البداية والنهاية/الجزء الثامن/مقتل شمر بن ذي الجوشن أمير السرية التي قتلت حسينا
وهرب أشراف الكوفة إلى البصرة إلى مصعب بن الزبير، وكان ممن هرب لقصده شمر بن ذي الجوشن قبحه الله، فبعث المختار في أثره غلاما له يقال: زرنب، فلما دنا منه قال شمر لأصحابه: تقدموا وذروني وراءكم بصفة أنكم هربتم وتركتموني حتى يطمع فيَّ هذا العلج.
فساقوا وتأخر شمر فأدركه زرنب فعطف عليه شمر فدق ظهره فقتله، وسار شمر وتركه، وكتب كتابا إلى مصعب بن الزبير وهو بالبصرة ينذره بقدومه عليه، ووفادته إليه، وكان كل من فر من هذه الوقعة يهرب إلى مصعب بالبصرة، وبعث شمر الكتاب مع علج من علوج قرية قد نزل عندها يقال لها: الكلبانية عند نهرٍ إلى جانب تلٍ هناك.
فذهب ذلك العلج فلقيه علج آخر فقال له: إلى أين تذهب؟
قال: إلى مصعب.
قال: ممن؟
قال: من شمر.
فقال: اذهب معي إلى سيدي، وإذا سيده أبو عمرة أميري حرس المختار، وهو قد ركب في طلب شمر فدله العلج على مكانه فقصده أبو عمرة، وقد أشار أصحاب شمر عليه أن يتحول من مكانه ذلك، فقال لهم: هذا كله فرق من الكذاب، والله لا أرتحل من ههنا إلى ثلاثة أيام حتى أملأ قلوبهم رعبا.
فلما كان الليل كابسهم أبو عمرة في الخيل فأعجلهم أن يركبوا أو يلبسوا أسلحتهم، وثار إليهم شمر بن ذي الجوشن فطاعنهم برمحه وهو عريان، ثم دخل خيمته فاستخرج منها سيفا وهو يقول:
نبهتم ليث عرينٍ باسلا * جهما محياه يدق الكاهلا
لم ير يوما عن عدوٍ ناكلا * إلا أكرَّ مقاتلا أو قاتلا
يزعجهم ضربا ويروي العاملا
ثم ما زال يناضل عن نفسه حتى قتل، فلما سمع أصحابه وهم منهزمون صوت التكبير، وقول أصحاب المختار: الله أكبر قتل الخبيث، عرفوا أنه قد قتل قبحه الله.
قال أبو مخنف: عن يونس بن أبي إسحاق قال: ولما خرج المختار من جبانة السبيع، وأقبل إلى القصر- يعني: منصرفه من القتال - ناداه سراقة بن مرداس بأعلا صوته وكان في الأسرى.
أمنن عليّ اليوم يا خير معد * وخير من حل بشحر والجند
وخير من لبى وصام وسجد
قال: فبعث إلى السجن فاعتقله ليلة، ثم أطلقه من الغد، فأقبل إلى المختار وهو يقول:
ألا أخبر أبا إسحاق أنا * نزونا نزوةً كانت علينا
خرجنا لا نرى الضعفاء شيئا * وكان خروجنا بطرا وشينا
نراهم في مصافهم قليلا * وهم مثل الربا حين التقينا
برزنا إذ رأيناهم فلما * رأينا القوم قد برزوا إلينا
رأينا منهم ضربا وطحنا * وطعنا صائبا حتى انثنينا
نصرت على عدوك كل يومٍ * بكل كثيبةٍ تنعى حسينا
كنصر محمدٍ في يوم بدرٍ * ويوم الشعب إذ لاقى حُنينا
فاسجح إذ ملكت فلو ملكنا * لجرنا في الحكومة واعتدينا
تقبل توبةً مني فإني * سأشكر إذ جعلت العفو دينا
وجعل سراقة بن مرداس يحلف أنه رأى الملائكة على الخيول البلق بين السماء والأرض، وأنه لم يأسره إلا واحد من أولئك الملائكة، فأمره المختار أن يصعد المنبر فيخبر الناس بذلك.
فصعد المنبر فأخبر الناس بذلك، فلما نزل خلا به المختار، فقال له: إني قد عرفت أنك لم تر الملائكة، وإنما أردت بقولك هذا: أني لا أقتلك، ولست أقتلك فاذهب حيث شئت لئلا تفسد على أصحابي.
فذهب سراقة إلى البصرة إلى مصعب بن الزبير وجعل يقول:
ألا أخبر أبا إسحاق أني * رأيت البلق دهما مصمتات
كفرت بوحيكم وجعلت نذرا * عليّ قتالكم حتى الممات
رأيت عيناي ما لم تبصراه * كلانا عالمٌ بالترهات
إذا قالوا: أقول لهم كذبتم * وإن خرجوا لبست لهم أداتي
قالوا: ثم خطب المختار أصحابه فحرضهم في خطبته تلك على من قتل الحسين من أهل الكوفة المقيمين بها، فقالوا: ما ذنبنا نترك أقواما قتلوا حسينا يمشون في الدنيا أحياء آمنين، بئس ناصرو آل محمد، إني إذا كذاب كما سميتموني أنتم، فإني بالله أستعين عليهم.
فالحمد لله الذي جعلني سيفا أضربهم، ورمحا أطعنهم، وطالب وترهم، وقائما بحقهم، وأنه كان حقا على الله أن يقتل من قتلهم، وأن يذل من جهل حقهم، فسموهم ثم اتبعوهم حتى تقتلوهم، فإنه لا يسيغ لي الطعام والشراب حتى أطهر الأرض منهم، وأنفي من في المصر منهم.
ثم جعل يتتبع من في الكوفة - وكانوا يأتون بهم حتى يوقفوا بين يديه، فيأمر بقتلهم على أنواع من القتلات مما يناسب ما فعلوا -.
ومنهم من حرقه بالنار، ومنهم من قطع أطرافه وتركه حتى مات، ومنهم من يرمى بالنبال حتى يموت، فأتوه بمالك ابن بشر فقال له المختار: أنت الذي نزعت برنس الحسين عنه؟
فقال: خرجنا ونحن كارهون فامنن علينا.
فقال: اقطعوا يديه ورجليه.
ففعلوا به ذلك ثم تركوه يضطرب حتى مات، وقتل عبد الله بن أسيد الجهني وغيره شر قتلة.