه وأخويه بدر الدين محمد، وجمال الدين عبد الله رحمهم الله.

وفي يوم الخميس تاسعه اجتمع القضاة وكثير من الفقهاء المفتيين عند نائب السلطنة بسبب الخطابة، فطلب إلى المجلس الشيخ جمال الدين بن محمود بن جملة فولاه إياها نائب السلطنة، وانتزعت من يده وظائف كان يباشرها، ففرقت على الناس فولى القاضي بهاء الدين أبو البقاء تدريس الظاهرية البرانية، وتوزع الناس بقية جهاته، ولم يبق بيده سوى الخطابة، وصلى بالناس يومئذ الظهر، ثم خلع عليه في بكرة نهار الجمعة، وصلى بالناس يومئذ وخطبهم على قاعدة الخطباء.

وفي يوم عرفه، وكان يوم السبت، توفي القاضي شهاب الدين بن فضل الله كاتب الأسرار الشريفة بالديار المصرية، والبلاد الشامية، ثم عزل عن ذلك ومات وليس يباشر شيئا من ذلك من رياسة وسعادة وأموال جزيلة، وأملاك ومرتبات كثيرة، وعمَّر دارا هائلة بسفح قاسيون بالقرب من الركنية شرقيها ليس بالسفح مثلها. وقد انتهت إليه رياسة الإنشاء، وكان يشبه بالقاضي الفاضل في زمانه، وله مصنفات عديدة بعبارات سعيدة، وكان حسن المذاكرة، سريع الاستحضار، جيد الحفظ، فصيح اللسان، جميل الأخلاق، يحب العلماء والفقراء، ولم يجاوز الخمسين، توفي بدارهم داخل باب الفراديس، وصلّي عليه بالجامع الأموي، ودفن بالسفح مع أبيه وأخيه بالقرب من اليغمورية سامحه الله وغفر له.

وفي هذا اليوم توفي الشيخ عبد الله بن رشيق المغربي، كاتب مصنفات شيخنا العلامة ابن تيمية، كان أبصر بخط الشيخ منه، إذا عزب شيء منه على الشيخ استخرجه أبو عبد الله هذا، وكان سريع الكتابة لا بأس به، دينا عابدا كثير التلاوة، حسن الصلاة، له عيال وعليه ديون رحمه الله وغفر له آمين.

ثم دخلت سنة خمسين وسبعمائة

استهلت هذه السنة وسلطان البلاد المصرية والشامية والحرمين وغير ذلك من البلاد الملك الناصر حسن بن الناصر محمد بن قلاوون، ونائب الديار المصرية ومدير ممالكه، والأتابك سيف الدين يلبغا، وقضاة الديار المصرية هم المذكورون في التي قبلها، ونائب الشام الأمير سيف الدين أرغون شاه الناصري، وقضاة دمشق هم المذكورون في التي قبلها، وكذلك أرباب الوظائف سوى الخطيب وسوى المحتسب.

وفي هذه السنة ولله الحمد تقصار أمر الطاعون جدا، ونزل ديوان المواريث إلى العشرين وما حولها بعد أن بلغ الخمسمائة في أثناء سنة تسع وأربعين، ثم تقدم ولكن لم يرتفع بالكلية.

فإن في يوم الأربعاء رابع شهر المحرم توفي الفقيه شهاب الدين أحمد بن الثقة هو وابنه وأخوه في ساعة واحدة بهذا المرض، وصُلّي عليهم جميعا، ودفنوا في قبر واحد رحمهم الله تعالى.

وفي يوم الأربعاء الخامس والعشرين من المحرم توفي صاحبنا الشيخ الإمام العالم العابد الزاهد الناسك الخاشع ناصر الدين محمد بن محمد بن محمد بن عبد القادر بن الصائغ الشافعي، مدرّس العمادية كان رحمه الله لديه فضائل كثيرة على طريقة السلف الصالح، وفيه عبادة كثيرة وتلاوة وقيام ليل وسكون حسن، وخلق حسن، جاوز الأربعين بنحو من ثلاث سنين، رحمه الله وأكرم مثواه.

وفي يوم الأربعاء ثالث صفر باشر تقي الدين بن رافع المحدث مشيخة دار الحديث النورية، وحضر عنده جماعة من الفضلاء والقضاة والأعيان، انتهى والله تعالى أعلم.

مسك نائب السلطنة أرغون شاه

وفي ليلة الخميس الثالث والعشرين من ربيع الأول مُسك نائب السلطنة بدمشق الأمير سيف الدين أرغون شاه، وكان قد انتقل إلى القصر الأبلق بأهله، فما شعر بوسط الليل إلا ونائب طرابلس الأمير سيف الدين ألجي بغا المظفري الناصري، ركب إليه في طائفة من الأمراء الألوف وغيرهم، فأحاطوا به ودخل عليه من دخل وهو مع جواريه نائم، فخرج إليهم فقبضوا عليه وقيدوه ورسموا عليه.

وأصبح الناس أكثرهم لا يشعر بشيء مما وقع، فتحدث الناس بذلك واجتمعت الأتراك إلى الأمير سيف الدين ألجي بغا المذكور، ونزل بظاهر البلد، واحتيط على حواصل أرغون شاه، فبات عزيزا وأصبح ذليلا، وأمسى علينا نائب السلطنة فأصبح وقد أحاط به الفقر والمسكنة فسبحان من بيده الأمر مالك الملك: {تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ} 21.

وهذا كما قال الله تعالى: {أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتا وَهُمْ نَائِمُونَ * أَوَ أَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ * أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ} 22.

ثم لما كان ليلة الجمعة الرابع والعشرين من ربيع الأول أصبح مذبوحا فأثبت محضر بأنه ذبح نفسه فالله تعالى أعلم.

كائنة عجيبة غريبة جدا

ثم لما كان يوم الثلاثاء الثامن والعشرين من ربيع الأول سنة خمسين وسبعمائة وقع اختلاف بين جيش دمشق وبين الأمير سيف الدين ألجي بغا، نائب طرابلس، الذي جاء فأمسك نائب دمشق الأمير سيف الدين أرغون شاه الناصري، ليلة الخميس وقتله ليلة الجمعة كما تقدم، وأقام بالميدان الأخضر يستخلص أمواله وحواصله، ويجمعها عنده فأنكر عليه الأمراء الكبار، وأمروه أن يحمل الأموال إلى قلعة السلطان فلم يقبل منهم، فاتهموه في أمره، وشكوا في الكتاب على يده من الأمر بمسكه وقتله.

وركبوا ملبسين تحت القلعة وأبواب الميادين، وركب هو في أصحابه وهم في دون المائة، وقائل يقول: هم ما بين السبعين إلى الثمانين والتسعين، جعلوا يحملون على الجيش حمل المستقتلين، إنما يدافعهم مدافعة المتبرئين، وليس معهم مرسوم بقتلهم ولا قتالهم، فلهذا ولى أكثرهم منهزمين.

فخرج جماعة الجيش حتى بعض الأمراء المقدمين، وهو الأمير الكبير سيف الدين ألجي بغا العادلي، فقطعت يده اليمنى، وقد قارب التسعين، وقتل آخرون من أجناد الحلقة والمستخدمين.

ثم انفصل الحال على أن أخذ ألجي بغا المظفري من خيول أرغون شاه المرتبطة في إسطبله ما أراد، ثم انصرف من ناحية المزة صاغرا على عقبيه، ومعه الأموال التي جمعها من حواصل أرغون شاه، واستمر ذاهبا، ولم يتبعه أحد من الجيش، وصحبته الأمير فخر الدين إياس، الذي كان حاجبا، وناب في حلب في العام الماضي، فذهبا بمن معهما إلى طرابلس.

وكتب أمراء الشام إلى السلطان يعلمونه بما وقع، فجاء البريد بأنه ليس عند السلطان علم بما وقع بالكلية، وأن الكتاب الذي جاء على يديه مفتعل، وجاء الأمر لأربعة آلاف من الجيش الشامي أن يسيروا وراءه ليمسكوه، ثم أضيف نائب صفد مقدما على الجميع، فخرجوا في العشر الأول من ربيع الآخر.

وفي يوم الأربعاء سادس ربيع الآخر خرجت العساكر في طلب سيف الدين ألجي بغا العادلي في المعركة وهو أحد أمراء الألوف المقدمين.

ولما كانت ليلة الخميس سابعه نودي بالبلد على من يقربها من الأجناد أن لا يتأخر أحد عن الخروج بالغد، فأصبحوا في سرعة عظيمة واستنيب في البلد نيابة عن النائب الراتب الأمير بدر الدين الخطير، فحكم بدار السعادة على عادة النواب.

وفي ليلة السبت بين العشاءين سادس عشره دخل الجيش الذين خرجوا في طلب ألجي بغا المظفري، وهو معهم أسير ذليل حقير، وكذلك الفخر إياس الحاجب مأسور معهم، فأودعا في القلعة مهانين من جسر باب النصر الذي تجاه دار السعادة، وذلك بحضور الأمير بدر الدين الخطير نائب الغيبة، ففرح الناس بذلك فرحا شديدا، ولله الحمد والمنة.

فلما كان يوم الاثنين الثامن عشر منه خرجا من القلعة إلى سوق الخيل فوسطا بحضرة الجيش، وعلقت جثتهما على الخشب ليراهما الناس، فمكثا أياما ثم أُنزلا فدفنا بمقابر المسلمين.

وفي أوائل شهر جمادى الآخرة جاء الخبر بموت نائب حلب سيف الدين قطلبشاه ففرح كثير من الناس بموته، وذلك لسوء أعماله في مدينة حماه في زمن الطاعون، وذكر أنه كان يحتاط على التركة وإن كان فيها ولد ذكر أو غيره، ويأخذ من أموال الناس جهرة، حتى حصل له منها شيء كثير.

ثم نقل إلى حلب بعد نائبها الأمير سيف الدين أرقطيه الذي كان عين لنيابة دمشق بعد موت أرغون شاه، وخرج الناس لتلقيه فما هو إلا أن برز منزلة واحدة من حلب فمات بتلك المنزلة، فلما صار قطلبشاه إلى حلب لم يقم بها إلا يسيرا حتى مات، ولم ينتفع بتلك الأموال التي جمعها لا في دنياه ولا في أخراه.

ولما كان يوم الخميس الحادي عشر من جمادى الآخرة دخل الأمير سيف الدين أيتمش الناصري من الديار المصرية إلى دمشق نائبا عليها، وبين يديه الجيش على العادة، فقّبل العتبة ولبس الحياصة والسيف، وأُعطي تقليده ومنشوره هنالك.

ثم وقف في الموكب على عادة النواب، ورجع إلى دار السعادة وحكم، وفرح الناس به، وهو حسن الشكل تام الخلقة، وكان الشام بلا نائب مستقل قريبا من شهرين ونصف.

وفي يوم دخوله حبس أربعة أمراء من الطبلخانات، وهم: القاسمي وأولاد آل أبو بكر اعتقلهم في القلعة لممالأتهم ألجي بغا المظفري، على أرغون شاه نائب الشام.

وفي يوم الاثنين خامس عشر جمادى الآخرة حكم القاضي نجم الدين بن القاضي عماد الدين الطرسوسي الحنفي، وذلك بتوقيع سلطاني وخلعة من الديار المصرية.

وفي يوم الثلاثاء سادس عشر جمادى الآخرة حصل الصلح بين قاضي القضاة تقي الدين السبكي وبين الشيخ شمس الدين بن قيم الجوزية، على يدي الأمير سيف الدين بن فضل ملك العرب، في بستان قاضي القضاة، وكان قد نقم عليه إكثاره من الفتيا بمسألة الطلاق.

وفي يوم الجمعة السادس والعشرين منه: نقلت جثة الأمير سيف الدين أرغون شاه من مقابر الصوفية إلى تربته التي أنشأها تحت الطارمة، وشرع في تكميل التربة والمسجد الذي قبلها، وذلك أنه عاجلته المنية على يدي ألجي بغا المظفري قبل إتمامهما، وحين قتلوه ذبحا ودفنوه ليلا في مقابر الصوفية، قريبا من قبر الشيخ تقي الدين ابن الصلاح، ثم حول إلى تربته في الليلة المذكورة.

وفي يوم السبت تاسع عشر رجب أذن المؤذنون للفجر قبل الوقت بقريب من ساعة، فصلى الناس في الجامع الأموي على عادتهم في ترتيب الأئمة، ثم رأوا الوقت باقيا فأعاد الخطيب الفجر بعد صلاة الأئمة كلهم، وأقيمت الصلاة ثانيا وهذا شيء لم يتفق مثله.

وفي يوم الخميس ثامن شهر شعبان توفي قاضي القضاة علاء الدين بن منجا الحنبلي بالمسمارية، وصُلّي عليه الظهر بالجامع الأموي، ثم بظاهر باب النصر، ودفن بسفح قاسيون رحمه الله.

وفي يوم الاثنين رمضان بكرة النهار استدعي الشيخ جمال الدين المرداوي من الصالحية إلى دار السعادة، وكان تقليد القضاء لمذهبه قد وصل إليه قبل ذلك بأيام، فأحضرت الخلعة بين يدي النائب والقضاة الباقين، وأريد على لبسها وقبول الولاية فامتنع فألحوا عليه فصمم وبالغ في الامتناع، وخرج وهو مغضب فراح إلى الصالحية فبالغ الناس في تعظيمه.

وبقي القضاة يوم ذلك في دار السعادة، ثم بعثوا إليه بعد الظهر فحضر من الصالحية فلم يزالوا به حتى قبل ولبس الخلعة وخرج إلى الجامع، فقرئ تقليده بعد العصر، واجتمع معه القضاة وهنأه الناس، وفرحوا به لديانته وصيانته وفضيلته وأمانته.

وبعد هذا اليوم بأيام حكم الفقيه شمس الدين محمد بن مفلح الحنبلي نيابة عن قاضي القضاة جمال الدين المرداوي المقدسي، وابن مفلح زوج ابنته.

وفي العشر الأخير من ذي القعدة حضر الفقيه الإمام المحدث المفيد أمين الدين الأيجي الملكي مشيخة دار الحديث بالمدرسة الناصرية الجوانية، نزل له عنها الصدر أمين الدين بن القلانسي، وكيل بيت المال، وحضر عنده الأكابر والأعيان.

وفي أواخر هذه السنة تكامل بناء التربة التي تحت الطارمة المنسوبة إلى الأمير سيف الدين أرغون شاه، الذي كان نائب السلطنة بدمشق، وكذلك القبلي منها، وصلى فيها الناس، وكان قبل ذلك مسجدا صغيرا فعمره وكبره، وجاء كأنه جامع تقبل الله منه انتهى.

ثم دخلت سنة إحدى وخمسين وسبعمائة

استهلت وسلطان الشام ومصر الناصر حسن بن الناصر محمد بن قلاوون، ونائبه بمصر الأمير سيف الدين يلبغا وأخوه سيف الدين منجك الوزير، والمشارون جماعة من المقدمين بديار مصر، وقضاة مصر وكاتب السر هم الذين كانوا في السنة الماضية، ونائب الشام الأمير سيف الدين أرتيمش الناصري، والقضاة هم القضاة سوى الحنبلي فإنه الشيخ جمال الدين يوسف المرداوي. وكاتب السر، وشيخ الشيوخ تاج الدين، وكاتب الدست هم المتقدمون، وأضيف إليهم شرف الدين عبد الوهاب بن القاضي علاء الدين بن شمرنوخ، والمحتسب القاضي عماد الدين بن العزفور، وشاد الأوقاف الشريف، وناظر الجامع فخر الدين بن العفيف، وخطيب البلد جمال الدين محمود بن جملة رحمه الله.

وفي يوم السبت عاشر المحرم نودي بالبلد من جهة نائب السلطان عن كتاب جاءه من الديار المصرية أن لا تلبس النساء الأكمام الطوال العرض، ولا الُبرد الحرير، ولا شيئا من اللباسات والثياب الثمينة، ولا الأقمشة القصار، وبلغنا أنهم بالديار المصرية شددوا في ذلك جدا، حتى قيل: إنهم غرقوا بعض النساء بسبب ذلك فالله أعلم.

وجددت وأكملت في أول هذه السنة دار قرآن قبلي تربة امرأة تنكز، بمحلة باب الخواصين حولها، وكانت قاعة صورة مدرسة الطواشي صفي الدين عنبر، مولى ابن حمزة، وهو أحد الكبار الأجواد، تقبل الله منه.

وفي يوم الأحد خامس شهر جمادى الأولى فتحت المدرسة الطيبانية التي كانت دارا للأمير سيف الدين طيبان بالقرب من الشامية الجوانية، بينها وبين أم الصالح، اشتريت من ثلثه الذي وصى به.

وفُتحت مدرسة وحوّل لها شباك إلى الطريق في ضفتها القبلية منها، وحضر الدرس بها في هذا اليوم الشيخ عماد الدين بن شرف الدين ابن عم الشيخ كمال الدين بن الزملكاني بوصية الواقف له بذلك، وحضر عنده قاضي القضاة السبكي والمالكي وجماعة من الأعيان، وأخذ في قوله تعالى: {مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا} الآية 23.

واتفق في ليلة الأحد السادس والعشرين من جمادى الأولى أنه لم يحضر أحد من المؤذنين على السدة في جامع دمشق وقت إقامة الصلاة للمغرب سوى مؤذن واحد، فانتظر من يقيم معه الصلاة فلم يجيء أحد غيره مقدار درجة أو أزيد منها، فأقام هو الصلاة وحده.

فلما أحرم الإمام بالصلاة تلاحق المؤذنون في أثناء الصلاة حتى بلغوا دون العشرة، وهذا أمر غريب من عدة ثلاثين مؤذن أو أكثر، لم يحضر سوى مؤذن واحد، وقد أخبر خلق من المشايخ أنهم لم يروا نظير هذه الكائنة.

وفي يوم الاثنين سابع عشر جمادى الآخرة اجتمع القضاة بمشهد عثمان، وكان الفاضل الحنبلي قد حكم في دار المعتمد الملاصقة لمدرسة الشيخ أبي عمر يلبغا، وكانت وقفا، لتضاف إلى دار القرآن، ووقف عليها أوقاف للفقراء، فمنعه الشافعي من ذلك، من أجل أنه يؤول أمرها أن تكون دار حديث ثم فتحوا بابا آخر وقالوا: هذه الدار لم يستهدم جميعها، وما صادف الحكم محلا، لأن مذهب الإمام أحمد أن الوقف يباع إذا استهدم بالكلية، ولم يبق ما ينتفع به، فحكم القاضي الحنفي بإثباتها وقفا كما كانت، ونفذه الشافعي والمالكي، وانفصل الحال على ذلك، وجرت أمور طويلة وأشياء عجيبة.

وفي يوم الأربعاء السابع والعشرين من جمادى الآخرة أصبح بواب المدرسة المستجدة التي يقال لها: الطيبانية إلى جانب أم الصالح مقتولا مذبوحا، وقد أخذت من عنده أموال من المدرسة المذكورة ولم يطلع على فاعل ذلك، وكان البواب رجلا صالحا مشكورا رحمه الله.

ترجمة الشيخ شمس الدين بن قيم الجوزية

وفي ليلة الخميس ثالث عشر رجب وقت أذان العشاء توفي صاحبنا الشيخ الإمام العلامة شمس الدين محمد بن أبي بكر بن أيوب الزرعي، إمام الجوزية، وابن قيمها، وصلّي عليه بعد صلاة الظهر من الغد بالجامع الأموي، ودفن عند والدته بمقابر الباب الصغير رحمه الله.

ولد في سنة إحدى وتسعين وستمائة، وسمع الحديث، واشتغل بالعلم، وبرع في علوم متعددة، لا سيما علم التفسير والحديث والأصلين.

ولما عاد الشيخ تقي الدين بن تيمية من الديار المصرية في سنة ثنتي عشرة وسبعمائة لازمه إلى أن مات الشيخ فأخذ عنه علما جما، مع ما سلف له من الاشتغال، فصار فريدا في بابه في فنون كثيرة، مع كثرة الطلب ليلا ونهارا، وكثرة الابتهال.

وكان حسن القراءة والخلق، كثير التودد لا يحسد أحدا ولا يؤذيه، ولا يستعيبه ولا يحقد على أحد، وكنت من أصحب الناس له، وأحب الناس إليه، ولا أعرف في هذا العالم في زماننا أكثر عبادة منه، وكانت له طريقة في الصلاة يطيلها جدا ويمد ركوعها وسجودها، ويلومه كثير من أصحابه في بعض الأحيان، فلا يرجع ولا ينزع عن ذلك رحمه الله.

وله من التصانيف الكبار والصغار شيءٌ كثير، وكتب بخطه الحسن شيئا كثيرا، واقتنى من الكتب ما لا يتهيأ لغيره تحصيل عشره من كتب السلف والخلف، وبالجملة كان قليل النظير في مجموعه وأموره وأحواله، والغالب عليه الخير والأخلاق الصالحة، سامحه الله ورحمه.

وقد كان متصديا للإفتاء بمسألة الطلاق التي اختارها الشيخ تقي الدين بن تيمية، وجرت بسببها فصول يطول بسطها مع قاضي القضاة تقي الدين السبكي وغيره، وقد كانت جنازته حافلة رحمه الله، شهدها القضاة والأعيان والصالحون من الخاصة والعامة، وتزاحم الناس على حمل نعشه، وكمل له من العمر ستون سنة رحمه الله.

وفي يوم الاثنين ثاني عشر شهر شعبان ذكر الدرس بالصدرية شرف الدين عبد الله بن الشيخ الإمام العلامة شمس الدين بن قيم الجوزية عوضا عن أبيه رحمه الله فأفاد وأجاد، وسرد طرفا صالحا في فضل العلم وأهله، انتهى والله تعالى أعلم.

ومن العجائب والغرائب التي لم يتفق مثلها ولم يقع من نحو مائتي سنة وأكثر، أنه بطل الوقيد بجامع دمشق في ليلة النصف من شعبان، فلم يزد في وقيده قنديل واحد على عادة لياليه في سائر السنة ولله الحمد والمنة.

وفرح أهل العلم بذلك، وأهل الديانة، وشكروا الله تعالى على تبطيل هذه البدعة الشنعاء، التي كان يتولد بسببها شرور كثيرة بالبلد، والاستيجار بالجامع الأموي، وكان ذلك بمرسوم السلطان الملك الناصر حسن بن الملك النصار محمد بن قلاوون خلد الله ملكه، وشيد أركانه.

وكان الساعي لذلك بالديار المصرية الأمير حسام الدين أبو بكر بن النجيبي بيض الله وجهه، وقد كان مقيما في هذا الحين بالديار المصرية، وقد كنت رأيت عنده فتيا عليها خط الشيخ تقي الدين بن تيمية، والشيخ كمال الدين بن الزملكاني، وغيرهما في إبطال هذه البدعة، فأنفذ الله ذلك والله الحمد والمنة.

وقد كانت هذه البدعة قد استقرت بين أظهر الناس من نحو سنة خمسين وأربعمائة وإلى زماننا هذا، وكم سعى فيها من فقيه، وقاضٍ، ومفتٍ، وعالم، وعابد، وأمير، وزاهد، ونائب سلطنة وغيرهم ولم ييسر الله ذلك إلا في عامنا هذا، والمسؤول من الله إطالة عمر هذا السلطان، ليعلم الجهلة الذين استقر في أذهانهم إذا أبطل هذا الوقيد في عام يموت سلطان الوقت، وكان هذا لا حقيقة له ولا دليل عليه إلا مجرد الوهم والخيال.

وفي مستهل شهر رمضان اتفق أمر غريب لم يتفق مثله من مدة متطاولة، فيما يتعلق بالفقهاء والمدارس، وهو أنه كان قد توفي ابن الناصح الحنبلي بالصالحية، وكان بيده نصف تدريس الضاحية التي للحنابلة بالصالحية، والنصف الآخر للشيخ شرف الدين ابن القاضي شرف الدين الحنبلي شيخ الحنابلة بدمشق، فاستنجز مرسوما بالنصف الآخر.

وكانت بيده ولاية متقدمة من القاضي علاء الدين بن المنجا الحنبلي، فعارضه في ذلك قاضي القضاة جمال الدين المرداوي الحنبلي، وولى فيها نائبه شمس الدين بن مفلح، ودرّس بها قاضي القضاة في صدر هذا اليوم، فدخل القضاة الثلاثة الباقون ومعهم الشيخ شرف الدين المذكور إلى نائب السلطنة، وأنهوا إليه صورة الحال، فرسم له بالتدريس.

فركب القضاة المذكورون وبعض الحجاب في خدمته إلى المدرسة المذكورة، واجتمع الفضلاء والأعيان، ودرس الشيخ شرف الدين المذكور، وبث فضائل كثيرة، وفرح الناس.

وفي شوال كان في جملة من توجه إلى الحج في هذا العام نائب الديار المصرية ومدبر ممالكها الأمير سيف الدين يلبغا الناصري، ومعه جماعة من الأمراء، فلما استقل الناس ذاهبين نهض جماعة من الأمراء على أخيه الأمير سيف الدين منجك، وهو وزير المملكة، وأستاذ دار الاستادارية، وهو باب الحوائج في دولتهم، وإليه يرحل ذوو الحاجات بالذهب والهدايا، فأمسكوه وجاءت البريدية إلى الشام في أواخر هذا الشهر بذلك.

وبعد أيام يسيرة وصل الأمير سيف الدين شيخون، وهو من أكابر الدولة المصرية تحت الترسيم، فأدخل إلى قلعة دمشق، ثم أخذ منها بعد ليلة فذهب به إلى الإسكندرية فالله أعلم.

وجاء البريد بالاحتياط على ديوانه وديوان منجك بالشام وأيس من سلامتهما، وكذلك وردت الأخبار بمسك يلبغا في أثناء الطريق، وأرسل سيفه إلى السلطان، وقدم أمير من الديار المصرية فحلف الأمراء بالطاعة إلى السلطان، وكذلك سار إلى حلب فحلف من بها من الأمراء ثم عاد راجعا إلى الديار المصرية، وحصل له من الأموال شيءٌ كثير من النواب والأمراء.

وفي يوم الخميس العشرين من ذي القعدة مسك الأميران الكبيران الشاميان المقدمان: شهاب الدين أحمد بن صبح، وملك آص، من دار السعادة بحضرة نائب السلطنة والأمراء ورفعا إلى القلعة المنصورة، سير بهما ماشيين من دار السعادة إلى باب القلعة من ناحية دار الحديث، وقيدا وسجنا بها، وجاء الخبر بأن السلطان استوزر بالديار المصرية القاضي علم الدين زينور، وخلع عليه خلعة سنية، لم يسمع بمثلها من أعصار متقادمة، وباشر وخلع على الأمراء والمقدمين، وكذلك خلع على الأمير سيف الدين طسبغا وأعيد إلى مباشرة الدويدارية بالديار المصرية، وجعل مقدما.

وفي أوائل شهر ذي الحجة اشتهر أن نائب صفد، شهاب الدين أحمد بن مشد الشربخانات طلب إلى الديار المصرية فامتنع من إجابة الداعي، ونقض العهد، وحصن قلعتها، وحصل فيها عددا ومددا، وادخر أشياء كثيرة بسبب الإقامة بها والامتناع فيها، فجاءت البريدية إلى نائب دمشق بأن يركب هو وجميع جيش دمشق إليه، فتجهز الجيش لذلك وتأهبوا، ثم خرجت الأطلاب على راياتها، فلما برز منها بعض بدا لنائب السلطنة فردهم وكان له خبرة عظيمة، ثم استقر الحال على تجريد أربعة مقدمين بأربعة آلاف إليه.

وفي يوم الخميس ثاني عشره وقعت كائنة غريبة بمنى وذلك أنه اختلف الأمراء المصريون والشاميون مع صاحب اليمن الملك المجاهد، فاقتتلوا قتالا شديدا قريبا من وادي محسر، ثم انجلت الوقعة عن أسر صاحب اليمن الملك المجاهد فحمل مقيدا إلى مصر، كذلك جاءت بها كتب الحجاج، وهم أخبروا بذلك.

واشتهر في أواخر ذي الحجة: أن نائب حلب الأمير سيف الدين أرغون الكاملي، قد خرج عنها بمماليكه وأصحابه، فرام الجيش الحلبي رده، فلم يستطيعوا ذلك، وجرح منهم جراحات كثيرة، وقتل جماعة فإنا لله وإنا إليه راجعون.

واستمر ذاهبا وكان في أمله فيما ذكر أن يتلقى سيف الدين يلبغا في أثناء طريق الحجاز فيتقدم معه إلى دمشق، وإن كان نائب دمشق قد اشتغل في حصار صفد أن يهجم عليها بغتة فيأخذها، فلما سار بمن معه وأخذته القطاع من كل جانب ونهبت حواصله وبقي تجريدة في نفر يسير من مماليكه، فاجتاز بحماه ليهربه نائبها فأبى عليه، فلما اجتاز بحمص وطن نفسه على المسير إلى السلطان بنفسه، فقدم به نائب حمص وتلقاه بعض الحجاب وبعض مقدمين الألوف، ودخل يوم الجمعة بعد الصلاة سابع عشرين الشهر، وهو في أبهة، فنزل بدار السعادة في بعض قاعات الدويدارية. انتهى.

ثم دخلت سنة اثنتين وخمسين وسبعمائة

استهلت هذه السنة وسلطان البلاد الشامية والديار المصرية والحرمين الشريفين و ما يلحق بذلك من الأقاليم والبلدان، الملك الناصر حسن بن السلطان، الملك محمد بن السلطان الملك المنصور قلاوون الصالحي، ونائبه بالديار المصرية الأمير سيف الدين يلبغا الملقب بحارس الطير، وهو عوضا عن الأمير سيف الدين يلبغا أروش الذي راح إلى بلاد الحجاز، ومعه جماعة من الأمراء بقصد الحج الشريف، فعزله السلطان في غيبته وأمسك على شيخون واعتقله، وأخذ منجك الوزير، وهو أستاذ دار ومقدم ألف، مصطفى أمواله، واعتاض عنه وولى مكانه في الوزارة القاضي علم الدين بن زينور، واسترجع إلى وظيفة الدويدارية الأمير سيف الدين طسبغا الناصري، وكان أميرا بالشام، مقيما منذ عزل إلى أن أعيد في أواخر السنة كما تقدم.

وأما كاتب السر بمصر وقضاتها فهم المذكورون في التي قبلها.

واستهلت هذه السنة ونائب صفد قد حصن القلعة وأعد فيها عدتها وما ينبغي لها من الأطعمات والذخائر والعدد والرجال، وقد نابذ المملكة وحارب، وقد قصدته العساكر من كل جانب من الديار المصرية ودمشق وطرابلس وغيرها، والأخبار قد ضمنت عن يلبغا ومن معه ببلاد الحجاز ما يكون من أمره، ونائب دمشق في احتراز وخوف من أن يأتي إلى بلاد الشام فيدهمها بمن معه، والقلوب وجلة من ذلك، فإنا لله وإنا إليه راجعون.

وفيها ورد الخبر أن صاحب اليمن حج في هذه السنة فوقع بينه وبين صاحب مكة عجلان بسبب أنه أراد أن يولي عليها أخاه بعيثة، فاشتكى عجلان ذلك إلى أمراء المصريين وكبيرهم إذ ذاك الأمير سيف الدين بزلار ومعهم طائفة كثيرة، وقد أمسكوا أخاهم يلبغا وقيدوه، فقوي رأسه عليهم واستخف بهم، فصبروا حتى قضى الحج وفرغ الناس من المناسك.

فلما كان يوم النفر الأول يوم الخميس تواقفوا هم وهو فقتل من الفريقين خلقُ كثير، والأكثر من اليمنيين، وكانت الوقعة قريبة من وادي محسر، وبقي الحجيج خائفين أن تكون الدائرة على الأتراك فتنهب الأعراب أموالهم وربما قتلوهم، ففرج الله ونصر الأتراك على أهل اليمن ولجأ الملك المجاهد إلى جبل، فلم يعصمه من الأتراك بل أسروه ذليلا حقيرا، وأخذوه مقيدا أسيرا وجاءت عوام الناس إلى اليمنيين فنهبوا شيئا كثيرا، ولم يتركوا لهم جليلا ولا حقيرا، ولا قليلا ولا كثيرا.

واحتاط الأمراء على حواصل الملك وأمواله وأمتعته وأثقاله، وساروا بخيله وجماله، وأدلوا على صنديد من رحله ورجاله، واستحضروا معهم طفيلا الذي كان حاصر المدينة النبوية في العام الماضي وقيدوه أيضا، وجعلوا الغل في عنقه، واستاقوه كما يستاق الأسير في وثاقه مصحوبا بهمه وحتفه، وانشمروا عن تلك البلاد إلى ديارهم راجعين، وقد فعلوا فعلة تذكر بعدهم إلى حين.

ودخل الركب الشامي إلى دمشق يوم الثلاثاء الثالث والعشرين من المحرم، على العادة المستمرة، والقاعدة المستقرة.

وفي هذا اليوم قدمت البريدية من تلقاء مدينة صفد مخبرة بأن الأمير شهاب الدين أحمد بن مشد الشرنجاتاه، الذي كان قد تمرد بها وطغى وبغى حتى استحوز عليها وقطع سببها وقتل الفرسان والرجالة، وملأها أطعمة وأسلحة، ومماليكه ورجاله، فعندما تحقق مسك يلبغا أروش خضعت تلك النفوس، وخمدت ناره وسكن شراره وحار بثاره، ووضح قراره، وأناب إلى التوبة والإقلاع، ورغب إلى السلامة والخلاص، وخشع ولات حين مناص.

وأرسل سيفه إلى السلطان، ثم توجه بنفسه على البريد إلى حضرة الملك الناصر، والله المسؤول أن يحسن عليه وأن يقبل بقلبه إليه.

وفي يوم الأحد خامس صفر قدم من الديار المصرية الأمير سيف الدين أرغون الكاملي معادا إلى نيابة حلب، وفي صحبته الأمير سيف الدين طشبغا الدوادار بالديار المصرية، وهو زوج ابنة نائب الشام، فتلقاه نائب الشام وأعيان الأمراء، ونزل طشبغا الدوادار عند زوجته بدار منجى في محلة مسجد القصب التي كانت تعرف: بدار حنين بن حندر، وقد جددت في السنة الماضية، وتوجها في الليلة الثانية من قدومها إلى حلب.

وفي يوم الأربعاء رابع عشر ربيع الأول اجتمع القضاة الثلاثة وطلبوا الحنبلي ليتكلموا معه فيما يتعلق بدار المعتمد التي بجوار مدرسة الشيخ أبي عمر، التي حكم بنقض وقفها وهدم بابها وإضافتها إلى دار القرآن المذكورة، وجاء مرسوم السلطان يوفق ذلك، وكان القاضي الشافعي قد أراد منعه من ذلك، فلما جاء مرسوم السلطان اجتمعوا لذلك، فلم يحضر القاضي الحنبلي، قال: حتى يجيء نائب السلطنة.

ولما كان يوم الخميس خامس عشر ربيع الأول حضر القاضي حسين - ولد قاضي القضاة تقي الدين السبكي - عن أبيه مشيخة دار الحديث الأشرفية وقرئ عليه شيء كان قد خرجه له بعض المحدثين، وشاع في البلد أنه نزل له عنها، وتكلموا في ذلك كلاما كثيرا، وانتشر القول في ذلك، وذكر بعضهم أنه نزل له عن الغزالية والعادلية، واستخلفه في ذلك، فالله أعلم.

وفي سحر ليلة الخميس خامس شهر جمادى الآخرة وقع حريق عظيم بالجوانيين في السوق الكبير، واحترقت دكاكين الفواخرة والمناجليين، وفرجة الغرابيل، وإلى درب القلى، ثم إلى قريب درب العميد، وصارت تلك الناحية دكا بلقعا، فإنا لله وإنا إليه راجعون.

وجاء نائب السلطنة بعد الأذان إلى هناك ورسم بطفي النار، وجاء المتولي والقاضي الشافعي والحجاب، وشرع الناس في طفي النار، ولو تركوها لأحرقت شيئا كثيرا، ولم يفقد فيما بلغنا أحد من الناس، ولكن هلك للناس شيءٌ كثير من المتاع والأثاث والأملاك وغير ذلك، واحترق للجامع من الرباع في هذا الحريق ما يساوي مائة ألف درهم. انتهى. والله أعلم.

كائنة غريبة جدا

وفي يوم الأحد خامس عشر جمادى الأولى استسلم للقاضي الحنبلي جماعة من اليهود كان قد صدر منهم نوع استهزاء بالإسلام وأهله، فإنهم حملوا رجلا منهم صفة ميت على نعش ويهللون كتهليل المسلمين أمام الميت ويقرأون: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ * لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوا أَحَدٌ} 24.

فسمع بهم من بِحارتهم من المسلمين، فأخذوهم إلى ولي الأمر نائب السلطنة فدفعهم إلى الحنبلي فاقتضى الحال استسلامهم فأسلم يومئذ منهم ثلاثة، وتبع أحدهم ثلاثة أطفال، وأسلم في اليوم الثاني ثمانية آخرون فأخذهم المسلمون وطافوا بهم في الأسواق يهللون ويكبرون، وأعطاهم أهل الأسواق شيئا كثيرا وراحوا بهم إلى الجامع فصلوا ثم أخذوهم إلى دار السعادة فاستطلقوا لهم شيئا، ورجعوا وهم في ضجيج وتهليل وتقديس، وكان يوما مشهودا ولله الحمد والمنة. انتهى. والله أعلم.

مملكة السلطان الملك الصالح صلاح الدين بن الملك الناصر محمد بن الملك المنصور قلاوون الصالحي

في العشر الأوسط من شهر رجب الفرد وردت البريدية من الديار المصرية بعزل السلطان الملك الناصر حسن بن الناصر بن قلاوون لاختلاف الأمراء عليه، واجتماعهم على أخيه الملك الصالح، وأمه صالحة بنت ملك الأمراء تنكز الذي كان نائب الشام مدة طويلة، وهو ابن أربع عشرة سنة، وجاءت الأمراء للحلف، فدقت البشائر، وزين البلد على العادة.

وقيل: إن الملك الناصر حسن خنق ورجعت الأمراء الذين كانوا بإسكندرية مثل: شيخون ومنجك وغيرهما، أرسلوا إلى يلبغا فجيء به من الكرك، وكان مسجونا بها من مرجعه من الحج، فلما عاد إلى الديار المصرية شفع في صاحب اليمن الملك المجاهد الذي كان مسجونا في الكرك فأخرج وعاد إلى الديار الحجازية.

وأما الأمراء الذين كانوا من ناحية السلطان حين مسك معارضة أمير أخوروميكلي بغا الفخري وغيرهما، فاحتيط عليهم وأرسلوا إلى الإسكندرية، وخطب للملك الصالح بجامع دمشق يوم الجمعة السابع عشر من شهر رجب وحضر نائب السلطنة والأمراء والقضاة للدعاء له بالمقصورة على العادة.

وفي أثناء العشر الأخير من رجب: عزل نائب السلطنة سيف الدين أيتمش عن دمشق مطلوبا إلى الديار المصرية فسار إليها يوم الخميس.

وفي يوم الاثنين حادي عشر شعبان: قدم الأمير سيف الدين أرغون الكاملي الذي كان نائبا على الديار الحلبية من هناك، فدخل دمشق في هذا اليوم في أبهة عظيمة، وخرج الأمراء والمقدمون وأرباب الوظائف لتلقيه إلى أثناء الطريق، منهم من وصل إلى حلب وحماه وحمص.

وجرى في هذا اليوم عجائب لم تر من دهور، واستبشر الناس به لصرامته وشهامته وحدته، وما كان من لين الذي قبله ورخاوته، فنزل دار السعادة على العادة.

وفي يوم السبت: وقف في موكب هائل قيل إنه لم ير مثله من مدة طويلة، ولما سير إلى ناحية باب الفرج اشتكى إليه ثلاث نسوة على أمير كبير يقال له: الطرخاين، فأمر بإنزاله عن فرسه فأنزل وأوقف معهن في الحكومة.

واستمر بطلان الوقيد في الجامع الأموي في هذا العام أيضا كالذي قبله، حسب مرسوم السلطان الناصر حسن رحمه الله، ففرح أهل الخير بذلك فرحا شديدا، وهذا شيء لم يعهد مثله من نحو ثلاثمائة سنة، ولله الحمد والمنة.

ونودي في البلد في هذا اليوم والذي بعده عن النائب: من وجد جنديا سكرانا فلينزله عن فرسه وليأخذ ثيابه، ومن أحضره من الجند إلى دار السعادة فله خبزه، ففرح الناس بذلك واحتجر على الخمارين والعصارين، ورخصت الأعتاب، وجادت الأخباز واللحم بعد أن كان بلغ كل رطل أربعة ونصفا، فصار بدرهمين ونصف وأقل وأصلحت المعايش من هيبة النائب، وصار له صيت حسن، وذكر جميل في الناس بالعدل وجودة القصد وصحة الفهم وقوة العدل والإدراك.

وفي يوم الاثنين ثامن عشر شعبان: وصل الأمير أحمد بن شاد الشريخاناه الذي كان قد عصى في صفد، وكان من أمره ما كان، فاعتقل بالإسكندرية ثم أخرج في هذه الدولة وأعطي نيابة حماه، فدخل دمشق في هذا اليوم سائرا إلى حماه، فركب مع النائب مع الموكب، وسير عن يمينه، ونزل في خدمته إلى دار السعادة ورحل بين يديه.

وفي يوم الخميس الحادي والعشرين منه: دخل الأمير سيف الدين يلبغا الذي كان نائبا بالديار المصرية، ثم مسك بالحجاز وأودع الكرك، ثم أخرج في هذه الدولة وأعطى نيابة حلب، فتلقاه نائب السلطنة وأنزل دار السعادة حين أضافه.

ونزل وطاقه بوطأة برزة وضربت له خيمة بالميدان الأخضر.

ثم دخلت سنة ثلاث وخمسين وسبعمائة

استهلت هذه السنة وسلطان الديار المصرية والبلاد الشامية والحرمين الشريفين وما يتبع ذلك الملك الصالح صلاح الدين، صالح بن السلطان الملك الناصر محمد بن الملك المنصور قلاوون، والخليفة الذي يدعى له المعتضد بأمر الله، ونائب الديار المصرية الأمير سيف الدين قبلاي، وقضاة مصرهم المذكورون في التي قبلها.

والوزير القاضي ابن زنبور، وأولوا الأمر الذين يدبرون المملكة، فلا تصدر الأمور إلا عن آرائهم لصغر السلطان المذكور جماعة من أعيانهم ثلاثة: سيف الدين شيخون، وطاز وحر عيمش، ونائب دمشق الأمير سيف الدين أرغون الكاملي، وقضاتها هم المذكورون في التي قبلها. ونائب البلاد الحلبية الأمير سيف الدين يلبغا أروش، ونائب طرابلس الأمير سيف الدين بكلمش، ونائب حماه الأمير شهاب الدين أحمد بن مشد الشريخانة، ووصل بعض الحجاج إلى دمشق في تاسع الشهر - وهذا نادر - وأخبروا بموت المؤذن شمس الدين بن سعيد بعد منزلة العلاء في المدابغ.

وفي ليلة الاثنين سادس عشر صفر في هذه السنة وقع حريق عظيم عند باب جيرون شرقيه فاحترق به دكان القفاعي الكبيرة المزخرفة وما حولها، واتسع اتساعا فظيعا، واتصل الحريق بالباب الأصفر من النحاس، فبادر ديوان الجامع إليه فكشطوا ما عليه من النحاس، ونقلوه من يومه إلى خزانة الحاصل، بمقصورة الحلبية، بمشهد علي. ثم عدوا عليه يكسرون خشبه بالفؤوس الحداد والسواعد الشداد، وإذا هو من خشب الصنوبر الذي في غاية ما يكون من القوة والثبات، وتأسف الناس عليه لكونه كان من محاسن البلد ومعالمه.

وله في الوجود ما ينيف عن أربعة آلاف سنة انتهى والله أعلم.

ترجمة باب جيرون المشهور بدمشق

الذي كان هلاكه وذهابه وكسره في هذه السنة، وهو باب سر في جامع دمشق لم ير باب أوسع ولا أعلى منه، فيما يعرف من الأبنية في الدنيا، وله علمان من نحاس أصفر بمسامير نحاس أصفر أيضا بارزة، من عجائب الدنيا، ومحاسن دمشق ومعالمها، وقد تم بناؤها.

وقد ذكرته العرب في أشعارها والناس وهو منسوب إلى ملك يقال له جيرون بن سعد بن عاد بن عوص بن إرم بن سام بن نوح، وهو الذي بناه، وكان بناؤه له قبل الخليل عليه السلام، بل قبل ثمود وهود أيضا، على ما ذكره الحافظ ابن عساكر في تاريخه وغيره.

وكان فوقه حصن عظيم، وقصر منيف، ويقال بل هو منسوب إلى اسم المارد الذي بناه لسليمان عليه السلام، وكان اسم ذلك المارد جيرون، والأول أظهر وأشهر، فعلى الأول: يكون لهذا الباب من المدد المتطاولة ما يقارب خمسة آلاف سنة.

ثم كان انجعاف هذا الباب لا من تلقاء نفسه بل بالأيدي العادية عليه، بسبب ما ناله من شوط حريق اتصل إليه حريق وقع من جانبه في صبيحة ليلة الاثنين السادس عشر من صفر، سنة ثلاث وخمسين وسبعمائة فتبادر ديوان الجامعية ففرقوا شمله وقضعوا ثمله، وعروا جلده النحاس عن بدنه الذي هو من خشب الصنوبر، الذي كأن الصانع قد فرغ منه يومئذ.

وقد شاهدت الفؤوس تعمل فيه ولا تكاد تحيل فيه إلا بمشقة، فسبحان الذي خلق الذين بنوه أولا، ثم قدر أهل هذا الزمان على أن هدموه بعد هذه المدد المتطاولة، والأمم المتداولة، ولكن لكل أجل كتاب، ولا إله إلا رب العباد.

بيان تقدم مدة هذا الباب وزيادتها على مدة أربعة آلاف سنة بل يقارب الخمسة

ذكر الحافظ ابن عساكر في أول تاريخه: باب بناء دمشق بسنده عن القاضي يحيى بن حمزة التبلهي الحاكم بها في الزمن المتقدم، وقد كان هذا القاضي من تلاميذ ابن عمر والأوزاعي، قال: لما فتح عبد الله بن علي دمشق بعد حصارها - يعني وانتزعها من أيدي بني أمية وسلبهم ملكهم - هدموا سور دمشق فوجدوا حجرا مكتوبا عليه باليونانية.

فجاء راهب فقرأه لهم، فإذا هو مكتوب عليه: ويك أرم الجبابرة من رأمك بسوء قصمه الله، إذا وهي منك جيرون الغربي من باب البريد وتلك من خمسة أعين ينقض سورك على يديه، بعد أربعة آلاف سنة تعيشين رغدا، فإذا وهى منك جيرون الشرقي أؤمل لك ممن يعوض لك.

قال: فوجدنا الخمسة أعين عبد الله بن علي بن عبد الله بن عباس بن عبد المطلب، عين بن عين بن عين بن عين بن عين، فهذا يقتضي أنه كان بسورها سنينا إلى حين إخرابه على يد عبد الله بن علي أربعة آلاف سنة، وقد كان إخرابه له في سنة ثنتين وثلاثين ومائة كما ذكرنا في التاريخ الكبير، فعلى هذا يكون لهذا الباب إلى يوم خرب من هذه السنة - أعني سنة ثنتين وثلاثين ومائة - أربعة آلاف وستمائة وإحدى وعشرين سنة، والله أعلم.

وقد ذكر ابن عساكر عن بعضهم أن نوحا عليه السلام هو الذي أسس دمشق بعد حران وذلك بعد مضي الطوفان، وقيل: بناها دمسغس غلام ذي القرنين عن إشارته، وقيل: عاد الملقب بدمشيق وهو غلام الخليل، وقيل: غير ذلك من الأقوال، وأظهرها: أنها من بناء اليونان، لأن محاريب معابدها كانت موجهة إلى القطب الشمالي.

ثم كان بعدهم النصارى فصلوا فيها إلى الشرق، ثم كان فيها بعدهم أجمعين أمة المسلمين فصلوا إلى الكعبة المشرفة.

وذكر ابن عساكر وغيره أن أبوابها كانت سبعة كل منها يتخذ عنده عيد لهيكل من الهياكل السبعة، فباب القمر: باب السلامة، وكانوا يسمونه باب الفراديس الصغير، ولعطارد: باب الفراديس الكبير، وللزهرة: باب توما، وللشمس: الباب الشرقي، وللمريخ: باب الجابية، وللمشتري: باب الجابية الصغير، ولزحل: باب كيسان.

وفي أوائل شهر رجب الفرد اشتهر أن نائب حلب بيبغا أروش اتفق مع نائب طرابلس بكلمش، ونائب حلب أمير أحمد بن مشد الشريخانة على الخروج عن طاعة السلطان حتى يمسك شيخون وطاز، وهما عضدا الدولة بالديار المصرية، وبعثوا إلى نائب دمشق وهو الأمير سيف الدين أرغون الكاملي فأبى عليهم ذلك.

وكاتب إلى الديار المصرية بما وقع من الأمر، وانزعج الناس لذلك، وخافوا من غائلة هذا الأمر وبالله المتسعان.

ولما كان يوم الاثنين ثامن الشهر جمع نائب السلطنة الأمراء عنده بالقصر الأبلق واستحلفهم بيعة أخرى لنائب السلطنة الملك الصالح، فحلفوا واتفقوا على السمع والطاعة والاستمرار على ذلك.

وفي ليلة الأربعاء سابع عشر رجب جاءت الجبلية الذين جمعوهم من البقاع لأجل حفظ ثنية العقاب من قدوم العساكر الحلبية، ومن معهم من أهل طرابلس وحماه، وكان هؤلاء الجبلية قريبا من أربعة آلاف، فحصل بسببهم ضرر كثير على أهل برزة وما جاورهم من الثمار وغيرها.

وفي يوم السبت العشرين منه ركب نائب السلطنة سيف الدين أرغون ومعه الجيوش الدمشقية قاصدين ناحية الكسوة ليلا يقاتلون المسلمين ولم يبق في البلد من الجند أحد، وأصبح الناس وليس لهم نائب ولا عسكر، وخلت الديار منهم، ونائب الغيبة الأمير سيف الدين الجي بغا العادلي.

وانتقل الناس من البساتين ومن طرف العقيبة وغيرها إلى المدينة، وأكثر الأمراء نقلت حواصلهم وأهاليهم إلى القلعة المنصورة، فإنا لله وإنا إليه راجعون.

ولما اقترب دخول الأمير بيبغا بمن معه انزعج الناس وانتقل أهل القرى الذين في طريقه، وسرى ذلك إلى أطراف الصالحية والبساتين وحواضر البلد، وغلقت أبواب البلد إلى ما يلي القلعة، كباب النصر، وباب الفرج، وكذا باب الفراديس.

وخلت أكثر المحال من أهاليهم، ونقلوا حوائجهم وحواصلهم وأنعامهم إلى البلد على الدواب والحمالين، وبلغهم أن أطراف الجيش انتهبوا ما في القرايا في طريقهم من الشعير والتبن وبعض الأنعام للأكل.

وربما وقع فساد غير هذا من بعض الجهلة، فخاف الناس كثيرا وتشوشت خواطرهم، انتهى.

دخول بيبغا أروش إلى دمشق

ولما كان يوم الأربعاء الرابع والعشرين من رجب دخل الأمير سيف الدين بيبغا أروش نائب حلب إلى دمشق المحروسة بمن معه من العساكر الحلبية وغيرهم وفي صحبته نائب طرابلس الأمير سيف الدين بكلمش، ونائب حماه الأمير شهاب الدين أحمد، ونائب صفد الأمير علاء الدين طيبغا، ملقب برتاق.

وكان قد توجه قبله، قيل: بيوم، ومعه نواب قلاع كثيرة من بلاد حلب وغيرها، في عدد كثير من الأتراك والتركمان، فوقف في سوق الخيل مكان نواب السلطان تحت القلعة، واستعرض الجيوش الذين وفدوا معه هنالك، فدخلوا في تجمل كثير، ملبسين، وكان عدة من كان معه من أمراء الطبلخانات قريبا من ستين أميرا أو يزيدون أو ينقصون، على ما استفاض عن غير واحد ممن شاهد ذلك.

ثم سار قريبا من الزوال للمخيم الذي ضرب له قبل مسجد القدم عند قبة يلبغا، عند الجدول الذي هنالك، وكان يوما مشهودا هائلا، لما عاين الناس من كثرة الجيوش والعدد، وعذر كثير من الناس صاحب دمشق في ذهابه بمن معه لئلا يقابل هؤلاء.

فنسأل الله أن يجمع قلوبهم على ما فيه صلاح المسلمين.

وقد أرسل إلى نائب القلعة وهو الأمير سيف الدين إباجي يطلب منه حواصل أرغون التي عنده، فامتنع عليه أيضا، وقد حصن القلعة وسترها وأرصد فيها الرجال والرماة والعدد، وهيأنها بعض المجانيق ليبعد بها فوق الأبرجة، وأمر أهل البلد أن لا يفتحوا الدكاكين ويغلقوا الأسواق، وجعل يغلق أبواب البلد إلا بابا أو بابين منها.

واشتد حنق العسكر عليه، وهموا بأشياء كثيرة من الشر، ثم يرعوون عن الناس والله المسلم، غير أن إقبال العسكر وأطرافه قد عاثوا فيما جاوروه من القرايا والبساتين والكروم والزروع فيأخذون ما يأكلون وتأكل دوابهم، وأكثر من ذلك فإنا لله وإنا إليه راجعون.

ونهبت قرايا كثيرة وفجروا بنساء وبنات، وعظم الخطب، وأما التجار ومن يذكر بكثرة مال فأكثرهم مختفٍ لا يظهر لما يخشى من المصادرة، نسأل الله أن يحسن عاقبتهم.

واستهل شهر شعبان وأهل البلد من خوف شديد، وأهل القرايا والحواضر في نقلة أثاثهم وأبقارهم ودوابهم وأبنائهم ونسائهم، وأكثر أبواب البلد مغلقة سوى بابي الفراديس والجابية، وفي كل يوم نسمع بأمور كثيرة من النهب للقرايا والحواضر، حتى انتقل كثير من أهل الصالحية أو أكثرهم، وكذلك من أهل العقبية وسائر حواضر البلد، فنزلوا عند معارفهم وأصحابهم، ومنهم من نزل على قارعة الطريق بنسائهم وأولادهم، فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.

وقال كثير من المشايخ الذين أدركوا زمن قازان: إن هذا الوقت كان أصعب من ذلك لما ترك الناس من ورائهم من الغلات والثمار التي هي عمدة قوتهم في سنتهم.

وأما أهل البلد ففي قلق شديد أيضا لما يبلغهم عنهم من الفجور بالنساء، ويجعلون يدعون عقيب الصلوات عليهم يصرحون بأسمائهم ويعنون بأسماء أمرائهم وأتباعهم ونائب القلعة الأمير سيف الدين إباجي في كل وقت يسكن جأش الناس ويقوي عزمهم ويبشرهم بخروج العساكر المنصورة من الديار المصرية صحبة السلطان إلى بلاد غزة حيث الجيش الدمشقي، ليجيئوا كلهم في خدمته وبين يديه.

وتدق البشائر فيفرح الناس ثم تسكن الأخبار وتبطل الروايات فتقلق ويخرجون في كل يوم وساعة في تجمل عظيم ووعد وهيآت حسنة.

ثم جاء السلطان أيده الله تعالى وقد ترجل الأمراء بين يديه من حين بسط له عند مسجد الدبان إلى داخل القلعة المنصورة، وهو لابس قباء أحمر له قيمته على فرس أصيلة مؤدبة معلمة المشي على القوس لا تحيد عنه، وهو حسن الصورة مقبول الطلعة، عليه بهاء المملكة والرياسة، والخز فوق رأسه يحمله بعض الأمراء الأكابر.

وكلما عاينه من عاينه من الناس يبتلهون بالدعاء بأصوات عالية، والنساء بالزغرطة، وفرح الناس فرحا شديدا، وكان يوما مشهودا، وأمرا حميدا، جعله الله مباركا على المسلمين.

فنزل بالقلعة المنصورة، وقد قدم معه الخليفة المعتضد أبو الفتح بن أبي بكر المستكفي بالله أبي الربيع سليمان بن الحاكم بأمر الله أبي العباس أحمد، وكان راكبا إلى جانبه من ناحية اليسار، ونزل بالمدرسة الدماغية في أواخر هذا اليوم سائر الأمراء مع نائب الشام، ومقدمهم طاز وشيخون في طلب بيبغا ومن معه من البغاة المفسدين.

وفي يوم الجمعة ثانيه حضر السلطان أيده الله إلى الجامع الأموي وصلّى فيه الجمعة بالمشهد الذي يصلّي فيه نواب السلطان أيده الله، فكثر الدعاء والمحبة له ذاهبا وآيبا تقبل الله منه، وكذلك فعل الجمعة الأخرى وهي تاسع الشهر.

وفي يوم السبت عاشره اجتمعنا - يقول الشيخ عماد الدين بن كثير المصنف رحمه الله - بالخليفة المعتضد بالله أبي الفتح بن أبي بكر بن المستكفي بالله أبي الربيع سليمان بن الحاكم بأمر الله أبي العباس أحمد. وسلمنا عليه وهو نازل بالمدرسة الدماغية، داخل باب الفرج وقرأت عنده جزءا فيه ما رواه أحمد بن حنبل عن محمد بن إدريس الشافعي في مسنده، وذلك عن الشيخ عز الدين بن الضيا الحموي بسماعه من ابن البخاري، وزينب بنت مكي عن أحمد بن الحصين عن ابن المذهب عن أبي بكر بن مالك عن عبد الله بن أحمد عن أبيه فذكرهما، والمقصود أنه شاب حسن الشكل مليح الكلام متواضع جيد الفهم حلو العبارة رحم الله سلفه.

وفي رابع عشره قدم البريد من بلاد حلب بسيوف الأمراء الممسوكين من أصحاب بيبغا.

وفي يوم الخميس خامس عشره نزل السلطان الملك الصالح من الطارمة إلى القصر الأبلق في أبهة المملكة، ولم يحضر يوم الجمعة إلى الصلاة، بل اقتصر على الصلاة بالقصر المذكور.

وفي يوم الجمعة باكر النهار دخل الأمير سيف الدين شيخون وطار بمن معهما من العساكر من بلاد حلب، وقد فات تدارك بيبغا وأصحابه لدخولهم بلاد زلغادر التركماني بمن بقي معهم، وهم القليل، وقد أسر جماعة من الأمراء الذين كانوا معه، وهم في القيود والسلاسل صحبة الأميرين المذكورين، فدخلا على السلطان وهو بالقصر الأبلق فسلما عليه وقبّلا الأرض وهنآه بالعيد.

ونزل طاز بدار أيتمش بالشرق الشمالي، ونزل شيخون بدار إياس الحاجب بالقرب من الظاهرية البرانية، ونزل بقية الجيش في أرجاء البلد.

وأما الأمير سيف الدين أرغون فأقام بحلب نائبا عن سؤاله إلى ما ذكر، وخوطب في تقليده بألقاب هائلة، ولبس خلعة سنية، وعظم تعظيما زائدا، ليكون هناك إلبا على بيبغا وأصحابه لشدة ما بينهما من العداوة.

ثم صلّى السلطان بمن معه من المصريين ومن انضاف إليهم من الشاميين صلاة عيد الفطر بالميدان الأخضر، وخطب بهم القاضي تاج الدين المناوي المصري، قاضي العسكر المصري بمرسوم السلطان وذويه، وخلع عليه. انتهى والله سبحانه وتعالى أعلم.

قتل الأمراء السبعة من أصحاب بيبغا

وفي يوم الاثنين ثالث شوال قبل العصر ركب السلطان من القصر إلى الطارمة وعلى رأسه القبة والطير يحملهما الأمير بدر الدين بن الخطير، فجلس في الطارمة ووقف الجيش بين يديه تحت القلعة وأحضروا الأمراء الذين قدموا بهم من بلاد حلب، فجعلوا يوقفون الأمير منهم ثم يشاورون عليه فمنهم: من يشفع فيه، ومنهم: من يؤمر بتوسيطه، فوسّط سبعة: خمس طبلخانات ومقدما ألف، منهم: نائب صفد برناق وشفع في الباقين فردوا إلى السجن، وكانوا خمسة آخرين.

وفي يوم الأربعاء خامسه مسك جماعة من أمراء دمشق سبعة وتحولت دول كثيرة، وتأمر جماعة من الأجناد وغيرهم انتهى.

خروج السلطان من دمشق متوجها إلى بلاد مصر

وفي يوم الجمعة سابع شوال ركب السلطان في جيشه من القصر الأبلق قاصدا لصلاة الجمعة بالجامع الأموي، فلما انتهى إلى باب النصر ترجل الجيش بكماله بين يديه مشاة، وذلك في يوم شاتٍ كثير الوحل فصلّى بالمقصورة إلى جانب المصحف العثماني، وليس معه في الصف الأول أحد، بل بقية الأمراء خلفه صفوف، فسمع خطبة الخطيب.

ولما فرغ من الصلاة قرئ كتاب بإطلاق أعشار الأوقاف، وخرج السلطان بمن معه من باب النصر، فركب الجيش واستقل ذاهبا نحو الكسوة بمن معه من العساكر المنصورة، مصحوبين بالسلامة والعافية المستمرة.

وخرج السلطان وليس بدمشق نائب سلطنة، وبها الأمير بدر الدين بن الخطير هو الذي يتكلم في الأمور نائب غيبة، حتى يقدم إليها نائبها ويتعين لها، وجاءت الأخبار بوصول السلطان إلى الديار المصرية سالما، ودخلها في أبهة عظيمة في أواخر ذي القعدة، وكان يوما مشهودا، وخلع على الأمراء كلهم ولبس خلعة نيابة الشام الأمير علاء الدين المارداني، ومسك الأمير علم الدين بن زنبور وتولية الوزارة الصاحب موفق الدين.

وفي صبيحة يوم السبت خامس ذي الحجة دخل الأمير علاء الدين علي الجمدار من الديار المصرية إلى دمشق المحروسة في أبهة هائلة، وموكب حافل مستوليا نيابة بها، وبين يديه الأمراء على العادة، فوقف عند تربة بهادرآص حتى استعرض عليه الجيش فلحقهم، فدخل دار السعادة فنزلها على عادة النواب قبله، جعله الله وجها مباركا على المسلمين.

وفي يوم السبت ثالث عشره قدم دوادار السلطان الأمير عز الدين مغلطاي من الديار المصرية فنزل القصر الأبلق، ومن عزمه الذهاب إلى البلاد الحلبية ليجهز الجيوش نحو بيبغا وأصحابه انتهى والله تعالى أعلم.

ثم دخلت سنة أربع وخمسين وسبعمائة

استهلت هذه السنة وسلطان الإسلام بالديار المصرية والبلاد الشامية والمملكة الحلبية وما والاها والحرمين الشريفين الملك الصالح صلاح الدين صالح بن الملك الناصر محمد بن الملك المنصور قلاوون الصالحي، ونائبه بالديار المصرية الأمير سيف الدين قبلاي، والمشار إليهم في تدبير المملكة الأمراء سيف الدين شيخون، وسيف الدين طاز، وسيف الدين صرغتمش الناصري.

وقضاة القضاة وكاتب السر هناك هم المذكورون في السنة الماضية، ونائب حلب الأمير سيف الدين أرغون الكاملي، لأجل مقاتلة أولئك الأمراء الثلاثة بيبغا وأمير أحمد وبكلمش الذين فعلوا ما ذكرنا في رجب من السنة الماضية.

ثم لجأوا إلى بلاد البلبيسين في خفارة زلغادر التركماني، ثم إنه احتال عليهم من خوفه من صاحب مصر وأسلمهم إلى قبضة نائب حلب المذكور، ففرح المسلمون بذلك فرحا شديدا، ولله الحمد والمنة، ونائب طرابلس الأمير سيف الدين أيتمش الذي كان نائب دمشق كما ذكرنا، تقلبت به الأحوال حتى استنيب في طرابلس حين كان السلطان بدمشق كما تقدم.

واستهلت هذه السنة وقد تواترت الأخبار بأن الأمراء الثلاثة بيبغا وبكلمش وأمير أحمد قد حصلوا في قبضة نائب حلب الأمير سيف الدين أرغون، وهم مسجونون بالقلعة بها، ينتظر ما يرسم به فيهم، وقد فرح المسلمون بذلك فرحا شديدا.

وفي يوم السبت سابع عشر المحرم وصل إلى دمشق الأمير عز الدين مغلطاي الدويدار عائدا من البلاد الحلبية، وفي صحبته رأس بيبغا الباغي أمكن الله منه بعد وصول صاحبيه بكلمش الذي كان نائبا بطرابلس، وأمير أحمد الذي كان نائب حماه فقطعت رؤوسهما بحلب بين يدي نائبها سيف الدين أرغون الكاملي، وسيرت إلى مصر.

ولما وصل بيبغا بعدهما فعل به كفعلهما جهرة بعد العصر بسوق الخيل بين يدي نائب السلطنة والجيش برمته والعامة على الأحاجير يتفرجون ويفرحون بمصرعه، وسر المسلمون كلهم ولله الحمد والمنة.

وفي يوم الجمعة الثامن والعشرين من شهر ربيع الأول أقيمت جمعة جديدة بمحلة الشاغور بمسجد هناك يقال له مسجد المزار، وخطب فيه جمال الدين عبد الله بن الشيخ شمس الدين بن قيم الجوزية، ثم وقع في ذلك كلام فأفضى الحال أن أهل المحلة ذهبوا إلى سوق الخيل يوم موكبه، وحملوا سناجق خليفتين من جامعهم ومصاحف واشتملوا إلى نائب السلطنة وسألوا منه أن تستمر الخطبة عندهم، فأجابهم إلى ذلك في الساعة الراهنة، ثم وقع نزاع في جواز ذلك، ثم حكم القاضي الحنبلي لهم بالاستمرار، وجرت خطوب طويلة بعد ذلك.

وفي يوم الأحد سابع ربيع الآخر توفي الأمير الكبير سيف الدين ألجي بغا العادلي، ودفن بتربته التي كان أنشأها قديما ظاهر باب الجابية، وهي مشهورة تعرف به، وكان له في الإمرة قريبا من ستين سنة، وقد كان أصابه في نوبة أرغون شاه وقضيته ضربة أصابت يده اليمنى، واستمر مع ذلك على إمرته وتقدمته محترما معظما إلى أن توفي رحمه الله تعالى عليه.

ذكر أمر غريب جدا

لما ذهبت لتهنئة الأمير ناصر الدين بن الأقوس بنيابة بعلبك وجدت هنالك شابا فذكر لي من حضر أن هذا هو الذي كان أنثى ثم ظهر له ذكر، وقد كان أمره اشتهر ببلاد طرابلس، وشاع بين الناس بدمشق وغير ذلك، وتحدث الناس به.

فلما رأيته وعليه قبعة تركية استدعيته إليّ وسألته بحضرة من حضر، فقلت له: كيف كان أمرك؟ فاستحيى وعلاه خجل يشبه النساء، فقال: كنت امرأة مدة خمس عشرة سنة، وزوجوني بثلاثة أزواج لا يقدرون عليّ، وكلهم يطلق ثم اعترضني حال غريب فغارت ثدياي وصغرت، وجعل النوم يعتريني ليلا ونهارا.

ثم جعل يخرج من محل الفرج شيء قليل قليلا، ويتزايد حتى برز شبه ذكر وأنثيان، فسألته أهو كبير أم صغير؟ فاستحيى ثم ذكر أنه صغير بقدر الأصبع، فسألته هل احتلم؟ فقال: احتلم مرتين منذ حصل له ذلك.

وكان له قريبا من ستة أشهر إلى حين أخبرني، وذكر أنه يحسن صنعة النساء كلها من الغزل والتطريز والزركاش وغير ذلك، فقلت له ما كان اسمك وأنت على صفة النساء؟ فقال: نفيسة، فقلت: واليوم؟ فقال عبد الله، وذكر أنه لما حصل له هذا الحال كتمه عن أهله حتى عن أبيه، ثم عزموا على تزويجه على رابع فقال لأمه: إن الأمر ما صفته كيت وكيت.

فلما اطلع أهله على ذلك أعلموا به نائب السلطنة هناك، وكتب بذلك محضرا واشتهر أمره، فقدم دمشق ووقف بين يدي نائب السلطنة بدمشق، فسأله فأخبره كما أخبرني، فأخذه الحاجب سيف الدين كحلن بن الأقوس عنده وألبسه ثياب الأجناد، وهو شاب حسن، على وجهه وسمته ومشيته وحديثه أنوثة النساء، فسبحان الفعال لما يشاء، فهذا أمر لم يقع مثله في العالم إلا قليلا جدا.

وعندي أن ذكره كان غائرا في جوزة طير فأفرخا ثم لما بلغ ظهر قليلا قليلا، حتى تكامل ظهوره فتبينوا أنه كان ذكرا، وذكر لي أن ذكره برز مختونا فسمى ختان القمر، فهذا يوجد كثيرا والله أعلم.

وفي يوم الثلاثاء خامس شهر رجب قدم الأمير عز الدين بقطية الدويدار من الديار الحلبية وخبر عما اتفق عليه العساكر الحلبية من ذهابهم مع نائبهم ونواب تلك الحصون وعساكر خلف بن زلغادر التركماني، الذي كان أعان بيبغا وذويه على خروجه على السلطان.

وقدم معه إلى دمشق وكان من أمره ما تقدم بسطه في السنة الماضية، وأنهم نهبوا أمواله وحواصله، وأسروا خلقا من بنيه وذويه وحريمه، وأن الجيش أخذ شيئا كثيرا من الأغنام والأبقار والرقيق والدواب والأمتعة وغير ذلك، وأنه لجأ إلى ابن أرطنا فاحتاط عليه واعتقله عنده، وراسل السلطان بأمره ففرح الناس براحة الجيش الحلبي وسلامته بعدما قاسوا شديدا وتعبا كثيرا.

وفي يوم الأربعاء ثالث عشره كان قدوم الأمراء الذين كانوا مسجونين بالإسكندرية من لدن عود السلطان إلى الديار المصرية، ممن كان اتهم بممالأة بيبغا أو خدمته، كالأمير سيف الدين ملك أجي، وعلاء الدين علي السيمقدار، وساطلمس الجلالي ومن معهم.

وفي أول شهر رمضان اتفق أن جماعة من المفتيين أفتوا بأحد قولي العلماء، وهما وجهان لأصحابنا الشافعية وهو جواز استعادة ما استهدم من الكنائس، فتعصب عليهم قاضي القضاة تقي الدين السبكي فقرعهم في ذلك ومنعهم من الإفتاء، وصنف في ذلك مصنفا يتضمن المنع من ذلك سماه (الدسائس في الكنائس).

وفي خامس شهر رمضان قدم بالأمير أبو الغادر التركماني الذي كان مؤازرا لبيبغا في العام الماضي على تلك الأفاعيل القبيحة، وهو مضيق عليه، فأحضر بين يدي النائب ثم أودع القلعة المنصورة في هذا اليوم.

ثم دخلت سنة خمس وخمسين وسبعمائة

استهلت هذه السنة وسلطان الديار المصرية والبلاد الشامية وما يتبع ذلك والحرمين الشريفين وما والاهما من بلاد الحجاز وغيرها الملك الصالح صلاح الدين بن الملك الناصر محمد بن الملك المنصور قلاوون الصالحي، وهو ابن بنت تنكز نائب الشام.

وكان في الدولة الناصرية، ونائبه بالديار المصرية الأمير سيف الدين قبلاي الناصري، ووزيره القاضي موفق الدين، وقضاة مصر هم المذكورون في العام الماضي، ومنهم قاضي القضاة عز الدين بن جماعة الشافعي.

وقد جاور في هذه السنة في الحجاز الشريف، والقاضي تاج الدين المناوي يسد المنصب عنه، وكاتب السر القاضي علاء الدين بن فضل الله العدوي، ومدبرو المملكة الأمراء الثلاثة سيف الدين شيخون، وصرغتمش الناصري والأمير الكبير الدوادار عز الدين مغلطاي الناصري.

ودخلت هذه السنة والأمير سيف الدين شيخون في الأحداث من مدة شهر أو قريب ونائب دمشق الأمير علاء الدين أمير علي المارداني، وقضاة دمشق هم المذكورون في التي قبلها، وناظر الدواوين الصاحب شمس الدين موسى بن التاج إسحاق، وكاتب السر القاضي ناصر الدين بن الشرف يعقوب، وخطيب البلد جمال الدين محمود بن جملة، ومحتسبه الشيخ علاء الدين الأنصاري، قريب الشيخ بهاء الدين بن إمام المشهد، وهو مدرّس الأمينية مكانه أيضا.

وفي شهر ربيع الآخر قدم الأمير علاء الدين مغلطاي الذي كان مسجونا بالإسكندرية ثم أفرج عنه، وقد كان قبل ذلك هو الدولة، وأمر بالمسير إلى الشام ليكون عند حمزة أيتمش نائب طرابلس.

وأما منجك الذي كان وزيره بالديار المصرية وكان معتقلا بالإسكندرية مع مغلطاي، فإنه صار إلى صفد مقيما بها بطالا، كما أن مغلطاي أمر بالمقام بطرابلس بطالا إلى حين يحكم الله عز وجل انتهى والله أعلم.

نادرة من الغرائب

في يوم الاثنين السادس عشر من جمادى الأولى اجتاز رجل من الروافض من أهل الحلة بجامع دمشق وهو يسب أول من ظلم آل محمد، ويكرر ذلك لا يفتر، ولم يصل مع الناس ولا صلّى على الجنازة الحاضرة، على أن الناس في الصلاة، وهو يكرر ذلك ويرفع صوته به، فلما فرغنا من الصلاة نبهت عليه الناس فأخذوه وإذا قاضي القضاة الشافعي في تلك الجنازة حاضر مع الناس.

فجئت إليه واستنطقته من الذي ظلم آل محمد؟ فقال: أبو بكر الصديق، ثم قال جهرة والناس يسمعون: لعن الله أبا بكر وعمر وعثمان ومعاوية ويزيد، فأعاد ذلك مرتين، فأمر به الحاكم إلى السجن، ثم استحضره المالكي وجلده بالسياط، وهو مع ذلك يصرح بالسب واللعن والكلام الذي لا يصدر إلا عن شقي واسم هذا اللعين علي بن أبي الفضل بن محمد بن حسين بن كثير قبحه الله وأخزاه.

ثم لما كان يوم الخميس سابع عشره عقد له مجلس بدار السعادة وحضر القضاة الأربعة وطلب إلى هنالك فقدر الله أن حكم نائب المالكي بقتله، فأخذ سريعا فضرب عنقه تحت القلعة وحرقه العامة وطافوا برأسه البلد ونادوا عليه هذا جزاء من سب أصحاب رسول الله ، وقد ناظرت هذا الجاهل بدار القاضي المالكي وإذا عنده شيء مما يقوله الرافضة الغلاة، وقد تلقى عن أصحاب ابن مطهر أشياء في الكفر والزندقة، قبحه الله وإياهم.

وورد الكتاب بإلزام أهل الذمة بالشروط العمرية

وفي يوم الجمعة ثامن عشر رجب الفرد قرئ بجامع دمشق بالمقصورة بحضرة نائب السلطنة وأمراء الأعراب، وكبار الأمراء، وأهل الحل والعقد والعامة كتاب السلطان بإلزام أهل الذمة بالشروط العمرية وزيادات أخر: منها أن لا يستخدموا في شيء من الدواوين السلطانية والأمراء ولا في شيء من الأشياء، وأن لا تزيد عمامة أحدهم عن عشرة أذرع ولا يركبوا الخيل ولا البغال ولكن الحمير بالأكف عرضا، وأن لا يدخلوا إلا بالعلامات من جرس أو بخاتم نحاس أصفر، أو رصاص، ولا تدخل نساؤهم مع المسلمات الحمامات، وليكن لهن حمامات تختص بهن، وأن يكون إزار النصرانية من كتان أزرق، واليهودية من كتان أصفر، وأن يكون أحد خفيها أسود والآخر أبيض، وأن يحكم حكم مواريثهم على الأحكام الشرعية.

واحترقت باسورة باب الجابية في ليلة الأحد العشرين من جمادى الآخرة، وعدم المسلمون تلك الأطعمات والحواصل النافعة من الباب الجواني إلى الباب البراني.

وفي مستهل شهر رمضان عمل الشيخ الإمام العالم البارع شمس الدين - بن النقاش المصري الشافعي - ورد دمشق بالجامع الأموي تجاه محراب الصحابة، ميعادا للوعظ واجتمع عنده خلق من الأعيان والفضلاء والعامة، وشكروا كلامه وطلاقة عبارته، من غير تلعثم ولا تخليط ولا توقف، وطال ذلك إلى قريب العصر.

وفي صبيحة يوم الأحد ثالثه صلّي بجامع دمشق بالصحن تحت النسر على القاضي كمال الدين حسين ابن قاضي القضاة تقي الدين السبكي الشافعي، ونائبه، وحضر نائب السلطنة الأمير علاء الدين علي، وقضاة البلد والأعيان والدولة كثير من العامة، وكانت جنازته محسودة، وحضر والده قاضي القضاة وهو يهادي بين رجلين، فظهر عليه الحزن والكآبة، فصلّى عليه إماما، وتأسف الناس عليه لسماحة أخلاقه وانجماعه على نفسه لا يتعدى شره إلى غيره. وكان يحكم جيدا نظيف العرض في ذلك، وكان قد درّس في عدة مدارس منها: الشامية البرانية والعذراوية، وأفتى وتصدر، وكانت لديه فضيلة جيدة بالنحو والفقه والفرائض وغير ذلك، ودفن بسفح قاسيون في تربة معروفة لهم رحمهم الله.

عودة الملك الناصر حسن بن الملك الناصر محمد بن قلاوون

وذلك يوم الاثنين ثاني شهر شوال اتفق جمهور الأمراء مع الأمير شيخون وصرغتمش في غيبة طاز في الصيد على خلع الملك الصالح صالح بن الناصر، وأمه بنت تنكز، وإعادة أخيه الملك الناصر حسن.

وكان ذلك يومئذ وألزم الصالح بيته مضيقا عليه، وسلم إلى أمه خوندة بنت الأمير سيف الدين تنكز نائب الشام كان، وقطلبوطاز، وأمسك أخوه سنتم وأخو السلطان الصالح لأمه عمر بن أحمد بن بتكتمر الساقي، ووقعت خطبة عظيمة بالديار المصرية، ومع هذا فلم يقبل البريد إلى الشام وخبر البيعة إلا يوم الخميس الثالث عشر من هذا الشهر، قدم بسببها الأمير عز الدين أيدمر الشمسي وبايع النائب بعدما خلع عليه خلعة سنية، والأمراء بدار السعادة على العادة، ودقت البشائر وزين البلد وخطب له الخطيب يوم الجمعة على المنبر بحضرة نائب السلطنة والقضاة والدولة.

وفي صبيحة يوم الخميس تاسع عشر شوال دخل دمشق الأمير سيف الدين منجك على نيابة طرابلس ونزل القصر الأبلق مع الأمير عز الدين أيدمر فأقام أياما عديدة ثم سار إلى بلده بعد أيام.

وفي صبيحة يوم الخميس السادس والعشرين منه دخل الأمير سيف الدين طاز من الديار المصرية في جماعة من أصحابه مجتازا إلى نيابة حلب المحروسة، فتلقاه نائب السلطنة إلى قريب من جامع كريم الدين بالقبيبات، وشيعه إلى قريب من باب الفراديس فسار ونزل بوطأة برزة فبات هنالك، ثم أصبح غاديا وقد كان نظير الأمير شيخون ولكن قوي عليه فسيره إلى بلاد حلب، وهو محبب إلى العامة لما له من السعي المشكور في أمور كبار كما تقدم.

ثم دخلت سنة ست وخمسين وسبعمائة

استهلت هذه السنة وسلطان الإسلام والمسلمين السلطان الملك الناصر حسن بن الملك الناصر محمد بن الملك المنصور قلاوون الصالحي، وليس بالديار المصرية نائب ولا وزير. وقضاتها هم المذكورون في التي قبلها، ونائب دمشق الأمير علي المارداني، والقضاة والحاجب والخطيب وكاتب السر هم المذكورون في التي قبلها، ونائب حلب الأمير سيف الدين طاز، ونائب طرابلس منجك، ونائب حماه استدمر العمري، ونائب صفد الأمير شهاب الدين بن صبح، ونائب حمص الأمير ناصر الدين بن الأقوس، ونائب بعلبك الحاج كامل.

وفي يوم الاثنين تاسع صفر مسك الأمير أرغون الكاملي الذي ناب بدمشق مدة ثم بعدها ابن نور الدين علي بن غازي من قرية اللبوة من الكلام السيء الذي نال به من رسول الله ، وسبه وقذفه بكلام لا يليق ذكره، فقتل لعنه الله يومئذ بعد أذان العصر بسوق الخيل وحرقه الناس وشفى الله صدور قوم مؤمنين ولله الحمد والمنة.

وفي صبيحة يوم الأحد رابع عشر شعبان درّس القاضي بهاء الدين أبو البقاء السبكي بالمدرسة القيمرية نزل له عنها ابن عمه قاضي القضاة تاج الدين عبد الوهاب ابن قاضي القضاة تقي السبكي وحضر عنده القضاة والأعيان، وأخذ في قوله تعالى: {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} 25.

وصلّي في هذا اليوم بعد الظهر على الشيخ الشاب الفاضل المحصل جمال الدين عبد الله بن العلامة شمس الدين بن قيم الجوزية الحنبلي، ودفن عند أبيه بمقابر باب الصغير، وكانت جنازته حافلة، وكانت لديه علوم جيدة، وذهنه حاضر خارق، أفتى ودرّس وأعاد وناظر وحج مرات عديدة رحمه الله وبل بالرحمة ثراه.

وفي يوم الاثنين تاسع عشر شوال وقع حريق هائل في سوق القطانين بالنهار، وذهب إليه نائب السلطنة والحجبة والقضاة حتى اجتهد الفعول والمتبرعون في إخماده وطفيه، حتى سكن شره وذهب بسببه دكاكين ودور كثيرة جدا، فإنا لله وإنا إليه راجعون.

وقد رأيته من الغد والنار كما هي عمالة والدخان صاعد والناس يطفونه بالماء الكثير الغمر والنار لا تخمد، لكن هدمت الجدران وخربت المساكن وانتقل السكان انتهى والله أعلم.

ثم دخلت سنة سبع وخمسين وسبعمائة

استهلت هذه السنة وسلطان البلاد بالديار المصرية والشامية والحرمين وغير ذلك الملك الناصر حسن بن الملك الناصر محمد بن الملك المنصور قلاوون الصالحي، ولا نائب ولا وزير بمصر، وإنما يرجع تدبير المملكة إلى الأمير سيف الدين شيخون، ثم الأمير سيف الدين صرغتمش، ثم الأمير عز الدين مغلطاي الدوايدار.

وقضاة مصرهم المذكورون في التي قبلها سوى الشافعي فإنه ابن المتوفي قاضي القضاة تاج الدين عبد الوهاب بن تقي الدين السبكي، ونائب حلب الأمير سيف الدين طاز، وطرابلس الأمير سيف الدين منجك، وبصغد الأمير شهاب الدين بن صبح، وبحماة يدمر العمري، وبحمص علاء الدين بن المعظم، وببعلبك الأمير ناصر الدين الأقوس.

وفي العشر الأول من ربيع الأول تكامل إصلاح بلاط الجامع الأموي، وغسل فصوص المقصورة والقبة، وبسط بسطا حسنا، وبيضت أطباق القناديل، وأضاء حاله جدا، وكان المستحث على ذلك الأمير علاء الدين أيدغمش أحد أمراء الطبلخانات، بمرسوم نائب السلطنة له في ذلك.

وفي يوم الجمعة الثامن والعشرين من ربيع الآخر من هذه السنة صلّي على الأمير سيف الدين براق أمير أرجو بجامع تنكز، ودفن بمقابر الصوفية، وكان مشكور السيرة كثير الصلاة والصدقة محبا للخير وأهله، من أكبر أصحاب الشيخ تقي الدين بن تيمية رحمه الله تعالى.

وقد رسم لولديه ناصر الدين محمد وسيف الدين أبي بكر كل منهما بعشرة أرماح، ولناصر الدين بمكان أبيه في الوظيفة بإسطبل السلطان.

وفي يوم الخميس رابع شهر جمادى الأولى خلع على الأميرين الأخوين ناصر الدين محمد وسيف الدين أبي بكر ولدي الأمير سيف الدين براق رحمه الله تعالى، بأميرين عشرتين.

ووقع في هذا الشهر نزاع بين الحنابلة في مسألة المناقلة، وكان ابن قاضي الجبل الحنبلي يحكم بالمناقلة في قرار دار الأمير سيف الدين طيدمر الإسماعيلي حاجب الحجاب إلى أرض أخرى يجعلها وقفا على ما كانت قرار داره عليه، ففعل ذلك بطريقة ونفذه القضاة الثلاثة الشافعي والحنفي والمالكي.

فغضب القاضي الحنبلي وهو قاضي القضاة جمال الدين المرداوي المقدسي من ذلك، وعقد بسبب ذلك مجالس، وتطاول الكلام فيه، وادّعى كثير منهم أن مذهب الإمام أحمد في المناقلة إنما هو في حال الضرورة، وحيث لا يمكن الانتفاع بالموقوف، فأما المناقلة لمجرد المصلحة والمنفعة الراجحة فلا، وامتنعوا من قبول ما قرره الشيخ تقي الدين ابن تيمية في ذلك.

ونقله عن الإمام أحمد من وجوه كثيرة من طريق ابنيه صالح وحرب وأبي داود وغيرهم، أنها تجوز للمصلحة الراجحة، وصنف في ذلك مسألة مفردة وقفت عليها - يعني الشيخ عماد الدين بن كثير - فرأيتها في غاية الحسن والإفادة، بحيث لا يتخالج من اطلع عليها ممن يذوق طعم الفقه أنها مذهب الإمام أحمد رحمه الله.

فقد احتج أحمد في ذلك في رواية ابنه صالح بما رواه عن يزيد بن عوف، عن المسعودي، عن القاسم بن محمد: أن عمر كتب إلى ابن مسعود أن يحول المسجد الجامع بالكوفة إلى موضع سوق التمارين، ويجعل السوق في مكان المسجد الجامع العتيق، ففعل ذلك.

فهذا فيه أوضح دلالة على ما استدل به فيها من النقل بمجرد المصلحة فإنه لا ضرورة إلى جعل المسجد العتيق سوقا، على أن الإسناد فيه انقطاع بين القاسم وبين عمر وبين القاسم وابن مسعود، ولكن قد جزم به صاحب المذهب، واحتج به وهو ظاهر واضح في ذلك، فعقد المجلس في يوم الاثنين الثامن والعشرين من الشهر.

وفي ليلة الأربعاء الرابع والعشرين من جمادى الأولى وقع حريق عظيم ظاهر باب الفرج احترق فيه بسببه قياسير كثيرة لطاز ويلبغا، وقيسرية الطوشاي لبنت تكز، وأخر كثيرة ودور ودكاكين، وذهب للناس شيء كثير من الأمتعة والنحاس والبضائع وغير ذلك، مما يقاوم ألف ألف وأكثر خارجا عن الأموال، فإنا لله وإنا إليه راجعون.

وقد ذكر كثير من الناس أنه كان في هذه القياسير شر كثير من الفسق والربا والزغل وغير ذلك.

وفي السابع والعشرين من جمادى الأولى ورد الخبر بأن الفرنج لعنهم الله استحوذوا على مدينة صفد: قدموا في سبعة مراكب وقتلوا طائفة من أهلها ونهبوا شيئا كثيرا وأسروا أيضا، وهجموا على الناس وقت الفجر يوم الجمعة، وقد قتل منهم المسلمون خلقا كثيرا، وكسروا مركبا من مراكبهم، وجاء الفرنج في عشية السبت قبل العصر، وقدم الوالي وهو جريح مثقل، وأمر نائب السلطنة عند ذلك بتجهيز الجيش إلى تلك الناحية فساروا تلك الليلة ولله الحمد.

وتقدمهم حاجب الحجاب وتحدر إليهم نائب صفد الأمير شهب الدين بن صبح، فسبق الجيش الدمشقي، ووجد الفرنج قد برزوا بما غنموا من الأمتعة والأسارى إلى جزيرة تلقاء صيدا في البحر، وقد أسر المسلمون منهم في المعركة شيخا وشابا من أبناء أشرافهم، وهو الذي عاقهم عن الذهاب، فراسلهم الجيش في إنفكاك الأساري من أيديهم فبادرهم عن كل رأس بخمسمائة فأخذوا من ديوان الأسارى مبلغ ثلاثين ألفا، ولم يبق معهم ولله الحمد أحد.

واستمر الصبي من الفرنج مع المسلمين، وأسلم ودفع إليهم الشيخ الجريح، وعطش الفرنج عطشا شديدا، وأرادوا أن يرووا من نهر هناك فبادرهم الجيش إليه فمنعوهم أن ينالوا منه قطرة واحدة، فرحلوا ليلة الثلاثاء منشمرين بما معهم من الغنائم، وبعثت رؤوس جماعة من الفرنج ممن قتل في المعركة فنصبت على القلعة بدمشق.

وجاء الخبر في هذا الوقت بأن إيناس قد أحاط بها الفرنج، وقد أخذوا الربيض وهم محاصرون القلعة، وفيها نائب البلد، وذكروا أنهم قتلوا خلقا كثيرا من أهلها فإنا لله وإنا إليه راجعون.

وذهب صاحب حلب في جيش كثيف نحوهم والله المسئول أن يظفرهم بحوله وقوته، وشاع بين العامة أيضا أن الإسكندرية محاصرة ولم يتحقق ذلك إلى الآن، وبالله المستعان.

وفي يوم السبت رابع جمادى الآخرة قدم رؤوس من قتلى الفرنج على صيدا، وهي بضع وثلاثون رأسا، فنصبت على شرفات القلعة ففرح المسلمون بذلك ولله الحمد.

وفي ليلة الأربعاء الثاني والعشرين من جمادى الآخرة وقع حريق عظيم داخل باب الصغير من مطبخ السكر الذي عند السويقة الملاصقة لمسجد الشناشين، فاحترق المطبخ وما حوله إلى حمام أبي نصر، واتصل بالسويقة المذكورة وما هنالك من الأماكن، فكان قريبا أو أكثر من الحريق ظاهر باب الفرج فإنا لله وإنا إليه راجعون، وحضر نائب السلطنة وذلك أنه كان وقت صلاة العشاء ولكن كان الريح قويا، وذلك بتقدير العزيز العليم.

وتوفي الشيخ عز الدين محمد بن إسماعيل بن عمر الحموي أحد مشايخ الرواة في ليلة الثلاثاء الثامن والعشرين من جمادى الآخرة، وصلّي عليه من الغد بالجامع الأموي بعد الظهر ودفن بمقابر باب الصغير.

وكان مولده في ثاني ربيع الأول سنة ثمانين وستمائة، فجمع الكثير وتفرد بالرواية عن جماعة في آخر عمره، وانقطع بموته سماع السنن الكبير للبيهقي، رحمه الله.

ووقع حريق عظيم ليلة الجمعة خامس عشر رجب بمحلة الصالحية من سفح قاسيون، فاحترق السوق القبلي من جامع الحنابلة بكماله شرقا وغربا، وجنوبا وشمالا. فإنا لله وإنا إليه راجعون.

وفي يوم الجمعة خامس شهر رمضان خطب بالجامع الذي أنشأه سيف الدين يلبغا الناصري غربي سوق الخيل، وفتح في هذا اليوم وجاء في غاية الحسن والبهاء، وخطب الشيخ ناصر الدين بن الربوة الحنفي.

وكان قد نازعه فيه الشيخ شمس الدين الشافعي الموصلي، وأظهر ولاية من واقفه يلبغا المذكور، ومراسيم شريفة سلطانية، ولكن قد قوي عليه ابن الربوة بسبب أنه نائب عن الشيخ قوام الدين الأتقاني الحنفي، وهو مقيم بمصر، ومعه ولاية من السلطان متأخرة عن ولاية الموصلي، فرسم لابن الربوة، فلبس يومئذ الخلعة السوداء من دار السعادة وجاؤوا بين يديه بالسناجق السود الخليفية. والمؤذنون يكبرون على العادة، وخطب يومئذ خطبة حسنة أكثرها في فضائل القرآن، وقرأ في المحراب بأول سورة طه، وحضر كثير من الأمراء والعامة والخاصة، وبعض القضاة، وكان يوما مشهودا، وكنت ممن حضر قريبا منه.

والعجب أني وقفت في شهر ذي القعدة على كتاب أرسله بعض الناس إلى صاحب له من بلاد طرابلس وفيه: والمخدوم يعرف الشيخ عماد الدين بما جرى في بلاد السواحل من الحريق من بلاد طرابلس إلى آخر معاملة بيروت إلى جميع كسروان، أحرق الجبال كلها ومات الوحوش كلها مثل النمور والدب والثعلب والخنزير من الحريق، ما بقي للوحوش موضع يهربون فيه، وبقي الحريق عليه أياما وهرب الناس إلى جانب البحر من خوف النار واحترق زيتون كثير، فلما نزل المطر أطفأه بإذن الله تعالى - يعني الذي وقع في تشرين وذلك في ذي القعدة من هذه السنة - قال: ومن العجب أن ورقة من شجرة وقعت في بيت من مدخنته فأحرقت جميع ما فيه من الأثاث والثياب وغير ذلك، ومن حلية حرير كثير، وغالب هذه البلاد للدرزية والرافضة.

نقلته من خط كاتبه محمد بن يلبان إلى صاحبه، وهما عندي بقبان فيالله العجب.

وفي هذا الشهر - يعني ذي القعدة - وقع بين الشيخ إسماعيل بن العز الحنفي وبين أصحابه من الحنفية مناقشة سبب اعتدائه على بعض الناس في محاكمة، فاقتضى ذلك إحضاره إلى مجلس الحكم ثلاثة أيام كمثل المتمرد عندهم، فلما لم يحضر فيها حكم عليه القاضي شهاب الدين الكفري نائب الحنفي بإسقاط عدالته، ثم ظهر خبره بأنه قصد بلاد مصر، فأرسل النائب في أثره من يرده فعنفه، ثم أطلقه إلى منزله، وشفع فيه قاضي القضاة الحنفي فاستحسن ذلك ولله الحمد والمنة.

ثم دخلت سنة ثمان وخمسين وسبعمائة

استهلت هذه السنة والخليفة أمير المؤمنين المعتضد بالله أبو بكر بن المستكفي بالله أبي الربيع سليمان العباسي، وسلطان الإسلام بالديار المصرية وما يتبعها وبالبلاد الشامية وما والاها والحرمين الشريفين وغير ذلك الملك الناصر حسن بن الملك الناصر محمد بن الملك المنصور قلاوون الصالحي ولي له بمصر نائب ولا وزير.

وإنما ترجع الأمور إصدارا وإيرادا إلى الأميرين الكبيرين سيف الدين شيخون وصرغتمش الناصريين، وقضاة مصرهم المذكورون في التي قبلها، ونائب الشام بدمشق الأمير علاء الدين أمير علي المارداني، وقضاة دمشق هم المذكورون في التي قبلها انتهى.

كائنة غريبة جدا

لما كان يوم الأربعاء الرابع والعشرين من رجب من هذه السنة نهدت جماعة من مجاوري الجامع بدمشق من مشهد علي وغيره، واتبعهم جماعة من الفقراء والمغاربة، وجاؤوا إلى أماكن متهمة بالخمر وبيع الحشيش فكسروا أشياء كثيرة من أواني الخمر، وأراقوا ما فيها وأتلفوا شيئا كثيرا من الحشيش وغيره، ثم انتقلوا إلى حكر السماق وغيرهم فثار عليهم من البارذارية والكلابرية وغيرهم من الرعاع فتناوشوا.

وضربت عليهم ضرابات بالأيدي وغيرهم، وربما سل بعض الفساق السيوف عليهم كما ذكر، وقد رسم ملك الأمراء لوالي المدينة ووالي البر أن يكونوا عضدا لهم وعونا على الخمارين والحشاشة، فنصروهم عليهم.

غير أنه كثر معهم الضجيج ونصبوا راية واجتمع عليهم خلق كثير، ولما كان في أواخر النهار تقدم جماعة من النقباء والخزاندارية ومعهم جنازير فأخذوا جماعة من مجاوري الجامع وضربوا بالمقارع وطيف بهم في البلد ونادوا عليهم: هذا جزاء من يتعرض لما لا يعنيه تحت علم السلطان.

فتعجب الناس من ذلك وأنكروه حتى أنه أنكر اثنان من العامة على المنادية فضرب بعض الجند أحدهم بدبوس فقتله وضرب الآخر فيقال إنه مات أيضا فإنا لله وإنا إليه راجعون.

وفي شعبان من هذه السنة حكي عن جارية من عتيقات الأمير سيف الدين تمر المهمندار أنها حملت قريبا من سبعين يوما ثم شرعت تطرح ما في بطنها فوضعت في قرب من أربعين يوما في أيام متتالية ومتفرقة أربع عشرة بنتا وصبيا بعدهن قل من يعرف شكل الذكر من الأنثى.

وجاء الخبر بأن الأمير سيف الدين شيخون مدبر الممالك بالديار المصرية والشامية ظفر عليه مملوك من مماليك السلطان فضربه بالسيف ضربات فجرحه في أماكن في جسده.

منها: ما هو في وجهه، ومنها: ما هو في يده، فحمل إلى منزله صريعا طريحا جريحا، وغضب لذلك طوائف من الأمراء حتى قيل إنهم ركبوا ودعوا إلى المبارزة فلم يجيء إليهم وعظم الخطب بذلك جدا واتهمو به الأمير سيف الدين صرغتمش وغيره، وأن هذا إنما فعل عن ممالأة منهم فالله أعلم.

وفاة أرغون الكاملي باني البيمارستان بحلب

كانت وفاته بالقدس الشريف في يوم الخميس السادس والعشرين من شوال من هذه السنة، ودفن بتربة أنشأها غربي المسجد بشماله، وقد ناب بدمشق مدة بعد حلب، ثم جرت الكائنة التي أصلها بيبغا قبحه الله في أيامه، ثم صار إلى نيابة حلب ثم سجن بالإسكندرية مدة، ثم أفرج عنه فأقام بالقدس الشريف إلى أن كانت وفاته كما ذكرنا في التاريخ المذكور عزّره الشريف ابن زريك، والله أعلم.

وفاة الأمير شيخون

ورد الخبر من الديار المصرية بوفاة الأمير شيخون ليلة الجمعة السادس والعشرين من ذي القعدة ودفن من الغد بتربته، وقد ابتنى مدرسة هائلة وجعل فيها المذاهب الأربعة ودار للحديث وخانقاه للصوفية، ووقف عليها شيئا كثيرا، وقرر فيها معاليم وقراءة دارة، وترك أموالا جزيلة وحواصل كثيرة ودواوين في سائر البلاد المصرية والشامية، وخلّف بنات وزوجة، وورث البقية أولاد السلطان المذكور بالولاء، ومسك بعد وفاته أمراء كثيرون بمصر كانوا من حزبه، من أشهرهم عز الدين بقطاي والدوادار وابن قوصون وأمه أخت السلطان خلف عليها شيخون بعد قوصون انتهى والله أعلم.

ثم دخلت سنة تسع وخمسين وسبعمائة

استهلت هذه السنة وسلطان الإسلام بالبلاد المصرية والشامية والحرمين الشريفين وما يتبع ذلك الملك الناصر حسن بن الملك الناصر محمد بن الملك المنصور قلاوون بن عبد الله الصالحي، وقد قوي جانبه وحاشيته بموت الأمير شيخون كما ذكرنا في سادس عشرين ذي القعدة من السنة الماضية.

وصار إليه من ميراثه من زهرة الحياة شيء كثير من القناطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسومة والأنعام والحرث، وكذلك من المماليك والأسلحة والعدة والبرك والمتاجر ما يشق حصره ويتعذر إحصاؤه ها هنا، وليس في الديار المصرية فيما بلغنا إلى الآن نائب ولا وزير، والقضاة هم المذكورون في التي قبلها.

وأما دمشق فنائبها وقضاتها هم المذكورون في التي قبلها سوى الحنفي فإنه قاضي القضاة شرف الدين الكفري، عوضا عن نجم الدين الطوسي.

توفي في شعبان من السنة الماضية، ونائب حلب سيف الدين طاز، وطرابلس منجك، وحماة استدمر العمري، وصفد شهاب الدين بن صبح، وبحمص صلاح الدين خليل بن خاض برك، وببعلبك ناصر الدين الأقوس.

وفي صبيحة يوم الاثنين رابع عشر المحرم خرجت أربعة آلاف مع أربع مقدمين إلى ناحية حلب نصرة لجيش حلب على مسك طاز إن امتنع من السلطنة كما أمر.

ولما كان يوم الحادي والعشرين من المحرم نادى المنادي من جهة نائب السلطنة أن يركب من بقي من الجند في الحديد ويوافوه إلى سوق الخيل، فركب معهم قاصدا ناحية ثنية العقاب ليمنع الأمير طاز من دخول البلد، لما تحقق مجيئه في جيشه قاصدا إلى الديار المصرية.

فانزعج الناس لذلك وأخليت دار السعادة من الحواصل والحريم إلى القلعة، وتحصن كثير من الأمراء بدورهم داخل البلد، وأغلق باب النصر، فاستوحش الناس من ذلك بعض الشيء، ثم غلقت أبواب البلد كلها إلا بأبي الفراديس والفرج، وباب الجابية أيضا لأجل دخول الحجاج، ودخل المحمل صبيحة يوم الجمعة الثالث والعشرين من المحرم ولم يشعر به كثير من الناس لشغلهم بما هم فيه من أمر طاز، وأمر العشير بحوران، وجاء الخبر بمسك الأمير سيف الدين طيدمر الحاجب الكبير بأرض حوران.

وسجنه بقلعة صرخد، وجاء سيفه صحبة الأمير جمال الدين الحاجب، فذهب به إلى الوطاق عند الثنية، وقد وصل طاز بجنوده إلى باب القطيفة وتلاقى شاليشه بشاليش نائب الشام، ولم يكن منهم قتال ولله الحمد.

ثم تراسل هو والنائب في الصلح على أن يسلم طاز نفسه ويركب في عشرة سروج إلى السلطان وينسلخ مما هو فيه، ويكاتب فيه النائب وتلطفوا بأمره عند السلطان وبكل ما يقدر عليه. فأجاب إلى ذلك وأرسل يطلب من يشهده على وصيته، فأرسل إليه نائب السلطنة القاضي شهاب الدين قاضي العسكر، فذهب إليه فأوصى لولده وأم ولده ولوالده نفسه، وجعل الناظر على وصيته الأمير علاء الدين أمير علي المارداني نائب السلطنة، وللأمير صرغتمش، ورجع النائب من الثنية عشية يوم السبت بين العشاءين الرابع والعشرين منه وتضاعفت الأدعية له وفرح الناس بذلك فرحا شديدا. ودعوا إلى الأمير طاز بسبب إجابته إلى السمع والطاعة، وعدم مقاتلته مع كثرة من كان معه من الجيوش، وقوة من كان يحرضه على ذلك من أخوته وذويه، وقد اجتمعت بنائب السلطنة الأمير علاء الدين أمير علي المارداني فأخبرني بملخص ما وقع منذ خرج إلى أن رجع.

ومضمون كلامه أن الله لطف بالمسلمين لطفا عظيما، إذ لم يقع بينهم قتال، فإنه قال: لما وصل طاز إلى القطيفة وقد نزلنا نحن بالقرب من خان لاجين أرسلت إليه مملوكا من مماليكي أقول له: إن المرسوم الشريف قد ورد بذهابك إلى الديار المصرية في عشرة سروج فقط، فإذا جئت هكذا فأهلا وسهلا، وإن لم تفعل فأنت أصل الفتنة.

وركبت ليلة الجمعة طول الليل في الجيش وهو ملبس، فرجع مملوكي ومعه مملوكه سريعا يقول: إنه يسأل أن يدخل بطلبه كما خرج يطلبه من مصر، فقلت: لا سبيل إلى ذلك إلا في عشرة سروج كما رسم السلطان، فرجع وجاءني الأمير الذي جاء من مصر بطلبه فقال: إنه يطلب منك أن يدخل في مماليكه فإذا جاوز دمشق إلى الكسوة نزل جيشه هناك وركب هو في عشرة سروج كما رسم.

فقلت: لا سبيل إلى أن يدخل دمشق ويتجاوز بطلبه أصلا، وإن كان عنده خيل ورجال وعدة فعندي أضعاف ذلك، فقال لي الأمير: يا خوند لا يكون تنسى قيمته، فقلت: لا يقع إلا ما تسمع، فرجع فما هو إلا أن ساق مقدار رمية سهم وجاء بعض الجواسيس الذين لنا عندهم فقال: ياخوندها قد وصل جيش حماة وطرابلس، ومن معهم من جيش دمشق الذين كانوا قد خرجوا بسببه، وقد اتفقوا هم وهو.

قال: فحينئذ ركبت في الجيش وأرسلت طليعتين أمامي وقلت تراءوا للجيوش الذين جاؤوا حتى يروكم فيعلموا أنا قد أحطنا بهم من كل جانب.

فحينئذ جاءت البرد من جهته بطلب الأمان ويجهرون بالإجابة إلى أن يركب في عشرة سروج، ويترك طلبه بالقطيفة، وذلك يوم الجمعة، فلما كان الليل ركبت أنا والجيش في السلاح طول الليل وخشيت أن تكون مكيدة وخديعة، فجاءتنا الجواسيس فأخبرونا أنهم قد أوقدوا نشابهم ورماحهم وكثيرا من سلاحهم، فتحققنا عند ذلك طاعته وإجابته، لكل ما رسم به، فلما أصبح يوم السبت وصى وركب في عشرة سروج وسار نحو الديار المصرية ولله الحمد والمنة.

وفي يوم الاثنين الرابع والعشرين من صفر دخل حاجب الحجاب الذي كان سجن في قلعة صرخد مع البريدي الذي قدم بسبه من الديار المصرية، وتلقاه جماعة من الأمراء والكبراء، وتصدق بصدقات كثيرة في داره، وفرحوا به فرحا شديدا، وهو والناس يقولون إنه ذاهب إلى الديار المصرية معظما مكرما على تقدمة ألف ووظائف هناك، فلما كان يوم الخميس السابع والعشرين منه لم يفجأ الناس إلا وقد دخل القلعة المنصورة معتقلا بها مضيقا عليه، فتعجب الناس من هذه الترحة من تلك الفرحة فما شاء الله كان.

وفي يوم الأربعاء رابع ربيع الأول عقد مجلس بسبب الحاجب بالمشهد من الجامع.

وفي يوم الخميس أحضر الحاجب من القلعة إلى دار الحديث، واجتمع القضاة هناك بسبب دعاوى يطلبون منه حق بعضهم.

ثم لما كان يوم الاثنين تاسعه قدم من الديار المصرية مقدم البريدية بطلب الحاجب المذكور فأخرج من القلعة السلطانية وجاء إلى نائب السلطنة فقبّل قدمه، ثم خرج إلى منزله وركب من يومه قاصدا إلى الديار المصرية مكرما، وخرج بين يديه خلق من العوام والحرافيش يدعون له، وهذا أغرب ما أرّخ، فهذا الرجل نالته شدة عظيمة بسبب سجنه بصرخد، ثم أفرج عنه، ثم حبس في قلعة دمشق ثم أفرج عنه، وذلك كله في نحو شهر.

ثم جاءت الأخبار في يوم الأحد ثاني عشر جمادى الأولى بعزل نائب السلطنة عن دمشق فلم يركب في الموكب يوم الاثنين، ولا حضر في دار العدل، ثم تحققت الأخبار بذلك وبذهابه إلى نيابة حلب، ومجيء نائب حلب إلى دمشق، فتأسف كثير من الناس عليه لديانته وجوده وحسن معاملته لأهل العلم، ولكن حاشيته لا ينفذون أوامره، فتولد بسبب ذلك فساد عريض وحموا كثيرا من البلاد.

فوقعت الحروب بين أهلها بسبب ذلك، وهاجت العشيرات فإنا لله وإنا إليه راجعون.

وفي صبيحة يوم السبت الخامس والعشرين خرج الأمير علي المارداني من دمشق في طلبه مستعجلا في أبهة النيابة، قاصدا إلى حلب المحروسة، وقد ضرب وطاقه بوطأة برزة، فخرج الناس للتفرج على طلبه.

وفي هذا اليوم بعد خروج النائب بقليل دخل الأمير سيف الدين طيدمر الحاجب من الديار المصرية عائدا إلى وظيفة الحجوبية في أبهة عظيمة، وتلقاه الناس بالشموع، ودعوا له، ثم ركب من يومه إلى خدمة ملك الأمراء إلى وطأة برزة، فقبّل يده وخلع عليه الأمراء، واصطلحا. انتهى والله أعلم.

دخول نائب السلطنة منجك إلى دمشق

كان ذلك في صبيحة يوم الخميس الرابع والعشرين من جمادى الآخرة من ناحية حلب وبين يديه الأمراء والجيش على العادة، وأوقدت الشموع وخرج الناس ومنهم من باب على الأسطحة وكان يوما هائلا.

وفي أواخر شهر رجب برز نائب السلطنة إلى الربوة وأحضر القضاة وولاة الأمور ورسم بإحضار المفتيين - وكنت فيمن طلب يومئذ إلى الربوة فركبت إليها - وكان نائب السلطنة عزم يومئذ على تخريب المنازل المبنية بالربوة وغلق الحمام من أجل هذه فيما ذكر أنها بنيت ليقضي فيها، وهذا الحمام أوساخه صائرة إلى النهر الذي يشرب منه الناس، فاتفق الحال في آخر الأمر على إبقاء المساكن ورد المرتفعات المسلطة على توره وناس، ويترك ما هو مسلط على بردى، فانكف الناس عن الذهاب إلى الربوة بالكلية، ورسم يومئذ بتضييق أكمام النساء وأن تزال الأجراس والركب عن الحمير التي للمكارية.

وفي أوائل شهر شعبان ركب نائب السلطنة يوم الجمعة بعد العصر ليقف على الحائط الرومي الذي بالرحبية، فخاف أهل الأسواق وغلقوا دكاكينهم عن آخرهم، واعتقدوا أن نائب السلطنة أمر بذلك، فغضب من ذلك وتنصل منه، ثم إنه أمر بهدم الحائط المذكور، وأن ينقل إلى العمارة التي استجدها خارج باب النصر في دار الصناعة التي إلى جانب دار العدل، أمر ببنائها خانا ونقلت تلك الأحجار إليها، انتهى والله أعلم.

عزل القضاة الثلاثة بدمشق

ولما كان يوم الثلاثاء تاسع شعبان قدم من الديار المصرية بريدي ومعه تذكرة - ورقة - فيها السلام على القضاة المستجدين، وأخبر بعزل القاضي الشافعي والحنفي والمالكي، وأنه ولى قضاة الشافعية القاضي بهاء الدين أبو البقا السبكي، وقضاء الحنفية الشيخ جمال الدين بن السراج الحنفي، وذهب الناس إلى السلام عليهم والتهنئة لهم واحتفلوا بذلك، وأخبروا أن القاضي المالكي سيقدم من الديار المصرية، ولما كان يوم السبت السابع والعشرين من شعبان وصل البريد من الديار المصرية ومعه تقليدان وخلعتان للقاضي الشافعي والقاضي الحنفي، فلبسا الخلعتين وجاءا من دار السعادة إلى الجامع الأموي، وجلسا في محراب المقصورة، وقرأ تقليد قاضي القضاة بهاء الدين أبي البقاء الشافعي، الشيخ نور الدين بن الصارم المحدث على السدة تجاه المحراب.

وقرأ تقليد قاضي القضاة جمال الدين بن السراج الحنفي الشيخ عماد الدين بن السراج المحدث أيضا على السدة، ثم حكما هنالك، ثم جاء أيضا إلى الغزالية فدرس بها قاضي القضاة بهاء الدين أبو البقاء، وجلس الحنفي إلى جانبه عن يمينه، وحضرت عنده فأخذ في صيام يوم الشك، ثم جاء معه إلى المدرسة النورية فدرس بها قاضي القضاة جمال الدين المذكور، وحضر عنده قاضي القضاة بهاء الدين، وذكروا أنه أخذ في قوله تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ}الآية 26.

ثم انصرف بهاء الدين إلى المدرسة العادلية الكبيرة فدرس بها قوله تعالى: {اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ} الآية 27.

وفي صبيحة يوم الأربعاء ثامن شهر رمضان دخل القاضي المالكي من الديار المصرية فلبس الخلعة يومئذ ودخل المقصورة من الجامع الأموي وقرئ تقليده هنالك بحضرة القضاة والأعيان، قرأه الشيخ نور الدين بن الصارم المحدث، وهو قاضي القضاة شرف الدين أحمد بن الشيخ شهاب الدين عبد الرحمن بن الشيخ شمس الدين محمد بن عسكر العراقي البغدادي. قدم الشام مرارا ثم استوطن الديار المصرية بعد ما حكم ببغداد نيابة عن قطب الدين الأخوي، ودرّس بالمستنصرية بعد أبيه، وحكم بدمياط أيضا ثم نقل إلى قضاء المالكية بدمشق، وهو شيخ حسن كثير التودد ومسدد العبارة حسن البشر عند اللقاء، مشكور في مباشرته عفة ونزاهة وكرم، الله يوفقه ويسدده.

مسك الأمير طرغتمش أتابك الأمراء بالديار المصرية

ورد الخبر إلينا بمسكه يوم السبت الخامس والعشرين من رمضان هذا، وأنه قبض عليه بحضرة السلطان يوم الاثنين العشرين منه، ثم اختلفت الرواية عن قتله غير أنه احتيط على حواصله وأمواله، وصودر أصحابه وأتباعه، فكان فيمن ضرب وعصر تحت المصادرة القاضي ضياء الدين ابن خطيب بيت الأبار، واشتهر أنه مات تحت العقوبة.

وقد كان مقصدا للواردين إلى الديار المصرية، لا سيما أهل بلدة دمشق، وقد باشر عدة وظائف، وكان في آخر عمره قد فوّض إليه نظر جميع الأوقاف ببلاد السلطان، وتكلم في أمر الجامع الأموي، وغيره فحصل بسبب ذلك قطع أرزاق جماعات من الكتبة وغيرهم، ومالأ الأمير صرغتمش في أمور كثيرة خاصة وعامة، فهلك بسببه، وقد قارب الثمانين، انتهى.

إعادة القضاة

وقد كان صرغتمش عزل القضاة الثلاثة بدمشق، وهم الشافعي والحنفي والمالكي كما تقدم، وعزل قبلهم ابن جماعة وولى ابن عقيل، فلما مسك صرغتمش رسم السلطان بإعادة القضاة على ما كانوا عليه.

ولما ورد الخبر بذلك إلى دمشق امتنع القضاة الثلاثة من الحكم، غير أنهم حضروا ليلة العيد لرؤية الهلال بالجامع الأموي، وركبوا مع النائب صبيحة العيد إلى المصلّى على عادة القضاة، وهم على وجل، وقد انتقلوا من مدارس الحكم فرجع قاضي القضاة أبو البقاء الشافعي إلى بستانه بالزعيفرية، ورجع قاضي القضاة ابن السراج إلى داره بالتعديل، وارتحل قاضي القضاة شرف الدين المالكي إلى الصالحية داخل الصمصامية، وتألم كثير من الناس بسببه، لأنه قد قدم غريبا من الديار المصرية وهو فقير ومتدين، وقد باشر الحكم جيدا.

ثم تبين بآخرة أنه لم يعزل وأنه مستمر كما سنذكره، ففرح أصحابه وأحبابه، وكثير من الناس بذلك.

فلما كان يوم الأحد رابع شوال قدم البريد وصحبته تقليد الشافعي قاضي القضاة تاج الدين بن السبكي وتقليد الحنفي قاضي القضاة شرف الدين الكفري واستمر قاضي القضاة شرف الدين المالكي العراقي على قضاء المالكية، لأن السلطان تذكر أنه كان شافهه بولاية القضاء بالشام، وسيره بين يديه إلى دمشق، فحمدت سيرته كما حسنت سريرته. إن شاء الله، وفرح الناس له بذلك.

وفي ذي القعدة توفي المحدث شمس الدين محمد بن سعد الحنبلي يوم الاثنين ثالثه، ودفن من الغد بالسفح، وقد قارب الستين، وكتب كثيرا وخرّج، وكانت له معرفة جيدة بأسماء الأحرار، ورواتها من الشيوخ المتأخرين، وقد كتب للحافظ البرزالي قطعة كبيرة من مشايخه، وخرج له عن كل حديثا أو أكثر، وأثبت له ما سمعه عن كل منهم، ولم يتم حتى توفي البرزالي رحمه الله.

وتوفي بهاء الدين بن المرجاني باني جامع الفوقاني، وكان مسجدا في الأصل فبناه جامعا، وجعل فيه خطبة، وكنت أول من خطب فيه سنة ثمان وأربعين وسبعمائة، وسمع شيئا من الحديث.

وبلغنا مقتل الأمير سيف الدين بن فضل بن عيسى بن مهنا أحد أمراء الأعراب الأجواد الأنجاد وقد ولي إمرة آل مهنا غير مرة كما وليها أبوه من قبله: عدا عليه بعض بني عمه فقتله من غير قصد بقتله، كما ذكر، لكن لما حمل عليه السيف أراد أن يدفع عن نفسه وبنفسه فضربه بالسيف برأسه ففلقه فلم يعش بعده إلا أياما قلائل ومات رحمه الله انتهى.

عزل منجك عن دمشق

ولما كان يوم الأحد ثاني ذي الحجة قدم أمير من الديار المصرية ومعه تقليد نائب دمشق، وهو الأمير سيف الدين منجك بنيابة صفد المحروسة، فأصبح من الغد - وهو يوم عرفة - وقد انتقل من دار السعادة إلى سطح المزة قاصدا إلى صفد المحروسة فعمل العيد بسطح المزة.

ثم ترحل نحو صفد، وطمع كثير من المفسدين والخمارين وغيرهم وفرحوا بزواله عنهم.

وفي يوم العيد قرئ كتاب السلطان بدار السعادة على الأمراء وفيه التصريح باستنابة أميره علي المارداني عليهم، وعوده إليه والأمر بطاعته وتعظيمه واحترامه والشكر له والثناء عليه، وقدم الأمير شهاب الدين بن صبح من نيابة صفد ونزل بداره بظاهر البلد بالقرب من الشامية البرانية.

ووصل البريد يوم السبت الحادي والعشرين من ذي الحجة بنفي صاحب الحجاب طيدمر الإسماعيلي إلى مدينة حماة بطالا من سرجين لا غير والله أعلم.

ثم دخلت سنة ستين وسبعمائة

استهلت هذه السنة وملك الديار المصرية والشامية وما يتبع ذلك من الممالك الإسلامية الملك الناصر حسن بن السلطان الملك الناصر محمد بن السلطان الملك المنصور قلاوون الصالحي، وقضاته بمصرهم المذكورون في السنة التي قبلها، ونائبه بدمشق الأمير علاء الدين أمير علي المارداني، وقضاة الشام هم المذكورون في التي قبلها غير المالكي.

فإنه عزل جمال الدين المسلاتي بشرف الدين العراقي، وحاجب الحجاب الأمير شهاب الدين بن صبح، وخطباء البلد كانت أكثرها المذكورون.

وفي صبيحة يوم الأربعاء ثالث المحرم دخل الأمير علاء الدين أمير علي نائب السلطنة إلى دمشق من نيابة حلب، ففرح الناس به وتلقوه إلى أثناء الطريق، وحملت له العمامة الشجوع في طرقات البلد، وليس الأمير شهاب الدين بن صبح خلعة الحجابة الكبيرة بدمشق عوضا عن نيابة صفد.

ووردت كتب الحجاج يوم السبت الثالث عشر منه مؤرخة سابع عشرين ذي الحجة من العلا وذكروا أن صاحب المدينة النبوية عدا عليه فداويان عند لبسه خلعة السلطان، وقت دخول المحمل إلى المدينة الشريفة فقتلاه، فعدت عبيده على الحجيج الذين هم داخل المدينة فنهبوا من أموالهم وقتلوا بعضهم وخرجوا، وكانوا قد أغلقوا أبواب المدينة دون الجيش فأحرق بعضها.

ودخل الجيش السلطاني فاستنقذوا الناس من أيدي الظالمين.

ودخل المحمل السلطاني إلى دمشق يوم السبت العشرين من هذا الشهر على عادته، وبين يدي المحمل الفداويان اللذان قتلا صاحب المدينة، وقد ذكرت عنه أمور شنيعة بشعة من غلوه في الرفض المفرط، ومن قوله إنه لو تمكن لأخرج الشيخين من الحجرة، وغير ذلك من عبارات مؤدية لعدم إيمانه إن صح عنه والله أعلم.

وفي صبيحة يوم الثلاثاء سادس صفر مسك الأمير شهاب الدين بن صبح حاجب الحجاب وولداه الأميران وحبسوا في القلعة المنصورة، ثم سافر به الأمير ناصر الدين بن خاربك بعد أيام إلى الديار المصرية، وفي رجل ابن صبح قيد، وذكر أنه فك من رجله في أثناء الطريق.

وفي يوم الاثنين ثالث عشر صفر قدم نائب طرابلس الأمير سيف الدين عبد الغني فأدخل القلعة ثم سافر به الأمير علاء الدين بن أبي بكر إلى الديار المصرية محتفظا به مضيقا عليه، وجاء الخبر بأن منجك سافر من صفد على البريد مطلوبا إلى السلطان، فلما كان بينه وبين غزة بريد واحد دخل بمن معه من خدمه التيه فارا من السلطان، وحين وصل الخبر إلى نائب غزة اجتهد في طلبه فأعجزه وتفارط الأمر، انتهى والله أعلم.

مسك الأمير علي المارداني نائب الشام

وأصل ذلك أنه في صبيحة يوم الأربعاء الثاني والعشرين من رجب، ركب الجيش إلى تحت القلعة ملبسين وضربت البشائر في القلعة في ناحية الطارمة، وجاء الأمراء بالطبلخانات من كل جانب والقائم بأعباء الأمر الأمير سيف الدين بيدمر الحاجب، ونائب السلطنة داخل دار السعادة والرسل مرددة بينه وبين الجيش.

ثم خرج فحمل على سروج يسيرة محتاطا عليه إلى ناحية الديار المصرية، واستوحش من أهل الشام عند باب النصر، فتباكى الناس رحمة له وأسفة عليه، لديانته وقلة أذيته وأذية الرعية وإحسانه إلى العلماء والفقراء والقضاة.

ثم في صبيحة يوم الخميس الثالث والعشرين منه احتيط على الأمراء الثلاثة، وهم: الأمير سيف الدين طيبفاحجي أحد مقدمي الألوف، والأمير سيف الدين فطليخا الدوادار أحد المقدمين أيضا، والأمير علاء الدين أيدغمش المارداني أحد أمراء الطبلخانات.

وكان هؤلاء مممن حضر نائب السلطنة المذكور وهم جلساؤه وسماره، والذين بسفارته أعطوا الأجناد والطبلخانات والتقادم، فرفعوا إلى القلعة المنصورة معتقلين بها مع من بها من الأمراء، ثم ورد الخبر بأن الأمير علي رد من الطريق بعد مجاوزته غزة وأرسل إليه بتقليد نيابة صفد المحروسة، فتماثل الحال وفرح بذلك أصحابه وأحبابه.

وقدم متسلم دمشق الذي خلع عليه بنيابتها بالديار المصرية في يوم الخميس سادس عشر شهر رجب بعد أن استعفى من ذلك مرارا، وباس الأرض مرارا فلم يعفه السلطان، وهو الأمير سيف الدين استدمر أخو يلبغا اليحياوي، الذي كان نائب الشام، وبنته اليوم زوجة السلطان.

قدم متسلمه إلى دمشق يوم الخميس سلخ الشهر فنزل في دار السعادة، وراح القضاة والأعيان للسلام عليه والتودد إليه، وحملت إليه الضيافات والتقادم، انتهى والله أعلم.

كائنة وقعت بقرية حوران فأوقع الله بهم بأسا شديدا في هذا الشهر الشريف

وذلك أنهم أشهر أهل قرية بحوران وهي خاص لنائب الشام وهم حلبية يمن ويقال لهم بنو لبسه وبني ناشى وهي حصينة منيعة يضوي إليها كل مفسد وقاطع ومارق ولجأ إليهم أحد شياطين رويمن العشير وهو عمر المعروف بالدنيط، فأعدوا عددا كثيرة ونهبوا ليغنموا العشير، وفي هذا الحين بدرهم والي الولاة المعروف بشنكل منكل، فجاء إليهم ليردهم ويهديهم، وطلب منهم عمر الدنيط فأبوا عليه وراموا مقاتلته. وهم جمع كثير وجم غفير، فتأخر عنهم وكتب إلى نائب السلطنة ليمده بجيش عونا له عليهم وعلى أمثالهم، فجهز له جماعة من أمراء الطبلخانات والعشراوات ومائة من جند الحلقة الرماة، فلما بغتهم في بلدهم تجمعوا لقتال العسكر ورموه بالحجارة والمقاليع، وحجزوا بينهم وبين البلد.

فعند ذلك رمتهم الأتراك بالنبال من كل جانب، فقتلوا منهم فوق المائة، ففروا على أعقابهم، وأسر منهم والي الولاة نحوا من ستين رجلا، وأمر بقطع رؤوس القتلى وتعليقها في أعناق هؤلاء الأسرى، ونهبت بيوت الفلاحين كلهم، وسلمت إلى مماليك نائب السلطنة لم يفقد منها ما يساوي ثلاثمائة درهم. وكر راجعا إلى بصرى وشيوخ العشيرات معه، فأخبر ابن الأمير صلاح الدين ابن خاص ترك، وكان من جملة أمراء الطبلخانات الذين قاتلوهم بمبسوط ما يخصه وأنه كان إذا أعيا بعض تلك الأسرى من الجرحى أمر المشاعلي بذبحه وتعليق رأسه على بقية الأسرى، وفعل هذا بهم غير مرة حتى أنه قطع رأس شاب منهم وعلق رأسه على أبيه، شيخ كبير، فإنا لله وإنا إليه راجعون.

حتى قدم بهم بصرى فشنكل طائفة من أولئك المأسورين وشنكل آخرين ووسط الآخرين وحبس بعضهم في القلعة، وعلق الرؤوس على أخشاب نصبها حول قلعة بصرى، فحصل بذلك تنكيل شديد لم يقع مثله في هذا الأوان بأهل حوران، وهذا كله سلط عليهم بما كسبت أيديهم وما ربك بظلام للعبيد، وكذلك نولي بعض الظالمين بعضا بما كانوا يكسبون، فإنا لله وإنا إليه راجعون. انتهى.

دخول نائب السلطة الأمير سيف الدين استدمر اليحياوي

في صبيحة يوم الاثنين حادي عشر شعبان من هذه السنة كان دخول الأمير سيف الدين استدمر اليحياوي نائبا على دمشق من جهة الديار المصرية، وتلقاه الناس واحتفلوا له احتفالا زائدا وشاهدته حين ترجل لتقبيل العتبة، وبعضده الأمير سيف الدين بيدمر الذي كان حاجب الحجاب وعين لنيابة حلب المحروسة.

فاستقبل القبلة وسجد عند القبلة، وقد بسط له عندها مفارش وصمدة هائلة، ثم إنه ركب فتعضده بيدمر أيضا وسار نحو الموكب فأركب ثم عاد إلى دار السعادة على عادة من تقدمه من النواب.

وجاء تقليد الأمير سيف الدين بيدمر من آخر النهار لنيابة حلب المحروسة.

وفي آخر نهار الثلاثاء بعد العصر ورد البريد البشيري وعلى يديه مرسوم شريف بنفي القاضي بهاء الدين أبو البقاء وأولاده وأهله إلى طرابلس بلا وظيفة، فشق ذلك عليه وعلى أهليه ومن يليه، وتغمم له كثير من الناس، وسافر ليلة الجمعة وقد أذن له في الاستنابة في جهاته، فاستناب ولده الكبير عز الدين، واشتهر في شوال أن الأمير سيف الدين منجك الذي كان نائب السلطنة بالشام وهرب ولم يطلع له خبر.

فلما كان في هذا الوقت ذكر أنه مسك ببلد بحران من مقاطعة ماردين في زي فقير، وأنه احتفظ عليه وأرسل السلطان قراره، وعجب كثير من الناس من ذلك، ثم لم يظهر لذلك حقيقة وكان الذين رأوه ظنوا أنه هو، فإذا هو فقير من جملة الفقراء يشبهه من بعض الوجوه.

واشتهر في ذي القعدة أن الأمير عز الدين فياض بن مهنا ملك العرب، خرج عن طاعة السلطان وتوجه نحو العراق فوردت المراسيم السلطانية لمن بأرض الرحبة من العساكر الدمشقية وهم أربعة مقدمين في أربعة آلاف، وكذلك جيش حلب وغيره بتطلبه وإحضاره إلى بين يدي السلطان، فسعوا في ذلك بكل ما يقدرون عليه فعجزوا عن لحاقه والدخول وراءه إلى البراري، وتفارط الحال وخلص إلى أرض العراق فضاق النطاق وتعذر اللحاق.

ثم دخلت سنة إحدى وستين وسبعمائة

استهلت وسلطان المسلمين الملك الناصر حسن بن الملك الناصر محمد بن الملك المنصور قلاوون وقضاة مصر والشام هم المذكورون في التي قبلها، ونائب الشام الأمير سيف الدين استدمر أخو يلبغا اليحياوي، وكاتب السر القاضي أمين الدين بن القلانسي.

وفي مستهل المحرم جاء الخبر بموت الشيخ صلاح الدين العلائي بالقدس الشريف ليلة الاثنين ثالث المحرم، وصلّي عليه من الغد بالمسجد الأقصى بعد صلاة الظهر. ودفن بمقبرة نائب الرحبة، وله من العمر ست وستون سنة، وكان مدة مقامه بالقدس مدرسا المدرسة الصلاحية، وشيخا بدار الحديث السكرية ثلاثين سنة، وقد صنّف وألف وجمع وخرج، وكانت له يد طولى بمعرفة العالي والنازل، وتخريج الأجزاء والفوائد، وله مشاركة قوية في الفقه واللغة والعربية والأدب، وفي كتابته ضعف لكن مع صحة وضبط لما يشكل، وله عدة مصنفات، وبلغني أنه وقفها على الخانقاه السمساطية بدمشق، وقد ولى بعده التدريس بالصرخصية الخطيب برهان الدين بن جماعة والنظر بها، وكان معه تفويض منه متقدم التاريخ.

وفي يوم الخميس السادس من محرم احتيط على متولي البر ابن بهادر الشيرجي ورسم عليه بالعذراوية بسبب أنه اتهم بأخذ مطلب من نعمان البلقاء هو وكحلن الحاجب، وقاضي حسان، والظاهر أن هذه مرافعة من خصم عدو لهم، وأنه لم يكن من هذا شيء والله أعلم.

ثم ظهر على رجل يزور المراسيم الشريفة وأخذ بسببه مدرس الصارمية لأنه كان عنده في المدرسة المذكورة، وضرب بين يدي ملك الأمراء، وكذلك على الشيخ زين الدين زيد المغربي الشافعي، وذكر عنه أن يطلب مرسوما لمدرسة الأكرية، وضرب أيضا ورسم عليه في حبس السد، وكذلك حبس الأمير شهاب الدين الذي كان متولي البلد، لأنه كان قد كتب له مرسوما شريفا بالولاية، فلما فهم ذلك كاتب السر أطلع عليه نائب السلطنة فانفتح عليه الباب وحبسوا كلهم بالسد، وجاءت كتب الحجاج ليلة السبت الخامس عشر من المحرم وأخبرت بالخصب والرخص والأمن ولله الحمد والمنة.

ودخل المحمل بعد المغرب ليلة السبت الحادي والعشرين منه، ثم دخل الحجيج بعده في الطين والرمض وقد لقوا من ذلك من بلاد حوران عناء وشدة، ووقعت جمالات كثيرة وسبيت نساء كثيرة، فإنا لله وإنا إليه راجعون، وحصل للناس تعب شديد.

ولما كان يوم الاثنين الرابع والعشرين قطعت يد الذي زور المراسيم واسمه السراج عمر القفطي المصري، وهو شاب كاتب مطيق على ما ذكر، وحمل في قفص على جمل وهو مقطوع اليد، ولم يحسم بعد و الدم ينصب منها، وأركب معه الشيخ زين الدين زيد على جمل وهو منكوس وجهه، إلى ناحية دبر الجمل، وهو عريان مكشوف الرأس، وكذلك البدر الحمصي على جمل آخر، وأركب الوالي شهاب الدين على جمل آخر وعليه تخفيفه صغيرة، وخف وقباء، وطيف بهم في محال البلد، ونودي عليهم: هذا جزاء من يزور على السلطان، ثم أودعوا حبس الباب الصغير وكانوا قبل هذا التعزير في حبس السد، ومنه أخذوا وأشهروا، فإنا لله وإنا إليه راجعون انتهى.

مسك منجك وصفة الظهور و عليه وكان مختفيا بدمشق حوالي سنة

لما كان يوم الخميس السابع والعشرين من المحرم جاء ناصح إلى نائب السلطنة الأمير سيف الدين استدمر فأخبره بأن منجك في دار الشرف الأعلى، فأرسل من فوره إلى ذلك المنزل الذي هو فيه بعض الحجبة ومن عنده من خواصه، فأحضر إلى بين يديه محتفظا عليه جدا، بحيث إن بعضهم رزفه من ورائه واحتضنه، فلما واجهه نائب السلطنة أكرمه وتلقاه وأجلسه معه على مقعدته، وتلطف به وسقاه وأضافه، وقد قيل إنه كان صائما فأفطر عنده، وأعطاه من ملابسه وقيده وأرسله إلى السلطان في ليلته - ليلة الجمعة - مع جماعة من الجند وبعض الأمراء، منهم: حسام الدين أمير حاجب.

وقد كان أرسل نائب السلطنة ولده بسيف منجك من أوائل النهار، وتعجب الناس من هذه القضية جدا، وما كان يظن كثير من الناس إلا أنه قد عدم باعتبار أنه في بعض البلاد النائية، ولم يشعر الناس أنه في وسط دمشق وأنه يمشي بينهم متنكرا، وقد ذكر أنه كان يحضر الجمعات بجامع دمشق ويمشي بين الناس متنكرا في لبسه وهيئته.

ومع هذا لن يغني حذر من قدر، ولكل أجل كتاب، وأرسل ملك الأمراء بالسيف وبملابسه التي كان يتنكر بها، وبعث هو مع جماعة من الأمراء الحجبة وغيرهم وجيش كثيف إلى الديار المصرية مقيدا محتفظا عليه، ورجع ابن ملك الأمراء بالتحف والهدايا والخلع والأنعام لوالده، ولحاجب الحجاب، ولبس ذلك الأمراء يوم الجمعة واحتفل الناس بالشموع وغيرها، ثم تواترت الأخبار بدخول منجك إلى السلطان وعفوه عفه وخلعته الكاملة عليه وإطلاقه له الحسام والخيول المسومة والألبسة المفتخرة، والأموال والأمان. وتقديم الأمراء والأكابر له من سائر صنوف التحف وقدوم الأمير علي من صفد، قاصدا إلى حماة لنيابتها، فنزل القصر الأبلق ليلة الخميس رابع صفر وتوجه ليلة الأحد سابعه.

وفي يوم الخميس الثامن عشر من صفر قدم القاضي بهاء الدين أبو البقاء من طرابلس بمرسوم شريف أن يعود إلى دمشق على وظائفه المبقاة عليه، وقد كان ولده ولي الدين ينوب عنه فيها، فتلقاه كثير من الناس إلى أثناء الطريق، وبرز إليه قاضي القضاة تاج الدين إلى حرستا، وراح الناس إلى تهنئته إلى داره، وفرحوا برجوعه إلى وطنه.

ووقع مطر عظيم في أول هذا الشهر، وهو أثناء شهر شباط، وثلج عظيم، فرويت البساتين التي كانت لها عن الماء عدة شهور، ولا يحصل لأحد من الناس سقي إلا بكلفة عظيمة ومشقة، ومبلغ كثير، حتى كاد الناس يقتتلون عليه بالأيدي والدبابيس وغير ذلك من البذل الكثير، وذلك في شهور كانون الأول والثاني، وأول شباط، وذلك لقلة مياه الأنهار وضعفها. وكذلك بلاد حوران أكثرهم يروون من أماكن بعيدة في هذه الشهور، ثم منّ الله تعالى فجرت الأودية وكثرت الأمطار والثلوج، وغزرت الأنهار ولله الحمد والمنة. وتوالت الأمطار، فكأنه حصل السيل في هذه السنة من كانون إلى شباط فكان شباط هو كانون وكانون لم يسل فيه ميزاب واحد.

ووصل في هذا الشهر الأمير سيف الدين منجك إلى القدس الشريف ليبتني للسلطان مدرسة وخانقاه غربي المسجد الشريف، وأحضر الفرمان الذي كتب له بماء الذهب إلى دمشق وشاهده الناس ووقعت على نسخته وفيها تعظيم رائد ومدح وثناء له وشكر على متقدم، خدمة لهذه الدولة والعفو عما مضى من زلاته، وذكر سيرته بعبارة حسنة.

وفي أوائل شهر ربيع الآخر رسم على المعلم سنجر مملوك ابن هلال صاحب الأموال الجزيلة بمرسوم شريف قدم مع البريد وطلب منه ستمائة ألف درهم واحتيط على العمارة التي أنشاها عند باب النطافيين ليجعلها مدرسة، ورسم بأن يعمر مكانها مكتب للأيتام، وأن يوقف عليهم كتابتهم جارية عليهم، وكذلك رسم بأن يجعل في كل مدرسة من مدارس المملكة الكبار، وهذا مقصد جيد.

وسلم المعلم سنجر إلى شاد الدواوين يستخلص منه المبلغ المذكور سريعا، فعاجل بحمل مائتي ألف، وسيرت مع أمير عشرة إلى الديار المصرية.

الاحتياط على الكتبة والدواوين

وفي يوم الأربعاء خامس عشر ربيع الآخر ورد من الديار المصرية أمير معه مرسوم بالاحتياط على دواوين السلطان، بسبب ما أكلوا من الأموال المرتبة للناس من الصدقات السلطانية وغير ذلك فرسم عليهم بدار العدل البرانية وألزموا بأموال جزيلة كثيرة، بحيث احتاجوا إلى بيع أثاثهم وأقمشتهم وفرشهم وأمتعتهم وغيرها، حتى ذكر أن منهم من لم يكن له شيء يعطيه فأحضر بناته إلى الدكة ليبيعهن فتباكى الناس وانتحبوا رحمة ورقة لأبيهن، ثم أطلق بعضهم وهم الضعفاء منهم والفقراء الذين لا شيء معهم، وبقيت الغرامة على الكبراء منهم، كالصاحب والمستوفيين، ثم شددت عليهم المطالبة وضربوا ضربا مبرحا، وألزموا الصاحب بمال كثير بحيث إنه احتاج إلى أن سأل من الأمراء والأكابر والتجار بنفسه وبأوراقه، فأسعفوه بمبلغ كثير يقارب ما ألزم به، بعد أن عري ليضرب، ولكن ترك واشتهر أنه قد عين عوضه من الديار المصرية، انتهى.

موت فياض بن مهنا

ورد الخبر بذلك يوم السبت الثامن عشر منه، فاستبشر بذلك كثير من الناس، وأرسل إلى السلطان مبشرين بذلك، لأنه كان قد خرج عن الطاعة وفارق الجماعة، فمات موتة جاهلية بأرض الشقاق والنفاق، وقد ذكرت عن هذا أشياء صدرت عنه من ظلم الناس، والإفطار في شهر رمضان بلا عذر، وأمره أصحابه وذويه بذلك في هذا الشهر الماضي، فإنا لله وإنا إليه راجعون، جاوز السبعين انتهى. والله أعلم.

كائنة عجيبة جدا هي المعلم سنجر مملوك بن هلال

في اليوم الرابع والعشرين من ربيع الآخر أطلق المعلم الهلالي بعد أن استوفوا منه تكميل ستمائة ألف درهم، فبات في منزله عند باب النطافيين سرورا بالخلاص، ولما أصبح ذهب إلى الحمام وقد ورد البريد من جهة السلطان من الديار المصرية بالاحتياط على أمواله وحواصله.

فأقبلت الحجبة ونقباء النقبة والأعوان من كل مكان، فقصدوا داره فاحتاطوا بها وعليها بما فيها ورسم عليه وعلى ولديه، وأخرجت نساؤه من المنزل في حالة صعبة، وفتشوا النساء وانتزعوا عنهن الحلي والجواهر والنفائس، واجتمعت العامة والغوغاء، وحضر بعض القضاة ومعه الشهود بضبط الأموال والحجج والرهون، وأحضروا المعلم ليستعلموا منه جلية ذلك، فوجدوا من حاصل الفضة أول يوم بإسطبل ألف وسبعين ألفا، ثم صناديق أخرى لم تفتح، وحواصل لم يصلوا إليها لضيق الوقت.

ثم أصبحوا يوم الأحد في مثل ذلك، وقد بات الحرس على الأبواب والأسطحة لئلا يعدى عليها في الليل وبات هو وأولاده بالقلعة المنصورة محتفظا عليهم، وقد رق له كثير من الناس لما أصابه من المصيبة العظيمة بعد التي قبلها سريعا.

وفي أواخر هذا الشهر توفي الأمير ناصر الدين محمد بن الدوادار السكري، كان ذا مكانة عند أستاذه، ومنزلة عالية، ونال من السعادة في وظيفته أقصاها، ثم قلب الله قلب أستاذه عليه فضربه وصادره وعزله وسجنه، ونزل قدره عند الناس، وآل به الحال إلى أنه كان يقف على أتباعه بفرسه ويشتري منهم ويحاككهم، ويحمل حاجته معه في سرجه، وصار مثلة بين الناس، بعد أن كان في غاية ما يكون فيه الدويدارية من العز والجاه والمال والرفعة في الدنيا، وحق على الله تعالى أن لا يرفع شيئا من أمر الدنيا إلا وضعه.

وفي صبيحة يوم الأحد سابع عشره أفرج عن المعلم الهلالي وعن ولديه، وكانوا معتقلين بالقلعة المنصورة، وسلمت إليهم دورهم وحواصلهم، ولكن أخذ ما كان حاصلا في داره، وهو ثلاثمائة ألف وعشرون ألفا. وختم على حججه ليعقد لذلك مجلس ليرجع رأس ماله منها عملا بقوله تعالى: {وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ} 28 ونودي عليه في البلد إنما فعل به ذلك لأنه لا يؤدي الزكاة ويعامل بالربا، وحاجب السلطان ومتولي البلد، وبقية المتعممين والمشاعلية تنادي عيه في أسواق البلد وأرجائها.

وفي اليوم الثامن والعشرين منه ورد المرسوم السلطاني الشريف بإطلاق الدواوين إلى ديارهم وأهاليهم، ففرح الناس بسبب ذلك لخلاصهم مما كانوا فيه من العقوبة والمصادرة البليغة، ولكن لم يستمر بهم في مباشراتهم.

وفي أواخر الشهر تكلم الشيخ شهاب الدين المقدسي الواعظ قدم من الديار المصرية تجاه محراب الصحابة، واجتمع الناس إليه وحضر من قضاة القضاة الشافعي والمالكي، فتكلم على تفسير آيات من القرآن. وأشار إلى أشياء من إشارات الصوفية بعبارات طلقة معربة حلوة صادعة للقلوب فأفاد وأجاد، وودع الناس بعوده إلى بلده، ولما دعا استنهض الناس للقيام، فقاموا في حال الدعاء، وقد اجتمعت به بالمجلس فرايته حسن الهيئة والكلام والتأدب، فالله يصلحه وإيانا آمين.

وفي مستهل جمادى الآخرة ركب الأمير سيف الدين بيدمر نائب حلب القصد غزو بلاد سيس في جيش، لقاه الله النصر والتأييد.

وفي مستهل هذا الشهر أصبح أهل القلعة وقد نزل جماعة من أمراء الأعراب من أعالي مجلسهم في عمائم وحبال إلى الخندق وخاضوه وخرجوا من عند جسر الزلابية فانطلق اثنان وأمسك الثالث الذي تبقى في السجن، وكأنه كان يمسك لهم الحبال حتى تدلوا فيها. فاشتد نكير نائب السلطنة على نائب القلعة، وضرب ابنيه النقيب وأخاه وسجنهما، وكاتب في هذه الكائنة إلى السلطان، فرود المرسوم بعزل نائب القلعة وإخراجه منها، وطلبه لمحاسبة ما قبض من الأموال السلطانية في مدة ست سني مباشرته، وعزل ابنه عن النقابة ابنه الآخر عن استدرائه السلطان، فنزلوا من عزهم إلى عزلهم.

وفي يوم الاثنين سابع عشره جاء الأمير تاج الدين جبريل من عند الأمير سيف الدين بيدمر نائب حلب، وقد فتح بلدين من بلاد سيس، وهما طرسوس وأذنة، وأرسل مفاتيحهما صحبة جبريل المذكور إلى السلطان أيده الله، ثم افتتح حصونا أخر كثيرة في أسرع مدة، وأيسر كلفة.

وخطب القاضي ناصر الدين كاتب السر خطبة بليغة حسنة، وبلغني في كتاب أن أبواب كنيسة أذنة حملت إلى الديار المصرية في المراكب.

قلت: وهذه هي أبواب الناصرية التي بالسفح، أخذها سيس عام قازان، وذلك في سنة تسع وتسعين وستمائة، فاستنفذت ولله الحمد في هذه السنة.

وفي أواخر هذا الشهر بلغنا أن الشيخ قطب الدين هرماس الذي كان شيخ السلطان طرد عن جناب مخدومه، وضرب وصودر، وخربت داره إلى الأساس، ونفي إلى مصياف، فاجتاز بدمشق ونزل بالمدرسة الجليلة ظاهر باب الفرج، وزرته فيمن سلم عليه، فإذا هو شيخ حسن عنده ما يقال ويتلفظ معربا جيدا، ولديه فضيلة، وعنده تواضع وتصوف، فالله يحسن عاقبته. ثم تحول إلى العذراوية.

وفي صبيحة يوم السبت سابع شهر رجب توجه الشيخ شرف الدين أحمد بن الحسن بن قاضي الجبل الحنبلي إلى الديار المصرية مطلوبا على البريد إلى السلطان لتدريس الطائفة الحنبلية بالمدرسة التي أنشاها السلطان بالقاهرة المعزية، وخرج لتوديعه القضاة والأعيان إلى أثناء الطريق، كتب الله سلامته، انتهى والله تعالى أعلم.

مسك نائب السلطنة استدمر اليحياوي

وفي صبيحة يوم الأربعاء الخامس والعشرين من رجب قبض على نائب السلطنة الأمير سيف الدين استدمر، أخي يلبغا اليحياوي، عن كتاب ورد من السلطان صحبة الدوادار الصغير، وكان يومئذ راكبا بناحية ميدان ابن بابك، فلما رجع إلى عند مقابر اليهود والنصارى احتاط عليه الحاجب الكبير ومن معه من الجيش وألزموه بالذهاب إلى ناحية طرابلس. فذهب من على طريق الشيخ رسلان، ولم يمكن من المسير، إلى دار السعادة، ورسم عليه من الجند من أوصله إلى طرابلس مقيما بها بطالا، فسبحان من بيده ملكوت كل شيء، يفعل ما يشاء. وبقي البلد بلا نائب يحكم فيه الحاجب الكبير عن مرسوم السلطان، وعين للنيابة الأمير سيف الدين بيدمر النائب بحلب.

وفي شعبان وصل تقليد الأمير سيف الدين بيدمر بنيابة دمشق، ورسم له أن يركب في طائفة من جيش حلب ويقصد الأمير خيار بن مهنا ليحضره إلى خدمة السلطان، وكذلك رسم لنائب حماة وحمص أن يكونا عونا للأمير سيف الدين بيدمر في ذلك.

فلما كان يوم الجمعة رابعه التقوا مع خيار عند سلمية، فكانت بينهم مناوشات، فأخبرني الأمير تاج الدين الدودار - وكان مشاهد الوقعة - أن الأعراب أحاطوا بهم من كل جانب، وذلك لكثرة العرب وكانوا نحو الثمانمائة.

وكانت الترك من حماة وحمص وحلب مائة وخمسين، فرموا الأعراب بالنشاب فقتلوا منهم طائفة كثيرة، ولم يقتل من الترك سوى رجل واحد، رماه بعض الترك ظانا أنه من العرب بناشج فقتله.

ثم حجز بينهم الليل، وخرجت الترك من الدائرة، ونهبت أموال من الترك ومن العرب، وجرت فتنة وجردت أمراء عدة من دمشق لتدارك الحال، وأقام نائب السلطنة هناك ينتظر ورودهم.

وقدم الأمير عمر الملقب بمصمع بن موسى بن مهنا من الديار المصرية أميرا على الأعراب، وفي صحبته الأمير بدر الدين بن جماز أميران على الأعراب، فنزل مصمع بالقصر الأبلق، ونزل الأمير رملة بالتوزية على عادته ثم توجها إلى ناحية خيار بمن معها من عرب الطاعة ممن أضيف إليهم من تجريدة دمشق ومن يكون معهم من جيش حماة وحمص لتحصيل الأمير خيار، وإحضاره إلى الخدمة الشريفة فالله تعالى يحسن العاقبة.

دخول نائب السلطنة الأمير سيف الدين بيدمر إلى دمشق

وذلك صبيحة يوم السبت التاسع عشر من شعبان، أقبل بجيشه من ناحية حلب وقد بات بوطأة برزة ليلة السبت، وتلقاه الناس إلى حماة ودونها، وجرت له وقعة مع العرب كما ذكرنا، فلما كان هذا اليوم دخل في أبهة عظيمة، وتجمل حافل، فقبّل العتبة على العادة، ومشى إلى دار السعادة.

ثم أقبلت جنائبه في لبوس هائلة باهرة، وعدد كثير وعدد ثمينة، وفرح المسلمون به لشهامته وصرامته وأمره بالمعروف ونهيه عن المنكر، والله تعالى يؤيده ويسدده.

وفي يوم الجمعة ثاني شهر رمضان خطبت الحنابلة بجامع القبيبات وعزل عنه القاضي شهاب الدين قاضي العسكر الحنبلي، بمرسوم نائب السلطان لأنه كان يعرف أنه كان مختصرا بالحنابلة منذ عُين إلى هذا الحين.

وفي يوم الجمعة السادس عشر منه قتل عثمان بن محمد المعروف بابن دبادب الدقاق بالحديد على ما شهد عليه به جماعة لا يمكن تواطؤهم على الكذب، أنه كان يكثر من شتم الرسول ، فرفع إلى الحاكم المالكي وادعى عليه فأظهر التجابن، ثم استقر أمره على أن قتل قبحه الله وأبعده ولا رحمه.

وفي يوم الاثنين السادس والعشرين منه قتل محمد المدعو زبالة الذي بهتار لابن معبد على ما صدر منه من سب النبي ، ودعواه أشياء كفرية، وذكر عنه أنه كان يكثر الصلاة والصيام، ومع هذا يصدر منه أحوال بشعة في حق أبي بكر وعمر وعائشة أم المؤمنين، وفي حق النبي ، فضربت عنقه أيضا في هذا اليوم في سوق الخيل ولله الحمد والمنة.

وفي ثالث عشر شوال خرج المحمل السلطاني وأميره الأمير ناصر الدين بن قراسنقر وقاضي الحجيج الشيخ شمس الدين محمد بن سند المحدث، أحد المفتيين.

وفي أواخر شهر شوال أخذ رجل يقال له حسن، كان خياطا بمحلة الشاغور، ومن شأنه أن ينتصر لفرعون لعنه الله، ويزعم أنه مات على الإسلام ويحتج بأنه في سورة يونس حين أدركه الغرق قال: {آمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ} 29 ولا يفهم معنى قوله: {آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ} 30 ولا معنى قوله: {فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولَى} 31 ولا معنى قوله: {فَأَخَذْنَاهُ أَخْذا وَبِيلا} 32 إلى غير ذلك من الآيات والأحاديث الكثيرة الدالة على أن فرعون أكفر الكافرين كما هو مجمع عليه بين اليهود والنصارى والمسلمين.

وفي صبيحة يوم الجمعة سادس القعدة قدم البريد بطلب نائب السلطنة إلى الديار المصرية في تكريم وتعظيم، على عادة تنكز، فتوجه النائب إلى الديار المصرية وقد استصحب معه تحفا سنية وهدايا معظمة تصلح للإيوان الشريف.

في صبيحة السبت رابع عشره، خرج ومعه القضاة والأعيان من الحجبة والأمراء لتوديعه.

وفي أوائل ذي الحجة ورد كتاب من نائب السلطنة بخطه إلى قاضي القضاة تاج الدين الشافعي يستدعيه إلى القدس الشريف، وزيارة قبر الخليل، ويذكر فيه ما عامله به السلطان من الإحسان والإكرام والاحترام والإطلاق والأنعام من الخيل والتحف والمال والغلات، فتوجه نحوه قاضي القضاة يوم الجمعة بعد الصلاة رابعه على ستة من خيل البريد، ومعه تحف وما يناسب من الهدايا، وعاد عشية يوم الجمعة ثامن عشره إلى بستانه.

ووقع في هذا الشهر والذي قبله سيول كثيرة جدا في أماكن متعددة، من ذلك ما شاهدنا آثاره في مدينة بعلبك، أتلف شيئا كثيرا من الأشجار، واخترق أماكن كثيرة متعددة عندهم، وبقي آثار سيحه على أماكن كثيرة.

من ذلك سيل وقع بأرض جعلوص أتلف شيئا كثيرا جدا، وغرق فيه قاضي تلك الناحية، ومع بعض الأخيار، كانوا وقوفا على أكمة فدهمهم أمر عظيم، ولم يستطيعوا دفعه ولا منعه، فهلكوا.

ومن ذلك سيل وقع بناحية حسة جمال فهلك به شيء كثير من الأشجار والأغنام والأعناب وغيرها.

ومن ذلك سيل بأرض حلب هلك به خلق كثير من التركمان وغيرهم، رجالا ونساء وأطفالا وغنما وإبلا.

قرأته من كتاب من شاهد ذلك عيانا، وذكر أنه سقط عليهم برد وزنت الواحدة منه فبلغت زنتها سبعمائة درهم وفيه ما هو أكبر من ذلك وأصغر، انتهى.

الأمر بإلزام القلندرية بترك حلق لحاهم وحواجبهم وشواربهم

وذلك محرم بالإجماع حسب ما حكاه ابن حزم وإنما ذكره بعض الفقهاء بالكراهية.

ورد كتاب من السلطان أيده الله إلى دمشق في يوم الثلاثاء خامس عشر ذي الحجة، بإلزامهم بزي المسلمين وترك زي الأعاجم والمجوس، فلا يمكن أحد منهم من الدخول إلى بلاد السلطان حتى يترك هذا الزي المبتدع، واللباس المستشنع، ومن لا يلتزم بذلك يعزر شرعا، ويقلع قراره قلعا، وكان اللائق أن يؤمروا بترك أكل الحشيشة الخسيسة، وإقامة الحد عليهم بأكلها وسكرها، كما أفتى بذلك بعض الفقهاء.

والمقصود أنهم نودي عليهم بذلك في جميع أرجاء البلد ونواحيه في صبيحة يوم الأربعاء ولله الحمد والمنة.

وبلغنا في هذا الشهر وفاة الشيخ الصالح الشيخ أحمد بن موسى الزرعي بمدينة جبراص يوم الثلاثاء خامس ذي الحجة، وكان من المبتلين بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والقيام في مصالح الناس عند السلطان والدولة، وله وجاهة عند الخاص والعام، رحمه الله.

والأمير سيف الدين كحلن بن الأقوس، الذي كان حاجبا بدمشق وأميرا، ثم عزل عن ذلك كله، ونفاه السلطان إلى طرابلس فمات هناك.

وقدم نائب السلطنة الأمير سيف الدين بيدمر عائدا من الديار المصرية، وقد لقي من السلطان إكراما وإحسانا زائدا، فاجتاز في طريقه بالقدس الشريف فأقام به يوم عرفة والنحر، ثم سلك على طريق غابة أرصوف يصطاد بها فأصابه وعك منعه عن ذلك، فأسرع السير فدخل دمشق من صبيحة يوم الاثنين الحادي والعشرين منه في أبهة هائلة، ورياسة طائلة، وتزايد وخرج العامة للتفرج عليه والنظر إليه في مجيئه هذا، فدخل وعليه قباء معظم ومطرز، وبين يديه ما جرت به العادة من الحوفية والشاليشية وغيرهم، ومن نيته الإحسان إلى الرعية والنظر في أحوال الأوقاف وإصلاحها على طريقة تنكز رحمه الله، انتهى والله أعلم.

ثم دخلت سنة اثنتين وستين وسبعمائة

استهلت هذه السنة المباركة وسلطان الإسلام بالديار المصرية والشامية والحرمين الشريفين وما يتبع ذلك ويلتحق به الملك الناصر حسن بن الملك النصار محمد بن الملك المنصور قلاوون الصالحي، ولا نائب له بالديار المصرية، وقضاته بها هم المذكورون في العام الماضي، ووزيره القاضي ابن الخصيب، ونائب الشام بدمشق الأمير سيف الدين بيدمر الخوارزمي، والقضاة والخطيب وبقية الأشراف وناظر الجيش والمحتسب هم المذكورون في العام الماضي. والوزير ابن قروينة وكاتب السر القاضي أمين الدين بن القلانسي، ووكيل بيت المال القاضي صلاح الدين الصفدي وهو أحد موقعي الدست الأربعة. وشاد الأوقاف الأمير ناصر الدين بن فضل الله، وحاجب الحجاب اليوسفي، وقد توجه إلى الديار المصرية ليكون بها أمير جنهار، ومتولي البلد ناصر الدين، ونقيب النقباء ابن الشجاعي.

وفي صبيحة يوم الاثنين سادس المحرم قدم الأمير على نائب حماة منها فدخل دمشق مجتازا إلى الديار المصرية ونزل في القصر الأبلق ثم تحول إلى دار دويداره يلبغا الذي جدد فيها مساكن كثيرة بالقصاعين.

وتردد الناس إليه للسلام عليه، فأقام بها إلى صبيحة يوم الخميس تاسعه، فسار إلى الديار المصرية.

وفي يوم الأحد تاسع عشر المحرم أحضر حسن بن الخياط من محلة الشاغور إلى مجلس الحكم المالكي من السجن، وناظر في إيمان فرعون وادعى عليه بدعاوي لانتصاره لفرعون لعنه الله، وصدق ذلك باعترافه أولا ثم بمناظرته في ذلك ثانيا وثالثا، وهو شيخ كبير جاهل عامي ذا نص لا يقيم دليلا ولا يحسنه، وإنما قام في مخيلته شبهة يحتج عليها بقوله إخبارا عن فرعون حين أدركه الغرق، وأحيط به ورأى بأس الله، وعاين عذابه الأليم، فقال حين الغرق إذا {آمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ} 33.

قال الله تعالى: {آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ * فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً} 34.

فاعتقد هذا العامي أن هذا الإيمان الذي صدر من فرعون والحالة هذه ينفعه، وقد قال تعالى: {فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ * فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ} 35.

وقال تعالى {إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ * وَلَوْ جَاءتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ} قال قد أجيبت دعوتكما الآية 36.

ثم حضر في يوم آخر وهو مصمم على ضلاله فضرب بالسياط، فأظهر التوبة ثم أعيد إلى السجن في زنجير، ثم أحضر يوما ثالثا وهو يستهل بالتوبة فيما يظهر فنودي عليه في البلد ثم أطلق.

وفي ليلة الثلاثاء الرابع عشر طلع القمر خاسفا كله ولكن كان تحت السحاب، فلما ظهر وقت العشاء وقد أخذ في الجلاء صلّى الخطيب صلاة الكسوف قبل العشاء، وقرأ في الأولى بسورة العنكبوت وفي الأخرى بسورة يس، ثم صعد المنبر فخطب ثم نزل بعد العشاء.

وقدمت كتب الحجاج يخبرون بالرخص والأمن، واستمرت زيادة الماء من أول ذي الحجة وقبلها إلى هذه الأيام من آخر هذا الشهر والأمر على حاله، وهذا شيء لم يعهد كما أخبر به عامة الشيوخ، وسببه أنه جاء ماء من بعض الجبال انهال في طريق النهر.

ودخل المحمل السلطاني يوم الثلاثاء الحادي والعشرين من المحرم قبل الظهر، ومسك أمير الحاج شركتمر المارداني الذي كان مقيما بمكة شرفها الله تعالى، وحماها من الأوغاد، فلما عادت التجريدة مع الحجاج إلى دمشق صحبة القراسنقر من ساعة وصوله إلى دمشق، فقيد وسير إلى الديار المصرية على البريد، وبلغنا أن الأمير سند أمير مكة غرر بجند السلطان الذين ساروا صحبة ابن قراسنقر وكبسهم وقتل من حواشيهم وأخذ خيولهم، وأنهم ساروا جرائد بغير شيء مسلوبين إلى الديار المصرية، فإنا لله وإنا إليه راجعون.

وفي أول شوال اشتهر فيه وتواتر خبر الفناء الذي بالديار المصرية بسبب كثيرة المستنقعات من فيض النيل عندهم، على خلاف المعتاد، فبلغنا أنه يموت من أهلها كل يوم فوق الألفين، فأما المرض فكثير جدا، وغلت الأسعار لقلة من يتعاطى الأشغال، وغلا السكر والأمياه والفاكهة جدا، وتبرز السلطان إلى ظاهر البلد وحصل له تشويش أيضا، ثم عوفي بحمد الله.

وفي ثالث ربيع الآخر قدم من الديار المصرية ابن الحجاف رسول صاحب العراق لخطبة بنت السلطان، فأجابهم إلى ذلك بشرط أن يصدقها مملكة بغداد، وأعطاهم مستحقا سلطانيا، وأطلق لهم من التحف والخلع والأموال شيئا كثيرا، ورسم الرسول بمشترى قرية من بيت المال لتوقف على الخانقاه التي يريد أن يتخذها بدمشق قريبا من الطواويس، وقد خرج لتلقيه نائب الغيبة وهو حاجب الحجاب، والدولة والأعيان.

وقرأت في يوم الأحد سابع شهر ربيع الآخر كتابا ورد من حلب بخط الفقيه العدل شمس الدين العراقي من أهلها، ذكر فيه أنه كان في حضرة نائب السلطنة في دار العدل يوم الاثنين السابع عشر من ربيع الأول وأنه أحضر رجل قد ولد له ولد عاش ساعة ومات، وأحضره معه وشاهده الحاضرون، وشاهده كاتب الكتاب، فإذا هو شكل سوي له على كل كتف رأس بوجه مستدير، والوجهان إلى ناحية واحدة فسبحان الخلاق العليم.

وبلغنا أنه في هذا الشهر سقطت المنارة التي بنيت للمدرسة السلطانية بمصر، وكانت مستجدة على صفة غريبة، وذلك أنها منارتان على أصل واحد فوق قبو الباب الذي للمدرسة المذكورة، فلما سقطت أهلكت خلقا كثيرا من الصناع بالمدرسة والمارة والصبيان الذين في مكتب المدرسة، ولم ينج من الصبيان فيما ذكر شيء سوى ستة.

وكان جملة من هلك بسببها نحو بإسطبل نفس، وقيل أكثر وقيل أقل، فإنا لله وإنا إليه راجعون.

وخرج نائب السلطنة الأمير سيف الدين بيدمر إلى الغيضة لإصلاحها وإزالة ما فيها من الأشجار والمؤذية والدغل يوم الاثنين التاسع والعشرين من الشهر، وكان سلخه، وخرج معه جميع الجيش من الأمراء وأصحابه، وأجناد الحلقة برمتهم لم يتأخر منهم أحد، وكلهم يعملون فيها بأنفسهم وغلمانهم، وأحضر إليهم خلق من فلاحي المرج والغوطة وغير ذلك، ورجع يوم السبت خامس الشهر الداخل وقد نظفوها من الغل والدغل والغش.

واتفقت كائنة غريبة لبعض السؤال، وهو أنه اجتمع جماعة منهم قبل الفجر ليأخذوا خبزا من صدقة تربة امرأة ملك الأمراء تنكز عند باب الخواصين، فتضاربوا فيما بينهم فعمدوا إلى رجل منهم فخنقوه خنقا شديدا، وأخذوا منه جرابا فيه نحو من أربعة آلاف درهم. وشيء الذهب وذهبوا على حمية، وأفاق هو من الغشي فلم يجدهم، واشتكى أمره إلى متولي البلد فلم يظفر بهم إلى الآن، وقد أخبرني الذي أخذوا منه أنهم أخذوا منه ثلاثة آلاف درهم معاملة، وألف درهم بندقية ودينارين وزنهما ثلاثة دنانير. كذا قال لي إن كان صادقا.

وفي صبيحة يوم السبت خامس جمادى الأولى طلب قاضي القضاة شرف الدين الحنفي للشيخ علي بن البنا، وقد كان يتكلم في الجامع الأموي على العوام، وهو جالس على الأرض شيء من الوعظيات وما أشبهها من صدره، فكأنه تعرض في غضون كلامه لأبي حنيفة رحمه الله، فأحضر فاستتيب من ذلك، ومنعه قاضي القضاة شرف الدين الكفري من الكلام على الناس وسجنه، وبلغني أنه حكم بإسلامه وأطلقه من يومه.

وهذا المذكور ابن البنا عنده زهادة وتعسف، وهو مصري يسمع الحديث ويقرؤه، ويتكلم بشيء من الوعظيات والرقائق، وضرب أمثال، وقد مال إليه كثير من العوام واستحلوه، وكلامه قريب إلى مفهومهم، وربما أضحك في كلامه، وحاضرته وهو مطبوع قريب إلى الفهم، ولكنه أشار فيما ذكر عنه في شطحته إلى بعض الأشياء التي لا تنبغي أن تذكر، والله الموفق.

ثم إنه جلس للناس في يوم الثلاثاء ثامنه فتكلم على عادته فتطلبه القاضي المذكور فيقال إن المذكور تعنت انتهى والله أعلم.

سلطنة الملك المنصور صلاح الدين محمد

ابن الملك المظفر حاجي بن الملك الناصر محمد بن الملك المنصور قلاوون بن عبد الله الصالحي وزوال دولة عمه الملك الناصر حسن بن الملك الناصر محمد بن الملك المنصور قلاوون.

لما كثر طمعه وتزايد شرهه، وساءت سيرته إلى رعيته، وضيق عليهم في معايشهم وأكسابهم، وبنى البنايات الجبارة التي لا يحتاج إلى كثير منها، واستحوذ على كثير من أملاك بيت المال وأمواله، واشترى منه قرايا كثيرة ومدنا أيضا ورساتيق، وشق ذلك على الناس جدا، ولم يتجاسر أحد من القضاة ولا الولاة ولا العلماء ولا الصلحاء على الإنكار عليه، ولا الهجوم عليه، ولا النصيحة له بما هو المصلحة له وللمسلمين، انتقم الله منه فسلط عليه جنده وقلب قلوب رعيته من الخاصة والعامة عليه.

لما قطع من أرزاقهم ومعاليمهم وجوامكهم وأخبازهم، وأضاف ذلك جميعه إلى خاصته، فقلت الأمراء والأجناء والمقدمون والكتاب والموقعون، ومس الناس الضرر وتعدى على جوامكهم وأولادهم ومن يلوذ بهم، فعند ذلك قدر الله تعالى هلاكه على يد أحد خواصه وهو الأمير الكبير سيف الدين يلبغا الخاصكي.

وذلك أنه أراد السلطان مسكه فاعتد لذلك، وركب السلطان لمسكه فركب هو في جيش، وتلاقيا في ظاهر القاهرة حيث كانوا نزولا في الوطاقات، فهزم السلطان بعد كل حساب، وقد قتل من الفريقين طائفة، ولجأ السلطان إلى قلعة الجبل، كلا ولا وزر، ولن ينجي حذر من قدر، فبات الجيش بكماله محدقا بالقلعة، فهم بالهرب في الليل على هجن كان قد اعتدها ليهرب إلى الكرك.

فلما برز مسك واعتقل ودخل به إلى دار يلبغا الخاصكي المذكور، وكان آخر العهد به، وذلك في يوم الأربعاء تاسع جمادى الأولى من هذه السنة، وصارت الدولة والمشورة متناهية إلى الأمير سيف الدين يلبغا الخاصكي، فاتفقت الآراء واجتمعت الكلمة وانعقدت البيعة للملك المنصور صلاح الدين محمد بن المظفر حاجي.

وخطب الخطباء وضربت السكة، وسارت البريدية للبيعة باسمه الشريف، هذا وهو ابن ثنتي عشرة، وقيل أربع عشرة، ومن الناس من قال: ست عشرة، ورسم في عود الأمور إلى ما كانت عليه في أيام والده الناصر محمد بن قلاوون، وأن يبطل جميع ما كان أخذه الملك الناصر حسن، وأن تعاد المرتبات والجوامك التي كان قطعها، وأمر بإحضار طاز وطاشتمر القاسمي من سجن إسكندرية إلى بين يديه ليكونا أتابكا.

وجاء الخبر إلى دمشق صحبة الأمير سيف الدين بزلارشاد التربخاناة أحد أمراء الطبلخانات بمصر صبيحة يوم الأربعاء سادس عشر الشهر، فضربت البشائر بالقلعة وطلبلخانات الأمراء على أبوابهم، وزين البلد بكماله، وأخذت البيعة له صبيحة يومه بدار السعادة وخلع عن نائب السلطنة تشريف هائل، وفرح أكثر الأمراء والجند والعامة ولله الأمر، وله الحكم.

قال تعالى: {قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ} الآية 37.

ووجد على حجر بالحميرية فقرئت للمأمون فإذا مكتوب:

ما اختلف الليل والنهار ولا * دارت نجوم السماء في الفلك

إلا لنقل النعيم من ملك * قد زال سلطانه إلى ملك

وملك ذي العرش دائم أبدا * ليس بفانٍ ولا بمشترك

وروي عن سليمان بن عبد الملك بن مروان أنه خرج يوما لصلاة الجمعة، وكان سوي الخلق حسنه، وقد لبس حلة خضراء، وهو شاب ممتلئ شبابا، وينظر في أعطافه ولباسه، فأعجبه ذلك من نفسه، فلم بلغ إلى صرحة الدار تلقته جنية في صورة جارية من حظاياه فأنشدته:

أنت نعم لو كنت تبقى * غير أن لا حياة للإنسانِ

ليس فيما علمت فيك عيـ * ـب يذكر غير أنك فانِ

فصعد المنبر الذي في جامع دمشق وخطب الناس، وكان جهوري الصوت يسمع أهل الجامع وهو قائم على المنبر، فضعف صوته قليلا قليلا حتى لم يسمعه أهل المقصورة، فلما فرغ من الصلاة حمل إلى منزله فاستحضر تلك الجارية التي تبدت تلك الجنية على صورتها، وقال: كيف أنشدتيني تينك البيتين؟ فقالت: ما أنشدتك شيئا.

فقال: الله أكبر نعيت والله إلي نفسي.

فأوصى أن يكون الخليفة من بعده ابن عمه عمر بن عبد العزيز رحمه الله.

وقدم نائب طرابلس المعزول عليلا والأمير سيف الدين استدمر الذي كان نائب دمشق وكانا مقيمان بطرابلس جميعا، في صبيحة يوم السبت السادس والعشرين منه، فدخلا دار السعادة فلم يحتفل بهما نائب السلطنة.

وتكامل في هذا الشهر تجديد الرواق غربي باب الناطفانيين إصلاحا بدرابزيناته وتبييضا لجدرانه ومحراب فيه، وجعل له شبابيك في الدرابزينات، ووقف فيه قراءة قرآن بعد المغرب، وذكروا أن شخصا رأى مناما فقصه على نائب السلطنة فأمر بإصلاحه.

وفيه: نهض بناء المدرسة التي إلى جانب هذا المكان من الشباك، وقد كان أسسها أولا علم الدين بن هلال، فلما صودر أخذت منه وجعلت مضافة إلى السلطان، فبنوا فوق الأساسات وجعلوا لها خمسة شبابيك من شرقها، وبابا قبليا، ومحرابا وبركة وعراقية، وجعلوا حائطها بالحجارة البيض والسود، وكملوا عاليها بالأجر، وجاءت في غاية الحسن، وقد كان السلطان الناصر حسن قد رسم بأن تجعل مكتبا للأيتام فلم يتم أمرها حتى قتل كما ذكرنا.

واشتهر في هذا الشهر أن بقرة كانت تجيء من ناحية باب الجابية تقصد جراء لكلبة قد ماتت أمهم، وهي في ناحية كنيسة مريم في خرابة، فتجيء إليهم فتنسطح على شقها فترضع أولئك الجراء منها، تكرر هذا منها مرارا، وأخبرني في المحدث المفيد التقي نور الدين أحمد بن المقصوص بمشاهدته ذلك.

وفي العشر الأوسط من جمادى الآخرة نادى منادٍ من جهة نائب السلطنة حرسه الله تعالى في البلد أن النساء يمشين في تستر ويلبسن أزرهن إلى أسفل من سائر ثيابهم، ولا يظهرن زينة ولا يدا، فامتثلن ذلك ولله الحمد والمنة.

وقدم أمير العرب جبار بن مهنا في أبهة هائلة، وتلقاه نائب السلطنة إلى أثناء الطريق، وهو قاصد إلى الأبواب الشريفة.

وفي أواخر رجب قدم الأمير سيف الدين تمر المهمندار من نيابة غزة حاجب الحجاب بدمشق، وعلى مقدمة رأس الميمنة، وأطلق نائب السلطنة مكوسات كثيرة، مثل مكس الحداية والخزل المرددن الحلب والطبابي. وأبطل ما كان يؤخذ من المحتسبين زيادة على نصف درهم، وما يؤخذ من أجرة عدة الموتى كل ميت بثلاثة ونصف، وجعل العدة التي في القيسارية للحاجة مسبلة لا تنحجر على أحد في تغسيل ميت، وهذا حسن جدا، وكذلك منع التحجر في بيع البلح المختص به، وبيع مثل بقية الناس من غير طرحان فرخص على الناس في هذه السنة جدا، حتى قيل إنه بيع القنطار بعشرة، وما حولها.

وفي شهر شعبان قدم الأمير جبار بن مهنا من الديار المصرية فنزل القصر الأبلق وتلقاه نائب السلطنة وأكرم كل منهما الآخر، ثم ترحل بعد أيام قلائل، وقدم الأمراء الذين كانوا بحبس الإسكندرية في صبيحة يوم الجمعة سابعه، وفيهم الأمير شهاب الدين بن صبح وسيف الدين طيدمر الحاجب، وطيبرف ومقدم ألف، وعمرشاه، وهذا ونائب السلطنة الأمير سيف الدين بيدمر أعزه الله يبطل المكوسات شيئا بعد شيء مما فيه مضرة بالمسلمين.

وبلغني عنه أن من عزمه أن يبطل جميع ذلك إن أمكنه الله من ذلك، آمين انتهى.

تنبيه على واقعة غريبة وإتقان عجيب

نائب السلطنة الأمير سيف الدين بيدمر فيما بلغنا في نفسه عتب على أتابك الديار المصرية الأمير سيف الدين يلبغا الحاصكي مدبر الدولة بها.

وقد توسم وتوهم منه أنه يسعى في صرفه عن الشام، وفي نفس نائبنا قوة وصرامة شديدة، فتنسم منه ببعض الآباء عن طاعة يلبغا، مع استمراره على طاعة السلطان، وأنه إن اتفق عزل من قبل يلبغا أنه لا يسمع ولا يطيع. فعمل أعمالا واتفق في غضون هذا الحال موت نائب القلعة المنصورة بدمشق وهو الأمير سيف الدين برناق الناصري، فأرسل نائب السلطنة من أصحابه وحاشيته من يتسلم القلعة برمتها، ودخل هو بنفسه إليها، وطلب الأمير زين الدين زبالة الذي كان فقيها ثم نائبها وهو من أخبر الناس بها وبخطاتها وحواصلها، فدار معه فيها وأراه حصونها وبروجها ومفاتحها وأغلاقها ودورها وقصورها وعددها وبركتها، وما هو معد فيها ولها.

وتعجب الناس من هذا الاتفاق في هذا الحال، حيث لم يتفق ذلك لأحد من النواب قبله قط، وفتح الباب الذي هو تجاه دار السعادة وجعل نائب السلطنة يدخل منه إلى القلعة ويخرج بخدمه وحشمه وأبهته يكشف أمرها وينظر في مصالحها أيده الله.

ولما كان يوم السبت خامس عشر شعبان ركب في الموكب على العادة واستدعى الأمير سيف الدين استدمر الذي كان نائب الشام، وهو في منزله كالمعتقل فيه، لا يركب ولا يراه أحد، فأحضره إليه وركب معه.

وكذلك الأمراء الذين قدموا من الديار المصرية: طبترق، وهو أحد أمراء الألوف وطيدمر الحاجب، كان، وأما ابن صبح وعمرشاه فإنهما كانا قد سافرا يوم الجمعة عشية النهار، والمقصود أنه سيرهم وجميع الأمراء بسوق الخيل.

ونزل بهم كلهم إلى دار السعادة فتعاهدوا وتعاقدوا واتفقوا على أن يكونوا كلهم كتفا واحدا، وعصبة واحدة على مخالفة من أرادهم بسوء وأنهم يد على من سواهم ممن أراد عزل أحد منهم أو قتله، وأن من قاتلهم قاتلوه. وأن السلطان هو ابن أستاذهم الملك المنصور بن حاجي بن الناصر بن المنصور قلاوون، فطاوعوا كلهم لنائب السلطنة على ما أراد من ذلك، وحلفوا له وخرجوا من عنده على هذا الحلف، وقام نائب السلطنة على عادته في عظمة هائلة، وأبهة كثيرة، والمسؤول من الله حسن العاقبة.

وفي صبيحة يوم الأحد سادس عشر شعبان أبطل ملك الأمراء المكس الذي يؤخذ من الملح وأبطل مكس الأفراح، وأبطل أن لا تغني امرأة لرجال، ولا رجل لنساء، وهذا في غاية ما يكون من المصلحة العظيمة الشامل نفعها.

وفي يوم الثلاثاء ثامن عشره شرع نائب السلطنة سيف الدين بيدمر في نصف مجانيق على أعالي بروج القلعة، فنصبت أربع مجانيق من جهاتها الأربع، وبلغني أنه نصب آخر في أرضها عند البحرة.

ثم نصب آخر وآخر حتى شاهد الناس ستة مجانيق على ظهور الأبرجة، وأخرج منها القلعية وأسكنها خلقا من الأكراد والتركمان وغيرهم من الرجال الأنجاد، ونقل إليها من الغلات والأطعمة والأمتعة وآلات الحرب شيئا كثيرا، واستعد للحصار إن حوصر فيها بما يحتاج إليه من جميع ما يرصد من القلاع، بما يفوت الحصر.

ولما شاهد أهل البساتين المجانيق قد نصبت في القلعة انزعجوا وانتقل أكثرهم من البساتين إلى البلد، ومنهم من أودع عند أهل البلد نفائس أموالهم وأمتعتهم، والعاقبة إلى خير إن شاء الله تعالى.

وجاءتني فتيا صورتها: ما تقول السادة العلماء في ملك اشترى غلاما فأحسن إليه وأعطاه وقدمه، ثم إنه وثب على سيده فقتله وأخذ ماله ومنع ورثته منه، وتصرف في المملكة، وأرسل إلى بعض نواب البلاد ليقدم عليه ليقتله، فهل له الامتناع منه؟ وهل إذا قاتل دون نفسه وماله حتى يقتل يكون شهيدا أم لا؟ وهل يثاب الساعي في خلاص حق ورثة الملك المقتول من القصاص والمال؟ أفتونا مأجورين.

فقلت للذي جاءني بها من جهة الأمير: إن كان مراده خلاص ذمته فيما بينه وبين الله تعالى فهو أعلم بنيته في الذي يقصده، ولا يسعى في تحصيل حق معين إذا ترتب على ذلك مفسدة راجحة على ذلك، فيؤخر الطلب إلى وقت إمكانه بطريقة، وإن كان مراده بهذا الاستفتاء أن يتقوى بها في جمع الدولة والأمراء عليه، فلا بد أن يكتب عليها كبار القضاة والمشايخ أولا، ثم بعد ذلك بقية المفتيين بطريقه، والله الموفق للصواب.

هذا وقد اجتمع على الأمير نائب السلطنة جميع أمراء الشام، حتى قيل إن فيهم من نواب السلطنة سبعة عشر أميرا، وكلهم يحضر معه المواكب الهائلة، وينزلون معه إلى دار السعادة، ويمد لهم الأسمطة ويأكل معهم.

وجاء الخبر بأن الأمير منجك الطرجاقسي المقيم ببيت المقدس قد أظهر الموافقة لنائب السلطنة، فأرسل له جبريل ثم عاد فأخبر بالموافقة، وأنه قد استحوذ إلى غزة ونائبه، وقد جمع وحشد واستخدم طوائف، ومسك على الجادة فلا يدع أحدا يمر إلا أن يفتش ما معه، لاحتمال إيصال كتب من ها هنا إلى ها هنا.

ومع هذا كله فالمعدلة ثابتة جدا، والأمن حاصل هناك، فلا يخاف أحده وكذلك بدمشق وضواحيها، لا يهاج أحد ولا يتعدى أحد على أحد، ولا ينهب أحد لأحد شيئا ولله الحمد.

غير أن بعض أهل البساتين توهموا وركبوا إلى المدينة وتحولوا، وأودع بعضهم نفائس ما عندهم، وأقاموا بها على وجل، ذلك لما رأوا المجانيق الستة منصوبة على رؤوس قلال الأبراج التي للقلعة.

ثم أحضر نائب السلطنة القضاة الأربعة والأمراء كلهم وكتبوا مكتوبا سطره بينهم كاتب السر، أنهم راضون بالسلطان كارهون ليلبغا، وأنهم لا يريدونه ولا يوافقون على تصرفه في المملكة، وشهد عليهم القضاة بذلك، وأرسلوا المكتوب مع مملوك للأمير طيبغا الطويل، نظير يلبغا بالديار المصرية، وأرسل منجك إلى نائب السلطنة يستحثه في الحضور إليه في الجيش ليناجزوا المصريين.

فعين نائب الشام من الجيش طائفة يبرزون بين يديه، وخرجت التجريدة ليلة السبت التاسع والعشرين من شعبان صحبة استدمر الذي كان نائب الشام مددا للأمير منجك في ألفين، ويذكر الناس أن نائب السلطنة بمن بقي من الجيش يذهبون على إثرهم، ثم خرجت أخرى بعدها ثلاثة آلاف، ليلة الثلاثاء الثامن من رمضان كما سيأتي.

وتوفي الشيخ الحافظ علاء الدين مغلطاي المصري بها في يوم الثلاثاء الرابع والعشرين من شعبان من هذه السنة، ودفن من الغد بالريدانية، وقد كتب الكثير وصنف وجمع، وكانت عنده كتب كثيرة رحمه الله.

وفي مستهل رمضان أحضر جماعة من التجار إلى دار العدل ظاهر باب النصر ليباع شيء عليهم من القند والفولاذ والزجاج مما هو في حواصل يلبغا، فامتنعوا من ذلك خوفا من استعادته منهم على تقدير، فضرب بعضهم، منهم شهاب الدين بن الصواف بين يدي الحاجب، وشاد الدواوين، ثم أفرج عنهم في اليوم الثاني ففرج الله بذلك.

وخرجت التجريدة ليلة الثلاثاء بعد العشاء صحبة ثلاثة مقدمين منهم عراق ثم ابن صبح ثم ابن طرغية، ودخل نائب طرابلس الأمير سيف الدين تومان إلى دمشق صبيحة يوم الأربعاء عاشر رمضان، فتلقاه ملك الأمراء سيف الدين بيدمر إلى الأقصر.

ودخلا معا في أبهة عظيمة، فنزل تومان في القصر الأبلق، وبرز من معه من الجيوش إلى عند قبة يلبغا، هذا والقلعة منصوب عليها المجانيق، وقد ملئت حرسا شديدا ونائب السلطنة في غاية التحفظ.

ولما أصبح يوم الخميس صمم تومان تمر على ملك الأمراء في الرحيل إلى غزة ليتوافى هو وبقية من تقدمه من الجيش الشامي، ومنجك ومن معه هنالك، ليقضي الله أمرا كان مفعولا.

فأجابه إلى ذلك وأمر بتقدم السبق بين يديه في هذا اليوم، فخرج السبق وأغلقت القلعة بابها المسلوك الذي عند دار الحديث، فاستوحش الناس من ذلك، والله يحسن العاقبة.

خروج ملك الأمراء بيدمر من دمشق إلى غزة

صلى الجمعة بالمقصورة الثاني عشر من رمضان نائب السلطنة، ونائب طرابلس، ثم اجتمعا بالخطبة في مقصورة الخطابة، ثم راح لدار السعادة ثم خرج طلبه في تجمل هائل على ما ذكر بعد العصر، وخرج معهم فاستعرضهم ثم عاد إلى دار السعادة فبات إلى أن صلّى الصبح، ثم ركب خلف الجيش هو ونائب طرابلس، وخرج عامة من بقي من الجيش من الأمراء وبقية الحلقة، وسلمهم الله.

وكذلك خرج القضاة، وكذا كاتب السر ووكيل بيت المال وغيرهم من كتاب الدست، وأصبح الناس يوم السبت وليس أحد من الجند بدمشق، سوى نائب الغيبة الأمير سيف الدين بن حمزة التركماني، وقريبه والي البر، ومتولي البلد الأمير بدر الدين صدقة بن أوحد، ومحتسب البلد ونواب القضاة والقلعة على حالها، والمجانيق منصوبة كما هي.

ولما كان صبح يوم الأحد رجع القضاة بكرة ثم رجع ملك الأمراء في أثناء النهار هو وتومان تمر، وهم كلهم في لبس وأسلحة تامة، وكل منهما خائف من الآخر أن يمكسه، فدخل هذا دار السعادة وراح الآخر إلى القصر الأبلق.

ولما كان بعد العصر قدم منجك واستدمر كان نائب السلطنة بدمشق، وهما مغلولان قد كسرهما من كان قدم على منجك من العساكر التي جهزها بيدمر إلى منجك وقوة له على المصريين.

وكان ذلك على يدي الأمير سيف الدين تمر حاجب الحجاب ويعرف بالمهمندار، قال لمنجك: كلنا في خدمة من بمصر، ونحن لا نطيعك على نصرة بيدمر، فتقاولا ثم تقاتلا فهزم منجك وذهب تمر ومنجك ومن كان معهما كابن صبح وطيدمر.

ولما أصبح الصباح من يوم الاثنين خامس عشر لم يوجد لتومان تمر وطبترق ولا أحد من أمراء دمشق عين ولا أثر، قد ذهبوا كلهم إلى طاعة صاحب مصر، ولم يبق بدمشق من أمرائها سوى ابن قراسنقر من الأمراء المتقدمين، وسوى بيدمر ومنجك واستدمر.

والقلعة قد هيئت والمجانيق منصوبة على حالها، والناس في خوف شديد من دخول بيدمر إلى القلعة، فيحصل بعد ذلك عند قدوم الجيش المصري حصار وتعب ومشقة على الناس، والله يحسن العاقبة.

ولما كان في أثناء نهار الاثنين سادس عشره دقت البشائر في القلعة وأظهر أن يلبغا الخاصكي قد نفاه السلطان إلى الشام، ثم ضربت وقت الغرب ثم بعد العشاء في صبيحة يوم الثلاثاء أيضا.

وفي كل ذلك يركب الأمراء الثلاثة منجك وبيدمر واستدمر ملبسين، ويخرجون إلى خارج البلد، ثم يعودون، والناس فيما يقال ما بين مصدق ومكذب، ولكن قد شرع إلى تستير القلعة وتهيئ الحصار فإنا لله وإنا إليه راجعون.

ثم تبين أن هذه البشائر لا حقيقة لها، فاهتم في عمل ستائر القلعة وحمل الزلط والأحجار إليها، الأغنام والحواصل، وقد وردت الأخبار بأن الركاب الشريف السلطاني وصحبته يلبغا في جميع جيش مصر قد عدا غزة.

فعند ذلك خرج الصاحب وكاتب السر والقاضي الشافعي وناظر الجيش ونقباؤه ومتولي البلد وتوجهوا تلقاء حماة لتلقي الأمير على الذي قد جاءه تقليد دمشق، وبقي البلد شاغرا عن حاكم فيها سوى المحتسب وبعض القضاة، والناس كغنم لا راعي لهم.

ومع هذا الأحوال صالحة والأمور ساكنة، لا يعدو أحد على أحد فيما بلغنا، هذا وبيدمر ومنجك واستدمر في تحصين القلعة وتحصيل العدد والأقوات فيها، والله غالب على أمره أينما تكونوا يدرككم الموت ولو كنتم في بروج مشيدة الستائر تعمل فوق الأبرجة.

وصلى الأمير بيدمر صلاة الجمعة تاسع عشر الشهر في الشباك الكمالي، في مشهد عثمان، وصلّى عنده منجك إلى جانبه داخل موضع القضاة، وليس هناك أحد من الحجبة ولا النقباء.

وليس في البلد أحد من المباشرين بالكلية، ولا من الجند إلا القليل، وكلهم قد سافروا إلى ناحية السلطان، والمباشرون إلى ناحية حماة لتلقي الأمير على نائب الشام المحروس، ثم عاد إلى القلعة ولم يحضر الصلاة استدمر، لأنه قيل كان منقطعا أو قد صلّى في القلعة.

وفي يوم السبت العشرين من الشهر وصل البريد من جهة السلطان من أبناء الرسول إلى نائب دمشق يستعلم طاعته أو مخالفته، وبعث عليه فيما اعتمده من استحوذ على القلعة ويخطب فيها، وادخار الآلات والأطعمات فيها، وعدم المجانيق والستائر عليها، وكيف تصرف في الأموال السلطانية تصرف الملك والملوك.

فتنصل ملك الأمراء من ذلك، وذكر أنه إنما أرصد في القلعة جنادتها وأنه لم يدخلها، وأن أبوابها مفتوحة، وهي قلعة السلطان.

وإنما له غريم بينه وبينه الشرع والقضاة الأربعة - يعني بذلك يلبغا - وكتب الجواب وأرسله صحبة البريدي وهو كتكلدي مملوك بقطبة الدويدار، وأرسل في صحبته الأمير صارم الدين أحد أمراء العشرات من يوم ذلك.

وفي يوم الاثنين الثاني والعشرين من رمضان تصبح أبواب البلد مغلقة إلى قريب الظهر، وليس ثم مفتوح سوى باب النصر والفرج، والناس في حصر شديد وانزعاج، فإنا لله وإنا إليه راجعون. ولكن قد اقترب وصول السلطان والعساكر المنصورة.

وفي صبيحة الأربعاء أصبح الحال كما كان وأزيد، ونزل الأمير سيف الدين يلبغا الخاصكي بقبة يلبغا، وامتد طلبه من سيف داريا إلى القبة المذكورة في أبهة عظيمة، وهيئة حسنة، وتأخر الركاب الشريف بتأخره عن الصميين بعد، ودخل بيدمر في هذا اليوم إلى القلعة وتحصن بها.

وفي يوم الخميس الخامس والعشرين منه استمرت الأبواب كلها مغلقة سوى باب النصر والفرج، وضاق النطاق وانحصر الناس جدا، وقطع المصريون نهر بانياس والفرع الداخل إليها وإلى دار السعادة من القنوات.

واحتاجوا لذلك أن يقطعوا القنوات ليسدوا الفرع المذكور، فانزعج أهل البلد لذلك وملأوا ما في بيوتهم من برك المدراس، وبيعت القربة بدرهم، والحق بنصف.

ثم أرسلت القنوات وقت العصر من يومئذ ولله الحمد والمنة، فانشرح الناس لذلك، وأصبح الصباح يوم الجمعة والأبواب مغلقة ولم يفتح باب النصر والفرج إلى بعد طلوع الشمس بزمان.

فأرسل يلبغا من جهته أربعة أمراء وهم الأمير زين الدين زبالة الذي كان نائب القلعة، والملك صلاح الدين بن الكامل، والشيخ علي الذي كان نائب الرحبة من جهة بيدمر، وأمير آخر، فدخلوا البلد وكسروا أقفال أبواب البلد، وفتحوا الأبواب، فلما رأى بيدمر ذلك أرسل مفاتيح البلد إليهم انتهى.

وصول السلطان الملك المنصور إلى المصطبة غربي عقبة سجورا

كان ذلك في يوم الجمعة السادس والعشرين من شهر رمضان في جحافل عظيمة كالجبال، فنزل عند المصطبة المنسوبة إلى عم ابنته الملك الأشرف خليل بن المنصور قلاوون، وجاءت الأمراء ونواب البلاد لتقبيل يده والأرض بين يديه، كنائب حلب، ونائب حماة، وهو الأمير علاء الدين المارداني، وقد عين لنيابة دمشق، وكتب بتقليده بذلك، وأرسل إليه وهو بحماة.

فلما كان يوم السبت السابع والعشرين منه خلع على الأمير علاء الدين علي المرداني بنيابة دمشق، وأعيد إليها عودا على بدء، ثم هذه الكرة الثالثة، وقبّل يد السلطان وركب عن يمينه، وخرج أهل البلد لتهنئته، هذا والقلعة محصنة بيد بيدمر، وقد دخلها ليلة الجمعة واحتمى بها، هو ومنجك واستدمر ومن معه من الأعوان بها، ولسان حال القدر يقول: {أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكُكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ} 38.

ولما كان يوم الأحد طلب قضاة القضاة وأرسلوا إلى بيدمر وذويه بالقلعة ليصالحوه على شيء ميسور يشترطونه، وكان ما ستذكره انتهى والله تعالى أعلم.

سبب خروج بيدمر من القلعة وصفة ذلك

لما كان يوم الأحد الثامن والعشرين منه أرسل قضاة القضاة ومعهم الشيخ شرف الدين ابن قاضي الجبل الحنبلي، والشيخ سراج الدين الهندي الحنفي، قاضي العسكر المصري للحنفية، إلى بيدمر ومن معه ليتكلموا معهم في الصلح لينزلوا على ما يشترطون قبل أن يشرعوا في الحصار والمجانيق التي قد استدعى بها من صفد وبعلبك.

واحضر من رجال النقاعين نحو من ستة آلاف رامٍ فلما اجتمع به القضاة ومن معهم وأخبروه عن السلطان وأعيان الأمراء بأنهم قد كتبوا له أمانا إن أناب إلى المصالحة، فطلب أن يكون بأهله ببيت المقدس، وطلب أن يعطى منجك كذا بناحية بلاد سيس ليسترزق هنالك.

وطلب استدمر أن يكون بشمقدارا للأمير سيف الدين يلبغا الخاصكي فرجع القضاة إلى السلطان ومعهم الأمير زين الدين جبريل الحاجب كان، فأخبروا السلطان والأمراء بذلك، فأجيبوا إليه، وخلع السلطان والأمراء على جبريل خلعا فرجع في خدمة القضاة ومعهم الأمير استبغا بن الأيوبكري، فدخلوا القلعة وباتوا هنالك كلهم، وانتقل الأمير بيدمر بأهله وأثاثه إلى داره بالمطرزين.

فلما أصبح يوم الاثنين التاسع والعشرين منه خرج الأمراء الثلاثة من القلعة ومعهم جبريل، فدخل القضاة وسلموا القلعة بما فيها من الحواصل إلى الأمير استبغا بن الأيوبكري انتهى.

دخول السلطان محمد بن الملك أمير حاج بن الملك محمد ابن الملك قلاوون إلى دمشق في جيشه وأمرائه

لما كان صبيحة يوم الاثنين التاسع والعشرين من رمضان من هذه السنة رجع القضاة إلى الوطاق الشريف، وفي صحبتهم الأمراء الذين كانوا بالقلعة، وقد أعطوا الأمان من جهة السلطان ومن معهم وذويهم، فدخل القضاة وحُجب الأمراء المذكورون.

فخلع على القضاة الأربعة وانصرفوا راجعين مجبورين، وأما الأمراء المذكورون فإنهم أركبوا على خيل ضعيفة، وخلف كل واحد منهم وساقي أخذ بوسطه قبل، وفي يد كل واحد من الوساقية خنجر كبير مسلول لئلا يستنقذه منه أحد فيقتله بها، فدخل جهرة بين الناس ليروهم ذلتهم التي قد لبستهم، وقد أحدق الناس بالطريق من كل جانب.

فقام كثير من الناس، الله أعلم بعدتهم، إلا أنهم قد يقاربون المائة ألف أو يزيدون عليها، فرأى الناس منظرا فظيعا، فدخل بهم الوساقية إلى الميدان الأخضر الذي فيه القصر، فاجلسوا هنالك وهم ستة نفر: الثلاثة النواب وجبريل وابن استدمر وسادس، وظن كل منهم أن يفعل بهم فاقرة، فإنا لله وإنا إليه راجعون.

وأرسلت الجيوش داخلة إلى دمشق أطلابا في تجمل عظيم، ولبس الحرب بنهر النصر وخيول وأسلحة ورماح، ثم دخل السلطان في آخر ذلك كله بعد العصر بزمن، وعليه من أنواع الملابس قباز بخاري، والقبة والطبر يحملهما على رأسه الأمير سيف الدين تومان تمر، الذي كان نائب طرابلس، والأمراء مشاة بين يديه، والبسط تحت قدمي فرسه، والبشائر تضرب خلفه فدخل القلعة المنصورة المنصورية لا البدرية.

ورأى ما قد أرصد بها من المجانيق والأسلحة، فاشتد حنقه على بيدمر وأصحابه كثيرا، ونزل الطارمة، وجلس على سرير المملكة ووقف الأمراء والنواب بين يديه، ورجع الحق إلى نصابه، وقد كان بين دخوله ودخول عمه الصالح صالح في أول يوم من رمضان، وهذا في التاسع والعشرين منه، وقد قيل إنه سلخه والله أعلم. وشرع الناس في الزينة.

وفي صبيحة يوم الثلاثاء سلخ الشهر نقل الأمراء المغضوب عليهم الذين ضلّ سعيهم فيما كانوا أبرموه من ضمير سوء للمسلمين إلى القلعة فأنزلوا في أبراجها مهانين مفرقا بينهم، بعد ما كانوا بها آمنين حاكمين، أصبحوا معتقلين مهانين خائفين، فجاروا بعد ما كانوا رؤساء، وأصبحوا بعد عزهم أذلاء.

ونقبت أصحاب هؤلاء ونودي عليهم في البلد، ووعد من دل على أحد منهم بمال جزيل، وولاية إمرة بحسب ذلك، ورسم في هذا اليوم على الرئيس أمين الدين ابن القلانسي كاتب السر، وطلب منه ألف ألف درهم، وسلم إلى الأمير زين الدين زبالة نائب القلعة، وقد أعيد إليها وأُعطي تقدمة ابن قراسنقر، وأمره أن يعاقبه إلى أن يزن هذا المبلغ.

وصلّى السلطان وأمراؤه بالميدان الأخضر صلاة العيد، ضرب له خام عظيم وصلى به خطيبا القاضي تاج الدين الساوي الشافعي، قاضي العسكر المنصورة للشافعية.

ودخل الأمراء مع السلطان للقلعة من باب المدرسة، ومد لهم سماطا هائلا أكلوا منه ثم رجعوا إلى دورهم وقصورهم، وحمل الطبر في هذا اليوم على رأس السلطان الأمير على نائب دمشق، وخلع عليه خلعة هائلة.

وفي هذا اليوم مسك الأمير تومان تمر الذي كان نائب طرابلس، ثم قدم على بيدمر، فكان معه، ثم قفل إلى المصريين واعتذر إليهم فعذروه فيما يبدو للناس.

ودخل وهو حامل الخبز على رأس السلطان يوم الدخول، ثم ولوه نيابة حمص، فصغروه وحقروه، ثم لما استمر ذاهبا إليها فكان عند القابون أرسلوا إليه فأمسكوه وردوه، وطلب منه المائة ألف التي كان قبضها من بيدمر، ثم ردوه إلى نيابة حمص.

وفي يوم الخميس اشتهر الخبر بأن طائفة من الجيش بمصر من طواشية وخاصكية ملكوا عليهم حسين الناصر، ثم اختلفوا فيما بينهم واقتتلوا، وأن الأمر قد انفصل ورد حسين للمحل الذي كان معتقلا فيه، وأطفأ الله شر هذه الطائفة ولله الحمد.

وفي آخر هذا اليوم لبس القاضي ناصر الدين بن يعقوب خلعة كتابة السر الشريفية، والمدرستين، ومشيخة الشيوخ عوضا عن الرئيس علاء الدين بن القلانسي، عزل وصودر، وراح الناس لتهنئته بالعود إلى وظيفته كما كان.

وفي صبيحة يوم الجمعة ثالث شوال مسك جماعة من الأمراء الشاميين منهم الحاجبان صلاح الدين وحسام الدين والمهمندار ابن أخي الحاجب الكبير، تمر، وناصر الدين بن الملك صلاح الدين بن الكامل، وابن حمزة والطرخاني واثنان أخوان وهما طيبغا زفر وبلجات، كلهم طبلخانات، وأخرجوا خير وتمر حاجب الحجاب، وكذلك الحجوبية أيضا لقاربي أحد أمراء مصر.

وفي يوم الثلاثاء سابع شوال مسك ستة عشر أميرا من أمراء العرب بالقلعة المنصورة، منهم عمر بن موسى بن مهنا الملقب المصمع، الذي كان أمير العرب في وقت، ومعيقل بن فضل بن مهنا وآخرون، وذكروا أن سبب ذلك أن طائفة من آل فضل عرضوا للأمير سيف الدين الأحمدي الذي استاقوه على حلب، وأخذوا منه شيئا من بعض الأمتعة، وكادت الحرب تقع بينهم.

وفي ليلة الخميس بعد المغرب حمل تسعة عشر أميرا من الأتراك والعرب على البريد مقيدين في الأغلال أيضا إلى الديار المصرية، منهم بيدمر، ومنجك، واستدمر، وجبريل، وصلاح الدين الحاجب، وحسام الدين أيضا، وبلجك وغيرهم. ومعهم نحو من مائتي فارس ملبسين بالسلاح متوكلين بحفظهم، وساروا بهم نحو الديار المصرية، وأمروا جماعة من البطالين منهم أولاد لاقوش، وأطلق الرئيس أمين الدين بن القلانسي من المصادرة والترسيم بالقلعة، بعد ما وزن بعض ما طلب منه، وصار إلى منزله، وهنأه الناس.

خروج السلطان من دمشق قاصدا مصر

ولما كان يوم الجمعة عاشر شهر شوال خرج طلب يلبغا الخاصكي صبيحته في تجمل عظيم لم ير الناس في هذه المدد مثله، من نجائب وجنائب ومماليك وعظمة هائلة، وكانت عامة الأطلاب قد تقدمت قبله بيوم، وحضر السلطان إلى الجامع الأموي قبل أذان الظهر، فصلى في مشهد عثمان و ومن معه من أمراء المصريين، ونائب الشام. وخرج من فوره من باب النصر ذاهبا نحو الكسوة والناس في الطرقات والأسطحة على العادة، وكانت الزينة قد بقي أكثرها في الصاغة والخواصين وباب البريد إلى هذا اليوم، فاستمرت نحو العشرة أيام.

وفي يوم السبت حادي عشر شوال خلع على الشيخ علاء الدين الأنصاري بإعادة الحسبة إليه وعزل عماد الدين بن السيرجي، وخرج المحمل يوم الخميس سادس عشر شوال على العادة، والأمير مصطفى البيري.

وتوفي يوم الخميس ويوم الجمعة أربعة أمراء بدمشق، وهم طشتمر وفر وطيبغا الفيل، ونوروز أحد مقدمي الألوف، وتمر المهمندار، وقد كان مقدم ألف، وحاجب الحجاب وعمل نيابة غزة في وقت، ثم تعصب عليه المصريون فعزلوه عن الإمرة.

وكان مريضا فاستمر مريضا إلى أن توفي يوم الجمعة، ودفن يوم السبت بتربته التي أنشأها بالصوفية، لكنه لم يدفن فيها بل على بابها كأنه مودع أو ندم على بنائها فوق قبور المسلمين رحمه الله.

وتوفي الأمير ناصر الدين بن لاقوش يوم الاثنين العشرين من شوال ودفن بالقبيبات، وقد ناب ببعلبك وبحمص، ثم قطع خبره هو وأخوه كحلن ونفوا عن البلد إلى بلدان شتى.

ثم رضي عنهم الأمير يلبغا وأعاد عليهم أخبارا بطبلخانات، فلما لبث ناصر الدين إلا يسيرا حتى توفي إلى رحمة الله تعالى، وقد أثر آثارا حسنة كثيرة منها عند عقبة الرمانة خان مليح نافع، وله ببعلبك جامع وحمام وخان وغير ذلك، وله من العمر ست وخمسون سنة.

وفي يوم الأحد السادس والعشرين منه درّس القاضي نور الدين محمد بن قاضي القضاة بهاء الدين بن أبي البقاء الشافعي بالمدرسة الأتابكية، نزل له عنها والده بتوقيع سلطاني، وحضر عنده القضاة والأعيان، وأخذ في قوله تعالى: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ} 39.

وفي هذا اليوم درّس القاضي نجم الدين أحمد بن عثمان النابلسي الشافعي المعروف بابن الجابي بالمدرسة العصرونية استنزل له عنها القاضي أمين الدين بن القلانسي في مصادراته.

وفي صبيحة يوم الاثنين التاسع والعشرين من شوال درّس القاضي ولي الدين عبد الله بن القاضي بهاء الدين أبي البقاء بالمدرستين الرواحية ثم القيمرية، نزل له عنهما والده المذكور بتوقيع سلطاني، وحضر عنده فيهما القضاة والأعيان.

وفي صبيحة يوم الخميس سلخ شوال شهر الشيخ أسد ابن الشيخ الكردي على جمل وطيف به في حواضر البلد ونودي عليه: هذا جزاء من يخامر على السلطان ويفسد ثواب السلطان.

ثم أنزل عن الجمل وحمل على حمار وطيف به في البلد ونودي عليه بذلك، ثم ألزم السجن وطلب منه مال جزيل وقد كان المذكور من أعوان بيدمر المتقدم ذكره وأنصاره، وكان هو المتسلم للقلعة في أيامه.

وفي صبيحة يوم الاثنين حادي عشر ذي القعدة خلع على قاضي القضاة بدر الدين بن أبي الفتح بقضاء العسكر الذي كان متوفرا عن علاء الدين بن شمرنوخ، وهنأه الناس بذلك وركب البغلة بالزناري مضافا إلى ما بيده من نيابة الحكم والتدريس.

وفي يوم الاثنين ثامن عشره أعيد تدريس الركنية بالصالحية إلى قاضي القضاة شرف الدين الكفري الحنفي، استرجعها بمرسوم شريف سلطاني، من يد القاضي عماد الدين بن العز، وخلع على الكفري، وذهب الناس إليه للتهنئة بالمدرسة المذكورة.

وفي شهر ذي الحجة أشتهر وقوع فتن بين الفلاحين بناحية عجلون، وأنهم اقتتلوا فقتل من الفريقين اليمني والقيسي طائفة، وأن عين حيتا التي هي شرقي عجلون دمرت وخربت، وقطع أشجارها ودمرت بالكلية.

وفي صبيحة يوم السبت الثاني والعشرين من ذي الحجة لم تفتح أبواب دمشق إلى ما بعد طلوع الشمس، فأنكر الناس ذلك، وكان سببه الاحتياط على أمير يقال له كسبغا، كان يريد الهرب إلى بلاد الشرق، فاحتيط عليه حتى أمسكوه.

وفي ليلة الأربعاء السادس والعشرين من ذي الحجة قدم الأمير سيف الدين طاز من القدس فنزل بالقصر الأبلق، وقد عمي من الكحل حين كان مسجونا بالإسكندرية، فأطلق كما ذكرنا، ونزل ببيت المقدس مدة.

ثم جاءه تقليد بأنه يكون ظرخانا ينزل حيث شاء من بلاد السلطان، غير أنه لا يدخل ديار مصر، فجاء فنزل بالقصر الأبلق، وجاء الناس إليه على طبقاتهم - نائب السلطنة فمن دونه - يسلمون عليه وهو لا يبصر شيئا، وهو على عزم أن يشتري أو يستكري له دارا بدمشق يسكنها.

انتهى والله سبحانه وتعالى أعلم.

ثم دخلت سنة ثلاث وستين وسبعمائة

استهلت هذه السنة وسلطان الديار المصرية والشامية والحرمين الشريفين وما والاهما من الممالك الإسلامية السلطان الملك المنصور صلاح الدين محمد بن الملك المظفر أمير حاج بن الملك المنصور قلاوون، وهو شاب دون العشرين، ومدبر الممالك بين يديه الأمير يلبغا، ونائب الديار المصرية طشتمر، وقضاتها هم المذكورون في التي قبلها. والوزير سيف الدين قزوينه، وهو مريض مدنف ونائب الشام بدمشق الأمير علاء الدين المارداني، وقضاته هم المذكورون في التي قبلها، وكذلك الخطيب، ووكيل بيت المال، والمحتسب علاء الدين الأنصاري، عاد إليها في السنة المنفصلة، وحاجب الحجاب قماري، والذي يليه السليماني وآخر من مصر أيضا. وكاتب السر القاضي ناصر الدين محمد بن يعقوب الحلبي، وناظر الجامع القاضي تقي الدين بن مراجل وأخبرني قاضي القضاة تاج الدين الشافعي أنه جدد في أول هذه السنة قاضي حنفي بمدينة صفد المحروسة مع الشافعي، فصار في كل من حماة وطرابلس وصفد قاضيان شافعي وحنفي.

وفي ثاني المحرم قدم نائب السلطنة بعد غيبة نحو من خمسة عشر يوما، وقد أوطأ بلاد فرير بالرعب، وأخذ من مقدميهم طائفة فأودعهم الحبس، وكان قد اشتهر أنه قصد العشيرات المواسين ببلاد عجلون، فسألته عن ذلك حين سلمت عليه فأخبرني أنه لم يتعد ناحية فرير، وأن العشيرات قد اصطلحوا واتفقوا، وأن التجريدة عندهم هناك.

قال: وقد كبس الأعراب من حرم الترك فهزمهم الترك وقتلوا منهم خلقا كثيرا، ثم ظهر للعرب كمين فلجأ الترك إلى وادي صرح فحصروهم هنالك، ثم ولت الأعراب فرارا ولم يقتل من الترك أحد، وإنما جرح منهم أمير واحد فقط، وقتل من الأعراب فوق الخمسين نفسا.

وقدم الحجاج يوم الأحد الثاني والعشرين من المحرم، ودخل المحمل السلطاني ليلة الاثنين بعد العشاء، ولم يحتفل لدخوله كما جرت به العادة، وذلك لشدة ما نال الركب في الرجعة من بريز إلى هنا من البرد الشديد، بحيث إنه قد قيل إنه مات منهم بسبب ذلك نحو المائة، فإنا لله وإنا إليه راجعون.

ولكن أخبروا برخص كثير وآمن، وبموت نفسة أخي عجلان صاحب مكة، وقد استبشر بموته أهل تلك البلاد لبغية على أخيه عجلان العادل فيهم انتهى والله أعلم.

منام غريب جدا لابن كثير مع النووي في ابن حزم

ورأيت - يعني المصنف - في ليلة الاثنين الثاني والعشرين من المحرم سنة ثلاث وستين وسبعمائة الشيخ محي الدين النووي رحمه الله فقلت له: يا سيدي الشيخ لم لا أدخلت في شرحك المهذب شيئا من مصنفات ابن حزم؟

فقال ما معناه: إنه لا يحبه.

فقلت له: أنت معذور فيه فإنه جمع بين طرفي النقيضين في أصوله وفروعه، أما هو في الفروع فظاهري جامد يابس، وفي الأصول تول مائع قرمطة القرامطة وهرس الهرائسة، ورفعت بها صوتي حتى سُمعت وأنا نائم، ثم أشرت له إلى أرض خضراء تشبه النخيل بل هي أردأ شكلا منه، لا ينتفع بها في استغلال ولا رعي.

فقلت له: هذه أرض ابن حزم التي زرعها.

قال: انظر هل ترى فيها شجرا مثمرا أو شيئا ينتفع به.

فقلت: إنما تصلح للجلوس عليها في ضوء القمر.

فهذا حاصل ما رأيته، ووقع في خلدي أن ابن حزم كان حاضرنا عندما أشرت للشيخ محي الدين إلى الأرض المنسوبة لابن حزم، وهو ساكت لا يتكلم.

وفي يوم الخميس الثالث والعشرين من صفر خلع على القاضي عماد الدين بن الشيرجي بعود الحسبة إليه بسبب ضعف علاء الدين الأنصاري عن القيام بها لشغله بالمرض المدنف، وهنأه الناس على العادة.

وفي يوم السادس والعشرين من صفر توفي الشيخ علاء الدين الأنصاري المذكور بالمدرسة الأمينية، وصلّي عليه الظهر بالجامع الأموي، ودفن بمقابر باب الصغير خلف محراب جامع جراح، في تربة هنالك، وقد جاوز الأربعين سنة، ودرّس في الأمينية وفي الحسبة مرتين وترك أولادا صغارا وأموالا جزيلة سامحه الله ورحمه، ووليّ المدرسة بعده قاضي القضاة تاج الدين بن السبكي بمرسوم كريم شريف.

وفي العشر الأخير من صفر بلغنا وفاة قاضي قضاة المالكية الأخنائي بمصر وتولية أخيه برهان الدين إبراهيم ابن قاضي القضاة علم الدين الأخنائي الشافعي أبوه قاضيا مكان أخيه، وقد كان على الحسبة بمصر مشكور السيرة فيها، وأضيف إليه نظر الخزانة كما كان أخوه.

وفي صبيحة يوم الأحد رابع شهر ربيع الأول كان ابتداء حضور قاضي القضاة تاج الدين أبو نصر عبد الوهاب بن قاضي القضاة تقي الدين بن الحسن بن عبد الكافي السبكي الشافعي تدريس الأمينية عوضا عن الشيخ علاء الدين المحتسب، بحكم وفاته رحمه الله كما ذكرنا.

وحضر عنده خلق من العلماء والأمراء والفقهاء والعامة، وكان درسا حافلا، أخذ في قوله تعالى: {أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} 40 الآية وما بعدها. فاستنبط أشياء حسنة، وذكر ضربا من العلوم بعبارة طلقة جارية معسولة، أخذ، ذلك من غير تلعثم ولا تلجلج ولا تكلف فأجاد وأفاد، وشكره الخاصة والعامة من الحاضرين وغيرهم حتى قال بعض الأكابر: إنه لم يسمع درسا مثله.

وفي يوم الاثنين الخامس والعشرين منه توفي الصدر برهان الدين بن لؤلؤ الحوضي، في داره بالقصاعين ولم يمرض إلا يوما واحدا، وصلّي عليه من الغد بجامع دمشق بعد صلاة الظهر، وخرجوا به من باب النصر، فخرج نائب السلطنة الأمير علي فصلّى عليه إماما خارج باب النصر. ثم ذهبوا به فدفنوه بمقابرهم بباب الصغير، فدفن عند أبيه رحمه الله، كان رحمه الله فيه مروءة وقيام مع الناس، وله وجاهة عند الدولة وقبول عند نواب السلطنة وغيرهم، ويحب العلماء وأهل الخير، ويواظب على سماع مواعيد الحديث والخير، وكان له مال وثروة ومعروف، قارب الثمانين رحمه الله.

وجاء البريد من الديار المصرية فأخبر بموت الشيخ شمس الدين محمد بن النقاش المصري بها، وكان واعظا باهرا، وفصيحا ماهرا، ونحويا شاعرا، له يد طولى في فنون متعددة، وقدرة على نسج الكلام، ودخول على الدولة وتحصيل الأموال، وهو من أبناء الأربعين رحمه الله.

وأخبر البريد بولاية قاضي القضاة شرف الدين المالكي البغدادي، الذي كان قاضيا بالشام للمالكية، ثم عزل بنظر الخزانة بمصر، فإنه رتب له معلوم وافر يكفيه ويفضل عنه، ففرح بذلك من يحبه.

وفي يوم الأحد السابع عشر من ربيع الآخر توفي الرئيس أمين الدين محمد بن الصدر جمال الدين أحمد بن الرئيس شرف الدين محمد بن القلانسي، أحد من بقي من رؤساء البلد وكبرائها. وقد كان باشر مباشرات كبار كأبيه وعمه علاء الدين، ولكن فاق هذا على أسلافه فإنه باشر وكالة المال مدة، وولي قضاء العساكر أيضا، ثم ولي كتابة السر مع مشيخة الشيوخ وتدريس الناصرية والشامية الجوانية، وكان قد درّس في العصرونية من قبل سنة ست وثلاثين.

ثم لما قدم السلطان في السنة الماضية عزل عن مناصبه الكبار، وصودر بمبلغ كثير يقارب مائتي ألف، فباع كثيرا من أملاكه وما بقي بيده من وظائفه شيء، وبقي خاملا مدة إلى يومه هذا، فتوفي بغتة، وكان قد تشوش قليلا لم يشعر به أحد، وصلّي عليه العصر بجامع دمشق، وخرجوا به من باب الناطفانيين إلى تربتهم التي بسفح قاسيون رحمه الله.

وفي صبيحة يوم الاثنين ثامن عشره، خلع على القاضي جمال الدين بن قاضي القضاة شرف الدين الكفري الحنفي. وجعل مع أبيه شريكا في القضاء ولقب في التوقيع الوارد صحبة البريد من جهة السلطان قاضي القضاة فلبس الخلعة بدار السعادة وجاء ومعه قاضي القضاة تاج الدين السبكي إلى النورية فقعد في المسجد ووضعت الربعة فقرئت وقرئ القرآن ولم يكن درسا، وجاءت الناس للتهنئة بما حصل من الولاية له مع أبيه.

وفي صبيحة يوم الثلاثاء توفي الشيخ الصالح العابد الناسك الجامع فتح الدين بن الشيخ زين الدين الفارقي، إمام دار الحديث الأشرفية، وخازن الأثر بها، ومؤذن في الجامع.

وقد أتت عليه تسعون سنة في خير وصيانة وتلاوة وصلاة كثيرة وانجماع عن الناس، صلّي عليه صبيحة يومئذ، وخرج به من باب النصر إلى نحو الصالحية رحمه الله.

وفي صبيحة يوم الاثنين عاشر جمادى الأولى ورد البريد وهو قرابغا دوادار نائب الشام الصغير ومعه تقليد بقضاء قضاة الحنفية للشيخ جمال الدين يوسف بن قاضي القضاة شرف الدين الكفري، بمقتضى نزول أبيه له عن ذلك، ولبس الخلعة بدار السعادة وأجلس تحت المالكي. ثم جاؤوا إلى المقصورة من الجامع وقرئ تقليده هنالك، قرأه شمس الدين بن السبكي نائب الحسبة، واستناب اثنين من أصحابهم وهما شمس الدين بن منصور، وبدر الدين بن الخراش، ثم جاء معه إلى النورية فدرّس بها ولم يحضره والده بشيء من ذلك انتهى والله أعلم.

موت الخليفة المعتضد بالله

كان ذلك في العشر الأوسط من جمادى الأولى بالقاهرة، وصلّي عليه يوم الخميس، أخبرني بذلك قاضي القضاة تاج الدين الشافعي، عن كتاب أخيه الشيخ بهاء الدين رحمهما الله.

خلافة المتوكل على الله

ثم بويع بعده ولده المتوكل على الله أبو عبد الله محمد بن المعتضد أبي بكر أبي الفتح بن المستكفي بالله أبي الربيع سليمان بن الحاكم بأمر الله أبي العباس أحمد رحم لله أسلافه.

وفي جمادى الأولى توجه الرسول من الديار المصرية ومعه صناجق خليفية وسلطانية وتقاليد وخلع وتحف لصاحبي الموصل وسنجار من جهة صاحب مصر ليخطب له فيهما.

وولي قاضي القضاة تاج الدين الشافعي السبكي الحاكم بدمشق لقاضيهما من جهته تقليدين، حسب ما أخبرني بذلك، وأرسلا مع ما أرسل به السلطان إلى البلدين، وهذا أمر غريب لم يقع مثله فيما تقدم فيما أعلم والله أعلم.

وفي جمادى الآخرة خرج نائب السلطنة إلى مرج الفسولة ومعه حجبته ونقباء النقباء، وكاتب السر وذووه، ومن عزمهم الإقامة مدة، فقدم من الديار المصرية أمير على البريد فأسرعوا الأوبة فدخلوا في صبيحة الأحد الحادي والعشرين منه، وأصبح نائب السلطنة فحضر الموكب على العادة وخلع على الأمير سيف الدين يلبغا الصالحي.

وجاء النص من الديار المصرية بخلعة دوادار عوضا عن سيف الدين كحلن، وخلع في هذا اليوم على الصدر شمس الدين بن مرقي بتوقيع الدست، وجهات أخر، قدم بها من الديار المصرية، فانتشر الخبر في هذا اليوم بإجلاس قاضي القضاة شمس الدين الكفري الحنفي، فوق قاضي القضاة المالكية، لكن لم يحضر في هذا اليوم، وذلك بعد ما قد أمر بإجلاس المالكي فوقه.

وفي ثاني رجب توفي القاضي الإمام العالم شمس الدين محمد بن مفلح المقدسي الحنبلي، نائب مشيخة قاضي القضاة جمال الدين يوسف بن محمد المقدسي الحنبلي، وزوج ابنته، وله منها سبعة أولاد ذكور وإناث، وكان بارعا فاضلا متفننا في علوم كثيرة، ولا سيما علم الفروع.

كان غاية في نقل مذهب الإمام أحمد، وجمع مصنفات كثيرة منها كتاب (المقنع) نحوا من ثلاثين مجلدا كما أخبرني بذلك عنه قاضي القضاة جمال الدين، وعلق على محفوظة أحكام الشيخ مجد الدين بن تيمية مجلدين، وله غير ذلك من الفوائد والتعليقات رحمه الله.

توفي عن نحو خمسين سنة، وصلّي عليه بعد الظهر من يوم الخميس ثاني الشهر بالجامع المظفري، ودفن بمقبرة الشيخ الموفق، وكانت له جنازة حافلة حضرها القضاة كلهم، وخلق من الأعيان رحمه الله وأكرم مثواه.

وفي صبيحة يوم السبت رابع رجب ضرب نائب السلطنة جماعة من أهل قبر عاتكة أساءوا الأدب على النائب ومماليكه، بسبب جامع للخطبة جدد بناحيتهم، فأراد بعض الفقراء أن يأخذ ذلك الجامع ويجعله زاوية للرقاصين، فحكم القاضي الحنبلي بجعله جامعا قد نصب فيه منبر.

وقد قدم شيخ الفقراء على يديه مرسوم شريف بتسليمه إليه، فأنفت أنفس أهله تلك الناحية من عوده زاوية بعد ما كان جامعا، وأعظموا ذلك، فتكلم بعضهم بكلام سيئ، فاستحضر نائب السلطنة طائفة منهم وضربهم بالمقارع بين يديه.

ونودي عليهم في البلد، فأراد بعض العامة إنكارا لذلك، وحدد ميعاد حديث يقرأ بعد المغرب تحت قبة النسر على الكرسي الذي يقرأ عليه المصحف، رتبه أحد أولاد القاضي عماد الدين بن الشيرازي.

وحدث فيه الشيخ عماد الدين بن السراج، واجتمع عنده خلق كثير وجم غفير، وقرأ في السيرة النبوية من خطي، وذلك في العشر الأول من هذا الشهر.

أعجوبة من العجائب

وحضر شاب عجمي من بلاد تبريز وخراسان يزعم أنه يحفظ (البخاري) و(مسلما) و(جامع المسانيد) و(الكشاف) للزمخشري وغير ذلك من محاضيرها، في فنون أخر.

فلما كان يوم الأربعاء سلخ شهر رجب قرأ في الجامع الأموي بالحائط الشمالي منه، عند باب الكلاسة من أول (صحيح البخاري) إلى أثناء كتاب العلم منه، من حفظه وأنا أقابل عليه من نسخة بيدي، فأدى جيدا، غير أنه يصحف بعضا الكلمات لعجم فيه، وربما لحن أيضا في بعض الأحيان.

واجتمع خلق كثير من العامة والخاصة وجماعة من المحدثين، فأعجب ذلك جماعة كثيرين، وقال آخرون منهم إن سرد بقية الكتاب على هذا المنوال لعظيم جدا.

فاجتمعنا في اليوم الثاني وهو مستهل شعبان في المكان المذكور، وحضر قاضي القضاة الشافعي وجماعة من الفضلاء، واجتمع العامة محدقين فقرأ على العادة غير أنه لم يطول كأول يوم، وسقط عليه بعض الأحاديث، وصحف ولحن في بعض الألفاظ.

ثم جاء القاضيان الحنفي والمالكي فقرأ بحضرتهما أيضا بعض الشيء، هذا والعامة محتفون به متعجبون من أمره، ومنهم من يتقرب بتقبيل يديه، وفرح بكتابتي له بالسماع على الإجازة، وقال: أنا ما خرجت من بلادي إلا إلى القصد إليك، وأن تجيزني، وذكرك في بلادنا مشهور، ثم رجع إلى مصر ليلة الجمعة وقد كارمه القضاة والأعيان بشيء من الدراهم يقارب الألف.

عزل الأمير علي عن نيابة دمشق

في يوم الأحد حادي عشر شعبان ورد البريد من الديار المصرية وعلى يديه مرسوم شريف بعزل الأمير علي عن نيابة دمشق، فأحضر الأمراء إلى دار السعادة وقرئ المرسوم الشريف عليهم بحضوره، وخلع عليه خلعة وردت مع البريد، ورسم له بقرية دومة وأخرى في بلاد طرابلس على سبيل الراتب، وأن يكون في أي البلاد شاء من دمشق أو القدس أو الحجاز.

فانتقل من يومه من دار السعادة وبباقي أصحابه ومماليكه، واستقر نزوله في دار الخليلي بالقصاعين التي جددها وزاد فيها دويداره يلبغا، وهي دار هائلة، وراح الناس للتأسف عليه والحزن له انتهى.

طلب قاضي القضاة تاج الدين عبد الوهاب بن السبكي الشافعي إلى الديار المصرية

ورد البريد بطلبه من آخر نهار الأحد بعد العصر الحادي عشر من شعبان سنة ثلاث وستين وسبعمائة، فأرسل إليه حاجب الحجاب قماري وهو نائب الغيبة أن يسافر من يومه، فاستنظرهم إلى الغد فأمهل.

وقد ورد الخبر بولاية أخيه الشيخ بهاء الدين بن السبكي بقضاء الشام عوضا عن أخيه تاج الدين، وأرسل يستنيب ابن أختهما قاضي القضاة تاج الدين في التأهب والسير.

وجاء الناس إليه ليودعوه ويستوحشون له، وركب من بستانه بعد العصر يوم الاثنين ثاني عشر شعبان، متوجها على البريد إلى الديار المصرية، وبين يديه قضاة القضاة والأعيان، حتى قاضي القضاة بهاء الدين أبو البقاء السبكي، حتى ردهم قريبا من الجسورة ومنهم من جاوزها والله المسؤول في حسن الخاتمة في الدنيا والآخرة، انتهى والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب.

أعجوبة أخرى غريبة

لما كان يوم الثلاثاء العشرين من شعبان دعيت إلى بستان الشيخ العلامة كمال الدين بن الشريشي شيخ الشافعية وحضر جماعة الأعيان منهم الشيخ العلامة شمس الدين بن الموصلي الشافعي، والشيخ الإمام العلامة صلاح الدين الصفدي، وكيل بيت المال. والشيخ الإمام العلامة شمس الدين الموصلي الشافعي، والشيخ الإمام العلامة مجد الدين محمد بن يعقوب الشيرازي من ذرية الشيخ أبي إسحق الفيروزابادي، من أئمة اللغويين، والخطيب الإمام العلامة صدر الدين بن العز الحنفي أحد البلغاء الفضلاء، والشيخ الإمام العلامة نور الدين علي بن الصارم أحد القراء المحدثين البلغاء.

وأحضروا نيفا وأربعين مجلدا من كتاب (المنتهى) في اللغة للتميمي البرمكي، وقف الناصرية وحضر ولد الشيخ كمال الدين بن الشريشي، وهو العلامة بدر الدين محمد، واجتمعنا كلنا عليه، وأخذ كل منا مجلدا بيده من تلك المجلدات، ثم أخذنا نسأله عن بيوت الشعر المستشهد عليها بها، فينشر كلا منها ويتكلم عليه بكلام مبين مفيد، فجزم الحاضرون والسامعون أنه يحفظ جميع شواهد اللغة ولا يشذ عنه منها إلا القليل الشاذ، وهذا من أعجب العجائب، وأبلغ الأعراب.

دخول نائب السلطنة سيف الدين تشتمر

وذلك في أوائل رمضان يوم السبت ضحى والحجبة بين يديه والجيش بكماله، فتقدم إلى سوق الخيل فأركب فيه ثم جاء ونزل عند باب السر، وقبّل العتبة ثم مشى إلى دار السعادة والناس بين يديه.

وكان أول شيء حكم فيه أن أمر بصلب الذي كان قتل بالأمس والي الصالحية، وهو ذاهب إلى صلاة الجمعة، ثم هرب فتبعه الناس فقتل منهم آخر وجرح آخرين ثم تكاثروا عليه فمسك، ولما صلب طافوا به على جمل إلى الصالحية فمات هناك بعد أيام، وقاسى أمرا شديدا من العقوبات، وقد ظهر بعد ذلك على أنه قتل خلقا كثيرا من الناس قبحه الله.

قدوم قاضي القضاة بهاء الدين أحمد بن تقي الدين عوضا عن أخيه قاضي القضاة تاج الدين بن عبد الوهاب

قدم يوم الثلاثاء قبل العصر فبدأ بملك الأمراء فسلم عليه، ثم مشى إلى دار الحديث فصلّى هناك ثم مشى إلى المدرسة الركنية فنزل بها عن ابن أخيه قاضي القضاة بدر الدين بن أبي الفتح، قاضي العساكر، وذهب الناس للسلام عليه وهو يكره من يلقبه بقاضي القضاة، وعليه تواضع وتقشف، ويظهر عليه تأسف على مفارقة بلده ووطنه وولده وأهله، والله المسؤول المأمول أن يحسن العاقبة.

وخرج المحمل السلطاني يوم الخميس ثامن عشر شوال، وأمير الحاج الملك صلاح الدين بن الملك الكامل بن السعيد العادل الكبير، وقاضيه الشيخ بهاء الدين بن سبع مدرّس الأمينية ببعلبك وفي هذا الشهر وقع الحكم بما يخص المجاهدين من وقف المدرسة التقوية إليهم، وأذن القضاة الأربعة إليهم بحضرة ملك الأمراء في ذلك.

وفي ليلة الأحد ثالث شهر ذي القعدة توفي القاضي ناصر الدين محمد بن يعقوب كاتب السر، وشيخ الشيوخ ومدرّس الناصرية الجوانية والشامية الجوانية بدمشق، ومدرّس الأسدية بحلب.

وقد باشر كتابة السر بحلب أيضا، وقضاء العساكر وأفتى بزمان ولاية الشيخ كمال الدين الزملكاني قضاء حلب، أذن له هنالك في حدود سنة سبع وعشرين وسبعمائة، ومولده سنة سبع وسبعمائة، وقد قرأ (التنبيه) و(مختصر ابن الحاجب) في الأصول، وفي العربية، وكان عنده نباهة وممارسة للعلم، وفيه جودة طباع وإحسان بحسب ما يقدر عليه، وليس يتوسم منه سوء. وفيه ديانة وعفة حلف لي في وقت بالأيمان المغلظة أنه لم يمكن قط منه فاحشة اللواط ولا خطر له ذلك، ولم يزن ولم يشرب مسكرا ولا أكل حشيشة، فرحمه الله وأكرم مثواه.

صلّي عليه بعد الظهر يومئذ وخرج بالجنازة من باب النصر فخرج نائب السلطنة من دار السعادة فحضر الصلاة عليه هنالك، ودفن بمقبرة لهم بالصوفية وتأسفوا عيه وترحموا، وتزاحم جماعة من الفقهاء بطلب مدارسه انتهى.

ثم دخلت سنة أربع وستين وسبعمائة

استهلت هذه السنة وسلطان الإسلام بالديار المصرية والشامية والحجازية وما يتبعهما من الأقاليم والرساتيق الملك المنصور صلاح الدين محمد بن الملك المنصور المظفري حاجي بن الملك الناصر محمد ابن الملك المنصور قلاوون الصالحي، ومدير الممالك بين يديه، وأتابك العساكر سيف الدين يلبغا، وقضاة مصر هم المذكورون في التي قبلها.

غير أن ابن جماعة قاضي الشافعية وموفق الدين قاضي الحنابلة في الحجاز الشريف، ونائب دمشق الأمير سيف الدين قشتمر المنصوري، وقاضي قضاة الشافعية الشيخ بهاء الدين بن قاضي القضاة تقي الدين السبكي، وأخوه قاضي القضاة تاج الدين مقيم بمصر، وقاضي قضاة الحنفية الشيخ جمال الدين ابن قاضي القضاة شرف الدين الكفري، آثره والده بالمنصب وأقام على تدريس الركنية يتعبد ويتلو ويجمع على العبادة، وقاضي قضاة المالكية جمال الدين المسلاتي، وقاضي قضاة الحنابلة الشيخ جمال الدين المرداوي محمود بن جملة، ومحتسب البلد الشيخ عماد الدين الشيرجي، وكاتب السر جمال الدين عبد الله بن الأثير. قدم من الديار المصرية عوضا عن ناصر الدين بن يعقوب، وكان قدومه يوم سلخ السنة الماضية، وناظر الدواوين بدر الدين حسن بن النابلسي، وناظر الخزانة القاضي تقي الدين بن مراجل.

ودخل المحمل السلطاني يوم الجمعة الثاني والعشرين من المحرم بعد العصر خوفا من المطر، وكان وقع مطر شديد قبل أيام، فتلف منه غلات كثيرة بحوران وغيرها، ومشاطيخ وغير ذلك فإنا لله وإنا إليه راجعون.

وفي ليلة الأربعاء السابع والعشرين منه بعد عشاء الآخرة قبل دقة القلعة دخل فارس من ناحية باب الفرج إلى ناحية باب القلعة الجوانية، ومن ناحية الباب المذكور سلسلة، ومن ناحية باب النصر أخرى جددتا لئلا يمر راكب على باب القلعة المنصورة، فساق هذا الفارس المذكور على السلسلة الواحدة فقطعها. ثم مر على الأخرى فقطعها وخرج من باب النصر ولم يعرف لأنه ملثم.

وفي حادي عشر صفر وقبله بيوم قدم البريد من الديار المصرية بطلب الأمير سيف الدين زبالة أحد أمراء الألوف إلى الديار المصرية مكرما، وقد كان عزل عن نيابة القلعة بسبب ما تقدم، وجاء البريد أيضا ومعه التواقيع التي كانت بأيدي ناس كثير، زيادات على الجامع، ردت إليهم وأقروا على ما بأيديهم من ذلك.

وكان ناظر الجامع الصاحب تقي الدين بن مراجل قد سعى برفع ما زيد بعد التذكرة التي كانت في أيام صرغتمش، فلم يف ذلك، وتوجه الشيخ بهاء الدين بن السبكي قاضي قضاة الشام الشافعي من دمشق إلى الديار المصرية يوم الأحد سادس عشر صفر من هذه السنة، وخرج القضاة والأعيان لتوديعه.

وقد كان أخبرنا عند توديعه بان أخاه قاضي القضاة تاج الدين قد لبس خلعة القضاء بالديار المصرية، وهو متوجه إلى الشام عند وصوله إلى ديار مصر، وذكر لنا أن أخاه كاره للشام.

وأنشدني القاضي صلاح الدين الصفدي ليلة الجمعة رابع عشره لنفسه فيما عكس عن المتنبي في يديه من قصيدته وهو قوله:

إذا اعتاد الفتى خوضَ المنايا * فأيسرُ ما يمر به الوصولُ

وقال:

دخول دمشق يكسبنا نحولا * كأن لها دخولا في البرايا

إذا اعتاد الغريب الخوض فيها * فأيسر ما يمر به المنايـا

وهذا شعر قوي، وعكس جلي، لفظا ومعنىً.

وفي ليلة الجمعة الحادي والعشرين من صفر عملت خيمة حافلة بالمارستان الدقاقي جوار الجامع، سبب تكامل تجديده قريب السقف مبنيا باللبن، حتى قناطره الأربع بالحجارة البلق، وجعل في أعاليه قمريات كبار مضيئة، وفتق في قبلته إيوانا حسنا زاد في أعماقه أضعاف ما كان، وبيضه جميعه بالجص الحسن المليح.

وجددت فيه خزائن ومصالح، وفرش ولحف جدد، وأشياء حسنة، فأثابه الله وأحسن جزاءه آمين، وحضر الخيمة جماعات من الناس من الخواص والعوام، ولما كانت الجمعة الأخرى دخله نائب السلطنة بعد الصلاة فأعجبه ما شاهده من العمارات، وأخبره بما كانت عليه حاله قبل هذه العمارة، فاستجاد ذلك من صنيع الناظر.

وفي أول ربيع الآخر قدم قاضي القضاة تاج الدين السبكي من الديار المصرية على قضاء الشام عودا على بدء يوم الثلاثاء رابع عشره فبدأ بالسلام على نائب السلطنة بدار السعادة. ثم ذهب إلى دار الأمير علي بالقصاعين فسلم عليه، ثم جاء إلى العادلية قبل الزوال، ثم جاءه الناس من الخاص والعام يسلمون عليه ويهنونه بالعود، وهو يتودد ويترحب بهم. ثم لما كان صبح يوم الخميس سادس عشره لبس الخلعة بدار السعادة ثم جاء في أبهة هائلة لابسها إلى العادلية فقرئ تقليده بها بحضرة القضاة والأعيان وهنأه الناس والشعراء والمداح.

وأخبر قاضي القضاة تاج الدين بموت حسين بن الملك الناصر، ولم يكن بقي من بنيه لصلبه سواه، ففرح بذلك كثير من الأمراء وكبار الدولة، لما كان فيه من حدة وارتكاب أمور منكرة.

وأخبر بموت القاضي فخر الدين سليمان بن القاضي عماد الدين بن الشيرجي، وقد كان اتفق له من الأمر أنه قلد حسبة دمشق عوضا عن أبيه، نزل له عنها باختياره لكبره وضعفه.

وخلع عليه بالديار المصرية، ولم يبق إلا أن يركب على البريد فتمرض يوما وثانيا وتوفي إلى رحمة الله تعالى، فتألم والده بسبب ذلك تألما عظيما، وعزاه الناس فيه ووجدته صابرا محتسبا باكيا مسترجعا موجعا انتهى.

بشارة عظيمة بوضع الشطر من مكس الغنم

مع ولاية سعد الدين ماجد بن التاج إسحاق من الديار المصرية على نظر الدواوين قبله، ففرح الناس بولاية هذا وقدومه، وبعزل الأول وانصرافه عن البلد فرحا شديدا، ومع مرسوم شريف بوضع نصف مكس الغنم، وكان عبرته أربعة دراهم ونصف، فصار إلى درهمين وربع درهم. وقد نودي بذلك في البلد يوم الاثنين العشرين من شهر ربيع الآخر، ففرح الناس بذلك فرحا شديدا، ولله الحمد والمنة.

وتضاعفت أدعيتهم لمن كان السبب في ذلك، وذلك أنه يكثر الجلب برخص اللحم على الناس، ويأخذ الديوان نظيرا ما كان يأخذ قبل ذلك، وقدر الله تعالى قدوم وفود وقفول بتجائر متعددة، وأخذ منها الديوان السلطاني في الزكاة والوكالة، وقدم مراكب كثيرة فأخذ منها في العشر أضعاف ما أطلق من المكس، ولله الحمد والمنة.

ثم قرئ على الناس في يوم الجمعة بعد صلاة الجمعة قبل العصر.

وفي يوم الاثنين العشرين منه ضرب الفقيه شمس الدين بن الصفدي بدار السعادة بسبب خانقاه الطواويس، فإنه جاء في جماعة منهم يتظلمون من كاتب السر الذي هو شيخ الشيوخ.

وقد تكلم معهم فيما يتعلق بشرط الواقف مما فيه مشقة عليهم، فتكلم الصفدي المذكور بكلام فيه غلظ، فبطح ليضرب فشفع فيه، ثم تكلم فشفع فيه، ثم بطح الثالثة فضرب ثم أمر به إلى السجن، ثم أخرج بعد ليلتين أو ثلاثة.

وفي صبيحة يوم الأحد السادس والعشرين منه درّس قاضي القضاة الشافعي بمدارسه، وحضر درس الناصرية الجوانية بمقتضى شرط الواقف الذي أثبته أخوه بعد موت القاضي ناصر الدين كاتب السر، وحضر عنده جماعة من الأعيان وبعض القضاة، وأخذ في سورة الفتح، قرئ عليه من تفسير والده في قوله: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحا مُبِينا} 41.

وفي مستهل جمادى الأولى يوم الجمعة بعد صلاة الفجر مع الإمام الكبير صلّي على القاضي قطب الدين محمد بن الحسن الحاكم بحمص، جاء إلى دمشق لتلقي أخي زوجته قاضي القضاة تاج الدين السبكي الشافعي، فتمرض من مدة ثم كانت وفاته بدمشق، فصلّي عليه بالجامع كما ذكرنا، وخارج باب الفرج، ثم صعدوا به إلى سفح جبل قاسيون، وقد جاوز الثمانين بسنتين، وقد حدث وروى شيئا يسيرا رحمه الله.

وفي يوم الأحد ثالثه قدم قاضيا الحنفية والحنابلة بحلب والخطيب بها والشيخ شهاب الدين الأذرعي، والشيخ زين الدين الباريني وآخرون معهم.

فنزلوا بالمدرسة الإقبالية وهم وقاضي قضاتهم الشافعي، وهو كمال الدين المصري مطلوبون إلى الديار المصرية، فتحرر ما ذكروه عن قاضيهم وما نقموه عليه من السيرة السيئة فيما يذكرون في المواقف الشريفة بمصر، وتوجهوا إلى الديار المصرية يوم السبت عاشره.

وفي يوم الخميس قدم الأمير زين الدين زبالة نائب القلعة من الديار المصرية على البريد في تجمل عظيم هائل، وتلقاه الناس بالشموع في أثناء الطريق، ونزل بدار الذهب، وراح الناس للسلام عليه وتهنئته بالعود إلى نيابة القلعة، على عادته، وهذه ثالث مرة وليها لأنه مشكور السيرة فيها، وله فيها سعي محمود في أوقات متعددة.

وفي يوم الخميس الحادي والعشرين صلّى نائب السلطنة والقاضيان الشافعي والحنفي وكاتب السر وجماعة من الأمراء والأعيان بالمقصورة، وقرئ كتاب السلطان على السدة بوضع مكس الغنم إلى كل رأس بدرهمين، فتضاعفت الأدعية لولي الأمر، ولمن كان السبب في ذلك.

غريبة من الغرائب وعجيبة من العجائب

وقد كثرت المياه في هذا الشهر وزادت الأنهار زيادة كثيرة جدا، بحيث إنه فاض الماء في سوق الخيل من نهر بردى حتى عم جميع العرصة المعروفة بموقف الموكب، بحيث إنه أجريت فيه المراكب بالكلك، وركبت فيه المارة من جانب إلى جانب، واستمر ذلك جمعا متعددة، وامتنع نائب السلطنة والجيش من الوقوف هناك، وربما وقف نائب السلطنة بعض الأيام تحت الطارمة تجاه باب الإسطبل السلطاني، وهذا أمر لم يعهد مثله ولا رأيته قط في مدة عمري، وقد سقطت بسبب ذلك بنايات ودور كثيرة، وتعطلت طواحين كثيرة غمرها الماء.

وفي ليلة الثلاثاء العشرين من جمادى الأولى توفي الصدر شمس الدين عبد الرحمن بن الشيخ عز الدين بن منجى التنوخي بعد العشاء الآخرة، وصلّي عليه بجامع دمشق بعد صلاة الظهر، ودفن بالسفح.

وفي صبيحة هذا اليوم توفي الشيخ ناصر الدين محمد بن أحمد القونوي الحنفي، خطيب جامع يلبغا، وصلّي عليه عقيب صلاة الظهر أيضا، ودفن بالصوفية، وقد باشر عوضه الخطابة والإمامة قاضي القضاة كمال الدين الكفري الحنفي.

وفي عصر هذا اليوم توفي القاضي علاء الدين بن القاضي شرف الدين بن القاضي شمس الدين بن الشهاب محمود الحلبي، أحد موقعي الدست بدمشق، وصلّي عليه يوم الأربعاء ودفن بالسفح.

وفي يوم الجمعة الثالث والعشرين منه خطب قاضي القضاة جمال الدين الكفري الحنفي بجامع يلبغا عوضا عن الشيخ ناصر الدين بن القونوي رحمه الله تعالى، وحضر عنده نائب السلطنة الأمير سيف الدين قشتمر، وصلى معه قاضي القضاة تاج الدين الشافعي بالشباك الغربي القبلي منه، وحضر خلق من الأمراء والأعيان، وكان يوما مشهودا، وخطب ابن نباتة بأداء حسن وفصاحة بليغة، هذا مع علم أن كل مركب صعب.

وفي يوم السبت خامس عشر جمادى الآخرة توجه الشيخ شرف الدين القاضي الحنبلي إلى الديار المصرية بطلب الأمير سيف الدين يلبغا في كتاب كتبه إليه يستدعيه ويستحثه في القدوم عليه.

وفي يوم الثلاثاء ثاني شهر رجب سقط اثنان سكارى من سطحٍ بحارة اليهود، أحدهما مسلم والآخر يهودي، فمات المسلم من ساعته وانقلعت عين اليهودي وانكسرت يده لعنه الله، وحمل إلى نائب السلطنة فلم يحر جوابا.

ورجع الشيخ شرف الدين بن قاضي الجبل بعد ما قارب غزة لما بلغه من الوباء بالديار المصرية فعاد إلى القدس الشريف، ثم رجع إلى وطنه فأصاب السنة، وقد وردت كتب كثيرة تخبر بشدة الوباء والطاعون بمصر، وأنه يضبط من أهلها في النهار نحو الألف، وأنه مات جماعة ممن يعرفون كولدي قاضي القضاة تاج الدين المناوي، وكاتب الحكم ابن الفرات، وأهل بيته أجمعين، فإنا لله وإنا إليه راجعون.

وجاء الخبر في أواخر شهر رجب بموت جماعة بمصر منهم أبو حاتم ابن الشيخ بهاء الدين السبكي المصري بمصر، وهو شاب لم يستكمل العشرين، وقد درّس بعدة جهات بمصر وخطب، ففقده والده وتأسف الناس عليه وعزوا فيه عمه قاضي القضاة تاج الدين السبكي قاضي الشافعية بدمشق، وجاء الخبر بموت قاضي القضاة شهاب الدين أحمد الرباجي المالكي، كان بحلب وليها مرتين ثم عزل فقصد مصر واستوطنها مدة ليتمكن من السعي في العودة فأدركته منيته في هذه السنة من الفناء وولدان له معه أيضا.

وفي يوم السبت سادس شعبان توجه نائب السلطنة في صحبة جمهور الأمراء إلى ناحية تدمر لأجل الأعراب من أصحاب خيار بن مهنا، ومن التف عليه منهم، وقد دمر بعضهم بلد تدمر وحرقوا كثيرا من أشجارها، ورعوها وانتهبوا شيئا كثيرا، وخرجوا من الطاعة، وذلك بسبب قطع إقطاعاتهم وتملك أملاكهم والحيلولة عليهم.

فركب نائب السلطنة بمن معه كما ذكرنا، لطردهم عن تلك الناحية، وفي صحبتهم الأمير حمزة بن الخياط، أحد أمراء الطبلخانات، وقد كان حاجبا لخيار قبل ذلك، فرجع عنه وألب عليه عند الأمير الكبير يلبغا الخاصكي، ووعده إن هو أمره وكبره أن يظفره بخيار وأن يأتيه برأسه، ففعل معه ذلك، فقدم إلى دمشق ومعه مرسوم بركوب الجيش معه إلى خيار وأصحابه. فساروا كما ذكرنا، فوصلوا إلى تدمر، وهربت الأعراب من بين يدي نائب الشام يمينا وشمالا، ولم يواجهوه هيبة له، ولكنهم يتحرفون على حمزة بن الخياط، ثم بلغنا أنهم بيتوا الجيش فقتلوا منه طائفة وجرحوا آخرين وأسروا آخرين، فإنا لله وإنا إليه راجعون.

سلطنة الملك الأشرف ناصر الدين

شعبان بن حسين بن الملك النصر محمد بن قلاوون في يوم الثلاثاء خامس عشر شعبان

لما كان عشية السبت تاسع عشر شعبان من هذه السنة - أعني سنة أربع وستين وسبعمائة - قدم أمير من الديار المصرية فنزل بالقصر الأبلق، وأخبر بزوال مملكة الملك المنصور بن المظفر حاجي بن الملك الناصر محمد بن قلاوون، ومسك واعتقل.

وبويع للملك الأشرف شعبان بن حسين الناصر بن المنصور قلاوون، وله من العمر قريب العشرين، فدقت البشائر بالقلعة المنصورة، وأصبح الناس يوم الأحد في الزينة.

وأخبرني قاضي القضاة تاج الدين والصاحب سعد الدين ماجد ناظر الدواوين، أنه لما كان يوم الثلاثاء الخامس عشر من شعبان عزل الملك المنصور وأودع منزله وأجلس الملك الأشرف ناصر الدين شعبان على سرير الملك، وبويع لذلك.

وقد وقع رعد في هذا اليوم ومطر كثير، وجرت المزاريب، فصار غدرانا في الطرقات، وذلك في خامس حزيران، فتعجب الناس من ذلك، هذا وقد وقع وباء في مصر في أول شعبان، فتزايد وجمهوره في اليهود، وقد وصلوا إلى الخمسين في كل يوم وبالله المستعان.

وفي يوم الاثنين سابعه اشتهر الخبر عن الجيش بأن الأعراب اعترضوا التجريدة القاصدين إلى الرحبة وواقفوهم وقتلوا منهم ونهبوا وجرحوا، وقد سار البريد خلف النائب والأمراء ليقدموا إلى البلد لأجل البيعة للسلطان الجديد. جعله الله مباركا على المسلمين، ثم قدم جماعة من الأمراء المنهزمين من الأعراب في أسوأ حال وذلة، ثم جاء البريد من الديار المصرية بردهم إلى العسكر الذي مع نائب السلطنة على تدمر، متوعدين بأنواع العقوبات، وقطع الإقطاعات.

وفي شهر رمضان تفاقم الحال بسبب الطاعون فإنا لله وإنا إليه راجعون، وجمهوره في اليهود لعله قد فقد منهم من مستهل شعبان إلى مستهل رمضان نحو الألف نسمة خبيثة، كما أخبرني بذلك القاضي صلاح الدين الصفدي وكيل بيت المال، ثم كثر ذلك فيهم في شهر رمضان جدا، وعدة العدة من المسلمين والذمة بالثمانين.

وفي يوم السبت حادي عشره صلينا بعد الظهر على الشيخ المعمر الصدر بدر الدين محمد بن الرقاق المعروف بابن الجوجي، وعلى الشيخ صلاح الدين محمد بن شاكر الليثي، تفرد في صناعته وجمع تاريخا مفيدا نحوا من عشر مجلدات، وكان يحفظ ويذاكر ويفيد رحمه الله وسامحه، انتهى.

وفاة الخطيب جمال الدين محمود بن جمله ومباشرة تاج الدين بعده

كانت وفاته يوم الاثنين بعد الظهر قريبا من العصر، فصلى بالناس بالمحراب صلاة العصر قاضي القضاة تاج الدين السبكي الشافعي عوضا عنه، وصلّى بالناس الصبح أيضا، وقرأ بآخر المائدة من قوله: {يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ} 42.

ثم لما طلعت الشمس وزال وقت الكراهة صلى على الخطيب جمال الدين عند باب الخطابة، وكان الجمع في الجامع كثيرا، وخرج بجنازته من باب البريد، وخرج معه طائفة من العوام وغيرهم، وقد حضر جنازته بالصالحية على ما ذكر جم غفير وخلق كثير.

ونال قاضي القضاة الشافعي من بعض الجهلة إساءة أدب، فأخذ منهم جماعة وأدبوا، وحضر هو بنفسه صلاة الظهر يومئذ، وكذا باشر الظهر والعصر في بقية الأيام، يأتي للجامع في محفل من الفقهاء والأعيان وغيرهم، ذهابا وإيابا، وخطب عنه يوم الجمعة الشيخ جمال الدين بن قاضي القضاة، ومنع تاج الدين من المباشرة، حتى يأتي التشريف.

وفي يوم الاثنين بعد العصر صلّي على الشيخ شهاب الدين أحمد بن عبد الله البعلبكي، المعروف بابن النقيب، ودفن بالصوفية وقد قارب السبعين وجاوزها، وكان بارعا في القراءات والنحو والتصريف والعربية، وله يد في الفقه وغير ذلك، وولّي مكانه مشيخة الإقراء بأم الصالح شمس الدين محمد بن اللبان، وبالتربة الأشرفية الشيخ أمين الدين عبد الوهاب بن السلار، وقدم نائب السلطنة من ناحية الرحبة وتدمر وفي صحبته الجيش الذين كانوا معه بسبب محاربته إلى أولاد مهنا وذويهم من الأعراب في يوم الأربعاء سادس شوال.

وفي ليلة الأحد عاشره توفي الشيخ صلاح الدين خليل بن أيبك، وكيل بيت المال، وموقع الدست، وصلّي عليه صبيحة الأحد بالجامع، ودفن بالصوفية، وقد كتب الكثير من التاريخ واللغة والأدب، وله الأشعار الفائقة، والفنون المتنوعة، وجمع وصنف وألّف، وكتب ما يقارب مئين من المجلدات.

وفي يوم السبت عاشره جمع القضاة والأعيان بدار السعادة وكتبوا خطوطهم بالرضى بخطابة قاضي القضاة تاج الدين السبكي بالجامع الأموي، وكاتب نائب السلطنة في ذلك.

وفي يوم الأحد حادي عشره استقر عزل نائب السلطنة سيف الدين قشتمر عن نيابة دمشق وأمر بالمسير إلى نيابة صفد فأنزل أهله بدار طيبغا حجي من الشرق الأعلى، وبرز هو إلى سطح المزة ذاهبا إلى ناحية صفد.

وخرج المحمل صحبة الحجيج وهم جم غفير وخلق كثير يوم الخميس رابع عشر شوال.

وفي يوم الخميس الحادي والعشرين من شوال توفي القاضي أمين الدين أبو حيان ابن أخي قاضي القضاة تاج الدين المسلاتي المالكي، وزوج ابنته ونائبه في الحكم مطلقا وفي القضاة والتدريس في غيبته فعاجلته المنية.

ومن غريب ما وقع في أواخر هذا الشهر أنه اشتهر بين النساء وكثير من العوام أن رجلا رأى مناما فيه أنه رأى النبي عند شجرة توتة عند مسجد ضرار خارج باب شرقي. فتبادر النساء إلى تخليق تلك التوتة، وأخذوا أوراقها للاستشفاء من الوباء، ولكن لم يظهر صدق ذلك المنام، ولا يصح عمن يرويه.

وفي يوم الجمعة سابع شهر ذي القعدة خطب بجامع دمشق قاضي القضاة تاج الدين السبكي خطبة بليغة فصيحة أداها أداء حسنا، وقد كان يحس من طائفة من العوام أن يشوشوا فلم يتكلم أحد منهم بل ضجوا عند الموعظة وغيرها، وأعجبهم الخطيب وخطبته وأداؤه وتبليغه ومهابته، واستمر يخطب هو بنفسه.

وفي يوم الثلاثاء ثامن عشره توفي الصاحب تقي الدين سليمان بن مراجل ناظر الجامع الأموي وغيره، وقد باشر نظر الجامع في أيام تنكز، وعمر الجانب الغربي من الحائط القبلي، وكمل رخامه كله، وفتق محرابا للحنفية في الحائط القبلي، ومحرابا للحنابلة فيه أيضا في غربيه. وأثر أشياء كثيرة فيه، وكانت له همة وينسب إلى أمانة وصرامة ومباشرة مشكورة مشهورة، ودفن بتربة أنشأها تجاه داره بالقبيبات رحمه الله، وقد جاوز الثمانين.

وفي يوم الأربعاء تاسع عشره توفي الشيخ بهاء الدين عبد الوهاب الأخميمي المصري، إمام مسجد درب الحجر، وصلّي عليه بعد العصر بالجامع الأموي.

ودفن بقصر ابن الحلاج عند الطيوريين بزاوية لبعض الفقراء الخزنة هناك، وقد كان له يد في أصول الفقه، وصنف في الكلام كتابا مشتملا على أشياء مقبولة وغير مقبولة، انتهى.

دخول نائب السلطنة منكلي بغا

في يوم الخميس السابع والعشرين من ذي القعدة دخل نائب السلطنة منكلي بغا من حلب إلى دمشق نائبا عليها في تجمل هائل، ولكنه مستمرض في بدنه بسبب ما كان ناله من التعب في مصابرة الأعراب، فنزل دار السعادة على العادة.

وفي يوم الاثنين مستهل ذي الحجة خلع على قاضي القضاة تاج الدين السبكي الشافعي للخطابة بجامع دمشق، واستمر على ما كان عليه يخطب بنفسه كل جمعة وفي يوم الثلاثاء ثانيه قدم القاضي فتح الدين بن الشهيد ولبس الخلعة وراح الناس لتهنئته.

وفي يوم الخميس حضر القاضي فتح الدين بن الشهيد كاتب السر مشيخة السميساطية، وحضر عنده القضاة والأعيان بعد الظهر، وخلع عليه لذلك أيضا، وحضر فيها من الغد على العادة، وخلع في هذا اليوم على وكيل بيت المال الشيخ جمال الدين بن الرهاوي وعلى الشيخ شهاب الدين الزهري بفتيا دار العدل، انتهى.

ثم دخلت سنة خمس وستين وسبعمائة

استهلت هذه السنة وسلطان الديار المصرية والشامية والحرمين وما يتبع ذلك الملك الأشرف ناصر الدين شعبان بن سيدي حسين بن السلطان الملك الناصر محمد بن المنصور و قلاوون الصالحي. وهو في عمر عشر سنين، ومدبر الممالك بين يديه الأمير الكبير نظام الملك سيف الدين يلبغا الخاصكي، وقضاة مصر هم المذكورون في السنة التي قبلها، ووزيرها فخر الدين بن قزوينة، ونائب دمشق الأمير سيف الدين منكلي بغا الشمسي، وهو مشكور السيرة. وقضاتها هم المذكورون في السنة التي قبلها، وناظر الدواوين بها الصاحب سعد الدين ماجد، وناظر الجيش علم الدين داود، وكاتب السر القاضي فتح الدين بن الشهيد، ووكيل بيت المال القاضي جمال الدين بن الرهاوي.

استهلت هذه السنة وداء الفناء موجود في الناس، إلا أنه خف وقلّ ولله الحمد.

وفي يوم السبت توجه قاضي القضاة - وكان بهاء الدين أبو البقاء السبكي - إلى الديار المصرية مطلوبا من جهة الأمير يلبغا وفي الكتاب إجابته له إلى مسائل، وتوجه بعده قاضي القضاة تاج الدين الحاكم بدمشق وخطيبها يوم الاثنين الرابع عشر من المحرم، على خيل البريد.

وتوجه بعدهما الشيخ شرف الدين ابن قاضي الجبل الحنبلي، مطلوبا إلى الديار المصرية، وكذلك توجه الشيخ زين الدين المنفلوطي مطلوبا.

وتوفي في العشر الأوسط من المحرم صاحبنا الشيخ شمس الدين العطار الشافعي، كان لديه فضيلة واشتغال، وله فهم وعلق بخطه فوائد جيدة، وكان إماما بالسجن من مشهد علي بن الحسين بجامع دمشق، ومصدرا بالجامع، وفقيها بالمدارس، وله مدرسة الحديث الوادعية، وجاوز الخمسين بسنوات، ولم يتزوج قط.

وقدم الركب الشامي إلى دمشق في اليوم الرابع والعشرين من المحرم، وهم شاكرون مثنون في كل خير بهذه السنة أمنا ورخصا ولله الحمد.

وفي يوم الأحد حادي عشر صفر درّس بالمدرسة الفتحية صاحبنا الشيخ عماد الدين إسماعيل بن خليفة الشافعي، وحضر عنده جماعة من الأعيان والفضلاء، وأخذ في قوله تعالى: {إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرا} 43.

وفي يوم الخميس خامس عشره نودي في البلد على أهل الذمة بإلزامهم بالصغار وتصغير العمائم، وأن لا يستخدموا في شيء من الأعمال، وأن لا يركبوا الخيل ولا البغال، ويركبون الحمير بالأكف بالعرض، وأن يكون في رقابهم ورقاب نسائهم في الحمامات أجراس، وأن يكون أحد النعلين أسود مخالفا للون الأخرى، ففرح بذلك المسلمون ودعوا للآمر بذلك.

وفي يوم الأحد ثالث ربيع الأول قدم قاضي القضاة تاج الدين من الديار المصرية مستمرا على القضاة والخطابة، فتلقاه الناس وهنئوه بالعود والسلام.

وفي يوم الخميس سابعه لبس القاضي الصاحب البهنسي الخلعة لنظر الدواوين بدمشق، وهنأه الناس، وباشر بصرامة واستعمل في غالب الجهات من أبناء السبيل.

وفي يوم الاثنين حادي عشره ركب قاضي القضاة بدر الدين بن أبي الفتح على خيل البريد إلى الديار المصرية لتولية قضاء قضاة الشافعية بدمشق، عن رضا من خاله قاضي القضاة تاج الدين، ونزوله عن ذلك.

وفي يوم الخميس خامس ربيع الأول احترقت الباسورة التي ظاهر باب الفرج على الجسر، ونال حجارة الباب شيء من حريقها فاتسعت، وقد حضر طفيها نائب السلطنة والحاجب الكبير، ونائب القلعة وغيرهم.

وفي صبيحة هذا اليوم زاد النهر زيادة عظيمة سبب كثرة الأمطار وذلك في أوائل كانون الثاني، وركب الماء سوق الخيل بكماله، ووصل إلى ظاهر باب الفراديس، وتلك النواحي، وكسر جسر الخشب الذي عند جامع يلبغا، وجاء فصدم به جسر الزلابية فكسره أيضا.

وفي يوم الخميس ثاني عشره صرف حاجب الحجاب قماري عن المباشرة بدار السعادة، وأخذت القضاة من يده وانصرف إلى داره في أقل من الناس، واستبشر بذلك كثير من الناس، لكثرة ما كان يفتات على الأحكام الشرعية.

وفي أواخره اشتهر موت القاضي تاج الدين المناوي بديار مصر وولاية قاضي القضاة بهاء الدين بن أبي البقاء السبكي مكانه بقضاء العساكر بها، ووكالة السلطان أيضا، ورتب له مع ذلك كفايته.

وتولى في هذه الأيام الشيخ سراج الدين البلقيني إفتاء دار العدل مع الشيخ بهاء الدين أحمد بن قاضي القضاة السبكي بالشام، وقد وليّ هو أيضا القضاء بالشام كما تقدم، ثم عاد إلى مصر موفرا مكرما وعاد أخوه تاج الدين إلى الشام، وكذلك ولوا مع البلقيني إفتاء دار العدل الحنفي شيخا يقال له الشيخ شمس الدين بن الصائغ، وهو مفتي حنفي أيضا.

وفي يوم الاثنين سابع ربيع الأول توفي الشيخ نور الدين محمد بن الشيخ أبي بكر قوام بروايتهم بسفح جبل قاسيون، وغدا الناس إلى جنازته.

وقد كان من العلماء الفضلاء الفقهاء بمذهب الشافعي، درّس بالناصرية البرانية مدة سنين بعد أبيه، وبالرباط الدويداري داخل باب الفرج، وكان يحضر المدارس، ونزل عندنا بالمدرسة النجيبية، وكان يحب السنة ويفهمها جيدا رحمه الله.

وفي مستهل جمادى الأولى وليّ قاضي القضاة تاج الدين الشافعي مشيخة دار الحديث بالمدرسة التي فتحت بدرب القبلي، وكانت دارا لوافقها جمال الدين عبد الله بن محمد بن عيسى التدمري، الذي كان أستاذا للأمير طاز. وجعل فيها درس للحنابلة، وجعل المدرس لهم الشيخ برهان الدين إبراهيم بن قيم الجوزية، وحضر الدرس وحضر عنده بعض الحنابلة بالدرس، ثم جرت أمور يطول بسطها.

واستحضر نائب السلطنة شهود الحنابلة بالدرس واستفرد كلا منهم يسأله كيف شهد في أصل الكتاب - المحضر- الذي أثبتوا عليهم، فاضطروا في الشهادات فضبط ذلك عليهم، وفيه مخالفة كبيرة لما شهدوا به في أصل المحضر، وشنع عليهم كثير من الناس، ثم ظهرت ديون كثيرة لبيت طاز على جمال الدين التدمري الواقف، وطلب من القاضي المالكي أن يحكم بإبطال ما حكم به الحنبلي، فتوقف في ذلك.

وفي يوم الاثنين الحادي والعشرين منه، قرئ كتاب السلطان بصرف الوكلاء من أبواب القضاة الأربعة فصرفوا.

وفي شهر جمادى الآخرة توفي الشيخ شمس الدين شيخ الحنابلة بالصالحية ويعرف بالبيري يوم الخميس ثامنه، صلّي عليه بالجامع المظفري بعد العصر ودفن بالسفح، وقد قارب الثمانين.

وفي الرابع عشر منه عقد بدار السعادة مجلس حافل اجتمع فيه القضاة الأربعة وجماعة من المفتيين، وطلبت فحضرت معهم بسبب المدرسة التدمرية وقرابة الواقف ودعواهم أنه وقف عليهم الثلث، فوقف الحنبلي في أمرهم ودافعهم عن ذلك أشد الدفاع.

وفي العشر الأول من رجب وجد جراد كثير منتشر، ثم تزايد وتراكم وتضاعف وتفاقم الأمر بسببه، وسد الأرض كثرة وعاث يمينا وشمالا، وأفسد شيئا كثيرا من الكروم والمقاني والزروعات النفيسة، وأتلف للناس شيئا كثيرا، فإنا لله وإنا إليه راجعون.

وفي يوم الاثنين ثالث شعبان توجه القضاة ووكيل بيت المال إلى باب كيسان فوقفوا عليه وعلى هيئته ومن نية نائب السلطنة فتحه ليتفرج الناس به. وعدم للناس غلات كثيرة وأشياء من أنواع الزروع بسبب كثرة الجراد، فإنا لله وإنا إليه راجعون.

فتح باب كيسان بعد غلقه نحوا من مائتي سنة

وفي يوم الأربعاء السادس والعشرين من شعبان اجتمع نائب السلطنة والقضاة عند باب كيسان، وشرع الصناع في فتحه عن مرسوم السلطان الوارد من الديار المصرية، وأمر نائب السلطنة وإذن القضاة في ذلك، واستهل رمضان وهم في العمل فيه.

وفي العشر الأخير من شعبان توفي الشريف شمس الدين محمد بن علي بن الحسن بن حمزة الحسيني المحدّث المحصّل، المؤلف لأشياء مهمة، وفي الحديث قرأ وسمع وجمع وكتب أسماء رجال (بمسند الإمام أحمد)، واختصر كتابا في أسماء الرجال مفيدا، وولّي مشيخة الحديث التي وقفها في داره بهاء الدين القاسم بن عساكر، داخل باب توما، وختمت البخاريات في آخر شهر رمضان.

ووقع بين الشيخ عماد الدين بن السراج قارئ البخاري عند محراب الصحابة، وبين الشيخ بدر الدين بن الشيخ جمال الدين الشريشي، وتهاترا على رؤوس الأشهاد بسبب لفظة يبتز بمعنى يدخر، وفي نسخة يتير، فحكى ابن السراج عن الحافظ المزي أن الصواب يبتز من قول العرب عزبز، وصدق في ذلك، فكأن منازعه خطأ ابن المزي. فانتصر الآخر للحافظ المزي، فقاد منه بالقول ثم قام والده الشيخ جمال الدين المشار إليه فكشف رأسه على طريقة الصوفية، فكأن ابن السراج لم يلتفت إليه، وتدافعوا إلى القاضي الشافعي فانتصر للحافظ المزي، وجرت أمور، ثم اصطلحوا غير مرة وعزم أولئك على كتب محضر على ابن السراج، ثم انطفأت تلك الشرور.

وكثر الموت في أثناء شهر رمضان وقاربت العدة المائة، وربما جاوزت المائة، وربما كانت أقل منها وهو الغالب، ومات جماعة من الأصحاب والمعارف، فإنا لله وإنا إليه راجعون.

وكثر الجراد في البساتين وعظم الخطب بسببه، وأتلف شيئا كثيرا من الغلات والثمار والخضراوات، وغلت الأسعار وقلت الثمار، وارتفعت قيم الأشياء فبيع الدبس بما فوق المائتين القنطار، والرز بأزيد من ذلك وتكامل فتح باب كيسان وسموه الباب القبلي، ووضع الجسر منه إلى الطريق السالكة، وعرضه أزيد من عشرة أذرع بالنجاري لأجل عمل الباسورة جنبتيه، ودخلت المارة عليه من المشاة والركبان. وجاء في غاية الحسن، وسلك الناس في حارات اليهود، وانكشف دخلهم وأمن الناس من دخنهم وغشهم ومكرهم وخبثهم، وانفرج الناس بهذا الباب المبارك.

واستهل شوال والجراد قد أتلف شيئا كثيرا من البلاد ورعى الخضروات والأشجار، وأوسع أهل الشام في الفساد، وغلت الأسعار، واستمر الفناء وكثر الضجيج والبكاء، وفقدنا كثيرا من الأصحاب والأصدقاء، فلان مات.

وقد تناقص الفناء في هذه المدة وقلّ الوقع وتناقص للخمسين.

وفي شهر ذي القعدة تقاصر الفناء ولله الحمد، ونزل العدد إلى العشرين فما حولها، وفي رابعه دخل بالفيل والزرافة إلى مدينة دمشق من القاهرة، فأنزل في الميدان الأخضر قريبا من القصر الأبلق، وذهب الناس للنظر إليهما على العادة.

وفي يوم الجمعة تاسعه صلّي على الشيخ جمال الدين عبد الصمد بن خليل البغدادي، المعروف بابن الخضري، محدث بغداد وواعظها، كان من أهل السنة والجماعة رحمه الله انتهى.

تجديد خطبة ثانية داخل سور دمشق منذ فتوح الشام

اتفق ذلك في يوم الجمعة الثالث، ثم تبين أنه الرابع والعشرين من ذي القعدة من هذه السنة بالجامع الذي جدد بناءه نائب الشام سيف الدين منكلي بغا، بدرب البلاغة قبلي مسجد درب الحجر، داخل باب كيسان المجدد فتحه في هذا الحين كما تقدم، وهو معروف عند العامة بمسجد الشاذوري، وإنما هو في تاريخ ابن عساكر مسجد الشهرزوري.

وكان المسجد رث الهيئة قد تقادم عهده مدة دهر، وهجر فلا يدخله أحد من الناس إلا قليل، فوسعه من قبليه وسقفه جديدا، وجعل له صرحة شمالية مبلطة، ورواقات على هيئة الجوامع، والداخل بأبوابه على العادة، وداخل ذلك رواق كبير له جناحان شرقي وغربي، بأعمدة وقناطر.

وقد كان قديما كنيسة فأخذت منهم قبل الخمسمائة، وعملت مسجدا، فلم يزل كذلك إلى هذا الحين، فلما كمل كما ذكرنا وسيق إليه الماء من القنوات، ووضع فيه منبر مستعمل كذلك.

فيومئذ ركب نائب السلطنة ودخل البلد من باب كيسان وانعطف على حارة اليهود حتى انتهى إلى الجامع المذكور، وقد استكف الناس عنده من قضاة وأعيان وخاصة وعامة، وقد عين لخطابته الشيخ صدر الدين بن منصور الحنفي، مدرّس الناجية وإمام الحنفية بالجامع الأموي.

فلما أذن الأذان الأول تعذر عليه الخروج من بيت الخطابة، قيل لمرض عرض له، وقيل لغير ذلك من حصر أو نحوه، فخطب الناس يومئذ قاضي القضاة جمال الدين الحنفي الكفري، خدمة لنائب السلطنة.

واستهل شهر ذي الحجة وقد رفع الله الوباء عن دمشق وله الحمد والمنة.

وأهل البلد يموتون على العادة ولا يمرض أحد بتلك العلة، ولكن المرض المعتاد، انتهى.

ثم دخلت سنة ست وستين وسبعمائة

استهلت هذه السنة والسلطان الملك الأشرف ناصر الدين شعبان، والدولة بمصر والشام هم هم، ودخل المحمل السلطاني صبيحة يوم الاثنين الرابع والعشرين منه، وذكروا أنهم نالهم في الرجعة شدة شديدة من الغلاء وموت الجمال وهرب الجمالين، وقدم مع الركب ممن خرج من الديار المصرية قاضي القضاة بدر الدين بن أبي الفتح، وقد سبقه التقليد بقضاء القضاة مع خالد تاج الدين يحكم فيما يحكم فيه مستقلا معه ومنفردا بعده.

وفي شهر الله المحرم رسم نائب السلطنة بتخريب قريتين من وادي التيم وهم مشغرا وتلبتاثا، وسبب ذلك أنهما عاصيان وأهلهما مفسدان في الأرض، والبلدان والأرض حصينان لا يصل إليهما إلا بكلفة كثيرة لا يرتقي إليهما إلا فارس فارس. فخربتا وعمر بدلهما في أسفل الوادي، بحيث يصل إليهما حكم الحاكم والطلب بسهولة، فأخبرني الملك صلاح الدين ابن الكامل أن بلدة تلبتاثا عمل فيها ألف فارس، ونقل نقضها إلى أسفل الوادي خمسمائة حمار عدة أيام.

وفي يوم الجمعة سادس صفر بعد الصلاة صلّي على قاضي القضاة جمال الدين يوسف بن قاضي القضاة شرف الدين أحمد بن أقضى القضاة ابن الحسين المزي الحنفي، وكانت وفاته ليلة الجمعة المذكورة بعد مرض قريب من شهر، وقد جاوز الأربعين بثلاث من السنين. وليّ قضاء قضاة الحنفية، وخطب بجامع يلبغا، وأحضر مشيخة النفيسية، ودرّس بأماكن من مدارس الحنفية، وهو أول من خطب بالجامع المستجد داخل باب كيسان بحضرة نائب السلطنة.

وفي صفر كانت وفاة الشيخ جمال الدين عمر بن القاضي عبد الحي بن إدريس الحنبلي محتسب بغداد، وقاضي الحنابلة بها، فتعصبت عليه الروافض حتى ضرب بين يدي الوزارة ضربا مبرحا، كانت سبب موته سريعا رحمه الله. وكان من القائمين بالحق الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر، من أكبر المنكرين على الروافض وغيرهم من أهل البدع رحمه الله، وبل بالرحمة ثراه.

وفي يوم الأربعاء تاسع صفر حضر مشيخة النفيسية الشيخ شمس الديب بن سند، وحضر عنده قاضي القضاة تاج الدين وجماعة من الأعيان، وأورد حديث عبادة بن الصامت «لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب» أسنده عن قاضي القضاة المشار إليه.

وجاء البريد من الديار المصرية بطلب قاضي القضاة تاج الدين إلى هناك، فسير أهله قبله على الجمال، وخرجوا يوم الجمعة حادي عشر ربيع الأول جماعة من أهل بيتهم لزيارة أهاليهم هناك، فأقام هو بعدهم إلى أن قدم نائب السلطنة من الرحبة وركب على البريد.

وفي يوم الاثنين خامس عشر جمادى الآخرة رجع قاضي القضاة تاج الدين السبكي من الديار المصرية على البريد وتلقاه الناس إلى أثناء الطريق، واحتفلوا للسلام عليه وتهنئته بالسلامة انتهى. والله أعلم.

قتل الرافضي الخبيث

وفي يوم الخميس سابع عشره أول النهار وجد رجل بالجامع الأموي اسمه محمود بن إبراهيم الشيرازي، وهو يسب الشيخين ويصرح بلعنتهما، فرفع إلى القاضي المالكي قاضي القضاة جمال الدين المسلاتي فاستتابه عن ذلك وأحضر الضراب فأول ضربة قال: لا إله إلا الله علي ولي الله.

ولما ضرب الثانية لعن أبا بكر وعمر، فالتهمه العامة فأوسعوه ضربا مبرحا بحيث كاد يهلك، فجعل القاضي يستكفهم عنه فلم يستطع ذلك، فجعل الرافضي يسب ويلعن الصحابة، وقال: كانوا على الضلال، فعند ذلك حمل إلى نائب السلطنة وشهد عليه قوله: بأنهم كانوا على الضلالة، فعند ذلك حكم عليه القاضي بإراقة دمه، فأخذ إلى ظهر البلد فضربت عنقه وأحرقته العامة قبحه الله.

وكان ممن يقرأ بمدرسة أبي عمر، ثم ظهر عليه الرفض فسجنه الحنبلي أربعين يوما، فلم ينفع ذلك، وما زال يصرح في كل موطن يأمر فيه بالسب حتى كان يومه هذا أظهر مذهبه في الجامع، وكان سبب قتله قبحه الله كما قبح من كان قبله، وقتل بقتله في سنة خمس وخسمين.

استنابة ولي الدين ابن أبي البقاء السبكي

وفي آخر هذا اليوم - أعني يوم الخميس ثامن عشره - حكم أقضى القضاة ولي الدين بن قاضي القضاة بهاء الدين بن أبي البقاء بالمدرسة العادلية الكبيرة نيابة عن قاضي القضاة تاج الدين مع استنابة أقضى القضاة شمس الدين العزي، وأقضى القضاة بدر الدين بن وهيبة، وأما قاضي القضاة بدر الدين بن أبي الفتح فهو نائب أيضا، ولكنه بتوقيع شريف أنه يحكم مستقلا مع قاضي القضاة تاج الدين.

وفي يوم الاثنين الثاني والعشرين منه استحضر نائب السلطنة الأمير ناصر الدين بن العاوي متولي البلد ونقم عليه أشياء، وأمر بضربه فضرب بين يديه على أكتافه ضربا ليس بمبرح، ثم عزله واستدعى بالأمير علم الدين سليمان أحد الأمراء العشراوات ابن الأمير صفي الدين بن أبي القاسم البصراوي، أحد أمراء الطبلخانات.

كان قد ولي شد الدواوين ونظر القدس والخليل وغير ذلك من الولايات الكبار، وهو ابن الشيخ فخر الدين عثمان بن الشيخ صفي الدين أبي القاسم التميمي الحنفي.

وبأيديهم تدريس الأمينية التي ببصرى والحكيمية أزيد من مائة سنة، فولاه البلد على تكره منه، فألزمه بها وخلع عليه، وقد كان وليها قبل ذلك فأحسن السيرة وشكر سعيه لديانته وأمانته وعفته، وفرح الناس ولله الحمد.

ولاية قاضي القضاة بهاء الدين السبكي قضاء مصر بعد عزل عز الدين بن جماعة نفسه

ورد الخبر مع البريد من الديار المصرية بأن قاضي القضاة عز الدين عبد العزيز ابن قاضي القضاة بدر الدين بن جماعة عزل نفسه عن القضاء يوم الاثنين السادس عشر من هذا الشهر، وصمم على ذلك، فبعث الأمير الكبير يلبغا إليه الأمراء يسترضونه فلم يقبل، فركب إليه بنفسه ومع القضاة والأعيان فتلطفوا به فلم يقبل وصمم على الانعزال.

فقال له الأمير الكبير: فعين لنا من يصلح بعدك.

قال: ولا أقول لكم شيئا غير أنه لا يتولى رجل واحد، ثم ولوا من شئتم، فأخبرني قاضي القضاة تاج الدين السبكي أنه قال: لا تولوا ابن عقيل، فعين الأمير الكبير قاضي القضاة بهاء الدين أبا البقاء فقيل: إنه أظهر الامتناع، ثم قبل ولبس الخلعة وباشر يوم الاثنين الثالث والعشرين من جمادى الآخرة قاضي القضاة الشيخ بهاء الدين بن قاضي القضاة تقي الدين السبكي قضاء العساكر الذي كان بيد أبي البقاء.

وفي يوم الاثنين سابع رجب توفي الشيخ علي المراوحي خادم الشيخ أسد المرواحي البغدادي.

وكان فيه مروءة كثيرة ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، ويدخل على النواب ويرسل إلى الولاة فتقبل رسالته، وله قبول عند الناس، وفيه بر وصدقة وإحسان إلى المحاويج، وبيده مال جيد يتجر له فيه تعلل مدة طويلة ثم كانت وفاته في هذا اليوم فصلّي عليه الظهر بالجامع، ثم حمل إلى سفح قاسيون رحمه الله.

وفي صبيحة يوم الثلاثاء السابع والعشرين من شعبان قدم الأمير سيف الدين بيدمر الذي كان نائب الشام فنزل بداره عند مئذنة فيروز، وذهب الناس للسلام عليه بعد ما سلم على نائب السلطنة بدار السعادة، وقد رسم له بطبلخانتين وتقدمة ألف وولاية الولاة من غزة إلى أقصى بلاد الشام، وأكرمه ملك الأمراء إكراما زائدا، وفرحت العامة بذلك فرحا شديدا بعوده إلى الولاية.

وختمت البخاريات بالجامع الأموي وغيره في عدة أماكن من ذلك ستة مواعيد تقرأ على الشيخ عماد الدين ابن كثير في اليوم، أولها بمسجد ابن هشام بكرة قبل طلوع الشمس، ثم تحت النسر، ثم بالمدرسة النورية، وبعد الظهر بجامع تنكز، ثم بالمدرسة العزية، ثم بالكوشك لأم الزوجة الست أسماء بنت الوزير ابن السلعوس، إلى أذان العصر.

ثم من بعد العصر بدار ملك الأمراء أمير علي بمحلة القضاعين إلى قريب الغروب، ويقرأ (صحيح مسلم) بمحراب الحنابلة داخل باب الزيارة بعد قبة النسر وقبل النورية، والله المسئول وهو المعين الميسر المسهل.

وقد قرئ في هذه الهيئة في عدة أماكن أخر من دور الأمراء وغيرهم، ولم يعهد مثل هذا في السنين الماضية، فلله الحمد والمنة.

وفي يوم الثلاثاء عاشر شوال توفي الشيخ نور الدين علي من أبي الهيجاء الكركي الشوبكي، ثم الدمشقي الشافعي، كان معنا في المقري والكتاب، وختمت أنا وهو في سنة إحدى عشرة، ونشأ في صيانة وعفاف، وقرأ على الشيخ بدر الدين بن سيحان للسبع، ولم يكمل عليه ختمة.

واشتغل في (المنهاج) للنووي فقرأ كثيرا منه أو أكثر، وكان ينقل منه ويستحضر، وكان خفيف الروح تحبه الناس لذلك ويرغبون في عشرته لذلك رحمه الله، وكان يستحضر المتشابه في القرآن استحضارا حسنا متقنا كثير التلاوة له، حسن الصلاة يقوم الليل، وقرأ على (صحيح البخاري) بمشهد ابن هشام عدة سنين، ومهر فيه.

وكان صوته جهوريا فصيح العبارة، ثم وليّ مشيخة الحلبية بالجامع وقرأ في عدة كراسي بالحائط الشمالي، وكان مقبولا عند الخاصة والعامة، وكان يداوم على قيام العشر الأخير في محراب الصحابة مع عدة قراء يبتون فيه ويحيون الليل.

ولما كان في هذه السنة أحيا ليلة العيد وحده بالمحراب المذكور ثم مرض خمسة أيام، ثم مات بعد الظهر يوم الثلاثاء عاشر شوال بدرب العميد صلّي عليه العصر بالجامع الأموي، ودفن بمقابر الباب الصغير عنده والده في تربة لهم، وكانت جنازته حافلة وتأسف الناس عليه، رحمه الله وبل بالرحمة ثراه.

وقد قارب خمسا وستين سنة، وترك بنتا سباعية اسمها عائشة، وقد أقرأها شيئا من القرآن إلى تبارك، وحفظها الأربعين النووية جبرها ربها ورحم أباها آمين.

وخرج المحمل الشامي والحجيج يوم الخميس ثاني عشرة، وأميرهم الأمير علاء الدين علي بن علم الدين الهلالي، أحد أمراء الطبلخانات.

وتوفي الشيخ عبد الله الملطي يوم السبت رابع عشرة، وكان مشهورا بالمجاورة بالكلاسة في الجامع الأموي، له أشياء كثيرة من الطراريح والآلات الفقرية، ويلبس على طريقة الحريرية وشكله مزعج، ومن الناس من كان يعتقد فيه الصلاح، وكنت ممن يكرهه طبعا وشرعا أيضا.

وفي يوم الخميس الخامس والعشرين من ذي القعدة قدم البريد من ناحية المشرق ومعهم قماقم ماء من عين هناك من خاصيته إنه يتبعه طير يسمى السمرمر أصفر الريش قريب من شكل الخطاف من شأنه إذا قدم الجراد إلى البلد الذي هو فيه أنه يفنيه ويأكله أكلا سريعا، فلا يلبث الجراد إلا قليلا حتى يرحل أو يؤكل على ما ذكر، ولم أشاهد ذلك.

وفي المنتصف من ذي الحجة كمل بناء القيسارية التي كانت معملا بالقرب من دار الحجارة، قبلي سوق الدهشة الذي للرجال، وفتحت وأكريت دهشة لقماش النساء، وذلك كله بمرسوم ملك الأمراء ناظر الجامع المعمور رحمه الله.

وأخبرني الصدر عز الدين الصيرفي المشارف بالجامع أنه غرم عليها من مال الجامع قريب ثلاثين ألف درهم انتهى.

طرح مكس القطن المغزول البلدي والمجلوب

وفي أواخر هذا الشهر جاء المرسوم الشريف بطرح مكس القطن المغزول البلدي والجلب أيضا، ونودي بذلك في البلد، فكثرت الدعوات لمن أمر بذلك، وفرح المسلمون بذلك فرحا شديدا ولله الحمد والمنة.

ثم دخلت سنة سبع وستين وسبعمائة

استهلت وسلطان البلاد المصرية والشامية والحرمين الشريفين وما يتبع ذلك من الأقاليم الملك الأشرف بن الحسين بن الملك الناصر محمد بن قلاوون، وعمره عشر سنين فما فوقها، وأتابك العساكر ومدبر ممالكه الأمير سيف الدين يلبغا الخاصكي، وقاضي قضاة الشافعية بمصر بهاء الدين أبو البقاء السبكي، وبقية القضاة هم المذكورون في السنة الماضية، ونائب دمشق الأمير سيف الدين منكلي بغا. وقضاة دمشق هم المذكورون في التي قبلها سوى الحنفي فإنه الشيخ جمال الدين بن السراج شيخ الحنفية، والخطابة بيد قاضي القضاة تاج الدين الشافعي، وكاتب السر وشيخ الشيوخ القاضي فتح الدين بن الشهيد، ووكيل بيت المال الشيخ جمال الدين بن الرهاوي.

ودخل المحمل السلطاني يوم الجمعة بعد العصر قريب الغروب، ولم يشعر بذلك أكثر أهل البلد، وذلك لغيبة النائب في السرحة مما يلي ناحية الفرات، ليكون كالرد للتجريدة التي تعينت لتخريب الكبيسات التي هي إقطاع خيار بن مهنا من زمن السلطان أويس ملك العراق انتهى.

استيلاء الفرنج لعنهم الله على الإسكندرية

وفي العشر الأخير من شهر الله المحرم احتيط على الفرنج بمدينة دمشق وأودعوا في الحبوس في القلعة المنصورة، واشتهر أن سبب ذلك أن مدينة الإسكندرية محاصرة بعدة شواين، وذكر أن صاحب قبرص معهم، وأن الجيش المصري صمدوا إلى حراسة مدينة الإسكندرية حرسها الله تعالى وصانها وحماها. وسيأتي تفصيل أمرها في الشهر الأتي، فإنه وضح لنا فيه، ومكث القوم بعد الإسكندرية بأيام فيما بلغنا، بعد ذلك حاصرها أمير من التتار يقال له مامية، واستعان بطائفة من الفرنج ففتحوها قسرا، وقتلوا من أهلها خلقا وغنموا شيئا كثيرا واستقرت عليها يد مامية ملكا عليها.

وفي يوم الجمعة سلخ هذا الشهر توفي الشيخ برهان الدين إبراهيم بن الشيخ شمس الدين بن قيم الجوزية ببستانه بالمزة، ونقل إلى عند والده بمقابر باب الصغير، فصلّي عليه بعد صلاة العصر بجامع جراح، وحضر جنازته القضاة والأعيان وخلق من التجار والعامة. وكانت جنازته حافلة، وقد بلغ من العمر ثمانيا وأربعين سنة، وكان بارعا فاضلا في النحو والفقه وفنون أخر على طريقة والده رحمهما الله تعالى، وكان مدرّسا بالصدرية والتدمرية، وله تصدير بالجامع، وخطابة بجامع ابن صلحان، وترك مالا جزيلا يقارب المائة ألف درهم انتهى.

ثم دخل شهر صفر وأوله الجمعة، أخبرني بعض علماء السير أنه اجتمع في هذا اليوم - يوم الجمعة مستهل هذا الشهر - الكواكب السبعة سوى المريخ في برجا العقرب، ولم يتفق مثل هذا من سنين متطاولة، فأما المريخ فإنه كان قد سبق إلى برج القوس فيه ووردت الأخبار بما وقع من الأمر الفظيع بمدينة الإسكندرية من الفرنج لعنهم الله. وذلك أنهم وصلوا إليها في يوم الأربعاء الثاني والعشرين من شهر الله المحرم، فلم يجدوا بها نائبا ولا جيشا، ولا حافظا للبحر ولا ناصرا، فدخلوها يوم الجمعة بكرة النهار بعد ما حرقوا أبوابا كبيرة منها، وعاثوا في أهلها فسادا، يقتلون الرجال ويأخذون الأموال ويأسرون النساء والأطفال، فالحكم لله العلي الكبير المتعال. وأقاموا بها يوم الجمعة والسبت والأحد والاثنين والثلاثاء، فلما كان صبيحة يوم الأربعاء قدم الشاليش المصري، فأقلعت الفرنج لعنهم الله عنها، وقد أسروا خلقا كثيرا يقاومون الأربعة آلاف، وأخذوا من الأموال ذهبا وحريرا وبهارا وغير ذلك ما لا يحد ولا يوصف.

وقدم السلطان والأمير الكبير يلبغا ظهر يومئذ، وقد تفارط الحال وتحولت الغنائم كلها إلى الشوائن بالبحر، فسمع للأسارى من للعويل والبكاء والشكوى والجأر إلى الله والاستغاثة به وبالمسلمين ما قطع الأكباد وذرفت له العيون وأصم الأسماع، فإنا لله وإنا إليه راجعون.

ولما بلغت الأخبار إلى أهل دمشق شق عليهم ذلك جدا، وذكر ذلك الخطيب يوم الجمعة على المنبر فتباكى الناس كثيرا، فإنا لله وإنا إليه راجعون.

وجاء المرسوم الشريف من الديار المصرية إلى نائب السلطنة بمسك النصارى من الشام جملة واحدة، وأن يأخذ منهم ربع أموالهم لعمارة ما خرب من الإسكندرية، ولعمارة مراكب تغزو الفرنج، فأهانوا النصارى وطلبوا من بيوتهم بعنف وخافوا أن يقتلوا، ولم يفهموا ما يراد بهم، فهربوا كل مهرب، ولم تكن هذه الحركة شرعية، ولا يجوز اعتمادها شرعا.

وقد طلبت يوم السبت السادس عشر من صفر إلى الميدان الأخضر للاجتماع بنائب السلطنة، وكان اجتمعنا بعد العصر يومئذ بعد الفراغ من لعب الكرة، فرأيت منه أنسا كثيرا، ورأيته كامل الرأي والفهم، حسن العبارة كريم المجالسة، فذكرت له أن هذا لا يجوز اعتماده في النصارى.

فقال: إن بعض فقهاء مصر أفتى للأمير الكبير بذلك.

فقلت له: هذا مما لا يسوغ شرعا، ولا يجوز لأحد أن يفتي بهذا، ومتى كانوا باقين على الذمة يؤدون إلينا الجزية ملتزمين بالذلة والصغار وأحكام الملة قائمة، لا يجوز أن يؤخذ منهم الدرهم الواحد - الفرد - فوق ما يبذلونه من الجزية، ومثل هذا لا يخفى على الأمير.

فقال: كيف أصنع وقد ورد المرسوم بذلك ولا يمكنني أن أخالفه؟

وذكرت له أشياء كثيرة مما ينبغي اعتماده في حق أهل قبرص من الإرهاب ووعيد العقاب، وأنه يجوز ذلك وإن لم يفعل ما يتوعدهم به، كما قال سليمان بن داود عليهما السلام: ائتوني بالسكين أشقه نصفين، كما هو الحديث مبسوط في الصحيحين، فجعل يعجبه هذا جدا.

وذكر أن هذا كان في قلبه وأني كاشفته بهذا، وأنه كتب به مطالعة إلى الديار المصرية، وسيأتي جوابها بعد عشرة أيام، فتجيء حتى تقف على الجواب، وظهر منه إحسان وقبول وإكرام زائد رحمه الله.

ثم اجتمعت به في دار السعادة في أوائل شهر ربيع الأول فبشرني أنه قد رسم بعمل الشواني والمراكب لغزو الفرنج ولله الحمد والمنة.

ثم في صبيحة يوم الأحد طلب النصارى الذين اجتمعوا في كنيستهم إلى بين يديه وهم قريب من أربعمائة فحلفهم كم أموالهم وألزمهم بأداء الربع من أموالهم، فإنا لله وإنا إليه راجعون. وقد أمروا إلى الولاة بإحضار من في معالمتهم، ووالي البر قد خرج إلى القرايا بسبب لك، وجردت أمراء إلى النواحي لاستخلاص الأموال من النصارى في القدس وغير ذلك.

وفي أول شهر ربيع الأول كان سفر قاضي القضاة تقي الدين السبكي الشافعي إلى القاهرة.

وفي يوم الأربعاء خامس ربيع الأول اجتمعت بنائب السلطنة بدار السعادة وسألته عن جواب المطالعة، فذكر لي أنه جاء المرسوم الشريف السلطاني بعمل الشواني والمراكب لغزو قبرص، وقتال الفرنج ولله الحمد والمنة.

وأمر نائب السلطنة بتجهيز القطاعين والنشارين من دمشق إلى الغابة التي بالقرب من بيروت، وأن يشرع في عمل الشواني في آخر يوم من هذا الشهر، وهو يوم الجمعة، وفتحت دار القرآن التي وقفها الشريف التعاداني إلى جانب حمام الكلس، شمالي المدرسة البادرائية، وعمل فيها وظيفة حديث وحضر واقفها يومية قاضي القضاة تاج الدين السبكي انتهى والله أعلم.

عقد مجلس بسبب قاضي القضاة تاج الدين السبكي

ولما كان يوم الاثنين الرابع والعشرين من ربيع الأول عقد مجلس حافل بدار السعادة بسبب ما رمى به قاضي القضاة تاج الدين الشافعي ابن قاضي القضاة تقي الدين السبكي، وكنت ممن طلب إليه فحضرته فيمن حضر. وقد اجتمع فيه القضاة الثلاثة، وخلق من المذاهب الأربعة، وآخرون من غيرهم، بحضرة نائب الشام سيف الدين منكلي بغا، وكان قد سافر هو إلى الديار المصرية إلى الأبواب الشريفة، واستنجز كتابا إلى نائب السلطنة لجمع هذا المجلس ليسأل عنه الناس.

وكان قد كتب فيه محضران متعاكسان أحدهما له والآخر عليه، وفي الذي عليه خط القاضيين المالكي والحنبلي، وجماعة آخرين، وفيه عظائم وأشياء منكرة جدا ينبو السمع عن استماعه. وفي الآخر خطوط جماعات من المذاهب بالثناء عليه، وفيه خطي بأني ما رأيت فيه إلا خيرا.

ولما اجتمعوا أمر نائب السلطنة بأن يمتاز هؤلاء عن هؤلاء في المجالس، فصارت كل طائفة وحدها، وتحاذوا فيما بينهم، وتأصل عنه نائبه القاضي شمس الدين الغزي، والنائب الآخر بدر الدين بن وهبة وغيرهما، وصرح قاضي القضاة جمال الدين الحنبلي بأنه قد ثبت عنده ما كتب به خطه فيه، وأجابه بعض الحاضرين منهم بدائم النفوذ.

فبادر القاضي الغزي فقال للحنبلي: أنت قد ثبتت عداوتك لقاضي القضاة تاج الدين، فكثر القول وارتفعت الأصوات وكثر الجدال والمقال، وتكلم قاضي القضاة جمال الدين المالكي أيضا بنحو ما قال الحنبلي، فأجيب بمثل ذلك أيضا.

وطال المجلس فانفصلوا على مثل ذلك، ولما بلغت الباب أمر نائب السلطنة برجوعي إليه، فإذا بقية الناس من الطرفين والقضاة الثلاثة جلوس، فأشار نائب السلطنة بالصلح بينهم وبين قاضي القضاة تاج الدين - يعني وأن يرجع القاضيان عما قالا - فأشار الشيخ شرف الدين ابن قاضي الجبل وأشرت أنا أيضا بذلك فلان المالكي وامتنع الحنبلي، فقمنا والأمر باقٍ على ما تقدم.

ثم اجتمعنا يوم الجمعة بعد العصر عند نائب السلطنة عن طلبه فتراضوا كيف يكون جواب الكتابات مع مطالعة نائب السلطنة، ففعل ذلك وسار البريد بذلك إلى الديار المصرية، ثم اجتمعنا أيضا يوم الجمعة بعد الصلاة التاسع عشر من ربيع الآخر بدار السعادة.

وحضر القضاة الثلاثة وجماعة آخرون، واجتهد نائب السلطنة على الصلح بين القضاة وقاضي الشافعية وهو بمصر، فحصل خلف وكلام طويل، ثم كان الأمر أن سكنت أنفس جماعة منهم إلى ذلك على ما سنذكره في الشهر الآتي.

وفي مستهل ربيع الآخر كانت وفاة المعلم داود الذي كان مباشرا لنظارة الجيش، وأضيف إليه نظر الدواوين إلى آخر وقت. فاجتمع له هاتان الوظيفتان ولم يجتمعا لأحد قبله كما في علمي، وكان من أخبر الناس بنظر الجيش وأعلمهم بأسماء رجاله، ومواضع الإقطاعات، وقد كان والده نائبا لنظار الجيوش، وكان يهوديا قرائيا، فأسلم ولده هذا قبل وفاة نفسه بسنوات عشر أو نحوها. وقد كان ظاهره جيدا والله أعلم بسره وسريرته، وقد تمرض قبل وفاته بشهر أو نحوه، حتى كانت وفاته في هذا اليوم فصلّي عليه بالجامع الأموي تجاه النسر بعد العصر، ثم حمل إلى تربة له أعدها في بستانه بحوش، وله من العمر قريب الخمسين.

وفي أوائل هذا الشهر ورد المرسوم الشريف السلطاني بالرد على نساء النصارى ما كان أخذ منهن مع الجباية التي كان تقدم أخذها منهن، وإن كان الجميع ظلما، ولكن الأخذ من النساء أفحش وأبلغ في الظلم، والله أعلم.

وفي يوم الاثنين الخامس عشر منه أمر نائب السلطنة أعزه الله بكبس بساتين أهل الذمة فوجد فيها من الخمر المعتصر من الخوابي والحباب فأريقت عن آخرها ولله الحمد والمنة، بحيث جرت في الأزقة والطرقات، وفاض نهر توزا من ذلك، وأمر بمصادرة أهل الذمة الذين وجد عندهم ذلك بمال جزيل، وهم تحت الجباية.

وبعد أيام نودي في البلد بأن نساء أهل الذمة لا تدخل الحمامات مع المسلمات، بل تدخل حمامات تختص بهن، ومن دخل من أهل الذمة الرجال مع الرجال المسلمين يكون في رقاب الكفار علامات يعرفون بها من أجراس وخواتيم ونحو ذلك.

وأمر نساء أهل الذمة بأن تلبس المرأة خفيها مخالفين في اللون، بأن يكون أحدهما أبيض والآخر أصفر أو نحو ذلك.

ولما كان يوم الجمعة التاسع عشر من الشهر - أعني ربيع الآخر - طلب القضاة الثلاثة وجماعة من المفتيين: فمن ناحية الشافعي نائباه، وهما القاضي شمس الدين الغزي والقاضي بدر الدين بن وهبة، والشيخ جمال الدين ابن قاضي الزبداني، والمصنف الشيخ عماد الدين بن كثير، والشيخ بدر الدين حسن الزرعي، والشيخ تقي الدين الفارقي.

ومن الجانب الآخر قاضيا القضاة جمال الدين المالكي والحنبلي، والشيخ شرف الدين ابن قاضي الجبل الحنبلي، والشيخ جمال الدين ابن الشريشي، والشيخ عز الدين بن حمزة بن شيخ السلامية الحنبلي، وعماد الدين الحنائي.

فاجتمعت مع نائب السلطنة بالقاعة التي في صدر إيوان دار السعادة، وجلس نائب السلطنة في صدر المكان، وجلسنا حوله، فكان أول ما قال: كنا نحن الترك وغيرنا إذا اختلفنا واختصمنا نجيء بالعلماء فيصلحون بيننا، فصرنا نحن إذا اختلفت العلماء واختصموا فيمن يصلح بينهم؟ وشرع في تأنيب من شنع على الشافعي بما تقدم ذكره من تلك الأقوال والأفاعيل التي كتبت في تلك الأوراق وغيرها، وأن هذا يشفّي الأعداء بنا، وأشار بالصلح بين القضاة بعضهم من بضع فصمم بعضهم وامتنع، وجرت مناقشات من بعض الحاضرين فيما بينهم، ثم حصل بحث في مسائل ثم قال نائب السلطنة أخيرا: أما سمعتم قول الله تعالى: {عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ} 44 فلانت القلوب عند ذلك وأمر كاتب السر أن يكتب مضمون ذلك في مطالعة إلى الديار المصرية، ثم خرجنا على ذلك انتهى والله أعلم.

عودة قاضي القضاة السبكي إلى دمشق

في يوم الأربعاء التاسع والعشرين من جمادى الأولى قدم من ناحية الكسوة وقد تلقاه جماعة من الأعيان إلى الصمين وما فوقها، فلما وصل إلى الكسوة كثر الناس جدا وقاربها قاضي قضاة الحنفية الشيخ جمال الدين بن السراج، فلما أشرف من عقبة شحورا تلقاه خلائق لا يحصون كثرة وأشعلت الشموع حتى مع النساء، والناس في سرور عظيم.

فلما كان قريبا من الجسورة تلقته الخلائق الخليفيين مع الجوامع، والمؤذنون يكبرون، والناس في سرور عظيم، ولما قرب باب النصر وقع مطر عظيم والناس معه لا تسعهم الطرقات، يدعون له ويفرحون بقدومه، فدخل دار السعادة وسلم على نائب السلطنة، ثم دخل الجامع بعد العصر ومعه شموع كثيرة، والرؤساء أكثر من العامة.

ولما كان يوم الجمعة ثاني شهر جمادى الآخرة ركب قاضي القضاة السبكي إلى دار السعادة وقد استدعى نائب السلطنة بالقاضيين المالكي والحنبلي، فأصلح بينهم، وخرج من عنده ثلاثتهم يتماشون إلى الجامع، فدخلوا دار الخطابة فاجتمعوا هناك، وضيفهما الشافعي. ثم حضرا خطبته الحافلة البليغة الفصيحة، ثم خرجوا ثلاثتهم من جوا إلى دار المالكي، فاجتمعوا هنالك وضيفهم المالكي هنالك ما تيسر. والله الموفق للصواب.

وفي أوائل هذا الشهر وردت المراسيم الشريفة السلطانية من الديار المصرية بأن يجعل للأمير من إقطاعه النصف خاصا له، وفي النصف الآخر يكون لأجناده، فحصل بهذا رفق عظيم بالجند، وعدل كثير ولله الحمد، وأن يتجهز الأجناد ويحرصوا على السبق والرمي بالنشاب، وأن يكونوا مستعدين متى استنفروا نفروا. فاستعدوا لذلك وتأهبوا لقتال الفرنج كما قال الله تعالى: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ} الآية 45.

وثبت في الحديث أن رسول الله قال على المنبر: «ألا إن القوة الرمي». وفي الحديث الآخر: «ارموا واركبوا وأن ترموا أحب إلي».

وفي يوم الاثنين بعد الظهر عقد مجلس بدار السعادة للكشف على قاضي القضاة جمال الدين المرداوي الحنبلي بمقتضى مرسوم شريف ورد من الديار المصرية بذلك، وذلك بسبب ما يعتمده كثير من شهود مجلسه من بيع أوقاف لم يستوف فيها شرائط المذهب، وإثبات إعسارات أيضا كذلك وغير ذلك انتهى.

الوقعة بين الأمراء بالديار المصرية

وفي العشر الأخير من جمادى الآخرة ورد الخبر بأن الأمير الكبير يلبغا الخاصكي خرج عليه جماعة من الأمراء مع الأمير سيف الدين طيبغا الطويل، فبرز إليهم إلى قبة القصر فالتقوا معه هنالك، فقتل جماعة وجرح آخرين، وانفصل الحال على مسك طيبغا الطويل وهو جريح، ومسك أرغون السعردي الدويدار، وخلق من أمراء الألوف والطبلخانات.

وجرت خبطة عظيمة استمر فيها الأمير الكبير يلبغا على عزه وتأييده ونصره ولله الحمد والمنة.

وفي ثاني رجب يوم السبت توجه الأمير سيف الدين بيدمر الذي كان نائب دمشق إلى الديار المصرية بطلب الأمير يلبغا ليؤكد أمره في دخول البحر لقتال الفرنج وفتح قبرص إن شاء الله، انتهى والله تعالى أعلم.

مما يتعلق بأمر بغداد

أخبرني الشيخ عبد الرحمن البغدادي أحد رؤساء بغداد وأصحاب التجارات، والشيخ شهاب الدين العطار - السمسار في الشرب بغدادي أيضا - أن بغداد بعد أن استعادها أويس ملك العراق وخراسان من يد الطواشي مرجان، واستحضره فأكرمه وأطلق له، فاتفقا أن أصل الفتنة من الأمير أحمد أخو الوزير، فأحضره السلطان إلى بين يديه وضربه بسكين في كرشه فشقه. وأمر بعض الأمراء فقتله، فانتصر أهل السنة لذلك نصرة عظيمة، وأخذ خشبته أهل باب الأزج فأحرقوه وسكنت الأمور وتشفوا بمقتل الشيخ جمال الدين الأنباري الذي قتله الوزير الرافضي فأهلكه الله بعده سريعا انتهى.

وفاة قاضي القضاة عز الدين عبد العزيز بن حاتم الشافعي

وفي العشر الأول من شهر شعبان قدم كتاب من الديار المصرية بوفاة قاضي القضاة بدر الدين محمد ابن جماعة بمكة شرفها الله، في العاشر من جمادى الآخرة ودفن في الحادي عشر في باب المعلي وذكروا أنه توفي وهو يقرأ القرآن.

وأخبرني صاحب الشيخ محيي الدين الرحبي حفظه الله تعالى أنه كان يقول كثيرا: أشتهي أن أموت وأنا معزول، وأن تكون وفاتي بأحد الحرمين، فأعطاه الله ما تمناه: عزل نفسه في السنة الماضية، وهاجر إلى مكة، ثم قدم المدينة لزيارة رسول الله .

ثم عاد إلى مكة وكانت وفاته بها في الوقت المذكور فرحمه الله وبل بالرحمة ثراه.

وقد كان مولده في سنة أربع وتسعين، فتوفي عن ثلاث وسبعين سنة، وقد نال العز عزا في الدنيا ورفعة هائلة، ومناصب وتداريس كبار، ثم عزل نفسه وتفرغ للعبادة والمجاورة بالحرمين الشريفين، فيقال له ما قلته في بعض المراثي:

فكأنك قد أُعلمت بالموت حتى * تزودت له من خيار الزاد

وحضر عندي في يوم الثلاثاء تاسع شوال البترك بشارة الملقب بميخائيل، وأخبرني أن المطارنة بالشام بايعوه على أن جعلوه بتركا بدمشق عوضا عن البترك بإنطاكية، فذكرت له أن هذا أمر مبتدع في دنيهم، فإنه لا تكون البتاركة إلا أربعة بالإسكندرية وبالقدس وبإنطاكية وبرومية، فنقل بترك رومية إلى استنبول وهي القسطنطينية. وقد أنكر عليهم كثير منهم إذ ذاك، فهذا الذي ابتدعوه في هذا الوقت أعظم من ذلك.

لكن اعتذر بأنه في الحقيقة هو عن إنطاكية، وإنما أذن له في المقام بالشام الشريف لأجل أنه أمره نائب السلطنة أن يكتب عنه وعن أهل ملتهم إلى صاحب قبرص، يذكر له ما حل بهم من الخزي والنكال والجناية بسبب عدوان صاحب قبرص على مدينة الإسكندرية.

وأحضر لي الكتب إليه وإلى ملك استنبول وقرأها عليّ من لفظه لعنه الله ولعن المكتوب إليهم أيضا.

وقد تكلمت معه في دينهم ونصوص ما يعتقده كل من الطوائف الثلاثة، وهم الملكية واليعقوبية ومنهم الإفرنج والقبط والنسطورية، فإذا هو يفهم بعض الشيء، ولكن حاصله أنه حمار من أكفر الكفار لعنه الله.

وفي هذا الشهر بلغنا استعادة السلطان أويس ابن الشيخ حسن ملك العراق وخراسان لبغداد من يد الطواشي مرجان الذي كان نائبه عليهما، وامتنع من طاعة أويس، فجاء إليه في جحافل كثيرة فهرب مرجان ودخل أويس إلى بغداد دخولا هائلا، وكان يوما مشهودا.

وفي يوم السبت السابع والعشرين من شعبان قدم الأمير سيف الدين بيدمر من الديار المصرية على البريد أمير مائة مقدم ألف، وعلى نيابة يلبغا في جميع دواوينه بدمشق وغيرها، وعلى إمارة البحر وعمل المراكب، فلما قدم أمر بجمع جميع النشارين والنجارين والحدادين وتجهزيهم لبيروت لقطع الأخشاب، فسيروا يوم الأربعاء ثاني رمضان وهو عازم على اللحاق بهم إلى هنالك وبالله المستعان.

ثم أتبعوا بآخرين من نجارين وحدادين وعتالين وغير ذلك، وجعلوا كل من وجدوه من ركاب الحمير ينزلونه ويركبوا إلى ناحية البقاع، وسخروا لهم من الصناع وغيرهم، وجرت خطبة عظيمة وتباكى عوائلهم وأطفالهم، ولم يسلفوا شيئا من أجورهم، وكان من اللائق أن يسلفوه حتى يتركوه إلى أولادهم.

وخطب برهان الدين المقدسي الحنفي بجامع يلبغا عن تقي الدين ابن قاضي القضاة شرف الدين الكفري، بمرسوم شريف ومرسوم نائب صفد استدمر أخي يلبغا، وشق ذلك عليه وعلى جده وجماعتهم، وذلك يوم الجمعة الرابع من رمضان، هذا وحضر عنده خلق كثير.

وفي يوم الخميس الرابع والعشرين منه قرئ تقليد قاضي القضاة شرف الدين بن قاضي الجبل لقضاء الحنابلة، عوضا عن قاضي القضاة جمال الدين المرداوي، عزل هو والمالكي معه أيضا، بسبب أمور تقدم نسبتها لهما وقرئ التقليد بمحراب الحنابلة، وحضر عنده الشافعي والحنفي.

وكان المالكي معتكفا بالقاعة من المنارة الغربية، فلم يخرج إليهم لأنه معزول أيضا برأي قاضي حماة، وقد وقعت شرور وتخبيط بالصالحية وغيرها.

وفي صبيحة يوم الأربعاء الثلاثين من شهر رمضان خلع على قاضي القضاة سري الدين إسماعيل المالكي، قدم من حماة على قضاء المالكية، عوضا عن قاضي القضاة جمال الدين المسلاتي، عزل عن المنصب، وقرئ تقليده بمقصورة المالكية من الجامع، وحضر عنده القضاة والأعيان.

وفي صبيحة يوم الأربعاء سابع شوال قدم الأمير حيار بن مهنا إلى دمشق سامعا مطيعا، بعد أن جرت بينه وبين الجيوش حروب متطاولة، كل ذلك ليطأ البساط، فأبى خوفا من المسك والحبس أو القتل، فبعد ذلك كله قدم هذا اليوم قاصدا الديار المصرية ليصطلح مع الأمير الكبير يلبغا، فتلقاه الحجبة والمهمندارية والخلق. وخرج الناس للفرجة، فنزل القصر الأبلق، وقدم معه نائب حماه عمرشاه فنزل معه، وخرج معه ثاني يوم إلى الديار المصرية.

وأقرأني القاضي ولي الدين عبد الله وكيل بيت المال كتاب والده قاضي القضاة بهاء الدين بن أبي البقاء قاضي قضاة الشافعية بالديار المصرية، أن الأمير الكبير جدد درسا بجامع ابن طولون فيه سبعة مدرسين للحنفية، وجعل لك فقيه منهم في الشهر أربعين درهما، وأردب قمح، وذكر فيه أن جماعة من غير الحنفية انتقلوا إلى مذهب أبي حنيفة لينزلوا في هذا الدرس.

درس التفسير بالجامع الأموي

وفي صبيحة يوم الأربعاء الثامن والعشرين من شوال سنة سبع وستين وسبعمائة، حضر الشيخ العلامة الشيخ عماد الدين بن كثير درس التفسير الذي أنشأه ملك الأمراء نائب السلطنة الأمير سيف الدين منكلي بغا رحمه الله تعالى من أوقاف الجامع الذي جددها في حال نظره عليه أثابه الله.

وجعل من الطلبة من سائر المذاهب خمسة عشر طالبا لكل طالب في الشهر عشرة دراهم، وللمعيد عشرون، ولكاتب الغيبة عشرون، وللمدرّس ثمانون، وتصدق حين دعوته لحضور الدرس، فحضر واجتمع القضاة والأعيان، وأخذ في أول تفسير الفاتحة، وكان يوما مشهودا ولله الحمد والمنة، وبه التوفيق والعفة انتهى...

قضاة الحنابلة الشيخ شرف الدين أحمد بن الحسن بن قاضي الجبل المقدسي، وناظر الدواوين سعد الدين بن التاج إسحاق؛ وكاتب السر فتح الدين بن الشهيد، وهو شيخ الشيوخ أيضا، وناظر الجيوش الشامية برهان الدين بن الحلي، ووكيل بيت المال القاضي ولي الدين بن قاضي القضاة بهاء الدين أبي البقاء. انتهى.

سفر نائب السلطنة إلى الديار المصرية

لما كانت ليلة الحادي والعشرين قدم طشتمر دويدار يلبغا على البريد، فنزل بدار السعادة، ثم ركب هو ونائب السلطنة بعد العشاء الأخيرة في المشاعل، والحجبة بين أيديهما والخلائق يدعون لنائبهم، واستمروا كذلك ذاهبين إلى الديار المصرية فأكرمه يلبغا وأنعم عليه وسأله أن يكون ببلاد حلب، فأجابه إلى ذلك وعاد فنزل بدار سنجر الإسماعيلي، وارتحل منها إلى حلب.

وقد اجتمعت به هنالك وتأسف الناس عليه، وناب في الغيبة الأمير سيف الدين زبالة، إلى أن قدم النائب المعز السيفي قشتمر عبد الغني على ما سيأتي.

وتوفي القاضي شمس الدين بن منصور الحنفي الذي كان نائب الحكم رحمه الله يوم السبت السادس والعشرين من المحرم، ودفن بالباب الصغير، وقد قارب الثمانين.

وفي هذا اليوم أو الذي بعده توفي القاضي شهاب الدين أحمد ابن الوزوازة ناظر الأوقاف بالصالحية.

وفي صبيحة يوم الجمعة ثالث صفر نودي في البلد أن لا يتخلف أحد من أجناد الحلقة عن السفر إلى بيروت، فاجتمع الناس لذلك فبادر الناس والجيش ملبسين إلى سطح المزة، وخرج ملك الأمراء أمير على كان نائب الشام من داره داخل باب الجابية في جماعته ملبسين في هيئة حسن وتجمل هائل، وولده الأمير ناصر الدين محمد وطلبه معه، وقد جاء نائب الغيبة والحجبة إلى بين يديه إلى وطاقه وشاوروه في الأمر، فقال: ليس لي ها هنا أمر، ولكن إذا حضر الحرب والقتال فلي هناك أمر، وخرج خلق من الناس متبرعين، وخطب قاضي القضاة تاج الدين الشافعي بالناس يوم الجمعة على العادة، وحرض الناس على الجهاد، وقد ألبس جماعة من غلمانه اللأمة والخوذ وهو على عزم المسير مع الناس إلى بيروت ولله الحمد والمنة.

ولما كان من آخر النهار رجع الناس إلى منازلهم وقد ورد الخبر بأن المراكب التي رُؤيت في البحر إنما هي مراكب تجار لا مراكب قتال، فطابت قلوب الناس، ولكن ظهر منهم استعداد عظيم ولله الحمد.

وفي ليلة الأحد خامس صفر قدم بالأمير سيف الدين شرشي الذي كان إلى آخر وقت نائب حلب محتاطا عليه بعد العشاء الآخرة إلى دار السعادة بدمشق، فسير معزولا عن حلب إلى طرابلس بطالا، وبعث في سرجين صحبة الأمير علاء الدين بن صبح.

وبلغنا وفاة الشيخ جمال الدين بن نابتة حامل لواء شعراء زمانه بديار مصر بمرستان الملك المنصور قلاوون، وذلك يوم الثلاثاء سابع صفر من هذه السنة رحمه الله تعالى.

وفي ليلة ثامنه هرب أهل حبس السد من سجنهم وخرج أكثرهم فأرسل الولاة صبيحة يومئذ في أثرهم فمسك كثير ممن هرب فضربوهم أشد الضرب، وردوهم إلى شر المنقلب.

وفي يوم الأربعاء خامس عشره نودي بالبلدان أن لا يعامل الفرنج بالبنادقة والحبوبة والكيتلان واجتمعت في آخر هذا اليوم بالأمير زين الدين زبالة نائب الغيبة النازل بدار الذهب فأخبرني أن البريدي أخبره أن صاحب قبرص رأى في النجوم أن قبرص مأخوذة، فجهز مركبين من الأسرى الذي عنده من المسلمين إلى يلبغا. ونادى في بلاده أن من كتم مسلما صغيرا أو كبيرا قتل، وكان من عزمه أن لا لا يبقى أحدا من الأسارى إلا أرسله.

وفي آخر نهار الأربعاء خامس عشره قدم من الديار المصرية قاضي القضاة جمال الدين المسلاتي المالكي الذي كان قاضي المالكية فعزل في أواخر رمضان من العام الماضي، فحج ثم قصد الديار المصرية فدخلها لعله يستغيث فلم يصادفه قبول، فادّعى عليه بعض الحجاب وحصل له ما يسوءه، ثم خرج إلى الشام فجاء فنزل في التربة الكاملية شمالي الجامع.

ثم انتقل إلى منزل ابنته متمرضا والطلابات والدعاوى والمصالحات عنه كثيرة جدا، فأحسن الله عاقبته.

وفي يوم الأحد بعد العصر دخل الأمير سيف الدين طيبغا الطويل من القدس الشريف إلى دمشق فنزل بالقصر الأبلق، ورحل بعد يومين أو ثلاثة إلى نيابة حماة حرسها الله بتقليد من الديار المصرية، وجاءت الأخبار بتولية الأمير سيف الدين منكلي بغا نيابة حلب عوضا عن نيابة دمشق وأنه حصل له من التشريف والتكريم والتشاريف بديار مصر شيء كثير ومال جزيل وخيول وأقمشة وتحف يشق حصرها. وأنه قد استقر بدمشق الأمير سيف الدين اقشتمر عبد الغني، الذي كان حاجب الحجاب بمصر، وعوض عنه في الحجوبية الأمير علاء الدين طبغا أستاذ دار يلبغا وخلع على الثلاثة في يوم واحد.

وفي يوم الأحد حادي عشر ربيع الأول اشتهر في البلد قضية الفرنج أيضا بمدينة الإسكندرية وقدم بريدي من الديار المصرية بذلك، واحتيط على من كان بدمشق من الفرنج وسجنوا بالقلعة وأخذت حواصلهم، وأخبرني قاضي القضاة تاج الدين الشافعي يومئذ أن أصل ذلك أن سبعة مراكب من التجار من البنادقة من الفرنج قدموا إلى الإسكندرية فباعوا بها واشتروا. وبلغ الخبر إلى الأمير الكبير يلبغا أن مركبا من هذه السبعة إلى صاحب قبرص، فأرسل إلى الفرنج يقول لهم: أن يسلموا هذه المركب فامتنعوا من ذلك وبادروا إلى مراكبهم، فأرسل في آثارهم ستة وشواني مشحونة بالمقاتلة، فالتقوا هم والفرنج في البحر فقتل من الفريقين خلق ولكن من الفرنج أكثر وهربوا فارين بما معهم من البضائع.

فجاء الأمير علي الذي كان نائب دمشق أيضا في جيش مبارك ومعه ولده ومماليكه في تجمل هائل، فرجع الأمير علي واستمر نائب السلطة حتى وقف على بيروت ونظر في أمرها، وعاد سريعا.

وقد بلغني أن الفرنج جاؤوا طرابلس غزاة وأخذوا مركبا للمسلمين من المينا وحرقوه، والناس ينظرون ولا يستطيعون دفعهم ولا منعهم؛ وأن الفرنج كروا راجعين، وقد أسروا ثلاثة من المسلمين، فإنا لله وإنا إليه راجعون. انتهى والله أعلم.

مقتل يلبغا الأمير الكبير

جاء الخبر بقتله إلينا بدمشق في ليلة الاثنين السابع عشر من ربيع الآخر مع أسيرين جاءا على البريد من الديار المصرية، فأخبرا بمقتله في يوم الأربعاء ثاني عشر هذا الشهر: تمالأ عليه مماليكه حتى قتلوه يومئذ، وتغيرت الدولة ومسك من أمراء الألوف والطبلخانات جماعة كثيرة، واختبطت الأمور جدا، وجرت أحوال صعبة، وقام بأعباء القضية الأمير سيف الدين طيتمر النظامي وقوي جانب السلطان ورشد، وفرح أكثر الأمراء بمصر بما وقع.

وقدم نائب السلطنة إلى دمشق من بيروت فأمر بدق البشائر، وزينت البلد ففعل ذلك، وأطلقت الفرنج الذين كانوا بالقلعة المنصورة فلم يهن ذلك على الناس.

وهذا آخر ما وجد من التاريخ والحمد لله وحده، وصلواته على نبينا محمد وآله.


هامش

  1. [القلم: 4]
  2. [الحج: 60]
  3. [الحج: 60]
  4. [الحج: 3-4]
  5. [النساء: 58]
  6. [كذا. وفي العقود الدرية "المحرف". وفي الكواكب "المخزى" وصوبه عبد الرحمن بن صالح المحمود في كتابه موقف ابن تيمية من الأشاعرة
  7. [الشعراء: 227]
  8. [سبأ: 54]
  9. [إبراهيم: 39]
  10. [القمر: 54- 55]
  11. [الزمر: 53]
  12. [لقمان: 34]
  13. [الأنفال: 34]
  14. [آل عمران: 14]
  15. [فاطر: 28]
  16. [يوسف: 65]
  17. [آل عمران: 178]
  18. [النحل: 90]
  19. [ص: 35]
  20. [النمل: 15]
  21. [آل عمران: 26]
  22. [الأعراف: 97 -99]
  23. [فاطر: 2]
  24. [الإخلاص: 1-4]
  25. [الحشر: 9]
  26. [النساء: 135]
  27. [النساء: 58]
  28. [البقرة: 279]
  29. [يونس: 90]
  30. [يونس: 91]
  31. [النازعات: 25]
  32. [المزمل: 16]
  33. [يونس: 90]
  34. [يونس: 91]
  35. [غافر: 84-86]
  36. [يونس: 96-97]
  37. [آل عمران: 26]
  38. [النساء: 78]
  39. [البقرة: 197]
  40. [النساء: 54]
  41. [سورة الفتح: 1]
  42. [المائدة: 109]
  43. [التوبة: 36]
  44. [المائدة: 95]
  45. [الأنفال: 60]