انتقل إلى المحتوى

البداية والنهاية/الجزء الثالث عشر/صفحة واحدة

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة



بسم الله الرحمن الرحيم

ثم دخلت سنة تسع وثمانين وخمسمائة

فيها: كانت وفاة السلطان الملك الناصر صلاح الدين يوسف بن أيوب رحمه الله تعالى.

استهلت هذه السنة وهو في غاية الصحة والسلامة، وخرج هو وأخوه العادل إلى الصيد شرقي دمشق، وقد اتفق الحال بينه وبين أخيه أنه بعد ما يفرغ من أمر الفرنج يسير هو إلى بلاد الروم، ويبعث أخاه إلى بغداد، فإذا فرغا من شأنهما سارا جميعا إلى بلاد أذربيجان، بلاد العجم، فإنه ليس دونها أحد يمانع عنها.

فلما قدم الحجيج في يوم الاثنين حادي عشر صفر خرج السلطان لتلقيهم، وكان معه ابن أخيه سيف الإسلام، صاحب اليمن، فأكرمه والتزمه، وعاد إلى القلعة فدخلها من باب الجديد، فكان ذلك آخر ما ركب في هذه الدنيا.

ثم إنه اعتراه حمى صفراوية ليلة السبت سادس عشر صفر، فلما أصبح دخل عليه القاضي الفاضل وابن شداد وابنه الأفضل، فأخذ يشكو إليهم كثرة قلقه البارحة، وطاب له الحديث، وطال مجلسهم عنده.

ثم تزايد به المرض واستمر، وقصده الأطباء في اليوم الرابع، ثم اعتراه يبس وحصل له عرق شديد بحيث نفذ إلى الأرض، ثم قوي اليبس فأحضر الأمراء الأكابر فبويع لولده الأفضل نور الدين علي.

وكان نائبا على دمشق، وذلك عندما ظهرت مخايل الضعف الشديد، وغيبوبة الذهن في بعض الأوقات، وكان الذين يدخلون عليه في هذه الحال الفاضل وابن شداد وقاضي البلد بن الزكي.

ثم اشتد به الحال ليلة الأربعاء السابع والعشرين من صفر، واستدعى الشيخ أبا جعفر إمام الكلاسة ليبيت عنده يقرأ القرآن ويلقنه الشهادة إذا جد به الأمر، فذكر أنه كان يقرأ عنده وهو في الغمرات فقرأ { هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ } 1.

فقال: وهو كذلك صحيح.

فلما أذن الصبح جاء القاضي الفاضل فدخل عليه وهو في آخر رمق، فلما قرأ القارئ { لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ } 2

تبسم وتهلل وجهه وأسلم روحه إلى ربه سبحانه، ومات رحمه الله، وأكرم مثواه، وجعل جنات الفردوس مأواه.

وكان له من العمر سبع وخمسون سنة، لأنه ولد بتكريت في شهور سنة ثنتين وثلاثين وخمسمائة، رحمه الله، فقد كان ردءا للإسلام وحرزا وكهفا من كيد الكفرة اللئام، وذلك بتوفيق الله له.

وكان أهل دمشق لم يصابوا بمثل مصابه، وود كل منهم لو فداه بأولاده وأحبابه وأصحابه، وقد غلقت الأسواق واحتفظ على الحواصل، ثم أخذوا في تجهيزه، وحضر جميع أولاده وأهله، وكان الذي تولى غسله خطيب البلد الفقيه الدولعي.

وكان الذي أحضر الكفن ومؤنة التجهيز القاضي الفاضل من صلب ماله الحلال، هذا وأولاده الكبار والصغار يتباكون وينادون، وأخذ الناس في العويل والانتحاب والدعاء له والابتهال، ثم أبرز جسمه في نعشه في تابوت بعد صلاة الظهر.

وأمّ الناس عليه القاضي ابن الزكي ثم دفن في داره بالقلعة المنصورة، ثم شرع ابنه في بناء تربة له ومدرسة للشافعية بالقرب من مسجد القدم، لوصيته بذلك قديما، فلم يكمل بناؤها، وذلك حين قدم ولده العزيز وكان محاصرا لأخيه الأفضل كما سيأتي بيانه في سنة تسعين وخمسمائة.

ثم اشترى له الأفضل دارا شمالي الكلاسة في وزان ما زاده القاضي الفاضل في الكلاسة، فجعلها تربة، هطلت سحائب الرحمة عليها، ووصلت ألطاف الرأفة إليها.

وكان نقله إليها في يوم عاشوراء سنة اثنتين وتسعين، وصلى عليه تحت النسر قاضي القضاة محمد بن علي القرابي ابن الزكي، عن إذن الأفضل، ودخل في لحده ولده الأفضل فدفنه بنفسه، وهو يومئذ سلطان الشام.

ويقال: إنه دفن معه سيفه الذي كان يحضر به الجهاد، وذلك عن أمر القاضي الفاضل، وتفاءلوا بأنه يكون معه يوم القيامة يتوكأ عليه، حتى يدخل الجنة إن شاء الله.

ثم عمل عزاؤه بالجامع الأموي ثلاثة أيام، يحضره الخاص والعام، والرعية والحكام، وقد عمل الشعراء فيه مراثي كثيرة من أحسنها ما عمله العماد الكاتب في آخر كتابه البرق السامي، وهي مائتا بيت واثنان، وقد سردها الشيخ شهاب الدين أبو شامة في الروضتين، منها قوله:

شمل الهدى والملك عمّ شتاته ** والدهر ساء وأقلعت حسناته

أين الذي مذ لم يزل مخشيّة ** مرجوةً رهباته وهباته؟

أين الذي كانت له طاعاتنا ** مبذولةً ولربه طاعاته

بالله أين الناصر الملك الذي ** لله خالصةً صفتْ نياته؟

أين الذي ما زال سلطانا لنا ** يرجى نداه وتتقى سطواته؟

أين الذي شرف الزمان بفضله ** وسمت على الفضلاء تشريفاته؟

أين الذي عنت الفرنج لبأسه ** ذلا، ومنها أدركت ثاراته؟

أغلال أعناق العدا أسيافه ** أطواق أجياد الورى مناته

من للعلى من للذرى من للهدى ** يحميه؟ من للبأس من للنائل؟

طلب البقاء لملكه في آجلٍ ** إذ لم يثق ببقاء ملكٍ عاجل

بحرٌ أعاد البر بحرا بره ** وبسيفه فتحت بلاد الساحل

من كان أهل الحق في أيامه ** وبعزه يردون أهل الباطل

وفتوحه والقدس من أبكارها ** أبقت له فضلا بغير مساجل

ما كنت استسقي لقبرك وابلا ** ورأيت جودك مخجلا للوابل

فسقاك رضوان الإله لأنني ** لا أرتضي سقيا الغمام الهاطل

تركته وشيء من ترجمته

قال العماد وغيره: لم يترك في خزانته من الذهب سوى جرم واحد - أي دينار واحد - صوريا وستة وثلاثين درهما.

وقال غيره: سبعة وأربعين درهما، ولم يترك دارا ولا عقارا ولا مزرعة ولا بستانا، ولا شيئا من أنواع الأملاك.

هذا وله من الأولاد سبعة عشر ذكرا وابنة واحدة، وتوفي له في حياته غيرهم، والذين تأخروا بعده ستة عشر ذكرا أكبرهم الملك الأفضل نور الدين علي، ولد بمصر سنة خمس وستين ليلة عيد الفطر.

ثم العزيز عماد الدين أبو الفتح عثمان ولد بمصر أيضا في جمادى الأولى سنة سبع وستين.

ثم الظافر مظفر الدين أبو العباس الخضر، ولد بمصر في شعبان سنة ثمان وستين، وهو شقيق الأفضل.

ثم الظاهر غياث الدين أبو منصور غازي، ولد بمصر في نصف رمضان سنة ثمان وستين.

ثم العزيز فتح الدين أبو يعقوب إسحاق، ولد بدمشق في ربيع الأول سنة سبعين.

ثم نجم الدين أبو الفتح مسعود، ولد بدمشق سنة إحدى وسبعين وهو شقيق العزيز.

ثم الأغر شرف الدين أبو يوسف يعقوب، ولد بمصر سنة ثنتين وسبعين، وهو شقيق العزيز أيضا.

ثم الزاهر مجير الدين أبو سليمان داود، ولد بمصر سنة ثلاث وسبعين وهو شقيق الظاهر.

ثم أبو الفضل قطب الدين موسى، وهو شقيق الأفضل، ولد بمصر سنة ثلاث وسبعين أيضا، ثم لقب بالمظفر أيضا.

ثم الأشرف معز الدين أبو عبد الله محمد، ولد بالشام سنة خمس وسبعين.

ثم المحسن ظهير الدين أبو العباس أحمد ولد بمصر سنة سبع وسبعين، وهو شقيق الذي قبله.

ثم المعظم فخر الدين أبو منصور توران شاه ولد بمصر في ربيع الأول سنة سبع وسبعين، وتأخرت وفاته إلى سنة ثمان وخمسين وستمائة.

ثم الجوال ركن الدين أبو سعيد أيوب ولد سنة ثمان وسبعين، وهو شقيق للمعز.

ثم الغالب نصير الدين أبو الفتح ملك شاه، ولد في رجب سنة ثمان وسبعين وهو شقيق المعظم.

ثم المنصور أبو بكر أخو المعظم لأبويه، ولد بحران بعد وفاة السلطان.

ثم عماد الدين شادي لأم ولد، ونصير الدين مروان لأم ولد أيضا.

وأما البنت فهي مؤنسة خاتون تزوجها ابن عمها الملك الكامل محمد بن العادل أبي بكر بن أيوب رحمهم الله تعالى.

وإنما لم يخلف أموالا ولا أملاكا لجوده وكرمه وإحسانه إلى أمرائه وغيرهم، حتى إلى أعدائه، وقد تقدم من ذلك ما يكفي، وقد كان متقللا في ملبسه، ومأكله ومركبه.

وكان لا يلبس إلا القطن والكتان والصوف، ولا يعرف أنه تخطى إلى مكروه، ولا سيما بعد أن أنعم الله عليه بالملك، بل كان همه الأكبر ومقصده الأعظم نصره الإسلام، وكسر أعدائه اللئام، وكان يعمل رأيه في ذلك وحده، ومع من يثق به ليلا ونهارا، وهذا مع ما لديه من الفضائل والفواضل، والفوائد الفرائد، في اللغة والأدب وأيام الناس.

حتى قيل إنه كان يحفظ الحماسة بتمامها، وكان مواظبا على الصلوات في أوقاتها في الجماعة، يقال: إنه لم تفته الجماعة في صلاة قبل وفاته بدهر طويل، حتى ولا في مرض موته، كان يدخل الإمام فيصلي به، فكان يتجشم القيام مع ضعفه.

وكان يفهم ما يقال بين يديه من البحث والمناظرة، ويشارك في ذلك مشاركة قريبة حسنة، وإن لم يكن بالعبارة المصطلح عليها، وكان قد جمع له القطب النيسابوري عقيدة فكان يحفظها ويحفظها من عقل من أولاده.

وكان يحب سماع القرآن والحديث والعلم، ويواظب على سماع الحديث، حتى أنه يسمع في بعض مصافه جزء وهو بين الصفين فكان يتبحبح بذلك ويقول هذا موقف لم يسمع أحد في مثله حديثا، وكان ذلك بإشارة العماد الكاتب.

وكان رقيق القلب سريع الدمعة عند سماع الحديث، وكان كثير التعظيم لشرائع الدين.

كان قد صحب ولده الظاهر وهو بحلب شاب يقال له الشهاب السهروردي، وكان يعرف الكيميا وشيئا من الشعبذة والأبواب النيرنجيات، فافتتن به ولد السلطان الظاهر، وقربه وأحبه، وخالف فيه حملة الشرع، فكتب إليه أن يقتله لا محالة، فصلبه عن أمر والده وشهره.

ويقال بل حبسه بين حيطين حتى مات كمدا، وذلك في سنة ست وثمانين وخمسمائة، وكان من أشجع الناس وأقواهم بدنا وقلبا، مع ما كان يعتري جسمه من الأمراض والأسقام، ولا سيما في حصار عكا، فإنه كان مع كثرة جموعهم وأمدادهم لا يزيده ذلك إلا قوة وشجاعة، وقد بلغت جموعهم خمسمائة ألف مقاتل، ويقال: ستمائة ألف، فقتل منهم مائة ألف مقاتل.

ولما انفصل الحرب وتسلموا عكا وقتلوا من كان بها من المسلمين وساروا برمتهم إلى القدس جعل يسايرهم منزلة منزلة، وجيوشهم أضعاف أضعاف من معه، ومع هذا نصره الله وخذلهم، وسبقهم إلى القدس فصانه وحماه منهم، ولم يزل بجيشه مقيما به يرهبهم ويرعبهم ويغلبهم ويسلبهم حتى تضرعوا إليه وخضعوا لديه، ودخلوا عليه في الصلح، وأن تضع الحرب أوزارها بينهم وبينه، فأجابهم إلى ما سألوا على الوجه الذي أراده، لا على ما يريدونه، وكان ذلك من جملة الرحمة التي رحم الله بها المؤمنين.

فإنه ما انقضت تلك لسنون حتى ملك البلاد أخوه العادل فعز به المسلمون وذل به الكافرون، وكان سخيا جبيا ضحوك الوجه كثير البشر، لا يتضجر من خير يفعله، شديد المصابرة على الخيرات والطاعات، فرحمه الله وقد ذكر الشيخ شهاب الدين أبو شامة طرفا صالحا من سيرته وأيامه، وعدله في سريرته وعلانيته، وأحكامه.

وكان قد قسم البلاد بين أولاده، فالديار المصرية لولده العزيز عماد الدين أبي الفتح، ودمشق وما حولها لولده الأفضل نور الدين علي، وهو أكبر أولاده، والمملكة الحلبية لولده الظاهر غازي غياث الدين، ولأخيه العادل الكرك والشوبك وبلاد جعبر وبلدان كثيرة قاطع الفرات. وحماه ومعاملة أخرى معها للملك المنصور محمد بن تقي الدين عمر بن أخي السلطان، وحمص والرحبة وغيرها لأسد الدين بن شيركوه بن ناصر الدين بن محمد بن أسد الدين شيركوه الكبير، نجم الدين أخي أبيه نجم الدين أيوب.

واليمن بمعاقله ومخالفيه جميعه في قبضة السلطان ظهير الدين سيف الإسلام طغتكين بن أيوب، أخي السلطان صلاح الدين، وبعلبك وأعمالها للأمجد بهرام شاه بن فروخ شاه، وبصرى وأعمالها للظافر بن الناصر.

ثم شرعت الأمور بعد موت صلاح الدين تضطرب وتختلف في جميع هذه الممالك، حتى آل الأمر واستقرت الممالك واجتمعت الكلمة على الملك العادل أبي بكر صلاح الدين، وصارت المملكة في أولاده كما سيأتي قريبا إن شاء الله تعالى.

وفيها: جدد الخليفة الناصر لدين الله خزانة كتب المدرسة النظامية ببغداد، ونقل إليها ألوفا من الكتب الحسنة المثمنة، وفي المحرم منها جرت ببغداد كائنة غريبة وهي أن ابنة لرجل من التجار في الطحين عشقت غلام أبيها فلما علم أبوها بأمرها طرد الغلام من داره فواعدته البنت ذات ليلة أن يأتيها فجاء إليها مختفيا فتركته في بعض الدار.

فلما جاء أبوها في أثناء الليل أمرته فنزل فقتله، وأمرته بقتل أمها وهي حبلى، وأعطته الجارية حليا بقيمة ألفي دينار، فأصبح أمره عند الشرطة فمسك وقتل قبحه الله، وقد كان سيده من خيار الناس وأكثرهم صدقة وبرا، وكان شابا وضيء الوجه رحمه الله.

وفيها: درّس بالمدرسة الجديدة عند قبر معروف الكرخي الشيخ أبو علي التويابي وحضر عنده القضاة والأعيان، وعمل بها دعوة حافلة.

من الأعيان:

السلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب

ابن شاذي، وقد تقدمت وفاته مبسوطة.

الأمير بكتمر صاحب خلاط

قتل في هذه السنة، وكان من خيار الملوك وأشجعهم وأحسنهم سيرة رحمه الله.

الأتابك عز الدين مسعود

ابن مودود بن زنكي، صاحب الموصل نحوا من ثلاث عشرة سنة، من خيار الملوك، كان بنسبه نور الدين الشهيد عمه، ودفن بتربته عند مدرسة أنشأها بالموصل أثابه الله.

جعفر بن محمد بن فطيرا

أبو الحسن أحد الكتاب بالعراق، كان ينسب إلى التشيع، وهذا كثير في أهل تلك البلاد لا أكثر الله منهم، جاءه رجل ذات يوم فقال له رأيت البارحة أمير المؤمنين عليا في المنام.

فقال لي: اذهب إلى ابن فطيرا فقل له يعطيك عشرة دنانير.

فقال له ابن فطيرا: متى رأيته؟

قال: أول الليل.

فقال ابن فطيرا وأنا رأيته آخر الليل فقال لي: إذا جاءك رجل من صفته كذا وكذا فطلب منك شيئا فلا تعطه، فأدبر الرجل موليا فاستدعاه ووهبه شيئا.

ومن شعره فيما أورده ابن الساعي وقد تقدم ذلك لغيره:

ولما سبرت الناس أطلب منهم ** أخا ثقةٍ عند اعتراض الشدائد

وفكرت في يومي سروري وشدتي ** وناديت في الأحياء هل من مساعد؟

فلم أر فيما ساءني غير شامتٍ ** ولم أر فما سرني غير حاسد

يحيى بن سعيد بن غازي

أبو العباس البصري النجراني صاحب المقامات، كان شاعرا أديبا فاضلا بليغا، له اليد الطولى في اللغة والنظم، ومن شعره قوله:

غناء خودٍ ينساب لطفا ** بلا عناءٍ في كل أذن

ما رده قط باب سمعٍ ** ولا أتى زائرا بإذن

السيدة زبيدة بنت الإمام المقتفي لأمر الله

أخت المستنجد وعمة المستضيء، كانت قد عمرت طويلا ولها صدقات كثيرة دارة، وقد تزوجها في وقت السلطان مسعود على صداق مائة ألف دينار، فتوفي قبل أن يدخل بها، وقد كانت كارهة لذلك، فحصل مقصودها وطلبتها.

الشيخة الصالحة فاطمة خاتون

بنت محمد بن الحسن العميد، كانت عابدة زاهدة، عمرت مائة سنة وست سنين، كان قد تزوجها في وقت أمير الجيوش مطر وهي بكر، فبقيت عنده إلى أن توفي ولم تتزوج بعده، بل اشتغلت بذكر الله عز وجل والعبادة، رحمها الله.

وفيها: أنفذ الخليفة الناصر العباسي إلى الشيخ أبي الفرج بن الجوزي يطلب منه أن يزيد على أبيات عدي بن زيد المشهورة ما يناسبها من الشعر، ولو بلغ ذلك عشر مجلدات، وهي هذه الأبيات:

أيها الشامت المعير بالدهـ ** ـر أأنت المبرأ الموفور

أم لديك العهد الوثيق من الـ ** أيام، بل أنت جاهلٌ مغرور

من رأيت المنون خلدت أم من ** ذا عليه من أن يضام خفير

أين كسرى كسر الملوك أبو ** ساسان أم أين قبله سابور؟

وبنوا الأصفر الملوك ملوك الر ** وم لم يبق منهم مذكور

وأخو الحضر إذ بناه وإذ ** دجلة تجبى إليه والخابور

شاده مرمرا وجلله كلسا ** فللطير في ذراه وكور

لم تهبه ريب المنون فزا ** ل الملك عنه فبابه مهجور

وتذكر رب الخورنق إذ ** أشرف يوما وللهندي تكفير

سره حاله وكثرة ما ** يملك والبحر معرضا والسدير

فارعوى قلبه وقال وما ** غبطة حي إلى الممات يصير

ثم بعد النعيم والملك والنهي والـ ** أمر وارتهم هناك قبور

ثم أضحوا كأنهم أورق جفـ ** ـت فألوت بها الصبا والدبور

غير أن الأيام تختص بالمرء ** وفيها لعمري العظات والتفكير

ثم دخلت سنة تسعين وخمسمائة

لما استقر الملك الأفضل بن صلاح الدين مكان أبيه بدمشق، بعث بهدايا سنية إلى باب الخليفة الناصر، من ذلك سلاح أبيه وحصانه الذي كان يحضر عليه الغزوات.

ومنها صليب الصلبوت الذي استلبه أبوه من الفرنج يوم حطين، وفيه من الذهب ما ينيف على عشرين رطلا مرصعا بالجواهر النفيسة، وأربع جواري من بنات ملوك الفرنج، وأنشأ له العماد الكاتب كتابا حافلا يذكر فيه التعزية بأبيه، والسؤال من الخليفة أن يكون في الملك من بعده، فأجيب إلى ذلك.

ولما كان شهر جمادى الأولى قدم العزيز صاحب مصر إلى دمشق ليأخذها من أخيه الأفضل فخيم على الكسوة يوم السبت سادس جمادى، وحاصر البلد، فمانعه أخوه ودافعه عنها، فقطع الأنهار ونهبت الثمار، وأشتد الحال، ولم يزل الأمر كذلك حتى قدم العادل عمهما فأصلح بينهما.

ورد الأمر للألفة بعد اليمين على أن يكون للعزيز القدس وما جاور فلسطين من ناحيته أيضا، وعلى أن يكون جبلة واللاذقية للظاهر صاحب حلب، وأن يكون لعمهما العادل أقطاعه الأول ببلاد مصر مضافا إلى ما بيده من الشام، والجزيرة، كحران، والرها، وجعبر وما جاور ذلك.

فاتفقوا على ذلك، وتزوج العزيز بابنة عمه العادل، ومرض ثم عوفي وهو مخيم بمرج الصفر، وخرجت الملوك لتهنئته بالعافية والتزويج والصلح، ثم كر راجعا إلى مصر لطول شوقه إلى أهله وأولاده، وكان الأفضل بعد موت أبيه قد أساء التدبير فأبعد أمراء أبيه وخواصه، وقرب الأجانب وأقبل على شرب المسكر واللهو واللعب.

واستحوذ عليه وزيره ضياء الدين ابن الأثير الجزري، وهو الذي كان يحدوه إلى ذلك، فتلف وأتلفه، وأضل وأضله، وزالت النعمة عنهما كما سيأتي.

وفيها: كانت وقعة عظيمة بين شهاب الدين ملك غزنة وبين كفار الهند، أقبلوا إليه في ألف ألف مقاتل، ومعهم سبعمائة فيل منها فيل أبيض لم ير مثله، فالتقوا فاقتتلوا قتالا شديدا لم ير مثله.

فهزمهم شهاب الدين عند نهر عظيم يقال له الملاحون، وقتل ملكهم واستحوذ على حواصله وحواصل بلاده وغنم فيلتهم ودخل بلد الملك الكبرى، فحمل من خزانته ذهبا وغيره على ألف وأربعمائة جمل، ثم عاد إلى بلاده سالما منصورا.

وفيها: ملك السلطان خوارزم شاه تكش - ويقال له ابن الأصباعي - بلاد الري وغيرها، واصطلح مع السلطان طغرلبك السلجوقي وكان قد تسلم بلاد الري وسائر مملكة أخيه سلطان شاه وخزائنه، وعظم شأنه، ثم التقى هو والسلطان طغرلبك في ربيع الأول من هذه السنة.

فقتل السلطان طغرلبك، وأرسل رأسه إلى الخليفة، فعلق على باب النوبة عدة أيام، وأرسل الخليفة الخلع والتقاليد إلى السلطان خوارزم شاه، وملك همدان وغيرها من البلاد المتسعة.

وفيها: نقم الخليفة على الشيخ أبي الفرج بن الجوزي وغضب عليه، ونفاه إلى واسط، فمكث بها خمسة أيام لم يأكل طعاما، وأقام بها خمسة أعوام يخدم نفسه ويستقي لنفسه الماء، وكان شيخا كبيرا قد بلغ ثمانين سنة، وكان يتلو في كل يوم وليلة ختمة.

قال: ولم أقرأ يوسف لوجدي على ولدي يوسف، إلى أن فرج الله كما سيأتي إن شاء الله.

وفيها توفي من الأعيان:

أحمد بن إسماعيل بن يوسف أبو الخير القزويني الشافعي المفسر

قدم بغداد ووعظ بالنظامية، وكان يذهب إلى قوم الأشعري في الأصول، وجلس في يوم عاشوراء فقيل له: العن يزيد بن معاوية.

فقال: ذاك إمام مجتهد، فرماه الناس بالآجر فاختفى ثم هرب إلى قزوين.

ابن الشاطبي ناظم الشاطبية

أبو محمد القاسم بن فيرة بن أبي القاسم خلف بن أحمد الرعيني الشاطبي الضرير، مصنف (الشاطبية) في القراءات السبع، فلم يسبق إليها ولا يلحق فيها، وفيها من الرموز كنوز لا يهتدي إليها إلا كل ناقد بصير، هذا مع أنه ضرير ولد سنة ثمان وثلاثين وخمسمائة.

وبلده شاطبة - قرية شرقي الأندلس -كان فقيرا، وقد أريد أن يلي خطابة بلده فامتنع من ذلك لأجل مبالغة الخطباء على المنابر في وصف الملوك، خرج الشاطبي إلى الحج فقدم الإسكندرية سنة ثنتين وسبعين وخمسمائة.

وسمع على السلفي وولاه القاضي الفاضل مشيخة الإقراء بمدرسته، وزار القدس وصام به شهر رمضان، ثم رجع إلى القاهرة، فكانت وفاته بها في جمادى الآخرة من هذه السنة، ودفن بالقرافة بالقرب من التربة الفاضلية، وكان دينا خاشعا ناسكا كثير الوقار، لا يتكلم فيما لا يعنيه، وكان يتمثل كثيرا بهذه الأبيات، وهي لغز في النعش، وهي لغيره:

أتعرف شيئا في السماء يطير ** إذا سار هاج الناس حيث يسير

فتلقاه مركوبا وتلقاه راكبا ** وكل أمير يعتليه أسير

يحث على التقوى ويكره قربه ** وتنفر منه النفس وهو نذير

ولم يستزر عن رغبة في زيارة ** ولكن على رغم المزور يزور

ثم دخلت سنة إحدى وتسعين وخمسمائة

فيها: كانت وقعة الزلاقة ببلاد الأندلس شمالي قرطبة، بمرج الحديد، كانت وقعة عظيمة نصر الله فيها الإسلام وخذل فيها عبدة الصلبان.

وذلك أن القيش ملك الفرنج ببلاد الأندلس، ومقر ملكه بمدينة طليطلة، كتب إلى الأمير يعقوب بن يوسف بن عبد المؤمن ملك الغرب يستنخيه ويستدعيه ويستحثه إليه، ليكون من بعض من يخضع له في مثالبه وفي قتاله، في كلام طويل فيه تأنيب وتهديد ووعيد شديد.

فكتب السلطان يعقوب بن يوسف في رأس كتابه فوق خطه: { ارْجِعْ إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لَا قِبَلَ لَهُمْ بِهَا وَلَنُخْرِجَنَّهُمْ مِنْهَا أَذِلَّةً وَهُمْ صَاغِرُونَ } 3.

ثم نهض من فوره في جنوده وعساكره، حتى قطع الزقاق إلى الأندلس، فالتقوا في المحل المذكور، فكانت الدائرة أولا على المسلمين، فقتل منهم عشرون ألفا، ثم كانت أخيرا على الكافرين فهزمهم الله وكسرهم وخذلهم أقبح كسرة، وشر هزيمة وأشنعها.

فقتل منهم مائة ألف وثلاثة وأربعون ألفا، وأسر منهم ثلاثة عشر ألفا، وغنم المسلمون منهم شيئا كثيرا، من ذلك مائة ألف خيمة وثلاثة وأربعون خيمة، ومن الخيل ستة وأربعون ألف فرس؛

ومن البغال مائة ألف بغل، ومن الحمر مثلها، ومن السلاح التام سبعون ألفا، ومن العدد شيء كثير، وملك عليهم من حصونهم شيئا كثيرا، وحاصر مدينتهم طليطلة مدة، ثم لم يفتحها فانفصل عنها راجعا إلى بلاده.

ولما حصل للقيش ما حصل حلق لحيته ورأسه ونكس صليبه وركب حمارا وحلف لا يركب فرسا ولا يتلذذ بطعام ولا ينام مع امرأة حتى تنصره النصرانية.

ثم طاف على ملوك الفرنج فجمع من الجنود ما لا يعلمه إلا الله عز وجل، فاستعد له السلطان يعقوب فالتقيا فاقتتلا قتالا عظيما لم يسمع بمثله، فانهزم الفرنج أقبح من هزيمتهم الأولى، وغنموا منهم نظير ما تقدم أو أكثر، واستحوذ السلطان على كثير من معاملهم وقلاعهم، ولله الحمد والمنة.

حتى قيل إنه بيع الأسير بدرهم، والحصان بخمسة دراهم، والخيمة بدرهم، والسيف بدون ذلك ثم قسم السلطان هذه الغنائم على الوجه الشرعي، فاستغنى المجاهدون إلى الأبد، ثم طلبت الفرنج من السلطان الأمان فهادنهم على وضع الحرب خمس سنين، وإنما حمله على ذلك أن رجلا يقال له علي بن إسحاق التوزي الذي يقال له المكلثم، ظهر ببلاد إفريقية فأحدث أمورا فظيعة في غيبة السلطان، واشتغاله بقتال الفرنج مدة ثلاث سنين.

فأحدث هذا المارق التوزي بالبادية حوادث، وعاث في الأرض فسادا، وقتل خلقا كثيرا، وتملك بلادا.

وفي هذه السنة والتي قبلها استحوذ جيش الخليفة على بلاد الري وأصبهان وهمدان وخوزستان وغيرها من البلاد، وقوي جانب الخلافة على الملوك والممالك.

وفيها: خرج العزيز من مصر قاصدا دمشق ليأخذها من يد أخيه الأفضل، وكان الأفضل قد تاب وأناب وأقلع عما كان فيه من الشراب واللهو واللعب، وأقبل على الصيام والصلاة، وشرع بكتابة مصحف بيده، وحسنت طريقته، غير أن وزيره الضيا الجزري يفسد عليه دولته، ويكدر عليه صفوته.

فلما بلغ الأفضل إقبال أخيه نحوه سار سريعا إلى عمه العادل وهو بجعبر فاستنجده فسار معه وسبقه إلى دمشق، وراح الأفضل أيضا إلى أخيه الظاهر بحلب، فسارا جميعا نحو دمشق.

فلما سمع العزيز بذلك وقد اقترب من دمشق، كر راجعا سريعا إلى مصر، وركب وراءه العادل والأفضل ليأخذا منه مصر، وقد اتفقا على أن يكون ثلث مصر للعادل وثلثاها للأفضل، ثم بدا للعادل في ذلك فأرسل للعزيز يثبته، وأقبل على الأفضل يثبطه.

وأقاما على بلبيس أياما حتى خرج إليهما القاضي الفاضل من جهة العزيز، فوقع الصلح على أن يرجع القدس ومعاملتها للأفضل، ويستقر العادل مقيما بمصر على إقطاعه القديم، فأقام العادل بها طمعا فيها ورجع العادل إلى دمشق بعدما خرج العزيز لتوديعه، وهي هدنة على قذا، وصلح على دخن.

وفيها توفي من الأعيان:

علي بن حسان بن سافر

أبو الحسن الكاتب البغدادي، كان أديبا شاعرا. من شعره قوله:

نفى رقادي ومضى ** برق بسلع ومضا

لاح كما سلت يد الـ ** أسود عضبا أبيضا

كأنه الأشهب في ** النقع إذا ما ركضا

يبدو كما تختلف الر ** يح على جمر الغضا

فتحسب الريح أبـ **ـدا نظرا و غمضا

أو شعلة النار علا ** لهيبها وانخفضا

آهٍ له من بارقٍ ** ضاء على ذات الأضا

أذكرني عهدا مضى ** على الغوير وانقضى

فقال لي قلبي أتو ** صي حاجة وأعرضا

يطلب من أمرضه ** فديت ذاك الممرضا

يا غرض القلب لقد ** غادرت قلبي غرضا

لأسهمٍ كأنما ** يرسلها صرف القضا

فبت لا أرتاب في ** أنَّ رقادي قد قضى

حتى قفا الـليل وكاد ** الـليل أن ينقرضا

وأقبل الصبح لأطـ ** ـراف الدجا مبيضا

وسل في الشرق على الغـ ** ـرب ضياء وانقضى

ثم دخلت سنة ثنتين و تسعين وخمسمائة

في رجب منها أقبل العزيز من مصر ومعه عمه العادل في عساكر، ودخلا دمشق قهرا، وأخرجا منها الأفضل ووزيره الذي أساء تدبيره، وصلى العزيز عند تربة والده صلاح، وخطب له بدمشق، ودخل القلعة المنصورة في يوم وجلس في دار العدل للحكم والفصل، وكل هذا وأخوه الأفضل حاضر عنده في الخدمة، وأمر القاضي محيي الدين بن الزكي بتأسيس المدرسة العزيزية إلى جانب تربة أبيه وكانت دارا للأمير عز الدين شامة.

ثم استناب على دمشق عمه الملك العادل ورجع إلى مصر يوم الاثنتين تاسع شوال، والسكة والخطبة بدمشق له، وصولح الأفضل على صرخد، وهرب وزيره ابن الأثير الجزري إلى جزيرته، وقد أتلف نفسه ومُلكه، وملكه بجريرته، وانتقل الأفضل إلى صرخد بأهله وأولاده، وأخيه قطب الدين.

وفي هذه السنة هبت ريح شديدة سوداء مدلهمة بأرض العراق ومعها رمل أحمر، حتى احتاج الناس إلى السرج بالنهار.

وفيها: ولى قوام الدين أبو طالب يحيى بن سعد بن زيادة كتاب (الإنشاء) ببغداد، وكان بليغا، وليس هو كالفاضل.

وفيها: درّس مجير الدين أبو القاسم محمود بن المبارك بالنظامية، وكان فاضلا مناظرا.

وفيها قتل رئيس الشافعية بأصبهان

محمود بن عبد اللطيف بن محمد بن ثابت الخُجندي قتله ملك الدين سنقر الطويل، وكان ذلك سبب زوال ملك أصبهان عن الديوان.

وفيها مات الوزير وزير الخلافة مؤيد الدين أبو الفضل محمد بن علي بن القصاب

وكان أبوه يبيع اللحم في بعض أسواق بغداد.

فتقدم ابنه وساد أهل زمانه.

توفي بهمدان وقد أعاد رساتيق كثيرة من بلاد العراق وخراسان وغيرها، إلى ديوان الخلافة، وكان ناهضا ذا همة وله صرامة وشعر جيد.

وفيها توفي:

الفخر محمود بن علي

التوقاني الشافعي، عائدا من الحج.

أبو الغنائم محمد بن علي

ابن المعلم الهرثي من قرى واسط، عن إحدى وتسعين سنة، وكان شاعرا فصيحا، وكان ابن الجوزي في مجالسه يستشهد بشيء من لطائف أشعاره، وقد أورد ابن الساعي قطعة جيدة من شعره الحسن المليح.

وفيها توفي:

الفقيه أبو الحسن علي بن سعيد

ابن الحسن البغدادي المعروف بابن العريف، ويلقب بالبيع الفاسد، كان حنبليا ثم اشتغل شافعيا على أبي القاسم بن فضلان، وهو الذي لقبه بذلك لكثرة تكراره على هذه المسألة بين الشافعية والحنفية، ويقال إنه صار بعد هذا كله إلى مذهب الإمامية فالله أعلم.

وفيها توفي:

الشيخ أبو شجاع

محمد بن علي بن مغيث بن الدهان الفرضي الحاسب المؤرخ البغدادي، قدم دمشق وامتدح الكندي أبو اليمن زيد بن الحسن فقال:

يا زيد زادك ربي من مواهبه ** نعما يقصر عن إدراكها الأمل

لا بدل الله حالا قد حباك بها ** ما دار بين النحاة الحال والبدل

النحو أنت أحق العالمين به ** أليس باسمك فيه يضرب المثل

ثم دخلت سنة ثلاث وتسعين وخمسمائة

فيها: ورد كتاب من القاضي الفاضل إلى ابن الزكي يخبره فيه أن في ليلة الجمعة التاسع من جمادى الآخرة أتى عارض فيه ظلمات متكاثفة، وبروق خاطفة، ورياح عاصفة، فقوي الجو بها واشتد هبوبها قد أثبت لها أعنة مطلقات، وارتفعت لها صفقات، فرجفت لها الجدران واصطفقت، وتلاقت على بعدها واعتنقت، وثار السماء والأرض عجاجا.

حتى قيل إن هذه على هذه قد انطبقت، ولا يحسب إلا أن جهنم قد سال منها وادٍ، وعدا منها عادٍ، وزاد عصف الريح إلى أن أطفأ سرج النجوم، ومزقت أديم السماء، ومحت ما فوقه من الرقوم، فكنا كما قال تعالى: { يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ } 4.

ويردون أيديهم على أعينهم من البوارق، لا عاصم لخطف الأبصار، ولا ملجأ من الخطب إلا معاقل الاستغفار.

وفر الناس نساء ورجالا وأطفالا، ونفروا من دورهم خفافا وثقالا، لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلا، فاعتصموا بالمساجد الجامعة، وأذعنوا للنازلة بأعناق خاضعة، بوجوه عانية، ونفوس عن الأهل والمال سالية، ينظرون من طرف خفي.

ويتوقعون أي خطب جلي، قد انقطعت من الحياة علقهم، وعميت عن النجاة طرقهم، ووقعت الفكرة فيما هم عليه قادمون، وقاموا على صلاتهم وودوا لو كانوا من الذين عليها دائمون، إلى أن أذن بالركود، وأسعف الهاجدون بالهجود.

فأصبح كل مسلم على رفيقه، ويهنيه بسلامة طريقه، ويرى أنه قد بعث بعد النفخة، وأفاق بعد الصيحة والصرخة، وأن الله قد رد له الكرة، وأحياه بعد أن كاد يأخذه على غرة.

ووردت الأخبار بأنها قد كسرت المراكب في البحار، والأشجار في القفار، وأتلفت خلقا كثيرا من السفار، ومنهم من فّر فلا ينفعه الفرار.

إلى أن قال: ولا يحسب المجلس أني أرسلت القلم محرفا والعلم مجوفا، فالأمر أعظم، ولكن الله سلم، ونرجو أن الله قد أيقظنا بما به وعظنا، ونبهنا بما فيه ولهنا، فما من عباده إلا من رأى القيامة عيانا، ولم يلتمس عليها من بعد ذلك برهانا، إلا أهل بلدنا فما قص الأولون مثلها في المثلات، ولا سبقت لها سابقة في المعضلات.

والحمد لله الذي من فضله قد جعلنا نخبر عنها، ولا يخبر عنا، ونسأل الله أن يصرف عنا عارض الحرص والغرور، ولا يجعلنا من أهل الهلاك والثبور.

وفيها: كتب القاضي الفاضل من مصر إلى الملك العادل بدمشق يحثه على قتال الفرنج، ويشكره على ما هو بصدده من محاربتهم، وحفظ حوزة الإسلام، فمن ذلك قوله في بعض تلك الكتب.

هذه الأوقات التي أنتم فيها عرائس الأعمار، وهذه النفقات التي تجري على أيديكم مهور الحور في دار القرار، وما أسعد من أودع يد الله ما في يديه، فتلك نعم الله عليه، وتوفيقه الذي ما كل من طلبه وصل إليه، وسواد العجاج في هذه المواقف بباطن ما سودته الذنوب من الصحائف، فما أسعد تلك الوقفات وما أعود بالطمأنينة تلك الرجعات.

وكتب أيضا أدام الله ذلك الاسم تاجا على مفارق المنابر والطروس، وحياه للدينا وما فيها من الأجساد والنفوس، وعرف المملوك من الأمر الذي اقتضته المشاهدة، وجرت به العافية في سرور، ولا يزيد على سيبه الحال بقوله:

ألم تر أن المرء تدوي يمينه ** فيقطعها عمدا ليسلم سائره

ولو كان فيها تدبير لكان مولانا سبق إليه، ومن قلم من الإصبع ظفرا فقد جلب إلى الجسد بفعله نفعا، ودفع عنه ضررا، وتجشم المكروه ليس بضائر إذا كان ما جلبه سببا إلى المحمود، وآخر سنوه أول كل غزوه، فلا يسأم مولانا نية الرباط وفعلها، وتجشم الكلف وحملها.

فهو إذا صرف وجهه إلى وجه واحد وهو وجه الله، صرف الوجوه إليه كلها: { وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ } 5.

وفي هذه السنة انقضت مدة الهدنة التي كان عقدها الملك صلاح الدين للفرنج فأقبلوا بحدهم وحديدهم، فتلقاهم الملك العادل بمرج عكا فكسرهم وغنمهم، وفتح يافا عنوة ولله الحمد والمنة.

وقد كانوا كتبوا إلى ملك الألمان يستنهضونه لفتح بيت المقدس فقدر الله هلاكه سريعا، وأخذت الفرنج في هذه السنة بيروت من نائبها عز الدين شامة من غير قتال ولا نزال، ولهذا قال بعض الشعراء في الأمير شامة:

سلم الحصن ما عليك ملامة ** ما يلام الذي يروم السلامة

فتعطى الحصون من غير حربٍ ** سنةٌ سنها ببيروت شامة

ومات فيها ملك الفرنج كندهري، سقط من شاهق فمات، فبقيت الفرنج كالغنم بلا راعٍ، حتى ملكوا عليهم صاحب قبرس وزوجوه بالملكة امرأة كندهري، وجرت خطوب كثيرة بينهم وبين العادل، ففي كلها يستظهر عليهم ويكسرهم، ويقتل خلقا من مقاتلتهم، ولم يزالوا كذلك معه حتى طلبوا الصلح والمهادنة، فعاقدهم على ذلك في السنة الآتية.

وفيها توفي ملك اليمن:

سيف الإسلام طغتكين

أخو السلطان صلاح الدين، وكان قد جمع أموالا جزيلة جدا، وكان يسبك الذهب مثل الطواحين ويدخره كذلك، وقام في الملك بعده ولده إسماعيل، وكان أهوج قليل التدبير، فحمله جهله على أن ادّعى أنه قرشي أموي، وتلقب بالهادي.

فكتب إليه عمه العادل ينهاه عن ذلك ويتهدده بسبب ذلك، فلم يقبل منه ولا التفت إليه، بل تمادى وأساء التدبير إلى الأمراء والرعية، فقتل وتولى بعده مملوك من مماليك أبيه.

وفيها توفي:

الأمير الكبير أبو الهيجاء السمين الكردي

كان من أكابر أمراء صلاح الدين، وهو الذي كان نائبا على عكا، وخرج منها قبل أخذ الإفرنج، ثم دخلها بعد المشطوب، فأخذت منه، واستنابه صلاح الدين على القدس.

ثم لما أخذها العزيز عزل عنها فطلب إلى بغداد فأكرم إكراما زائدا، وأرسله الخليفة مقدما على العساكر إلى همدان، فمات هناك.

وفيها توفي:

قاضي بغداد أبو طالب علي بن علي بن هبة الله بن محمد

البخاري، سمع الحديث على أبي الوقت وغيره، وتفقه على أبي القاسم بن فضلان، وتولى نيابة الحكم ببغداد، ثم استقل بالمنصب وأضيف إليه في وقت نيابة الوزارة، ثم عزل عن القضاء ثم أعيد ومات وهو حاكم، نسأل الله العافية، وكان فاضلا بارعا من بيت فقه وعدالة وله شعر:

تنحّ عن القبيح ولا ترده ** ومن أوليته حسنا فزده

كفا بك من عدوك كل كيدٍ ** إذا كاد العدو ولم تكده

وفيها توفي:

السيد الشريف نقيب الطالبيين ببغداد

أبو محمد الحسن بن علي بن حمزة بن محمد بن الحسن بن محمد بن الحسن بن محمد بن علي بن يحيى بن الحسين بن يزيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب العلوي الحسيني المعروف بابن الأقساسي، الكوفي مولدا ومنشأ.

كان شاعرا مطبقا، امتدح الخلفاء والوزراء، وهو من بيت مشهور بالأدب والرياسة والمروءة، قدم بغداد فامتدح المقتفي والمستنجد وابنه المستضيء وابنه الناصر، فولاه النقابة كان شيخا مهيبا، جاوز الثمانين، وقد أورد له ابن الساعي قصائد كثيرة منها:

اصبر على كيد الزما ** ن فما يدوم على طريقة

سبق القضاء فكن به ** راضٍ ولا تطلب حقيقة

كم قد تغلب مرةً ** وأراك من سعةٍ وضيقة

ما زال في أولاده ** يجري على هذي الطريقة

وفيها توفيت:

الست عذراء بنت شاهنشاه

ابن أيوب، ودفنت بمدرستها داخل باب النصر، والست خاتون والدة الملك العادل، ودفنت بدراها بدمشق المجاورة لدار أسد الدين شيركوه.

ثم دخلت سنة أربع تسعين وخمسمائة

فيها: جمعت الفرنج جموعها وأقبلوا فحاصروا تبنين، فاستدعى العادل بني أخيه لقتالهم، فجاءه العزيز من مصر، والأفضل من صرخند.

فأقلعت الفرنج عن الحصن وبلغهم موت ملك الألمان فطلبوا من العادل الهدنة والأمان، فهادنهم ورجعت الملوك إلى أماكنها، وقد عظم المعظم عيسى بن العادل في هذه المرة، واستنابه أبوه على دمشق، وسار إلى ملكه بالجزيرة، فأحسن فيهم السيرة.

وكان قد توفي في هذه السنة السلطان صاحب سنجار وغيرها من المدائن الكبار، وهو عماد الدين زنكي بن مودود بن زنكي الأتابكي، كان من خيار الملوك وأحسنهم شكلا وسيرة، وأجودهم طوية وسريرة، غير أنه كان يبخل، وكان شديد المحبة للعلماء، ولا سيما الحنفية.

وقد ابتنى لهم مدرسة بسنجار، وشرط لهم طعاما يطبخ لكل واحد منهم في كل يوم، وهذا نظر حسن، والفقيه أولى بهذه الحسنة من الفقير، لاشتغال الفقيه بتكراره ومطالعته عن الفكر فيما يقيته، فعدى على أولاده ابن عمه صاحب الموصل، فأخذ الملك منهم، فاستغاث بنوه بالملك العادل، فرد فيهم الملك ودرأ عنهم الضيم، واستقرت بالمملكة لولده قطب الدين محمد.

ثم سار الملك إلى ماردين فحاصرها في شهر رمضان، فاستولى على ريفها ومعاملتها، وأعجزته قلعتها، فطاف عليها ومشى، وما ظن أحد أنه تملكها، لأن ذلك لم يكن مثبوتا ولا مقدارا.

وفيها: ملكت الخزر مدينة بلخ وكسروا الخطا وقهروهم، وأرسل الخليفة إليهم أن يمنعوا خوارزم شاه من دخول العراق، فإنه كان يروم أن يخطب له ببغداد.

وفيها: حاصر خوارزم شاه مدينة بخارى ففتحها بعد مدة، وقد كانت امتنعت عليه دهرا ونصرهم الخطا، فقهرهم جميعا وأخذها عنوة، وعفا عن أهلها وصفح.

وقد كانوا ألبسوا كلبا أعور قباء وسموه خوارزم شاه، ورموه في المنجيق إلى الخوارزمية، وقالوا هذا مالكم، وكان خوارزم شاه أعور، فلما قدر عليهم عفا عنهم، جزاه الله خيرا.

وفيها توفي من الأعيان:

العوام بن زيادة

كاتب الإنشاء بباب الخلافة، وهو أبو طالب يحيى بن سعيد بن هبة الله بن علي بن زيادة، انتهت إليه رياسة الرسائل والإنشاء والبلاغة والفصاحة في زمانه بالعراق.

وله علوم كثيرة غير ذلك من الفقه على مذهب الشافعي، أخذه عن ابن فضلان، وله معرفة جيدة بالأصلين الحساب واللغة، وله شعر جيد وقد ولي عدة مناصب كان مشكورا في جميعها، ومن مستجاد شعره قوله:

لا تحقرن عدوا تزدريه فكم ** قد أتعس الدهر جد الجد باللعب

فهذه الشمس يعروها الكسوف لها ** على جلالتها بالرأس والذنب

وله:

باضطراب الزمان ترتفع الأنـ ** ـذال فيه حتى يعم البلاء

وكذا الماء راكدٌ فإذا ** حرك ثارت من قعره الأقذاء

وله أيضا:

قد سلوت الدنيا ولم يسلها ** من علقت في آماله والأراجي

فإذا ما صرفت وجهي عنها ** قذفتني في بحرها العجاج

يستضيئون بي وأهلك وحدي ** فكأني ذبالة في سراج

توفي في ذي الحجة وله ثنتان وسبعون سنة، وحضر جنازته خلق كثير، ودفن عند موسى بن جعفر.

القاضي أبو الحسن علي بن رجاء بن زهير

ابن علي البطائحي، قدم بغداد فتفقه بها وسمع الحديث وأقام برحبة مالك بن طوق مدة يشتغل على أبي عبد الله بن النبيه الفرضي، ثم ولي قضاء العراق مدة.

وكان أديبا، وقد سمع من شيخه أبي عبد الله بن النبيه ينشد لنفسه معارضا للحريري في بيتيه اللذين زعم أنهما لا يعزوان ثالثا لهما، وهما قوله:

سمْ ممة يحُمد آثارها ** واشكر لمن أعطا ولو سمسمة

والمكر مهما اسطعت لا تأته ** لتقتني السؤدد والمكرمة

فقال ابن النبيه:

ما الأمة الوكساء بين الورى ** أحسن من حر أتى ملامه

فمه إذا استجديت عن قول لا ** فالحر لا يملأ منها فمه

الأمير عز الدين جرديك

كان من أكابر الأمراء في أيام نور الدين، وكان ممن شرك في قتل شاور، وحظي عند صلاح الدين، وقد استنابه على القدس حين افتتحها، وكان يستند به للمهمات الكبار فيسدها بنفسه وشجاعته.

ولما ولي الأفضل عزله عن القدس فترك بلاد الشام وانتقل إلى الموصل، فمات بها في هذه السنة.

ثم دخلت سنة خمس وتسعين وخمسمائة

فيها كانت وفاة العزيز صاحب مصر

وذلك أنه خرج إلى الصيد، فكانت ليلة الأحد العشرين من المحرم، ساق خلف ذئب فكبا به فرسه فسقط عنه فمات بعد أيام، ودفن بداره.

ثم حول إلى عند تربة الشافعي، وله سبع أو ثمان وعشرون سنة، ويقال: إنه كان قد عزم في هذه السنة على إخراج الحنابلة من بلده، ويكتب إلى بقية إخوته بإخراجهم من البلاد.

وشاع ذلك عنه وذاع، وسمع ذلك منه وصرح به، وكل ذلك من معلميه وخلطائه وعشرائه من الجهمية، وقلة علمه بالحديث، فلما وقع منه هذا ونوى هذه النية القبيحة الفاسدة أهلكه الله ودمره سريعا، وعظم قدر الحنابلة بين الخلق بمصر والشام، عند الخاص والعام.

وقيل: إن بعض صالحيهم دعا عليه، فما هو إلا أن خرج إلى الصيد فكان هلاكه سريعا، وكتب الفاضل كتاب التعزية بالعزيز لعمه العادل، وهو محاصر ماردين ومعه العساكر، وولده محمد الكامل، وهو نائبه على بلاد الجزيرة المقاربة لبلاد الحيرة، وصورة الكتاب:

أدام الله سلطان مولانا الملك العادل، وبارك في عمره وأعلا أمره بأمره، وأعز نصر الإسلام بنصره، وفدت الأنفس نفسه الكريمة، وأصغر الله العظائم بنعمه فيه العظيمة، وأحياه الله حياة طيبة هو والإسلام في مواقيت الفتوح الجسيمة، وينقلب عنها بالأمور المسلمة والعواقب السليمة، ولا نقص له رجالا ولا أعدمه نفسا ولا ولدا، ولا قصر له ذيلا ولا يدا، ولا أسخن له عينا ولا كبدا، ولا كدر له خاطرا ولا موردا.

ولما قدر الله ما قدر من موت الملك العزيز كانت حياته مكدرة عليه منغصة مهملة، فلما حضر أجله كانت بديهة المصاب عظيمة، وطالعة المكروه أليمة، وإذا محاسن الوجه بليت تعفى الثرى عن وجهه الحسن.

وكانت مدة مرضه بعد عوده من الفيوم أسبوعين، وكانت في الساعة السابعة من ليلة الأحد والعشرين من المحرم، والمملوك في حال تسطيرها مجموع بين مرض القلب والجسد، ووجع أطراف وعلة كبد، وقد فجع بهذا المولى والعهد بوالده غير بعيد، والأسى عليه في كل يوم جديد.

ولما توفي العزيز خلف من الولد عشرة ذكور، فعمد أمراؤه فملكوا عليهم ولده محمدا، ولقبوه بالمنصور، وجمهور الأمراء في الباطن مائلون إلى تمليك العادل، ولكنهم يستبعدون مكانه، فأرسلوا إلى الأفضل وهو بصرخد فأحضروه على البريد سريعا.

فلما حضر عندهم منع رفدهم ووجدوا الكلمة مختلفة عليه، ولم يتم له ما صار إليه، وخامر عليه أكابر الأمراء الناصرية، وخرجوا من مصر فأقاموا ببيت المقدس وأرسلوا يستحثون الجيوش العادلية، فأقر ابن أخيه على السلطنة ونوه باسمه على السكة والخطبة في سائر بلاد مصر، لكن استفاد الأفضل في سفرته هذه أن أخذ جيشا كثيفا من المصريين، وأقبل بهم ليسترد دمشق في غيبة عمه.

وذلك بإشارة أخيه صاحب حلب، وملك حمص أسد الدين، فلما انتهى إليها ونزل حواليها قطع أنهارها وعقر أشجارها، وأكل ثمارها، ونزل بمخيمه على مسجد القدم، وجاء إليه أخوه الظاهر وابن عمه الأسد الكاسر وجيش حماه، فكثر جيشه وقوي بأسه، وقد دخل جيشه إلى البلد، ونادوا بشعاره فلم يتابعهم من العامة أحد، وأقبل العادل من ماردين بعساكره وقد التف عليه أمراء أخيه وطائفة بني أخيه، وأمده كل مصر بأكابره، وسبق الأفضل إلى دمشق بيومين فحصنها وحفظها، وقد استناب على ما ردين ولده محمدا الكامل.

ولما دخل دمشق خامر إليه أكثر الأمراء من المصريين وغيرهم، وضعف أمر الأفضل ويئس من برهم وخيرهم، فأقام محاصر البلد بمن معه حتى انسلخ الحول ثم انفصل الحال في أول السنة الآتية على ما سيأتي.

وفيها: شرع في بناء سور بغداد بالآجر والكلس، وفرق على الأمراء وكملت عمارته بعد هذه السنة، فأمنت بغداد من الغرق والحصار، ولم يكن لها سور قبل ذلك.

وفيها توفي:

السلطان أبو محمد يعقوب بن يوسف

ابن عبد المؤمن، صاحب المغرب والأندلس بمدينته، وكان قد بنى عندها مدينة مليحة سماها المهدية، وقد كان دينا حسن السيرة صحيح السريرة، وكان مالكي المذهب، ثم صار ظاهريا حزميا ثم مال إلى مذهب الشافعي، واستقضى في بعض بلاده منهم قضاة، وكانت مدة ملكه خمس عشرة سنة، وكان كثير الجهاد رحمه الله، وكان يؤم الناس في الصلوات الخمس، وكان قريبا إلى المرأة والضعيف رحمه الله.

وهو الذي كتب إليه صلاح الدين يستنجده على الفرنج فلما لم يخاطبه بأمير المؤمنين غضب من ذلك ولم يجبه إلى ما طلب منه، وقام بالملك بعده ولده محمد فسار كسيرة والده، ورجع إليه كثير من البلدان اللاتي كانت قد عصت على أبيه، ثم من بعد ذلك تفرقت بهم الأهواء وباد هذا البيت بعد الملك يعقوب.

وفيها: ادّعى رجل أعجمي بدمشق أنه عيسى بن مريم، فأمر الأمير صارم الدين برغش نائب القلعة، بصلبه عند حمام العماد الكاتب، خارج باب الفرج مقابل الطاحون التي بين البابين، وقد باد هذا الحمام قديما، وبعد صلبه بيومين ثارت العامة على الروافض وعمدوا إلى قبر رجل منهم بباب الصغير يقال له وثاب فنبشوه وصلبوه مع كلبين، وذلك في ربيع الآخر منها.

وفيها: وقعت فتنة كبيرة ببلاد خراسان، وكان سببها أن فخر الدين محمد بن عمر الرازي وفد إلى الملك غياث الدين الغوري صاحب غزنة، فأكرمه وبنى له مدرسة بهراة، وكان أكثر الغورية كرامية فأبغضوا الرازي وأحبوا إبعاده عن الملك، فجمعوا له جماعة من الفقهاء الحنفية والكرامية، وخلقا من الشافعية، وحضر ابن القدوة وكان شيخا معظما في الناس، وهو على مذهب ابن كرام وابن الهيصم فتناظر هو والرازي، وخرجا من المناظرة إلى السب والشتم.

فلما كان من الغد اجتمع الناس في المسجد الجامع، وقام واعظ فتكلم فقال في خطبته:

أيها الناس، إنا لا نقول إلا ما صح عندنا عن رسول الله ، وأما علم أرسطاطاليس وكفريات ابن سينا وفلسفة الفارابي وما تلبّس به الرازي فإنا لا نعلمها ولا نقول بها، وإنما هو كتاب الله وسنة رسوله، ولأي شيء يشتم بالأمس شيخ من شيوخ الإسلام يذب عن دين الله وسنة رسوله، على لسان متكلم ليس معه على ما يقول دليل.

قال: فبكى الناس وضجوا وبكت الكرامية واستغاثوا، وأعانهم على ذلك قوم من خواص الناس، وأنهوا إلى الملك صورة ما وقع، فأمر بإخراج الرازي من بلاده، وعاد إلى هراة، فلهذا أشرب قلب الرازي بغض الكرامية، وصار يلهج بهم في كلامه في كل موطن ومكان.

وفيها: رضي الخليفة عن أبي الفرج بن الجوزي شيخ الوعاظ، وقد كان أخرج من بغداد إلى واسط فأقام بها خمس سنين، فانتفع به أهلها واشتغلوا عليه واستفادوا منه، فلما عاد إلى بغداد خلع عليه الخليفة وأذن له في الوعظ على عادته عند التربة الشريفة المجاورة لقبر معروف الكرخي، فكثر الجمع جدا وحضر الخليفة وأنشد يومئذ فيما يخاطب به الخليفة:

لا تعطش الروض الذي بنيته ** بصوب إنعامك قد روضا

لا تبر عودا أنت قد رشته ** حاشى لباني المجد أن ينقضا

إن كان لي ذنبٌ قد جنيته ** فاستأنف العفو وهب لي الرضا

قد كنت أرجوك لنيل المنى ** فاليوم لا أطلب إلا الرضا

ومما أنشده يومئذ:

شقينا بالنوى زمنا فلما ** تلاقينا كأنا ما شقينا

سخطنا عندما جنت الليالي ** وما زالت بنا حتى رضينا

ومن لم يحيى بعد الموت يوما ** فإنا بعد ما متنا حيينا

وفي هذه السنة استدعى الخليفة الناصر قاضي الموصل ضياء الدين ابن الشهروزري فولاه قضاء قضاة بغداد.

وفيها: وقعت فتنة بدمشق بسبب الحافظ عبد الغني المقدسي، وذلك أنه كان يتكلم في مقصورة الحنابلة بالجامع الأموي، فذكر يوما شيئا من العقائد، فاجتمع القاضي ابن الزكي وضياء الدين الخطيب الدولعي بالسلطان المعظم، والأمير صارم الدين برغش.

فعقد له مجلسا فيما يتعلق بمسألة الاستواء على العرش والنزول والحرف والصوت، فوافق النجم الحنبلي بقية الفقهاء واستمر الحافظ على ما يقوله لم يرجع عنه، واجتمع بقية الفقهاء عليه، وألزموه بإلزامات شنيعة لم يلتزمها، حتى قال له الأمير برغش كل هؤلاء على الضلالة وأنت وحدك على الحق؟

قال: نعم

فغضب الأمير وأمر بنفيه من البلد؛ فاستنظره ثلاثة أيام فأنظره، وأرسل برغش الأسارى من القلعة فكسروا منبر الحنابلة وتعطلت يومئذ صلاة الظهر في محراب الحنابلة، وأخرجت الخزائن والصناديق التي كانت هناك، وجرت خبطة شديدة، نعوذ بالله من الفتن ما ظهر منها وما بطن.

وكان عقد المجلس يوم الاثنين الرابع والعشرين من ذي الحجة، فارتحل الحافظ عبد الغني إلى بعلبك ثم سار إلى مصر فآواه المحدثون، فحنوا عليه وأكرموه.

من الأعيان:

الأمير مجاهد الدين قيماز الرومي

نائب الموصل المستولي على مملكتها أيام ابن أستاذه نور الدين أرسلان، وكان عاقلا ذكيا فقيها حنيفا، وقيل شافعيا، يحفظ شيئا كثيرا من التواريخ والحكايات، وقد ابتنى عدة جوامع ومدارس وربط وخانات، وله صدقات كثيرة دارة، قال ابن الأثير: وقد كان من محاسن الدنيا.

أبو الحسن محمد بن جعفر

ابن أحمد بن محمد بن عبد العزيز العباس الهاشمي، قاضي القضاة ببغداد، بعد ابن النجاري، كان شافعيا تفقه على أبي الحسن بن الخل وغيره، وقد ولي القضاء والخطابة بمكة، وأصله منها، ولكن ارتحل إلى بغداد فنال منها ما نال من الدنيا، وآل به الأمر إلى ما آل.

ثم إنه عزل عن القضاء بسبب محضر رقم خطه عليه، وكان فيما قيل مزورا عليه. فالله أعلم، فجلس في منزله حتى مات.

الشيخ جمال الدين أبو القاسم

يحيى بن علي بن الفضل بن بركة بن فضلان، شيخ الشافعية ببغداد، تفقه أولا على سعيد بن محمد الزار مدرس النظامية.

ثم ارتحل إلى خراسان فأخذ عن الشيخ محمد الزبيدي تلميذ الغزالي وعاد إلى بغداد وقد اقتبس علم المناظرة والأصلين، وساد أهل بغداد وانتفع به الطلبة والفقهاء، وبنيت له مدرسة فدّرس بها وبعد صيته، وكثرت تلاميذه، وكان كثير التلاوة وسماع الحديث، وكان شيخا حسنا لطيفا ظريفا، ومن شعره:

وإذا أردت منازل الأشراف ** فعليك بالإسعاف والإنصاف

وإذا بغا باغٍ عليك فخله ** والدهر فهو له مكاف كاف

ثم دخلت سنة ست وتسعين وخمسمائة

استهلت هذه السنة والملك الأفضل بالجيش المصري محاصر دمشق لعمه العادل، وقد قطع عنها الأنهار والميرة، فلا خبز ولا ماء إلا قليلا، وقد تطاول الحال، وقد خندقوا من أرض اللوان إلى اللد خندقا لئلا يصل إليهم جيش دمشق، وجاء فصل الشتاء وكثرت الأمطار والأوحال.

فلما دخل شهر صفر قدم الملك الكامل محمد بن العادل علي أبيه بخلق من التركمان، وعساكر من بلاد الجزيرة والرها وحران، فعند ذلك انصرف العساكر المصرية، وتفرقوا أيادي سبا، فرجع الظاهر إلى حلب والأسد إلى حمص، والأفضل إلى مصر، وسلم العادل من كيد الأعادي، بعد ما كان قد عزم على تسليم البلد.

وسارت الأمراء الناصرية خلف الأفضل ليمنعوه من الدخول إلى القاهرة، وكاتبوا العادل أن يسرع السير إليهم، فنهض إليهم سريعا فدخل الأفضل مصر وتحصن بقلعة الجبل، وقد اعتراه الضعف والفشل.

ونزل العادل على البركة وأخذ ملك مصر ونزل إليه ابن أخيه الأفضل خاضعا ذليلا، فأقطعه بلادا من الجزيرة، ونفاه من الشام لسوء السيرة، ودخل العادل القلعة وأعاد القضاء إلى صدر الدين عبد الملك بن درباس المارديني الكردي.

وأبقى الخطبة والسكة باسم ابن أخيه المنصور، والعادل مستقل بالأمور، واستوزر الصاحب صفي الدين بن شكر لصرامته وشهامته، وسيادته وديانته، وكتب العادل إلى ولده الكامل يستدعيه من بلاد الجزيرة ليملكه على مصر، فقدم عليه فأكرمه واحترمه وعانقه والتزمه.

وأحضر الملك الفقهاء واستفتاهم في صحة مملكة ابن أخيه المنصور بن العزيز، وكان ابن عشر سنين، فأفتوا بأن ولايته لا تصح لأنه متولي عليه، فعند ذلك طلب الأمراء ودعاهم إلى مبايعته فامتنعوا فأرغبهم وأرهبهم.

وقال فيما قال: قد سمعتم ما أفتى به العلماء، وقد علمتم أن ثغور المسلمين لا يحفظها الأطفال الصغار، وإنما يحفظها الملوك الكبار، فأذعنوا عند ذلك وبايعوه.

ثم من بعده لولده الكامل، فخطب الخطباء بذلك بعد الخليفة لهما، وضربت السكة باسمهما، واستقرت دمشق باسم المعظم عيسى بن العادل، ومصر باسم الكامل.

وفي شوال رجع إلى دمشق الأمير ملك الدين أبو منصور سليمان بن مسرور بن جلدك، وهو أخو الملك العادل لأمه، وهو واقف الفلكية داخل باب الفراديس، وبها قبره، فأقام بها محترما معظما إلى أن توفي في هذه السنة.

وفيها وفي التي بعدها: كان بديار مصر غلاء شديد، فهلك بسببه الغني والفقير، وهرب الناس منها نحو الشام فلم يصل إليها إلا القليل، وتخطفهم الفرنج من الطرقات وغروهم من أنفسهم واغتالوهم بالقليل من الأقوات، وأما بلاد العراق فإنه كان مرخصا.

قال ابن الساعي: وفي هذه السنة باض ديك ببغداد فسألت جماعة عن ذلك فأخبروني به.

وممن توفي بها من الأعيان:

السلطان علاء الدين خوارزم شاه

تكش بن ألب رسلان من ولد طاهر بن الحسين، وهو صاحب خوارزم وبعض بلاد خراسان والري وغيرها من الأقاليم المتسعة، وهو الذي قطع دولة السلاجقة.

كان عادلا حسن السيرة له معرفة جيدة بالموسيقى، حسن المعاشرة، فقيها على مذهب أبي حنيفة، ويعرف الأصول، وبنى للحنفية مدرسة عظيمة، ودفن بتربة بناها بخوارزم، وقام في الملك من بعده ولده علاء الدين محمد، وكان قبل ذلك يلقب بقطب الدين.

وفيها: قتل وزير السلطان خوارزم شاه المذكور نظام الدين مسعود بن علي

وكان حسن السيرة، شافعي المذهب، له مدرسة عظيمة بخوارزم، وجامع هائل، وبنى بمرو جامعا عظيما للشافعية، فحسدتهم الحنابلة وشيخهم بها يقال له شيخ الإسلام، فيقال إنهم أحرقوه وهذا إنما يحمل عليه قلة الدين والعقل، فأغرمهم السلطان خوارزم شاه ما غرم الوزير على بنائه.

وفيها: توفي الشيخ المسند المعمر رحلة الوقت أبو الفرج بن عبد المنعم بن عبد الوهاب

ابن صدقة بن الخضر بن كليب الحراني الأصل البغدادي المولد والدار والوفاة، عن ست وتسعين سنة، سمع الكثير وأسمع، وتفرد بالرواية عن جماعة من المشايخ، وكان من أعيان التجار وذوي الثروة.

الفقيه مجد الدين أبو محمد بن طاهر بن نصر بن جميل

مدرّس القدس أول من درّس بالصلاحية، وهو والد الفقهاء بني جميل الدين، كانوا بالمدرسة الجاروخية، ثم صاروا إلى العمادية والدماعية في أيامنا هذه، ثم ماتوا ولم يبق إلا شرحهم.

الأمير صارم الدين قايماز

ابن عبد الله النجي، كان من أكابر الدولة الصلاحية، كان عند صلاح الدين بمنزلة الأستاذ، وهو الذي تسلم القصر حين مات العاضد.

فحصل له أموال جزيلة جدا، وكان كثير الصدقات والأوقاف، تصدق في يوم بسبعة آلاف دينار عينا، وهو واقف المدرسة القيمازية، شرقي القلعة.

وقد كانت دار الحديث الأشرفية دارا لهذا الأمير، وله بها حمام، فاشترى ذلك الملك الأشرف فيما بعد وبناها دار حديث، وأخرب الحمام وبناه مسكنا للشيخ المدّرس بها.

ولما توفي قيماز ودفن في قبره نبشت دوره وحواصله، وكان متهما بمال جزيل، فتحصل ما جمع من ذلك مائة ألف دينار وكان يظن أن عنده أكثر من ذلك، وكان يدفن أمواله في الخراب من أراضي ضياعه وقرياه، سامحه الله.

الأمير لؤلؤ

أحد الحجاب بالديار المصرية، كان من أكابر الأمراء في أيام صلاح الدين، وهو الذي كان متسلم الأسطول في البحر، فكم من شجاع قد أسر، وكم من مركب قد كسر، وقد كان مع كثرة جهاده دار الصدقات، كثير النفقات في كل يوم، وقع غلاء بمصر فتصدق باثني عشر ألف رغيف، لاثني عشر ألف نفس.

الشيخ شهاب الدين الطوسي

أحد مشايخ الشافعية بديار مصر، شيخ المدرسة المنسوبة إلى تقي الدين شاهنشاه بن أيوب، التي يقال لها منازل العز، وهو من أصحاب محمد بن يحيى تلميذ الغزالي، كان له قدر ومنزلة عند ملوك مصر، يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر، توفي في هذه السنة، فازدحم الناس على جنازته، وتأسفوا عليه.

الشيخ ظهير الدين عبد السلام الفارسي

شيخ الشافعية بحلب، أخذ الفقه عن محمد بن يحيى تلميذ الغزالي، وتتلمذ للرازي، ورحل إلى مصر وعرض عليه أن يدرّس بتربة الشافعي فلم يقبل، فرجع إلى حلب فأقام بها إلى أن مات.

الشيخ العلامة بدر الدين ابن عسكر

رئيس الحنفية بدمشق، قال أبو شامة: ويعرف بابن العقادة.

الشاعر أبو الحسن علي بن نصر بن عقيل بن أحمد بغدادي

قدم دمشق في سنة خمس وتسعين وخمسمائة، ومعه ديوان شعر له فيه درر حسان، وقد تصدى لمدح الملك الأمجد صاحب بعلبك وله:

وما الناس إلا كامل الحظ ناقصٌ ** وآخر منهم ناقص الحظ كامل

وإني لمثر من خيار أعفة ** وإن لم يكن عندي من المال كامل

وفيها توفي القاضي الفاضل الإمام العلامة شيخ الفصحاء والبلغاء أبو علي عبد الرحيم بن القاضي الأشرف

أبي المجد علي بن الحسن بن البيساني المولى الأجل القاضي الفاضل، كان أبوه قاضيا بعسقلان فأرسل ولده في الدولة الفاطمية إلى الديار المصرية، فاشتغل بها بكتابة الإنشاء على أبي الفتح قادوس وغيره، فساد أهل البلاد حتى بغداد، ولم يكن له في زمانه نظير، ولا فيما بعده إلى وقتنا هذا مثيل.

ولما استقر الملك صلاح الدين بمصر جعله كاتبه وصاحبه ووزيره وجليسه وأنيسه، وكان أعز عليه من أهله وأولاده، وتساعدا حتى فتح الأقاليم والبلاد، هذا بحسامه وسنانه، وهذا بقلمه ولسانه وبيانه.

وقد كان الفاضل من كثرة أمواله كثير الصدقات والصلات والصيام والصلاة، وكان يواظب كل يوم وليلة على ختمة كاملة، مع ما يزيد عليها من نافلة، رحيم القلب حسن السيرة، طاهر القلب والسريرة له مدرسة بديار مصر على الشافعية والمالكية، وأوقاف على تخليص الأسارى من يدي النصارى.

وقد اقتنى من الكتب نحوا من مائة ألف كتاب، وهذا شيء لم يفرح به أحد من الوزراء ولا العلماء ولا الملوك، ولد في سنة ثنتين وخمسمائة، توفي يوم دخل العادل إلى قصر مصر بمدرسته فجأة يوم الثلاثاء سادس ربيع الآخر، واحتفل الناس بجنازته، وزار قبره في اليوم الثاني الملك العادل، وتأسف عليه.

ثم استوزر العادل صفي الدين بن شكر، فلما سمع الفاضل بذلك دعا الله أن لا يحييه إلى هذه الدولة لما بينهما من المنافسة، فمات ولم ينله أحد بضيم ولا أذى، ولا رأى في الدولة من هو أكبر منه، وقد رثاه الشعراء بأشعار حسنة، منها قول القاضي هبة الله بن سناء الملك:

عبد الرحيم على البرية رحمةٌ ** أمنت بصحبتها حلول عقابها

يا سائلي عنه وعن أسبابه ** نال السماء فسله عن أسبابها

وأتته خاطبةً إليه وزارة ** ولطال ما أعيت على خطابها

وأتت سعادته إلى أبوابه ** لا كالذي يسعى إلى أبوابها

تعنوا الملوك لوجهه بوجوهها ** لا بل تساق لبابه برقابها

شغل الملوك بما يزول ونفسه ** مشغولة بالذكر في محرابها

في الصوم والصلوات أتعب نفسه ** وضمان راحته على إتعابها

وتعجل الإقلاع عن لذاته ** ثقةً بحسن مآلها ومآبها

فلتفخر الدنيا بسائس ملكها ** منه ودارس علمها وكتابها

صوّامها قوّامها علاّمها ** عمّالها بذّالها وهابها

والعجب أن الفاضل مع براعته ليس له قصيدة طويلة، وإنما له ما بين البيت والبيتين في أثناء رسائله وغيرها شيء كثير جدا، فمن ذلك قوله:

سبقتم بإسداء الجميل تكرما ** وما مثلكم فيمن يحدث أو يحكى

وكان ظني أن أسابقكم به ** ولكن بلت قبلي فهيج لي البكا

وله:

ولي صاحب ما خفت من جور حادثٍ ** من الدهر إلا كان لي من ورائه

إذا عضني صرف الزمان فإنني ** براياته أسطو عليه ورائه

وله في بدو أمره:

أرى الكتاب كلهم جميعا ** بأرزاقٍ تعمهم سنينا

ومالي بينهم رزقٌ كأني ** خلقت من الكرام الكاتبينا

وله في النحلة والزلقطة:

ومغردين تجاوبا في مجلسٍ ** منعاهما لأذاهما الأقوامُ

هذا يجود بعكس ما يأتي به ** هذا فيحمد ذا وذاك يلامُ

وله:

بتنا على حالٍ تسرُّ الهوى ** لكنه لا يمكن الشرح

بوابنا الليل، وقلنا له: ** إن غبت عنّا هجم الصبح

وأرسلت جارية من جواري الملك العزيز إلى الملك العزيز زرا من ذهب مغلف بعنبر أسود، فسأل الملك الفاضل عن معنى ما أرادت بإرساله فأنشأ يقول:

أهدت لك العنبر في وسطه ** زرٌّ من التبر رقيق اللحام

فالزر في العنبر معناهما ** زر هكذا مختفيا في الظلام

قال ابن خلكان: وقد اختلف في لقبه فقيل محيي الدين وقيل مجير الدين، وحكي عن عمارة اليمني: أنه كان يذكر جميل وأن العادل بل الصالح هو الذي استقدمه من الإسكندرية، وقد كان معدودا في حسناته.

وقد بسط ابن خلكان ترجمته بنحو ما ذكرنا، وفي هذه زيادة كثيرة والله أعلم.

ثم دخلت سنة سبع وتسعين وخمسمائة

فيها اشتد الغلاء بأرض مصر جدا، فهلك خلق كثير جدا من الفقراء والأغنياء، ثم أعقبه فناء عظيم، حتى حكى الشيخ أبو شامة في الذيل: أن العادل كفن من ماله في مدة شهر من هذه السنة نحوا من مائتي ألف، وعشرين ألف ميت، وأكلت الكلاب والميتات فيها بمصر.

وأكل من الصغار والأطفال خلق كثير يشوي الصغير والداه ويأكلانه، وكثر هذا في الناس جدا حتى صار لا ينكر بينهم، فلما فرغت الأطفال والميتات غلب القوي الضعيف فذبحه وأكله.

وكان الرجل يحتال على الفقير فيأتي به ليطعمه أو ليعطيه شيئا، ثم يذبحه ويأكله.

وكان أحدهم يذبح امرأته ويأكلها وشاع هذا بينهم بلا إنكار ولا شكوى، بل يعذر بعضهم بعضا، ووجد عند بعضهم أربعمائة رأس وهلك كثير من الأطباء الذين يستدعون إلى المرضى، فكانوا يذبحون ويؤكلون، كان الرجل يستدعى الطبيب ثم يذبحه ويأكله، وقد استدعى رجل طبيبا حاذقا وكان الرجل موسرا من أهل المال، فذهب الطبيب معه على وجلٍ وخوفٍ، فجعل الرجل يتصدق على من لقيه في الطريق ويذكر الله ويسبحه ويكثر من ذلك، فارتاب به الطبيب وتخيل منه، ومع هذا حمله الطمع على الاستمرار معه حتى دخل داره، فإذا هي خربة فارتاب الطبيب أيضا فخرج صاحبه فقال له: ومع هذا البطء جئت لنا بصيد، فلما سمعها الطبيب هرب فخرجا خلفه سراعا فما خلص إلا بعد جهد وشر.

وفيها: وقع وباء شديد ببلاد عنزة بين الحجاز واليمن، وكانوا عشرين قرية، فبادت منها ثماني عشرة لم يبق فيها ديار ولا نافخ نار، وبقيت أنعامهم وأموالهم لا قاني لها، ولا يستطيع أحد أن يسكن تلك القرى ولا يدخلها، بل كان من اقترب إلى شيء من هذه القرى هلك من ساعته، نعوذ بالله من بأس الله وعذابه وغضبه وعقابه.

أما القريتان الباقيتان فإنهما لم يمت منهما أحد ولا عندهم شعور بما جرى على من حولهم، بل هم على حالهم لم يفقد منهم أحد فسبحان الحكيم العليم.

واتفق باليمن في هذه السنة كائنة غريبة جدا، وهي أن رجلا يقال له عبد الله بن حمزة العلوي كان قد تغلب على كثير من بلاد اليمن، وجمع نحوا من اثني عشر ألف فارس، ومن الرجالة جمعا كثيرا.

وخافه ملك اليمن إسماعيل بن طغتكين بن أيوب، وغلب على ظنه زوال ملكه على يدي هذا الرجل، وأيقن بالهلكة لضعفه عن مقاومته، واختلاف أمرائه معه في المشورة، فأرسل الله صاعقة فنزلت عليهم فلم يبق منهم أحد سوى طائفة من الخيالة والرجالة، فاختلف جيشه فيما بينهم فغشيهم المعز فقتل منهم ستة آلاف، واستقر في ملكه آمنا.

وفيها: تكاتب الأخوان الأفضل من صرخد والظاهر من حلب على أن يجتمعا على حصار دمشق وينزعاها من المعظم بن العادل، وتكون للأفضل، ثم يسيرا إلى مصر فيأخذاها من العادل وابنه الكامل اللذين نقضا العهد وأبطلا خطبة المنصور، ونكثا المواثيق، فإذا أخذا مصر كانت للأفضل وتصير دمشق مضافة إلى الظاهر مع حلب.

فلما بلغ العادل ما تمالآ عليه أرسل جيشا مددا لابنه المعظم عيسى إلى دمشق، فوصلوا إليها قبل وصول الظاهر وأخيه إليها، وكان وصولهما إليها في ذي القعدة من ناحية بعلبك، فنزلا على مسجد القدم واشتد الحصار للبلد، وتسلق كثير من الجيش من ناحية خان القدم، ولم يبق إلا فتح البلد، لولا هجوم الليل.

ثم إن الظاهر بدا له في كون دمشق للأفضل فرأى أن تكون له أولا، ثم إذا فتحت مصر تسلمها الأفضل، فأرسل إليه في ذلك فلم يقبل الأفضل، فاختلفا وتفرقت كلمتهما، وتنازعا الملك بدمشق، فتفرقت الأمراء عنهما، وكوتب العادل في الصلح فأرسل يجيب إلى ما سألا وزاد في إقطاعهما شيئا من بلاد الجزيرة، وبعض معاملة المعرة.

وتفرقت العساكر عن دمشق في محرم سنة ثمان وتسعين، وسار كل منهما إلى ما تسلم من البلاد التي أقطعها وجرت خطوب يطول شرحها، وقد كان الظاهر وأخوه كتبا إلى صاحب الموصل نور الدين أرسلان الأتابكي أن يحاصر مدن الجزيرة التي مع عمهما العادل.

فركب في جيشه وأرسل إلى ابن عمه قطب الدين صاحب سنجار، واجتمع معهما صاحب ماردين الذي كان العادل قد حاصره وضيق عليه مدة طويلة، فقصدت العساكر حران، وبها الفائز بن العادل، فحاصروه مدة، ثم لما بلغهم وقوع الصلح عدلوا إلى المصالحة، وذلك بعد طلب الفائز ذلك منهم، وتمهدت الأمور واستقرت على ما كانت عليه.

وفيها: ملك غياث الدين وأخوه شهاب الدين الغوريان جميع ما كان يملك خوارزم شاه من البلدان والحواصل والأموال، وجرت لهم خطوب طويلة جدا.

وفيها: كانت زلزلة عظيمة ابتدأت من بلاد الشام إلى الجزيرة وبلاد الروم والعراق، وكان جمهورها وعظمها بالشام تهدمت منها دور كثيرة، وتخربت محال كثيرة، وخسف بقرية من أرض بصرى، وأما سواحل الشام وغيرها فهلك فيها شيء كثير، وأخربت محال كثيرة من طرابلس وصور وعكا ونابلس.

ولم يبق بنابلس سوى حارة السامرة، ومات بها وبقراها ثلاثون ألفا تحت الردم، وسقط طائفة كثيرة من المنارة الشرقية بدمشق بجامعها، وأربع عشرة شرافة منه، وغالب الكلاسة والمارستان النوري.

وخرج الناس إلى الميادين يستغيثون وسقط غالب قلعة بعلبك مع وثاقه بنيانها، وانفرق البحر إلى قبرص وقد حذف بالمراكب منه إلى ساحله، وتعدى إلى ناحية الشرق فسقط بسبب ذلك دور كثيرة، ومات أمم لا يحصون ولا يعدون حتى قال صاحب (مرآة الزمان):

إنه مات في هذه السنة بسبب الزلزلة نحو ألف ألف ومائة ألف إنسان قتلا تحتها، وقيل إن أحدا لم يحص من مات فيها والله سبحانه أعلم.

وفيها توفي من الأعيان:

عبد الرحمن بن علي ابن محمد بن علي بن عبيد الله بن عبد الله بن حمادي بن أحمد بن محمد بن جعفر الجوزي

نسبة إلى فرضة نهر البصرة - ابن عبد الله بن القاسم بن النضر بن القاسم بن محمد بن عبد الله بن عبد الرحمن بن القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق.

الشيخ الحافظ الواعظ جمال الدين أبو الفرج المشهور بابن الجوزي، القرشي التيمي البغدادي الحنبلي، أحد أفراد العلماء، برز في علوم كثيرة، وانفرد بها عن غيره، وجمع المصنفات الكبار والصغار نحوا من ثلاثمائة مصنف.

وكتب بيده نحوا من مائتي مجلدة، وتفرد بفن الوعظ الذي لم يسبق إليه ولا يلحق شأوه فيه وفي طريقته وشكله، وفي فصاحته وبلاغته وعذوبته وحلاوة ترصيعه ونفوذ وعظه وغوصه على المعاني البديعة، وتقريبه الأشياء الغريبة فيما يشاهد من الأمور الحسية، بعبارة وجيزة سريعة الفهم والإدراك، بحيث يجمع المعاني الكثيرة في الكلمة اليسيرة.

هذا وله في العلوم كلها اليد الطولى، والمشاركات في سائر أنواعها من التفسير والحديث والتاريخ والحساب والنظر في النجوم والطب والفقه وغير ذلك من اللغة والنحو، وله من المصنفات في ذلك ما يضيق هذا المكان عن تعدادها، وحصر أفرادها.

منها: كتابه في التفسير المشهور (بزاد المسير)، وله تفسير أبسط منه ولكنه ليس بمشهور، وله (جامع المسانيد) استوعب به غالب (مسند أحمد) و (صحيحي البخاري ومسلم) و(جامع الترمذي)، وله كتاب (المنتظم في تواريخ الأمم من العرب والعجم) في عشرين مجلدا.

قد أوردنا في كتابنا هذا كثيرا منه من حوادثه وتراجمه، ولم يزل يؤرخ أخبار العالم حتى صار تاريخا وما أحقه بقول الشاعر:

ما زلت تدأب في التاريخ مجتهدا ** حتى رأيتك في التاريخ مكتوبا

وله مقامات وخطب، وله الأحاديث الموضوعة، وله العلل المتناهية في الأحاديث الواهية، وغير ذلك.

ولد سنة عشر وخمسمائة، ومات أبوه وعمره ثلاث سنين، وكان أهله تجارا في النحاس، فلما ترعرع جاءت به عمته إلى مسجد محمد بن ناصر الحافظ، فلزم الشيخ وقرأ عليه وسمع عليه الحديث وتفقه بابن الزاغوني، وحفظ الوعظ ووعظ وهو ابن عشرين سنة أو دونها.

وأخذ اللغة عن أبي منصور الجواليقي، وكان وهو صبي دينا مجموعا على نفسه لا يخالط أحدا ولا يأكل ما فيه شبهة، ولا يخرج من بيته إلا للجمعة، وكان لا يلعب مع الصبيان.

وقد حضر مجلس وعظه الخلفاء والوزراء والملوك والأمراء والعلماء والفقراء، ومن سائر صنوف بني آدم، وأقل ما كان يجتمع في مجلس وعظه عشرة آلاف، وربما اجتمع فيه مائة ألف أو يزيدون، وربما تكلم من خاطره على البديهة نظما ونثرا، وبالجملة كان أستاذا فردا في الوعظ وغيره.

وقد كان فيه بهاء وترفع في نفسه وإعجاب وسمو بنفسه أكثر من مقامه، وذلك ظاهر في كلامه في نثره ونظمه، فمن ذلك قوله:

ما زلت أدرك ما غلا بل ما علا ** وأكابد النهج العسير الأطولا

تجري بي الآمال في حلباته ** جري السعيد مدى ما أملا

أفضى بي التوفيق فيه إلى الذي ** أعيا سواي توصلا وتغلغلا

لو كان هذا العلم شخصا ناطقا ** وسألته هل زار مثلي؟ قال: لا

ومن شعره وقيل هو لغيره:

إذا قنعت بميسورٍ من القوت ** بقيت في الناس حرا غير ممقوت

ياقوت يومي إذا ما در حلقك لي ** فلست آسي على درٍ وياقوت

وله من النظم والنثر شيء كثيرا جدا، وله كتاب سماه (لقط الجمان في كان وكان)، ومن لطائف كلامه قوله في الحديث: «أعمار أمتي ما بين الستين إلى السبعين» إنما طالت أعمار من قبلنا لطول البادية، فلما شارف الركب بلد الإقامة قيل لهم حثوا المطي.

وقال له رجل أيما أفضل؟ أجلس أسبح أو أستغفر؟

فقال: الثوب الوسخ أحوج إلى البخور.

وسئل عمن أوصى وهو في السياق فقال:

هذا طين سطحه في كانون.

والتفت إلى ناحية الخليفة المستضيء وهو في الوعظ فقال:

يا أمير المؤمنين إن تكلمت خفت منك، وإن سكت خفت عليك، وإن قول القائل لك اتق الله خير لك من قوله لكم إنكم أهل بيت مغفور لكم، كان عمر بن الخطاب يقول:

إذا بلغني عن عامل لي أنه ظلم فلم أغيره فأنا الظالم، يا أمير المؤمنين.

وكان يوسف لا يشبع في زمن القحط حتى لا ينسى الجائع، وكان عمر يضرب بطنه عام الرمادة ويقول قرقرا ولا تقرقرا، والله لا ذاق عمر سمنا ولا سمينا حتى يخصب الناس.

قال: فبكى المستضيء وتصدق بمال كثير، وأطلق المحابيس وكسى خلقا من الفقراء.

ولد ابن الجوزي في حدود سنة عشر وخمسمائة كما تقدم، وكانت وفاته ليلة الجمعة بين العشاءين الثاني عشر من رمضان من هذه السنة، وله من العمر سبع وثمانون سنة، وحملت جنازته على رؤوس الناس، وكان الجمع كثيرا جدا، ودفن بباب حرب عند أبيه بالقرب من الإمام أحمد.

وكان يوما مشهودا، حتى قيل: إنه أفطر جماعة من الناس من كثرة الزحام وشدة الحر، وقد أوصى أن يكتب على قبره هذه الأبيات:

يا كثير العفو يا من ** كثرت ذنبي لديه

جاءك المذنب يرجو الصـ ** ـفح عن جرم يديه

أنا ضيفٌ وجزاء الـ ** ـضيف إحسان إليه

وقد كان من الأولاد الذكور ثلاثة: عبد العزيز - وهو أكبرهم - مات شابا في حياة والده في سنة أربع وخمسين، ثم أبو القاسم علي، وقد كان عاقا لوالده إلبا عليه في زمن المحنة وغيرها، وقد تسلط على كتبه في غيبته بواسط فباعها بأبخس الثمن.

ثم محيي الدين يوسف، وكان أنجب أولاده وأصغرهم ولد سنة ثمانين وخمسمائة ووعظ بعد أبيه، واشتغل وحرر وأتقن وساد أقرانه، ثم باشر حسبة بغداد، ثم صار رسول الخلفاء إلى الملوك بأطراف البلاد، ولا سيما بني أيوب بالشام.

وقد حصل منهم من الأموال والكرامات ما ابتنى به المدرسة الجوزية بالنشابين بدمشق، وما أوقف عليها، ثم حصل له من سائر الملوك أموالا جزيلة، ثم صار أستاذ دار الخليفة المستعصم في سنة أربعين وستمائة، واستمر مباشرها إلى أن قتل مع الخليفة عام هارون تركي بن جنكيز خان.

وكان لأبي الفرج عدة بنات منهن رابعة أم سبطه أبي المظفر بن قزغلي صاحب (مرآة الزمان)، وهي من أجمع التواريخ وأكثرها فائدة، وقد ذكره ابن خلكان في الوفيات فأثنى عليه وشكر تصانيفه وعلومه.

العماد الكاتب الأصبهاني

محمد بن محمد بن حامد بن محمد بن عبد الله بن علي بن محمود بن هبة الله بن أله - بتشديد اللام وضمها -، المعروف بالعماد الكاتب الأصبهاني، صاحب المصنفات والرسائل، وهو قرين القاضي الفاضل، واشتهر في زمنه، ومن اشتهر في زمن الفاضل فهو فاضل، ولد بأصبهان في سنة تسع عشرة وخمسمائة.

وقدم بغداد فاشتغل بها على الشيخ أبي منصور سعيد بن الرزاز مدرّس النظامية، وسمع الحديث ثم رحل إلى الشام فحظي عند الملك نور الدين محمود بن زنكي، وكتب بين يديه وولاه المدرسة التي أنشأها داخل باب الفرج التي يقال لها العمادية، نسبة إلى سكناه بها وإقامته فيها، وتدريسه بها، لا أنه أنشأها وإنما أنشأها نور الدين محمود.

ولم يكن هو أول من درّس بها، بل قد سبقه إلى تدريسها غير واحد، كما تقدم في ترجمة نور الدين، ثم صار العماد كاتبا في الدولة الصلاحية وكان الفاضل يثني عليه ويشكره.

قالوا: وكان منطوقه يعتريه جمود وفترة، وقريحته في غاية الجودة والحدة، وقد قال القاضي الفاضل لأصحابه يوما: قولوا فتكلموا وشبهوه في هذه الصفة بصفات فلم يقبلها القاضي.

وقال: هو كالزناد ظاهره بارد وداخله نار، وله من المصنفات الجريدة (جريدة النصر في شعراء العصر) و(الفتح القدسي)، و(البرق الشامي)، وغير ذلك من المصنفات المسجعة، والعبارات المتنوعة والقصائد المطولة.

توفي في مستهل رمضان من هذه السنة عن ثمان وسبعين سنة، ودفن بمقابر الصوفية.

الأمير بهاء الدين قراقوش

الفحل الخصي، أحد كبار كتاب أمراء الدولة الصلاحية، كان شهما شجاعا فاتكا.

تسلم القصر لما مات العاضد وعمر سور القاهرة محيطا على مصر أيضا، وانتهى إلى المقسم وهو المكان الذي اقتسمت فيه الصحابة ما غنموا من الديار المصرية، وبنى قلعة الجبل، وكان صلاح الدين سلمه عكا ليعمر فيها أماكن كثيرة فوقع الحصار وهو بها.

فلما خرج البدل منها كان هو من جملة من خرج، ثم دخلها ابن المشطوب.

وقد ذكر أنه أسر فافتدى نفسه بعشرة آلاف دينار، وعاد إلى صلاح الدين ففرح به فرحا شديدا، ولما توفي في هذه السنة احتاط العادل على تركته وصارت أقطاعه وأملاكه للملك الكامل محمد بن العادل.

قال ابن خلكان: وقد نسب إليه أحكام عجيبة، حتى صنف بعضهم جزءا لطيفا سماه كتاب (الفاشوش في أحكام قراقوش)، فذكر أشياء كثيرة جدا، وأظنها موضوعة عليه، فإن الملك صلاح الدين كان يعتمد عليه، فكيف يعتمد على من بهذه المثابة والله أعلم.

مكلبة بن عبد الله المستنجدي

كان تركيا عابدا زاهدا، سمع المؤذن وقت السحر وهو ينشد على المنارة:

يا رجال الليل جدوا ** رب صوت لا يرد

ما يقوم الليل إلا ** من له عزمٌ و جد

فبكى مكلبة وقال للمؤذن: يا مؤذن زدني، فقال:

قد مضى الليل وولى ** وحبيبي قد تخلا

فصرخ مكلبة صرخة كان فيها حتفه، فأصبح أهل البلد قد اجتمعوا على بابه فالسعيد منهم من وصل إلى نعشه رحمه الله تعالى.

أبو منصور بن أبي بكر بن شجاع

المركلسي ببغداد، ويعرف بابن نقطة، كان يدور في أسواق بغداد بالنهار ينشد كان وكان والمواليا، ويسحر الناس في ليالي رمضان، وكان مطبوعا ظريفا خليعا، وكان أخوه الشيخ عبد الغني الزاهد من أكابر الصالحين، له زاوية ببغداد يزار فيها.

وكان له أتباع ومريدون، ولا يدخر شيئا يحصل له من الفتوح، تصدق في ليلة بألف دينار وأصحابه صيام لم يدخر منها شيئا لعشائهم، وزوجته أم الخليفة بجارية من خواصها وجهزتها بعشرة آلاف دينار إليه فما حال الحول وعندهم من ذلك شيء سوى هاون، فوقف سائل ببابه فألح في الطلب فأخرج إليه الهاون فقال: خذ هذا وكل به ثلاثين يوما، ولا تسأل الناس ولا تشنع على الله عز وجل.

هذا الرجل من خيار الصالحين، والمقصود أنه قال لأخيه أبي منصور: ويحك أنت تدور في الأسواق وتنشد الأشعار وأخوك من قد عرفت؟

فأنشأ يقول في جواب ذلك بيتين مواليا من شعره على البديهة:

قد خاب من شبه الجزعة إلى درةٍ ** وقاس قحبةً إلى مستحييةٍ حره

أنا مغني وأخي زاهد إلى مرةٍ ** في الدر ببرى ذي حلوة وذي مره

وقد جرى عنده مرة ذكر قتل عثمان وعلي حاضر فأنشأ يقول كان وكان، ومن قتل في جواره مثل ابن عفان فاعتذر، يجب عليه أن يقبل في الشام عذر يزيد، فأرادت الروافض قتله فاتفق أنه بعض الليالي يسحر الناس في رمضان إذ مر بدار الخليفة فعطس الخليفة في الطارقة فشمّته أبو منصور هذا من الطريق، فأرسل إليه مائة دينار، ورسم بحمايته من الروافض، إلى أن مات في هذه السنة رحمه الله.

وفيها توفي مسند الشام:

أبو طاهر بركات بن إبراهيم بن طاهر

الخشوعي، شارك ابن عساكر في كثير من مشيخته، وطالت حياته بعد وفاته بسبع وعشرين سنة فألحق فيها الأحفاد بالأجداد.

ثم دخلت سنة ثمان وتسعين وخمسمائة

فيها: شرع الشيخ أبو عمر محمد بن قدامة باني المدرسة بسفح قاسيون، في بناء المسجد الجامع بالسفح، فاتفق عليه رجل يقال له الشيخ أبو داود محاسن الغامي، حتى بلغ البناء مقدار قامة فنفد ما عنده، وما كان معه من المال.

فأرسل الملك المظفر كوكري بن زين الدين صاحب إربل مالا جزيلا ليتمه به، فكمل وأرسل ألف دينار ليساق بها إليه الماء من بردى، فلم يمكن من ذلك الملك المعظم صاحب دمشق، واعتذر بأن هذا فرش قبور كثيرة للمسلمين، فصنع له بئر وبغل يدور، ووقف عليه وقفا لذلك.

وفيها: كانت حروب كثيرة وخطوب طويلة بين الخوارزمية والغورية ببلاد المشرق بسطها ابن الأثير واختصرها ابن كثير.

وفيها: درس بالنظامية مجد الدين يحيى بن الربيع وخلع عليه خلعة سنية سوداء وطرحة كحلي، وحضر عنده العلماء والأعيان.

وفيها: تولى القضاء ببغداد أبو الحسن علي بن سليمان الجيلي وخلع عليه أيضا.

وفيها توفي من الأعيان:

القاضي ابن الزكي

محمد بن علي بن محمد بن يحيى بن عبد العزيز أبو المعالي القرشي، محيي الدين قاضي قضاة دمشق وكل منهما كان قاضيا أبوه وجده وأبو جده يحيى بن علي، وهو أول من ولي الحكم بدمشق منهم، وكان هو جد الحافظ أبي القاسم بن عساكر لأمه، وقد ترجمه ابن عساكر في التاريخ ولم يزد على القرشي.

قال الشيخ أبو شامة: ولو كان أمويا عثمانيا كما يزعمون لذكر ذلك ابن عساكر، إذ كان فيه شرف لجده وخاليه محمد وسلطان، فلو كان ذلك صحيحا لما خفي على ابن عساكر، اشتغل ابن الزكي على القاضي شرف الدين أبي سعد عبد الله بن محمد بن أبي عصرون، وناب عنه في الحكم، وهو أول من ترك النيابة، وهو أول من خطب بالقدس لما فتح كما تقدم.

ثم تولى قضاء دمشق وأضيف إليه قضاء حلب أيضا، وكان ناظر أوقاف الجامع، وعزل عنها قبل وفاته بشهور ووليها شمس الدين بن الليثي ضمانا، وقد كان ابن الزكي ينهى الطلبة عن الاشتغال بالمنطق وعلم الكلام، ويمزق كتب من كان عنده شيء من ذلك بالمدرسة النورية.

وكان يحفظ العقيدة المسماة (بالمصباح) للغزالي، ويحفظها أولاده أيضا، وكان له درس في التفسير يذكره بالكلاسة، تجاه تربة صلاح الدين، ووقع بينه وبين الإسماعيلية فأرادوا قتله فاتخذ له بابا من داره إلى الجامع ليخرج منه إلى الصلاة.

ثم إنه خولط في عقله، فكان يعتريه شبه الصرع إلى أن توفي في شعبان من هذه السنة، ودفن بتربته بسفح قاسيون ويقال إن الحافظ عبد الغني دعا عليه فحصل له هذا الداء العضال، ومات، وكذلك الخطيب الدولعي توفي فيها وهما اللذان قاما على الحافظ عبد الغنى فماتا في هذه السنة، فكانا عبرة لغيرهما.

الخطيب الدولعي

ضياء الدين أبو القاسم عبد الملك بن زيد بن ياسين الثعلبي الدولعي، نسبة إلى قرية بالموصل، يقال لها الدولعية، ولد بها في سنة ثمان عشرة وخمسمائة، وتفقه ببغداد على مذهب الشافعي وسمع الحديث فسمع الترمذي على أبي الفتح الكروخي والنسائي على أبي الحسن علي بن أحمد البردي، ثم قدم دمشق فولى بها الخطابة وتدريس الغزالية.

وكان زاهدا متورعا حسن الطريقة مهيبا في الحق، توفي يوم الثلاثاء تاسع عشر ربيع الأول، ودفن بمقبرة باب الصغير عند قبور الشهداء، وكان يوم جنازته يوما مشهودا.

وتولى بعده الخطابة ولد أخيه محمد بن أبي الفضل بن زيد سبعا وثلاثين سنة، وقيل ولده جمال الدين محمد.

وقد كان ابن الزكي ولى ولده الزكي فصلى صلاة واحدة فتشفع جمال الدين بالأمير علم الدين أخي العادل، فولاه إياها فبقي فيها إلى أن توفي سنة خمس وثلاثين وستمائة.

الشيخ علي بن علي بن عليش

اليمني العابد الزاهد، كان مقيما شرقي الكلاسة، وكانت له أحوال وكرامات، نقلها الشيخ علم الدين السخاوي عنه، ساقها أبو شامة عنه.

الصدر أبو الثناء حماد بن هبة الله

ابن حماد الحراني، التاجر، ولد سنة إحدى عشرة عام نور الدين الشهيد، وسمع الحديث ببغداد ومصر وغيرها من البلاد، وتوفي في ذي الحجة، ومن شعره قوله:

تنقُّل المرء في الآفاق يكسبه ** محاسنا لم يكن منها ببلدته

أما ترى البيدق الشطرنج أكسبه ** حسن التنقّل حسنا فوق زينته

الست الجليلة ينفشا بنت عبد الله

عتيقة المستضيء، كانت من أكبر حظاياه، ثم صارت بعده من أكثر الناس صدقة وبرا وإحسانا إلى العلماء والفقراء، لها عند تربتها ببغداد عند تربة معروف الكرخي صدقات وبر.

ابن المحتسب الشاعر أبو السكر

محمود بن سليمان بن سعيد الموصلي يعرف بابن المحتسب، تفقه ببغداد ثم سافر إلى البلاد وصحب ابن الشهرزوري وقدم معه، فلما ولي قضاء بغداد ولاه نظر أوقاف النظامية، وكان يقول الشعر، وله أشعار في الخمر لا خير فيها تركتها تنزها عن ذلك، وتقذرا لها.

ثم دخلت سنة تسع وتسعين وخمسمائة

قال سبط ابن الجوزي في مرآته: في ليلة السبت سلخ المحرم هاجت النجوم في السماء وماجت شرقا وغربا، وتطايرت كالجراد المنتشر يمينا وشمالا، قال: ولم ير مثل هذا إلا في عام المبعث، وفي سنة إحدى وأربعين ومائتين..

وفيها: شرع بعمارة سور قلعة دمشق وابتدئ ببرج الزاوية الغربية القبلية المجاور لباب النصر.

وفيها: أرسل الخليفة الناصر الخلع وسراويلات الفتوة إلى الملك العادل وبنيه.

وفيها بعث العادل ولده موسى الأشرف لمحاصرة ماردين، وساعده جيش سنجار والموصل ثم وقع الصلح على يدي الظاهر، على أن يحمل صاحب ماردين في كل سنة مائة ألف وخمسين ألف دينار، وأن تكون السكة والخطبة للعادل، وأنه متى طلبه بجيشه يحضر إليه.

وفيها: كمل بناء رباط الموريانية، ووليه الشيخ شهاب الدين عمر بن محمد الشهرزوري، ومعه جماعة من الصوفية، ورتب لهم من المعلوم والجراية ما ينبغي لمثلهم. وفيها: احتجر الملك العادل على محمد بن الملك العزيز وإخوته وسيرهم إلى الرها خوفا من آفائهم بمصر.

وفيها: استحوذت الكرج على مدينة دوين فقتلوا أهلها ونهبوها، وهي من بلاد أذربيجان، لاشتغال ملكها بالفسق وشرب الخمر قبحه الله، فتحكمت الكفرة في رقاب المسلمين بسببه، وذلك كله غل في عنقه يوم القيامة.

وفيها توفي:

الملك غياث الدين الغوري أخو شهاب الدين

فقام بالملك بعده ولده محمود، وتلقب بلقب أبيه، وكان غياث الدين عاقلا حازما شجاعا، لم تكسر له راية مع كثرة حروبه، وكان شافعي المذهب، ابتنى مدرسة هائلة للشافعية، وكانت سيرته حسنة في غاية الجودة.

وفيها توفي من الأعيان:

الأمير علم الدين أبو منصور

سليمان بن شيروه بن جندر أخو الملك العادل لأبيه، في تاسع عشر من المحرم، ودفن بداره التي خطها مدرسة في داخل باب الفراديس في محلة الافتراس، ووقف عليها الحمام بكمالها تقبل الله منه.

القاضي الضياء الشهرزوري

أبو الفضائل القاسم بن يحيى بن عبد الله بن القاسم الشهرزوري الموصلي، قاضي قضاة بغداد، وهو ابن أخي قاضي قضاة دمشق كمال الدين الشهرزوري، أيام نور الدين. ولما توفي سنة ست وسبعين في أيام صلاح الدين أوصى لولد أخيه هذا بالقضاء فوليه، ثم عزل عنه بابن أبي عصرون، وعوض بالسفارة إلى الملوك، ثم تولى قضاء بلدة الموصل، ثم استدعى إلى بغداد فوليها سنتين وأربعة أشهر، ثم استقال الخليفة فلم يقله لحظوته عنده، فاستشفع في زوجته ست الملوك على أم الخليفة، وكان لها مكانة عندها، فأجيب إلى ذلك فصار إلى قضاء حماه لمحبته إياها، وكان يعاب عليه ذلك، وكانت لديه فضائل وله أشعار رائقة، توفي في حماه في نصف رجب منها.

عبد الله بن علي بن نصر بن حمزة

أبو بكر البغدادي المعروف بابن المرستانية، أحد الفضلاء المشهورين. سمع الحديث وجمعه، وكان طبيبا منجما يعرف علوم الأوائل وأيام الناس، وصنف ديوان الإسلام في تاريخ دار السلام، ورتبه على ثلاثمائة وستين كتابا إلا أنه لم يشتهر، وجمع سيرة ابن هبيرة، وقد كان يزعم أنه من سلالة الصديق فتكلموا فيه بسبب ذلك. وأنشد بعضهم:

دع الأنساب لا تعرض لتيم ** فإن الهجن من ولد الصميم

لقد أصبحت من تيم دعيا ** كدعوى حيص بيص إلى تميم

ابن النجا الواعظ

علي بن إبراهيم بن نجا زين الدين أبو الحسن الدمشقي، الواعظ الحنبلي، قدم بغداد فتفقه بها وسمع الحديث ثم رجع إلى بلده دمشق، ثم عاد إليها رسولا من جهة نور الدين في سنة أربع وستين، وحدث بها، ثم كانت له حظوة عند صلاح الدين، وهو الذي نم على عمارة اليمني وذويه فصلبوا، وكانت له مكانة بمصر، وقد تكلم يوم الجمعة التي خطب فيها بالقدس بعد الفراغ من الجمعة، وكان وقتا مشهودا، وكان يعيش عيشا أطيب من عيش الملوك في الأطعمة والملابس، وكان عنده أكثر من عشرين سرية من أحسن النساء، كل واحدة بألف دينار، فكان يطوف عليهن ويغشاهن وبعد هذا كله مات فقيرا لم يخلف كفنا، وقد أنشد وهو على منبره للوزير طلائع بن زريك:

مشيبك قد قضى شرخ الشباب ** وحل الباز في وكر الغراب

تنام ومقلة الحدثان يقظى ** وما ناب النوائب عنك ناب

فكيف بقاء عمرك وهو كنز ** وقد أنفقت منه بلا حساب؟

الشيخ أبو البركات محمد بن أحمد بن سعيد التكريتي

يعرف بالمؤيد، كان أديبا شاعرا. ومما نظمه في الوجيه النحوي حين كان حنبليا فانتقل حنفيا، ثم صار شافعيا، نظم ذلك في حلقة النحو بالنظامية فقال:

ألا مبلغا عني الوجيه رسالة ** وإن كان لا تجدي لديه الرسائل

تمذهبت للنعمان بعد ابن حنبل ** وذلك لما أعوزتك المآكل

وما اخترت قول الشافعي ديانة ** ولكنما تهوى الذي هو حاصل

وعما قليل أنت لا شك صائر ** إلى مالك فانظر إلى ما أنت قائل؟

الست الجيلية زمرد خاتون

أم الخليفة الناصر لدين الله زوجة المستضيئ، كانت صالحة عابدة كثيرة البر والإحسان والصلات والأوقاف، وقد بنت لها تربة إلى جانب قبر معروف، وكانت جنازتها مشهورة جدا، واستمر العزاء بسببها شهرا، عاشت في خلافة ولدها أربعا وعشرين سنة نافذة الكلمة مطاعة الأوامر.

وفيها: كان مولد الشيخ شهاب الدين أبي شامة، وقد ترجم نفسه عند ذكر مولده في هذه السنة في الذيل ترجمة مطولة، فينقل إلى سنة وفاته، وذكر بدو أمره واشتغاله ومصنفاته وشيئا كثيرا من شعاره، وما رئي له من المنامات المبشرة.

وفيها: كان ابتداء ملك جنكيز خان ملك التتار، عليه من الله ما يستحقه، وهو صاحب الباسق وضعها ليتحاكموا إليها - يعني التتار ومن معهم من أمراء الترك - ممن يبتغي حكم الجاهلية - وهو والد تولى، وجد هولاكو بن تولى - الذي قتل الخليفة المستعصم وأهل بغداد في سنة ست وخمسين وستمائة كما سيأتي بيانه إن شاء الله تعالى في موضعه. والله سبحانه وتعالى أعلم.

سنة ستمائة من الهجرة

في هذه السنة كانت الفرنج قد جمعوا خلقا منهم ليستعيدوا بيت المقدس من أيدي المسلمين، فأشغلهم الله عن ذلك بقتال الروم، وذلك أنهم اجتازوا في طريقهم بالقسطنطينية فوجدوا ملوكها قد اختلفوا فيما بينهم، فحاصروها حتى فتحوها قسرا، وأباحوها ثلاثة أيام قتلا وأسرا، وأحرقوا أكثر من ربعها، وما أصبح أحد من الروم في هذه الأيام الثلاثة إلا قتيلا أو فقيرا أو مكبولا أو أسيرا، ولجأ عامة من بقي منها إلى كنيستها العظمى المسماة بأياصوفيا، فقصدهم الفرنج فخرج إليهم القسيسون بالأناجيل ليتوسلوا إليهم ويتلوا ما فيها عليهم، فما التفتوا إلى شيء من ذلك، بل قتلوهم أجمعين أكتعين أبصعين. وأخذوا ما كان في الكنيسة من الحلي والأذهاب والأموال التي لا تحصى ولا تعد، وأخذوا ما كان على الصلبان والحيطان، والحمد لله الرحيم الرحمن، الذي ما شاء كان، ثم اقترع ملوك الفرنج وكانوا ثلاثة وهم دوق البنادقة، وكان شيخا أعمى يقاد فرسه، ومركيس الإفرنسيس وكندا بلند، وكان أكثرهم عددا وعددا. فخرجت القرعة له ثلاث مرات فولوه ملك القسطنطينية وأخذ الملكان الآخران بعض البلاد، وتحول الملك من الروم إلى الفرنج بالقسطنطينية في هذه السنة ولم يبق بأيدي الروم هناك إلا ما وراء الخليج، استحوذ عليه رجل من الروم يقال له تسكرى، ولم يزل مالكا لتلك الناحية حتى توفي.

ثم إن الفرنج قصدوا بلاد الشام وقد تقووا بملكهم القسطنطينية فنزلوا عكا وأغاروا على كثير من بلاد الإسلام من ناحية الغور وتلك الأراضي، فقتلوا وسبوا، فنهض إليهم العادل وكان بدمشق، واستدعى الجيوش المصرية والشرقية ونازلهم بالقرب من عكا، فكان بينهم قتال شديد وحصار عظيم، ثم وقع الصلح بينهم والهدنة وأطلق لهم شيئا من البلاد فإنا لله وإنا إليه راجعون.

وفيها: جرت حروب كثيرة بين الخوارزمية والغورية بالمشرق يطول ذكرها.

وفيها: تحارب صاحب الموصل نور الدين وصاحب سنجار قطب الدين وساعد الأشرف بن العادل القطب، ثم اصطلحوا وتزوج الأشرف أخت نور الدين، وهي الأتابكية بنت عز الدين مسعود بن مودود بن زنكي، واقفة الأتابكية التي بالسفح، وبها تربتها.

وفيها: كانت زلزلة عظيمة بمصر والشام والجزيرة وقبرص وغيرها من البلاد. قاله ابن الأثير في (كامله).

وفيها: تغلب رجل من التجار يقال له محمود بن محمد الحميري على بعض بلاد حضرموت ظفار وغيرها، واستمرت أيامه إلى سنة تسع عشرة وستمائة وما بعدها.

وفي جمادى الأولى منها عقد مجلس لقاضي القضاة ببغداد وهو أبو الحسن علي بن عبد الله بن سليمان الجيلي بدار الوزير، وثبت عليه محضر بأنه يتناول الرشا فعزل في ذلك المجلس وفسق ونزعت الطرحة عن رأسه، وكانت مدة ولايته سنتين وثلاثة أشهر.

وفيها كانت وفاة الملك ركن الدين بن قلج أرسلان كان ينسب إلى اعتقاد الفلاسفة، وكان كهفا لمن ينسب إلى ذلك، وملجأ لهم، وظهر منه قبل موته تجهرم عظيم، وذلك أنه حاصر أخاه شقيقه - وكان صاحب أنكورية، وتسمى أيضا أنقرة - مدة سنين حتى ضيق عليه الأقوات بها فسلمها إليه قسرا، على أن يعطيه بعض البلاد.

فلما تمكن منه ومن أولاده أرسل إليهم من قتلهم غدرا وخديعة ومكرا فلم ينظر بعد ذلك إلا خمسة أيام فضربه الله تعالى بالقولنج سبعة أيام ومات { فَما بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ وَمَا كَانُوا مُنْظَرِينَ } 6

وقام بالملك من بعده ولده أفلح أرسلان، وكان صغيرا فبقي سنة واحدة، ثم نزع منه الملك وصار إلى عمه كنخسروا.

وفيها: قتل خلق كثير من الباطنية بواسط.

قال ابن الأثير: في رجب منها اجتمع جماعة من الصوفية برباط ببغداد في سماع فأنشدهم، وهو الجمال الحلي:

أعاذلتي أقصري ** كفى بمشيبي عذل

شباب كأن لم يكن ** وشيب كأن لم يزل

وبثي ليال الوصا ** ل أواخرها والأول

وصفرة لون المحبـ ** ـب عند استماع الغزل

لئن عاد عتبي لكم ** حلالي العيش واتصل

فلست أبالي بما نالني ** ولست أبالي بأهل ومل

قال فتحرك الصوفية على العادة فتواجد من بينهم رجل يقال له أحمد الرازي فخر مغشيا عليه، فحركوه فإذا هو ميت. قال: وكان رجلا صالحا، وقال ابن الساعي كان شيخا صالحا صحب الصدر عبد الرحيم شيخ الشيوخ فشهد الناس جنازته، ودفن بباب إبرز.

وفيها توفي من الأعيان:

أبو القاسم بهاء الدين الحافظ ابن الحافظ أبو القاسم علي بن هبة الله بن عساكر

كان مولده في سنة سبع وعشرين وخمسمائة، أسمعه أبوه الكثير، وشارك أباه في أكثر مشايخه، وكتب تاريخ أبيه مرتين بخطه، وكتب الكثير وأسمع وصنف كتبا عدة، وخلف أباه في إسماع الحديث بالجامع الأموي، ودار الحديث النورية.

مات يوم الخميس ثامن صفر ودفن بعد العصر على أبيه بمقابر باب الصغير شرقي قبور الصحابة خارج الحظيرة.

الحافظ عبد الغني المقدسي

ابن عبد الواحد بن علي بن سرور الحافظ أبو محمد المقدسي، صاحب التصانيف المشهورة، من ذلك الكمال في أسماء الرجال، والأحكام الكبرى والصغرى وغير ذلك، ولد بجماعيل في ربيع الآخر سنة إحدى وأربعين وخمسمائة، وهو أسن من عميه الإمام موفق الدين عبد الله بن أحمد بن قدامة المقدسي، والشيخ أبي عمر، بأربعة أشهر،

وكان قدومهما مع أهلهما من بيت المقدس إلى مسجد أبي صالح، خارج باب شرقي أولا، ثم انتقلوا إلى السفح فعرفت محلة الصالحية بهم، فقيل لها الصالحية فسكنوا الدير، وقرأ الحافظ عبد الغني القرآن وسمع الحديث وارتحل هو والموفق إلى بغداد سنة ستين وخمسمائة، فأنزلهما الشيخ عبد القادر عنده في المدرسة، وكان لا يترك أحدا ينزل عنده، ولكن توسم فيهما الخير والنجابة والصلاح فأكرمهما وأسمعهما.

ثم توفي بعد مقدمهما بخمسين ليلة رحمه الله، وكان ميل عبد الغني إلى الحديث وأسماء الرجال، وميل الموفق إلى الفقه واشتغلا على الشيخ أبي الفرج ابن الجوزي، وعلى الشيخ أبي الفتح ابن المنى، ثم قدما دمشق بعد أربع سنين فدخل عبد الغني إلى مصر وإسكندرية، ثم عاد إلى دمشق، ثم ارتحل إلى الجزيرة وبغداد، ثم رحل إلى أصبهان فسمع بها الكثير، ووقف على مصنف للحافظ أبي نعيم في أسماء الصحابة.

قلت: وهو عندي بخط أبي نعيم. فأخذ في مناقشته في أماكن من الكتاب في مائة وتسعين موضعا، فغضب بنو الخجندي من ذلك، فبغضوه وأخرجوه منها مختفيا في إزار. ولما دخل في طريقه إلى الموصل سمع كتاب العقيلي في الجرح والتعديل، فثار عليه الحنفية بسبب أبي حنيفة، فخرج منها أيضا خائفا يترقب، فلما ورد دمشق كان يقرأ الحديث بعد صلاة الجمعة برواق الحنابلة من جامع دمشق، فاجتمع الناس عليه وإليه، وكان رقيق القلب سريع الدمعة، فحصل له قبول من الناس جدا، فحسده بنو الزكي والدولعي وكبار الدماشقة من الشافعية وبعض الحنابلة، وجهزوا الناصح الحنبلي، فتكلم تحت قبة النسر، وأمروه أن يجهر بصوته مهما أمكنه، حتى يشوش عليه فحول عبد الغني ميعاده إلى بعد العصر، فذكر يوما عقيدته على الكرسي فثار عليه القاضي ابن الزكي، وضياء الدين الدولعي، وعقدوا له مجلسا في القلعة يوم الاثنين الرابع والعشرين من ذي القعدة سنة خمس وتسعين.

وتكلموا معه في مسألة العلو ومسألة النزول، ومسألة ا لحرف والصوت، وطال الكلام وظهر عليهم بالحجة، فقال له برغش نائب القلعة: كل هؤلاء على الضلالة وأنت على الحق؟ قال: نعم، فغضب برغش من ذلك وأمره بالخروج من البلد.

فارتحل بعد ثلاث إلى بعلبك، ثم إلى القاهرة، فآواه الطحانيون فكان يقرأ الحديث بها فثار عليه الفقهاء بمصر أيضا، وكتبوا إلى الوزير صفي الدين بن شكر فأقر بنفيه إلى المغرب فمات قبل وصول الكتاب يوم الاثنين الثالث والعشرين من ربيع الأول من هذه السنة، وله سبع وخمسون سنة، ودفن بالقرافة عند الشيخ أبي عمرو بن مرزوق رحمهما الله.

قال السبط: كان عبد الغني ورعا زاهدا عابدا، يصلي كل يوم ثلاثمائة ركعة كورد الإمام أحمد، ويقوم الليل ويصوم عامة السنة، وكان كريما جوادا لا يدخر شيئا، ويتصدق على الأرامل والأيتام حيث لا يراه أحد، وكان يرقع ثوبه ويؤثر بثمن الجديد، وكان قد ضعف بصره من كثرة المطالعة والبكاء وكان أوحد زمانه في علم الحديث والحفظ.

قلت: وقد هذب شيخنا الحافظ أبو الحجاج المزي كتابه الكمال في أسماء الرجال - رجال الكتب الستة - بتهذيبه الذي استدرك عليه فيه أماكن كثيرة، نحوا من ألف موضع، وذلك الإمام المزي الذي لا يمارى ولا يجارى، وكتابه التهذيب لم يسبق إلى مثله، ولا يلحق في شكله فرحمهما الله،

فلقد كانا نادرين في زمانهما في أسماء الرجال حفظا وإتقانا وسماعا وإسماعا وسردا للمتون وأسماء الرجال، والحاسد لا يفلح ولا ينال منالا طائلا.

قال ابن الأثير وفيها توفي:

أبو الفتوح أسعد بن محمود العجلي

صاحب تتمة التتمة أسعد بن أبي الفضل بن محمود بن خلف العجلي الفقيه الشافعي الأصبهاني الواعظ منتخب الدين، سمع الحديث وتفقه وبرع وصنف تتمة التتمة لأبي سعد الهروي، كان زاهدا عابدا، وله شرح مشكلات الوسيط والوجيز، توفي في صفر سنة ستمائة.

البناني الشاعر أبو عبد الله محمد بن المهنا الشاعر المعروف بالبناني

مدح الخلفاء والوزراء وغيرهم، ومدح وكبر وعلت سنه، وكان رقيق الشعر ظريفه قال:

ظلما ترى مغرما في الحب تزجره ** وغيره بالهوى أمسيت تنكره

يا عاذل الصب لو عانيت قاتله ** لو جنة وعذار كنت تعذره

أفدى الذي بسحر عينيه يعلمني ** إذا تصدى لقتلي كيف أسحره

يستمتع الليل في نوم وأسهره ** إلى الصباح وينساني وأذكره

أبو سعيد الحسن بن خلد

ابن المبارك النصراني المازداني الملقب بالوحيد، اشتغل في حداثته بعلم: الأوائل وأتقنه وكانت له يد طولى في الشعر الرائق، فمن ذلك قوله قاتله الله:

أتاني كتاب أنشأته أنامل ** حوت أبحرا من فيضها يغرق البحر

فوا عجبا أني التوت فوق طرسه ** وما عودت بالقبض أنمله العشر

وله أيضا:

لقد أثرت صدغاه في لون خده ** ولاحا كفئ من وراء جاج

ترى عسكرا للروم في الريح مذ بدت ** كطائفة تسعى ليوم هياج

أم الصبح بالليل البهيم موشح ** حكى آبنوسا في صحيفة عاج

لقد غار صدغاه على ورد خده ** فسيجه من شعره بسياج

الطاووسي صاحب الطريقة.

العراقي محمد بن العراقي

ركن الدين أبو الفضل القزويني، ثم الهمداني، المعروف بالطاووسي كان بارعا في علم الخلاف والجدل والمناظرة، أخذ علم ذلك عن رضي الدين النيسابوري الحنفي، وصنف في ذلك ثلاث تعاليق قال ابن خلكان: أحسنهن الوسطى، وكانت إليه الرحلة بهمدان، وقد بنى له بعض الحجبة بها مدرسة تعرف بالحاجبية، ويقال إنه منسوب إلى طاووس بن كيسان التابعي فالله أعلم.

ثم دخلت سنة إحدى وستمائة

فيها عزل الخليفة ولده محمد الملقب بالظاهر عن ولاية العهد بعد ما خطب له سبعة عشر سنة، وولى العهد ولده الآخر عليا، فمات علي عن قريب فعاد الأمر إلى الظاهر، فبويع له بالخلافة بعد أبيه الناصر كما سيأتي في سنة ثلاث وعشرين وستمائة.

وفيها: وقع حريق عظيم بدار الخلافة في خزائن السلاح، فاحترق من ذلك شيء كثير من السلاح والمتعة والمساكن ما يقارب قيمته أربعة آلاف ألف دينار؛ وشاع خبر هذا الحريق في الناس، فأرسلت الملوك من سائر الأقطار هدايا أسلحة إلى الخليفة عوضا عن ذلك وفوقه من ذلك شيئا كثيرا.

وفيها: عاثت الكرج ببلاد المسلمين فقتلوا خلقا، وأسروا آخرين.

وفيها: وقعت الحرب بين أمير مكة قتادة الحسيني، وبين أمير المدينة سالم بن قاسم الحسيني، وكان قتادة قد قصد المدينة فحصر سالما، فيها فركب إليه سالم بعد ما صلى عندا لحجرة فاستنصر الله عليه، ثم برز إليه فكسره وساق وراءه إلى مكة فحصره بها، ثم إن قتادة أرسل إلى أمراء سالم فأفسدهم عليه فكر سالم راجعا إلى المدينة سالما.

وفيها: ملك غياث الدين كيخسرو بن قلج أرسلان بن مسعود بن قلج بلاد الروم واستلبها من ابن أخيه واستقر هو بها وعظم شأنه وقويت شوكته، وكثرت عساكره وأطاعه الأمراء وأصحاب الأطراف، وخطب له الأفضل بن صلاح الدين بسميساط، وسار إلى خدمته.

واتفق في هذه السنة أن رجلا ببغداد نزل إلى دجلة يسبح فيها وأعطى ثيابه لغلامه فغرق في الماء فوجد في ورقة بعمامته هذه الأبيات:

يا أيها الناس كان لي أمل ** قصر بي عن بلوغه الأجل

فليتق الله ربه رجل ** أمكنه في حياته العمل

ما أنا وحدي بفناء بيت ** يرى كل إلى مثله سينتقل

وفيها توفي من الأعيان:

أبو الحسن علي بن عنتر بن ثابت الحلي

المعروف بشميم، كان شيخا أديبا لغويا شاعرا جمع من شعره حماسة كان يفضلها على حماسة أبي تمام، وله خمريات يزعم أنها أفحل من التي لأبي نواس. قال أبو شامة في الذيل: كان قليل الدين ذا حماقة ورقاعة وخلاعة، وله حماسة ورسائل. قال ابن الساعي: قدم بغداد فأخذ النحو عن ابن الخشاب، حصل منه طرفا صالحا، ومن اللغة وأشعار العرب، ثم أقام بالموصل حتى توفي بها. ومن شعره:

لا تسرحن الطرف في مقل المها ** فمصارع الآجال في الآمال

كم نظرة أردت وما أخرت ** وكم يد قبلت أوان قتال

سنحت وما سمحت بتسليمة ** وأغلال التحية فعلة المحتال

وله في التجنيس:

ليت من طول بالشـ ** ـأ م ثواه وثوابه

جعل العود إلى الزو **راء من بعض ثوابه

أترى يوطئني الده ** ر ثرى مسك ترابه

وأراني نور عيني ** موطئا لي وثرى به

وله أيضا في الخمر وغيره:

أبو نصر محمد بن سعد الله ابن نصر بن سعيد الأرتاحي

كان سخيا بهيا واعظا حنبليا فاضلا شاعرا مجيدا وله:

نفس الفتى إن أصلحت أحوالها ** كان إلى نيل المنى أحوى لها

وإن تراها سددت أقوالها ** كان على حمل العلى أوقى لها

فإن تبدت حال من لها لها ** في قبره عند البلى لها لها

أبو العباس أحمد بن مسعود ابن محمد القرطبي الخزرجي

كان إماما في التفسير والفقه والحساب والفرائض والنحو واللغة والعروض والطب، وله تصانيف حسان، وشعر رائق منه قوله:

وفي الوجنات ما في الروض لكن ** لرونق زهرها معنى عجيب

وأعجب ما التعجب منه ** أنى لتيار تحمله عصيب

أبو الفداء إسماعيل بن برتعس السنجاري

مولى صاحبها عمادا لدين زنكي بن مودود، وكان جنديا حسن الصورة مليح النظم كثير الأدب ومن شعره ما كتب به إلى الأشرف موسى بن العادل يعزيه في أخ له اسمه يوسف:

دموع المعالي والمكارم أذرفت ** وربع العلى قاع لفقدك صفصف

غدا الجود والمعروف في اللحد ثاويا ** غداة ثوى في ذلك اللحد يوسف

متى خطفت يد المنية روحه ** وقد كان للأرواح بالبيض يخطف

سقته ليالي الدهر كأس حمامها ** وكان بسقي الموت في الحرب يعرف

فوا حسرتا لو ينفع الموت حسرة ** ووا أسفا لو كان يجدي التأسف

وكان على الأرزاء نفسي قوية ** ولكنها عن حمل ذا الرزء تضعف

أبو الفضل بن إلياس بن جامع الأربلي

تفقه بالنظامية وسمع الحديث، وصنف التاريخ وغيره، وتفرد بحسن كتابة الشروط، وله فضل ونظم، فمن شعره:

أممرض قلبي، ما لهجرك آخر؟** ومسهر طرفي، هل خيالك زائر؟

ومستعذب التعذيب جورا بصده ** أما لك في شرع المحبة زاجر؟

هنيئا لك القلب الذي قد وقفته ** على ذكر أيامي وأنت مسافر

فلا فارق الحزن المبرح خاطري ** لبعدك حتى يجمع الشمل قادر

فإن مت فالتسليم مني عليكم ** يعاودكم ما كبر الله ذاكر

أبو السعادات الحلي

التاجر البغدادي الرافضي، كان في كل جمعة يلبس لأمة الحرب ويقف خلف باب داره،

والباب مجاف عليه، والناس في صلاة الجمعة، وهو ينتظر أن يخرج صاحب الزمان من سرداب سامرا -يعني محمد بن الحسن العسكري -ليميل بسيفه في الناس نصرة للمهدي.

أبو غالب بن كمنونة اليهودي

الكاتب، كان يزور على خط ابن مقلة من قوة خطه، توفي لعنه الله بمطمورة واسط، ذكره ابن الساعي: في تاريخه.

ثم دخلت سنة ثنتين وستمائة

فيها وقعت حرب عظيمة بين شهاب الدين محمد بن سام الغوري، صاحب غزنة، وبين بني بوكر أصحاب الجبل الجودي، وكانوا قد ارتدوا عن الإسلام فقاتلهم وكسرهم وغنم منهم شيئا كثيرا لا يعد ولا يوصف، فاتبعه بعضهم حتى قتله غيلة في ليلة مستهل شعبان منها بعد العشاء.

وكان رحمه الله من أجود الملوك سيرة وأعقلهم وأثبتهم في الحرب، ولما قتل كان في صحبته فخر الدين الرازي، وكان يجلس للوعظ بحضرة الملك ويعظه، وكان السلطان يبكي حين يقول في آخر مجلسه يا سلطان سلطانك لا يبقى، ولا يبقى الرازي أيضا وإن مردنا جميعا إلى الله.

وحين قتل السلطان اتهم الرازي بعض الخاصكية بقتله، فخاف من ذلك والتجأ إلى الوزير مؤيد الملك بن خواجا، فسيره إلى حيث يأمن وتملك غزنة بعده أحد مماليكه تاج الدر، وجرت بعد ذلك خطوب يطول ذكرها، قد استقصاها ابن الأثير وابن الساعي.

وفيها: أغارت الكرج على بلاد المسلمين فوصلوا إلى أخلاط فقتلوا وسبوا وقاتلهم المقاتلة والعامة.

وفيها: سار صاحب إربل مظفر الدين كوكري وصحبته صاحب مراغة لقتال ملك أذربيجان، وهو أبو بكر بن البهلول، وذلك لنكوله عن قتال الكرج وإقباله على السكر ليلا ونهارا فلم يقدروا عليه، ثم إنه تزوج في هذه السنة بنت ملك الكرج، فانكف شرهم عنه.

قال ابن الأثير: وكان كما يقال: أغمد سيفه وسل أيره.

وفيها: استوزر الخليفة نصير الدين ناصر بن مهدي ناصر العلوي الحسني وخلع عليه بالوزارة وضربت الطبول بين يديه وعلى بابه في أوقات الصلوات.

وفيها: أغار صاحب بلاد الأرمن وهو ابن لاون على بلاد حلب فقتل وسبى ونهب.

فخرج إليه الملك الظاهر غازي بن الناصر فهرب ابن لاون بين يديه، فهدم الظاهر قلعة كان قد بناها ودكها إلى الأرض.

وفي شعبان منها هدمت القنطرة الرومانية عند الباب الشرقي، ونشرت حجارتها ليبلط بها الجامع الأموي بسفارة الوزير صفي الدين بن شكر، وزير العادل، وكمل تبليطه في سنة أربع وستمائة.

وفيها توفي من الأعيان:

شرف الدين أبو الحسن علي بن محمد بن علي جمال الإسلام الشهرزوري

بمدينة حمص، وقد كان أخرج إليها من دمشق، وكان قبل ذلك مدرسا بالأمينية والحلقة بالجامع تجاه البرادة، وكان لديه علم جيد بالمذهب والخلاف.

التقي عيسى بن يوسف ابن أحمد العراقي الضرير

مدرس الأمينية أيضا، كان يسكن المنارة الغربية، وكان عنده شاب يخدمه ويقود به فعدم للشيخ دارهم فاتهم هذا الشاب بها فلم يثبت له عنده شيئا، واتهم الشيخ عيسى هذا بأنه يلوط به، ولم يكن يظن الناس أن عنده من المال شيء، فضاع المال واتهم عرضه.

فأصبح يوم الجمعة السابع من ذي القعدة مشنوقا ببيته بالمئذنة الغربية، فامتنع الناس من الصلاة عليه لكونه قتل نفسه، فتقدم الشيخ فخر الدين عبد الرحمن بن عساكر فصلى عليه، فائتم به بعض الناس قال أبو شامة: وإنما حمله على ما فعله ذهاب ماله والوقوع في عرضه.

قال وقد جرى لي أخت هذه القضية فعصمني الله سبحانه بفضله، قال وقد درس بعده في الأمينية الجمال المصري وكيل بيت المال.

أبو الغنائم المركيسهلار البغدادي

كان يخدم مع عز الدين نجاح السراي، وحصل أموالا جزيلة، كان كلما تهيأ له مال اشترى به ملكا وكتبه باسم صاحب له يعتمد عليه، فلما حضرته الوفاة أوصى ذلك الرجل أن يتولى أولاده وينفق عليهم من ميراثه مما تركه لهم.

فمرض الموصي إليه بعد قليل فاستدعى الشهود ليشهدهم على نفسه أن ما في يده لورثة أبي الغنائم، فتمادى ورثته بإحضار الشهود وطولوا عليه وأخذته سكتة فمات فاستولى ورثته على تلك الأموال والأملاك، ولم يقضوا أولاد أبي الغنائم منها شيئا مما ترك لهم.

أبو الحسن علي بن سعاد الفارسي

تفقه ببغداد وأعاد بالنظامية وناب في تدريسها واستقل بتدريس المدرسة التي أنشأتها أم الخليفة وأزيد على نيابة القضاء عن أبي طالب البخاري فامتنع فألزم به فباشره قليلا، ثم دخل يوما إلى مسجد فلبس على رأسه مئزر صوف، وأمر الوكلاء والجلاوذة أن ينصرفوا عنه، وأشهد على نفسه بعزلها عن نيابة القضاء، واستمر على الإعادة والتدريس رحمه الله. وفي يوم الجمعة العشرين من ربيع الأول توفيت:

الخاتون أم السلطان الملك المعظم عيسى بن العادل

فدفنت بالقبة بالمدرسة المعظمية بسفح قاسيون.

الأمير مجير الدين طاشتكين المستنجدي

أمير الحاج وزعيم بلاد خوزستان، كان شيخا خيرا حسن السيرة كثير العبادة، غاليا في التشيع، توفي بتستر ثاني جمادى الآخرة وحمل تابوته إلى الكوفة فدفن بمشهد علي لوصيته بذلك، هكذا ترجمه ابن الساعي في تاريخه.

وذكر أبو شامة في الذيل: أنه طاشتكين بن عبد الله المقتفوي أمير الحاج، حج بالناس ستا وعشرين سنة، كان يكون في الحجاز كأنه ملك، وقد رماه الوزير ابن يونس بأنه يكاتب صلاح الدين فحبسه الخليفة، ثم تبين له بطلان ما ذكر عنه فأطلقه وأعطاه خوزستان ثم أعاده إلى إمرة الحج.

وكانت الحلة الشيعية إقطاعه، وكان شجاعا جوادا سمحا قليل الكلام، يمضي عليه الأسبوع لا يتكلم فيه بكلمة، وكان فيه حلم واحتمال، استغاث به رجل على بعض نوابه فلم يرد عليه، فقال له الرجل المستغيث: أحمار أنت؟ فقال: لا. وفيه يقول ابن التعاويذي:

وأمير على البلاد مولى ** لا يجيب الشاكي بغير السكوت

وكلما زاد رفعة حطنا اللـ ** ـه بتفيله إلى البهموت

وقد سرق فراشه حياجبه له فأرادوا أن يستقروه عليها، وكان قد رآه الأمير طاشتكين حين أخذها فقال: لا تعاقبوا أحدا، قد أخذها من لا يردها، ورآه حين أخذها من لا ينم عليه، وقد كان بلغ من العمر تسعين سنة، واتفق أنه استأجر أرضا مدة ثلاثمائة سنة للوقف، فقال فيه بعض المضحكين: هذا لا يوقن بالموت، عمره تسعون سنة وأستأجر أرضا ثلاثمائة سنة، فاستضحك القوم والله سبحانه وتعالى أعلم.

ثم دخلت سنة ثلاث وستمائة

فيها جرت أمور طويلة بالمشرق بين الغورية والخوارزمية، وملكهم خوارزم شاه بن تكش ببلاد الطالقان.

وفيها: ولى الخليفة القضاء ببغداد لعبد الله بن الدامغاني.

وفيها: قبض الخليفة على عبد السلام بن عبدا لوهاب بن الشيخ عبد القادر الجبلاني، بسبب فسقه وفجوره، وأحرقت كتبه وأمواله قبل ذلك لما فيها من كتب الفلاسفة، وعلوم الأوائل.

وأصبح يستعطي بين الناس، وهذا بخطيئة قيامه على أبي الفرج بن الجوزي، فإنه هو الذي كان وشى به إلى الوزير ابن القصاب حتى أحرقت بعض كتب ابن الجوزي، وختم على بقيتها، ونفي إلى واسط خمس سنين، والناس يقولون: في الله كفاية وفي القرآن، وجزاء سيئة سيئة مثلها.

والصوفية يقولون: الطريق يأخذ. والأطباء يقولون الطبيعة مكافئة.

وفيها: نازلت الفرنج حمص فقاتلهم ملكها أسدا لدين شيركوه، وأعانه بالمدد الملك الظاهر صاحب حلب فكف الله شرهم.

وفيها: اجتمع شابان ببغداد على الخمر فضرب أحدهما الآخر بسكين فقتله وهرب، فأخذ فقتل فوجد مع رقعة فيها بيتان من نظمه أمر أن تجعل بين أكفانه:

قدمت على الكريم بغير زاد ** من الأعمال بالقلب السليم

وسوء الظن أن تعتد زادا ** إذا كان القدوم على كريم

وفيها توفى من الأعيان:

الفقيه أبو منصور عبد الرحمن بن الحسين بن النعمان النبلي

الملقب بالقاضي شريح لذكائه وفضله وبرعاته وعقله وكمال أخلاقه، ولي قضاء بلده ثم قدم بغداد فندب إلى المناصب الكبار فأباها، فحلف عليه الأمير طاشتكين أن يعمل عنده في الكتابة فخدمه عشرين سنة، ثم وشى به الوزير ابن مهدي إلى المهدي فحبسه في دار طاشتكين إلى أن مات في هذه السنة، ثم إن الوزير الواشي عما قريب حبس بها أيضا، وهذا مما نحن فيه من قوله: كما تدين تدان.

عبد الرزاق بن الشيخ عبد القادر

كان ثقة عابدا زاهدا ورعا، لم يكن في أولاد الشيخ عبد القادر الجيلاني خير منه، لم يدخل فيما دخلوا فيه من المناصب والولايات، بل كان متقللا من الدنيا مقبلا على أمر الآخرة، وقد سمع الكثير وسمع عليه أيضا.

أبو الحزم مكي بن زيان

ابن شبة بن صالح الماكسيني، من أعمال سنجار، ثم الموصلي النحوي، قدم بغداد وأخذ على ابن الخشاب وابن القصار، والكمال الأنباري، وقدم الشام فانتفع به خلق كثير منهم الشيخ علم الدين السخاوي وغيره وكان ضريرا، وكان يتعصب لأبي العلاء المعري لما بينهما من القدر المشترك في الأدب والعمى، ومن شعره:

إذا احتاج النوال إلى شفيع ** فلا تقبله تصبح قرير عين

إذا عيف النوال لفرد من ** فأولى أن يعاف لمنتين

ومن شعره أيضا:

نفسي فداء لأغيد غنج ** قال لنا الحق حين ودعنا

من ود شيئا من حبه طمعا ** في قتله للوداع ودعنا

إقبال الخادم جمال الدين أحد خدام صلاح الدين

واقف الإقباليتين الشافعية والحنفية، وكانتا دارين فجعلهما مدرستين، ووقف عليهما وقفا الكبيرة للشافعية والصغيرة للحنفية، وعليها ثلث الوقف. توفي بالقدس رحمه الله.

ثم دخلت سنة أربع وستمائة

فيها رجع الحجاج إلى العراق وهم يدعون الله ويشكون إليه ما لقوا من صدر جهان البخاري الحنفي، الذي كان قدم بغداد في رسالة فاحتفل به الخليفة، وخرج إلى الحج في هذه السنة، فضيق على الناس في المياه والميرة،

فمات بسبب ذلك ستة آلاف من حجيج العراق، وكان فيما ذكروا يأمر غلمانه فتسبق إلى المناهل فيحجزون على المياه ويأخذون الماء فيرشونه حول خيمته في قيظ الحجاز ويسقونه للبقولات التي كانت تحمل معه في ترابها، ويمنعون منه الناس وابن السبيل، الأمين البيت الحرام يبتغون فضلا من ربهم ورضوانا.

فلما رجع مع الناس لعنته العامة ولم تحتفل به الخاصة ولا أكرمه الخليفة ولا أرسل إليه أحدا، وخرج من بغداد والعامة من ورائه يرجمونه ويلعنونه، وسماه الناس صدر جهنم، نعوذ بالله من الخذلان، ونسأله أن يزيدنا شفقة ورحمة لعباده، فإنه إنما يرحم من عباده الرحماء.

وفيها: قبض الخليفة على وزيره ابن مهدي العلوي، وذلك أنه نسب إليه أنه يروم الخلافة، وقيل غير ذلك من الأسباب، والمقصود أنه حبس بدار طاشتكين حتى مات، بها وكان جبارا عنيدا حتى قال بعضهم فيه:

خليلي قولا للخليفة وانصحا ** توق وقيت السوء ما أنت صانع

وزيرك هذا بين أمرين فيهما ** صنيعك يا خير البرية ضائع

فإن كان حقا من سلالة حيدر ** فهذا وزير في الخلافة طامع

وإن كان فيما يدعي غير صادق ** فأضيع ما كانت لديه الصنائع

وقيل: إنه كان عفيفا عن الأموال حسن السيرة جيد المباشرة فالله أعلم بحاله. وفي رمضان منها رتب الخليفة عشرين دارا للضيافة يفطر فيها الصائمون من الفقراء، يطبخ لهم في كل يوم فيها طعام كثير ويحمل إليها أيضا من الخبز النقي والحلواء شيء كثير، وهذا الصنيع يشبه ما كانت قريش تفعله من الرفادة في زمن الحج.

وكان يتولى ذلك عمه أبو طالب، كما كان العباس يتولى السقاية، وقد كانت فيهم السفارة واللواء والندوة له، كما تقدم بيان ذلك في مواضعه، وقد صارت هذه المناصب كلها على أتم الأحوال في الخلفاء العباسيين. وفيها: أرسل الخليفة الشيخ شهاب الدين الشهرزوري وفي صحبته سنقر السلحدار إلى الملك العادل بالخلعة السنية.

وفيها: الطوق والسواران، وإلى جميع أولاده بالخلع أيضا.

وفيها: ملك الأوحد بن العادل صاحب ميافارقين مدينة خلاط بعد قتل صاحبها شرف الدين بكتمر، وكان شابا جميل الصورة جدا، قتله بعض مماليكهم ثم قتل القاتل أيضا، فخلا البلد عن ملك فأخذها الأوحد بن العادل.

وفيها: ملك خوارزم شاه محمد بن تكش بلاد ما وراء النهر بعد حروب طويلة. اتفق له في بعض المواقف أمر عجيب، وهو أن المسلمين انهزموا عن خوارزم شاه وبقي معه عصابة قليلة من أصحابه.

فقتل منهم كفار الخطا من قتلوا، وأسروا خلقا منهم، وكان السلطان خوارزم شاه في جملة من أسروا، أسره رجل وهو لا يشعر به ولا يدري أنه الملك، وأسر معه أميرا يقال له مسعود، فلما وقع ذلك وتراجعت العساكر الإسلامية إلى مقرها فقدوا السلطان فاختبطوا فيما بينهم واختلفوا اختلافا كثيرا وانزعجت خراسان بكمالها.

ومن الناس من حلف أن السلطان قد قتل، وأما ما كان من أمر السلطان وذاك الأمير فقال الأمير للسلطان: من المصلحة أن تترك اسم الملك عنك في هذه الحالة، وتظهر أنك غلام لي، فقبل منه ما قال وأشار به، ثم جعل الملك يخدم ذلك الأمير يلبسه ثيابه ويسقيه الماء ويصنع له الطعام ويضعه بين يديه، ولا يألو جهدا في خدمته.

فقال الذي أسرهما: إني أرى هذا يخدمك فمن أنت؟فقال: أنا مسعود الأمير، وهذا غلامي، فقال: والله لو علم الأمراء أني قد أسرت أميرا وأطلقته لأطلقتك، فقال له: إني إنما أخشى على أهلي، فإنهم يظنون أني قد قتلت ويقيمون المأتم، فإن رأيت أن تفاديني على مال وترسل من يقبضه منهم فعلت خيرا.

فقال: نعم، فعين رجلا من أصحابه فقال له الأمير مسعود: إن أهلي لا يعرفون هذا ولكن إن رأيت أن أرسل معه غلامي هذا فعلت ليبشرهم بحياتي فإنهم يعرفونه، ثم يسعى في تحصيل المال، فقال: نعم، فجهز معهما من يحفظهما إلى مدينة خوارزم شاه.

فلما دنوا من مدينة خوارزم سبق الملك إليها. فلما رآه الناس فرحوا به فرحا شديدا، ودقت البشائر في سائر بلاده، وعاد الملك إلى نصابه، واستقر السرور بإيابه، وأصلح ما كان وهي من مملكته بسبب ما اشتهر من قتله، وحاصر هراه وأخذها عنوة.

وأما الذي كان قد أسره فإنه قال يوما للأمير مسعود الذي يتوجه لي وينوهون به أن خوارزم شاه قد قتل، فقال: لا، هو الذي كان في أسرك، فقال له: فهلا أعلمتني به حتى كنت أرده موقرا معظما؟ فقال: خفتك عليه، فقال: سر بنا إليه، فسارا إليه فأكرمهما إكراما زائدا، وأحسن إليهما.

وأما غدر صاحب سمرقند فإنه قتل كل من كان في أسره من الخوارزمية، حتى كان الرجل يقطع قطعتين ويعلق في السوق كما تعلق الأغنام، وعزم على قتل زوجته بنت خوارزم شاه ثم رجع عن قتلها وحبسها في قلعة وضيق عليها، فلما بلغ الخبر إلى خوارزم شاه سار إليه في الجنود فنازله وحاصر سمرقند فأخذها قهرا وقتل من أهلها نحوا من مائتي ألف.

وأنزل الملك من القلعة وقتله صبرا بين يديه، ولم يترك له نسلا ولا عقبا، واستحوذ خوارزم شاه على تلك الممالك التي هنالك، وتحارب الخطا وملك التتار كشلي خان المتاخم لمملكة الصين، فكتب ملك الخطا لخوارزم شاه يستنجده على التتار ويقول: متى غلبونا خلصوا إلى بلادك، وكذا وكذا.

وكتب التتار إليه أيضا يستنصرونه على الخطا ويقولون: هؤلاء أعداؤنا وأعداؤك، فكن معنا عليهم، فكتب إلى كل من الفريقين يطيب قلبه، وحضر الوقعة بينهم وهو متحيز عن الفريقين، وكانت الدائرة على الخطا، فهلكوا إلا القليل منهم، وغدر التتار ما كانوا عاهدوا عليه خوارزم شاه.

فوقعت بينهم الوحشة الأكيدة، وتواعدوا للقتال، وخاف منهم خوارزم شاه وخرب بلادا كثيرة متاخمة لبلاد كشلى خان خوفا عليها أن يملكها.

ثم إن جنكيز خان خرج على كشلى خان، فاشتغل بمحاربته عن محاربة خوارزم شاه، ثم إنه وقع من الأمور الغريبة ما سنذكره إن شاء الله تعالى.

وفيها: كثرت غارات الفرنج من طرابلس على نواحي حمص، فضعف صاحبها أسد الدين شيركوه عن مقاومتهم، فبعث إليه الظاهر صاحب حلب عسكرا قواه بهم على الفرنج، وخرج العادل من مصر في العساكر الإسلامية، وأرسل إلى جيوش الجزيرة فوافوه على عكا فحاصرها، لأن القبارصة أخذوا من أسطول المسلمين قطعا فيها جماعة من المسلمين.

فطلب صاحب عكا الأمان والصلح على أن يرد الأسارى، فأجابه إلى ذلك، وسار العادل فنزل على بحيرة قدس قريبا من حمص، ثم سار إلى بلاد طرابلس، فأقام اثني عشر يوما يقتل ويأسر ويغنم، حتى جنح الفرنج إلى المهادنة، ثم عاد إلى دمشق.

وفيها: ملك صاحب أذربيجان الأمير نصير الدين أبو بكر بن البهلول مدينة مراغة لخلوها عن ملك قاهر، لأن ملكها مات وقام بالملك بعده ولد له صغير، فدبر أمره خادم له. وفي غرة ذي القعدة شهد محيي الدين أبو محمد يوسف بن عبد الرحمن بن الجوزي عند قاضي القضاة أبي القاسم بن الدامغاني، فقبله وولاه حسبة جانبي بغداد.

وخلع عليه خلعة سنية سوداء بطرحة كحلية، وبعد عشرة أيام جلس للوعظ مكان أبيه أبي الفرج بباب درب الشريف، وحضر عنده خلق كثير. وبعد أربعة أيام من يومئذ درس بمشهد أبي حنيفة ضياء الدين أحمد بن مسعود الركساني الحنفي، وحضر عنده الأعيان والأكابر.

وفي رمضان منها وصلت الرسل من الخليفة إلى العادل بالخلع، فلبس هو وولداه المعظم والأشرف ووزيره صفي الدين بن شكر، وغير واحد من الأمراء، ودخلوا القلعة وقت صلاة الظهر من باب الحديد، وقرأ التقليد الوزير وهو قائم، وكان يوما مشهودا.

وفيها: درس شرف الدين عبد الله ابن زين القضاة عبد الرحمن بالمدرسة الرواحية بدمشق.

وفيها: انتقل الشيخ الخير بن البغدادي من الحنبلية إلى مذهب الشافعية، ودرس بمدرسة أم الخليفة، وحضر عنده الأكابر من سائر المذاهب.

وفيها توفي من الأعيان:

الأمير بنامين بن عبد الله

أحد أمراء الخليفة الناصر، كان من سادات الأمراء عقلا وعفة ونزاهة، سقاه بعض الكتاب من النصارى سما فمات. وكان اسم الذي سقاه ابن ساوا، فسلمه الخليفة إلى غلمان بنيامين فشفع فيه ابن مهدي الوزير وقال: إن النصارى قد بذلوا فيه خمسين ألف دينار، فكتب الخليفة على رأس الورقة:

إن الأسود أسود الغاب همتها ** يوم الكريهة في المسلوب لا السلب

فتسلمه غلمان بنيامين فقتلوه وحرقوه، وقبض الخليفة بعد ذلك على الوزير ابن مهدي كما تقدم.

حنبل بن عبد الله ابن الفرج بن سعادة الرصافي الحنبلي

المكبر بجامع المهدي، راوي مسند أحمد عن ابن الحصين عن ابن المذهب عن أبي مالك عن عبد الله عن أبيه، عمر تسعين سنة وخرج من بغداد فأسمعه بإربل، واستقدمه ملوك دمشق إليها فسمع الناس بها عليه المسند، وكان المعظم يكرمه ويأكل عنده على السماط من الطيبات، فتصيبه التخمة كثيرا، لأنه كان فقيرا ضيق الأمعاء من قلة الأكل، خشن العيش ببغداد.

وكان الكندي إذا دخل على المعظم يسأل عن حنبل فيقول المعظم هو متخوم، فيقول أطعمه العدس فيضحك المعظم، ثم أعطاه المعظم مالا جزيلا ورده إلى بغداد فتوفي بها، وكان مولده سنة عشر وخمسمائة، وكان معه ابن طبرزد، فتأخرت وفاته عنه إلى سنة سبع وستمائة.

عبد الرحمن بن عيسى ابن أبي الحسن المروزي الواعظ البغدادي

سمع من ابن أبي الوقت وغيره، واشتغل علي ابن الجوزي بالوعظ، ثم حدثته نفسه بمضاهاته وشمخت نفسه، واجتمع عليه طائفة من أهل باب النصيرة ثم تزوج في آخر عمره وقد قارب السبعين، فاغتسل في يوم بارد فانتفخ ذكره فمات في هذه السنة.

الأمير زين الدين قراجا الصلاحي

صاحب صرخد، كانت له دار عند باب الصفير عند قناة الزلاقة، وتربته بالسفح في قبة على جادة الطريق عند تربة ابن تميرك، وأقر العادل ولده يعقوب على صرخد.

عبد العزيز الطبيب

توفي فجأة، وهو والد سعد الدين الطبيب الأشرفي، وفيه يقول ابن عنين:

فراري ولا خلف الخطيب جماعة ** وموت ولا عبد العزيز طبيب

وفيها توفي:

العفيف بن الدرحي

إمام مقصورة الحنفية الغربية بجامع بني أمية.

أبو محمد جعفر بن محمد ابن محمود بن هبة الله بن أحمد بن يوسف الإربلي

كان فاضلا في علوم كثيرة في الفقه على مذهب الشافعي، والحساب، والفرائض، والهندسة، والأدب، والنحو، وما يتعلق بعلوم القرآن العزيز، وغير ذلك ومن شعره:

لا يدفع المرء ما يأتي به القدر ** وفي الخطوب إذا فكرت معتبر

فليس ينجي من الأقدار إن نزلت ** رأى وحزم ولا خوف ولا حذر

فاستعمل الصبر في كل الأمور ولا ** تجزع لشيء فعقبى صبرك الظفر

كم مُسنا عسر فصرفه الإ ** له عنا وولى بعده سر

لا ييئس المرء من روح الإله فما ** ييأس منه إلا عصبة كفروا

إني لأعلم أن الدهر ذو دول ** وأن يوميه ذا أمن وذا خطر

ثم دخلت سنة خمس وستمائة

في محرمها كمل بناء دار الضيافة ببغداد التي أنشأها الناصر لدين الله بالجانب الغربي منها للحجاج والمارة لهم الضيافة ما داموا نازلين بها، فإذا أراد أحدهم السفر منها زود، وكسي، وأعطي بعد ذلك دينارا، جزاه الله خيرا.

وفيها: عاد أبو الخطاب ابن دحية الكلبي من رحلته العراقية، فاجتاز بالشام، فاجتمع في مجلس الوزير الصفي هو والشيخ تاج الدين أبو اليمن الكندي شيخ اللغة والحديث، فأورد ابن دحية في كلامه حديث الشفاعة حتى انتهى إلى قول إبراهيم عليه السلام: «إنما كنت خليلا من وراء وراء» بفتح اللفظتين.

فقال الكندي: من وراء وراء بضمهما، فقال ابن دحية للوزير ابن شكر: من هذا؟

فقال: هذا أبو اليمن الكندي، فنال منه ابن دحية، وكان جريئا.

فقال الكندي: هو من كلب ينبح كما ينبح الكلب.

قال أبو شامة: وكلتا اللفظتين محكية، وحكى فيهما الجر أيضا.

وفيها: عاد فخر الدين بن تيمية خطيب من حران من الحج إلى بغداد وجلس بباب بدر للوعظ، مكان محيي الدين يوسف بن الجوزي، فقال في كلامه ذلك:

وابن اللبون إذا ما لزَّ في قرن ** لم يستطع صولة البزل القناعيس

كأنه يعرض بابن الجوزي يوسف لكونه شابا ابن خمس وعشرين سنة والله أعلم.

وفي يوم الجمعة تاسع محرم دخل مملوك أفرنجي من باب مقصورة جامع دمشق وهو سكران وفي يده سيف مسلول، والناس جلوس ينتظرون صلاة الفجر، فمال على الناس يضربهم بسيفه، فقتل اثنتين أو ثلاثة، وضرب المنبر بسيفه فانكسر سيفه، فأخذوا أودع المارستان وشنق في يومه ذلك على جسر اللابادين.

وفيها: عاد الشيخ شهاب الدين السهروردي من دمشق بهدايا الملك العادل فتلقاه الجيش ومعه أموال كثيرة أيضا لنفسه، وكان قبل ذلك فقيرا زاهدا، فلما عاد منع من الوعظ وأخذت منه الربط التي يباشرها، ووكل إلى ما بيده من الأموال، فشرع في تفريقها على الفقراء والمساكين، فاستغنى منه خلق كثير.

فقال المحيي ابن الجوزي في مجلس وعظه: لا حاجة بالرجل يأخذ أموالا من غير حقها، ويصرفها إلى من يستحقها، ولو ترك على ما كان تركها أولى به من تناولها، وإنما أراد أن ترتفع منزلته ببذلها. ويعود على حاله كما كان مباشره لما بذلها، فليحذر العبد الدنيا فإنها خداعة غرارة تسترق فُحول العلماء والعباد.

وقد وقع ابن الجوزي فيما بعد فيما وقع فيه السهروردي وأعظم.

وفيها: قصدت الفرنج حمص وعبروا على العاصي يجسر عدوة، فلما عرف بهم العساكر ركبوا في آثارهم فهربوا منهم فقتلوا خلقا كثيرا منهم، وغنم المسلمون منهم غنيمة جيدة، ولله الحمد.

وفيها: قتل صاحب الجزيرة، وكان من أسوأ الناس سيرة وأخبثهم سريرة وهو الملك سنجر شاه بن غازي بن مودود بن زنكي بن آقسنقر الأتابكي، ابن عم نور الدين صاحب الموصل، وكان الذي تولى قتله ولده غازي، توصل إليه حتى دخل عليه وهو في الخلاء سكران، فضربه بسكين أربع عشرة ضربة، ثم ذبحه، وذلك كله ليأخذ الملك من بعده فحرمه الله إياه.

فبويع بالملك لأخيه محمود وأخذ غازي القاتل فقتله من يومه، فسلبه الله الملك والحياة، ولكن أراح الله المسلمين من ظلم أبيه وغشمه وفسقه.

وفيها توفي من الأعيان:

أبو الفتح محمد بن أحمد بن بخيتار

ابن علي الواسطي المعروف بابن السنداي، آخر من روى المسند عن أحمد بن حنبل عن بن الحصين، وكان من بيت فقه وقضاء وديانة، وكان ثقة عدلا متورعا في النقل، ومما أنشده من حفظه:

ولو أن ليلى مطلع الشمس دونها ** وكانت من وراء الشمس حين تغيب

لحدثت نفسي بانتظار نوالها ** وقال المنى لي: إنها لقريب

قاضي القضاة لمصر

صدر الدين عبد الملك بن درباس المارديني الكردي والله أعلم.

ثم دخلت سنة ست وستمائة

في المحرم وصل نجم الدين خليل شيخ الحنفية من دمشق إلى بغداد في الرسلية عن العادل ومعه هدايا كثيرة، وتناظر هو وشيخ النظامية مجد الدين يحيى بن الربيع في مسألة وجوب الزكاة في مال اليتيم والمجنون، وأخذ الحنفي يستدل على عدم وجوبها، فاعترض عليه الشافعي فأجاد كل منهما في الذي أورده، ثم خلع على الحنفي وأصحابه بسبب الرسالة، وكانت المناظرة بحضرة نائب الوزير ابن شكر.

وفي يوم السبت خامس جمادى الآخرة وصل الجمال يونس بن بدران المصري رئيس الشافعية بدمشق إلى بغداد في الرسلية عن العادل، فتلقاه الجيش مع حاجب الحجاب، ودخل معه ابن أخي صاحب إربل مظفر الدين كوكري، والرسالة تتضمن الاعتذار عن صاحب إربل والسؤال في الرضا عنه، فأجيب إلى ذلك.

وفيها: ملك العادل الخابور ونصيبين وحاصر مدينة سنجار مدة فلم يظفر بها ثم صالح صاحبها ورجع عنها.

وفيها توفي من الأعيان:

القاضي الأسعد ابن مماتي

أبو المكارم أسعد بن الخطير أبي سعيد مهذب بن مينا بن زكريا الأسعد بن مماتي بن أبي قدامة ابن أبي مليح المصري الكاتب الشاعر، أسلم في الدولة الصلاحية وتولى نظر الدواوين بمصر مدة قال ابن خلكان: وله فضائل عديدة، ومصنفات كثيرة، ونظم (سيرة صلاح الدين، و(كليلة ودمنة)، وله ديوان شعر.

ولما تولى الوزير ابن شكر هرب منه إلى حلب فمات بها وله ثنتان وستون سنة. فمن شعره في ثقيل زاره بدمشق:

حكى نهرين وما في الأر ** ض من يحكيهما أبدا

حكى في خلقه ثورا ** أراد وفي أخلاقه بردا

أبو يعقوب يوسف بن إسماعيل

ابن عبدا لرحمن بن عبدا لسلام اللمعاني، أحد الأعيان من الحنفية ببغداد، سمع الحديث ودرس بجامع السلطان، وكان معتزليا، في الأصول، بارعا في الفروع، اشتغل على أبيه وعمه، وأتقن الخلاف وعلم المناظرة، وقارب التسعين.

أبو عبد الله محمد بن الحسن المعروف بابن الخراساني

المحدث الناسخ، كتب كثيرا، من الحديث وجمع خطبا، له ولغيره وخطه جيد مشهور.

أبو الواهب معتوق بن منيع

ابن مواهب الخطيب البغدادي، قرأ النحو واللغة على ابن الخشاب، وجمع خطبا، كان يخطب منها، وكان شيخا فاضلا له ديوان شعر، فمنه قوله:

ولا ترجو الصداقة من عدوٍ ** يعادي نفسه سرا وجهرا

فلو أجدت مودته انتفاعا ** لكان النفع منه إليه أجرا

ابن خروف شارح سيبويه على بن محمد بن يوسف أبو الحسن بن خروف الأندلسي النحوي

شرح سيبويه، وقدمه إلى صاحب المغرب فأعطاه ألف دينار، وشرح جمل الزجاجي، وكان يتنقل في البلاد ولا يسكن إلا في الخانات، ولم يتزوج ولا تسرى، ولذلك علة تغلب على طباع الأراذل وقد تغير عقله في آخر عمره، فكان يمشي في الأسواق مكشوف الرأس، توفي عن خمس وثمانين سنة.

أبو علي يحيى بن الربيع ابن سلميان بن حرار الواسطي البغدادي

اشتغل بالنظامية على فضلان وأعاد عنه، وسافر إلى محمد بن يحيى فأخذ عنه طريقته في الخلاف، ثم عاد إلى بغداد ثم صار مدرسا بالنظامية وناظرا على أوقافها، وقد سمع الحديث وكان لديه علوم كثيرة، ومعرفة حسنة بالمذهب، وله تفسير في أربع مجلدات كان يدرس منه، واختصر تاريخ الخطيب والذيل عليه لابن السمعاني وقارب الثمانين.

ابن الأثير صاحب جامع الأصول والنهاية

المبارك بن محمد بن محمد بن عبد الكريم بن عبد الواحد مجد الدين أبو السعادات الشيباني الجزري الشافعي، المعروف بابن الأثير، وهو أخو الوزير وزير الأفضل ضياء الدين نصر الله، وأخو الحافظ عز الدين أبي الحسن علي صاحب الكامل في التاريخ، ولد أبو السعادات هذا في إحدى الربيعين سنة أربع وأربعين وخمسمائة، وسمع الحديث الكثير وقرأ القرآن وأتقن علومه وحررها، وكان مقامه بالموصل، وقد جمع في سائر العلوم كتبا مفيدة، منها جامع الأصول الستة الموطأ والصحيحين وسنن أبي داود والنسائي والترمذي، ولم يذكر ابن ماجه فيه، وله كتاب النهاية في غريب الحديث وله شرح مسند الشافعي والتفسير في أربع مجلدات، وغير ذلك في فنون شتى، وكان معظما عند ملوك الموصل، فلما آل الملك إلى نور الدين أرسلان شاه، أرسل إليه مملوكه لؤلؤ أن يستوزره فأبى فركب السلطان إليه فامتنع أيضا وقال له: قد كبرت سني واشتهرت بنشر العلم، ولا يصلح هذا الأمر إلا بشيء من العسف والظلم، ولا يليق بي ذلك، فأعفاه.

قال أبو السعادات: كنت أقرأ علم العربية على سعيد بن الدهان، وكان يأمرني بصنعة الشعر فكنت لا أقدر عليه، فلما توفي الشيخ رأيته في بعض الليالي، فأمرني بذلك، فقلت له: ضع لي مثالا أعمل عليه فقال:

حب العلا مدمنا إن فاتك الظفر** فقلت أنا: وخدّ خد الثرى والليل معتكر

فالعز في صهوات الليل مركزه ** والمجد ينتجه الإسراء والسهر

فقال:

أحسنت ثم استيقظت فأتممت عليها نحوا من عشرين بيتا.

كانت وفاته في سلخ ذي الحجة عن ثنتين وستين سنة، وقد ترجمه أخوه في الذيل فقال: كان عالما في عدة علوم منها الفقه وعلم الأصول والنحو والحديث واللغة، وتصانيفه مشهورة في التفسير والحديث والفقه والحساب وغريب الحديث، وله رسائل مدونة، وكان مغلقا يضرب به المثل ذا دين متين، ولزم طريقة مستقيمة رحمه الله، فلقد كان من محاسن الزمان.

قال ابن الأثير وفيها توفي:

المجلد المطرزي النحوي الخوارزمي

كان إماما في النحو له فيه تصانيف حسنة.

قال أبو شامة. وفيها توفي:

الملك المغيث فتح الدين عمر بن الملك العادل

ودفن في تربة أخيه المعظم بسفح قاسيون والملك المؤيد مسعود بن صلاح الدين

بمدرسة رأس العين فحمل إلى حلب فدفن بها. وفيها توفي:

الفخر الرازي

المتكلم صاحب التيسير والتصانيف، يعرف بابن خطيب الري، واسمه محمد بن عمر بن الحسين ابن علي القرشي التيمي البكري، أبو المعالي وأبو عبد الله المعروف بالفخر الرازي، ويقال له ابن خطيب الري، أحد الفقهاء الشافعية المشاهير بالتصانيف الكبار والصغار نحو من مائتي مصنف، منها التفسير الحافل والمطالب العالية، والمباحث الشرقية، والأربعين، وله أصول الفقه والمحصول وغيره، وصنف ترجمه الشافعي في مجلد مفيد، وفيه غرائب لا يوافق عليها، وينسب إليه أشياء عجيبة، وقد ترجمته في طبقات الشافعية، وقد كان معظما عند ملوك خوارزم وغيرهم، وبنيت له مدارس كثيرة في بلدان شتى، وملك من الذهب العين ثمانين ألف دينار، وغير ذلك من الأمتعة والمراكب والأثاث والملابس، وكان له خمسون مملوكا من الترك،

وكان يحضر في مجلس وعظه الملوك والوزراء والعلماء والأمراء والفقراء والعامة، وكانت له عبادات وأوراد، وقد وقع بينه وبين الكرامية في أوقات وكان يبغضهم ويبغضونه ويبالغون في الحط عليه، ويبالغ هو أيضا في ذمهم. وقد ذكرنا طرفا من ذلك فيما تقدم، وكان مع غزارة علمه في فن الكلام يقول: من لزم مذهب العجائز كان هو الفائز، وقد ذكرت وصيته عند موته وأنه رجع عن مذهب الكلام فيها إلى طريقة السلف وتسليم ما ورد على وجه المراد اللائق بجلال الله سبحانه.

وقال الشيخ شهاب الدين أبو شامة في الذيل في ترجمته: كان يعظ وينال من الكرامية وينالون منه سبا وتكفيرا بالكبائر، وقيل إنهم وضعوا عليه من سقاه سما فمات ففرحوا بموته، وكانوا يرمونه بالمعاصي مع المماليك وغيرهم، قال: وكانت وفاته في ذي الحجة، ولا كلام في فضله ولا فيما كان يتعاطاه، وقد كان يصحب السلطان ويحب الدنيا ويتسع فيها اتساعا زائدا، وليس ذلك من صفة العلماء، ولهذا وأمثاله كثرت الشناعات عليه، وقامت عليه شناعات عظيمة بسبب كلمات كان يقولها مثل قوله: قال محمد البادي، يعني العربي يريد به النبي ، نسبة إلى البادية. وقال محمد الرازي يعني نفسه، ومنها أنه كان يقرر الشبهة من جهة الخصوم بعبارات كثيرة ويجيب عن ذلك بأدنى إشارة وغير ذلك، قال وبلغني أنه خلف من الذهب العين مائتي ألف دينار غير ما كان يملكه من الدواب والثياب والعقار والآلات، وخلف ولدين أخذ كل واحد منهما أربعين ألف دينار، وكان ابنه الأكبر قد تجند وخدم السلطان محمد بن تكش.

وقال ابن الأثير في (الكامل):

وفيها: توفي فخر الدين الرازي محمد بن عمر بن خطيب الري الفقيه الشافعي صاحب التصانيف المشهورة والفقه والأصول، كان إمام الدنيا في عصره، بلغني أن مولده سنة ثلاث وأربعين وخمسمائة ومن شعره قوله:

إليك إله الخلق وجهي ووجهتي ** وأنت الذي أدعوه في السر والجهر

وأنت غياثي عند كل ملمة ** وأنت ملاذي في حياتي وفي قبري

ذكره ابن الساعي عن ياقوت الحموي عن ابن الفخر الدين عنه وبه قال:

تتمة أبواب السعادة للخلق ** بذكر جلال الواحد الأحد الحق

مدبر كل الممكنات بأسرها ** ومبدعها بالعدل والقصد والصدق

أجل جلال الله عن شبه خلقه ** وأنصر هذا الدين في الغرب والشرف

إله عظيم الفضل والعدل والعلى ** هو المرشد المغوي هو المسعد المشقي

ومما كان ينشده:

وأرواحنا في وحشة من جسومنا ** وحاصل دنيانا أذىً ووبال

ولم نستفد من بحثنا طول عمرنا ** سوى أن جمعنا فيه قيل وقالوا

ثم يقول: لقد اختبرت الطرق الكلامية والمناهج الفلسفية فلم أجدها تروي غليلا ولا تشفى عليلا، ورأيت أقرب الطرق طريقة القرآن، أقرأ في الإثبات: { الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى } 7.

{ إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُب } 8.

وفي النفي: { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ } 9، { هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيّا } 10.

ثم دخلت سنة سبع وستمائة

ذكر الشيخ أبو شامة أن في هذه السنة تمالأت ملوك الجزيرة: صاحب الموصل وصاحب سنجار وصاحب إربل والظاهر صاحب حلب وملك الروم، على مخالفة العادل ومنابذته ومقاتلته واصطلام الملك من يده، وأن تكون الخطبة للملك كنجر بن قلج أرسلان صاحب الروم، وأرسلوا إلى الكرج ليقدموا الحصار خلاط، وفيها الملك الأوحد بن العادل، ووعدهم النصر والمعاونة عليه.

قلت وهذا بغي وعدوان ينهى الله عنه، فأقبلت الكرج بملكهم إيواني فحاصروا خلاط فضاق بهم الأوحد ذرعا وقال: هذا يوم عصيب، فقدر الله تعالى أن في يوم الاثنين تاسع عشر ربيع الآخر اشتد حصارهم للبلد وأقبل ملكهم إيواني وهو راكب على جواده وهو سكران فسقط به جواده في بعض الحفر التي قد أعدت مكيدة حول البلد، فبادر إليه رجال البلد فأخذوه أسيرا حقيرا، فأسقط في أيدي الكرج، فلما أوقف بين يدي الأوحد أطلقه ومن عليه وأحسن إليه، وفاداه على مائتي ألف دينار وألفي أسير من المسلمين، وتسليم إحدى وعشرين قلعة متاخمة لبلاد الأوحد وأن يزوج ابنته من أخيه الأشرف موسى، وأن يكون عونا له على من يحاربه، فأجابه إلى ذلك كله فأخذت منه الأيمان بذلك وبعث الأوحد إلى أبيه يستأذنه في ذلك كله وأبوه نازل بظاهر حراب في أشد حدة مما قد داهمه من هذا الأمر الفظيع، فبينما هو كذلك إذ أتاه هذا الخبر والأمر الهائل من الله العزيز الحكيم، لا من حولهم ولا من قوتهم، ولا كان في بالهم، فكاد يذهل من شدة الفرح والسرور، ثم أجاز جميع ما شرطه ولده، وطارت الأخبار بما وقع بين الملوك فخضعوا وذلوا عند ذلك، وأرسل كل منهم يعتذر مما نسب إليه ويحيل على غيره، فقبل منهم اعتذاراتهم وصالحهم صلحا أكيدا واستقبل الملك عصرا جديدا، وفي ملك الكرج الأوحد بجميع ما شرطه عليه، وتزوج الأشرف ابنته.

ومن غريب ما ذكره أبو شامة في هذه الكائنة أن قسيس الملك كان ينظر في النجوم فقال للملك قبل ذلك بيوم: أعلم أنك تدخل غدا إلى قلعة خلاط ولكن بزي غير ذلك أذان العصر، فوافق دخوله إليها أسيرا أذان العصر.

ذكر وفاة صاحب الموصل نور الدين

أرسل الملك نور الدين شاه بن عز الدين مسعود بن قطب الدين مودود بن زنكي صاحب الموصل يخطب ابنة السلطان الملك العادل، وأرسل وكيله لقبول العقد على ثلاثين ألف دينار، فاتفق موت نور الدين ووكيله سائر في أثناء الطريق، فعقد العقد بعد وفاته، وقد أثنى عليه ابن الأثير في كامله كثيرا وشكر منه ومن عدله وشهامته وهو أعلم به من غيره، وذكر أن مدة ملكه سبع عشرة سنة وإحدى عشر شهرا، وأما أبو المظفر السبط فإنه قال: كان جبارا ظالما بخيلا سفاكا للدماء فالله أعلم به.

وقام بالملك ولده القاهر عز الدين مسعود، وجعل تدبير مملكته إلى غلامه بدر الدين لؤلؤ الذي صار الملك إليه فيما بعد.

قال أبو شامة: وفي سابع شوال شرع في عمارة المصلى، وبنى له أربع جدر مشرفة، وجعل له أبوابا صونا لمكانه من الميار ونزول القوافل، وجعل في قبلته محرابا من حجارة ومنبرا من حجارة وعقدت فوق ذلك قبة.

ثم في سنة ثلاث عشرة عمل في قبلته رواقان وعمل له منبر من خشب ورتب له خطيب وإمام راتبان، ومات العادل ولم يتم الرواق الثاني منه، وذلك كله على يد الوزير الصفي ابن شكر.

قال وفي ثاني شوال منها جددت أبواب الجامع الأموي من ناحية باب البريد بالنحاس الأصفر، وركبت في أماكنها. وفي شوال أيضا شرع في إصلاح الفوارة والشاذروان والبركة وعمل عندها مسجد، وجعل له إمام راتب، وأول من تولاه رجل يقال له النفيس المصري، وكان يقال له بوق الجامع لطيب صوته إذا قرأ على الشيخ أبي منصور الضرير المصدر فيجتمع عليه الناس الكثيرون.

وفي ذي الحجة منها توجهت مراكب من عكا إلى البحر إلى ثغر دمياط

وفيها: ملك قبرص المسمى إليان فدخل الثغر ليلا فأغار على بعض البلاد فقتل وسبى وكر راجعا فركب مراكبه ولم يدركه الطلب، وقد تقدمت له مثلها قبل هذه، وهذا شيء لم يتفق لغيره لعنه الله.

وفيه عاثت الفرنج بنواحي القدس فبرز إليهم الملك المعظم، وجلس الشيخ شمس الدين أبو المظفر ابن قر علي الحنفي وهو سبط ابن الجوزي ابن ابنته رابعة، وهو صاحب مرآة الزمان، وكان فاضلا في علوم كثيرة، حسن الشكل طيب الصوت وكان يتكلم في الوعظ جيدا وتحبه العامة على صيت جده، وقد رحل من بغداد فنزل دمشق وأكرمه ملوكها، وولى التدريس بها، وكان يجلس كل يوم سبت عند باب مشهد علي بن الحسين زين العابدين إلى السارية التي يجلس عندها الوعاظ في زماننا هذا،

فكان يكثر الجمع عنده حتى يكونوا من باب الناطفانيين إلى باب المشهد إلى باب الساعات، الجلوس غير الوقوف، فحزر جمعه في بعض الأيام ثلاثين ألفا من الرجال والنساء، وكان الناس يبيتون ليلة السبت في الجامع ويدعون البساتين، يبيتون في قراءة ختمات وأذكار ليحصل لهم أماكن من شدة الزحام، فإذا فرغ من وعظه خرجوا إلى أماكنهم وليس لهم كلام إلا فيما قال يومهم ذلك أجمع، يقولون قال الشيخ وسمعنا من الشيخ فيحثهم ذلك على العمل الصالح والكف عن المساوي، وكان يحضر عنده الأكابر، حتى الشيخ تاج الدين أبو اليمن الكندي، كان يجلس في القبة التي عند باب المشهد هو ووالي البلد المعتمد ووالي البر ابن تميرك وغيرهم.

والمقصود أنه لما جلس يوم السبت خامس ربيع الأول كما ذكرنا حث الناس على الجهاد وأمر بإحضار ما كان تحصل عنده من شعر التائبين، وقد عمل منه شكالات تحمل الرجال، فلما رآها الناس ضجوا ضجة واحدة وبكوا بكاء كثيرا وقطعوا من شعورهم نحوها، فلما انقضى المجلس ونزل عن المنبر فتلقاه الوالي مبادر الدين المعتمد بن إبراهيم.

وكان من خيار الناس، فمشى بين يديه إلى باب الناطفيين يعضده حتى ركب فرسه والناس من بين يديه ومن خلفه وعن يمينه وعن شماله، فخرج من باب الفرج وبات بالمصلى ثم ركب من الغد في الناس إلى الكسوة ومعه خلائق كثيرون خرجوا بنية الجهاد إلى بلاد القدس، وكان من جملة من معه ثلاثمائة من جهة زملكا بالعدد الكثيرة التامة، قال:

فجئنا عقبة أفيق والطير لا يتجاسر أن يطير من خوف الفرنج، فلما وصلنا نابلس تلقانا المعظم، قال ولم أكن اجتمعت به قبل ذلك، فلما رأى الشكالات من شعور التائبين جعل يقبلها ويمرغها على عينيه ووجهه ويبكي، وعمل أبو المظفر ميعادا بنابلس وحث على الجهاد وكان يوما مشهودا، ثم سار هو ومن معه وصحبته المعظم نحو الفرنج فقتلوا خلقا وخربوا أماكن كثيرة، وغنموا وعادوا سالمين، وشرع المعظم في تحصين جبل الطور وبنى قلعة فيه ليكون إلبا على الفرنج، فغرم أموالا كثيرة في ذلك، فبعث الفرنج إلى العادل يطلبون منه الأمان والمصالحة، فهادنهم وبطلت تلك العمارة وضاع ما كان المعظم غرم عليها والله أعلم.

وفيها توفي من الأعيان:

الشيخ أبو عمر باني المدرسة بسفح قاسيون

للفقراء المشتغلين في القرآن رحمه الله، محمد بن أحمد بن محمد بن قدامة الشيخ الصالح أبو عمر المقدسي، باني المدرسة التي بالسفح يقرأ بها القرآن العزيز، وهو أخو الشيخ موفق الدين عبد الله بن أحمد بن محمد بن قدامة، وكان أبو عمر أسن منه، لأنه ولد سنة ثمان وعشرين وخمسمائة بقرية الساويا، وقيل بجماعيل، والشيخ أبو عمر ربى الشيخ موفق الدين وأحسن إليه وزوجه، وكان يقوم بمصالحه، فلما قدموا من الأرض المقدسة نزلوا بمسجد أبي صالح خارج باب شرقي ثم انتقلوا منه إلى السفح، ليس به من العمارة شيء سوى دير الحوراني،

قال فقيل لنا الصالحيين نسبة إلى مسجد أبي صالح لا أنا صالحون، وسميت هذه البقعة من ذلك الحين بالصالحية نسبة إلينا، فقرأ الشيخ أبو عمر القرآن على رواية أبي عمرو، وحفظ مختصر الخرقي في الفقه، ثم إن أخاه الموفق شرحه فيما بعد فكتب شرحه بيده، وكتب تفسير البغوي والحلية لأبي نعيم والإبانة لابن بطة، وكتب مصاحف كثيرة بيده للناس ولأهله بلا أجرة، وكان كثير العبادة والزهادة والتهجد، ويصوم الدهر وكان لا يزال متبسما، وكان يقرأ كل يوم سبعا بين الظهر والعصر ويصلي الضحى ثماني ركعات يقرأ فيهن ألف مرة قل هو الله أحد، وكان يزور مغارة الدم في كل يوم اثنين وخميس، ويجمع في طريقه الشيح فيعطيه الأرامل والمساكين، ومهما تهيأ له من فتوح وغيره يؤثر به أهله والمساكين، وكان متقللا في الملبس وربما مضت عليه مدة لا يلبس فيها سراويل ولا قميصا، وكان يقطع من عمامته قطعا يتصدق بها أو في تكميل كفن ميت، وكان هو وأخوه وابن خالهم الحافظ عبد الغني وأخوه الشيخ العماد لا ينقطعون عن غزاة يخرج فيها الملك صلاح الدين إلى بلاد الفرنج، وقد حضروا معه فتح القدس والسواحل وغيرها، وجاء الملك العادل يوما إلى ختمهم أي خصهم لزيارة أبي عمر وهو قائم يصلي، فما قطع صلاته ولا أوجز فيها، فجلس السلطان واستمر أبو عمر في صلاته ولم يلتفت إليه حتى قضى صلاته رحمه الله.

والشيخ أبو عمر هو الذي شرع في بناء المسجد الجامع أولا بمال رجل فامي، فنفد ما عنده وقد ارتفع البناء قامة فبعث صاحب إربل الملك المظفر كوكرى مالا فكمل به، وولى خطابته الشيخ أبو عمر، فكان يخطب به وعليه لباسه الضعيف وعليه أنوار الخشية والتقوى والخوف من الله عز وجل، والمسك كيف خبأته ظهر عليك وبان، وكان المنبر الذي فيه يومئذ ثلاث مراقي والرابعة للجلوس، كما كان المنبر النبوي.

وقد حكى أبو المظفر: أنه حضر يوما عنده الجمعة وكان الشيخ عبد الله البوتاني حاضرا الجمعة أيضا عنده، فلما انتهى في خطبته إلى الدعاء للسلطان قال:

اللهم اصلح عبدك الملك العادل سيف الدين أبا بكر بن أيوب، فلما قال ذلك نهض الشيخ عبد الله البوتاني وأخذ نعليه وخرج من الجامع وترك صلاة الجمعة، فلما فرغنا ذهبت إلى البوتاني فقلت له: ماذا نقمت عليه في قوله؟ فقال يقول لهذا الظالم العادل؟ لا صليت معه، قال فبينما نحن في الحديث إذ أقبل الشيخ أبو عمر ومعه رغيف وخيارتان فكسر ذلك الرغيف وقال الصلاة، ثم قال:

قال النبي : «بعثت في زمن الملك العادل كسرى» فتبسم الشيخ عبد الله البوتاني ومد يده فأكل، فلما فرغوا قام الشيخ أبو عمر فذهب، فلما ذهب قال لي البوتاني: يا سيدنا ماذا إلا رجل صالح.

قال أبو شامة: كان البوتاني من الصالحين الكبار، وقد رأيته وكانت وفاته بعد أبي عمر بعشر سنين فلم يسامح الشيخ أبا عمر في تساهله مع ورعه، ولعله كان مسافرا والمسافر لا جمعة عليه، وعذر الشيخ أبي عمر أن هذا قد جرى مجرى الأعلام العادل الكامل الأشرف ونحوه،

كما يقال سالم وغانم ومسعود ومحمود، وقد يكون ذلك على الضد والعكس في هذه الأسماء، فلا يكون سالما ولا غانما ولا مسعودا ولا محمودا، وكذلك اسم العادل ونحوه من أسماء الملوك وألقابهم، والتجار وغيرهم، كما يقال شمس الدين وبدر الدين وعز الدين وتاج الدين ونحو ذلك قد يكون معكوسا على الضد والانقلاب ومثله الشافعي والحنبلي وغيرهم.

وقد تكون أعماله ضد ما كان عليه إمامه الأول من الزهد والعبادة ونحو ذلك، وكذلك العادل يدخل إطلاقه على المشترك والله اعلم.

قلت: هذا الحديث الذي احتج به الشيخ أبو عمر لا أصل له، وليس هو في شيء من الكتب المشهورة، وعجبا له ولأبي المظفر ثم لأبي شامة في قبول مثل هذا وأخذه منه مسلما إليه في والله أعلم.

ثم شرع أبو المظفر في ذكر فضائل أبي عمر ومناقبه وكراماته وما رآه هو وغيره من أحواله الصالحة.

قال وكان على مذهب السلف الصالح سمتا وهديا، وكان حسن العقيدة متمسكا بالكتاب والسنة والآثار المروية يمرها كما جاءت من غير طعن على أئمة الدين وعلماء المسلمين، وكان ينهى عن صحبة المتبدعين ويأمر بصحبة الصالحين الذين هم على سنة سيد المرسلين وخاتم النبيين، وربما أنشدني لنفسه في ذلك:

أوصيكم بالقول في القرآن ** بقول أهل الحق والإتقان

ليس بمخلوق ولا بفان ** لكن كلام الملك الديان

آياته مشرقة المعاني ** متلوة للـه باللسـان

محفوظةً في الصدر والجنان ** مكتوبةٌ في الصحف بالبنان

والقول في الصفات يا إخواني ** كالذات والعلم مع البيان

إمرارها من غير ما كفران ** من غير تشبيهٍ ولا عطلان

قال وأنشدني لنفسه:

ألم يك ملهاة عن اللهو أنني ** بدا لي شيب الرأس والضعف والألم

ألم بي الخطب الذي لو بكيته ** حياتي حتى يذهب الدمع لم ألم

قال ومرض أياما فلم يترك شيئا مما كان يعمله من الأوراد، حتى كانت وفاته وقت السحر في ليلة الثلاثاء التاسع والعشرين من ربيع الأول فغسل في الدير وحمل إلى مقبرته في خلق كثير لا يعلمهم إلا الله عز وجل، ولم يبق أحد من الدولة والأمراء والعلماء والقضاة وغيرهم إلا حضر جنازته.

وكان يوما مشهودا وكان الحر شديدا فأظلت الناس سحابة من الحر، كان يسمع منها كدوي النحل، وكان الناس ينتهبون أكفانه وبيعت ثيابه بالغالي الغالي، ورثاه الشعراء بمراثي حسنة، ورؤيت له منامات صالحة رحمه الله.

وترك من الأولاد ثلاثة ذكور: عمر، وبه كان يكنى، والشرف عبد الله وهو الذي ولي الخطابة بعد أبيه، وهو والد العز أحمد. وعبد الرحمن.

ولما توفي الشرف عبد الله صارت الخطابة لأخيه شمس الدين عبد الرحمن بن أبي عمر، وكان من أولاد أبيه الذكور، فهؤلاء أولاده الذكور، وترك من الإناث بنات كما قال الله تعالى: { مُسْلِمَاتٍ مُؤْمِنَاتٍ قَانِتَاتٍ تَائِبَاتٍ عَابِدَاتٍ سَائِحَاتٍ ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَارا } 11 قال وقبره في طريق مغارة الجوع في الزقاق المقابل لدير الحوراني رحمه الله وإيانا.

ابن طبرزد شيخ الحديث

عمر بن محمد بن معمر بن يحيى المعروف بأبي حفص بن طبرزد البغدادي الدراقزي، ولد سنة خمس عشرة وخمسمائة، سمع الكثير وأسمع، وكان خليعا ظريفا ماجنا، وكان يؤدب الصبيان بدار القز قدم مع حنبل بن عبد الله المكبر إلى دمشق فسمع أهلها عليهما، وحصل لهما أموال وعادا إلى بغداد فمات حنبل سنة ثلاث وتأخر هو إلى هذه السنة في تاسع شهر رجب فمات وله سبع وتسعون سنة، وترك مالا جيدا ولم يكن له وارث إلا بيت المال، ودفن بباب حرب.

السلطان الملك العادل أرسلان شاه

نور الدين صاحب الموصل، وهو ابن أخي نور الدين الشهيد، وقد ذكرنا بعض سيرته في الحوادث، كان شافعي المذهب، ولم يكن بينهم شافعي سواه، وبنى للشافعية مدرسة كبيرة بالموصل وبها تربته، توفي في صفر ليلة الأحد من هذه السنة.

ابن سكينة عبد الوهاب بن علي

ضياء الدين المعروف بابن سكينة الصوفي، كان يعد من الأبدال، سمع الحديث الكثير وأسمعه ببلاد شتى، ولد في سنة تسع عشرة وخمسمائة، وكان صاحبا لأبي الفرج ابن الجوزي ملازما لمجلسه وكان يوم جنازته يوما مشهودا لكثرة الخلق ولكثرة ما كان فيه من الخاصة والعامة رحمه الله.

مظفر بن ساسير

الواعظ الصوفي البغدادي، ولد سنة ثلاث وعشرين وخمسمائة، وسمع الحديث،

وكان يعظ في الأعزية والمساجد والقرى، وكان ظريفا مطبوعا قام إليه إنسان فقال له فيما بينه وبينه: أنا مريض جائع، فقال أحمد ربك فقد عوفيت.

واجتاز مرة على قصاب يبيع لحما ضعيفا وهو يقول أين من حلف لا يغبن، فقال له حتى تحنثه. قال: وعملت مرة مجلسا بيعقوبا فجعل هذا يقول عندي للشيخ نصفية وهذا يقول عندي للشيخ نصفية، وهذا يقول مثله حتى عدوا نحوا من خمسين نصفية، فقلت في نفسي:

استغنيت الليلة فأرجع إلى البلد تاجرا، فلما أصبحت إذا صبرة من شعير في المسجد فقيل لي هذه النصافي التي ذكر الجماعة، وإذا هي بكيلة يسمونها نصفية مثل الزبدية، وعملت مرة مجلسا بباصرا فجمعوا لي شيئا لا أدري ما هو، فلما أصبحنا إذا شيء من صوف الجواميس وقرونها، فقام رجل ينادي عليكم عندكم في قرون الشيخ وصوفه، فقلت لا حاجة لي بهذا وأنتم في حل منه. ذكره أبو شامة.

ثم دخلت سنة ثمان وستمائة

استهلت والعادل مقيم على الطور لعمارة حصنه، وجاءت الأخبار من بلاد المغرب بأن عبد المؤمن قد كسر الفرنج بطليطلة كسرة عظيمة، وربما فتح البلد عنوة وقتل منهم خلقا كثيرا.

وفيها: كانت زلزلة عظيمة شديدة بمصر والقاهرة، هدمت منها دورا كثيرة، وكذلك بالكرك والشوبك هدمت من قلعتها أبراجا، ومات خلق كثير من الصبيان والنسوان تحت الهدم، ورئي دخان نازل من السماء فيما بين المغرب والعشاء عند قبر عاتكة غربي دمشق.

وفيها: أظهرت الباطنية الإسلام وأقامت الحدود على من تعاطى الحرام، وبنوا الجوامع والمساجد، وكتبوا إلى إخوانهم بالشام بمضات وأمثالها بذلك، وكتب زعيمهم جلال الدين إلى الخليفة يعلمه بذلك، وقدمت أمة منهم إلى بغداد لأجل الحج فأكرموا وعظموا بسبب ذلك، ولكن لما كانوا بعرفات ظفر واحد منهم على قريب لأمير مكة قتادة الحسيني فقتله ظانا أنه قتادة فثارت فتنة بين سودان مكة وركب العراق، ونهب الركب وقتل منهم خلق كثير.

وفيها: اشترى الملك الأشرف جوسق الريس من النيرب من ابن عم الظاهر خضر بن صلاح الدين وبناه بناء حسنا، وهو المسمى بزماننا بالدهشة.

وفيها توفي من الأعيان:

الشيخ عماد الدين محمد بن يونس الفقيه الشافعي الموصلي

صاحب التصانيف والفنون الكثيرة، كان رئيس الشافعية بالموصل، وبعث رسولا إلى بغداد بعد موت نور الدين أرسلان، وكان عنده وسوسة كثيرة في الطهارة، وكان يعامل في الأموال بمسألة العينة كما قيل تصفون البعوض من شرابكم وتستربطون الجمال بأحمالها، ولو عكس الأمر لكان خيرا له،

فلقيه يوما قضيب البان الموكه فقال له: يا شيخ بلغني عنك أنك تغسل العضو من أعضائك بإبريق من الماء فلم لا تغسل اللقمة التي تأكلها لتستنظف قلبك وباطنك؟ ففهم الشيخ ما أراد فترك ذلك. توفي بالموصل في رجب عن ثلاث وسبعين سنة.

ابن حمدون تاج الدين

أبو سعد الحسن بن محمد بن حمدون، صاحب التذكرة الحمدونية، كان فاضلا بارعا، اعتنى بجمع الكتب المنسوبة وغيرها، وولاه الخليفة المارستان العضدي، توفي بالمدائن وحمل إلى مقابر قريش فدفن بها.

صاحب الروم خسروشاه

ابن قلج أرسلان، مات فيها وقام بالملك بعده ولده كيكايرس، فلما توفي في سنة خمس عشرة ملك أخوه كيقباذ صارم الدين برغش العادلي نائب القلعة بدمشق، مات في صفر ودفن بتربته غربي الجامع المظفري، وهذا الرجل هو الذي نفى الحافظ عبد الغني المقدسي إلى مصر وبين يديه كان عقد المجلس، وكان في جملة من قام عليه ابن الزكي والخطيب الدولعي، وقد توفوا أربعتهم وغيرهم ممن قام عليه واجتمعوا عند ربهم الحكم العدل سبحانه.

الأمير فخر الدين سركس

ويقال له جهاركس أحد أمراء الدولة الصلاحية وإليه تنسب قباب سركس بالسفح تجاه تربة خاتون وبها قبره.

قال ابن خلكان: هذا هو الذي بنى القيسارية الكبرى بالقاهرة المنسوبة إليه وبنى في أعلاها مسجدا معلقا وربعا، وقد ذكر جماعة من التجار أنهم لم يروا لها نظيرا في البلدان في حسنها وعظمها وإحكام بنائها.

قال: وجها ركس بمعنى أربعة أنفس.

قلت وقد كان نائبا للعادل على بانياس وتينين وهو بين، فلما توفي ترك ولدا صغيرا فأقره العادل على ما كان يليه أبوه وجعل له مدبرا وهو الأمير صارم الدين قطلبا التنيسي، ثم استقل بها بعد موت الصبي إلى سنة خمس عشرة.

الشيخ الكبير المعمر الرحلة أبو القاسم أبو بكر أبو الفتح

منصور بن عبد المنعم بن عبد الله بن محمد بن الفضل الفراوي النيسابوري، سمع أباه وجد أبيه وغيرهما، وعنه ابن الصلاح وغيره، توفي بنيسابور في شعبان في هذه السنة عن خمس وثمانين سنة.

قاسم الدين التركماني

العقيبي والد والي البلد، كانت وفاته في شوال منها والله أعلم.

ثم دخلت سنة تسع وستمائة

فيها اجتمع العادل وأولاده الكامل والمعظم والفائز بدمياط من بلاد مصر في مقاتلة الفرنج فاغتنم غيبتهم سامة الجبلي أحد أكابر الأمراء، وكانت بيده قلعة عجلون وكوكب فسار مسرعا إلى دمشق ليستلم البلدين، فأرسل العادل في إثره ولده المعظم فسبقه إلى القدس وحمل عليه فرسم عليه في كنيسة صهيون، وكان شيخا كبيرا قد أصابه النقرس، فشرع يرده إلى الطاعة بالملاطفة فلم ينفع فيه فاستولى على حواصله وأملاكه وأمواله وأرسله إلى قلعة الكرك فاعتقله بها.

وكان قيمة ما أخذه منه قريبا من ألف ألف دينار، من ذلك داره وحمامه داخل باب السلامة، وداره هي التي جعلها البادرائي مدرسة للشافعية، وخرب حصن كوكب ونقلت حواصله إلى حصن الطور الذي استجده العادل وولده المعظم.

وفيها: عزل الوزير ابن شكر واحتيط على أمواله ونفي إلى الشرق، وهو الذي كان قد كتب إلى الديار المصرية بنفي الحافظ عبد الغني منها بعد نفيه من الشام، فكتب أن ينفى إلى المغرب، فتوفي الحافظ عبد الغني رحمه الله قبل أن يصل الكتاب، وكتب الله عز وجل بنفي الوزير إلى الشرق محل الزلازل والفتن والشر، ونفاه عن الأرض المقدسة جزاء وفاقا.

ولما استولى صاحب قبرص على مدينة إنطاكية حصل بسببه شر عظيم وتمكن من الغارات على بلاد المسلمين، لا سيما على التراكمين الذين حول إنطاكية، قتل منهم خلقا كثيرا وغنم من أغنامهم شيئا كثيرا، فقدر الله عز وجل أن أمكنهم منه في بعض الأودية فقتلوه وطافوا برأسه في تلك البلاد، ثم أرسلوا رأسه إلى الملك العادل إلى مصر فطيف به هنالك، وهو الذي أغار على بلاد مصر من ثغر دمياط مرتين فقتل وسبى وعجز عنه الملوك.

وفي ربيع الأول منها توفي الملك الأوحد نجم الدين أيوب

ابن العادل صاحب خلاط، يقال إنه كان قد سفك الدماء وأساء السيرة فقصف الله عمره، ووليها بعده أخوه الملك الأشرف موسى، وكان محمود السيرة جيد السريرة فأحسن إلى أهلها فأحبوه كثيرا.

وفيها توفي من الأعيان:

فقيه الحرم الشريف بمكة محمد بن إسماعيل بن أبي الصيف اليمني

وأبو إسحاق إبراهيم بن محمد بن أبي بكر القفصي المقري المحدث، كتب كثيرا وسمع الكثير ودفن بمقابر الصوفية.

أبو الفتح محمد بن سعد بن محمد الديباجي

من أهل مرو، له كتاب المحصل في شرح المفصل للزمخشري في النحو. كان ثقة عالما سمع الحديث توفي فيها عن ثنتين وتسعين سنة.

الشيخ الصالح الزاهد العابد

أبو البقاء محمود بن عثمان بن مكارم النعالي الحنبلي كان له عبادات ومجاهدات وسياحات، وبنى رباطا بباب الأزج يأوي إليه أهل العلم من المقادسة وغيرهم، وكان يؤثرهم ويحسن إليهم، وقد سمع الحديث وقرأ القرآن، وكان يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر. توفي وقد جاوز الثمانين.

ثم دخلت سنة عشر وستمائة

فيها أمر العادل أيام الجمع بوضع سلاسل على أفواه الطرق إلى الجامع لئلا تصل الخيول إلى قريب الجامع صيانة للمسلمين عن الأذى بهم، ولئلا يضيقوا على المارين إلى الصلاة.

وفيها: ولد الملك العزيز للظاهر غازي صاحب حلب، وهو والد الملك الناصر صاحب دمشق واقف الناصريتين داخل دمشق، إحداهما داخل باب الفراديس، والأخرى بالسفح ذات الحائط الهائل والعمارة المتينة، التي قيل إنه لا يوجد مثلها إلا قليلا، وهو الذي أسره التتار الذين مع هولاكو ملك التتار.

وفيها: قدم بالفيل من مصر فحمل هدية إلى صاحب الكرج فتعجب الناس منه جدا، ومن بديع خلقه.

وفيها: قدم الملك الظافر خضر بن السلطان صلاح الدين من حلب قاصدا الحج، فتلقاه الناس وأكرمه ابن عمه المعظم،

فلما لم يبق بينه وبين مكة إلا مراحل يسيرة تلقته حاشية الكامل صاحب مصر وصدوه عن دخول مكة، وقالوا إنما جئت لأخذ اليمن، فقال لهم قيدوني وذروني أقضي المناسك، فقالوا: ليس معنا مرسوم وإنما أمرنا بردك وصدك، فهمّ طائفة من الناس بقتالهم فخاف من وقوع فتنة فتحلل من حجه ورجع إلى الشام، وتأسف الناس على ما فعل به وتباكوا لما ودعهم، تقبل الله منه.

وفيها: وصل كتاب من بعض فقهاء الحنفية بخراسان إلى الشيخ تاج الدين أبو اليمن الكندي يخبر به أن السلطان خوارزم شاه محمد بن تاج تنكر في ثلاثة نفر من أصحابه، ودخل بلاد التتر ليكشف أخبارهم بنفسه، فأنكروهم فقبضوا عليهم فضربوا منهم اثنين حتى ماتا ولم يقرأ بما جاؤا فيه واستوثقوا من الملك وصاحبه الآخر أسرا، فلما كان في بعض الليالي هربا ورجع السلطان إلى ملكه وهذه المرة غير نوبة أسره في المعركة مع مسعود الأمير.

وفيها: ظهرت بلاطة وهم يحفرون في خندق حلب فوجد تحتها من الذهب خمسة وسبعون رطلا، ومن الفضة خمسة وعشرون بالرطل الحلبي.

وفيها توفي من الأعيان:

شيخ الحنفية مدرس مشهد أبي حنيفة ببغداد الشيخ أبو الفضل أحمد بن مسعود بن علي الرساني

وكان إليه المظالم، ودفن بالمشهد المذكور.

والشيخ أبو الفضل بن إسماعيل

ابن علي بن الحسين فخر الدين الحنبلي، يعرف بابن الماشطة، ويقال له الفخر غلام ابن المنى، له تعليقة في الخلاف وله حلقة بجامع الخليفة، وكان يلي النظر في قرايا الخليفة، ثم عزله فلزم بيته فقيرا لا شيء له إلى أن مات رحمه الله، وكان ولده محمد مدبرا شيطانا مريدا كثير الهجاء والسعاية بالناس إلى أولياء الأمر بالباطل، فقطع لسانه وحبس إلى أن مات.

والوزير معز الدين أبو المعالي

سعيد بن علي بن أحمد بن حديدة، من سلالة الصحابي قطبة بن عامر بن حديدة الأنصاري، ولي الوزارة للناصر في سنة أربع وثمانين ثم عزله عن سفارة ابن مهدي فهرب إلى مراغة، ثم عاد بعد موت ابن مهدي فأقام ببغداد معظما محترما، وكان كثير الصدقات والإحسان إلى الناس إلى أن مات رحمه الله.

وسنجر بن عبد الله الناصري

الخليفتي، كانت له أموال كثيرة وأملاك وإقطاعات متسعة، وكان مع ذلك بخيلا ذليلا ساقط النفس، اتفق أنه خرج أمير الحاج في سنة تسع وثمانين وخمسمائة، فاعترضه بعض الأعراب في نفر يسير، ومع سنجر خمسمائة فارس، فدخله الذل من الأعرابي، فطلب منه الأعرابي خمسين ألف دينار فجباها سنجر من الحجيج ودفعها إليه، فلما عاد إلى بغداد أخذ الخليفة منه خمسين ألف دينار ودفعها إلى أصحابها وعزله وولى طاشتكين مكانه.

قاضي السلامية ظهير الدين أبو إسحاق إبراهيم بن نصر بن عسكر

الفقيه الشافعي الأديب، ذكره العماد في الجريدة وابن خلكان في الوفيات، وأثنى عليه وأنشد من شعره، في شيخ له زاوية وفي أصحابه يقال له مكي:

ألا قل لمكي قول النصوح ** وحق النصيحة أن تستمع

متى سمع الناس في دينهم ** بأن الغنـا سنَّـة تتبـع؟

وأن يأكل المرء أكل البعير ** ويرقص في الجمع حتى يقع

ولو كان طاوى الحشا جائعا ** لما دار من طرب واستمع

وقالوا: سكرنا بحب الإله ** وما أسكر القوم إلا القصع

كذاك الحمير إذا أخصبت ** يهـيّجها ريّـها والشبـع

تراهم يهـزّوا لحاهم إذا ** تـرنّـم حاديهم بالبـدع

فيصرخ هذا وهذا يئـن ** ويبس لو تلـيّن ما انصدع

وتاج الأمناء

أبو الفضل أحمد بن محمد بن الحسن بن هبة الله بن عساكر من بيت الحديث والرواية، وهو أكبر من إخوته زين الفخر والأمناء، سمع عميه الحافظ أبي القاسم والصائن، وكان صديقا للكندي توفي يوم الأحد ثاني رجب ودفن قبلي محراب مسجد القدم.

والنسابة الكلبي

كان يقال له تاج العلى الحسيني، اجتمع بآمد بابن دحية، وكان ينسب إلى دحية الكلبي، ودحية الكلبي لم يعقب، فرماه ابن دحية بالكذب في مسائله الموصلية.

قال ابن الأثير:

وفي المحرم منها توفي:

المهذب الطبيب المشهور

وهو علي بن أحمد بن مقبل الموصلي سمع الحديث وكان أعلم أهل زمانه بالطب، وله فيه تصنيف حسن، وكان كثير الصدقة حسن الأخلاق.

الجزولي صاحب المقدمة المسماة بالقانون

وهو أبو موسى عيسى بن عبد العزيز الجزولي- بطن من البربر- ثم البردكيني النحوي المصري، مصنف المقدمة المشهورة البديعة، شرحها هو وتلامذته، وكلهم يعترفون بتقصيرهم عن فهم مراده في أماكن كثيرة منها، قدم مصر وأخذ عن ابن بري، ثم عاد إلى بلاده وولي خطابة مراكش، توفي في هذه السنة وقيل قبلها فالله أعلم.

ثم دخلت سنة إحدى عشرة وستمائة

فيها أرسل الملك خوارزم شاه أميرا من أخصاء أمرائه عنده، وكان قبل ذلك سيروانيا فصار أميرا خاصا، فبعثه في جيش ففتح له كرمان ومكران وإلى حدود بلاد السند، وخطب له بتلك البلاد، وكان خورازم شاه لا يصيف إلا بنواحي سمرقند خوفا من التتار وكشلى خان أن يثبوا على أطراف تلك البلاد التي تتاخمهم.

قال أبو شامة: وفيها: شرع في تبليط داخل الجامع الأموي وبدأوا من ناحية السبع الكبير، وكانت أرض الجامع قبل ذلك حفرا وجورا فاستراح الناس في تبليطه.

وفيها: وسع الخندق مما يلي القيمازية فأخربت دور كثيرة وحمام قايماز وفرن كان هناك وقفا على دار الحديث النورية.

وفيها: بنى المعظم الفندق المنسوب إليه بناحية قبر عاتكة ظاهر باب الجابية.

وفيها: أخذ المعظم قلعة صرخد من ابن قراجا وعوضه عنها وسلمها إلى مملوكه عز الدين أيبك المعظمي، فثبتت في يده إلى أن انتزعها منه نجم الدين أيوب سنة أربع وأربعين.

وفيها: حج الملك المعظم ابن العادل ركب من الكرك على الهجن في حادي عشر ذي القعدة ومعه ابن موسك ومملوك أبيه وعز الدين أستاذ داره وخلق، فسار على طريق تبوك والعلا. وبنى البركة المنسوبة إليه، ومصانع أخر.

فلما قدم المدينة النبوية تلقاه صاحبها سالم وسلم إليه مفاتيحها وخدمه خدمة تامة، وأما صاحب مكة قتادة فلم يرفع به رأسا، ولهذا لما قضى نسكه، وكان قارنا، وأنفق في المجاورين ما حمله إليهم من الصدقات وكر راجعا استصحب معه سالما صاحب المدينة وتشكى إلى أبيه عند رأس الماء ما لقيه من صاحب مكة، فأرسل العادل، مع سالم جيشا يطردون صاحب مكة، فلما انتهوا إليها هرب منهم في الأدوية والجبال والبراري، وقد أثر المعظم في حجته هذه آثارا حسنة بطريق الحجاز أثابه الله.

وفيها: تعامل أهل دمشق في القراطيس السود العادلية ثم بطلت بعد ذلك ودفنت.

وفيها: مات صاحب اليمن وتولاها سليمان بن شاهنشاه بن تقي الدين عمر بن شاهنشاه بن أيوب باتفاق الأمراء عليه، فأرسل العادل إلى ولده الكامل أن يرسل إليها ولده أضسيس، فأرسله فتملكها فظلم بها وفتك وغشم، وقتل من الأشراف نحوا من ثمانمائة، وأما من عداهم فكثير، وكان من أفجر الملوك وأكثرهم فسقا وأقلهم حياء ودينا، وقد ذكروا عنه ما تقشعر منه الأبدان وتنكره القلوب، نسأل الله العافية

وفيها توفي من الأعيان:

إبراهيم بن علي ابن محمد بن بكروس الفقيه الحنبلي

أفتى وناظر وعدل عند الحكام، ثم انسلخ من هذا كله وصار شرطيا بباب النوى يضرب الناس ويؤذيهم غاية الأذى، ثم بعد ذلك ضرب إلى أن مات وألقي في دجلة وفرح الناس بموته، وقد كان أبوه رجلا صالحا.

الركن عبد السلام بن عبد الوهاب

ابن الشيخ عبد القادر، كان أبوه صالحا وكان هو متهما بالفلسفة ومخاطبة النجوم، ووجد عنده كتب في ذلك، وقد ولي عدة ولايات، وفيه وفي أمثاله يقال: نعم الجدود ولكن بئس ما نسلوا.

رأى عليه أبوه يوما ثوبا بخاريا فقال: سمعنا بالبخاري ومسلم، وأما بخاري وكافر فهذا شيء عجيب، وقد كان مصاحبا لأبي القاسم بن الشيخ أبي الفرج بن الجوزي، وكان الآخر مدبرا فاسقا، وكانا يجتمعان على الشراب والمردان قبحهما الله.

أبو محمد عبد العزيز بن محمود بن المبارك

البزار المعروف بابن الأخضر البغدادي المحدث المكثر الحافظ المصنف المحرر، له كتب مفيدة متقنة، وكان من الصالحين، وكان يوم جنازته يوما مشهودا رحمه الله.

الحافظ أبو الحسن علي بن الأنجب

أبي المكارم المفضل بن أبي الحسن علي بن أبي الغيث مفرج بن حاتم بن الحسن بن جعفر بن إبراهيم بن الحسن اللخمي المقدسي، ثم الإسكندراني المالكي، سمع السلفي وعبد الرحيم المنذري وكان مدرسا للمالكية بالإسكندرية، ونائب الحكم بها. ومن شعره قوله:

أيا نفس بالمأثور عن خير مرسل ** وأصحابه والتابعين تمسكي

عساكي إذا بالغت في نشر دينه ** بما طاب من عرف له أن تمسكي

وخافي غدا يوم الحساب جهنما ** إذا لفحت نيرانها أن تمسكي

توفي بالقاهرة في هذه السنة قاله ابن خلكان.

ثم دخلت سنة اثنتي عشرة وستمائة

فيها شرع في بناء المدرسة العادلية الكبيرة بدمشق، وفيها: عزل القاضي ابن الزكي وفوض الحكم إلى القاضي جمال الدين بن الحرستاني، وهو ابن ثمانين أو تسعين سنة، فحكم بالعدل وقضى بالحق، ويقال إنه كان يحكم بالمدرسة المجاهدية قريبا من النورية عند باب القواسين.

وفيها: أبطل العادل ضمان الخمر والقيان جزاه الله خيرا، فزال بزوال ذلك عن الناس ومنهم شر كثير.

وفيها: حاصر الأمير قتادة أمير مكة المدينة ومن بها وقطع نخلا كثيرا، فقاتله أهلها فكر خائبا خاسرا حسيرا، وكان صاحب المدينة بالشام فطلب من العادل نجدة على أمير مكة، فأرسل معه جيشا فأسرع في الأوبة فمات في أثناء الطريق، فاجتمع الجيش على ابن أخيه جماز فقصد مكة فالتقاه أميرها بالصفراء فاقتتلوا قتالا شديدا، فهرب المكيون وغنم منهم جماز شيئا كثيرا، وهرب قتادة إلى الينبع فساروا إليه فحاصروه بها وضيقوا عليه.

وفيها: أغارت الفرنج على بلاد الإسماعيلية فقتلوا ونهبوا.

وفيها: أخذ ملك الروم كيكاوس مدينة إنطاكية من أيدي الفرنج ثم أخذها منه ابن لاون ملك الأرمن، ثم منه إبريس طرابلس.

وفيها: ملك خوارزم شاه محمد بن تكش مدينة غزنة بغير قتال.

وفيها: كانت وفاة ولي العهد أبي الحسن علي بن أمير المؤمنين الناصر لدين الله، ولما توفي حزن الخليفة عليه حزنا عظيما.

وكذلك الخاصة والعامة لكثرة صدقاته وإحسانه إلى الناس، حتى قيل إنه لم يبق بيت ببغداد إلا حزنوا عليه، وكان يوم جنازته يوما مشهودا وناح أهل البلد عليه ليلا ونهارا ودفن عند جدته بالقرب من قبر معروف، توفي يوم الجمعة العشرين من ذي القعدة وصلى عليه بعد صلاة العصر، وفي هذا اليوم قدم بغداد برأس منكلي الذي كان قد عصي على الخليفة وعلى أستاذه، فطيف به ولم يتم فرحه ذلك اليوم لموت ولده وولي عهده، والدنيا لا تسر بقدر ما تضر، وترك ولدين أحدهما المؤيد أبو عبد الله الحسين، والموفق أبو الفضل يحيى.

وفيها توفي من الأعيان:

الحافظ عبد القادر الرهاوي

ابن عبد القادر بن عبد الله بن عبد الرحمن أبو محمد الحافظ المحدث المخرج المفيد المحرر المتقن البارع المصنف، كان مولى لبعض المواصلة، وقيل لبعض الجوابين، اشتغل بدار الحديث بالموصل، ثم انتقل إلى حران، وقد رحل إلى بلدان شتى، وسمع الكثير من المشايخ، وأقام بحرّان، إلى أن توفي بها، وكان مولده في سنة ست وثلاثين وخمسمائة، كان دينا صالحا رحمه الله.

الوجيه الأعمى

أبو بكر المبارك بن سعيد بن الدهان النحوي الواسطي الملقب بالوجيه، ولد بواسط وقدم بغداد فاشتغل بعلم العربية فأتقن ذلك وحفظ شيئا من أشعار العرب، وسمع الحديث وكان حنبليا ثم انتقل إلى مذهب أبي حنيفة، ثم صار شافعيا وولي تدريس النحو بالنظامية، وفيه يقول الشاعر:

فمن مبلغ عني الوجيه رسالةً ** وإن كان لا تجدي إليه الرسائل

تمذهبت للنعمان بعد ابن حنبل ** وذلك لما أعوزتك المآكل

وما أخذت برأي الشافعي ديانة ** ولكنما تهوى الذي هو حاصل

وعما قليل أنت لا شك صائر ** إلى مالك فانظر إلى ما أنت قائل

وكان يحفظ شيئا كثيرا من الحكايات والأمثال والملح، ويعرف العربية والتركية والعجمية والرومية والحبشية والزنجية، وكانت له يد طولى في نظم الشعر. فمن ذلك قوله:

ولو وقفت في لجة البحر قطرةٌ ** من المزن يوما ثم شاء لما زها

ولو ملك الدنيا فأضحى ملوكها ** عبيدا له في الشرق والغرب مازها

وله في التجنيس:

أطلت ملامي في اجتنابي لمعشر ** طغام لئام جودهم غير مرتجى

حموا ما لهم والدين والعرض منهم ** مباح فما يخشون من عاب أو هجا

إذا شرع الأجواد في الجود منهجا ** لهم شرعوا في البخل سبعين منهجا

وله مدائح حسنة وأشعار رائقة ومعاني فائقة، وربما عارض شعر البحتري بما يقاربه ويدانيه، قالوا وكان الوجيه لا يغضب قط، فتراهن جماعة مع واحد أنه إن أغضبه كان له كذا وكذا، فجاء إليه فسأله عن مسألة في العربية فأجابه فيها بالجواب، فقال له السائل:

أخطأت أيها الشيخ، فأعاد عليه الجواب بعبارة أخرى، فقال: كذبت وما أراك إلا قد نسيت النحو، فقال الوجيه: أيها الرجل فلعلك لم تفهم ما أقول لك، فقال بلى ولكنك تخطيء في الجواب، فقال له:

فقل أنت ما عندك لنستفيد منك، فأغلظ له السائل في القول فتبسم ضاحكا وقال له: إن كنت راهنت فقد غلبت، وإنما مثلك مثل البعوضة - يعني الناموسة - سقطت على ظهر الفيل، فلما أرادت أن تطير قالت له استمسك فإني أحب أن أطير، فقال لها الفيل: ما أحسست بك حين سقطت، فما أحتاج أن أستمسك إذا طرت، كانت وفاته رحمه الله في شعبان منها ودفن بالوردية.

أبو محمد عبد العزيز بن أبي المعالي

ابن غنيمة المعروف بابن منينا، ولد سنة خمس عشرة وخمسمائة وسمع الكثير وأسمعه، توفي في ذي الحجة منها عن سبع وتسعين سنة.

الشيخ الفقه كمال الدين مودود

ابن الشاغوري الشافعي كان يقرئ بالجامع الأموي الفقه وشرح التنبيه للطلبة،

ويتأنى عليهم حتى يفهموا احتسابا تجاه المقصورة. ودفن بمقابر باب الصغير شمالي قبور الشهداء وعلى قبره شعر ذكره أبو شامة والله سبحانه أعلم.

ثم دخلت سنة ثلاث عشرة وستمائة

قال أبو شامة: فيها أحضرت الأوتاد الخشب الأربعة لأجل قبة النسر، طول كل واحد اثنان وثلاثون ذراعا بالنجار.

وفيها: شرع في تجديد خندق باب السر المقابل لدار الطعم العتيقة إلى جانب بانياس.

قلت: هي التي يقال لها اليوم اصطبل السلطان، وقد نقل السلطان بنفسه التراب ومماليكه تحمل بين يديه على قربوس السروج القفاف من التراب فيفرغونها في الميدان الأخضر، وكذلك أخوه الصالح ومماليكه يعمل هذا يوما وهذا يوما.

وفيها: وقعت فتنة بين أهل الشاغور وأهل العقيبة فاقتتلوا بالرحبة والصيارف، فركب الجيش إليهم ملبسين وجاء المعظم بنفسه فمسك رؤوسهم وحبسهم.

وفيها: رتب بالمصلى خطيب مستقل، وأول من باشره الصدر معيد الفلكية، ثم خطب به بعد بهاء الدين بن أبي اليسر، ثم بنو حسان وإلى الآن.

وفيها توفي من الأعيان:

الملك الظاهر أبو منصور

غازي بن صلاح الدين يوسف بن أيوب، وكان من خيار الملوك وأسدَّهم سيرة، ولكن كان فيه عسف ويعاقب على الذنب اليسير كثيرا، وكان يكرم العلماء والشعراء والفقراء، أقام في الملك ثلاثين سنة وحضر كثيرا من الغزوات مع أبيه، وكان ذكيا له رأي جيد وعبارة سديدة وفطنة حسنة، بلغ أربعا وأربعين سنة، وجعل الملك من بعده لولده العزيز غياث الدين محمد، وكان حينئذ ابن ثلاث سنين، وكان له أولاد كبار ولكن ابنه هذا الصغير الذي عهد إليه كان من بنت عمه العادل وأخواله الأشرف والمعظم والكامل، وجده وأخواله لا ينازعونه، ولو عهد لغيره من أولاده لأخذوا الملك منه، وهكذا وقع سواء، بايع له جده العادل وأخواله، وهمَّ المعظم بنقض ذلك وبأخذ الملك منه فلم يتفق له ذلك، وقام بتدبير ملكه الطواشي شهاب الدين طغرلبك الرومي الأبيض، وكان دينا عاقلا.

وفيها توفي من الأعيان:

زيد بن الحسن ابن زيد بن الحسن بن سعيد بن عصمة الشيخ الإمام وحيد عصره تاج الدين أبو اليمن الكندي

ولد ببغداد ونشأ بها واشتغل وحصل، ثم قدم دمشق فأقام بها وفاق أهل زمانه شرقا وغربا في اللغة والنحو وغير ذلك من فنون العلم، وعلو الإسناد وحسن الطريقة والسيرة وحسن العقيدة، وانتفع به علماء زمانه وأثنوا عليه وخضعوا له.

وكان حنبليا ثم صار حنفيا. ولد في الخامس والعشرين من شعبان سنة عشرين وخمسمائة، فقرأ القرآن بالروايات وعمره عشر سنين، وسمع الكثير من الحديث العالي على الشيوخ الثقات، وعنى به وتعلم العربية واللغة واشتهر بذلك، ثم دخل الشام في سنة ثلاث وستين وخمسمائة، ثم سكن مصر واجتمع بالقاضي الفاضل، ثم انتقل إلى دمشق فسكن بدار العجم منها وحظي عند الملوك والوزراء والأمراء، وتردد إليه العلماء والملوك وأنباؤهم.

كان الأفضل ابن صلاح الدين وهو صاحب دمشق يتردد إليه إلى منزله، وكذلك أخوه المحسن والمعظم ملك دمشق، كان ينزل إليه إلى درب العجم يقرأ عليه في المفصل للزمخشري، وكان المعظم يعطى لمن حفظ المفصل ثلاثين دينارا جائزة، وكان يحضر مجلسه بدرب العجم جميع المصدرين بالجامع، كالشيخ علم الدين السخاوي ويحيى بن معطى الوجيه اللغوي، والفخر التركي وغيرهم، وكان القاضي الفاضل يثنى عليه.

قال السخاوي: كان عنده من العلوم ما لا يوجد عند غيره. ومن العجب أن سيبويه قد شرح عليه كتابه وكان اسمه عمرو، واسمه زيد. فقلت في ذلك:

لم يكن في عهد عمرو مثله ** وكذا الكندي في آخر عصر

فهما زيد وعمرو إنمـا ** بنى النحو على زيد وعمرو

قال أبو شامة: وهذا كما قال فيه ابن الدهان المذكور في سنة ثنتين وتستعين وخمسمائة:

يا زيد زادك ربي من مواهبه ** نعما يقصر عن إدراكها الأمل

النحو أنت أحق العالمين به ** أليس باسمك فيه يضرب المثل

وقد مدحه السخاوي بقصيدة حسنة وأثنى عليه أبو المظفر سبط ابن الجوزي، فقال قرأت عليه وكان حسن العقيدة ظريف الخلق لا يسأم الإنسان من مجالسته، وله النوادر العجيبة والخط المليح والشعر الرائق، وله ديوان شعر كبير، وكانت وفاته يوم الاثنين سادس شوال منها وله ثلاث وتسعون سنة وشهر وسبعة عشر يوما وصلّي عليه بجامع دمشق ثم حمل إلى الصالحية فدفن بها.

وكان قد وقف كتبه - وكانت نفيسة - وهي سبعمائة وإحدى وستون مجلدا، على معتقه نجيب الدين ياقوت، ثم على العلماء في الحديث والفقه واللغة وغير ذلك، وجعلت في خزانة كبيرة في مقصورة ابن سنان الحلبية المجاورة لمشهد علي بن زين العابدين، ثم إن هذه الكتب تفرقت وبيع كثير منها ولم يبق بالخزانة المشار إليها إلا القليل الرث، وهي بمقصورة الحلبية، وكانت قديما يقال لها مقصورة ابن سنان.

وقد ترك نعمة وافرة وأموالا جزيلة، ومماليك متعددة من الترك الحسان، وقد كان رقيق الحاشية حسن الأخلاق يعامل الطلبة معاملة حسنة من القيام والتعظيم، فلما كبر ترك القيام لهم وأنشأ يقول:

تركت قيامي للصديق يزورني ** لا ذنب لي إلا الإطالة في عمري

فإن بلغوا من عش تسعين نصفها ** تبين في ترك القيام لهم عذري

ومما مدح فيه الملك المظفر شاهنشاه ما ذكره ابن الساعي في تاريخه:

وصال الغواني كان أورى وأرجا ** وعصر التداني كان أبهى وأبهجا

ليالي كان العمر أحسن شافعٍ ** تولى وكان اللهو أوضح منهـجا

بدا الشيب فانجابت طماعية الصبا ** وقبح لي ما كان يستحسن الحجا

بلهنيةٌ ولت كان لم أكن بها ** أجلى بها وجه النعيم مسرجا

ولا ختلت في برد الشباب مجررا ** ذيولي إعجابا به وتبرجا

أعارك غيداء المعاطف طفلةً ** وأغيد معسول المراشف أدعجا

نقضت لياليها بطيب كأنه ** لتقصيره منها مختطف الدجـا

فإن أمس مكروب الفؤاد حزينه ** أعاقر من در الصابة منهجا

وحيدا على أني بفضلي متيم ** مروعا بأعداء الفضائل مزعجا

فيا رب ديني قد سررت وسرني ** وأبهجته بالصالحات وأبهجا

ويا رب ناد قد شهدت وماجد ** شهدت دعوته فتلجلـجا

صدعت بفضلي نقصه فتركته ** وفي قلبه شجو وفي حلقه شجا

كأن ثنائي في مسامع حسدي ** وقد ضم أبكار المعاني وأدرجا

حسام تقي الدين في كل مارق ** يقد إلى الأرض الكمي المدججا

وقال يمدح أخاه معز الدين فروخشاه بن شاهنشاه بن أيوب

هل أنت راحم عبرة ومدله ** ومجير صب عند ما منه وهي

هيهات يرحم قاتل مقتوله ** وسنانه في القلب غير منهنـه

مذ بلّ من ذاك الغرام فإنني ** مذ حل بي مرض الهوى لم أنقه

إني بليت بحب أغيد ساحر ** بلحاظه رخص البنان بزهـوه

أبغي شفاء تدلهي من واله ** ومتى يرق مدلل لمـدله

كم آهة لي في هواه وأنة ** لو كان ينفعني عليه تأوهي

ومآرب في وصله لو أنها ** تقضي لكانت عند مبسمه الشهي

يا مفردا بالحسن إنك منته ** فيه كما أنا في الصبابة منتهي

قد لام فيك معاشر كي أنتهي ** باللوم عن حب الحياة وأنت هي

أبكي لديه فإن أحس بلوعة ** وتشهق أرمي بطرف مقهقـه

يا من محاسنه وحالي عنده ** حيران بين تفكر وتكفـه

ضدان قد جمعا بلفظ واحد ** لي في هواه بمعنيين موجّـه

أو لست رب فضائل لو حاز أد ** ناها وما أزهى بها غيري زهي

والذي أنشده تاج الدين الكندي في قتل عمارة اليمني حين كان مالأ الكفرة والملحدين على قتل الملك صلاح الدين، وأرادوا عودة دولة الفاطميين فظهر على أمره فصلب مع من صلب في سنة تسع وتسعين وخمسمائة:

عمارة في الإسلام أبدى خيانةً ** وحالف فيها بيعةً وصليبـا

فأمسى شريك الشرك في بعض أحمد ** وأصبح في حب الصليب صليبا

وكان طبيب الملتقي إن عجمته ** تجد منه عودا في النفاق صليبا

وله:

صحبنا الدهر أياما حسانا ** نعوم بهن في اللذات عوما

وكانت بعد ما ولت كأني ** لدى نقصانها حلما ونوما

أناخ بي المشيب فلا براح ** وإن أوسعته عتبا ولومـا

نزيل لا يزال على التآني ** يسوق إلى الردى يوما فيوما

وكنت أعد لي عاما فعاما ** فصرت أعد لي يوما فيوما

العز محمد بن الحافظ عبد الغني المقدسي

ولد سنة ست وستين وخمسمائة وأسمعه والده الكثير ورحل بنفسه إلى بغداد وقرأ بها مسند أحمد وكانت له حلقة بجامع دمشق، وكان من أصحاب المعظم، وكان صالحا دينا ورعا حافظا رحمه الله ورحم أباه.

أبو الفتوح محمد بن علي بن المبارك

الخلاخلي البغدادي، سمع الكثير، وكان يتردد في الرسلية بين الخليفة والملك الأشرف ابن العادل وكان عاقلا دينا ثقة صدوقا.

الشريف أبو جعفر يحيى بن محمد بن محمد بن محمد بن محمد بن علي العلوي الحسيني

نقيب الطالبيين بالبصرة بعد أبيه، كان شيخا أديبا فاضلا عالما بفنون كثيرة لا سيما علم الأنساب وأيام العرب وأشعارها، يحفظ كثيرا منها، وكان من جلساء الخليفة الناصر، ومن لطيف شعره قوله:

ليهنك سمع لا يلائمه العذل ** وقلب قريح لا يمل ولا يسلو

كأن عليّ الحب أضحى فريضة ** فليس لقلبي غيره أبدا شغل

وإني لأهوى الهجر ما كان أصله ** دلالا ولولا الهجر ما عذب الوصل

وأما إذا كان الصدود ملالةً ** فأيسر ما هم الحبيب به القتل

أبو علي مزيد بن علي ابن مزيد المعروف بابن الخشكري الشاعر المشهور

من أهل النعمانية جمع لنفسه ديوانا أورد له ابن الساعي قطعةً من شعره فمن ذلك قوله:

سألتك يوم النوى نظرةً ** فلم تسمحي فعزالا سلم

فأعجب كيف تقولين لا ** ووجهك قد خط فيه نعم

أما النون يا هذه حاجب ** أما العين عين أما الميم فم

أبو الفضل رشوان بن منصور ابن رشوان الكردي

المعروف بالنقف ولد بأربل وخدم جنديا وكان أديبا شاعرا خدم مع الملك العادل ومن شعره قوله:

سلي عني الصوارم والرماحا ** وخيلا تسبق الهوج الرياحا

وأسدا حبيسها سمر العوالي ** إذا ما الأسد حاولت الكفاحا

فإني ثابت عقـلا ولبـا ** إذا ما صائح في الحرب صاحا

وأورد مهجتي لجج المنايا ** إذا ماجت ولم أخف الجراحا

وكم ليل سهرت وبت فيه ** أراعي النجم أرتقب الصباحا

وكم في فدفد فرسي ونضوى ** بقائلة الهجير غدا وراحـا

لعينك في العجاجة ما ألاقي ** وأثبت في الكريهة لا براحـا

محمد بن يحيى ابن هبة الله أبو نصر النحاس الوساطي

كتب إلى السبط من شعره:

وقائلة لما عمرت وصار لي ** ثمانون عاما: عش كذا وابق واسلم

ودم وانتشق روح الحياة فإنه ** لا طيب من بيت بصعدة مظلم

فقلت لها: عذري لديك ممهد ** ببيت زهير فاعملي وتعلمـي

سئمت تكاليف الحياة ومن يعش ** ثمانين حولا لا محالة يسأم

ثم دخلت سنة أربع عشرة وستمائة

في ثالث المحرم منها كمل تبليط داخل الجامع الأموي وجاء المعتمد مبارز الدين إبراهيم المتولى بدمشق، فوضع آخر بلاطة منه بيده عند باب الزيارة فرحا بذلك. وفيها: زادت دجلة ببغداد زيادة عظيمة وارتفع الماء حتى ساوى القبور إلا مقدار أصبعين، ثم طفح الماء من فوقه وأيقن الناس بالهلكة واستمر ذلك سبع ليال وثمانية أيام حسوما، ثم منَّ الله فتناقص الماء وذهبت الزيادة، وقد بقيت بغداد تلولا وتهدمت أكثر البنايات.

وفيها: درس بالنظامية محمد بن يحيى بن فضلان وحضر عنده القضاة والأعيان.

وفيها: صدر الصدر بن حمويه رسولا من العادل إلى الخليفة.

وفيها: قدم ولده الفخر ابن الكامل إلى المعظم يخطب منه ابنته على ابنه أقسيس صاحب اليمن، فعقد العقد بدمشق على صداق هائل.

وفيها: قدم السلطان علاء الدين خوارزم شاه محمد بن تكش من همدان قاصدا إلى بغداد في أربعمائة ألف مقاتل، وقيل في ستمائة ألف، فاستعد له الخليفة واستخدم الجيوش وأرسل إلى الخليفة يطلب منه أن يكون بين يديه على قاعدة من تقدمه من الملوك السلاجقة، وأن يخطب له ببغداد، فلم يجبه الخليفة إلى ذلك، وأرسل إليه الشيخ شهاب الدين السهروردي، فلما وصل شاهد عنده من العظمة وكثرة الملوك بين يديه وهو جالس في حركاة من ذهب على سرير ساج، وعليه قباء بخاري ما يساوي خمسة دراهم، وعلى رأسه جلدة ما تساوي درهما، فسلم عليه فلم يرد عليه من الكبر ولم يأذن له في الجلوس، فقام إلى جانب السرير وأخذ في خطبة هائلة فذكر فيها فضل بني العباس وشرفهم.

وأورد حديثا في النهي عن أذاهم والترجمان يعيد على الملك، فقال الملك أما ما ذكرت من فضل الخليفة فإنه ليس كذلك، ولكني إذا قدمت بغداد أقمت من يكون بهذه الصفة، وأما ما ذكرت من النهي عن أذاهم فإني لم أوذ منهم أحدا ولكن الخليفة في سجونه منهم طائفة كثيرة يتناسلون في السجون، فهو الذي آذى بني العباس، ثم تركه ولم يرد عليه جوابا بعد ذلك.

وانصرف السهروردي راجعا، وأرسل الله تعالى على الملك وجنده ثلجا عظيما ثلاثة أيام حتى طم الحزاكي والخيام، ووصل إلى قريب رؤوس الأعلام، وتقطعت أيدي رجال وأرجلهم، وعمهم من البلاء ما لا يحد ولا يوصف، فردهم الله خائبين والحمد لله رب العالمين.

وفيها: انقضت الهدنة التي كانت بين العادل والفرنج واتفق قدوم العادل من مصر فاجتمع هو وابنه المعظم ببيسان، فركبت الفرنج من عكا وصحبتهم ملوك السواحل كلهم وساقوا كلهم قاصدين معافصة العادل فلما أحس بهم فر منهم لكثرة جيوشهم وقلة من معه، فقال ابنه المعظم إلى أين يا أبة؟ فشتمه بالعجمية وقال له: أقطعت الشام مماليكك وتركت أبناء الناس.

ثم توجه العادل إلى دمشق وكتب إلى واليها المعتمد ليحصنها من الفرنج وينقل إليها من الغلات من داريا إلى القلعة، ويرسل الماء على أراضي داريا وقصر حجاج والشاغور، ففزع الناس من ذلك وابتهلوا إلى الله بالدعاء وكثر الضجيج بالجامع، وأقبل السلطان فنزل مرج الصفر وأرسل إلى ملوك الشرق ليقدموا لقتال الفرنج، فكان أول من قدم صاحب حمص أسد الدين، فتلقاه الناس فدخل من باب الفرج وجاء فسلم على ست الشام بدارها عند المارستان.

ثم عاد إلى داره، ولما قدم أسد الدين سرى عن الناس فلما أصبح توجه نحو العادل إلى مرج الصفر. وأما الفرنج فإنهم قدموا بيسان فنهبوا ما كان بها من الغلات والدواب، وقتلوا وسبوا شيئا كثيرا، ثم عاثوا في الأرض فسادا يقتلون وينهبون ويأسرون ما بين بيسان إلى بانياس.

وخرجوا إلى أراضي الجولان إلى نوى وغيرها، وسار الملك المعظم فنزل على عقبة اللبن بين القدس ونابلس خوفا على القدس منهم، فإنه هو الأهم الأكبر، ثم حاصر الفرنج حصن الطور حصارا هائلا ومانع عنه الذين به من الأبطال ممانعة هائلة، ثم كر الفرنج راجعين إلى عكا ومعهم الأسارى من المسلمين، وجاء الملك المعظم إلى الطور فخلع على الأمراء الذين به وطيب نفوسهم، ثم اتفق هو وأبوه على هدمه كما سيأتي.

وفيها توفي من الأعيان:

الشيخ الإمام العلامة الشيخ العماد أخو الحافظ عبد الغني

أبو إسحاق إبراهيم بن عبد الواحد بن علي بن سرور المقدسي، الشيخ العمادي أصغر من أخيه الحافظ عبد الغني بسنتين، وقدم مع الجماعة إلى دمشق سنة إحدى وخمسين وخمسمائة، ودخل بغداد مرتين وسمع الحديث وكان عابدا زاهدا ورعا كثير الصيام، يصوم يوما ويفطر يوما، وكان فقيها مفتيا، وله كتاب الفروع وصنف أحكاما ولم يتمه، وكان يؤم بمحراب الحنابلة مع الشيخ الموفق، وإنما كانوا يصلون بغير محراب، ثم وضع المحراب في سنة سبع عشرة وستمائة، وكان أيضا يؤم بالناس لقضاء الفوائت، وهو أول من فعل ذلك.

صلى المغرب ذات ليلة وكان صائما ثم رجع إلى منزله بدمشق فأفطر ثم مات فجأة، فصلي عليه بالجامع الأموي، صلى عليه الشيخ الموفق عند مصلاهم، ثم صعدوا به إلى السفح، وكان يوم موته يوما مشهودا من كثرة الناس.

قال سبط ابن الجوزي كان الخلق من الكهف إلى مغارة الدم إلى المنطور لو بذر السمسم ما وقع إلا على رؤوس الناس، قال فلما رجعت تلك الليلة فكرت فيه وفي جنازته وكثرة من شهدها وقلت: هذا كان رجلا صالحا ولعله أن يكون نظر إلى ربه حين وضع في قبره، ومر بذهني أبيات الثوري التي أنشدها بعد موته في المنام:

نظرت إلى ربي كفاحا فقال لي ** هنيئا رضائي عنك يا ابن سعيد

لقد كنت قواما إذا أظلم الدجى ** بعبرة مشتاق وقلب عميـد

فدونك فاختر أي قصر أردته ** وزرني فإني عنك غير بعيـد

ثم قلت أرجو أن يكون العماد رأى ربه كما رآه الثوري، فنمت فرأيت الشيخ العماد في المنام وعليه حلة خضراء وعمامة خضراء، وهو في مكان متسع كأنه روضة، وهو يرقى في درج متسعة، فقلت: يا عماد الدين كيف بت فإني والله مفكر فيك؟ فنظر إلى وتبسم على عادته التي كنت أعرفه فيها في الدنيا ثم قال:

رأيت إلهي حين أنزلت حفرتي ** وفارقت أصحابي وأهلي وجيرتي

وقال:

جزيت الخير عني فإنني ** رضيت فها عفوي لديك ورحمتي

دأبت زمانا تأمل العفو والرضا ** فوقيت نيراني ولقيت جنتي

قال فانتبهت وأنا مذعور وكتبت الأبيات والله أعلم.

القاضي جمال الدين ابن الحرستاني

عبد الصمد بن محمد بن أبي الفضل أبو القاسم الأنصاري ابن الحرستاني قاضي القضاة بدمشق ولد سنة عشرين وخمسمائة، وكان أبوه من أهل حرستان، فنزل داخل باب توما وأمَّ بمسجد الزينبي ونشأ ولده هذا نشأة حسنة سمع الحديث الكثير وشارك الحافظ ابن عساكر في كثير من شيوخه، وكان يجلس للإسماع بمقصورة الخضر، وعندها كان يصلي دائما لا تفوته الجماعة بالجامع.

وكان منزله بالحورية ودرس بالمجاهدية وعمر دهرا طويلا على هذا القدم الصالح والله أعلم. وناب في الحكم عن ابن أبي عصرون، ثم ترك ذلك ولزم بيته وصلاته بالجامع، ثم عزل العادل القاضي ابن الزكي والزم هذا بالقضاء وله ثنتان وتسعون سنة وأعطاه تدريس العزيزية.

وأخذ التقوية أيضا من ابن الزكي وولاها فخر الدين ابن عساكر. قال ابن عبد السلام: ما رأيت أحدا أفقه من ابن الحرستاني، كان يحفظ الوسيط للغزالي.

وذكر غير واحد أنه كان من أعدل القضاة وأقومهم بالحق، لا تأخذه في الله لومة لائم، وكان ابنه عماد الدين يخطب بجامع دمشق، وولي مشيخة الأشرفية ينوب عنه، وكان القاضي جمال الدين يجلس للحكم بمدرسته المجاهدية، وأرسل إليه السلطان طراحة ومسندة لأجل أنه شيخ كبير.

وكان ابنه يجلس بين يديه، فإذا قام أبوه جلس في مكانه، ثم إنه عزل ابنه عن نيابته لشيء بلغه عنه، واستناب شمس الدين بن الشيرازي، وكان يجلس تجاهه في شرقي الإيوان، واستناب معه شمس الدين ابن سنا الدولة، واستناب شرف الدين ابن الموصلي الحنفي، فكان يجلس في محراب المدرسة، واستمر حاكما سنتين وأربعة أشهر، ثم مات يوم السبت رابع ذي الحجة وله من العمر خمس وتسعون سنة، وصلي عليه بجامع دمشق ثم دفن بسفح قاسيون.

الأمير بدر الدين محمد بن أبي القاسم

الهكاري باني المدرسة التي بالقدس، كان من خيار الأمراء، وكان يتمنى الشهادة دائما فقتله الفرنج بحصن الطور، ودفن بالقدس بتربة عاملها وهو يزار إلى الآن رحمه الله.

الشجاع محمود المعروف بابن الدماغ

كان من أصدقاء العادل يضحكه، فحصل أموالا جزيلة منهم، كانت داره داخل باب الفرنج فجعلتها زوجته عائشة مدرسة للشافعية والحنفية، ووقفت عليها أوقافا دارّة.

الشيخة الصالحة العابدة الزاهدة

شيخة العالمات بدمشق، تلقب بدهن اللوز، بنت نورنجان، وهي آخر بناته وفاة وجعلت أموالها وقفا على تربة أختها بنت العصبة المشهورة.

ثم دخلت سنة خمس عشرة وستمائة

استهلت والعادل بمرج الصفر لمناجزة الفرنج وأمر ولده المعظم بتخريب حصن الطور فأخربه ونقل ما فيه من آلات الحرب وغيرها إلى البلدان خوفا من الفرنج.

وفي ربيع الأول نزلت الفرنج على دمياط وأخذوا برج السلسلة في جمادى الأولى، وكان حصنا منيعا، وهو قفل بلاد مصر.

وفيها: التقى المعظم والفرنج على القيمون فكسرهم وقتل منهم خلقا وأسر من الداوية مائة فأدخلهم إلى القدس منكسة أعلامهم.

وفيها: جرت خطوب كثيرة ببلد الموصل بسبب موت ملوكها أولاد قرا أرسلان واحدا بعد واحد، وتغلب مملوك أبيهم بدر الدين لؤلؤ على الأمور والله أعلم.

وفيها: أقبل ملك الروم كيكاريس سنجر يريد أخذ مملكة حلب، وساعده على ذلك الأفضل بن صلاح الدين صاحب سميساط، فصده عن ذلك الملك الأشرف موسى بن العادل وقهر ملك الروم وكسر جيشه ورده خائبا.

وفيها: تملك الأشرف مدينة سنجار مضافا إلى ما بيده من الممالك.

وفيها: توفي السلطان الملك العادل أبو بكر بن أيوب، فأخذت الفرنج دمياط ثم ركبوا وقصدوا بلاد مصر من ثغر دمياط فحاصروه مدة أربعة شهور، والملك الكامل يقاتلهم ويمانعهم، فتملكوا برج السلسلة وهو كالقفل على ديار مصر، وصفته في وسط جزيرة في النيل عند انتهائه إلى البحر، ومنه إلى دمياط، وهو على شاطئ البحر وحافة سلسلة منه إلى الجانب الآخر، وعليه الجسر وسلسلة أخرى لتمنع دخول المراكب من البحر إلى النيل، فلا يمكن الدخول، فلما ملكت الفرنج هذا البرج شق ذلك على المسلمين، وحين وصل الخبر إلى الملك العادل وهو بمرج الصفر تأوه لذلك تأوها شديدا ودق بيده على صدره أسفا وحزنا على المسلمين وبلادها، ومرض من ساعته مرض الموت لأمر يريده الله عز وجل.

فلما كان يوم الجمعة سابع جمادى الآخرة توفي بقرية غالقين، فجاءه ولده المعظم مسرعا فجمع حواصله وأرسله في محفة ومعه خادم بصفة أن السلطان مريض، وكلما جاء أحد من الأمراء ليسلم عليه بلغهم الطواشي عنه، أي أنه ضعيف، عن الرد عليهم، فلما انتهى به إلى القلعة دفن بها مدة ثم حول إلى تربته بالعادلية الكبيرة، وقد كان الملك سيف الدين أبو بكر بن أيوب بن شادي من خيار الملوك وأجودهم سيرة، دينا عاقلا صبورا وقورا، أبطل المحرمات والخمور والمعازف من مملكته كلها وقد كانت ممتدة من أقصى بلاد مصر واليمن والشام والجزيرة إلى همدان كلها، أخذها بعد أخيه صلاح الدين سوى حلب فإنه أقرها بيد ابن أخيه الظاهر غازي لأنه زوج ابنته صفية الست خاتون.

وكان العادل حليما صفوحا صبورا على الأذى كثير الجهاد بنفسه ومع أخيه حضر معه مواقفه كلها أو أكثرها في مقاتلة الفرنج، وكانت له في ذلك اليد البيضاء، وكان ماسك اليد وقد أنفق في عام الغلاء بمصر أموالا كثيرة على الفقراء وتصدق على أهل الحاجة من أبناء الناس وغيرهم شيئا كثيرا جدا، ثم إنه كفن في العام الثاني من بعد عام الغلاء في الفناء مائة ألف إنسان من الغرباء والفقراء.

وكان كثير الصدقة في أيام مرضه حتى كان يخلع جميع ما عليه ويتصدق به وبمركوبه، وكان كثير الأكل ممتعا بصحة وعافية مع كثرة صيامه، كان يأكل في اليوم الواحد أكلات جيدة، ثم بعد هذا يأكل عند النوم رطلا بالدمشقي من الحلوى السكرية اليابسة، وكان يعتريه مرض في أنفه في زمن الورد وكان لا يقدر على الإقامة بدمشق حتى يفرغ زمن الورد، فكان يضرب له الوطاق بمرج الصفر ثم يدخل البلد بعد ذلك.

توفي عن خمس وسبعين سنة، وكان له من الأولاد جماعة:

محمد الكامل صاحب مصر، وعيسى المعظم صاحب دمشق، وموسى الأشرف صاحب الجزيرة، وخلاط وحران وغير ذلك، والأوحد أيوب مات قبله، والفائز إبراهيم، والمظفر غازي صاحب الرها، والعزيز عثمان والأمجد حسن وهما شقيقا المعظم، والمقيت محمود، والحافظ أرسلان صاحب جعبر والصالح إسماعيل، والقاهر إسحاق، ومجير الدين يعقوب، وقطب الدين أحمد وخليل، وكان أصغرهم وتقي الدين عباس، وكان آخرهم وفاة، بقي إلى سنة ستين وستمائة.

وكان له بنات أشهرهن الست صفية خاتون زوجة الظاهر غازي صاحب حلب وأم الملك العزيز والد الناصر يوسف الذي ملك دمشق، وإليه تنسب الناصريتان إحداهما بدمشق والأخرى بالسفح وهو الذي قتله هولاكو كما سيأتي.

صفة أخذ الفرنج دمياط

لما اشتهر الخبر بموت العادل ووصل إلى ابنه الكامل وهو بثغر دمياط مرابط الفرنج، أضعف ذلك أعضاء المسلمين وفشلوا، ثم بلغ الكامل خبر آخر أن الأمير ابن المشطوب وكان أكبر أمير بمصر، قد أراد أن يبايع للفائز عوضا عن الكامل، فسلق وحده جريدة فدخل مصر ليستدرك هذا الخطب الجسيم، فلما فقده الجيش من بينهم انحل نظامهم واعتقدوا أنه قد حدث أمر أكبر من موت العادل، فركبوا وراءه فدخلت الفرنج بأمان إلى الديار المصرية، واستحوذوا على معسكر الكامل وأثقاله، فوقع خبط عظيم جدا، وذلك تقدير العزيز العليم، فلما دخل الكامل مصر لم يقع مما ظنه شيء، وإنما هي خديعة من الفرنج وهرب منه ابن المشطوب إلى الشام.

ثم ركب من فوره في الجيش إلى الفرنج فإذا الأمر قد تزايد، وتمكنوا من البلدان وقتلوا خلقا وغنموا كثيرا، وعاثت الأعراب التي هنالك على أموال الناس، فكانوا أضر عليهم من الفرنج، فنزل الكامل تجاه الفرنج يمانعهم عن دخولهم إلى القاهرة بعد أن كان يمانعهم عن دخول الثغر، وكتب إلى إخوانه يستحثهم ويستنجدهم ويقول: الوحا الوحا العجل العجل، أدركوا المسلمين قبل تملك الفرنج جميع أرض مصر.

فأقبلت العساكر الإسلامية إليه من كل مكان، وكان أول من قدم عليه أخوه الأشرف بيض الله وجهه، ثم المعظم وكان من أمرهم مع الفرنج ما سنذكره بعد هذه السنة.

وفيها: ولي حسبة بغداد الصاحب محيي الدين يوسف بن أبي الفرج ابن الجوزي، وهو مع ذلك يعمل ميعاد الوعظ على قاعدة أبيه، وشكر في مباشرته للحسبة.

وفيها: فوض إلى المعظم النظر في التربة البدرية تجاه الشبلية عند الجسر الذي على ثور، ويقال له: جسر كحيل، وهي منسوبة إلى حسن بن الداية، كان هو وإخوته من أكابر أمراء نور الدين محمود بن زنكي، وقد جعلت في حدود الأربعين وستمائة جامعا يخطب فيه يوم الجمعة.

وفيها: أرسل السلطان علاء الدين محمد بن تكش إلى الملك العادل وهو مخيم بمرج الصفر رسولا، فرد إليه مع الرسول خطيب دمشق جمال الدين محمد بن عبد الملك الدولعي، واستنيب عنه في الخطابة الشيخ الموفق عمر بن يوسف خطيب بيت الآبار، فأقام بالعزيزية يباشر عنه، حتى قدم وقد مات العادل.

وفيها: توفي الملك القاهر صاحب الموصل.

فأقيم ابنه الصغير مكانه، ثم قتل وتشتت شمل البيت الأتابكي، وتغلب على الأمور بدر الدين لؤلؤ غلام أبيه.

وفيها: كان عود الوزير صفي الدين عبد الله ابن علي بن شكر من بلاد الشرق بعد موت العادل، فعمل فيه علم الدين مقامة بالغ في مدحه فيها، وقد ذكروا أنه كان متواضعا يحب الفقراء والفقهاء، ويسلم على الناس إذا اجتاز بهم وهو راكب في أبهة وزارته، ثم إنه نكب في هذه السنة، وذلك أن الكامل هو الذي كان سبب طرده وإبعاده كتب إلى أخيه المعظم فيه، فاحتاط على أمواله وحواصله وعزل ابنه عن النظر من الدواوين، وقد كان ينوب عن أبيه، في مدة غيبته.

وفي رجب منها أعاد المعظم ضمان القيان والخمور والمغنيات وغير ذلك، من الفواحش والمنكرات التي كان أبوه قد أبطلها، بحيث إنه لم يكن أحد يتجاسر أن ينقل ملء كف خمر إلى دمشق إلا بالحيلة الخفية، فجزى الله العادل خيرا، ولا جزى المعظم خيرا على ما فعل، واعتذر المعظم في ذلك بأنه إنما صنع هذا المنكر لقلة الأموال على الجند، واحتياجهم إلى النفقات في قتال الفرنج.

وهذا من جهله وقلة دينه وعدم معرفته بالأمور، فإن هذا الصنيع يديل عليهم الأعداء وينصرهم عليهم، ويتمكن منهم الداء ويثبط الجند عن القتال، فيولون بسببه الأدبار.

وهذا مما يدمر ويخرب الديار ويديل الدول، كما في الأثر: «إذا عصاني من يعرفني سلطت عليه من لا يعرفني».

وهذا ظاهر لا يخفى على فطن.

من الأعيان:

القاضي شرف الدين أبو طالب عبد الله بن زين القضاة عبد الرحمن بن سلطان بن يحيى اللخمي الضرير البغدادي

كان ينسب إلى علم الأوائل، ولكنه كان يتستر بمذهب الظاهرية، قال فيه ابن الساعي: الداودي المذهب المعري أدبا واعتقادا، ومن شعره:

إلى الرحمن أشكو ما ألاقي ** غداة عدوا على هوج النياقِ؟

سألتكم بمن زم المطايـا ** أمَّـر بكم أمـُّر من الفـراقِ؟

وهل ذل أشد من التنائـي ** وهل عيش ألذ من التـلاقِ؟

قاضي قضاة بغداد عماد الدين أبو القاسم

عبد الله بن الحسين بن الدمغاني الحنفي، سمع الحديث وتفقه على مذهب أبي حنيفة، وولي القضاء ببغداد مرتين نحوا من أربع عشرة سنة، وكان مشكور السيرة عارفا بالحساب والفرائض وقسمة التركات.

أبو اليمن نجاح بن عبد الله الحبشي

السوداني نجم الدين مولى الخليفة الناصر، كان يسمى سلمان دار الخلافة، وكان لا يفارق الخليفة، فلما مات وجد عليه الخليفة وجدا كثيرا، وكان يوم جنازته يوما مشهودا، كان بين يدي نعشه مائة بقرة وألف شاة وأحمال من التمر والخبز والماورد، وقد صلى عليه الخليفة بنفسه تحت التاج، وتصدق عنه بعشرة آلاف دينار على المشاهد، ومثلها على المجاورين بالحرمين، وأعتق مماليكه ووقف عنه خمسمائة مجلد.

أبو المظفر محمد بن علوان

ابن مهاجر بن علي بن مهاجر الموصلي، تفقه بالنظامية وسمع الحديث، ثم عاد إلى الموصل فساد أهل زمانه بها، وتقدم في الفتوى والتدريس بمدرسة بدر الدين لؤلؤ وغيرها، وكان صالحا دينا.

أبو الطيب رزق الله بن يحيى

ابن رزق الله بن يحيى بن خليفة بن سليمان بن رزق الله بن غانم بن غنام التأخدري المحدث الجوال الرحال الثقة الحافظ الأديب الشاعر، أبو العباس أحمد بن برتكش بن عبد الله العمادي، كان من أمراء سنجار، وكان أبوه من موالي الملك عماد الدين زنكي صاحبها، وكان أحمد هذا دينا شاعرا ذا مال جزيل، وأملاك كثيرة، وقد احتاط على أمواله قطب الدين محمد بن عماد الدين زنكي وأودعه سجنا فنسي فيه ومات كمدا، ومن شعره:

تقول وقد ودعتها ودموعها ** على خدها من خشية البين تلتقي

مضى أكثر العمر الذي كان نافعا ** رويدك فاعمل صالحا في الذي بقي

ثم دخلت سنة ست عشرة وستمائة

فيها: أمر الشيخ محيي الدين بن الجوزي محتسب بغداد بإزالة المنكر وكسر الملاهي عكس ما أمر به المعظم، وكان أمره في ذلك في أول هذه السنة ولله الحمد والمنة.

ظهور جنكيز خان وعبور التتار نهر جيحون

وفيها: عبرت التتار نهر جيحون صحبة ملكهم جنكيز خان من بلادهم، وكانوا يسكنون جبال طمغاج من أرض الصين ولغتهم مخالفة للغة سائر التتار، وهم من أشجعهم وأصبرهم على القتال، وسبب دخولهم نهر جيحون أن جنكزخان بعث تجارا له ومعهم أموال كثيرة إلى بلاد خوارزم شاه يبتضعون له ثيابا للكسوة فكتب نائبها إلى خوارزم شاه يذكر له ما معهم من كثرة الأموال.

فأرسل إليه بأن يقتلهم ويأخذ ما معهم، ففعل ذلك، فلما بلغ جنكزخان خبرهم أرسل يتهدد خوارزم شاه، ولم يكن ما فعله خوارزم شاه فعلا جيدا.

فلما تهدده أشار من أشار على خوارزم شاه بالمسير إليهم، فسار إليهم وهم في شغل شاغل بقتال كشلي خان، فنهب خوارزم شاه أموالهم وسبى ذراريهم وأطفالهم، فأقبلوا إليه محروبين فاقتتلوا مع أربعة أيام قتالا لم يسمع بمثله، أولئك يقاتلون عن حريمهم والمسلمون عن أنفسهم، يعملون أنهم متى ولوا استأصلوهم، فقتل من الفريقين خلق كثير، حتى أن الخيول كانت تزلق في الدماء، وكان من جملة من قتل من المسلمين نحوا من عشرين ألفا، ومن التتار أضعاف ذلك.

ثم تحاجز الفريقان وولى كل منهم إلى بلاده ولجأ خوارزم شاه وأصحابه إلى بخارى وسمرقند فحصنها وبالغ في كثرة من ترك بها من المقاتلة، ورجع إلى بلاده ليجهز الجيوش الكثيرة فقصدت، التتار بخارى وبها عشرون ألف مقاتل فحاصرها جنكزخان ثلاثة أيام، فطلب منه أهلها الأمان فأمنهم ودخلها فأحسن السيرة فيهم مكرا وخديعة، وامتنعت عليه القلعة فحاصرها واستعمل أهل البلد في طم خندقها.

وكان التتار يأتون بالمنابر والربعات فيطرحونها في الخندق يطمونه بها ففتحوها قسرا في عشرة أيام، فقتل من كان بها.

ثم عاد إلى البلد فاصطفى أموال تجارها وأحلها لجنده فقتلوا من أهلها خلقا لا يعلمهم إلا الله عز وجل، وأسروا الذرية والنساء، وفعلوا معهن الفواحش بحضرة أهليهن، فمن الناس من قاتل دون حريمه حتى قتل، ومنهم من أسر فعذب بأنواع العذاب، وكثر البكاء والضجيج بالبلد من النساء والأطفال والرجال، ثم ألقت التتار النار في دور بخارى ومدارسها ومساجدها فاحترقت حتى صارت بلاقع خاوية على عروشها.

ثم كروا راجعين عنها قاصدين سمرقند، وكان من أمرهم ما سنذكره في السنة الآتية.

وفي مستهل هذه السنة خرب سور بيت المقدس عمره الله بذكره، أمر بذلك المعظم خوفا من استيلاء الفرنج عليه بعد مشورة من أشار بذلك، فإن الفرنج إذا تمكنوا من ذلك جعلوه وسيلة إلى أخذ الشام جميعه، فشرع في تخريب السور في أول يوم المحرم فهرب منه أهله خوفا من الفرنج أن يهجموا عليهم ليلا أو نهارا، وتركوا أموالهم وأثاثهم وتمزقوا في البلاد كل ممزق، حتى قيل إنه بيع القنطار الزيت بعشرة دراهم والرطل النحاس بنصف درهم.

وضج الناس وابتهلوا إلى الله عند الصخرة، وفي الأقصى وهي أيضا فعلة شنعاء من المعظم مع ما أظهر من الفواحش في العام الماضي، فقال بعضهم يهجو المعظم بذلك.

في رجب حلل الحميّـا ** وأخرب القدس في المحـرمُ

وفيها: استحوذت الفرنج على مدينة دمياط ودخولها بالأمان فغدروا بأهلها، وقتلوا رجالها وسبوا نساءها وأطفالها، وفجروا بالنساء وبعثوا بمنبر الجامع والربعات ورؤوس القتلى إلى الجزائر، وجعلوا الجامع كنيسة.

وفيها: غضب المعظم على القاضي زكي الدين بن الزكي، وسببه أن عمته ست الشام بنت أيوب مرضت في دارها التي جعلتها بعدها مدرسة فأرسلت إلى القاضي لتوصي إليه، فذهب إليها بشهود معه فكتب الوصية كما قالت، فقال: المعظم يذهب إلى عمتي بدون إذني، ويسمع هو والشهود كلامها؟

واتفق أن القاضي طلب من جابي العزيزية حسابها وضربه بين يديه بالمقارع، وكان المعظم يبغض هذا القاضي من أيام أبيه، فعند ذلك أرسل المعظم إلى القاضي ببقجة فيها قباء وكلوتة، القباء أبيض والكاوتة صفراء.

وقيل بل كانا حمراوين مدرنين، وحلف الرسول عن السلطان ليلبسنهما ويحكم بين الخصوم فيهما، وكان من لطف الله أن جاءته الرسالة بهذا وهو في دهليز داره التي باب البريد، وهو منتصب للحكم، فلم يستطع إلا أن يلبسهما وحكم فيهما، ثم دخل داره واستقبل مرض موته.

وكانت وفاته في صفر من السنة الآتية بعدها، وكان الشرف بن عنين الزرعي الشاعر قد أظهر النسك والتعبد، ويقال: إنه اعتكف بالجامع أيضا فأرسل إليه المعظم بخمر ونرد ليشتغل بهما. فكتب إليه ابن عنين:

يا أيهـا الملك المعظم سنـةً ** أحدثتـها تبقى على الآبـادِ

تجري الملوك على طريقك بعدها ** خلع القضاة وتحفة الزهـادِ

وهذا من أقبح ما يكون أيضا، وقد كان نواب ابن الزكي أربعة:

شمس الدين بن الشيرازي إمام مشهد علي، كان يحكم بالمشهد بالشباك، وربما برز إلى طرف الرواق تجاه البلاطة السوداء.

وشمس الدين ابن سني الدولة، كان يحكم في الشباك الذي في الكلاسة تجاه تربة صلاح الدين عند الغزالية.

وكمال الدين المصري وكيل بيت المال كان يحكم في الشباك الكمالي بمشهد عثمان.

وشرف الدين الموصلي الحنفي كان يحكم بالمدرسة الطرخانية بجبرون، والله تعالى أعلم.

وفيها توفي من الأعيان:

ست الشام

واقفة المدرستين البرانية والجوانية الست الجليلة المصونة خاتون ست الشام بنت أيوب بن شادي، أخت الملوك وعمة أولادهم، وأم الملوك، كان لها من الملوك المحارم خمسة وثلاثون ملكا، منهم شقيقها المعظم توران شاه بن أيوب صاحب اليمن، وهو مدفون عندها في القبر القبلي من الثلاثة، وفي الأوسط منها زوجها وابن عمها ناصر الدين محمد بن أسد الدين شيركوه بن شادي صاحب حمص.

وكانت قد تزوجته بعد أبي ابنها حسام الدين عمر بن لاجين، وهي وابنها حسام الدين عمر في القبر الثالث، وهو الذي يلي مكان الدرس.

ويقال للتربة والمدرسة الحسامية نسبة إلى ابنها هذا حسام الدين عمر بن لاجين، وكان من أكابر العلماء عند خاله صلاح الدين.

وكانت ست الشام من أكثر النساء صدقة وإحسانا إلى الفقراء والمحاويج، وكانت تعمل في كل سنة في دارها بألوف من الذهب أشربة وأدوية وعقاقير وغير ذلك وتفرقه على الناس، وكانت وفاتها يوم الجمعة آخر النهار السادس عشر من ذي القعدة من هذه السنة في دارها التي جعلتها مدرسة، وهي عند المارستان وهي الشامية الجوانية، ونقلت منها إلى تربتها بالشامية البرانية، وكانت جنازتها حافلة رحمها الله.

أبو البقاء صاحب الأعراب واللباب

عبد الله بن الحسين بن عبد الله، الشيخ أبو البقاء العكبري الضرير النحوي الحنبلي صاحب: (إعراب القرآن العزيز) وكتاب (اللباب في النحو)، وله حواش على المقامات ومفصل الزمخشري وديوان المتنبي وغير ذلك، وله في الحساب وغيره، وكان صالحا دينا، مات وقد قارب الثمانين رحمه الله.

وكان إماما في اللغة فقيها مناظرا عارفا بالأصلين والفقه.

وحكى القاضي بن خلكان عنه: أنه ذكر في شرح المقامات أن عنقاء مغرب كانت تأتي إلى جبل شاهق عند أصحاب الرس، فربما اختطفت بعض أولادهم فشكوها إلى نبيهم حنظلة بن صفوان فدعا عليها فهلكت.

قال: وكان وجهها كوجه الإنسان وفيها شبه من كل طائر.

وذكر الزمخشري في كتابه: (ربيع الأبرار) أنها كانت في زمن موسى لها أربعة أجنحة من كل جانب، ووجه كوجه الإنسان، وفيها شبه كثير من سائر الحيوان، وأنها تأخرت إلى زمن خالد بن سنان العبسي الذي كان في الفترة فدعا عليها فهلكت، والله أعلم.

وذكر ابن خلكان: أن المعز الفاطمي جيء إليه بطائر غريب الشكل من الصعيد يقال له عنقاء مغرب.

قلت: وكل واحد من خالد بن سنان وحنظلة بن صفوان كان في زمن الفترة، وكان صالحا ولم يكن نبيا لقول رسول الله : «أنا أولى الناس بعيسى بن مريم لأنه ليس بيني وبينه نبي» وقد تقدم ذلك.

الحافظ عماد الدين أبو القاسم

علي ابن الحافظ بهاء الدين أبي محمد القاسم بن الحافظ الكبير أبي القاسم علي بن الحسن بن هبة الله بن عساكر الدمشقي، سمع الكثير ورحل فمات ببغداد في هذه السنة، ومن لطيف شعره قوله في المروحة:

ومروحة تـروح كل هـمٍ ** ثلاثة أشهرٍ لا بـد منـها

حـزيران وتمـوز وآبٍ ** وفي أيلول يغـني الله عنـها

ابن الدواي الشاعر وقد أورد له ابن الساعي جملة صالحة من شعره.

وأبو سعيد بن الوزان الداوي وكان أحد المعدلين ببغداد وسمع البخاري من أبي الوقت.

وأبو سعيد محمد بن محمود بن عبد الرحمن المروزي الأصل الهمداني المولد البغدادي المنشأ والوفاة، كان حسن الشكل كامل الأوصاف له خط حسن ويعرف فنونا كثيرة من العلوم، شافعي المذهب، يتكلم في مسائل الخلاف حسن الأخلاق ومن شعره قوله:

أرى قسم الأرزاق أعجب قسمةٍ ** لذي دعةٍ ومكديةٍ لذي كدِ

وأحمـق ذو مال وأحمـق معدمٌ ** وعقل بلا حظٍ وعقلٍ له حدُ

يعم الغنى والفقر ذا الجهل والحجا ** ولله من قبل الأمور ومن بعدُ

أبو زكريا يحيى بن القاسم

ابن الفرج بن درع بن الخضر الشافعي شيخ تاج الدين التكريتي قاضيها، ثم درس بنظامية بغداد، وكان متقنا لعلوم كثيرة منها التفسير والفقه والأدب والنحو واللغة، وله المصنفات في ذلك كله وجمع لنفسه تاريخا حسنا. ومن شعره قوله:

لا بد للمرء من ضيق ومن سعة ** ومن سرور يوافيه ومن حزنِ

والله يطلب منه شكر نعمتـهِ ** ما دام فيها ويبغي الصبر في المحنِ

فكن مع الله في الحالين معتنقـا ** فرضيك هذين في سر وفي علنِ

فما على شدةٍ يبقى الزمان يكن ** ولا على نعمةٍ تبقى على الزمنِ

وله أيضا:

إن كان قاضي الهوى علي ولي ** ما جار في الحكم من علي ولي

يا يوسفي الجمال عندك لم ** تبق لي حيلةٌ من الحيـلِ

إن كان قد القميص من دبرٍ ** ففيك قد الفؤاد من قبـلِ

صاحب الجواهر

الشيخ الإمام جمال الدين أبو محمد عبد الله بن نجم بن شاس بن نزار بن عشائر بن عبد الله بن محمد بن شاس الجذامي المالكي الفقيه، مصنف كتاب: (الجواهر الثمينة في مذهب عالم المدينة) وهو من أكثر الكتب فوائد في الفروع رتبه على طريقة الوجيز للغزالي.

قال ابن خلكان: وفيه دلالة على غزارة علمه وفضله والطائفة المالكية بمصر عاكفة عليه لحسنه وكثرة فوائده، وكان مدرسا بمصر، ومات بدمياط رحمه والله. الله سبحانه أعلم.

ثم دخلت سنة سبع عشرة وستمائة

في هذه السنة عم البلاء وعظم العزاء بجنكزخان المسمى بتموجين لعنه الله تعالى، ومن معه من التتار قبحهم الله أجمعين، واستفحل أمرهم واشتد إفسادهم من أقصى بلاد الصين إلى أن وصلوا بلاد العراق وما حولها حتى انتهوا إلى إربل وأعمالها.

فملكوا في سنة واحدة، وهي هذه السنة سائر الممالك إلا العراق والجزيرة والشام ومصر، وقهروا جميع الطوائف التي بتلك النواحي الخوارزمية والقفجاق والكرج واللان والخزر وغيرهم.

وقتلوا في هذه السنة من طوائف المسلمين وغيرهم في بلدان متعددة كبار ما لا يحد ولا يوصف، وبالجملة فلم يدخلوا بلدا إلا قتلوا جميع من فيه من المقاتلة والرجال، وكثيرا من النساء والأطفال، وأتلفوا ما فيه بالنهب إن احتاجوا إليه، وبالحريق إن لم يحتاجوا إليه، حتى أنهم كانوا يجمعون الحرير الكثير الذي يعجزون عن حمله فيطلقون فيه النار، وهم ينظرون إليه، ويخربون المنازل وما عجزوا عن تخريبه يحرقوه، وأكثر ما يحرقون المساجد والجوامع.

وكانوا يأخذون الأسارى من المسلمين فيقاتلون بهم ويحاصرون بهم، وإن لم ينصحوا في القتال قتلوهم.

وقد بسط ابن الأثير في كامله خبرهم في هذه السنة بسطا حسنا مفصلا، وقدم على ذلك كلاما هائلا في تعظيم هذا الخطب العجيب.

قال فنقول: هذا فصل يتضمن ذكر الحادثة العظمى والمصيبة الكبرى التي عقمت الليالي والأيام عن مثلها، عمت الخلائق وخصت المسلمين، فلو قال قائل: إن العالم منذ خلق الله آدم والى الآن، لم يبتلوا بمثلها لكان صادقا، فإن التواريخ لم تتضمن ما يقاربها ولا يدانيها، ومن أعظم ما يذكرون من الحوادث ما فعل بخت نصر ببني إسرائيل من القتل، وتخريب بيت المقدس، وما البيت المقدس بالنسبة إلى ما خرب هؤلاء الملاعين من البلاد التي كل مدينة منها أضعاف البيت المقدس، وما بنو إسرائيل بالنسبة لما قتلوا، فإن أهل مدينة واحدة ممن قتلوا أكثر من بني إسرائيل.

ولعل الخلائق لا يرون مثل هذه الحادثة إلى أن ينقرض العالم، وتفنى الدنيا إلا يأجوج ومأجوج، وأما الدجال فإنه يبقى على من أتبعه، ويهلك من خالفه، وهؤلاء لم يبقوا على أحد، بل قتلوا الرجال والنساء والأطفال، وشقوا بطون الحوامل، وقتلوا الأجنة.

فإنا لله وإنا إليه راجعون، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، لهذه الحادثة التي استطار شررها، وعم ضررها وسارت في البلاد كالسحاب استدبرته الريح.

فإن قوما خرجوا من أطراف الصين، فقصدوا بلاد تركستان مثل كاشغر وبلاساغون، ثم منها إلى بلاد ما رواء النهر، مثل سمرقند وبخارا وغيرهما، فيملكونها، ويفعلون بأهلها ما نذكره، ثم تعبر طائفة منهم إلى خراسان فيفرغون منها ملكا، وتخريبا وقتلا ونهبا، ثم يجاوزونها إلى الري وهمذان وبلد الجبل وما فيه من البلاد إلى حد العراق.

ثم يقصدون بلاد أذربيجان وأرانية ويخربونه ويقتلون أكثر أهلها، ولم ينج منهم إلا الشريد النادر في أقل من سنة، هذا ما لم يسمع بمثله، ثم ساروا إلى دربند شروان فملكوا مدنه، ولم يسلم غير قلعته التي بها ملكهم، وعبروا عندها إلى بلد اللان، واللكز ومن في ذلك الصقع من الأمم المختلفة، فأوسعوهم قتلا ونهبا وتخريبا.

ثم قصدوا بلاد قفجاق، وهم من أكثر الترك عددا، فقتلوا كل من وقف لهم وهرب الباقون إلى الغياض وملكوا عليهم بلادهم.

وسارت طائفة أخرى إلى غزنة وأعمالها، وما يجاورها من بلاد الهند وسجستان وكرمان، ففعلوا فيها مثل أفعال هؤلاء وأشد، هذا ما لم يطرق الأسماع مثله، فإن الإسكندر الذي اتفق المؤرخون على أنه ملك الدنيا لم يملكها في سنة واحدة، إنما ملكها في نحو عشر سنين، ولم يقتل أحدا بل رضي من الناس بالطاعة، وهؤلاء قد ملكوا أكثر المعمور من الأرض، وأطيبه وأحسنه عمارة، وأكثره أهلا وأعد لهم أخلاقا وسيرة في نحو سنة.

ولم يتفق لأحد من أهل البلاد التي لم يطرقوها بقاء إلا وهو خائف مترقب وصولهم، وهم مع ذلك يسجدون للشمس إذا طلعت، ولا يحرمون شيئا، ويأكلون ما وجدوه من الحيوانات والميتات لعنهم الله تعالى.

قال: وإنما استقام لهم هذا الأمر لعدم المانع لأن السلطان خوارزم شاه محمدا كان قد قتل الملوك من سائر الممالك واستقر في الأمور، فلما انهزم منهم في العام الماضي وضعف عنهم وساقوا وراءه فهرب فلا يدري أين ذهب، وهلك في بعض جزائر البحر، خلت البلاد ولم يبق لها من يحميها { لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرا كَانَ مَفْعُولا } 12، وإلى الله ترجع الأمور.

ثم شرع في تفصيل ما ذكره مجملا، فذكر أولا ما قدمنا ذكره في العام الماضي من بعث جنكزخان أولئك التجار بمال له ليأتونه بثمنه كسوة ولباسا، وأخذ خوارزم شاه تلك الأموال فحنق عليه جنكزخان وأرسل يهدده فسار إليه خوارزم شاه بنفسه وجنوده فوجد التتار مشغولين بقتال كشلى خان، فنهب أثقالهم ونساءهم وأطفالهم فرجعوا وقد انتصروا على عدوهم، وازدادوا حنقا وغيظا، فتواقعواهم وإياه وابن جنكزخان ثلاثة أيام فقتل من الفريقين خلق كثير.

ثم تحاجزوا ورجع خوارزم شاه إلى أطراف بلاده فحصنها ثم كر راجعا إلى مقره ومملكته بمدينة خوارزم شاه، فأقبل جنكزخان فحصر بخارا كما ذكرنا فافتتحها صلحا وغدر بأهلها حتى افتتح قلعتها قهرا وقتل الجميع، وأخذ الأموال وسبى النساء والأطفال وخرب الدور والمحال، وقد كان بها عشرون ألف مقاتل، فلم يغن عنهم شيئا، ثم سار إلى سمرقند فحاصرها في أول المحرم من هذه السنة وبها خمسون ألف مقاتل من الجند، فنكلوا وبرز إليهم سبعون ألفا من العامة فقتل الجميع في ساعة واحدة، وألقى إليه الخمسون ألف السلم فسلبهم سلاحهم وما يمتنعون به، وقتلهم في ذلك اليوم، واستباح البلد فقتل الجميع، وأخذ الأموال وسبى الذرية وحرقه وتركه بلاقع فإنا لله وإنا إليه راجعون.

وأقام لعنه الله هنالك وأرسل السرايا إلى البلدان فأرسل سرية إلى بلاد خراسان وتسميها التتار المغربة، وأرسل أخرى وراء خوارزم شاه، وكانوا عشرين ألفا قال: اطلبوه فأدركوه ولو تعلق بالسماء، فساروا وراءه فأدركوه وبينهم وبينه نهر جيحون وهو آمن بسببه، فلم يجدوا سفنا فعملوا لهم أحواضا يحملون عليها الأسلحة ويرسل أحدهم فرسه ويأخذ بذنبها فتجره الفرس بالماء، وهو يجر الحوض الذي فيه سلاحه، حتى صاروا كلهم في الجانب الآخر، فلم يشعر بهم خوارزم شاه إلا وقد خالطوه، فهرب منهم إلى نيسابور، ثم منها إلى غيرها، وهم في أثره لا يمهلونه يجمع لهم فصار كلما أتى بلدا ليجتمع فيه عساكره له يدركونه فيهرب منهم.

حتى ركب في بحر طبرستان وسار إلى قلعة في جزيرة فيه فكانت فيها وفاته.

وقيل: إنه لا يعرف بعد ركوبه في البحر ما كان من أمره بل ذهب فلا يدرى أين ذهب ولا إلى أي مفر هرب، وملكت التتار حواصله فوجدوا في خزانته عشرة آلاف ألف دينار، وألف حمل من الأطلس وغيره وعشرون ألف فرس وبغل، ومن الغلمان والجواري والخيام شيئا كثيرا، وكان له عشرة آلاف مملوك كل واحد مثل ملك فتمزق ذلك كله.

وقد كان خوارزم شاه فقيها حنفيا فاضلا، له مشاركات في فنون من العلم، يفهم جيدا، وملك بلادا متسعة وممالك متعددة إحدى وعشرين سنة وشهورا.

ولم يكن بعد ملوك بني سلجوق أكثر حرمة منه، ولا أعظم ملكا منه، لأنه إنما كانت همته في الملك لا في اللذات والشهوات، ولذلك قهر الملوك بتلك الأراضي وأحل بالخطا بأسا شديدا، حتى لم يبق ببلاد خراسان وما رواء النهر وعراق العجم وغيرها من الممالك سلطان سواه، وجميع البلاد تحت أيدي نوابه.

ثم ساروا إلى مازندران وقلاعها من أمنع القلاع، بحيث إن المسلمين لم يفتحوها إلا في سنة تسعين من أيام سليمان بن عبد الملك، ففتحها هؤلاء في أيسر مدة، ونهبوا ما فيها وقتلوا أهاليها كلهم وسبوا وأحرقوا، ثم ترحلوا عنها نحو الري فوجدوا في الطريق أم خوارزم شاه، ومعها أموال عظيمة جدا، فأخذوها وفيها كل غريب ونفيس مما لم يشاهد مثله من الجواهر وغيرها.

ثم قصدوا الري فدخلوها على حين غفلة من أهلها فقتلوهم وسبوا وأسروا.

ثم ساروا إلى همذان فملكوها ثم إلى زنجان فقتلوا وسبوا.

ثم قصدوا قزوين فنهبوها وقتلوا من أهلها نحوا من أربعين ألفا.

ثم تيمموا بلاد أذربيجان فصالحهم ملكها أزبك بن البهلوان على مال حمله إليهم لشغله بما هو فيه من السكر وارتكاب السيئات والانهماك على الشهوات، فتركوه وساروا إلى موقان فقاتلهم الكرج في عشرة آلاف مقاتل فلم يقفوا بين أيديهم طرفة عين حتى انهزمت الكرج فأقبلوا إليهم بحدهم وحديدهم، فكسرتهم التتار وقعة ثانية أقبح هزيمة وأشنعها.

وههنا قال ابن الأثير: ولقد جرى لهؤلاء التتر ما لم يسمع بمثله من قديم الزمان وحديثه:

طائفة تخرج من حدود الصين، لا تنقضي عليهم سنة حتى يصل بعضهم إلى حدود بلاد أرمينية من هذه الناحية، ويجاوزون العراق من ناحية همذان، وتالله لا أشك أن من يجيء بعدنا إذا بعد العهد، ويرى هذه الحادثة مسطورة ينكرها ويستبعدها، والحق بيده، فمتى استبعد ذلك فلينظر أننا سطرنا نحن وكل من جمع التاريخ في أزماننا هذه في وقت كل من فيه يعلم هذه الحادثة، قد استوى في معرفتها العالم والجاهل لشهرتها.

يسر الله للمسلمين والإسلام من يحفظهم ويحوطهم، فلقد دفعوا من العدو إلى أمر عظيم، ومن الملوك المسلمين إلى من لا تتعدى همته بطنه وفرجه، وقد عدم سلطان المسلمين خوارزم شاه.

قال: وانقضت هذه السنة وهم في بلاد الكرج، فلما رأوا منهم ممانعة و مقاتلة يطول عليهم بها المطال عدلوا إلى غيرهم، وكذلك كانت عادتهم فساروا إلى تبريز فصالحهم أهلها بمال.

ثم ساروا إلى مراغة فحصروها ونصبوا عليها المجانيق وتترسوا بالأسارى من المسلمين، وعلى البلد امرأة - ولو يفلح قوم ولو أمرهم امرأة - ففتحوا البلد بعد أيام وقتلوا من أهله خلقا لا يعلم عدتهم إلا الله عز وجل، وغنموا منه شيئا كثيرا، وسبوا وأسروا على عادتهم لعنهم الله لعنة تدخلهم نار جهنم، وقد كان الناس يخافون منهم خوفا عظيما جدا حتى إنه دخل رجل منهم إلى درب من هذه البلد وبه مائة رجل لم يستطع واحد منهم أن يتقدم إليه، وما زال يقتلهم واحدا بعد واحد حتى قتل الجميع ولم يرفع منهم أحد يده إليه، ونهب ذلك الدرب وحده.

ودخلت امرأة منهم في زي رجل دارا فقتلت كل من في ذلك البيت وحدها ثم استشعر أسير معها أنها امرأة فقتلها لعنها الله.

ثم قصدوا مدينة إربل فضاق المسلمون لذلك ذرعا، وقال أهل تلك النواحي: هذا أمر عصيب، وكتب الخليفة إلى أهل الموصل والملك الأشرف صاحب الجزيرة يقول:

إني قد جهزت عسكرا فكونوا معه لقتال هؤلاء التتار، فأرسل الأشرف يعتذر إلى الخليفة بأنه متوجه نحو أخيه الكامل إلى الديار المصرية بسبب ما قد دهم المسلمين هناك من الفرنج، وأخذهم دمياط الذي قد أشرفوا بأخذهم لها على أخذ الديار المصرية قاطبة.

وكان أخوه المعظم قد قدم على والي حران يستنجده لأضيهما الكامل ليتحاجزوا الفرنج بدمياط وهو على أهبة المسير إلى الديار المصرية، فكتب الخليفة إلى مظفر الدين صاحب إربل ليكون هو المقدم على العساكر التي يبعثها الخليفة وهي: عشرة آلاف مقاتل، فلم يقدم عليه منهم ثمانمائة فارس، ثم تفرقوا قبل أن يجتمعوا، فإنا لله وإنا إليه راجعون، ولكن الله سلم بأن صرف همة التتار إلى ناحية همذان فصالحهم أهلها وترك عندهم التتار شحنة، ثم اتفقوا على قتل شحنتهم فرجعوا إليهم فحاصروهم حتى فتحوها قسرا وقتلوا أهلها عن آخرهم.

ثم ساروا إلى أذربيجان ففتحوا أردبيل ثم تبريز، ثم إلى بيلقان فقتلوا من أهلها خلقا كثيرا وجما غفيرا، وحرقوها وكانوا يفجرون بالنساء ثم يقتلونهن ويشقون بطونهم عن الأجنة.

ثم عادوا إلى بلاد الكرج وقد استعدت لهم الكرج فاقتتلوا معهم فكسروهم أيضا كسرة فظيعة.

ثم فتحوا بلدانا كثيرة يقتلون أهلها، ويسبون نساءها ويأسرون من الرجال ما يقاتلون بهم الحصون، يجعلونهم بين أيديهم ترسا يتقون بهم الرمي وغيره، ومن سلم منهم قتلوه بعد انقضاء الحرب، ثم ساروا إلى بلاد اللان والقبجاق فاقتتلوا معهم قتالا عظيما فكسروهم وقصدوا أكبر مدائن القبجاق، وهي: مدينة سوداق وفيها من الأمتعة والثياب والتجائر من البرطاسي والقندر والسنجاب شيء كثير جدا.

ولجأت القبجاق إلى بلاد الروس، وكانوا نصارى فاتفقوا معهم على قتال التتار فالتقوا معهم فكسرتهم التتار كسرة فظيعة جدا.

ثم ساروا نحو بلقار في حدود العشرين وستمائة ففرغوا من ذلك كله، ورجعوا نحو ملكهم جنكزخان لعنه الله وإياهم.

هذا ما فعلته هذه السرية المغرّبة، وكان جنكزخان قد أرسل سرية في هذه السنة إلى كلانة وأخرى إلى فرغانة فملكوها، وجهز جيشا آخر نحو خراسان فحاصروا بلخ فصالحهم أهلها، وكذلك صالحوا مدنا كثيرة أخرى.

حتى انتهوا إلى الطالقان فأعجزتهم قلعتها، وكانت حصينة فحاصروها ستة أشهر حتى عجزوا فكتبوا إلى جنكزخان فقدم بنفسه فحاصرها أربعة أشهر أخرى حتى فتحها قهرا، ثم قتل كل من فيها وكل من في البلد بكماله خاصة وعامة.

ثم قصدوا مدينة مرو مع جنكزخان فقد عسكر بظاهرها نحو من مائتي ألف مقاتل من العرب وغيرهم، فاقتتلوا معه قتالا عظيما حتى انكسر المسلمون، فإنا لله وإنا إليه راجعون.

ثم حصروا البلد خمسة أيام واستنزلوا نائبها خديعة، ثم غدروا به وبأهل البلد، فقتلوهم وغنموهم وسلبوهم وعاقبوهم بأنواع العذاب، حتى إنهم قتلوا في يوم واحد سبعمائة ألف إنسان.

ثم ساروا إلى نيسابور ففعلوا فيها ما فعلوا بأهل مرو.

ثم إلى طوس فقتلوا وخربوا مشهد علي بن موسى الرضي سلام الله عليه وعلى آبائه، وخربوا تربة الرشيد الخليفة فتركوه خرابا.

ثم ساروا إلى غزنة فقاتلهم جلال الدين بن خوارزم شاه فكسرهم، ثم عادوا إلى ملكهم جنكزخان لعنه الله وإياهم.

وأرسل جنكزخان طائفة أخرى إلى مدينة خوارزم فحاصروها حتى فتحو البلد قهرا، فقتلوا من فيها قتلا ذريعا، ونهبوها وسبوا أهلها وأرسلوا الجسر الذي يمنع ماء جيحون منها فغرقت دورها وهلك جميع أهلها.

ثم عادوا إلى جنكزخان وهو مخيم على الطالقان فجهز منهم طائفة إلى غزنة فاقتتل معهم جلال الدين بن خوارزم شاه فكسرهم جلال الدين كسرة عظيمة، واستنقذ منهم خلقا من أسارى المسلمين.

ثم كتب إلى جنكزخان يطلب منه أن يبرز بنفسه لقتاله، فقصده جنكزخان فتواجها وقد تفرق على جلال الدين بعض جيشه ولم يبق بد من القتال، فاقتتلوا ثلاثة أيام لم يعهد قبلها مثلها من قتالهم، ثم ضعفت أصحاب جلال الدين فذهبوا فركبوا بحر الهند فسارت التتار إلى غزنة فأخذوها بلا كلفة ولا ممانعة، كل هذا أو أكثره وقع في هذه السنة.

وفيها: أيضا ترك الأشرف، موسى بن العادل لأخيه شهاب الدين غازي ملك خلاط وميافارقين وبلاد أرمينية واعتاض عن ذلك، بالرها وسروج، وذلك لاشتغاله عن حفظ تلك النواحي بمساعدة أخيه الكامل ونصرته على الفرنج لعنهم الله تعالى.

وفي المحرم منها: هبت رياح ببغداد، وجاءت بروق، وسمعت رعود شديدة، وسقطت صاعقة بالجانب الغربي على المنارة المجاورة لعون ومعين فثلمتها، ثم أصلحت، وغارت الصاعقة في الأرض.

وفي هذه السنة نصب محراب الحنابلة في الرواق الثالث الغربي من جامع دمشق بعد ممانعة من بعض الناس لهم، ولكن ساعدهم بعض الأمراء في نصبه لهم، وهو الأمير ركن الدين المعظمي، وصلى فيه الشيخ موفق الدين بن قدامة.

قلت: ثم رفع في حدود سنة ثلاثين وسبعمائة وعوضوا عنه بالمحراب الغربي عند باب الزيارة، كما عوض الحنفية عن محرابهم الذي كان في الجانب الغربي من الجامع بالمحراب المجدد لهم شرقي باب الزيارة، حين جدد الحائط الذي هو فيه في الأيام التنكزية، على يدي ناظر الجامع تقي الدين بن مراجل أثابه الله تعالى كما سيأتي بيانه في موضعه إن شاء الله تعالى.

وفيها: قتل صاحب سنجار أخاه، فملكها مستقلا بها الملك الأشرف بن العادل.

وفيها: نافق الأمير عماد الدين بن المشطوب على الملك الأشرف، وكان قد آواه وحفظه من أذى أخيه الكامل حين أراد أن يبايع للفائز، ثم إنه سعى في الأرض فسادا في بلاد الجزيرة فسجنه الأشرف حتى مات كمدا وذلا وعذابا.

وفيها: أوقع الكامل بالفرنج الذين على دمياط بأسا شديدا، فقتل منهم عشرة آلاف، وأخذ منهم خيولهم وأموالهم ولله الحمد.

وفيها: عزل المعظم المعتمد مفاخر الدين إبراهيم عن ولاية دمشق وولاها للعزيز خليل، ولما خرج الحاج إلى مكة شرفها الله تعالى كان أميرهم المعتمد فحصل به خير كثير، وذلك أنه كف عبيد مكة عن نهب الحجاج بعد قتلهم أمير حاج العراقيين أقباش الناصري، وكان من أكبر الأمراء عند الخليفة الناصر وأخصهم عنده، وذلك لأنه قدم معه بخلع للأمير حسين بن أبي عزيز قتادة بن إدريس بن مطاعن بن عبد الكريم العلوي الحسني الزيدي بولايته لأمرة مكة بعد أبيه.

وكانت وفاته في جمادى الأولى من هذه السنة، فنازع في ذلك راجح وهو أكبر أولاد قتادة.

وقال لا يتأمر عليها غيري، فوقعت فتنة أفضى الحال إلى قتل أقباش غلطا.

وقد كان قتادة من أكابر الأشراف الحسنيين الزيديين، وكان عادلا منصفا منعما، نقمة على عبيد مكة والمفسدين بها.

ثم عكس هذا السير فظلم وجدد المكوس، ونهب الحاج غير مرة فسلط الله عليه ولده حسنا فقتله وقتل عمه وأخاه أيضا، فلهذا لم يمهل الله حسنا أيضا، بل سلبه الملك وشرده في البلاد، وقيل: بل قتل كما ذكرنا، وكان قتادة شيخا طويلا مهيبا لا يخاف من أحد من الخلفاء والملوك، ويرى أنه أحق بالأمر من كل أحد.

وكان الخليفة يود لو حضر عنده فيكرمه، وكان يأبى من ذلك ويمتنع عنه أشد الامتناع، ولم يفد إلى أحد قط ولا ذل الخليفة ولا ملك، وكتب إليه الخليفة مرة يستدعيه فكتب إليه:

ولي كف ضرغامٍ أذل ببطشها ** وأشرى بها بين الورى وأبيعُ

تظل ملوك الأرض تلثم ظهرها ** وفي بطنها للمجد بين ربيـعُ

أأجعلها تحت الرحى ثم أبتغي ** خلاصا لها؟ إني إذا لرقيـعُ

ما أنا إلا المسك في كل بقعـة ** يضوع وأما عندكم فيضيعُ

وقد بلغ من السنين سبعين سنة.

وقد ذكر ابن الأثير وفاته في سنة ثماني عشرة فالله أعلم.

وفيها توفي من الأعيان:

الملك الفائز غياث الدين إبراهيم بن العادل

كان قد انتظم له الأمر في الملك بعد أبيه على الديار المصرية على يدي الأمير عماد الدين بن المشطوب، لولا أن الكامل تدارك ذلك سريعا ثم، أرسله أخوه في هذه السنة إلى أخيهما الأشرف موسى يستحثه في سرعة المسير إليهم بسبب الفرنج، فمات بين سنجاب والموصل، وقد ذكر أنه سم فرد إلى سنجاب فدفن بها رحمه الله تعالى.

شيخ الشيوخ صدر الدين أبو الحسن محمد بن شيخ الشيوخ عماد الدين محمود بن حمويه الجويني

من بيت رياسة وإمرة عند بني أيوب، وقد كان صدر الدين هذا فقيها فاضلا، درس بتربة الشافعي بمصر وبمشهد الحسين وولى مشيخة سعيد السعداء والنظر فيها، وكانت له حرمة وافرة عند الملوك أرسله الكامل إلى الخليفة يستنصره على الفرنج، فمات بالموصل بالإسهال، ودفن بها عند قضيب البان عن ثلاث وسبعين سنة.

صاحب حماه الملك المنصور

محمد بن الملك المظفر تقي الدين عمر بن شاهنشاه بن أيوب، وكان فاضلا له تاريخ في عشر مجلدات سماه المضمار، وكان شجاعا فارسا، فقام بالملك بعده ولده الناصر قليج أرسلان، ثم عزله عنها الكامل وحبسه حتى مات رحمه الله تعالى وولى أخاه المظفر بن المنصور.

صاحب آمد الملك الصالح ناصر الدين

محمود بن محمد بن قرا أرسلان بن أرتق، وكان شجاعا محبا للعلماء، وكان مصاحبا للأشرف موسى بن العادل يجيء إلى خدمته مرارا، وملك بعده ولده المسعود، وكان بخيلا فاسقا، فأخذه معه الكامل وحبسه بمصر، ثم أطلقه فأخذ أمواله وسار إلى التتار، فأخذته منه.

الشيخ عبد الله الوينني

الملقب: أسد الشام رحمه الله ورضى عنه من قرية بعلبك يقال لها: يونين، وكانت له زاوية يقصد فيها للزيارة، وكان من الصالحين الكبار المشهورين بالعبادة والرياضة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، له همة عالية في الزهد والورع، بحيث إنه كان لا يقتني شيئا ولا يملك مالا ولا ثيابا، بل يلبس عارية ولا يتجاوز قميصا في الصيف وفروة فوقه في الشتاء، وعلى رأسه قبعا من جلود المعز، شعره إلى ظاهر.

وكان لا ينقطع عن غزاة من الغزوات، ويرمي عن قوس زنته ثمانون رطلا، وكان يجاور في بعض الأحيان بجبل لبنان، ويأتي في الشتاء إلى عيون العاسريا في سفح الجبل المطل على قرية دومة شرقي دمشق، لأجل سخونة الماء، فيقصده الناس للزيارة هناك ويجيء تارة إلى دمشق فينزل بسفح قاسيون عند القادسية.

وكانت له أحوال ومكاشفات صالحة، وكان يقال له: أسد الشام.

حكى الشيخ أبو المظفر سبط ابن الجوزي عن القاضي جمال الدين يعقوب الحاكم بكرك البقاع: أنه شاهد مرة الشيخ عبد الله وهو يتوضأ من ثور عند الجسر الأبيض، إذ مر نصراني ومعه حمل بغل خمرا فعثرت الدابة عند الجسر فسقط الحمل، فرأى الشيخ وقد فرغ من وضوئه ولا يعرفه، واستعان به على رفع الحمل فاستدعاني الشيخ فقال:

تعال يا فقيه، فتساعدنا على تحميل ذلك الحمل على الدابة وذهب النصراني فتعجبت من ذلك، وتبعت الحمل وأنا ذاهب إلى المدينة، فانتهى به إلى العقبة فأورده إلى الخمار بها فإذا خل فقال له الخمار: ويحك هذا خل.

فقال النصراني: أنا أعرف من أين أتيت، ثم ربط الدابة في خان ورجع إلى الصالحية فسأل عن الشيخ فعرفه فجاء إليه فأسلم على يديه.

وله أحوال وكرامات كثيرة جدا، وكان لا يقوم لأحد دخل عليه ويقول: إنما يقوم الناس لرب العالمين.

وكان الأمجد إذا دخل عليه جلس بين يديه فيقول له: يا أمجد فعلت كذا وكذا ويأمره، بما يأمره وينهاه عما ينهاه عنه، وهو يمتثل جميع ما يقوله له، وما ذاك إلا لصدقه في زهده وورعه وطريقه.

وكان يقبل الفتوح، وكان لا يدخر منه شيئا لغد، وإذا اشتد جوعه أخذ من ورق اللوز ففركه واستفه، ويشرب فوقه الماء البارد رحمه الله تعالى وأكرم مثواه.

وذكروا: أنه كان يحج في بعض السنين في الهواء، وقد وقع هذا لطائفة كبيرة من الزهاد وصالحي العباد.

ولم يبلغنا هذا عن أحد من أكابر العلماء، وأول من يذكر عنه هذا حبيب العجمي، وكان من أصحاب الحسن البصري، ثم من بعده من الصالحين رحمهم الله أجمعين.

فلما كان يوم جمعة من عشر ذي الحجة من هذه السنة صلى الصبح عبد الله اليونيني وصلاة الجمعة بجامع بعلبك، وكان قد دخل الحمام يومئذ قبل الصلاة وهو صحيح، فلما انصرف من الصلاة قال للشيخ داود المؤذن، وكان يغسل الموتى: انظر كيف تكون غدا.

ثم صعد الشيخ إلى زاويته فبات يذكر الله تعالى تلك الليلة، ويتذكر أصحابه، ومن أحسن إليه ولو بأدنى شيء ويدعو لهم، فلما دخل وقت الصبح صلى بأصحابه ثم استند يذكر الله وفي يده سبحة، فمات وهو كذلك جالس، لم يسقط، ولم تسقط السبحة من يده، فلما انتهى الخبر إلى الملك الأمجد صاحب بعلبك فجاء إليه فعاينه كذلك، فقال:

لو بنينا عليه بنيانا هكذا يشاهد الناس منه آية.

فقيل له: ليس هذا من السنة، فنحي وكفن وصلي عليه ودفن تحت اللوزة التي كان يجلس تحتها يذكر الله تعالى، رحمه الله ونور ضريحه.

وكانت وفاته يوم السبت وقد جاوز ثمانين عاما أكرمه الله تعالى، وكان الشيخ محمد الفقيه اليونيني من جملة تلاميذه، وممن يلوذ به وهو جد هؤلاء المشايخ بمدينة بعلبك.

أبو عبد الله الحسين بن محمد بن أبي بكر

المجلي الموصلي ويعرف بابن الجهني، شاب فاضل ولي كتابة الإنشاء لبدر الدين لؤلؤ زعيم الموصل ومن شعره:

نفسي فـداء الذي فكرت فيه وقـد ** غدوت أغرق في بحر من العجبِ

يبدو بليل على صبح على قمرٍ ** على قضيبٍ على وهم على كثبِ

ثم دخلت سنة ثمان عشرة وستمائة

فيها: استولت التتر على كثير من البلدان بكلادة وهمذان وأردبيل وتبريز وكنجة، وقتلوا أهاليها ونهبوا ما فيها، واستأسروا ذراريها واقتربوا من بغداد فانزعج الخليفة لذلك، وحصن بغداد واستخدم الأجناد، وقنت الناس في الصلوات والأوراد.

وفيها: قهروا الكرج واللان، ثم قاتلوا القبجاق فكسروهم، وكذلك الروس، وينهبون ما قدروا عليه، ثم قاتلوهم سبوا نساءهم وذراريهم.

وفيها: سار المعظم إلى أخيه الأشرف فاستعطفه على أخيه الكامل، وكان في نفسه موجدة عليه فأزالها وسارا جميعا نحو الديار المصرية لمعاونة الكامل على الفرنج الذين قد أخذوا ثغر دمياط واستحكم أمرهم هنالك من سنة أربع عشرة؛ وعرض عليهم في بعض الأوقات أن يرد إليهم بيت المقدس وجميع ما كان صلاح الدين فتحه من بلاد الساحل ويتركوا دمياط، فامتنعوا من ذلك ولم يفعلوا.

فقدر الله تعالى أنهم ضاقت عليهم الأقوات فقدم عليهم مراكب فيها ميرة لهم فأخذها الأسطول البحري، وأرسلت المياه على أراضي دمياط من كل ناحية فلم يمكنهم بعد ذلك أن يتصرفوا في نفسهم، وحصرهم المسلمون من الجهة الأخرى حتى اضطروهم إلى أضيق الأماكن.

فعند ذلك أنابوا إلى المصالحة بلا معاوضة، فجاء مقدموهم إليه وعنده أخواه المعظم عيسى وموسى الأشرف، وكانا قائمين بين يديه، وكان يوما مشهودا، فوقع الصلح على ما أراد الكامل محمد بيض الله وجهه، وملوك الفرنج والعساكر كلها واقفة بين يديه، ومد سماطا عظيما، فاجتمع عليه المؤمن والكافر والبر والفاجر، وقام راجح الحلي الشاعر فأنشد:

هنيئا فإن السعد راح مخلدا ** وقد أنجز الرحمن بالنصر موعدا

حبانا إله الخلق فتحا بدا لنا ** مبينا وإنعاما وعـزا مؤبـدا

تهلل وجه الدهر بعد قطوبه ** وأصبح وجه الشرك بالظلم أسودا

ولما طغى البحر الخضم بأهله الط**ـغـاة وأضحى بالمراكب مزبدا

أقام لهذا الدين من سل عزمه ** صقيلا كما سل الحسام مجـردا

فلم ينج إلا كل شلو مجدلٍ ** ثوى منهم أو من تراه مقيـدا

ونادى لسان الكون في الأرض رافعا ** عقيرته في الخافقين ومنشدا

أعباد عيسى إن عيسى وحزبه ** وموسى جميعا يخدمون محمدا

قال أبو شامة: وبلغني أنه أشار عند ذلك إلى المعظم عيسى، والأشرف موسى، والكامل محمد.

قال: وهذا من أحسن شيء اتفق، وكان ذلك يوم الأربعاء التاسع عشر رجب من هذه السنة، وتراجعت الفرنج إلى عكا وغيرها، ورجع المعظم إلى الشام واصطلح الأشرف والكامل على أخيهما المعظم.

وفيها: ولى الملك المعظم قضاء دمشق كمال الدين المصري الذي كان وكيل بيت المال بها، وكان فاضلا بارعا يجلس في كل يوم جمعة قبل الصلاة بالعادلية بعد فراغها لإثبات المحاضر، ويحضر عنده في المدرسة جميع الشهود من كل المراكز حتى يتيسر على الناس إثبات كتبهم في الساعة الواحدة، جزاه الله خيرا.

من الأعيان:

ياقوت الكاتب الموصلي رحمه الله

أمين الدين المشهور بطريقة ابن البواب.

قال ابن الأثير:لم يكن في زمانه من يقاربه، وكانت لديه فضائل جمة والناس متفقون على الثناء عليه، وكان نعم الرجل.

وقد قال فيه نجيب الدين الواسطي قصيدة يمدحه بها:

جامع شارد العـلوم ولولا ** ه لكانت أم الفضائـلِ ثكـلى

ذو يراع تخاف ريقتـه الأسـ ** د، وتعنو له الكتائـب ذلا

وإذا افتر ثغره عن بياض ** في سوادٍ فالسمر والبيـض خجلا

أنت بدر والكاتب ابن هلال ** كأبيـه لا فخر فيمن تـولى

إن يكن أولى فإنك بالتفـضـ ** يل أولى فقد سبقت وصلـى

جلال الدين الحسن من أولاد الحسن بن الصباح مقدم الإسماعيلية

وكان قد أظهر في قومه شعائر الإسلام، وحفظ الحدود والمحرمات والقيام فيها بالزواجر الشرعية.

الشيخ الصالح شهاب الدين محمد بن خلف بن راجح المقدسي الحنبلي

الزاهد العابد الناسك، كان يقرأ على الناس يوم الجمعة الحديث النبوي وهو جالس على أسفل منبر الخطابة بالجامع المظفري، وقد سمع الحديث الكثير، ورحل وحفظ مقامات الحريري في خمسين ليلة، وكانت له فنون كثيرة، وكان ظريفا مطبوعا رحمه الله.

والخطيب موفق الدين أبو عبد الله عمر بن يوسف بن يحيى بن عمر بن كامل المقدسي

خطيب بيت الأبار، وقد تاب في دمشق عن الخطيب جمال الدين الدولعي حين سار في الرسلية إلى خوارزم شاه، حتى عاد.

المحدث تقي الدين أبو طاهر

إسماعيل بن عبد الله بن عبد المحسن بن الأنماطي، قرأ الحديث ورحل وكتبه.

وكان حسن الخط متقنا في علوم الحديث، حافظا له، وكان الشيخ تقي الدين ابن الصلاح يثني عليه ويمدحه، وكانت له كتب بالبيت الغربي من الكلاسة الذي كان للملك المحسن بن صلاح الدين.

ثم أخذ من ابن الأنماطي وسلم إلى الشيخ عبد الصمد الدكائي، واستمر بيد أصحابه بعد ذلك، وكانت وفاته بدمشق ودفن بمقابر الصوفية، وصلى عليه بالجامع الشيخ موفق الدين، وبباب النصر الشيخ فخر الدين بن عساكر، وبالمقبرة قاضي القضاة جمال الدين المصري رحمه الله تعالى.

أبو الغيث شعيب بن أبي طاهر بن كليب

ابن مقبل الضرير الفقيه الشافعي، أقام ببغداد إلى أن توفي، وكانت لديه فضائل وله رسائل، ومن شعره قوله:

إذا كنتم للناس أهل سياسةٍ ** فسوسوا كرام الناس بالجود والبذلِ

وسوسوا لئام الناس بالذل يصلحوا ** عليه، فإن الذل أصلح للنذلِ

أبو العز شرف بن علي ابن أبي جعفر بن كامل الخالصي

المقري الضرير الفقيه الشافعي، تفقه بالنظامية وسمع الحديث ورواه، وأنشد عن الحسن بن عمرو الحلبي:

تمثلتم لي والديار بعيدةٌ ** فخيل لي أن الفـؤاد لكـم معنى

وناجاكم قلبي على البعد بيننا ** فأوحشتم لفظا وآنستم معنى

أبو سليمان داوود بن إبراهيم

ابن مندار الجيلي، أحد المعيدين بالمدرسة النظامية، ومما أنشده:

أيا جامعا أمسك عنانك مقصرا ** فإن مطايا الدهر تكبو وتقصرُ

ستقرع سنا أو تعض ندامـةً ** إذا خـان الزمان واقصـرُ

ويلقاك رشد بعد غيك واعـٌظ ** ولكنه يلقاك والأمر مدبرُ

أبو المظفر عبد الودود بن محمود بن المبارك

ابن علي بن المبارك بن الحسن الواسطي الأصل، البغدادي الدار والمولد، كمال الدين المعروف والده بالمجيد، تفقه على أبيه وقرأ عليه علم الكلام، ودرس بمدرسته عند باب الأزج، ووكله الخليفة الناصر.

واشتهر بالديانة والأمانة، وباشر مناصب كبارا، وحج مرارا عديدة، وكان متواضعا حسن الأخلاق، وكان يقول:

وما تركت ست وستون حجةً ** لنا حجة أن نركب اللهو مركبا

وكان ينشده:

العلم يأتي كل ذي خفـ **ض ويأبى على كل آبي

كالماء ينزل في الوها ** د وليس يصعد في الروابي

ثم دخلت سنة تسع عشرة وستمائة

فيها: نقل تابوت العادل من القلعة إلى تربته العادلية الكبيرة فصلى عليه أولا تحت النسر بالجامع الأموي، ثم جاؤا به إلى التربة المذكورة فدفن فيها، ولم تكن المدرسة كملت بعد، وقد تكامل بناؤها في هذه السنة أيضا.

وذكر الدرس بها القاضي جمال الدين المصري، وحضر عنده السلطان المعظم، فجلس في الصدر، وعن شماله القاضي، وعن يمينه صدر الدين الحصيري شيخ الحنفية، وكان في المجلس الشيخ تقي الدين بن الصلاح إمام السلطان، والشيخ سيف الدين الآمدي إلى جانب المدرس، وإلى جانبه شمس الدين بن سناء الدولة، ويليه النجم خليل قاضي العسكر، وتحت الحصيري شمس الدين بن الشيرازي، وتحته محيي الدين التركي، وفيه خلق من الأعيان والأكابر، وفيهم فخر الدين بن عساكر.

وفيها: أرسل الملك المعظم الصدر الكشهني محتسب دمشق إلى جلال الدين بن خوارزم شاه يستعينه على أخويه الكامل والأشرف اللذين قد تمالآ عليه، فأجابه إلى ذلك بالسمع والطاعة، ولما عاد الصدر المذكور أضاف إليه مشيخة الشيوخ.

وحج في هذه السنة الملك مسعود بن أقسيس بن الكامل صاحب اليمن، فبدت منه أفعال ناقصة بالحرم من سكر ورشق حمام المسجد بالبندق من أعلا قبة زمزم، وكان إذا نام في دار الإمارة، يضرب الطائفون بالمسعى بأطراف السيوف لئلا يشوشوا عليه، وهو نوم سكر قبحه الله، ولكن كان مع هذا كله مهيبا محترما والبلاد به آمنة مطمئنة.

وقد كاد يرفع سنجق أبيه يوم عرفة على سنجق الخليفة فيجري بسبب ذلك فتنة عظيمة، وما مكن من طلوعه وصعوده إلى الجبل إلا في آخر النهار بعد جهد جهيد.

وفيها: كان بالشام جراد كثيرا أكل الزرع والثمار والأشجار.

وفيها: وقعت حروب كثيرة بين القبجاق والكرج وقتال كثير بسبب ضيق بلاد القبجاق عليهم.

وفيها: ولي قضاء القضاة ببغداد، أبو عبد الله محمد بن فلان.

ولبس الخلعة في باب دار الوزارة مؤيد الدين محمد بن محمد القيمق بحضرة الأعيان والكبراء، وقرئ تقليده بحضرتهم وساقه ابن الساعي بحروفه.

من الأعيان:

عبد القادر بن داود أبو محمد الواسطي الفقيه الشافعي

الملقب: بالمحب، استقل بالنظامية دهرا واشتغل بها، وكان فاضلا دينا صالحا، ومما أنشده من الشعر:

الفرقدان كلاهما شَهدا له ** والبدر ليلة تمه بسهاده

دنف إذا اعتبق الظلام تضرمت ** نار الجوى في صدره وفؤاده

فجرت مدامع جفنه في خده ** مثل المسيل يسيل من أطواره

شوقا إلى مضنيه لم أر هكذا ** مشتاق مضني جسمه ببعاده

ليت الذي أضناه سحر جفونه ** قبل الممات يكون من عواده

أبو طالب يحيى بن علي اليعقوبي الفقيه الشافعي

أحد المعيدين ببغداد، كان شيخا مليح الشيبة جميل الوجه، كان يلي بعض الأوقاف، ومما أنشده لبعض الفضلاء:

لحمل تهامة وجبال أحد ** وماء البحر ينقل بالزبيل

ونقل الصخر فوق الظهر عريا ** لاهون من مجالسة الثقيل

ولبعضهم أيضا، وهو مما أنشده المذكور:

وإذا مضى للمرء من أعوامه ** خمسون وهو إلى التقى لا يجنح

عكفت عليه المخزيات فقولها: ** حالفتنا، فأقم كذا لا تبرح

وإذا رأى الشيطان غرة وجهه ** حيا، وقال: فديت من لا يفلح

اتفق أنه طولب بشيء من المال فلم يقدر عليه، فاستعمل شيئا من الأفيون المصري فمات من يومه ودفن بالوردية.

وفيها: توفي قطب الدين العادل بالفيوم، ونقل إلى القاهرة.

وفيها توفي إمام الحنابلة بمكة الشيخ نصر بن أبي الفرج المعروف بابن الحصري

جاور بمكة مدة لم يسافر ثم ساقته المنية إلى اليمن، فمات بها في هذه السنة، وقد سمع الحديث من جماعة من المشايخ.

وفيها: في ربيع الأول توفي بدمشق الشهاب عبد الكريم بن نجم النيلي، أخو البهاء والناصح، وكان فقيها مناظرا بصيرا بالمحاكمات، وهو الذي أخرج مسجد الوزير من يد الشيخ علم الدين السخاوي رحمه الله تعالى بمنه وكرمه.

ثم دخلت سنة عشرين وستمائة

فيها: عاد الأشرف موسى بن العادل من عند أخيه الكامل صاحب مصر.

فتلقاه أخوه المعظم، وقد فهم أنهما تمالآ عليه، فبات ليلة بدمشق وسار من آخر الليل، ولم يشعر أخوه بذلك فسار إلى بلاده فوجد أخاه الشهاب غازي الذي استنابه على خلاط وميافارقين وقد قووا رأسه، وكاتبه المعظم صاحب إربل وحسنوا له مخالفة الأشرف، فكتب إليه الأشرف ينهاه عن ذلك، فلم يقبل فجمع له العساكر ليقاتله.

وفيها: سار أقسيس الملك مسعود صاحب اليمن ابن الكامل من اليمن إلى مكة شرفها الله تعالى فقاتله ابن قتادة ببطن مكة بين الصفا والمروة، فهزمه أقسيس وشرده، واستقل بملك مكة مع اليمن، وجرت أمور فظيعة، وتشرد حسن بن قتادة قاتل أبيه وعمه وأخيه في تلك الشعاب والأودية.

من الأعيان الشيخ الإمام:

موفق الدين عبد الله بن أحمد

ابن محمد بن قدامة بن مقدام بن نصر، شيخ الإسلام. مصنف المغني في المذهب، أبو محمد المقدسي إمام عالم بارع، لم يكن في عصره بل ولا قبل دهره بمدة أفقه منه.

ولد بجماعيل في شعبان سنة إحدى وأربعين وخمسمائة، وقدم مع أهله إلى دمشق في سنة إحدى وخمسين، وقرأ القرآن وسمع الحديث الكثير ورحل مرتين إلى العراق، إحداهما في سنة إحدى وستين مع ابن عمه الحافظ عبد الغني، والأخرى سنة سبع وستين، وحج في سنة ثلاث وسبعين، وتفقه ببغداد على مذهب الإمام أحمد، وبرع وأفتى وناظر وتبحر في فنون كثيرة.

مع زهد وعبادة وورع وتواضع وحسن أخلاق وجود وحياء وحسن سمت ونور وبهاء وكثرة تلاوة وصلاة وصيام وقيام وطريقة حسنة، واتباع للسلف الصالح، وكانت له أحوال ومكاشفات.

وقد قال الشافعي رحمه الله تعالى: إن لم تكن العلماء العاقلون أولياء الله فلا أعلم لله وليا، وكان يؤم الناس للصلاة في محراب الحنابلة هو والشيخ العماد، فلما توفي العماد استقل هو بالوظيفة، فإن غاب صلى عنه أبو سليمان ابن الحافظ عبد الرحمن بن الحافظ عبد الغني، وكان يتنفل بين العشاءين بالقرب من محرابه، فإذا صلى العشاء انصرف إلى منزله بدرب الدولعي بالرصيف، وأخذ معه من الفقراء من تيسر يأكلون معه من طعامه.

وكان منزله الأصلي بقاسيون فينصرف بعض الليالي بعد العشاء إلى الجبل، فاتفق في بعض الليالي أن خطف رجل عمامته، وكان فيها كاغد فيه رمل، فقال له الشيخ:

خذ الكاغد وألق العمامة، فظن الرجل أن ذلك نفقة فأخذه، وألقى العمامة.

وهذا يدل على ذكاء مفرط واستحضار حسن في الساعة الراهنة، حتى خلص عمامته من يده بتلطف.

وله مصنفات عديدة مشهورة:

منها: (المغني في شرح مختصر الخرقي) في عشرة مجلدات.

و(الشافي) في مجلدين.

و(المقنع) للحفظ.

و(الروضة) في أصول الفقه، وغير ذلك من التصانيف المفيدة.

وكانت وفاته في يوم عيد الفطر في هذه السنة، وقد بلغ الثمانين، وكان يوم سبت وحضر جنازته خلق كثير، ودفن بتربته المشهورة، ورؤيت له منامات صالحة رحمه الله تعالى، وكان له أولاد ذكور وإناث، فلما كان حيا ماتوا في حياته.

ولم يعقب منهم سوى ابنه عيسى ولدين ثم ماتا وانقطع نسله.

قال أبو المظفر سبط ابن الجوزي: نقلت من خط الشيخ موفق رحمه الله تعالى:

لا تجلسن بباب من ** يأبى عليك وصول داره

وتقول حاجاتي إليـ ** ـه يعوقها إن لم أداره

واتركه واقصد ربها ** تقضى ورب الدار كاره

ومما أنشده الشيخ موفق الدين لنفسه رحمه الله تعالى ورضى عنه قوله:

أبعد بياض الشعر أعمر مسكنا ** سوى القبر، إني إن فعلت لأحمق

يخبرني شيبي بأني ميت ** وشيكا، فينعاني إلي ويصدق

يخرق عمري كل يوم وليلة ** فهل مستطاع وقع ما يتخرق

كأني بجسمي فوق نعشي ممددا ** فمن ساكت أو معول يترحق

إذا سئلوا عني أجابوا وعولوا ** وأدمعهم تنهل هذا الموفق

وغيبت في صدع من الأرض ضيق ** وأودعت لحدا فوقه الصخر مطبق

ويحثو على الترب أوثـق صاحب ** ويسلمني للقـبر من هو مشفق

فيا رب كن لي مؤنسا يوم وحشتي ** فإني بما أنزلته لمصدق

وما ضرني أني إلى الله صائر ** ومن هو من أهلـي أبر وأرفق

فخر الدين ابن عساكر عبد الرحمن بن الحسن بن هبة الله بن عساكر

أبو منصور الدمشقي شيخ الشافعية بها، وأمه اسمها أسماء بنت محمد بن الحسن بن طاهر القدسية المعروف والدها: بأبي البركات ابن المران، وهو الذي جدد مسجد القدم في سنة سبع عشرة وخمسمائة، وبه قبره وقبرها، ودفن هناك طائفة كبيرة من العلماء، وهي أخت آمنة، والدة القاضي محيي الدين محمد بن علي بن الزكي.

اشتغل الشيخ فخر الدين من صغره بالعلم الشريف على شيخه قطب الدين مسعود النيسابوري، فتزوج بابنته ودرس مكانه بالجاروجية، وبها كان يسكن في إحدى القاعتين اللتين أنشأهما، وبها توفي غربي الإيوان.

ثم تولى تدريس الصلاحية الناصرية بالقدس الشريف.

ثم ولاه العادل تدريس التقوية، وكان عنده أعيان الفضلاء.

ثم تفرغ فلزم المجاورة في الجامع في البيت الصغير إلى جانب محراب الصحابة يخلو فيه للعبادة والمطالعة والفتاوى، وكانت تفد إليه من الأقطار، وكان كثير الذكر حسن السمت، وكان يجلس تحت النسر في كل اثنين وخميس مكان عمه لإسماع الحديث بعد العصر، فيقرأ عليه دلائل النبوة وغيره.

وكان يحضر مشيخة دار الحديث النورية، ومشهد ابن عروة أول ما فتح وقد استدعاه الملك العادل بعد ما عزل قاضيه ابن الزكي فأجلسه إلى جانبه وقت السماط، وسأل منه أن يلي القضاء بدمشق، فقال: حتى أستخير الله تعالى.

ثم امتنع من ذلك فشق على السلطان امتناعه، وهم أن يؤذيه فقيل له: أحمد الله الذي فيه مثل هذا.

ولما توفي العادل وأعاد ابنه المعظم الخمور، أنكر عليه الشيخ فخر الدين، فبقي في نفسه منه فانتزع منه تدريس التقوية، ولم يبق معه سوى الجاروجية ودار الحديث النورية ومشهد ابن عروة.

وكانت وفاته يوم الأربعاء بعد العصر عاشر رجب من هذه السنة، وله خمس وستون سنة، وصلى عليه بالجامع، وكان يوما مشهودا وحملت جنازته إلى مقابر الصوفية فدفن في أولها قريبا من قبر شيخه قطب الدين مسعود بن عروة.

سيف الدين محمد بن عروة الموصلي

المنسوب إليه مشهد ابن عروة بالجامع الأموي، لأنه أول من فتحه وقد كان مشحونا بالحواصل الجامعية، وبنى فيه البركة ووقف فيه على الحديث درسا، ووقف خزائن كتب فيه، وكان مقيما بالقدس الشريف، ولكنه كان من خواص أصحاب الملك المعظم، فانتقل إلى دمشق حين خرب سور بيت المقدس إلى أن توفي بها، وقبره عند قباب أتابك طغتكين قبلي المصلى رحمه الله.

الشيخ أبو الحسن الروزبهاري

دفن بالمكان المنسوب إليه عند باب الفراديس.

الشيخ عبد الرحمن اليمني

كان مقيما بالمنارة الشرقية، كان صالحا زاهدا ورعا وفيه مكارم أخلاق، ودفن بمقابر الصوفية.

الرئيس عز الدين المظفر بن أسعد

ابن حمزة التميمي ابن القلانسي، أحد رؤساء دمشق وكبرائها، وجده أبو يعلى حمزة له تاريخ ذيل به على ابن عساكر، وقد سمع عز الدين هذا الحديث من الحافظ أبي القاسم ابن عساكر وغيره، ولزم مجالسة الكندي وانتقع به.

الأمير الكبير أحد حجاب الخليفة

محمد بن سليمان بن قتلمش بن تركانشاه بن منصور السمرقندي، وكان من أولاد الأمراء وولي حاجب الحجاب بالديوان العزيز الخليفتي، وكان يكتب جيدا، وله معرفة حسنة بعلوم كثيرة، منها الأدب وعلوم الرياضة، وعمر دهرا، وله حظ من نظم الشعر الحسن، ومن شعره قوله:

سئمت تكاليف هذي الحياة ** وكذا الصباح بها والمساء

وقد كنت كالطفل في عقله ** قليل الصواب كثير الهراء

أنام إذا كنت في مجلس ** وأسهر عند دخول الغنـاء

وقصر خطوى قيد المشيب ** وطال على ما عناني عناء

وغودرت كالفرخ في عشه ** وخلفت حلمي وراءَ وراءُ

وما جر ذلك غير البقاء ** فكيف بدا سوء فعل البقـاء

وله أيضا، وهو من شعره الحسن رحمه الله:

إلهي يا كثير العفو عفوا **لما أسلفت في زمن الشباب

فقد سودت في الآثام وجها ** ذليلا خاضعا لك في التراب

فبيضه بحسن العفو عني ** وسامحني وخفف من عذابي

ولما توفي صلى عليه بالنظامية، ودفن بالشونيزية، ورآه بعضهم في المنام فقال: ما فعل بك ربك؟

فقال:

تحاشيت اللقـاء لسوء فعـلي ** وخوفـا في المعـاد من النـدامـة

فلما أن قدمت على إلهي ** وحاقق في الحساب على قلامه

وكان العدل أن أصلى جحيما ** تعطف بالمكارم والكرامة

وناداني لسان العفو منه ** ألا يا عبد يهنيك السلامة

أبو علي الحسن بن أبي المحاسن

زهرة بن علي بن زهرة العلوي الحسيني الحلبي، نقيب الأشراف بها، كان لديه فضل وأدب وعلم بأخبار الناس والتواريخ والسير والحديث، ضابطا حافظا للقرآن المجيد، وله شعر جيد فمنه قوله:

لقد رأيت المعشوق وهو من الـ ** ـهجر تنبو النواظر عنه

أثر الدهر فيه آثار سوء ** وأدالت يد الحوادث منه

عاد مستذلا ومستبدلا ** عزا بذلٍ كأن لم يصنه

أبو علي يحيى بن المبارك ابن الجلاجلي

من أبناء التجار، سمع الحديث، وكان جميل الهيئة يسكن بدار الخلافة، وكان عنده علم وله شعر حسن فمنه قوله:

خير إخوانك المشارك في المر ** وأين الشريك في المر أينا

الذي إن شهدت سرك في القو ** م وإن غبت كان أذنا وعينا

مثل العقيق إن مسه النا ** ر جلاه الجلاء فازداد زينا

وأخو السوء إن يغب عنك يش ** نئك وإن يحتضر يكن ذاك شينا

جيبه غير ناصح ومناه أن ** يصب الخليل إفكا ومينا

فاخش منه ولا تلهف عليه ** إن غُرما له كنقدك دينا

ثم دخلت سنة إحدى وعشرين وستمائة

فيها وصلت سرية من جهة جنكزخان غير الأولتين إلى الري، وكانت قد عمرت قليلا فقتلوا أهلها أيضا، ثم ساروا إلى ساوة، ثم إلى قم وقاسان، ولم تكونا طرقتا إلا هذه المرة، ففعلوا بها مثل ما تقدم من القتل والسبي.

ثم ساروا إلى همذان فقتلوا أيضا وسبوا، ثم ساروا إلى خلف الخوارزمية إلى أذربيجان فكسروهم وقتلوا منهم خلقا كثيرا، فهربوا منهم إلى تبريز، فلحقوهم وكتبوا إلى ابن البهلوان:

إن كنت مصالحا لنا فابعث لنا بالخوارزمية، وإلا فأنت مثلهم، فقتل منهم خلقا وأرسل برؤوسهم إليهم مع تحف وهدايا كثيرة.

هذا كله وإنما كانت هذه السرية ثلاثة آلاف والخوارمية وأصحاب البلهوان أضعاف أضعافهم، ولكن الله تعالى ألقى عليهم الخذلان والفشل، فإنا لله وإنا إليه راجعون.

وفيها: مَلك غياث الدين بن خوارزم شاه بلاد فارس مع ما في يده من مملكة أصفهان وهمذان.

وفيها: استعاد الملك الأشرف مدينة خلاط من أخيه شهاب الدين غازي، وكان قد جعلها إليه مع جميع بلاد أرمينية، وميافارقين، وجاي، وجبل حور، وجعله ولي عهده من بعده.

فلما عصي عليه وتشغب دماغه بما كتب إليه المعظم من تحسينه له مخالفته، فركب إليه وحاصره بخلاط فسلمت إليه، وامتنع أخوه في القلعة، فلما كان الليل نزل إلى أخيه معتذرا فقبل عذره، ولم يعاقبه بل أقره على ميافارقين وحدها.

وكان صاحب إربل والمعظم متفقين مع الشهاب غازي على الأشرف، فكتب الكامل إلى المعظم يتهدده لئن ساعد على الأشرف ليأخذنه وبلاده، وكان بدر الدين لؤلؤ صاحب الموصل مع الأشرف، فركب إليه صاحب إربل فحاصره بسبب قلة جنده لأنه أرسلهم إلى الأشرف حين نازل خلاط، فلما انفصلت الأمور على ما ذكرنا ندم صاحب إربل، والمعظم بدمشق أيضا.

وفيها: أرسل المعظم ولده الناصر داود إلى صاحب إربل يقويه على مخالفة الأشرف، وأرسل صوفيا من الشميساطية يقال له: الملق إلى جلال الدين بن خوارزم شاه - وكان قد أخذ أذربيجان في هذه السنة، وقوى جأشه - يتفق معه على أخيه الأشرف، فوعده النصر والرفادة.

وفيها: قدم الملك مسعود أقسيس ملك اليمن على أبيه الكامل بالديار المصرية ومعه شيء كثير من الهدايا والتحف، من ذلك مائتا خادم، وثلاثة أفيلة هائلة، وأحمال عود وند ومسك وعنبر.

وخرج أبوه الكامل لتلقيه ومن نية أقسيس أن ينزع الشام من يد عمه المعظم.

وفيها: كمل عمارة دار الحديث الكاملية بمصر، وولى مشيختها الحافظ أبو الخطاب ابن دحية الكلبي، وكان مكثارا كثير الفنون، وعنده فوائد وعجائب رحمه الله.

من الأعيان:

أحمد بن محمد ابن علي القادسي الضرير الحنبلي

والد صاحب الذيل على تاريخ ابن الجوزي.

وكان القادسي هذا يلازم حضور مجلس الشيخ أبي الفرج ابن الجوزي، ويزهره لما يسمعه من الغرائب، ويقول: والله إن ذا مليح.

فاستقرض منه الشيخ مرة عشرة دنانير فلم يعطه، وصار يحضر ولا يتكلم، فقال الشيخ مرة:

هذا القادسي لا يقرضنا شيئا، ولا يقول: والله إن ذا مليح؟

رحمهم الله تعالى، وقد طلب القادسي مرة إلى دار المستضيء ليصلي بالخليفة التراويح، فقيل له والخليفة يسمع:

ما مذهبك؟

فقال: حنبلي.

فقال له: لا تصل بدار الخلافة وأنت حنبلي.

فقال: أنا حنبلي ولا أصلي بكم.

فقال الخليفة: اتركوه لا يصلي بنا إلا هو.

أبو الكرم المظفر بن المبارك ابن أحمد بن محمد البغدادي الحنفي

شيخ مشهد أبي حنيفة وغيره، ولي الحسبة بالجانب الغربي من بغداد، وكان فاضلا دينا شاعرا ومن شعره:

فصن بجميل الصبر نفسك واغتنم ** شريف المزايا لا يفنك ثوابها

وعش سالما والقول فيك مهذب ** كريما وقد هانت عليك صعابها

وتندرج الأيام والكل ذاهب ** قليل ويفنى عذبها وعذابها

وما الدهر إلا مر يومٍ وليلة ** وما العمر إلا طيها وذهابها

وما الحزم إلا في إخاء عزيمة ** وفيك المعالي صفوها ولبابها

ودع عنك أحلام الأماني فإنه ** سيسفر يوما غيها وصوابها

محمد بن أبي الفرج بن بركة

الشيخ فخر الدين أبو المعالي الموصلي قدم بغداد، واشتغل بالنظامية وأعاد بها، وكانت له معرفة بالقراءات، وصنف كتابا في مخارج الحروف، وأسند الحديث، وله شعر لطيف.

أبو بكر بن حلبة الموازيني البغدادي

كان فردا في علم الهندسة وصناعة الموازين يخترع أشياء عجيبة، من ذلك أنه ثقب حبة خشخاش سبعة ثقوب وجعل في كل ثقب شعرة، وكان له حظوة عند الدولة.

أحمد بن جعفر بن أحمد ابن محمد أبو العباس الدبيبي البيع الواسطي

شيخ أديب فاضل له نظم ونثر، عارف بالأخبار والسير، وعنده كتب جيدة كثيرة، وله شرح قصيدة لأبي العلاء المعري في ثلاث مجلدات، وقد أورد له ابن الساعي شعرا حسنا فصيحا حلوا لذيذا في السمع لطيفا في القلب.

ثم دخلت سنة اثنتين وعشرين وستمائة

فيها: عاثت الخوارزمية حين قدموا مع جلال الدين بن خوارزم شاه من بلاد غزنة مقهورين من التتار إلى بلاد خوزستان ونواحي العراق، فأفسدوا فيه وحاصروا مدنه ونهبوا قراه.

وفيها: استحوذ جلال الدين بن خوارزم شاه على بلاد أذربيجان وكثيرا من بلاد الكرج، وكسر الكرج وهم في سبعين ألف مقاتل، فقتل منهم عشرين ألفا من المقاتلة، واستفحل أمره جدا، وعظم شأنه، وفتح تفليس، فقتل منها ثلاثين ألفا.

وزعم أبو شامه: أنه قتل من الكرج سبعين ألفا في المعركة، وقتل من تفليس تمام المائة ألف، وقد اشتغل بهذه الغزوة عن قصد بغداد، وذلك أنه لما حاصر دقوقا سبه أهلها ففتحها قسرا وقتل من أهلها خلقا كثيرا، وخرب سورها وعزم على قصد الخليفة ببغداد لأنه فيم زعم عمل على أبيه حتى هلك، واستولت التتر على البلاد.

وكتب إلى المعظم بن العادل يستدعيه لقتال الخليفة ويحرضه على ذلك، فامتنع المعظم من ذلك، ولما علم الخليفة بقصد جلال الدين بن خوارزم شاه بغداد انزعج لذلك، وحصن بغداد واستخدم الجيوش والأجناد، أنفق في الناس ألف ألف دينار، وكان جلال الدين قد بعث جيشا إلى الكرج فكتبوا إليه:

أن أدركنا قبل أن نهلك عن آخرنا، وبغداد ما تفوت، فسار إليهم وكان من أمره ما ذكرنا.

وفيها: كان غلاء شديد بالعراق والشام بسبب قلة الأمطار وانتشار الجراد، ثم أعقب ذلك فناء كثير بالعراق والشام أيضا، فمات بسببه خلق كثير في البلدان، فإنا لله وإنا إليه راجعون.

وفاة الخليفة الناصر لدين الله وخلافة ابنه الظاهر

لما كان يوم الأحد آخر يوم من شهر رمضان المعظم من هذه السنة، توفي الخليفة الناصر لدين الله أبو العباس أحمد بن المستضيء بأمر الله.

أبي المظفر يوسف بن المقتفي لأمر الله.

أبي عبد الله محمد بن المستظهر بالله.

أبي عبد الله أحمد بن المقتدي بأمر الله.

أبي القاسم عبد الله بن الذخيرة محمد بن القائم بأمر الله.

أبي جعفر عبد الله بن القادر بالله.

أبي العباس أحمد بن الموفق أبي أحمد بن محمد المتوكل أبي جعفر عبد الله بن القادر بالله.

أبي العباس أحمد بن إسحاق بن المقتدر بالله.

أبي الفضل جعفر بن المعتضد بالله أبي العباس أحمد بن الموفق.

أبي أحمد بن محمد المتوكل على الله جعفر بن المعتصم بالله أبي إسحاق محمد بن هارون الرشيد بن المهدي محمد بن عبد الله أبي جعفر المنصور بن محمد بن علي ابن عبد الله بن العباس بن عبد المطلب الهاشمي العباسي، أمير المؤمنين، ولد ببغداد سنة ثلاث وخمسين وخمسمائة، وبويع له بالخلافة بعد موت أبيه سنة خمس وسبعين وخمسمائة.

وتوفي في هذه السنة وله من العمر تسع وستون سنة وشهران وعشرون يوما، وكانت مدة خلافته سبعا وأربعين سنة إلا شهرا، ولم يقم أحد من الخلفاء العباسيين قبله في الخلافة هذه المدة الطويلة، ولم تطل مدة أحد من الخلفاء مطلقا أكثر من المستنصر العبيدي، أقام بمصر حاكما ستين سنة، وقد انتظم في نسبه أربعة عشر خليفة، وولي عهد على ما رأيت، وبقية الخلفاء العباسيين كلهم من أعمامه وبني عمه.

وكان مرضه قد طال به وجمهوره من عسار البول، مع أنه كان يجلب له الماء من مراحل عن بغداد ليكون أصفى، وشق ذكره مرات بسبب ذلك، ولم يغن عنه هذا الحذر شيئا، وكان الذي ولي غسله محيي الدين بن الشيخ أبي الفرج ابن الجوزي، وصلى عليه ودفن في دار الخلافة.

ثم نقل إلى الترب من الرصافة في ثاني ذي الحجة من هذه السنة، وكان يوما مشهودا.

قال ابن الساعي: أما سيرته فقد تقدمت في الحوادث.

وأما ابن الأثير في كامله فإنه قال: وبقي الناصر لدين الله ثلاث سنين عاطلا من الحركة بالكلية، وقد ذهبت إحدى عينيه والأخرى يبصر بها إبصارا ضعيفا، وآخر الأمر أصابه دوسنطارية عشرين يوما ومات.

وزر له عدة وزراء، وقد تقدم ذكرهم، ولم يطلق في أيام مرضه ما كان أحدثه من الرسوم الجائرة، وكان قبيح السيرة في رعيته، ظالما لهم، فخرب في أيامه العراق، وتفرق أهله في البلاد، وأخذ أموالهم وأملاكهم، وكان يفعل الشيء وضده، فمن ذلك أنه عمل دورا للإفطار في رمضان، ودورا لضيافة الحجاج، ثم أبطل ذلك.

وكان قد أسقط مكوسا ثم أعادها، وجعل جل همه في رمي البندق والطيور المناسيب وسراويلات الفتوة.

قال ابن الأثير: وإن كان ما ينسبه العجم إليه صحيحا من أنه هو الذي أطمع التتار في البلاد وراسلهم فهو الطامة الكبرى التي يصغر عندها كل ذنب عظيم.

قلت: وقد ذكر عنه أشياء غريبة، من ذلك أنه كان يقول للرسل الوافدين عليه: فعلتم في مكان كذا وكذا، وفعلتم في الموضع الفلاني، كذا حتى ظن بعض الناس أو أكثرهم أنه كان يكاشف أو أن جنيا يأتيه بذلك، والله أعلم.

خلافة الظاهر بن الناصر

لما توفي الخليفة الناصر لدين الله كان قد عهد إلى ابنه أبي نصر محمد هذا ولقبه بالظاهر، وخطب له على المنابر، ثم عزله عن ذلك بأخيه علي.

فتوفي في حياة أبيه سنة ثنتي عشرة، فاحتاج إلى إعادة هذا لولاية العهد فخطب له ثانيا، فحين توفي بويع بالخلافة، وعمره يومئذ ثنتان وخمسون سنة، فلم يل الخلافة من بني العباس أسن منه، وكان عاقلا وقورا دينا عادلا محسنا، رد مظالم كثيرة وأسقط مكوسا كان قد أحدثها أبوه، وسار في الناس سيرة حسنة، حتى قيل: إنه لم يكن بعد عمر بن عبد العزيز أعدل منه لو طالت مدته، لكنه لم يحل إلى الحول، بل كانت مدته تسعة أشهر أسقط الخراج الماضي عن الأراضي التي قد تعطلت، ووضع عن أهل بلدة واحدة وهي يعقوبا سبعين ألف دينار كان أبوه قد زادها عليهم في الخراج، وكانت صنجة المخزن تزيد على صنجة البلد نصف دينار في كل مائة إذا قبضوا وإذا أقبضوا دفعوا بصنجة البلد.

فكتب إلى الديوان: { وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ ** الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ ** وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ ** أَلَا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ ** لِيَوْمٍ عَظِيمٍ ** يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ } 13.

فكتب إليه بعض الكتاب يقول: يا أمير المؤمنين، إن تفاوت هذا عن العام الماضي خمسة وثلاثون ألفا فأرسل ينكر عليه ويقول: هذا يترك وإن كان تفاوته ثلاثمائة ألف وخمسين ألفا، رحمه الله.

وأمر للقاضي أن كل من ثبت له حق بطريق شرعي يوصل إليه بلا مراجعة، وأقام في النظر على الأموال الجردة رجلا صالحا واستخلص على القضاء الشيخ العلامة عماد الدين أبا صالح نصر بن عبدا لرزاق بن الشيخ عبد القادر الجيلي في يوم الأربعاء ثامن ذي الحجة، فكان من خيار المسلمين ومن القضاة العادلين، رحمهم الله أجمعين.

ولما عرض عليه القضاء لم يقبله إلا بشرط أن يورث ذوي الأرحام، فقال: أعط كل ذي حق حقه واتق الله ولا تتق سواه، وكان من عادة أبيه أن يرفع إليه حراس الدروب في كل صباح بما كان عندهم في المحال من الاجتماعات الصالحة والطالحة، فلما ولي الظاهر أمر بتبطيل ذلك كله، وقال:

أي فائدة في كشف أحوال الناس وهتك أستارهم؟ فقيل له: إن ترك ذلك يفسد الرعية، فقال: نحن ندعو الله لهم أن يصلحهم، وأطلق من كان في السجون معتقلا على الأموال الديوانية، ورد عليهم ما كان استخرج منهم قبل ذلك من المظالم وأرسل إلى القاضي بعشرة آلاف دينار يوفي بها ديون من في سجونه من المدينين الذي لا يجدون وفاء.

وفرق في العلماء بقية المائة ألف، وقد لامه بعض الناس في هذه التصرفات فقال: إنما فتحت الدكان بعد العصر، فذروني أعمل صالحا وأفعل الخير، فكم مقدار ما بقيت أعيش؟

ولم تزل هذه سيرته حتى توفي في العام الآتي كما سيأتي. ورخصت الأسعار في أيامه وقد كانت قبل ذلك في غاية الغلاء حتى أنه فيما حكى ابن الأثير: أكلت الكلاب والسنانير ببلاد الجزيرة والموصل، فزال ذلك والحمد لله.

وكان هذا الخليفة الظاهر حسن الشكل مليح الوجه أبيض مشربا حلو الشمائل شديد القوى.

من الأعيان:

أبو الحسن علي الملقب بالملك الأفضل

نور الدين ابن السلطان صلاح الدين بن يوسف بن أيوب، كان ولي عهد أبيه، وقد ملك دمشق بعده مدة سنتين ثم أخذها منه عمه العادل، ثم كاد أن يملك الديار المصرية بعد أخيه العزيز فأخذها منه عمه العادل أبو بكر، ثم اقتصر على ملك صرخد فأخذها منه أيضا عمه العادل، ثم آل به الحال أن ملك سميساط وبها توفي في هذه السنة، وكان فاضلا شاعرا جيد الكتابة، ونقل إلى مدينة حلب فدفن بها بظاهرها.

وقد ذكر ابن خلكان أنه كتب إلى الخليفة الناصر لدين الله يشكو إليه عمه أبا بكر وأخاه عثمان وكان الناصر شيعيا مثله:

مولاي إن أبا بكر وصاحبه ** عثمان قد غصبا بالسيف حق علي

وهو الذي كان قد ولاه والده ** عليهما باستقام الأمر حين ولي

فخالفاه وحلا عقد بيعته ** والأمر بينهما والنص فيه جلـي

فانظر إلى حظ هذا الاسم كيف لقى ** من الأواخر ما لاقى من الأول

الأمير سيف الدين علي ابن الأمير علم الدين بن سليمان بن جندر

كان من أكابر الأمراء بحلب، وله الصدقات الكثيرة ووقف بها مدرستين إحداهما على الشافعية والأخرى على الحنفية، وبنى الخانات والقناطر وغير ذلك من سبل الخيرات والغزوات رحمه الله.

الشيخ علي الكردي الموله المقيم بظاهر باب الجابية

قال أبو شامة: وقد اختلفوا فيه فبعض الدماشقة يزعم أنه كان صاحب كرامات، وأنكر ذلك آخرون، وقالوا ما رآه أحد يصلي ولا يصوم ولا لبس مداسا، بل كان يدوس النجاسات ويدخل المسجد على حاله، وقال آخرون كان له تابع من الجن يتحدث على لسانه.

حكى السبط عن امرأة قالت: جاء خبر بموت أمي باللاذقية أنها ماتت وقال لي بعضهم: إنها لم تمت، قالت: فمررت به وهو قاعد عند المقابر فوقفت عنده فرفع رأسه وقال لي: ماتت ماتت إيش تعملين؟ فكان كما قال.

وحكى لي عبد الله صاحبي قال: صبحت يوما وما كان معي شيء فاجتزت به فدفع إلي نصف درهم وقال: يكفي هذا للخبز والفت بدبس.

وقال: مر يوما على الخطيب جمال الدين الدولعي فقال له: يا شيخ علي أكلت اليوم كسيرات يابسة وشربت عليها الماء فكفتني، فقال له: الشيخ علي الكردي وما تطلب نفسك شيئا آخر غير هذا؟ قال: لا، فقال: يا مسلمين من يقنع بكسرة يابسة يحبس نفسه في هذه المقصورة ولا يقضي ما فرضه الله عليه من الحج.

الفخر ابن تيمية

محمد بن أبي القاسم بن محمد الشيخ فخر الدين أبو عبد الله بن تيمية الحراني، عالمها وخطيبها وواعظها، اشتغل على مذهب الإمام أحمد وبرع فيه وبرز وحصل وجمع تفسيرا حافلا في مجلدات كثيرة، وله الخطب المشهورة المنسوبة إليه، وهو عم الشيخ مجد الدين صاحب المنتقى في الأحكام، قال أبو المظفر سبط ابن الجوزي، سمعته يوم جمعة بعد الصلاة وهو يعظ الناس ينشد:

أحبابنا قد ندرت مقلتي ** ما تلتقي بالنوم أو نلتقي

رفقا بقلب مغرم واعطفوا ** على سقام الجسد المحرق

كم تمطلوني بليالي اللقا ** قد ذهب العمر ولم نلتـق

وقد ذكرنا أنه قدم بغداد حاجا بعد وفاة شيخه أبي الفرج ابن الجوزي، ووعظ بها في مكان وعظه.

الوزير ابن شكر

صفي الدين أبو محمد عبد الله بن علي بن عبد الخالق بن شكر، ولد بالديار المصرية بدميرة بين مصر وإسكندرية سنة أربعين وخمسمائة، ودفن بتربته عند مدرسته بمصر، وقد وزر للملك العادل وعمل أشياء في أيامه منها تبليط جامع دمشق وأحاط سور المصلى عليه، وعمل الفوارة ومسجدها وعمارة جامع المزة، وقد نكب وعزل سنة خمس عشرة وستمائة وبقي معزولا إلى هذه السنة فكانت فيها وفاته، وقد كان مشكور السيرة ومنهم من يقول كان ظالما، فالله أعلم.

أبو إسحاق إبراهيم بن المظفر

ابن إبراهيم بن علي المعروف بابن البذي الواعظ البغدادي، أخذ الفن عن شيخه أبي الفرج ابن الجوزي وسمع الحديث الكثير، ومن شعره قوله في الزهد:

ما هذه الدنيا بدار مسرة ** فتخوفي مكرا لها وخداعـا

بينا الفتى فيها يسر بنفسه ** وبماله يستمتع استمتاعـا

حتى سقته من المنية شربة ** وحمته فيه بعد ذاك رضاعا

فغدا بما كسبت يداه رهينة ** لا يستطيع لما عرته دفاعا

لو كان ينطق قال من تحت الثرى ** فليحسن العمل الفتى ما اسطاعا

أبو الحسن علي بن الحسن الرازي ثم البغدادي الواعظ

عنده فضائل وله شعر حسن، فمنه قوله في الزهد:

استعدي يا نفس للموت واسعي ** لنجاة فالحازم المستعـدُ

قد تبينت أنه ليس للحي ** خلود ولا من المـوت بـدُ

إنما أنت مستعيرة ماسو ** ف تردين والعواري تـردُ

أنت تسهين والحوادث لا ** تسهو وتلهين والمنايا تجدُ

لا نرجى البقاء في معدن المو ** ت ولا أرضا بها لك وِردُ

أي ملك في الأرض أم أي حظ ** لامرئ حظه من الأرض لحدُ

كيف يهوى امرؤ لذاذة أيا ** م عليه الأنفاس فيها تعـدُ

البها السنجاري أبو السعادات أسعد بن محمد بن موسى الفقيه الشافعي الشاعر

قال ابن خلكان: كان فقيها وتكلم في الخلاف إلا أنه غلب عليه الشعر، فأجاد فيه واشتهر بنظمه وخدم به الملوك، وأخذ منهم الجوائز وطاف البلاد، وله ديوان بالتربة الأشرفية بدمشق، ومن رقيق شعره ورائقه قوله:

وهواك ما خطر السلو بباله ** ولأنت أعلم في الغرام بحاله

ومتى وشى واشٍ إليك بأنه ** سال هواك فذاك من عذاله

أوليس للكلف المعني شاهد ** من حاله يغنيك عن تسآله

جددت ثوب سقامه وهتكت ستـ ** ر غرامه وصرمت حبل وصاله

وهي قصيدة طويلة امتدح فيها القاضي كمال الدين الشهرزوري. وله:

لله أيامي على رامة ** وطيب أوقاتي على حاجر

تكاد للسرعة في مرها ** أولها يـعثر بالآخر

وكانت وفاته في هذه السنة عن تسعين سنة رحمه الله بمنه وفضله.

عثمان بن عيسى ابن درباس بن قسر بن جهم بن عبدوس الهدباني الماراني

ضياء الدين أخو القاضي صدر الدين عبد الملك حاكم الديار المصرية في الدولة الصلاحية، وضياء الدين هذا هو شارح (المهذب) إلى كتاب الشهادات في نحو من عشرين مجلدا، و(شرح اللمع في أصول الفقه)و(التنبيه) للشيرازي، وكان بارعا عالما بالمذهب رحمه الله.

أبو محمد عبد الله بن أحمد بن الرسوي

البواريجي ثم البغدادي، شيخ فاضل له رواية، ومما أنشده:

ضيق العذر في الضراعة أنا ** لو قنعنا بقسمنا لكفانا

مالنا نعبد العباد إذا كان ** إلى الله فقرنا وغنانـا

أبو الفضل عبد الرحيم بن نصر الله

ابن علي بن منصور بن الكيال الواسطي من بيت الفقه والقضاء، وكان أحد المعدلين ببغداد ومن شعره:

فتبا لدنيا لا يدوم نعيمها ** تسر يسيرا ثم تبدي المساويا

تريك رواء في النقاب وزخرفا ** وتسفر عن شوهاء طحياء عاميا

ومن ذلك قوله:

إن كنت بعد الطاعتين تسامحت** بالفحص أجفاني فما أجفاني

أو كنت من بعد الأحبة ناظرا ** حسنا بإنساني فما أنسـاني

الدهر مغفور له زلاته ** إن عاد أوطاني على أوطـاني

أبو علي الحسن بن علي ابن الحسن بن علي بن الحسن بن علي بن عمار بن فهر بن وقاح الياسري

نسبة إلى عمار بن ياسر، شيخ بغدادي فاضل، له مصنفات في التفسير والفرائض، وله خطب ورسائل وأشعار حسنة وكان مقبول الشهادة عند الحكام.

أبو بكر محمد بن يوسف بن الطباخ

الواسطي البغدادي الصوفي، باشر بعض الولايات ببغداد ومما أنشده:

ما وهب الله لامرئ هبة ** أحسن من عقله ومن أدبه

نعما جمال الفتى فإن فقدا ** ففقده للحياة أجمل به

ابن يونس شارح التنبيه

أبو الفضل أحمد بن الشيخ كمال الدين أبي الفتح موسى بن يونس بن محمد بن منعة بن مالك بن محمد بن سعد بن سعيد بن عاصم بن عابد بن كعب بن قيس بن إبراهيم الأربلي الأصل، ثم الموصلي من بيت العلم والرياسة، اشتغل على أبيه في فنونه وعلومه فبرع وتقدم.

وقد درس وشرح التنبيه واختصر إحياء علوم الدين للغزالي مرتين صغيرا وكبيرا، وكان يدرس منه.

قال ابن خلكان: وقد ولي بأربل مدرسة الملك المظفر بعد موت والدي في سنة عشر وستمائة، وكنت أحضر عنده وأنا صغير ولم أر أحدا يدرس مثله، ثم صار إلى بلده سنة سبع عشرة، ومات في يوم الاثنين الرابع والعشرين من ربيع الآخر من هذه السنة عن سبع وأربعين سنة رحمه الله تعالى.

ثم دخلت سنة ثلاث وعشرين وستمائة

فيها: التقى الملك جلال الدين بن خوارزم شاه الخوارزمي مع الكرج فكسرهم كسرة عظيمة، وصمد إلى أكبر معاقلتهم تفليس ففتحها عنوة وقتل من فيها من الكفرة وسبى ذراريهم ولم يتعرض لأحد من المسلمين الذين كانوا بها، واستقر ملكه عليها، وقد كان الكرج أخذوها من المسلمين في سنة خمس عشرة وخمسمائة، وهي بأيديهم إلى الآن حتى استنقذها منهم جلال الدين هذا، فكان فتحا عظيما ولله المنة.

وفيها: سار إلى خلاط ليأخذها من نائب الملك الأشرف فلم يتمكن من أخذها وقاتله أهلها قتالا عظيما فرجع عنهم سبب اشتغاله بعصيان نائبه بمدينة كرمان وخلافه له فسار إليهم وتركهم.

وفيها: اصطلح الملك الأشرف مع أخيه المعظم وسار إليه إلى دمشق، وكان المعظم ممالئا عليه مع جلال الدين وصاحب إربل وصاحب ماردين وصاحب الروم.

وكان مع الأشرف أخوه الكامل وصاحب الموصل بدر الدين لؤلؤ، ثم استمال أخاه المعظم إلى ناحيته يقوي جانبه.

وفيها: كان قتال كبير بين إبرنش إنطاكية وبين الأرمن، وجرت خطوب كثيرة بينهم.

وفيها: أوقع الملك جلال الدين بالتركمان الإيوانية بأسا شديدا وكانوا يقطعون الطرق على المسلمين.

وفيها: قدم محيي الدين يوسف بن الشيخ جمال الدين بن الجوزي من بغداد في الرسلية إلى الملك المعظم بدمشق، ومعه الخلع والتشاريف لأولاد العادل من الخليفة الظاهر بأمر الله، ومضمون الرسالة نهيه عن موالاة جلال الدين بن خوارزم شاه، فإنه خارجي من عزمه قتال الخليفة وأخذ بغداد منهم، فأجابه إلى ذلك وركب القاضي محيي الدين بن الجوزي إلى الملك الكامل بالديار المصرية، وكان ذلك أول قدومه إلى الشام، ومصر وحصل له جوائز كثيرة من الملوك، منها كان بناء مدرسته الجوزية بالنشابين بدمشق.

وفيها: ولى تدريس الشبلية بالسفح شمس الدين محمد بن قزغلي سبط ابن الجوزي بمرسوم الملك المعظم، وحضر عنده أول يوم القضاة والأعيان.

وفاة الخليفة الظاهر وخلافة ابنه المستنصر

كانت وفاة الخليفة رحمه الله يوم الجمعة ضحى الثالث عشر من رجب من هذه السنة، أعني سنة ثلاث وعشرين وستمائة، ولم يعلم الناس بموته إلا بعد الصلاة، فدعا له الخطباء يومئذ على المنابر على عادتهم فكانت خلافته تسعة أشهر وأربعة عشر يوما، وعمره اثنتان وخمسون سنة.

وكان من أجود بني العباس وأحسنهم سيرة وسريرة، وأكثرهم عطاء وأحسنهم منظرا ورواءً، ولو طالت مدته لصلحت الأمة صلاحا كثيرا، على يديه ولكن أحب الله تقريبه وإزلافه لديه، فاختار له ما عنده وأجزل له إحسانا ورفده.

وقد ذكرنا ما اعتمده في أول ولايته من إطلاق الأموال الديوانية ورد المظالم وإسقاط المكوس، وتخفيف الخراج عن الناس، وأداء الديون عمن عجز من أدائها، والإحسان إلى العلماء والفقراء وتولية ذوي الديانة والأمانة.

وقد كان كتب كتابا لولاة الرعية فيه: بسم الله الرحيم، اعلموا أنه ليس إمهالنا إهمالا ولا إغضاؤنا احتمالا، ولكن لنبلوكم أيكم أحسن عملا، وقد غفرنا لكم ما سلف من إخراب البلاد، وتشريد الرعايا وتقبيح الشريعة، وإظهار الباطل الجلي في صورة الحق الخفي، حيلة ومكيدة، وتسمية الاستئصال والاجتياح استيفاء واستدركا لأغراض انتهزتم فرصها مختلسة من براثن ليث باسل، وأنياب أسد مهيب، تنفقون بألفاظ مختلفة على معنى واحد، وأنتم أمناؤه وثقاته فتميلون رأيه إلى هواكم، وتمزجون باطلكم بحقه، فيطيعكم وأنتم له عاصون، ويوافقكم وأنتم له مخالفون.

والآن قد بدل الله سبحانه بخوفكم أمنا، وبفقركم غنى وبباطلكم حقا، ورزقكم سلطانا يقيل العثرة، ولا يؤاخذ إلا من أصر، ولا ينتقم إلا ممن استمر، يأمركم بالعدل وهو يريده منكم، وينهاكم عن الجور وهو يكرهه لكم، يخاف الله تعالى فيخوفكم مكره، ويرجو الله تعالى ويرغبكم في طاعته، فإن سلكتم مسالك خلفاء الله في أرضه وأمنائه على خلقه، وإلا هلكتم والسلام.

ووجد في داره رقاع مختومة لم يفتحها سترا للناس ودرءا عن أعراضهم رحمه الله، وقد خلف من الأولاد عشرة ذكورا وإناثا، منهم ابنه الأكبر الذي بويع له بالخلافة من بعده أبو جعفر المنصور، ولقب بالمستنصر بالله، وغسله الشيخ محمد الخياط الواعظ، ودفن في دار الخلافة، ثم نقل إلى الترب من الرصافة.

خلافة المستنصر بالله العباسي

أمير المؤمنين أبي جعفر منصور بن الظاهر محمد بن الناصر أحمد، بويع بالخلافة يوم مات أبوه يوم جمعة ثالث عشر رجب من هذه السنة، سنة ثلاث وعشرين وستمائة، استدعوا به من التاج فبايعه الخاصة والعامة من أهل العقد والحل، وكان يوما مشهودا، وكان عمره يومئذ خمسا وثلاثين سنة وخمسة أشهر وأحد عشر يوما، وكان من أحسن الناس شكلا وأبهاهم منظرا، وهو كما قال القائل:

كأن الثريا علقت في جبينه ** وفي خده الشعرى وفي وجهه القمر

وفي نسبه الشريف خمسة عشر خليفة، منهم خسة من آبائه ولوا نسقا، وتلقى هو الخلافة عنهم وراثة كابرا عن كابر، وهذا شيء لم يتفق لأحد من الخلفاء قبله، وسار في الناس كسيرة أبيه الظاهر في الجود وحسن السيرة والإحسان إلى الرعية.

وبنى المدرسة الكبيرة المستنصرية التي لم تبن مدرسة في الدنيا مثلها، وسيأتي بيان ذلك في موضعه إن شاء الله، واستمر أرباب الولايات الذين كانوا في عهد أبيه على ما كانوا عليه، ولما كان يوم الجمعة المقبلة خطب للإمام المستنصر بالله على المنابر ونثر الذهب والفضة عند ذكر اسمه، وكان يوما مشهودا وأنشد الشعراء المدائح والمراثي، وأطلقت لهم الخلع والجوائز، وقدم رسول من صاحب الموصل يوم غرة شعبان من الوزير ضياء الدين أبي الفتح نصر الله بن الأثير، فيها التهنئة والتعزية بعبارة فصيحة بليغة:

ثم إن المستنصر بالله كان يواظب على حضور الجمعة راكبا ظاهرا للناس، وإنما معه خادمان وراكب دار، وخرج مرة وهو راكب فسمع ضجة عظيمة فقال: ما هذا؟ فقيل له التأذين، فترجل عن مركوبه وسعى ماشيا، ثم صار يدمن المشي إلى الجمعة رغبة في التواضع والخشوع، ويجلس قريبا من الإمام ويستمع الخطبة، ثم أصلح له المطبق فكان يمشي فيه إلى الجمعة.

وركب في الثاني والعشرين من شعبان ركوبا ظاهرا للناس عامةً، ولما كانت أول ليلة من رمضان تصدق بصدقات كثيرة من الدقيق والغنم والنفقات على العلماء والفقراء والمحاويج، إعانة لهم على الصيام، وتقوية لهم على القيام.

وفي يوم السابع والعشرين من رمضان نقل تابوت الظاهر من دار الخلافة إلى التربة من الرصافة، وكان يوما مشهودا وبعث الخليفة المستنصر يوم العيد صدقات كثيرة وإنعاما جزيلا إلى الفقهاء والصوفية وأئمة المساجد، على يدي محي الدين ابن الجوزي.

وذكر ابن الأثير أنه كانت زلزلة عظيمة في هذه السنة، هدمت شيئا كثيرا من القرى والقلاع ببلادهم، وذكر أنه ذبح شاة ببلدهم فوجد لحمها مرا حتى رأسها وأكارعها ومعاليقها وجميع أجزائها.

وممن توفي بها من الأعيان بعد الخليفة الظاهر كما تقدم:

الجمال المصري يونس بن بدران بن فيروز جمال الدين المصري

قاضي القضاة في هذا الحين، اشتغل وحصل وبرع واختصر كتاب (الأم) للإمام للشافعي وله كتاب مطول في الفرائض.

وولي تدريس الأمينية بعد التقي صالح الضرير، الذي قتل نفسه، ولاه إياه الوزير صفي الدين بن شكر، وكان معتنيا بأمره ثم ولى وكالة بيت المال بدمشق، وترسل إلى الملوك والخلفاء عن صاحب دمشق، ثم ولاه المعظم قضاء القضاة بدمشق بعد عزله الزكي بن الزكي، وولاه تدريس العادلية الكبيرة، حين كمل بناؤها فكان أول من درس بها وحضره الأعيان كما ذكرنا.

وكان يقول أولا درسا في التفسير حتى أكمل التفسير إلى آخره، ويقول درس الفقه بعد التفسير، وكان يعتمد في أمر إثبات السجلات اعتمادا حسنا وهو أنه كان يجلس في كل يوم جمعة بكرة ويوم الثلاثاء ويستحضر عنده في إيوان العادلية جميع شهود البلد، ومن كان له كتاب يثبته حضر واستدعى شهوده فأدوا على الحاكم وثبت ذلك سريعا.

وكان يجلس كل يوم جمعة بعد العصر إلى الشباك الكمالي بمشهد عثمان فيحكم حتى يصلي المغرب، وربما مكث حتى يصلي العشاء أيضا، وكان كثير المذاكرة للعلم كثير الاشتغال حسن الطريقة، لم ينقم عليه أنه أخذ شيئا لأحد.

قال أبو شامة: وإنما كان ينقم عليه أنه كان يشير على بعض الورثة بمصالحة بيت المال، وأنه استناب ولده التاج محمدا ولم يكن مرضي الطريقة، وأما هو فكان عفيفا في نفسه نزها مهيبا.

قال أبو شامة: وكان يدعى أنه قرشي شيبي فتكلم الناس فيه بسبب ذلك، وتولى القضاء بعده شمس الدين أحمد بن الخليلي الجويني.

قلت: وكانت وفاته في ربيع الأول من هذه السنة، ودفن بداره التي في رأس درب الريحان من ناحية الجامع، ولتربته شباك شرق المدرسة الصدرية اليوم.

وقد قال فيه ابن عنين، وكان هجاء:

ما أقصر المصري في فعله ** إذ جعل التربة في داره

أراح للأحياء من رجمه ** وأبعد الأموات من ناره

المعتمد والي دمشق

المبارز إبراهيم المعروف بالمعتمد والي دمشق، من خيار الولاة وأعفهم وأحسنهم سيرة وأجودهم سريرة، أصله من الموصل، وقدم الشام فخدم فروخشاه بن شاهنشاه بن أيوب.

ثم استنابه البدر مودود أخو فروخشاه، وكان شحنة دمشق، فحمدت سيرته في ذلك، ثم صار هو شحنة دمشق أربعين سنة، فجرت في أيامه عجائب وغرائب، وكان كثير الستر على ذوي الهيئات، ولا سيما من كان من أبناء الناس وأهل البيوتات.

وأتفق في أيامه أن رجلا حائكا كان له ولد صغير في آذانه حلق فعدا عليه رجل من جيرانهم فقتله غيلة، وأخذ ما عليه من الحلي ودفنه في بعض المقابر، فاشتكوا عليه فلم يقر.

فبكت والدته من ذلك، وسألت زوجها أن يطلقها، فطلقها، فذهبت إلى ذلك الرجل وسألته أن يتزوجها، وأظهرت له أنها أحبته فتزوجها، ومكثت عنده حينا ثم سألته في بعض الأوقات عن ولدها الذي اشتكوا عليه بسببه.

فقال: نعم، أنا قتلته.

فقالت: أشتهي أن تريني قبره حتى أنظر إليه، فذهب بها إلى قبر خشنكاشه ففتحه فنظرت إلى ولدها فاستعبرت، وقد أخذت معها سكينا أعدتها لهذا اليوم، فضربته حتى قتلته ودفنته مع ولدها في ذلك القبر، فجاء أهل المقبرة فحملوها إلى الوالي المعتمد هذا فسألها فذكرت له خبرها، فاستحسن ذلك منها وأطلقها وأحسن إليها.

وحكى عنه السبط قال: بينما أنا يوما خارج من باب الفرج، وإذا برجل يحمل طبلا وهو سكران، فأمرت به فضرب الحد، وأمرتهم فكسروا الطبل، وإذا ذكرة كبيرة جدا فشقوها فإذا فيها خمر، وكان العادل قد منع أن يعصر خمر ويحمل إلى دمشق شيء منه بالكلية، فكان الناس يتحيلون بأنواع الحيل ولطائف المكر.

قال السبط: فسألته من أين علمت أن في الطبل شيئا؟

قال: رأيته يمشي ترجف سيقانه، فعرفت أنه يحمل شيئا ثقيلا في الطبل.

وله من هذا الجنس غرائب، وقد عزله المعظم وكان في نفسه منه وسجنه في القلعة نحوا من خمس سنين، ونادى عليه في البلد فلم يجيء أحد ذكر أنه أخذ منه حبة خردل، ولما مات رحمه الله دفن بتربته المجاورة لمدرسة أبي عمر من شامها قبلي السوق، وله عند تربته المسجد يعرف به، رحمه الله.

واقف الشبلية التي بطريق الصالحية

شبل الدولة كافور الحسامي نسبة إلى حسام الدين محمد بن لاجين، ولد ست الشام وهو الذي كان مستحثا على عمارة الشامية البرانية لمولاته ست الشام، وهو الذي بنى الشبلية للحنفية والخانقاه على الصوفية إلى جانبها.

وكانت منزله ووقف القناة والمصنع والساباط، وفتح للناس طريقا من عند المقبرة غربي الشامية البرانية إلى طريق عين الكرش، ولم يكن الناس لهم طريق إلى الجبل من هناك، إنما كانوا يسلكون من عند مسجد الصفي بالعقبية، وكانت وفاته في رجب ودفن إلى جانب مدرسته، وقد سمع الحديث على الكندي وغيره، رحمه الله تعالى.

واقف الرواحية بدمشق وحلب

أبو القاسم هبة الله المعروف: بابن رواحة، كان أحد التجار وفي الثروة المقدار ومن المعدلين بدمشق، وكان في غاية الطول والعرض ولا لحية له، وقد ابتنى المدرسة الرواحية داخل باب الفراديس ووقفها على الشافعية، وفوض نظرها وتدريسها إلى الشيخ تقي الدين بن الصلاح الشهرزوري، وله بحلب مدرسة أخرى مثلها.

وقد انقطع في آخر عمره في المدرسة التي بدمشق، وكان يسكن البيت الذي في إيوانها من الشرق، ورغب فيما بعد أن يدفن فيه إذا مات، فلم يمكن من ذلك، بل دفن بمقابر الصوفية، وبعد وفاته شهد محي الدين بن عربي الطائي الصوفي، وتقي الدين خزعل النحوي المصري ثم المقدسي إمام مشهد على شهدا على ابن رواحة بأنه عزل الشيخ تقي الدين عن هذه المدرسة، فجرت خطوب طويلة ولم ينتظم ما راماه من الأمر، ومات خزعل في هذه السنة أيضا، فبطل ما سلكوه.

أبو محمد محمود بن مودود بن محمود

البلدجي الحنفي الموصلي، وله بها مدرسة تعرف به، وكان من أبناء الترك، وصار من مشايخ العلماء وله دين متين وشعر حسن جيد، فمنه قوله:

من ادعى أن له حالة ** تخرجه عن منهج الشرعِ

فلا تكونن له صاحبا ** فإنه خرء بلا نفعِ

كانت وفاته بالموصل في السادس والعشرين من جمادى الآخرة من هذه السنة، وله نحو من ثمانين سنة.

ياقوت ويقال له: يعقوب بن عبد الله

نجيب الدين متولي الشيخ تاج الدين الكندي، وقد وقف إليه الكتب التي بالخزانة بالزاوية الشرقية الشمالية من جامع دمشق، وكانت سبعمائة وإحدى وستين مجلدا، ثم على ولده من بعده ثم على العلماء فتمحقت هذه الكتب وبيع أكثرها.

وقد كان ياقوت هذا لديه فضيلة وأدب وشعر جيد، وكانت وفاته ببغداد في مستهل رجب، ودفن بمقبرة الخيزران بالقرب من مشهد أبي حنيفة.

ثم دخلت سنة أربع وعشرين وستمائة

فيها: كانت عامة أهل تفليس الكرج فجاؤوا إليهم فدخلوها فقتلوا العامة والخاصة، ونهبوا وسبوا وخربوا وأحرقوا، وخرجوا على حمية، وبلغ ذلك جلال الدين فسار سريعا ليدركهم فلم يدركهم.

وفيها: قتلت الإسماعيلية أميرا كبيرا من نواب جلال الدين بن خوارزم شاه، فسار إلى بلادهم فقتل منهم خلقا كثيرا، وخرب مدينتهم، وسبى ذراريهم، ونهب أموالهم.

وقد كانوا قبحهم الله من أكبر العون على المسلمين لما قدم التتار إلى الناس، وكانوا أضر على الناس منهم.

وفيها: تواقع جلال الدين وطائفة كبيرة من التتار فهزمهم وأوسعهم قتلا وأسرا، وساق وراءهم أياما فقتلهم، حتى وصل إلى الري فبلغه أن طائفة قد جاؤا لقصده فأقام يثبطهم، وكان من أمره وأمرهم ما سيأتي في سنة خمس وعشرين.

وفيها: دخلت عساكر الملك الأشرف بن العادل إلى أذربيجان فملكوا منها مدنا كثيرة، وغنموا أموالا جزيلة، وخرجوا معهم بزوجة جلال الدين بنت طغرل، وكانت تبغضه وتعاديه فأنزلوها مدينة خلاط، وسيأتي ما كان من خبرهم في السنة الآتية.

وفيها: قدم رسول الأنبور ملك الفرنج في البحر إلى المعظم يطلب منه ما كان فتحه عمه السلطان الملك الناصر صلاح الدين من بلاد السواحل، فأغلظ لهم المعظم في الجواب، وقال له:

قل لصاحبك ما عندي إلا السيف، والله أعلم.

وفيها: جهز الأشرف أخاه شهاب الدين غازي إلى الحج في محمل عظيم يحمل ثقله ستمائة جمل، ومعه خمسون هجينا، على كل هجين مملوك، فسار من ناحية العراق، وجاءته هدايا من الخليفة إلى أثناء الطريق، وعاد على طريقه التي حج منها.

وفيها: ولي قضاء القضاة ببغداد نجم الدين أبو المعالي عبد الرحمن بن مقبل الواسطي، وخلع عليه كما هي عادة الحكام، وكان يوما مشهودا.

وفيها: كان غلاء شديد ببلاد الجزيرة، وقل اللحم.

حتى حكى ابن الأثير: أنه لم يذبح بمدينة الموصل في بعض الأيام سوى خروف واحد في زمن الربيع.

قال: وسقط فيها عاشر آذار ثلج كثير بالجزيرة والعراق مرتين، فأهلك الأزهار وغيرها، قال:

وهذا شيء لم يعهد مثله، والعجب كل العجب من العراق مع كثرة حره كيف وقع فيه مثل هذا.

من الأعيان:

جنكيز خان

السلطان الأعظم عند التتار والد ملوكهم اليوم، ينتسبون إليه ومن عظم القان إنما يريد هذا الملك وهو الذي وضع لهم السياسة التي يتحاكمون إليها، ويحكمون بها، وأكثرها مخالف لشرائع الله تعالى وكتبه، وهو شيء اقترحه من عند نفسه، وتبعوه في ذلك، وكانت تزعم أمه أنها حملته من شعاع الشمس، فلهذا لا يعرف له أب والظاهر أنه مجهول النسب.

وقد رأيت مجلدا جمعه الوزير ببغداد علاء الدين الجويني في ترجمته فذكر فيه سيرته، وما كان يشتمل عليه من العقل السياسي والكرم والشجاعة والتدبير الجيد للملك والرعايا، والحروب.

فذكر أنه كان في ابتداء أمره خصيصا عند الملك أزبك خان، وكان إذ ذاك شابا حسنا وكان اسمه أولا تمرجي، ثم لما عظم سمى نفسه جنكيزخان.

وكان هذا الملك قد قربه وأدناه فحسده عظماء الملك ووشوا به إليه حتى أخرجوه عليه، ولم يقتله ولم يجد له طريقا في ذنب يتسلط عليه به، فهو في ذلك إذ تغضب الملك على مملوكين صغيرين فهربا منه ولجآ إلى جنكيزخان فأكرمهما وأحسن إليهما فأخبراه بما يضمره الملك أزبك خان من قتله، فأخذ حذره وتحيز بدولة واتبعه طوائف من التتار وصار كثير من أصحاب أزبك خان ينفرون إليه ويفدون عليه فيكرمهم ويعطيهم حتى قويت شوكته وكثرت جنوده.

ثم حارب بعد ذلك أزبك خان فظفر به وقتله واستحوز على مملكته وملكه، وانضاف إليه عَدده وعُدده وعظم أمره.

وبعد صيته وخضعت له قبائل الترك ببلاد طمعاج كلها حتى صار يركب في نحو ثمان مائة ألف مقاتل، وأكثر القبائل قبيلته التي هو منها يقال لهم: قيان.

ثم أقرب القبائل إليه بعدهم قبيلتان كبيرتا العدد وهما أزان وقنقوران وكان يصطاد من السنة ثلاثة أشهر والباقي للحرب والحكم.

قال الجويني: وكان يضرب الحلقة يكون ما بين طرفيها ثلاثة أشهر ثم تتضايق فيجتمع فيها من أنواع الحيوانات شيء كثير لا يحد كثرة، ثم نشبت الحرب بينه وبين الملك علاء الدين خوارزم شاه صاحب بلاد خراسان والعراق وأذربيجان وغير ذلك والأقاليم والملك، فقهره جنكيزخان وكسره وغلبه وسلبه، واستحوذ على سائر بلاده بنفسه وبأولاده في أيسر مدة كما ذكرنا ذلك في الحوادث.

وكان ابتداء ملك جنكزخان سنة تسع وتسعين وخمسمائة، وكان قتاله لخوارزم شاه في حدود سنة ست عشرة وستمائة، ومات خوارزم شاه في سنة سبع عشرة كما ذكرنا، فاستحوذ حينئذ على الممالك بلا منازع ولا ممانع.

وكانت وفاته في سنة أربع وعشرين وستمائة، فجعلوه في تابوت من حديد وربطوه بسلاسل وعلقوه بين جبلين هنالك.

وأما كتابه (الياسا) فإنه يكتب في مجلدين بخط غليظ، ويحمل على بعير عندهم، وقد ذكر بعضهم أنه كان يصعد جبلا ثم ينزل ثم يصعد ثم ينزل مرارا حتى يعي ويقع مغشيا عليه، ويأمر من عنده أن يكتب ما يلقي على لسانه حينئذ، فإن كان هذا هكذا فالظاهر أن الشيطان كان ينطق على لسانه بما فيها.

وذكر الجويني: أن بعض عبادهم كان يصعد الجبال في البرد الشديد للعبادة فسمع قائلا يقول له: إنا قد ملكنا جنكيزخان وذريته وجه الأرض، قال الجويني: فمشايخ المغول يصدقون بهذا ويأخذونه مسلما.

ثم ذكر الجويني نتفا من (الياسا) من ذلك: أنه من زنا قتل محصنا كان أو غير محصن، وكذلك من لاط قتل، ومن تعمد الكذب قتل، ومن سحر قتل، ومن تجسس قتل، ومن دخل بين اثنين يختصمان فأعان أحدهما قتل، ومن بال في الماء الواقف قتل، ومن انغمس فيه قتل، ومن أطعم أسيرا أو سقاه أو كساه بغير إذن أهله قتل، ومن وجد هاربا ولم يرده قتل، ومن أطعم أسيرا أو رمى إلى أحد شيئا من المأكول قتل، بل يناوله من يده إلى يده ومن أطعم أحدا شيئا فليأكل منه أولا ولو كان المطعوم أميرا لا أسيرا، ومن أكل ولم يطعم من عنده قتل.

ومن ذبح حيوانا ذبح مثله بل يشق جوفه ويتناول قلبه بيده يستخرجه من جوفه أولا.

وفي ذلك كله مخالفة لشرائع الله المنزلة على عباده الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، فمن ترك الشرع المحكم المنزل على محمد بن عبد الله خاتم الأنبياء، وتحاكم إلى غيره من الشرائع المنسوخة كفر، فكيف بمن تحاكم إلى (الياسا) وقدمها عليه؟

من فعل ذلك كفر بإجماع المسلمين. قال الله تعالى: { أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْما لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ }. 14

وقال تعالى: { فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيما } صدق الله العظيم، 15.

ومن آدابهم: الطاعة للسلطان غاية الاستطاعة، وأن يعرضوا عليه أبكارهم الحسان ليختار لنفسه، ومن شاء من حاشيته، ما شاء منهن، ومن شأنهم أن يخاطبوا الملك باسمه، ومن مر بقوم يأكلون فله أن يأكل معهم من غير استئذان، ولا يتخطى موقد النار، ولا طبق الطعام، ولا يقف على أسكفه الخركاه ولا يغسلون ثيابهم حتى يبدو وسخها، ولا يكلفون العلماء من كل ما ذكر شيئا من الجنايات، ولا يتعرضون لمال ميت.

وقد ذكر علاء الدين الجويني: طرفا كبيرا من أخبار جنكيزخان ومكارم كان يفعلها لسجيته وما أداه إليه عقله، وإن كان مشركا بالله كان يعبد معه غيره، وقد قتل من الخلائق ما لا يعلم عددهم إلا الذي خلقهم، ولكن كان البداءة من خوارزم شاه، فإنه لما أرسل جنكيزخان تجارا من جهته معهم بضائع كثيرة من بلاده فانتهوا إلى إيران فقتلهم نائبها من جهة خوارزم شاه، وهو والد زوجة كشلي خان، وأخذ جميع ما كان معهم، فأرسل جنكيزخان إلى خوارزم شاه يستعمله هل وقع هذا الأمر عن رضى منه، أو أنه لا يعلم به، فأنكره، وقال له فيما أرسل إليه:

من المعهود من الملوك أن التجار لا يقتلون لأنهم عمارة الأقاليم، وهم الذين يحملون إلى الملوك ما فيه التحف والأشياء النفيسة، ثم إن هؤلاء التجار كانوا على دينك فقتلهم نائبك، فإن كان أمرا أمرت به طلبنا بدمائهم، وإلا فأنت تنكره وتقتص من نائبك.

فلما سمع خوارزم شاه ذلك من رسول جنكيز خان لم يكن له جواب سوى أنه أمر بضرب عنقه فأساء التدبير، وقد كان خرف وكبرت سنه، وقد ورد الحديث: «اتركوا الترك ما تركوكم»، فلما بلغ ذلك جنكيز خان تجهز لقتاله وأخذ بلاده، فكان بقدر الله تعالى ما كان من الأمور التي لم يسمع بأغرب منها ولا أبشع.

فمما ذكره الجويني: أنه قدم له بعض الفلاحين بالصيد ثلاث بطيخات فلم يتفق أن عند جنكيز خان أحد من الخزندارية، فقال: لزوجته خاتون: أعطيه هذين القرطين اللذين في أذنيك.

وكان فيهما جوهرتان نفيستان جدا، فشحت المرأة بهما

وقالت: انظره إلى غد.

فقال: إنه يبيت هذه الليلة مقلقل الخاطر، وربما لا يجعل له شيء بعد هذا، وإن هذين لا يمكن أحد إذا اشتراهما إلا جاء بهما إليك فانتزعتهما فدفعتهما إلى الفلاح فطار عقله بهما، وذهب بهما فباعهما لأحد التجار بألف دينار، ولم يعرف قيمتهما، فحملهما التاجر إلى الملك فردهما على زوجته، ثم أنشد الجويني عند ذلك:

ومن قال إن البحر والقطر أشبها ** نداه فقد أثنى على البحر والقطر

قالوا: واجتاز يوما في سوق، فرأى عند بقال عنابا فأعجبه لونه، ومالت نفسه إليه، فأمر الحاجب أن يشتري منه ببالس، فاشترى الحاجب بربع بالس، فلما وضعه بين يديه أعجبه وقال: هذا كله ببالس؟ قال: وبقي منه هذا - وأشار إلى ما بقي معه من المال - فغضب وقال:

من يجد من يشتري منه مثلي تمموا له عشرة بوالس.

قالوا: وأهدى له رجل جام زجاج من معمول حلب فاستحسنه جنكيز خان فوهن أمره عنده بعض خواصه وقال: خوند هذا زجاج لا قيمة له.

فقال: أليس قد حمله من بلاد بعيدة حتى وصل إلينا سالما؟ أعطوه مائتي بالس.

قال: وقيل له: إن في هذا المكان كنزا عظيما إن فتحته أخذت منه مالا جزيلا.

فقال: الذي في أيدينا يكفينا، ودع هذا يفتحه الناس ويأكلونه فهم أحق به منا، ولم يتعرض له.

قال: واشتهر عن رجل في بلاده يقول: أنا أعرف موضع كنز ولا أقول إلا للقان، وألح عليه الأمراء أن يعلمهم فلم يفعل، فذكروا ذلك للقان فأحضره على خيل الآولاق - يعني البريد - سريعا فلما حضر إلى بين يديه سأله عن الكنز.

فقال: إنما كنت أقول ذلك حيلة لأرى وجهك.

فلما رأى تغير كلامه غضب وقال له: قد حصل لك ما قلت، ورده إلى موضعه سالما ولم يعطه شيئا.

قال: وأهدى له إنسان رمانة فكسرها وفرق حبها على الحاضرين وأمر له بعدد حبها بوالس ثم أنشد:

فلذاك تزدحم الوفود ببابه ** مثل ازدحام الحب في الرمان

قال: وقدم عليه لرجل كافر يقول: رأيت في النوم جنكيز خان يقول: قل لأبي يقتل المسلمين، فقال له هذا كذب، وأمر بقتله.

قال: وأمر بقتل ثلاثة قد قضت (الياسا) بقتلهم، فإذا امرأة تبكي وتلطم.

فقال: ما هذه؟ أحضروها.

فقالت: هذا ابني، وهذا أخي، وهذا زوجي.

فقال: اختاري واحدا منهم حتى أطلقه لك.

فقالت: الزوج يجيء مثله، والابن كذلك، والأخ لا عوض له، فاستحسن ذلك منها، وأطلق الثلاثة لها.

قال: وكان يحب المصارعين وأهل الشطارة، وقد اجتمع عنده منهم جماعة، فذكر له إنسان بخراسان فأحضره فصرع جميع من عنده، فأكرمه وأعطاه وأطلق له بنتا من بنات الملوك حسناء.

فمكثت عنده مدة لا يتعرض لها، فاتفق مجيئها إلا الاردوا فجعل السلطان يمازحها.

ويقول: كيف رأيت المستعرب؟ فذكرت له أنه لم يقربها، فتعجب من ذلك وأحضره فسأله عن ذلك.

فقال: يا خوند أنا إنما حظيت عندك بالشطارة ومتى قربتها نقصت منزلتي عندك.

فقال: لا بأس عليك وأحضر ابن عم له وكان مثله، فأراد أن يصارع الأول.

فقال السلطان: أنتما قرابة ولا يليق هذا بينكما وأمر له بمال جزيل.

قال: ولما احتضر أوصى أولاده بالاتفاق وعدم الافتراق، وضرب لهم في لك الأمثال، وأحضر بين يديه نشابا وأخذ سهما أعطاه لواحد منهم فكسره، ثم أحضر حزمة ودفعها إليهم مجموعة فلم يطيقوا كسرها.

فقال: هذا مثلكم إذا اجتمعتم واتفقتم، وذلك مثلكم إذا انفردتم واختلفتم.

قال: وكان له عدة أولاد ذكور وإناث منهم أربعة هم عظماء أولاده أكبرهم يوسي وهريول وباتو وبركة وتركجار، وكان كل منهم له وظيفة عنده.

ثم تكلم الجويني على ملك ذريته إلى زمان هولاكو خان، وهو يقول في اسمه ياذشاه زاره هولاكو، وذكر ما وقع في زمانه من الأوابد والأمور المعروفة المزعجة كما بسطناه في الحوادث والله أعلم.

السلطان الملك المعظم عيسى بن العادل أبي بكر بن أيوب

ملك دمشق والشام، كانت وفاته يوم الجمعة سلخ ذي القعدة من هذه السنة، وكان استقلاله بملك دمشق لما توفي أبوه سنة خمس عشرة، وكان شجاعا باسلا عالما فاضلا.

اشتغل في الفقه على مذهب أبي حنيفة على الحصيري مدرس النورية، وفي اللغة والنحو على التاج الكندي، وكان محفوظه مفصل الزمخشري، وكان يجيز من حفظه بثلاثين دينارا، وكان قد أمر أن يجمع له كتاب في اللغة يشمل (صحاح) الجوهري و(الجمهرة) لابن دريد و(التهذيب) للأزهري وغير ذلك، وأمر أن يرتب له (مسند) الإمام أحمد.

وكان يحب العلماء ويكرمهم ويجتهد في متابعة الخير ويقول: أنا على عقيدة الطحاوي.

وأوصى عند وفاته أن لا يكفن إلا في البياض، وأن يلحد له ويدفن في الصحراء ولا يبني عليه، وكان يقول:

واقعة دمياط أدخرها عند الله تعالى وأرجو أن يرحمني بها - يعني أنه أبلى بها بلاء حسنا - رحمه الله تعالى، وقد جمع له بين الشجاعة والبراعة والعلم ومحبة أهله.

وكان يجيء في كل جمعة إلى تربة والده فيجلس قليلا، ثم إذا ذكر المؤذنون ينطلق إلى تربة عمه صلاح الدين فيصلي فيها الجمعة، وكان قليل التعاظم، يركب في بعض الأحيان وحده ثم يلحقه بعض غلمانه سوقا.

وقال فيه بعض أصحابه وهو محب الدين بن أبي السعود البغدادي: لئن غودرت تلك المحاسن في الثرى بوالٍ ** فما وجدي عليك ببالِ

ومذ غبت عني ما ظفرت بصاحبٍ ** أخي ثقة إلا خطرت ببالي

وملك بعده دمشق ولده الناصر داود بن المعظم، وبايعه الأمراء.

أبو المعالي أسعد بن يحيى ابن موسى بن منصور بن عبد العزيز بن وهب الفقيه الشافعي البخاري

شيخ أديب فاضل خير، له نظم ونثر ظريف، وله نوادر حسنة وجاوز التسعين.

قد استوزره صاحب حماة في وقت، وله شعر رائق أورد منه ابن الساعي قطعة جيدة. فمن ذلك قوله:

وهواك ما خطر السلو بباله ** ولأنت أعلم في الغرام بحالهِ

فمتى وشى واش إليك بشأنه ** سائل هواك فذاك من أعدالهِ

أو ليس للدنف المعنى شاهد ** من حاله يغنيك عن تسآلهِ

جددت ثوب سقامه وهتكت ستـ ** ر غرامه، وصرمت حبل وصالهِ

ياللعجائب من أسيرٍ دأبه ** يفدي الطليق بنفسه وبمالهِ

وله أيضا:

لام العواذل في هواك فأكثروا ** هيهات ميعاد السلو المحشر

جهلوا مكانكِ في القلوب وحاولوا ** لو أنهم وجدوا كوجدي أقصروا

صبرا على عذب الهوى وعذابهِ ** وأخو الهوى أبدا يلام ويعذرُ

أبو القاسم عبد الرحمن بن محمد ابن أحمد بن حمدان الطبي المعروف بالصائن

أحد المعيدين بالنظامية، ودرس بالثقفية، وكان عارفا بالمذهب والفرائض والحساب، صنف شرحا للتنبيه. ذكره ابن الساعي.

أبو النجم محمد بن القاسم بن هبة الله التكريتي

الفقيه الشافعي، تفقه على أبي القاسم بن فضلان، ثم أعاد بالنظامية ودرس بغيرها، وكان يشتغل كل يوم عشرين درسا، ليس له دأب إلا الاشتغال وتلاوة القرآن ليلا ونهارا.

وكان بارعا كثير العلوم، قد أتقن المذهب والخلاف، وكان يفتي في مسألة الطلاق الثلاث بواحدة فتغيظ عليه قاضي القضاة أبو القاسم عبد الله بن الحسين الدامغاني، فلم يسمع منه ثم أخرج إلى تكريت فأقام بها، ثم استدعى إلى بغداد، فعاد إلى الاشتغال وأعاده قاضي القضاة نصر بن عبد الرزاق إلى إعادته بالنظامية، وعاد إلى ما كان عليه من الاشتغال والفتوى والوجاهة إلى أن توفي في هذه السنة رحمه الله تعالى. وهذا ذكره ابن الساعي.

ثم دخلت سنة خمس وعشرين وستمائة

فيها: كانت حروب كثيرة بين جلال الدين والتتر، كسروه غير مرة، ثم بعد ذلك كله كسرهم كسرة عظيمة، وقتل منهم خلقا وأمما لا يحصون.

وكان هؤلاء التتر قد انفردوا وعصوا على جنكيز خان فكتب جنكيز خان إلى جلال الدين يقول له:

إن هؤلاء ليسوا منا ونحن أبعدناهم، ولكن سترى منا ما لا قبل لك به.

وفيها: قدمت طائفة كبيرة من الفرنج من ناحية صقلية فنزلوا عكا وصور وحملوا على مدينة صيدا فانتزعوها من أيدي المؤمنين، وعبروها وقويت شوكتهم، وجاء الأنبرو ملك الجزيرة القبرصية ثم سار فنزل عكا فخاف المسلمون من شره وبالله المستعان.

وركب الملك الكامل محمد بن العادل صاحب مصر إلى بيت المقدس الشريف فدخله، ثم سار إلى نابلس فخاف الناصر داود بن المعظم من عمه الكامل، فكتب إلى عمه الأشرف فقدم عليه جريدة، وكتب إلى أخيه الكامل يستعطفه ويكفه عن ابن أخيه، فأجابه الكامل:

بأني إنما جئت لحفظ بيت المقدس وصونه عن الفرنج الذين يريدون أخذه، وحاشى لله أن أحاصر أخي أو ابن أخي، وبعد أن جئت أنت إلى الشام فأنت تحفظها وأنا راجع إلى الديار المصرية.

فخشي الأشرف وأهل دمشق إن رجع الكامل أن تمتد أطماع الفرنج إلى بيت المقدس، فركب الأشرف إلى أخيه الكامل فثبطه عن الرجوع، وأقاما جميعا هنالك جزاهما الله خيرا، يحوطان جناب القدس عن الفرنج لعنهم الله.

واجتمع إلى الملك جماعة من ملوكهم، كأخيه الأشرف وأخيهما الشهاب غازي بن العادل، وأخيهم الصالح إسماعيل بن العادل وصاحب حمص أسد الدين شيركوه بن ناصر الدين، وغيرهم، واتفقوا كلهم على نزع الناصر داود عن ملك دمشق وتسليمها إلى الأشرف موسى.

وفيها: عزل الصدر التكريتي عن حسبة دمشق ومشيخة الشيوخ وولى فيها اثنان غيره.

قال أبو شامة: وفي أوائل رجب توفي الشيخ الصالح الفقيه أبو الحسن علي بن المراكشي المقيم بالمدرسة المالكية، ودفن بالمقبرة التي وقفها الزين خليل بن زويزان قبلي مقابر الصوفية، وكان أول من دفن بها رحمه الله تعالى.

ثم دخلت سنة ست وعشرين وستمائة

استلهت هذه السنة وملوك بني أيوب مفترقون مختلفون، قد صاروا أحزابا وفرقا، وقد اجتمع ملوكهم إلى الكامل محمد صاحب مصر، وهو مقيم بنواحي القدس الشريف، فقويت نفوس الفرنج لعنهم الله بكثرتهم بمن وفد إليهم من البحر، وبموت المعظم واختلاف من بعده من الملوك، فطلبوا من المسلمين أن يردوا إليهم ما كان الناصر صلاح الدين أخذ منهم، فوقعت المصالحة بينهم وبين الملوك أن يردوا لهم بيت المقدس وحده، وتبقى بأيديهم بقية البلاد فتسلموا القدس الشريف.

وكان المعظم قد هدم أسواره، فعظم ذلك على المسلمين جدا، وحصل وهن شديد وإرجاف عظيم، فإنا لله وإنا إليه راجعون.

ثم قَدم الملك الكامل فحاصر دمشق وضيق على أهلها فقطع الأنهار ونهُبت الحواصل وغلت الأسعار، ولم يزل الجنود حولها حتى أخرج منها ابن أخيه صلاح الدين الملك الناصر داود بن المعظم، على أن يقيم ملكا بمدينة الكرك والشوبك ونابلس وبرا ما بين الغور وبالبلقاء، ويكون الأمير عز الدين أيبك أستاذ دار المعظم صاحب صرخد.

ثم تقايض الأشرف وأخاه الكامل فأخذ الأشرف دمشق وأعطى أخاه حران والرها والرقة ورأس العين وسروج.

ثم سار الكامل فحاصر حماة، وكان صاحبها الملك المنصور بن تقي الدين عمر قد توفي وعهد بالأمر من بعده إلى أكبر ولده المظفر محمد، وهو زوج بنت الكامل، فاستحوذ على حماة أخوه صلاح الدين قلج أرسلان فحاصره الكامل حتى أنزله من قلعتها وسلمها إلى أخيه المظفر محمد، ثم سار فتسلم البلاد التي قايض بها عن دمشق من أخيه الملك الأشرف كما ذكرنا.

وكان الناس بدمشق قد اشتغلوا بعلم الأوائل في أيام الملك الناصر داود، وكان يعاني ذلك وقديما نسبه بعضهم إلى نوع من الانحلال فالله أعلم، فنادى الملك الأشرف بالبلدان أن لا يشتغل الناس بذلك، وأن يشتغلا بعلم التفسير والحديث والفقه.

وكان سيف الدين الآمدي مدرسا بالعزيزية فعزله عنها وبقي ملازما منزله حتى مات في سنة إحدى وثلاثين كما سيأتي.

وفيها: كان الناصر داود قد أضاف إلى قاضي القضاة شمس الدين بن الخولي القاضي محيي الدين يحيى بن محمد بن علي بن الزكي، فحكم أياما بالشباك شرقي باب الكلاسة، ثم صار الحكم بداره، مشاركا لابن الخولي.

من الأعيان:

الملك المسعود أقسيس بن الكامل

صاحب اليمن، وقد ملك مكة سنة تسع عشرة فأحسن بها المعدلة، ونفي الزيدية منها، وأمنت الطرقات والحجاج، ولكنه كان مسرفا على نفسه، فيه عسف وظلم أيضا، وكانت وفاته بمكة ودفن بباب المعلى.

محمد السبتي النجار

كان يعده بعضهم من الأبدال.

قال أبو شامة: وهو الذي بنى المسجد غربي دار الزكاة عن يسار المار في الشارع من ماله، ودفن بالجبل.

وكانت جنازته مشهودة رحمه الله تعالى.

أبو الحسن علي بن سالم ابن يزبك بن محمد بن مقلد العبادي

الشاعر من الحديثة، قدم بغداد مرارا وامتدح المستظهر وغيره، وكان فاضلا شاعرا يكثر التغزل.

أبو يوسف يعقوب بن صابر الحراني

ثم البغدادي المنجنيقي، كان فاضلا في فنه، وشاعرا مطبقا لطيف الشعر حسن المعاني، قد أورد له ابن الساعي قطعة صالحة، ومن أحسن ما أورد له قصيدة فيها تعزية عظيمة لجميع الناس وهي:

هل لمن يرتجي البقاء خلود ** وسوى الله كل شيء يبيدُ

والذي كان من تراب وإن ** عاش طويلا للتراب يعودُ

فمصير الأنام طرا إلى ما ** صار فيه آباؤهم والجدودُ

أين حواء أين آدم إذ فا ** تهم الخلد والثوى والخلودُ؟

أين هابيل أين قابيل إذ هـ ** ذا لهذا معاند وحسودُ

أين نوحٌ ومن نجامعه بالفلـ ** ك والعالمون طرا فقيدُ

أسلمته الأيام كالطفل للمو ** ت ولم يغن عمره الممدودُ

أين عاد؟ بل أين جنة عادٍ ** أم ترى أين صالح وثمودُ؟

أين إبراهيم الذي شاد بيـ ** ت الله فهو المعظم المقصودُ

حسدوا يوسفا أخاهم فكادو ** ه ومات الحاسد والمحسودُ

وسليمان في النبوة والملك ** قضى مثل ما قضى داودُ

فغدوا بعدما أطيع لذا الخلـ ** ق وهذا له ألين الحديدُ

وابن عمران بعد آياته التسـ ** ع وشق الخضم فهو صعيدُ

والمسيح ابن مريم وهو روح اللـ **ـه كادت تقضي عليه اليهودُ

وقضى سيد النبيين والها ** دي إلى الحق أحمد المحمودُ

وبنوه وآله الطاهرو ** ن الزهر صلى عليهم المعبودُ

ونجوم السماء منتثراتٌ ** بعد حينٍ وللهواء ركودُ

ولنار الدنيا التي توقد الصخـ **ـر خمود وللماء جمودُ

وكذا للثرى غداة يؤم النـ ** ـاس منها تزلزل وهمودُ

هذه الأمهات نار وتربٌ ** وهواءٌ رطبٌ وماءٌ برودُ

سوف يفنى كما فنينا فلا ** يبقى من الخلق والدٌ ووليدُ

لا الشقي الغوي من نوب الأيا ** م ينجو ولا السعيد الرشيدُ

ومتى سلت المنايا سيوفا ** فالموالي حصيدها والعبيدُ

وممن توفي فيها:

أبو الفتوح نصر بن علي البغدادي

الفقيه الشافعي ويلقب: بثعلب، اشتغل في المذهب والخلاف ومن شعره قوله:

جسمي معي غير أن الروح عندكمُ ** فالجسم في غربة والروح في وطنِ

فليعجب الناس مني أن لي بدنا ** لا روح فيه ولي روح بلا بدنِ

أبو الفضل جبرائيل بن منصور

ابن هبة الله بن جبريل بن الحسن بن غالب بن يحيى بن موسى بن يحيى بن الحسن بن غالب بن الحسن بن عمرو بن الحسن بن النعمان بن المنذر المعروف: بابن زطينا البغدادي.

كاتب الديوان بها، أسلم - وكان نصرانيا - فحسن إسلامه، وكان من أفصح الناس وأبلغهم موعظة، ومن ذلك قوله: (خير أوقاتك ساعة صفت لله، وخلصت من الفكرة لغيره والرجاء لسواه، وما دمت في خدمة السلطان فلا تغتر بالزمان، اكفف كفك واصرف طرفك وأكثر صومك وأقلل نومك يؤمنك واشكر ربك يحمد أمرك).

وقال: (زاد المسافر يقدم على رحيله، فأعد الزاد تبلغ بالمعاد المراد. وقال: إلى متى تتمادى في الغفلة كأنك قد أمنت عواقب المهلة، عمر اللهو مضى وعمر الشبيبة انقضى، وما حصلت من ربك على ثقة بالرضا، وقد انتهى بك الأمر إلى سن التخاذل وزمن التكاسل، وما حظيت بطائل).

وقال: (روحك تخضع وعينك لا تدمع، وقلبك يخشع ونفسك تجشع، وتظلم نفسك وأنت لها تتوجع، وتظهر الزهد في الدنيا وفي الحال تطمع، وتطلب ما ليس لك بحق، وما وجب عليك من الحق لا تدفع، وتروم فضل ربك وللماعون تمنع، وتعيب نفسك الأمارة وهي عن اللهو لا ترجع، وتوقظ الغافلين بإنذارك وتتناوم عن سهمك وتهجع، وتخص غيرك بخيرك ونفسك الفقيرة لا تنفع، وتحوم على الحق وأنت بالباطل مولع. وتتعثر في المضايق وطرق النجاة مهيع، وتتهجم على الذنوب وفي المجرمين تشفع، وتظهر القناعة بالقليل وبالكثير لا تشبع، وتعمر الدار الفانية ودارك الباقية خراب بلقع، وتستوطن في منزل رحيل كأنك إلى ربك لا ترجع، وتظن أنك بلا رقيب وأعمالك إلى المراقب ترفع، تقدم على الكبائر وعن الصغائر تتورع، وتؤمل الغفران وأنت عن الذنوب لا تقلع، وترى الأهوال محيطة بك وأنت في ميدان اللهو ترتع، وتستقبح أفعال الجهال وباب الجهل تقرع، وقد آن لك أن تأنف من التعنيف وعن الدنايا تترفع، وقد سار المخفون وتخلفت فماذا تتوقع).

وقد أورد ابن الساعي له شعرا حسنا فمنه:

إن سهرت عيناك في طاعة ** فذاك خير لك من نومِ

أمسك قد فات بعلاته ** فاستدرك الفائت في اليومِ

وله:

إن ربَّا هداك بعد ضلالٍ ** سُبل الرشد مستحق للعبادهْ

فتعبد له تجد منه عتقا ** واستدم فضله بطول الزهادهْ

وله:

إذا تعففت عن حرامٍ ** عوضت بالطيب الحلالْ

فاقنع تجد في الحرام حلا ** فضلا من الله ذي الجلالْ

ثم دخلت سنة سبع وعشرين وستمائة

فيها: كانت وقعة عظيمة بين الأشرف موسى بن العادل وبين جلال الدين بن خوارزم شاه، وكان سببها أن جلال الدين كان قد أخذ مدينة خلاط في الماضي وخربها وشرد أهلها، وحاربه علاء الدين كيقباد ملك الروم وأرسل إلى الأشرف يستحثه على القدوم عليه ولو جريدة وحده، فقد الأشرف في طائفة كبيرة من عسكر دمشق، وانضاف إليهم عسكر بلاد الجزيرة ومن تبقى من عسكر خلاط، فكانوا خمسة آلاف مقاتل، معهم العدة الكاملة، والخيول الهائلة، فالتقوا مع جلال الدين بأذربيجان وهو في عشرين ألف مقاتل، فلم يقم لهم ساعة واحدة، ولا صبر فتقهقر وانهزم واتبعوه على الأثر.

ولم يزالوا في طلبهم إلى مدينة خوي وعاد الأشرف إلى مدينة خلاط فوجدها خاوية على عروشها، فمهدها وأطدها، ثم تصالح وجلال الدين وعاد إلى مستقر ملكه حرسها الله.

وفيها: تسلم الأشرف قلعة بعلبك من الملك الأمجد بهرام شاه بعد حصار طويل، ثم استخلف على دمشق أخاه الصالح إسماعيل.

ثم سار إلى الأشرف بسبب أن جلال الدين الخوارزمي استحوذ على بلاد خلاط، وقتل من أهلها خلقا كثيرا ونهب أموالا كثيرة، فالتقى معه الأشرف واقتتلوا قتالا عظيما فهزمه الأشرف هزيمة منكرة، وهلك من الخوارزمية خلق كثير، ودقت البشائر في البلاد فرحا بنصرة الأشرف على الخوارزمية، فإنهم كانوا لا يفتحون بلدا إلا قتلوا من فيه ونهبوا أموالهم، فكسرهم الله تعالى.

وقد كان الأشرف رأى النبي في المنام قبل الوقعة وهو يقول له: يا موسى، أنت منصور عليهم.

ولما فرغ من كسرتهم عاد إلى بلاد خلاط فرمم شعثها وأصلح ما كان فسد منها، ولم يحج أحد من أهل الشام في هذه السنة ولا في التي قبلها، وكذا فيما قبلها أيضا، فهذه ثلاث سنين لم يسر من الشام أحد إلى الحج.

وفيها: أخذت الفرنج جزيرة سورقة وقتلوا بها خلقا وأسروا آخرين، فقدموا بهم إلى الساحل فاستقبلهم المسلمون فأخبروا بما جرى عليهم من الفرنج.

وممن توفى فيها من الأعيان:

زين الأمناء الشيخ الصالح

أبو البركات بن الحسن بن محمد بن الحسن بن هبة الله بن زين الأمناء بن عساكر الدمشقي الشافعي، سمع على عميه الحافظ أبي القاسم، والصائن وغير واحد، وعمر وتفرد بالرواية وجاوز الثمانين بنحو من ثلاث سنين، وأقعد في آخر عمره فكان يحمل في محفة إلى الجامع وإلى دار الحديث النورية لإسماع الحديث، وانتفع به الناس مدة طويلة.

ولما توفي حضر الناس جنازته ودفن عند أخيه الشيخ فخر الدين بن عساكر بمقابر الصوفية رحمه الله تعالى.

الشيخ بيرم المارديني

كان صالحا منقطعا محبا للعزلة عن الناس، وكان مقيما بالزاوية الغربية من الجامع، وهي التي يقال لها: الغزالية.

وتعرف: بزاوية الدولعي.

وبزاوية: القطب النيسابوري.

وبزاوية: الشيخ أبي نصر المقدسي.

قاله الشيخ شهاب الدين أبو شامة: وكان يوم جنازته مشهودا، ودفن بسفح قاسيون رحمه الله تعالى وعفا عنه بمنه وكرمه.

ثم دخلت سنة ثمان وعشرين وستمائة

استهلت هذه السنة والملك الأشرف موسى بن العادل مقيم بالجزيرة مشغول فيها بإصلاح ما كان جلال الدين الخوارزمي قد أفسده من بلاده.

وقد قدمت التتار في هذه السنة إلى الجزيرة وديار بكر فعاثوا بالفساد يمينا وشمالا، فقتلوا ونهبوا وسبوا على عادتهم خذلهم الله تعالى.

وفيها: رتب إمام بمشهد أبي بكر من جامع دمشق وصليت فيه الصلوات الخمس.

وفيها: درس الشيخ تقي الدين بن الصلاح الشهرزوري الشافعي في المدرسة الجوانية في جانب المارستان في جمادى الأولى منها.

وفيها: درس الناصر ابن الحنبلي بالصالحية بسفح قاسيون التي أنشأتها الخاتون ربيعة خاتون بنت أيوب أخت ست الشام.

وفيها: حبس الملك الأشرف الشيخ علي الحريري بقلعة عزتا.

وفيها: كان غلاء شديد بديار مصر وبلاد الشام وحلب والجزيرة بسبب قلة المياه السماوية والأرضية، فكانت هذه السنة كما قال الله تعالى: { وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ ** الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ } 16

وذكر ابن الأثير كلاما طويلا مضمونه خروج طائفة من التتار مرة أخرى من بلاد ما وراء النهر، وكان سبب قدومهم هذه السنة أن الإسماعيلية كتبوا إليهم يخبرونهم بضعف أمر جلال الدين بن خوارزم شاه، وأنه قد عادى جميع الملوك حوله حتى الخليفة، وأنه قد كسره الأشرف بن العادل مرتين، وكان جلال الدين قد ظهرت منه أفعال ناقصة تدل على قلة عقله.

وذلك أنه توفي له غلام خصي يقال له: قلج، وكان يحبه فوجد عليه وجدا عظيما بحيث إنه أمر الأمراء أن يمشوا بجنازته فمشوا فراسخ، وأمر أهل البلد أن يخرجوا بحزن وتعداد عليه فتوانى بعضهم في ذلك فهمّ بقتلهم حتى تشفع فيهم بعض الأمراء ثم لم يسمح بدفن قلج فكان يحمل معه بمحفة.

وكلما أحضر بين يديه طعام يقول: احملوا هذا إلى قلج فقال له بعضهم: أيها الملك إن قلج قد مات، فأمر بقتله فقتل، فكانوا بعد ذلك يقولون: قبله وهو يقبل الأرض، ويقول هو الآن أصلح مما كان - يعني أنه مريض وليس بميت - فيجد الملك بذلك راحة من قلة عقله ودينه قبحه الله.

فلما جاءت التتار اشتغل بهم وأمر بدفن قلج وهرب من بين أيديهم وامتلأ قلبه خوفا منهم، وكان كلما سار من قطر لحقوه إليه وخربوا ما اجتازوا به من الأقاليم والبلدان حتى انتهوا إلى الجزيرة وجاوزوها إلى سنجار وماردين وآمد، يفسدون ما قدروا عليه قتلا ونهبا وأسرا، وتمزق شمل جلال الدين وتفرق عنه جيشه، فصاروا شذر مذر، وبدلوا بالأمن خوفا، وبالعز ذلا، وبالاجتماع تفريقا، فسبحان من بيده الملك لا إله إلا هو.

وانقطع خبر جلال الدين فلا يدري أين سلك، ولا أين ذهب، وتمكنت التتار من الناس في سائر البلاد لا يجدون من يمنعهم ولا من يردعهم، وألقى الله تعالى الوهن والضعف في قلوب الناس منهم، كانوا كثيرا يقتلون الناس فيقول المسلم: لا بالله، لا بالله، فكانوا يلعبون على الخيل ويغنون ويحاكون الناس لا بالله لا بالله، وهذه طامة عظمى وداهية كبرى، فإنا لله وإنا إليه راجعون.

وحج الناس في هذه السنة من الشام وكان ممن حج فيها الشيخ تقي الدين أبو عمر بن الصلاح، ثم لم يحج الناس بعد هذه السنة أيضا لكثرة الحروب والخوف من التتار والفرنج، فإنا لله وإنا إليه راجعون.

وفيها: تكامل بناء المدرسة التي بسوق العجم ببغداد المنسوبة إلى إقبال الشرابي، وحضر الدرس بها، وكان يوما مشهودا، اجتمع فيه جميع المدرسين والمفتيين ببغداد، وعمل بصحنها قباب الحلوى فحمل منها إلى جميع المدارس والربط، ورتب فيها خمسة وعشرين فقيها لهم الجوامك الدارة في كل يوم، والحلوى في أوقات المواسم، والفواكه في زمانها، وخلع على المدرس والمعيدين والفقهاء في ذلك اليوم. وكان وقتا حسنا تقبل الله تعالى منه.

وفيها: سار الأشرف أبو العباس أحمد بن القاضي الفاضل في الرسلية عن الكامل محمد صاحب مصر إلى الخليفة المستنصر بالله، فأكرم وأعيد معظما.

وفيها: دخل الملك المظفر أبو سعيد كوكبري بن زين الدين صاحب إربل إلى بغداد ولم يكن دخلها قط، فتلقاه الموكب وشافهه الخليفة بالسلام مرتين في وقتين، وكان ذلك شرفا له غبطه به سائر ملوك الآفاق وسألوا أن يهاجروا ليحصل لهم مثل ذلك، فلم يمكنوا لحفظ الثغور، ورجع إلى مملكته معظما مكرما.

من الأعيان:

يحيى بن معطي بن عبد النور

النحوي صاحب الألفية وغيرها من المصنفات النحوية المفيدة، ويلقب زين الدين، أخذ عن الكندي وغيره، ثم سافر إلى مصر فكانت وفاته بالقاهرة في مستهل ذي الحجة من هذه السنة، وشهد جنازته الشيخ شهاب الدين أبو شامة، وكان قد رحل إلى مصر في هذه السنة.

وحكي أن الملك الكامل شهد جنازته أيضا، وأنه دفن قريبا من قبر المزني بالقرافة في طريق الشافعي عن يسرة المار رحمه الله.

الدخوار الطبيب

مهذب الدين عبد الرحيم بن علي بن حامد، المعروف بالدخوار شيخ الأطباء بدمشق، وقد وقف داره بدرب العميد بالقرب من الصاغة العتيقة على الأطباء بدمشق مدرسة لهم، وكانت وفاته بصفر من هذه السنة، ودفن بسفح قاسيون، وعلى قبره قبة على أعمدة في أصل الجبل شرقي الركتيه، وقد ابتلي بستة أمراض متعاكسة، منها ريح اللقوة، وكان مولده سنة خمس وستين وخمسمائة، وكان عمره ثلاثا وستين سنة.

قال ابن الأثير: وفيها توفي:

القاضي أبو غانم بن العديم

الشيخ الصالح، وكان من المجتهدين في العبادة والرياضة، من العاملين بعلمهم، ولو قال قائل إنه لم يكن في زمانه أعبد منه لكان صادقا، فرضي الله تعالى عنه وأرضاه، فإنه من جماعة شيوخنا، سمعنا عليه الحديث وانتفعنا برؤيته وكلامه، قال:

وفيها: أيضا في الثاني عشر من ربيع الأول توفي صديقنا:

أبو القاسم عبد المجيد بن العجمي الحلبي

وهو وأهل بيته مقدموا السنة بحلب، وكان رجلا ذا مروءة غزيرة، وخلق حسن، وحلم وافر ورياسة كثيرة، يحب إطعام الطعام، وأحب الناس إليه من أكل من طعامه ويقبل يده، وكان يلقى أضيافه بوجه منبسط، ولا يقعد عن إيصال راحة وقضاء حاجة، فرحمه الله تعالى رحمة واسعة.

قلت وهذا آخر ما وجد من الكامل في التاريخ للحافظ عز الدين أبي الحسن علي بن محمد بن الأثير رحمه الله تعالى.

أبو إسحاق إبراهيم بن عبد الكريم

ابن أبي السعادات بن كريم الموصلي، أحد الفقهاء الحنفيين، شرح قطعة كبيرة من القدوري، وكتب الإنشاء لصاحبها بدر الدين لؤلؤ، ثم استقال من ذلك، وكان فاضلا شاعرا، من شعره:

دعوة كما شاء الغرام يكون ** فلست وإن خان العهود أخونُ

ولينوا له في قولكم ما استطعتم ** عسى قلبه القاسي عليّ يلينُ

وبثوا صباباتي إليه وكرروا ** حديثي عليه فالحديث شجونُ

بنفسي الأولى بانوا عن العين حصةً ** وحبهم في القلب ليس يبينُ

وسلوا على العشاق يوم تحملوا ** سيوفا لها وطف الجفون جفونَ

المجد البهنسي

وزير الملك الأشرف ثم عزله وصادره، ولما توفي دفن بتربته التي أنشأها بسفح قاسيون وجعل كتبه بها وقفا، وأجرى عليها أوقافا جيدة دارة رحمه الله تعالى.

جمال الدولة خليل بن زويزان رئيس قصر حجاج

كان كيسا ذا مروءة، له صدقات كثيرة، وله زيارة في مقابر الصوفية من ناحية القبلة، ودفن بتربته عند مسجد قلوس رحمه الله تعالى.

وفيها كانت وفاة الملك الأمجد

واقف المدرسة الأمجدية.

بهرام شاه بن فروخشاه بن شاهنشاه

ابن أيوب صاحب بعلبك، لم يزل بها حتى قدم الأشرف موسى بن العادل إلى دمشق فملكها في سنة ست وعشرين، فانتزع من يده بعلبك في سنة سبع وعشرين، وأسكنه عنده بدمشق بدار أبيه، فلما كان شهر شوال من هذه السنة عدا عليه مملوك من مماليكه تركي فقتله ليلا، وكان قد اتهمه في صاحبة له وحبسه، فتغلب عليه في بعض الليالي فقتله وقتل المملوك بعده.

ودفن الأمجد في تربته التي إلى جانب تربة أبيه في الشرق الشمالي رحمه الله تعالى، وقد كان شاعرا فاضلا له ديوان شعر، وقد أورد له ابن الساعي قطعة جيدة من شعره الرائق الفائق، وترجمته في طبقات الشافعية، ولم يذكره أبو شامة في الذيل، وهذا عجيب منه، ومما أورد له ابن الساعي في شاب رآه يقطع قضبان بأن فأنشأ على البديهة:

من لي بأهيف قال حين عتبته ** في قطع كل قضيب بانٍ رائق

تحكي شمائله الرشاء إذا انثنى ** ريان بين جداولٍ وحدائقِ

سرقت غصون البان لين شمائلي ** فقطعتها والقطع حد السارقِ

ومن شعره أيضا رحمه الله تعالى:

يؤرقني حنين وإدكار ** وقد خلت المرابع والديارُ

تناءى الظاعنون ولي فؤاد ** يسير مع الهوادج حيث ساروا

حنين مثلما شاء التنائي ** وشوق كلما بعد المزارُ

وليل بعد بينهم طويل ** فأين مضت ليالي القصارُ؟

وقد حكم السهاد على جفوني ** تساوى الليل عندي والنهارُ

سهادي بعد نأيهم كثير ** ونومي بعد ما رحلوا غرارُ

فمن ذا يستعير لنا عيونا ** تنام وهل ترى عينا تعارُ

فلا ليلى له صبح منير ** ولا وجدي يقال له: عثارُ

وكم من قائل والحي غادٍ ** يحجب ظعنه النقع المثارُ

وقوفك في الديار وأنت حي ** وقد رحل الخليط عليك عار

وله دو بيت:

كم يذهب هذا العمر في الخسران ** ما أغفلني فيه وما أنساني

ضيعت زماني كله في لعب ** يا عمر هل بعدك عمر ثاني

وقد رآه بعضهم في المنام فقال له: ما فعل الله تعالى بك؟ فقال:

كنت من ديني على وجلٍ ** زال عني ذلك الوجلُ

أمنت نفسي بوائقها ** عشت لما مت لما رجلُ

رحمه الله وعفا عنه.

جلال الدين تكش

وقيل محمود بن علاء الدين خوارزم شاه محمد بن تكش الخوارزمي، وهم من سلالة طاهر بن الحسين، وتكش جدهم هو الذي أزال دولة السلجوقية.

كانت التتار قهروا أباه حتى شردوه في البلاد فمات في بعض جزائر البحر، ثم ساقوا وراء جلال الدين هذا حتى مزقوا عساكره شذر مذر وتفرقوا عنه أيدي سبأ، وانفرد هو وحده فلقيه فلاح من قرية بأرض ميافارقين فأنكره لما عليه من الجواهر الذهب، وعلى فرسه، فقال له: من أنت؟ فقال:

أنا ملك الخوارزمية - وكانوا قد قتلوا للفلاح أخا - فأنزله وأظهر إكرامه، فلما نام قتله بفأس كانت عنده، وأخذ ما عليه، فبلغ الخبر إلى شهاب الدين غازي بن العادل صاحب ميافارقين فاستدعى بالفلاح فأخذ ما كان عليه من الجواهر وأخذ الفرس أيضا، وكان الأشرف يقول هو سد ما بيننا وبين التتار، كما أن السد بيننا وبين يأجوج ومأجوج.

ثم دخلت سنة تسع وعشرين وستمائة

فيها: عزل القاضيان بدمشق: شمس الخوي وشمس الدين بن سني الدولة وولي قضاء القضاة عماد الدين بن الحرستاني، ثم عزل في سنة إحدى وثلاثين وأعيد شمس الدين بن سني الدولة كما سيأتي.

وفيها: سابع عشر شوالها عزل الخليفة المستنصر وزيره مؤيد الدين محمد بن محمد بن عبد الكريم القمي، وقبض عليه وعلى أخيه حسن ابنه فخر الدين أحمد بن محمد القمي وأصحابهم وحبسوا، واستوزر الخليفة مكانه أستاذ الدار شمس الدين أبا الأزهر، أحمد بن محمد بن الناقد، وخلع عليه خلعة سنية وفرح الناس بذلك.

وفيه أقبل طائفة من التتار فوصلوا إلى شهزور فندب الخليفة صاحب إربل مظفر الدين كوكبري بن زين الدين، وأضاف إليه عساكر من عنده فساورا نحوهم فهربت منهم التتار، وأقاموا في مقابلتهم مدة شهور، ثم تمرض مظفر الدين وعاد إلى بلده إربل وتراجعت التتار إلى بلادها.

وممن توفى فيها من الأعيان:

الحافظ محمد بن عبد الغني ابن أبي بكر البغدادي

أبو بكر بن نقطة الحافظ المحدث الفاضل، صاحب الكتاب النافع المسمى بالتقييد في تراجم رواة الكتب والمشاهير من المحدثين، كان أبوه فقيها فقيرا منقطعا في بعض مساجد بغداد، يؤثر أصحابه بما يحصل له.

ونشأ ولده هذا معنيّ بعلم الحديث وسماعه والرحلة فيه إلى الأفاق شرقا غربا، حتى برز فيه على الأقران، وفاق أهل ذلك الزمان، ولد سنة تسع وسبعين وخمسمائة، وتوفي يوم الجمعة الثاني والعشرين من صفر من هذه السنة، رحمهم الله تعالى.

الجمال عبد الله بن الحافظ عبد الغني المقدسي

كان فاضلا كريما حييا، سمع الكثير، ثم خالط الملوك وأبناء الدنيا، فتغيرت أحواله ومات ببستان ابن شكر عند الصالح إسماعيل بن العادل، وهو الذي كفنه ودفن بسفح قاسيون.

أبو علي الحسين بن أبي بكر المبارك

ابن أبي عبد الله محمد بن يحيى بن مسلم الزبيدي ثم البغدادي، كان شيخا صالحا حنفيا فاضلا ذا فنون كثيرة، ومن ذلك علم الفرائض والعروض، وله فيه أرجوزة حسنة، انتخب منها ابن الساعي من كل بحر بيتين، وسرد ذلك في تاريخه.

أبو الفتح مسعود بن إسماعيل

ابن علي بن موسى السلماسي، فقيه أديب شاعر، له تصانيف، وقد شرح المقامات والجمل في النحو، وله خطب وأشعار حسنة رحمه الله تعالى.

أبو بكر محمد بن عبد الوهاب

ابن عبد الله الأنصاري فخر الدين ابن الشيرجي الدمشقي، أحد المعدلين بها، ولد سنة تسع وأربعين وخمسمائة، وسمع الحديث وكان يلي ديوان الخاتون ست الشام بنت أيوب، وفوضت إليه أمرا أوقافها.

قال السبط: وكان ثقة أمينا كيسا متواضعا.

قال: وقد وزر ولده شرف الدين للناصر داود مدة يسيرة، وكانت وفاة فخر الدين في يوم عيد الأضحى ودفن بمقابر باب الصغير رحمه الله تعالى وعفا عنه.

حسام بن غزي

ابن يونس عماد الدين أبو المناقب المحلي المصري، ثم الدمشقي، كان شيخا صالحا فاضلا فقيها شافعيا حسن المحاضرة وله أشعار حسنة.

قال أبو شامة: وله في معجم القوصي ترجمة حسنة، وذكر أنه توفي عاشر ربيع الآخر ودفن بمقابر الصوفية.

قال السبط: وكان مقيما بالمدرسة الأمينية، وكان لا يأكل لأحد شيئا ولا للسلطان، بل إذا حضر طعاما كان معه في كمه شيء يأكله، وكان لا يزال معه ألف دينار على وسطه.

وحكي عنه قال: خلع عليَّ الملك العادل ليلة طيلسانا فلما خرجت مشى بين يدي تعاط يحسبني القاضي، فلما وصلت باب البريد عند دار سيف خلعت الطيلسان وجعلته في كمي وتباطأت في المشي، فالتفت فلم يرو راءه أحدا، فقال لي: أين القاضي؟ فأشرت إلى ناحية النورية وقلت: ذهب إلى داره، فلما أسرع إلى ناحية النورية هرولت إلى المدرسة الأمينية واسترحت منه.

قال ابن الساعي: كان مولده سنة ستين وخمسمائة، وخلف أموالا كثيرة ورثتها عصبته، قال: وكانت له معرفة حسنة بالأخبار والتواريخ وأيام الناس، مع دين وصلاح وورع، وأورد له ابن الساعي قطعا من شعره فمن ذلك قوله:

قيل لي من هويت قد عبث الشـ **ـعرَ في خديه قلت ما ذاك عارهْ

حمرة الخد أحرقت عنبر الخا ** ل فمن ذاك الدخان عذارهْ

وله:

شوقي إليكم دون أشواقكم ** لكن لا بد أن يشرحُ

لأنني عن قلبكم غائبٌ ** وأنتم في القلب لن تبرحوا

أبو عبد الله محمد بن علي ابن محمد بن الجارود الماراني

الفقيه الشافعي، أحد الفضلاء، ولي القضاء بإربل وكان ظريفا خليعا، وكان من محاسن الأيام، وله أشعار رائقة ومعان فائقة منها قوله:

مشيب أتى وشباب رحل ** أحل العناية حيث حلْ

وذنبك جم، ألا فارجعي ** وعودي فقد حان وقت الأجلْ

وديني الإله ولا تقصري ** ولا يخدعنك طول الأملْ

أبو الثناء محمود بن رالي

ابن علي بن يحيى الطائي الرقي نزيل إربل، وولي النظر بها للملك مظفر الدين، وكان شيخا أديبا فاضلا، ومن شعره قوله:

وهيف ما الخطيُّ إلا قوامه ** وما الغصن إلا ما يثنيه لينه

وما الدعص إلا ما تحمل خصره ** وما النبل إلا ما تريش جفونهُ

وما الخمر إلا ما يروق ثغره ** وما السحر إلا ما تكن عيونهُ

وما الحسن إلا كله فمن الذي ** إذا ما رآه لا يزيد جنونهُ

ابن معطي النحوي يحيى

ترجمه أبو شامة في السنة الماضية، وهو أضبط لأنه شهد جنازته بمصر، وأما ابن الساعي فإنه ذكره في هذه السنة، وقال: إنه كان حظيا عند الكامل محمد صاحب مصر، وإنه كان قد نظم أرجوزة في القراءات السبع، ونظم ألفاظ الجمهرة، وكان قد عزم على نظم صحاح الجوهري.

ثم دخلت سنة ثلاثين وستمائة

فيها: باشر خطابة بغداد ونقابة العباسيين العدل مجد الدين أبو القاسم هبة الله بن المنصوري، وخلع عليه خلعة سنية، وكان فاضلا قد صحب الفقراء والصوفية وتزهد برهة من الزمان، فلما دُعي إلى هذا الأمر أجاب سريعا وأقبلت عليه الدنيا بزهرتها، وخدمة الغلمان الأتراك، ولبس لباس المترفين وقد عاتبه بعض تلامذته بقصيدة طويلة، وعنفه على ما صار إليه، وسردها ابن الساعي بطولها في تاريخه.

وفيها: سار القاضي محي الدين يوسف بن الشيخ جمال الدين أبي الفرج في الرسلية من الخليفة إلى الكامل صاحب مصر، ومعه كتاب هائل فيه تقليده الملك، وفيه أوامر كثيرة مليحة من إنشاء الوزير نصر الدين أحمد بن الناقد، سرده ابن الساعي أيضا بكماله.

وقد كان الكامل مخيما بظاهر آمد من أعمال الجزيرة، قد افتتحها بعد حصار طويل وهو مسرور بما نال من ملكها.

وفيها: فتحت دار الضيافة ببغداد للحجيج حين قدموا من حجهم، وأجريت عليهم النفقات والكساوي والصلات.

وفيها: سار العساكر المستنصرية صحبة الأمير سيف الدين أبي الفضائل إقبال الخاص المستنصري إلى مدينة إربل وأعمالها، وذلك لمرض مالكها مظفر الدين كوكبري بن زين الدين، وأنه ليس له من بعده من يملك البلاد، فحين وصلها الجيش منعه أهل البلد فحاصروه حتى افتتحوه عنوة في السابع عشر من شوال في هذه السنة.

وجاءت البشائر بذلك فضربت الطبول ببغداد بسبب ذلك، وفرح أهلها، وكتب التقليد عليها لإقبال المذكور، فرتب فيها المناصب وسار فيه سيرة جيدة، وامتدح الشعراء هذا الفتح من حيث هو، كذلك مدحوا فاتحها إقبال، ومن أحسن ما قال بعضهم في ذلك:

يا يوم سابع عشر شوال الذي ** رزق السعادة أولا وأخيرا

هنيت فيه بفتح إربل مثلما ** هنيت فيه وقد جلست وزيرا

يعني أن الوزير نصير الدين بن العلقمي، قد كان وزر في مثل هذا اليوم من العام الماضي، وفي مستهل رمضان من هذه السنة شرع في عمارة دار الحديث الأشرفية بدمشق، وكانت قبل ذلك دارا للأمير قايماز وبها حمام فهدمت وبنيت عوضها.

وقد ذكر السبط في هذه السنة أن في ليلة النصف من شعبان فتحت دار الحديث الأشرفية المجاورة لقلعة دمشق، وأملي بها الشيخ تقي الدين بن الصلاح الحديث، ووقف عليها الأشرف الأوقاف، وجعل بها نعل النبي .

قال: وسمع الأشرف صحيح البخاري في هذه السنة على الزبيدي، قلت: وكذا سمعوا عليه بالدار وبالصالحية.

قال: وفيها: فتح الكامل آمد وحصن كيفا ووجد عند صاحبها خمسمائة حرة للفراش فعذبه الأشرف عذابا أليما.

وفيها: قصد صاحب ماردين وجيش بلاد الروم الجزيرة فقتلوا وسبوا وفعلوا ما لم يفعله التتار بالمسلمين.

وممن توفي بها من الأعيان في هذه السنة من المشاهير:

أبو القاسم علي بن الشيخ أبي الفرج بن الجوزي

كان شيخا لطيفا ظريفا، سمع الكثير وعمل صناعة الوعظ مدة، ثم ترك ذلك، وكان يحفظ شيئا كثيرا من الأخبار والنوادر والأشعار، ولد سنة إحدى وخمسين وخمسمائة، وكانت وفاته في هذه السنة وله تسع وسبعون سنة.

وقد ذكر السبط وفاة الوزير صفي الدين بن شكر

في هذه السنة، وأثنى عليه وعلى محبته للعلم وأهله، وأن له مصنفا سماه البصائر، وأنه تغضب عليه العادل ثم ترضّاه الكامل وأعاده إلى وزارته وحرمته، ودفن بمدرسته المشهورة بمصر وذكر أن أصله من قرية يقال لها دميرة بمصر.

الملك ناصر الدين محمود

ابن عز الدين مسعود بن نور الدين أرسلان شاه بن قطب الدين مودود بن عماد الدين بن زنكي بن آقسنقر صاحب الموصل، كان مولده في سنة ثلاث عشرة وستمائة، وقد أقامه بدر الدين لؤلؤ صورة حتى تمكن أمره وقويت شوكته، ثم حجر عليه فكان لا يصل إلى أحد من الجواري ولا شيء من السراري، حتى لا يعقب، وضيق عليه في الطعام والشراب، فلما توفي جده لأمه مظفر الدين كوكبري صاحب إربل منعه حينئذ من الطعام والشراب ثلاث عشر يوما حتى مات كمدا وجوعا وعطشا رحمه الله.

وكان من أحسن الناس صورة، وهو آخر ملوك الموصل من بيت الأتابكي.

القاضي شرف الدين إسماعيل بن إبراهيم

أحد مشايخ الحنفية، وله مصنفات في الفرائض وغيرها، وهو ابن خالة القاضي شمس الدين ابن الشيرازي الشافعي، وكلاهما كان ينوب عن ابن الزكي وابن الحرستاني، وكان يدرس بالطرخانية.

وفيها سكنه، فلما أرسل إليه المعظم أن يفتي بإباحة نبيذ التمر وماء الرمان امتنع من ذلك وقال: أنا على مذهب محمد بن الحسن في ذلك، والرواية عن أبي حنيفة شاذة، ولا يصح حديث ابن مسعود في ذلك، ولا الأثر عن عمر أيضا.

فغضب عليه المعظم وعزله عن التدريس وولاه لتلميذه الزين ابن العتال، وأقام الشيخ بمنزله حتى مات.

قال أبو شامة: ومات في هذه السنة جماعة من السلاطين منهم المغيث بن المغيث بن العادل، والعزيز عثمان بن العادل، ومظفر الدين صاحب إربل.

قلت: أما صاحب إربل فهو:

الملك المظفر أبو سعيد كوكبري

ابن زين الدين علي بن تبكتكين أحد الأجواد والسادات الكبراء والملوك الأمجاد، له آثار حسنة وقد عمر الجامع المظفري بسفح قاسيون، وكان قدهم بسياقه الماء إليه من ماء بذيرة فمنعه المعظم من ذلك، واعتل بأنه قد يمر على مقابر المسلمين بالسفوح، وكان يعمل المولد الشريف في ربيع الأول ويحتفل به احتفالا هائلا.

وكان مع ذلك شهما شجاعا فاتكا بطلا عاقلا عالما عادلا رحمه الله وأكرم مثواه.

وقد صنف الشيخ أبو الخطاب ابن دحية له مجلدا في المولد النبوي سماه: (التنوير في مولد البشير النذير)، فأجازه على ذلك بألف دينار، وقد طالت مدته في الملك في زمان الدولة الصلاحية، وقد كان محاصر عكا وإلى هذه السنة محمود السيرة والسريرة.

قال السبط: حكى بعض من حضر سماط المظفر في بعض الموالد كان يمد في ذلك السماط خمسة آلاف رأس مشوي، وعشرة آلاف دجاجة، ومائة ألف زبدية، وثلاثين ألف صحن حلوى، قال: وكان يحضر عنده في المولد أعيان العلماء والصوفية فيخلع عليهم ويطلق لهم ويعمل للصوفية سماعا من الظهر إلى الفجر، ويرقص بنفسه معهم، وكانت له دار ضيافة للوافدين من أي جهة على أي صفة، وكانت صدقاته في جميع القرب والطاعات على الحرمين وغيرهما، ويتفك من الفرنج في كل سنة خلقا من الأسارى.

حتى قيل إن جملة من استفكه من أيديهم ستون ألف أسير، قالت: زوجته ربيعة خاتون بنت أيوب - وكان قد زوجه إياها أخوها صلاح الدين، لما كان معه على عكا - قالت: كان قميصه لا يساوي خمسة دراهم فعاتبته بذلك فقال: لبسي ثوبا بخمسة وأتصدق بالباقي خير من أن البس ثوبا مثمنا وأدع الفقير المسكين، وكان يصرف على المولد في كل سنة ثلاثمائة ألف دينار، وعلى دار الضيافة في كل سنة مائة ألف دينار.

وعلى الحرمين والمياه بدرب الحجاز ثلاثين ألف دينار سوى صدقات السر، رحمه الله تعالى، وكانت وفاته بقلعة إربل، وأوصى أن يحمل إلى مكة فلم يتفق فدفن بمشهد علي.

والملك العزيز بن عثمان بن العادل

وهو شقيق المعظم، كان صاحب بانياس وتملك الحصون التي هنالك، وهو الذي بنى المعظمية.

وكان عاقلا قليل الكلام مطيعا لأخيه المعظم، ودفن عنده وكانت وفاته يوم الاثنين عاشر رمضان ببستانه الناعمة من لهيا رحمه الله وعفا عنه.

أبو المحاسن محمد بن نصر الدين بن نصر

ابن الحسين بن علي بن محمد بن غالب الأنصاري، المعروف بابن عُنين الشاعر.

قال ابن الساعي: أصله من الكوفة وولد بدمشق ونشأ بها، وسافر عنها سنين، فجاب الأقطار والبلاد شرقا وغربا ودخل الجزيرة وبلاد الروم والعراق وخراسان وما وراء النهر والهند واليمن والحجاز وبغداد، ومدح أكثر أهل هذه البلاد، وحصل أموالا جزيلة، وكان ظريفا شاعرا مطيقا مشهورا، حسن الأخلاق جميل المعاشرة، وقد رجع إلى بلده دمشق فكان بها حتى مات هذه السنة في قول ابن للسماعي، وأما السبط وغيره فأرخوا وفاته في سنة ثلاث وثلاثين، وقد قيل إنه مات في سنة إحدى وثلاثين والله أعلم.

والمشهور أن أصله من حوران مدينة زرع، وكانت إقامته بدمشق في الجزيرة قبلي الجامع، وكان هجاء له قدرة على ذلك، وصنف كتابا سماه (مقراض الأعراض)، مشتمل على نحو من خمسمائة بيت، قل من سلم من الدماشقة من شره، ولا الملك صلاح الدين ولا أخوه العادل.

وقد كان يزن بترك الصلاة المكتوبة فالله أعلم.

وقد نفاه الملك الناصر صلاح الدين إلى الهند فامتدح ملوكها حصل أموالا جزيلة، وصار إلى اليمن فيقال إنه وزر لبعض ملوكها، ثم عاد في أيام العادل إلى دمشق ولما ملك المعظم استوزره فأساء السيرة واستقال هو من تلقاء نفسه فعزله، وكان قد كتب إلى الدماشقة من بلاد الهند:

فعلام أبعدتم أخا ثقةٍ ** لم يقترف ذنبا ولا سرقا؟

انفوا المؤذن من بلادكم ** إن كان ينفي كل من صدقا

ومما هجا به الملك الناصر صلاح الدين رحمه الله تعالى:

سلطاننا أعرج وكاتبه ** ذو عمشٍ ووزيره أحدبُ

والدولعي الخطيب معتكف ** وهو على قشر بيضةٍ يثبُ

ولابن باقا وعظ يغش به النـ **ـاس وعبد اللطيف محتسبُ

وصاحب الأمر خلقه شرس ** وعارض الجيش داؤه عجبُ

وقال في السلطان الملك العادل سيف الدين رحمه الله تعالى وعفا عنه:

إن سلطاننا الذي نرتجيه ** واسع المال ضيق الأنفاقِ

هو سيف كما يقال ولكن ** قاطع للرسوم والأرزاقِ

وقد حضر مرة مجلس الفخر الرازي بخراسان وهو على المنبر يعظ الناس، فجاءت حمامة خلفها جارح فألقت نفسها على الفخر الرازي كالمستجيرة به، فأنشأ ابن عنين يقول:

جاءت سليمان الزمان حمامة ** والموت يلمع من جناحي خاطف

قرم لواه الجوع حتى ظله ** بإزائه يجري بقلب واجف

من أعلم الورقاء أن محلّكم ** حرم وأنك ملجأ للخائف

الشيخ شهاب الدين السهروردي

صاحب عوارف المعارف، عمر بن محمد بن عبد الله بن محمد بن محمد بن حمويه واسمه عبد الله البكري البغدادي، شهاب الدين أبو حفص السهروردي، شيخ الصوفية ببغداد، كان من كبار الصالحين وسادات المسلمين، وتردد في الرسلية بين الخلفاء والملوك مرارا، وحصلت له أموال جزيلة ففرقها بين الفقراء والمحتاجين، وقد حج مرة وفي صحبته خلق من الفقراء لا يعلمهم إلا الله عز وجل، وكانت فيه مروءة وإغاثة للملهوفين، وأمر بالمعروف ونهي عن المنكر، وكان يعظ الناس وعليه ثياب البذلة.

قال مرة في ميعاده هذا البيت وكرره:

ما في الصحاب أخو وجد تطارحه ** إلا محب له في الركب محبوب

فقام شاب وكان في المجلس فأنشده:

كأنما يوسف في كل راحلة ** وله وفي كل بيت منه يعقوب

فصاح الشيخ ونزل عن المنبر وقصد الشاب ليعتذر إليه، فلم يجده ووجد مكانه حفرة فيهادم كثير من كثرة ما كان يفحص برجليه عند إنشاد الشيخ البيت.

وذكر له ابن خلكان أشياء كثيرة من أناشيده وأثنى عليه خيرا، وأنه توفي في هذه السنة وله ثلاث وتسعون سنة رحمه الله تعالى.

ابن الأثير مصنف أسد الغابة والكامل

هو الإمام العلامة عز الدين أبو الحسن علي بن عبد الكريم بن عبد الواحد الشيباني الجزري الموصلي المعروف بابن الأثير مصنف كتاب (أسد الغابة في أسماء الصحابة)، وكتاب (الكامل في التاريخ) وهو من أحسنها حوادث، ابتدأه من المبتدأ إلى سنة ثمان وعشرين وستمائة، وقد كان يتردد إلى بغداد خصيصا عند ملوك الموصل، ووزر لبعضهم كما تقدم بيانه، وأقام بها في آخر عمره موقرا معظما إلى أن توفي بها في شعبان في هذه السنة، عن خمس وسبعين سنة رحمه الله.

وأما أخوه أبو السعادات المبارك فهو مصنف كتاب (جامع الأصول) وغيره، وأخوهما الوزير ضياء الدين أبو الفتح نصر الله كان وزيرا للملك الأفضل علي بن الناصر فاتح بيت المقدس، صاحب دمشق كما تقدم، وجزيرة ابن عمر قيل: إنها منسوبة إلى رجل يقال له عبد العزيز بن عمر، من أهل برقعيد، وقيل: بل هي منسوبة إلى ابني عمر، وهما أوس وكامل ابنا عمر بن أوس.

ابن المستوفي الأربلي

مبارك بن أحمد بن مبارك ابن موهوب بن غنيمة بن غالب العلامة شرف الدين أبو البركات اللخمي الأربلي، كان إماما في علوم كثيرة كالحديث وأسماء الرجال والأدب والحساب، وله مصنفات كثيرة وفضائل غزيرة، وقد بسط ترجمته القاضي شمس الدين بن خلكان في الوفيات، فأجاد وأفاد. رحمهم الله.

ثم دخلت سنة إحدى وثلاثين وستمائة

فيها: كمل بناء المدرسة المستنصرية ببغداد ولم يبن مدرسة قبلها مثلها، ووقفت على المذاهب الأربعة من كل طائفة اثنان وستون فقيها، وأربعة معيدين، ومدرّس لكل مذهب، وشيخ حديث وقارئان وعشرة مستمعين، وشيخ طب، وعشرة من المسلمين يشتغلون بعلم الطب، ومكتب للأيتام وقدر للجميع من الخبز واللحم والحلوى والنفقة ما فيه كفاية وافرة لكل واحد.

ولما كان يوم الخميس خامس رجب حضرت الدروس بها وحضر الخليفة المستنصر بالله بنفسه الكريمة وأهل دولته من الأمراء والوزراء والقضاة والفقهاء والصوفية والشعراء، ولم يتخلف أحد من هؤلاء، وعمل سماط عظيم بها أكل منه الحاضرون، وحمل منه إلى سائر دروب بغداد من بيوتات الخواص والعوام، وخلع على جميع المدرسين بها والحاضرين فيها، وعلى جميع الدولة والفقهاء والمعيدين وكان يوما مشهودا.

وأنشدت الشعراء الخليفة المدائح الرائقة والقصائد الفائقة، وقد ذكر ذلك ابن الساعي في تاريخه مطولا مبسوطا شافيا كافيا، وقدر لتدريس الشافعية بها الإمام محي الدين أبو عبد الله بن فضلان.

وللحنفية الإمام العلامة رشيد الدين أبو حفص عمر بن محمد الفرغاني.

وللحنابلة الإمام العالم محي الدين يوسف بن الشيخ أبي الفرج ابن الجوزي، ودرس عنه يومئذ ابنه عبد الرحمن نيابة لغيبته في بعض الرسالات إلى الملوك، ودرس للمالكية ويومئذ الشيخ الصالح العالم أبو الحسن المغربي المالكي نيابة أيضا، حتى يعين شيخ غيره، ووقفت خزائن كتب لم يسمع بمثلها في كثرتها وحسن نسخها وجودة الكتب الموقوفة بها.

وكان المتولي لعمارة هذه المدرسة مؤيد الدين أبو طالب محمد بن العلقمي الذي وزر بعد ذلك، وقد كان إذ ذاك أستاذ دار الخلافة، وخلع عليه يومئذ وعلى الوزير نصير الدين.

ثم عزل مدرس الشافية في رابع عشر ذي القعدة بقاضي القضاة أبي المعالي عبد الرحمن بن مقبل، مضافا إلى ما بيده من القضاء، وذلك بعد وفاة محيي الدين بن فضلان، وقد ولي القضاء مدة ودرس بالنظامية وغيرها، ثم عزل ثم رضي عنه ثم درس آخر وقت بالمستنصرية كما ذكرنا، فلما توفي وليها بعده ابن مقبل رحمهم الله تعالى.

وفيها: عمر الأشرف مسجد جراح ظاهر باب الصغير.

وفيها: قدم رسول الأنبرور ملك الفرنج إلى الأشرف ومعه هدايا منها دب أبيض شعره مثل شعر الأسد، وذكروا أنه ينزل إلى البحر فيخرج السمك فيأكله.

وفيها: طاووس أبيض أيضا.

وفيها: كملت عمارة القيسارية التي هي قبل النحاسين، وحول إليها سوق الصاغة وشغر سوق اللؤلؤ الذي كان فيه الصاغة العتيقة عند الحدادين.

وفيها: جددت الدكاكين التي بالزيادة. قلت: وقد جددت شرقي هذه الصاغة الجديدة قيساريتان في زماننا وسكنها الصياغ وتجار الذهب، وهما حسنتان وجميعهما وقف الجامع المعمور.

وممن توفي في هذه السنة من الأعيان:

أبو الحسن علي بن أبي علي ابن محمد بن سالم الثعلبي

الشيخ سيف الدين الآمدي ثم الحموي ثم الدمشقي، صاحب المصنفات في الأصلين وغير ذلك، من ذلك: (أبكار الأفكار في الكلام)، و(دقائق الحقائق في الحكمة)، و(أحكام الأحكام في أصول الفقه)، وكان حنبلي المذهب فصار شافعيا أصوليا منطقيا جدليا خلافيا، وكان حسن الأخلاق سليم الصدر كثير البكاء رقيق القلب، وقد تكلموا فيه بأشياء الله أعلم بصحتها.

والذي يغلب على الظن أنه ليس لغالبها صحة، وقد كانت ملوك بني أيوب كالمعظم والكامل يكرمونه وإن كانوا لا يحبونه كثيرا، وقد فوض إليه المعظم تدريس العزيزية، فلما ولي الأشرف دمشق عزله عنها ونادى بالمدارس أن لا يشتغل أحد بغير التفسير والحديث والفقه، ومن اشتغل بعلوم الأوائل نفيته، فأقام الشيخ سيف الدين بمنزله إلى أن توفي بدمشق في هذه السنة في صفر، ودفن بتربته بسفح قاسيون.

وذكر القاضي ابن خلكان: أنه اشتغل ببغداد على أبي الفتح نصر بن فتيان بن المنى الحنبلي، ثم انتقل إلى مذهب الشافعي فأخذ عن ابن فضلان وغيره، وحفظ طريقة الخلاف للشريف وزوائد طريقة أسعد الميهني، ثم انتقل إلى الشام واشتغل بعلوم المعقول، ثم إلى الديار المصرية فأعاد بمدرسة الشافعية بالقرافة الصغرى، وتصدر بالجامع الظافري، واشتهر فضله وانتشرت فضائله، فحسده أقوام فسعوا فيه وكتبوا خطوطهم باتهامه بمذهب الأوائل والتعطيل والانحلال، فطلبوا من بعضهم أن يوافقهم فكتب:

حسدوا الفتى إذ لم ينالوا سعيه ** فالقوم أعداء له وخصوم

فانتقل سيف الدين إلى حماه ثم تحول إلى دمشق فدرس بالعزيزية، ثم عزل عنها ولزم بيته إلى أن مات في هذه السنة، وله ثمانون عاما رحمه الله تعالى وعفا عنه.

واقف الركنية الأمير ركن الدين منكورس الفلكي

غلام فلك الدين أخي الملك العادل، لأنه وقف الفلكية كما تقدم، وكان هذا الرجل من خيار الأمراء، ينزل في كل ليلة وقت السحر إلى الجامع وحده بطوافه ويواظب على حضور الصلوات فيه مع الجماعة، وكان قليل الكلام كثير الصدقات، وقد بنى المدرسة الركنية بسفح قاسيون، ووقف عليها أوقافا كثيرة وعمل عندها تربة، وحين توفي بقرية حدود حمل إليها رحمه الله تعالى.

الشيخ الإمام العالم رضي الدين

أبو سليمان بن المظفر بن غنائم الجيلي الشافعي، أحد فقهاء بغداد والمفتيين بها والمشغلين للطلبة مدة طويلة، له كتاب في المذهب نحو من خمسة عشر مجلدا، يحكى فيه الوجوه الغريبة والأقوال المستغربة وكان لطيفا ظريفا، توفي رحمه الله يوم الأربعاء ثالث ربيع الأول من هذه السنة ببغداد.

الشيخ طي المصري أقام مدة بالشام في زاوية له بدمشق، وكان لطيفا كيسا زاهدا، يتردد إليه الأكابر ودفن بزاويته المذكورة رحمه الله تعالى.

الشيخ عبد الله الأرمني

أحد العباد الزهاد الذين جابوا البلاد وسكنوا البراري والجبال والوهاد، واجتمعوا بالأقطاب والأبدال والأوتاد، وممن كانت له الأحوال والمكاشفات والمجاهدات والسياحات في سائر النواحي والجهات، وقد قرأ القرآن في بدايته وحفظ كتاب (القدوري على مذهب أبي حنيفة).

ثم اشتغل بالمعاملات والرياضات، ثم أقام آخر عمره بدمشق حتى مات بها ودفن بسفح قاسيون، وقد حكي عنه أشياء حسنة منها أنه قال: اجتزت مرة في السياحة ببلدة فطالبتني نفسي بدخولها فآليت أن لا أستطعم منها بطعام، ودخلتها فمررت برجل غسال فنظر إلى شزرا فخفت منه وخرجت من البلد هاربا، فلحقني ومعه طعام فقال: كل فقد خرجت من البلد، فقلت له: وأنت في هذا المقام وتغسل الثياب في الأسواق؟

فقال: لا ترفع رأسك ولا تنظر إلي شيء من عملك، وكن عبدا الله فإن استعملك في الحش فارض به، ثم قال رحمه الله.

ولو قيل لي مت قلت سمعا وطاعةً ** وقلت لداعي الموت أهلا ومرحبا

وقال اجتزت مرة في سياحتي براهب في صومعة فقال لي: يا مسلم ما أقرب الطرق عندكم إلى الله عز وجل؟

قلت: مخالفة النفس، قال: فرد رأسه إلى صومعته، فلما كنت بمكة زمن الحج إذا رجل يسلم علي عند الكعبة فقلت: من أنت؟

فقال: أنا الراهب، قلت: بم وصلت إلى هاهنا؟ قال: بالذي قلت.

وفي رواية عرضت الإسلام على نفسي فأبت، فعلمت أنه حق فأسلمت وخالفتها، فأفلح وأنجح.

وقال: بينا أنا ذات يوم بجبل لبنان إذا حرامية الفرنج فأخذوني فقيدوني وشدوا وثاقي فكنت عندهم في أضيق حال، فلما كان النهار شربوا وناموا، فبينا أنا موثوق إذا حرامية المسلمين قد أقبلوا نحوهم فأنبهتهم فلجأوا إلى مغارة هنالك فسلموا من أولئك المسلمين، فقالوا: كيف فعلت هذا وقد كان خلاصك على أيديهم؟

فقلت: إنك أطعمتموني فكان من حق الصحبة أن لا أغشكم، فعرضوا علي شيئا من متاع الدنيا فأبيت وأطلقوني.

وحكى السبط قال: زرته مرة ببيت المقدس وكنت قد أكلت سمكا مالحا، فلما جلست عنده أخذني عطش جدا وإلى جانبه إبريق فيه ماء بارد فجعلت أستحيي منه، فمد يده إلى الإبريق وقد أحمر وجهه وناولني، وقال خذ كم تكاسر، فشربت.

وذكر أنه لما ارتحل من بيت المقدس كان سورها بعد قائما جديدا على عمارة الملك صلاح الدين قبل أن يخربه المعظم، فوقف لأصحابه يودعهم ونظر إلى السور، وقال: كأني بالمعاول وهي تعمل في هذا السور عما قريب، فقيل له معاول المسلمين أو الفرنج؟ فقال: بل معاول المسلمين، فكان كما قال.

وقد ذكرت له أحوال كثيرة حسنة، ويقال إن أصله أرمني وإنه أسلم على يدي الشيخ عبد الله اليونيني، وقيل بل أصله رومي من قونية، وأنه قدم على الشيخ عبد الله اليونيني وعليه برنس كبرانس الرهبان، فقال له: أسلم فقال: أسلمت لرب العالمين.

وقد كانت أمه داية امرأة الخليفة، وقد جرت له كائنة غريبة فسلمه الله بسبب ذلك، وعرفه الخليفة فأطلقه.

ثم دخلت سنة اثنتين وثلاثين وستمائة

فيها: خرب الملك الأشرف بن العادل خان الزنجاري الذي كان بالعقبية فيه خواطئ وخمور ومنكرات متعددة، فهدمه وأمر بعمارة جامع مكانه سمى جامع التوبة، تقبل الله تعالى منه.

وفيها توفي القاضي بهاء الدين يوسف بن رافع بن تميم بن شداد الحلبي

أحد رؤسائها من بيت العلم والسيادة، له علم بالتواريخ وأيام الناس وغير ذلك، وقد سمع الكثير وحدث، والشيخ شهاب الدين عبد السلام بن المطهر بن عبد الله بن محمد بن عصرون الحلبي أيضا، كان فقيها زاهدا عابدا كانت له نحو من عشرين سرية، وكان شيخا يكثر من الجماع، فاعترته أمراض مختلفة فأتلفته ومات بدمشق ودفن بقاسيون، وهو والد قطب الدين وتاج الدين، والشيخ الإمام العالم صائن الدين أبو محمد عبد العزيز الجبلي الشافعي أحد الفقهاء المفتيين المشتغلين بالمدرسة النظامية ببغداد، وله شرح على التنبيه للشيخ أبي إسحاق، توفي في ربيع الأول رحمه الله تعالى.

والشيخ الإمام العالم الخطيب الأديب

أبو محمد حمد بن حميد بن محمود بن حميد بن أبي الحسن بن أبي الفرج بن مفتاح التميمي الدينوري، الخطيب بها والمفتي لأهلها، الفقيه الشافعي، تفقه ببغداد بالنظامية، ثم عاد إلى بلده المشار إليها، وقد صنف كتبا. وأنشد عنه ابن الساعي سماعا منه:

روت لي أحاديث الغرام صبابتي ** بإسنادها عن بانة العلم الفرد

وحدثني مر النسيم عن الحمى ** عن الدوح عن وادي الغضا عن ربا نجد

بان غرامي والأسى قد تلازما ** فلن يبرحا حتى أوسد في لحدي

وقد أرخ أبو شامة في الذيل وفاة الشهاب السهروردي صاحب (عوارف المعارف) في هذه السنة، وذكر أن مولده في سنة تسع وثلاثين وخمسمائة، وأنه جاوز التسعين.

وأما السبط فإنما أرخ وفاته في سنة ثلاثين كما تقدم.

قاضي القضاة بحلب أبو المحاسن يوسف بن رافع بن تميم بن عتبة بن محمد الأسدي الموصلي الشافعي

كان رجلا فاضلا أديبا مقرئا ذا وجاهة عند الملوك، أقام بحلب وولي القضاء بها، وله تصانيف وشعر، توفي في هذه السنة رحمه الله تعالى.

ابن الفارض

ناظم التائية في السلوك على طريقة المتصوفة المنسوبين إلى الاتحاد، هو أبو حفص عمر بن أبي الحسن علي بن المرشد بن علي، الحموي الأصل، المصري المولد والدار والوفاة، وكان أبوه يكتب فروض النساء والرجال، وقد تكلم فيه غير واحد من مشايخنا بسبب قصيدته المشار إليها، وقد ذكره شيخنا أبو عبد الله الذهبي في (ميزانه) وحط عليه. مات في هذه السنة وقد قارب السبعين.

ثم دخلت سنة ثلاث وثلاثين وستمائة

فيها: قطع الكامل وأخوه الأشرف الفرات وأصلحا ما كان أفسده جيش الروم من بلادهما، وخرب الكامل قلعة الرها وأحل بدنيسر بأسا شديدا، وجاء كتاب بدر الدين صاحب الموصل بأن الروم أقبلوا بمائة طلب كل طلب بخمسمائة فارس، فرجع الملكان إلى دمشق سريعا وعاد جيش الروم إلى بلادهما بالجزيرة وأعادوا الحصار كما كان، ورجعت التتار عامهم ذلك إلى بلادهم والله تعالى أعلم.

من الأعيان والمشاهير: ابن عنين الشاعر وقد تقدمت ترجمته في سنة ثلاثين.

الحاجري الشاعر

صاحب الديوان المشهور، وهو عيسى بن سنجر بن بهرام بن جبريل بن خمارتكين بن طاشتكين الأربلي شاعر مطبق، ترجمه ابن خلكان وذكر أشياء من شعره كثيرة، وذكر أنه كان صاحبهم وأنه كتب إليه أخيه ضياء الدين عيسى يستوحش منه:

الله يعلم ما أبقى سوى رمق ** مني فراقك يا من قربة الأمل

فابعث كتابك واستودعه تعزية ** فربما مت شوقا قبل ما يصل

وذكر له في الخال رحمه الله تعالى:

ومهفهف من شعره وجبينه ** أمسى الورى في ظلمة وضياء

لا تنكروا الخال الذي في خده ** كل الشقيق بنطقة سوداء

ابن دحية

أبو الخطاب عمر بن الحسن بن علي بن محمد بن فرج بن خلف بن قومس بن مزلال بن بلال بن بدر بن أحمد بن دحية بن خليفة الكلبي الحافظ، شيخ الديار المصرية في الحديث، وهو أول من باشر مشيخة دار الحديث الكاملية بها.

قال السبط: وقد كان كابن عنين في ثلب المسلمين والوقيعة فيهم، ويتزيد في كلامه فترك الناس الرواية عنه وكذبوه، وقد كان الكامل مقبلا عليه، فلما انكشف له حاله أخذ منه دار الحديث وأهانه، توفي في ربيع الأول بالقاهرة ودفن بقرافة مصر.

وقد قال الشيخ شهاب الدين أبو شامة: وللشيخ السخاوي فيه أبيات حسنة.

وقال القاضي ابن خلكان: بعد سياق نسبه كما تقدم، وذكر أنه كتبه من خطه، قال: وذكر أن أمه أمة الرحمن بنت أبي عبد الله بن أبي البسام موسى بن عبد الله بن الحسين بن جعفر بن علي بن محمد بن علي بن موسى بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب، فلهذا كان يكتب بخطه ذو النسبين ابن دحية ابن الحسن والحسين.

قال ابن خلكان: وكان من أعيان العلماء ومشاهير الفضلاء متقنا لعلم الحديث وما يتعلق به، عارفا بالنحو واللغة وأيام العرب وأشعارها اشتغل ببلاد المغرب ثم رحل إلى الشام، ثم إلى العراق واجتاز بإربل سنة أربع وستمائة، فوجد ملكها المعظم مظفر الدين بن زين الدين يعتني بالمولد النبوي، فعمل له كتاب (التنوير في مولد السراج المنير) وقرأه عليه بنفسه، فأجازه بألف دينار.

قال: وقد سمعناه على الملك المعظم في ستة مجالس في سنة ست وعشرين وستمائة، قلت: وقد وقفت على هذا الكتاب وكتبت منه أشياء حسنة مفيدة.

قال ابن خلكان: وكان مولده في سنة أربع وأربعين وخمسمائة، وقيل ست أو تسع وأربعين وخمسمائة، وتوفي في هذه السنة، وكان أخوه أبو عمرو عثمان قد باشر بعده دار الحديث الكاملية بمصر، وتوفي بعده بسنة.

قلت: وقد تكلم الناس فيه بأنواع من الكلام، ونسبه بعضهم إلى وضع حديث في قصر صلاة المغرب، وكنت أود أن أقف على إسناده لنعلم كيف رجاله، وقد أجمع العلماء كما ذكره ابن المنذر وغيره على أن المغرب لا يقصر، والله سبحانه وتعالى يتجاوز عنا وعنه بمنه وكرمه.

ثم دخلت سنة أربع وثلاثين وستمائة

فيها: حاصرت التتار إربل بالمجانيف ونقبوا الأسوار حتى فتحوها عنوة فقتلوا أهلها وسبوا ذراريهم، وامتنعت عليهم القلعة مدة.

وفيها: النائب من جهة الخليفة، فدخل فصل الشتاء فأقلعوا عنها وانشمروا إلى بلادهم، وقيل إن الخليفة جهز لهم جيشا فانهزم التتار.

وفيها: استخدم الصالح أيوب بن الكامل صاحب حصن كيفا الخوارزمية الذين تبقوا من جيش جلال الدين وانفصلوا عن الرومي، فقوي جأش الصالح أيوب.

وفيها: طلب الأشرف موسى بن العادل من أخيه الكامل الرقة لتكون قوة له وعلفا لدوابه إذا جاز الفرات مع أخيه في البواكير، فقال الكامل: أما يكفيه أن معه دمشق مملكة بني أمية؟ فأرسل الأشرف الأمير فلك الدين بن المسيري إلى الكامل في ذلك، فأغلظ له الجواب، وقال: إيش يعمل بالملك؟ يكفيه عشرته للمغاني وتعلمه لصناعتهم.

فغضب الأشرف لذلك وبدت الوحشة بنيهما، وأرسل الأشرف إلى حماه وحلب وبلاد الشرق مخالف أولئك الملوك على أخيه الكامل، فلو طال عمر الأشرف لأفسد الملك على أخيه، وذلك لكثرة ميل الملوك إليه لكرمه وشجاعته وشح أخيه الكامل، ولكنه أدركته منيته في أول السنة الداخلة رحمه الله تعالى.

من الأعيان:

الملك العزيز الظاهر صاحب حلب

محمد بن السلطان الملك الظاهر غياث الدين غازي بن الملك الناصر صلاح الدين فاتح القدس الشريف، وهو وأبوه وابنه الناصر أصحاب ملك حلب من أيام الناصر، وكانت أم العزيز الخاتون بنت الملك العادل أبي بكر بن أيوب، وكان حسن الصورة كريما عفيفا، توفي وله من العمر أربع وعشرون سنة، وكان مدبر دولته الطواشي شهاب الدين، وكان من الأمراء رحمه الله تعالى.

وقام في الملك بعده ولده الناصر صلاح الدين يوسف، والله سبحانه وتعالى أعلم.

صاحب الروم كيقباذ الملك علاء الدين

صاحب بلاد الروم، كان من أكابر الملوك وأحسنهم سيرة، وقد زوجه العادل ابنته وأولدها، وقد استولى على بلاد الجزيرة في وقت وأخذ أكثرها من يد الكامل محمد، وكسر الخوارزمية مع الأشرف موسى رحمهما الله.

الناصح الحنبلي

في ثالث المحرم توفي الشيخ ناصح الدين عبد الرحمن بن نجم بن عبد الوهاب بن الشيخ أبي الفرج الشيرازي، وهم ينتسبون إلى سعد بن عبادة رضي الله عنه، ولد الناصح سنة أربع وخمسين وخمسمائة، وقرأ القرآن وسمع الحديث، وكان يعظ في بعض الأحيان. وقد ذكرنا قبل أنه وعظ في حياة الشيخ الحافظ عبد الغني، وهو أول من درس بالصالحية التي بالجبل، وله بنيت، وله مصنفات. وقد اشتغل علي ابن المنى البغدادي، وكان فاضلا صالحا، وكان وفاته بالصالحية ودفن هناك رحمه الله.

الكمال بن المهاجر

التاجر كان كثير الصدقات والإحسان إلى الناس، مات فجأة في جمادى الأولى بدمشق فدفن بقاسيون، واستحوذ الأشرف على أمواله، فبلغت التركة قريبا من ثلاثمائة ألف دينار، من ذلك سبحة فيها مائة حبة لؤلؤ، كل واحدة مثل بيضة الحمامة.

الشيخ الحافظ أبو عمرو عثمان بن دحية

أخو الحافظ أبي الخطاب بن دحية، كان قد ولي دار الحديث الكاملية حين عزل أخوه عنها حتى توفي في عامه هذا، وكان ندر في صناعة الحديث أيضا رحمه الله تعالى.

القاضي عبد الرحمن التكريتي الحاكم بالكرك

ومدرس مدرسة الزبداني، فلما أخذت أوقافها سار إلى القدس ثم إلى دمشق، فكان ينوب بها عن القضاة، وكان فاضلا نزها عفيفا دينا رحمه الله تعالى ورضى عنه.

ثم دخلت سنة خمس وثلاثين وستمائة

فيها: كانت وفاة الأشرف ثم أخوه الكامل، أما الأشرف موسى بن العادل باني دار الحديث الأشرفية وجامع التوبة وجامع جراح، فإنه توفي في يوم الخميس رابع المحرم من هذه السنة، بالقلعة المنصورة، ودفن بها حتى نجزت تربته التي بنيت له شمالي الكلاسة، ثم حول إليها رحمه الله تعالى، في جمادى الأولى.

وقد كان ابتداء مرضه في رجب من السنة الماضية، واختلفت عليه الأدواء حتى كان الجرائحي يخرج العظام من رأسه وهو يسبح الله عز وجل، فلما كان آخر السنة تزايد به المرض واعتراه إسهال مفرط فخارت قوته فشرع في التهيؤ للقاء الله عز وجل، فأعتق مائتي غلام وجارية، ووقف دار فروخشاه التي يقال لها دار السعادة، وبستانه بالنيرب على ابنيه، وتصدق بأموال جزيلة، وأحضر له كفنا كان قد أعده من ملابس الفقراء والمشايخ الذين لقيهم من الصالحين.

وقد كان رحمه الله تعالى شهما شجاعا كريما جوادا لأهل العلم، لا سيما أهل الحديث، ومقاربيته الصالحة، وقد بنى لهم دار حديث بالسفح وبالمدينة للشافعية أخرى، وجعل فيها نعل النبي الذي ما زال حريصا على طلبه من النظام ابن أبي الحديد التاجر، وقد كان النظام ضنينا به فعزم الأشرف أن يأخذ منه قطعة، ثم ترك ذلك خوفا من أن يذهب بالكلية، فقدر الله موت ابن أبي الحديد بدمشق فأوصى للملك الأشرف، به فجعله الأشرف بدار الحديث، ونقل إليها كتبا سنية نفيسة، وبنى جامع التوبة بالعقبية، وقد كان خانا للزنجاري فيه من المنكرات شيء كثير، وبنى مسجد القصب وجامع جراح ومسجد دار السعادة، وقد كان مولده في سنة ست وسبعين وخمسمائة، ونشأ بالقدس الشريف بكفالة الأمير فخر الدين عثمان الزنجاري، وكان أبوه يحبه وكذلك أخوه المعظم ثم استنابه أبوه على مدن كثيرة بالجزيرة منها الرها وحران.

ثم اتسعت مملكته حين ملك خلاط، وكان من أعف الناس وأحسنهم سيرة وسريرة، لا يعرف غير نسائه وسراريه، مع أنه قد كان يعاني الشراب، وهذا من أعجب الأمور.

حكى السبط عنه قال: كنت يوما بهذه المنظرة من خلاط إذ دخل الخادم فقال: بالباب امرأة تستأذن، فدخلت فإذا صورة لم أر أحسن منها، وإذا هي ابنة الملك الذي كان بخلاط قبلي، فذكرت أن الحاجب عليّ قد استحوذ على قرية لها، وأنها قد احتاجت إلى بيوت الكرى، وأنها إنما تتقوت من عمل النقوش للنساء، فأمرت برد ضيعتها إليها وأمرت لها بدار تسكنها، وقد كنت قمت لها حين دخلت وأجلستها بين يدي وأمرتها بستر وجهها حين أسفرت عنه، ومعها عجوز، فحين قضت شغلها قلت لها انهضي على اسم الله تعالى.

فقالت العجوز: يا خوند إنما جاءت لتحظى بخدمتك هذه الليلة، فقلت: معاذ الله لا يكون هذا، واستحضرت في ذهني ابنتي ربما يصيبها نظير ما أصاب هذه، فقامت وهي تقول بالأرمني: سترك الله مثل ما سترتني، وقلت لها: مهما كان من حاجة فأنهيها إلى أقضها لك، فدعت لي وانصرفت، فقالت لي: نفسي في الحلال مندوحة عن الحرام، فتزوجها، فقلت: لا والله لا كان هذا أبدا أين الحياء والكرم والمروءة؟

قال ومات مملوك من مماليكي وترك ولدا ليس يكون في الناس بتلك البلاد أحسن شبابا، ولا أحلى شكلا منه، فأحببته وقربته، وكان من لا يفهم أمري يتهمني به، فاتفق أنه عدا على إنسان فضربه حتى قتله، فاشتكى عليه إلي أولياء المقتول، فقلت أثبتوا أنه قتله، فأثبتوا ذلك فحاجفت عنه مماليكي وأرادوا إرضاءهم بعشر ديات فلم يقبلوا، ووقفوا لي في الطريق وقالوا: قد أثبتنا أنه قتله فقلت خذوه فتسلموه فقتلوه، ولو طلبوا مني ملكي فداء له لدفعته إليهم، ولكن استحيت من الله أن أعارض شرعه بحظ نفسي رحمه الله تعالى وعفا عنه.

ولما ملك دمشق في سنة ست وعشرين وستمائة نادى مناديه فيها أن لا يشتغل أحد من الفقهاء بشيء من العلوم سوى التفسير والحديث والفقه، ومن اشتغل بالمنطق وعلوم الأوائل نفي من البلد. وكان البلد به في غاية الأمن والعدل، وكثرة الصدقات والخيرات كانت القلعة لا تغلق في ليالي رمضان كلها وصحون الحلاوات خارجة منها إلى الجامع والخوانق والربط، والصالحية وإلى الصالحين والفقراء والرؤساء وغيرهم.

وكان أكثر جلوسه بمسجد أبي الدرداء الذي جدده وزخرفه بالقلعة، وكان ميمون النقيبة ما كسرت له راية قط، وقد استدعى الزبيدي من بغداد حتى سمع هو والناس عليه صحيح البخاري وغيره، وكان له ميل إلى الحديث وأهله، ولما توفي رحمه الله رآه بعض الناس وعليه ثياب خضر وهو يطير مع جماعة من الصالحين، فقال: ما هذا وقد كنت تعاني الشراب في الدنيا؟ فقال: ذاك البدن الذي كنا نفعل به ذاك عندكم، وهذه الروح التي كنا نحب بها هؤلاء فهي معهم، ولقد صدق رحمه الله، قال رسول الله : «المرء مع من أحب».

وقد كان أوصى بالملك من بعده لأخيه الصالح إسماعيل، فلما توفي أخوه ركب في أبهة الملك ومشى الناس بين يديه، وركب إلى جانبه صاحب حمص وعز الدين أيبك المعظمي حامل الغاشية على رأسه، ثم إنه صادر جماعة من الدماشقة الذين قيل عنهم إنهم مع الكامل، منهم العالم تعاسيف وأولاد ابن مزهر وحبسهم ببصرى، وأطلق الحريري من قلعة عزاز، وشرط عليه أن لا يدخل دمشق، ثم قدم الكامل من مصر وانضاف إليه الناصر داود صاحب الكرك ونابلس والقدس، فحاصروا دمشق حصارا شديدا، وقد حصنها الصالح إسماعيل وقطع المياه ورد الكامل ماء بردى إلى ثورا، وأحرقت العقبية وقصر حجاج، فافتقر خلق كثير واحترق آخرون، وجرت خطوب طويلة، ثم آل الحال في آخر جمادى الأولى إلى أن سلم الصالح إسماعيل دمشق إلى أخيه الكامل، على أن له بعلبك وبصرى، وسكن الأمر، وكان الصلح بينهما على يدي القاضي محيي الدين يوسف بن الشيخ أبي الفرج بن الجوزي، اتفق أنه كان بدمشق قد قدم في رسلية من جهة الخليفة إلى دمشق فجزاه الله تعالى خيرا.

ودخل الكامل دمشق وأطلق الفلك بن المسيري من سجن الحيات بالقلعة الذي كان أودعه فيه الأشرف، ونقل الأشرف إلى تربته، وأمر الكامل في يوم الاثنين سادس جمادى الآخرة أئمة الجامع أن لا يصلي أحد منهم المغرب سوى الإمام الكبير، لما كان يقع من التشويش والاختلاف بسبب اجتماعهم في وقت واحد، ولنعم ما فعل رحمه الله. وقد فعل هذا في زماننا في صلاة التراويح، اجتمع الناس على قارئ واحد وهو الإمام الكبير في المحراب المقدم، عند المنبر ولم يبق به إمام يومئذ سوى الذي بالحلبية عند مشهد علي ولو ترك لكان حسنا والله أعلم.

ذكر وفاة الملك الكامل محمد بن العادل رحمه الله تعالى

تملك الكامل دمشق مدة شهرين ثم أخذه أمراض مختلفة، من ذلك سعال وإسهال ونزلة في حلقه، ونقرس في رجليه، فاتفق موته في بيت صغير من دار القصبة، وهو البيت الذي توفي فيه عمه الملك الناصر صلاح الدين، ولم يكن عند الكامل أحد عند موته من شدة هيبته، بل دخلوا فوجوده ميتا رحمه الله تعالى.

وقد كان مولده في سنة ست وسبعين وخمسمائة، وكان أكبر أولاد العادل بعد مودود، وإليه أوصى العادل لعلمه بشأنه وكمال عقله، وتوفر معرفته، وقد كان جيد الفهم يحب العلماء، ويسألهم أسئلة مشكلة، وله كلام جيد على صحيح مسلم وكان ذكيا مهيبا ذا بأس شديد، عادل منصف له حرمة وافرة، وسطوة قوية، ملك مصر ثلاثين سنة، وكانت الطرقات في زمانه آمنة، والرعايا متناصفة، لا يتجاسر أحد أن يظلم أحدا شنق جماعة من الأجناد أخذوا شعيرا لبعض الفلاحين بأرض آمد، واشتكى إليه بعض الركبدارية، أن أستاذه استعمله ستة أشهر بلا أجرة فأحضر الجندي وألبسه قباب الركبدارية، وألبس الركبداري ثياب الجندي، وأمر الجندي أن يخدم الركبدار ستة أشهر على هذه الهيئة، ويحضر الركبدار الموكب والخدمة حتى ينقضي الأجل فتأدب الناس بذلك غاية الأدب.

وكانت له اليد البيضاء في رد ثغر دمياط إلى المسلمين بعد أن استحوذ عليه الفرنج لعنهم الله، فرابطهم أربع سنين حتى استنقذه منهم، وكان يوم أخذه له واسترجاعه إياه يوما مشهودا، كما ذكرنا مفصلا رحمه الله تعالى. وكانت وفاته في ليلة الخميس الثاني والعشرين من رجب من هذه السنة، ودفن بالقلعة حتى كملت تربته التي بالحائط الشمالي من الجامع ذات الشباك الذي هناك قريبا من مقصورة ابن سنان، وهي الكندية التي عند الحلبية.

نقل إليها ليلة الجمعة الحادي والعشرين من رمضان من هذه السنة، ومن شعره يستحث أخاه الأشرف من بلاد الجزيرة حين كان محاصرا بدمياط:

يا مسعفي إن كنت حقا مسعفي ** فارحل بغير تقيد وتوقف

واطو المنازل والديار ولا تنخ ** إلا على باب المليك الأشرف

قبل يديه لا عدمت وقل له: ** عني بحسن تعطف وتلطف

إن مات صنوك عن قريب تلقه ** ما بين حد مهند ومثقف

أو تبط عن إنجاده فلقاؤه ** يوم القيامة في عراص الموقف

ذكر ما جرى بعده

كان قد عهد لولده العادل وكان صغيرا بالديار المصرية، وبالبلاد الدمشقية، وولده الصالح أيوب ببلاد الجزيرة، فأمضى الأمراء ذلك، فأما دمشق فاختلف الأمراء بها في الملك الناصر داود بن المعظم، والملك الجواد مظفر الدين يونس بن مودود بن الملك العادل، فكان ميل عماد الدين ابن الشيخ إلى الجواد، وآخرون إلى الناصر.

وكان نازلا بدار أسامة، فانتظم أمر الجواد وجاءت الرسالة إلى الناصر أن أخرج من البلد، فركب من دار أسامة والعامة وراءه إلى القلعة لا يشكون في ولايته الملك، فسلك نحو القلعة فلما جاوز العمادية عطف برأس فرسه نحو باب الفرج، فصرخت العامة: لا لا لا، فسار حتى نزل القابون عند وطأة برزة.

فعزم بعض الأمراء الأشرفية على مسكه، فساق فبات بقصر أم حكيم، وساقوا وراءه فتقدم إلى عجلون فتحصن بها وأمن.

وأما الجواد

فإنه ركب في أبهة الملك وأنفق الأموال والخلع على الأمراء.

قال السبط: فرق ستة آلاف ألف دينار وخمسة آلاف خلعة، وأبطل المكوس والخمور، ونفى الخواطيء واستقر ملكه بدمشق، واجتمع عليه الأمراء الشاميون والمصريون، ورحل الناصر داود من عجلون نحو غزة وبلاد الساحل فاستحوذ عليها، فركب الجواد في طلبه ومعه العساكر الشامية والمصرية.

وقال للأشرفية: كاتبوه وأطمعوه، فلما وصلت إليه كتبهم طمع في موافقتهم، فرجع في سبعمائة راكب إلى نابلس، فقصده الجواد وهو نازل على جيتين، والناصر على سبسطية، فهرب منه الناصر فاستحوذوا على حواصله وأثقاله، فاستغنوا بها وافتقر بسببها فقرا مدقعا، ورجع الناصر إلى الكرك جريدة قد سلب أمواله وأثقاله، وعاد الجواد إلى دمشق مؤيدا منصورا.

وفيها: اختلفت الخوارزمية على الملك الصالح نجم الدين أيوب بن الكامل صاحب كيفا، وتلك النواحي، وعزموا على القبض عليه، فهرب منهم ونهبوا أمواله وأثقاله، ولجأ إلى سنجار فقصده بدر الدين لؤلؤ صاحب الموصل ليحاصره ويأخذه في قفص إلى الخليفة، وكان أهل تلك الناحية يكرهون مجاورته لتكبره وقوة سطوته، فلم يبق إلى أخذه إلا القليل، فكاتب الخوارزمية واستنجد بهم ووعدهم بأشياء كثيرة.

فقدموا إليه جرائد ليمنعوه من البدر لؤلؤ، فلما أحس بهم لؤلؤ هرب منهم فاستحوذوا على أمواله وأثقاله، فوجدوا فيها شيئا كثيرا لا يحد ولا يوصف، ورجع إلى بلده الموصل جريدة خائبا، وسلم الصالح أيوب مما كان فيه من الشدة.

من الأعيان:

محمد بن زيد ابن ياسين الخطيب جمال الدين الدولعي

نسبة إلى قرية بأصل الموصل، وقد ذكرنا ذلك عند ترجمة عمه عبد الملك بن ياسين الخطيب بدمشق أيضا.

وكان مدرسا بالغزالية مع الخطابة، وقد منعه المعظم في وقت عن الإفتاء فعاتبه السبط في ذلك، فاعتذر بأن شيوخ بلده هم الذين أشاروا عليه بذلك، لكثرة خطئه في فتاويه، وقد كان شديد المواظبة على الوظيفة حتى كاد أن لا يفارق بيت الخطابة، ولم يحج قط مع أنه كانت له أموال جزيلة.

وقف مدرسة بجيرون وسبعا في الجامع.

ولما توفي ودفن بمدرسته التي بجيرون ولي الخطابة بعده أخ له وكان جاهلا، ولم يستقر فيها وتولاها الكمال بن عمر بن أحمد بن هبة الله بن طلحة النصيبي، وولي تدريس الغزالية الشيخ عبد العزيز بن عبد السلام.

محمد بن هبة الله بن جميل

الشيخ أبو نصر بن الشيرازي ولد سنة تسع وأربعين وخمسمائة، وسمع الكثير على الحافظ ابن عساكر وغيره، واشتغل في الفقه وأفتى ودرس بالشامية البرانية، وناب في الحكم عدة سنين، وكان فقيها عالما فاضلا ذكيا حسن الأخلاق عارفا بالأخبار وأيام العرب والأشعار، كريم الطباع حميد الآثار، وكانت وفاته يوم الخميس الثالث من جمادى الآخرة، ودفن بقاسيون رحمه الله تعالى.

القاضي شمس الدين يحيى بن بركات

ابن هبة الله بن الحسن الدمشقي قاضيها بن سنا الدولة، كان عالما عفيفا فاضلا عادلا منصفا نزها كان الملك الأشرف يقول: ما ولي دمشق مثله، وقد ولي الحكم ببلده المقدس وناب بدمشق عن القضاة، ثم استقل بالحكم، وكانت وفاته يوم الأحد السادس ذي القعدة، وصلّي عليه بالجامع ودفن بقاسيون، وتأسف الناس عليه رحمه الله تعالى. وتوفي بعده:

الشيخ شمس الدين بن الحوبي

القاضي زين الدين عبد الله بن عبد الرحمن بن عبد الله بن علوان الأسدي، عرف بابن الأستاذ الحلبي قاضيها بعد بهاء الدين بن شداد، وكان رئيسا عالما عارفا فاضلا، حسن الخلق والسمت، وكان أبوه من الصالحين الكبار رحمهم الله تعالى.

الشيخ الصالح المعمر

أبو بكر محمد بن مسعود بن بهروز البغدادي، ظهر سماعه من أبي الوقت في سنة خمس عشرة وستمائة فانهال الناس عليه يسمعون منه، وتفرد بالرواية عنه في الدنيا بعد الزبيدي وغيره، توفي ليلة السبت التاسع والعشرين من شعبان رحمه الله تعالى.

الأمير الكبير المجاهد المرابط صارم الدين

خطلبا بن عبد الله مملوك شركس ونائبه بعده مع ولده على تنين وتلك الحصون، وكان كثير الصدقات، ودفن مع أستاذه بقباب شركس، وهو الذي بناها بعد أستاذه، وكان خيرا قليل الكلام كثير الغزو مرابطا مدة سنين رحمه الله تعالى وعفا عنه بمنه كرمه.

ثم دخلت سنة ست وثلاثين وستمائة

فيها: قضى الملك الجواد على الصفي بن مرزوق وصادره بأربعمائة ألف دينار، وحبسه بقلعة حمص، فمكث ثلاث سنين لا يرى الضوء.

وكان ابن مرزوق محسنا إلى الجواد قبل ذلك إحسانا كثيرا.

وسلط الجواد خادما لزوجته يقال له الناصح فصادر الدماشقة وأخذ منهم نحوا من ستمائة ألف دينار، ومسك الأمير عماد الدين بن الشيخ الذي كان سبب تمليكه دمشق، ثم خاف من أخيه فخر الدين بن الشيخ الذي بديار مصر، وقلق من ملك دمشق.

وقال: إيش أعمل بالملك؟ باز وكلب أحب إلي من هذا.

ثم خرج إلى الصيد وكاتب الصالح نجم الدين أيوب بن الكامل، فتقايضا من حصن كيفا وسنجار وما تبع ذلك إلى دمشق، فملك الصالح دمشق ودخلها في مستهل جمادى الأولى من هذه السنة، والجواد بين يديه بالغاشية، وندم على ما كان منه، فأراد أن يستدرك الفائت فلم يتفق له، وخرج من دمشق والناس يلعنونه بوجهه، بسبب ما أسداه إليهم من المصادرات، وأرسل إليه الصالح أيوب ليرد إلى الناس أموالهم فلم يلتفت إليه، وسار وبقيت في ذمته.

ولما استقر الصالح أيوب في ملك مصر كما سيأتي حبس الناصح الخادم، فمات في أسوأ حالة، من القلة والقمل، جزاءً وفاقا { وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ } 17.

وفيها: ركب الصالح أيوب من دمشق في رمضان قاصدا الديار المصرية ليأخذها من أخيه العادل لصغره، فنزل بنابلس واستولى عليها وأخرجها من يد الناصر داود، وأرسل إلى عمه الصالح إسماعيل صاحب بعلبك ليقدم عليه ليكون في صحبته إلى الديار المصرية، وكان قد جاء إليه إلى دمشق ليبايعه فجعل يسوف به ويعمل عليه ويحالف الأمراء بدمشق ليكون ملكهم، ولا يتجاسر أحد من الصالح أيوب لجبروته أن يخبره بذلك.

وانقضت السنة وهو مقيم بنابلس يستعدي إليه وهو يماطله.

من الأعيان:

جمال الدين الحصيري الحنفي

محمود بن أحمد العلامة شيخ الحنفية بدمشق، ومدرس النورية، أصله من قرية يقال لها حصير من معاملة بخارى، تفقه بها وسمع الحديث الكثير، وصار إلى دمشق فانتهت إليه رياسة الحنفية بها، لا سيما في أيام المعظم، كان يقرأ عليه الجامع الكبير، وله عليه شرح، وكان يحترمه ويعظمه ويكرمه، وكان رحمه الله غزير الدمعة كثير الصدقات، عاقلا نزها عفيفا، توفي يوم الأحد ثامن صفر ودفن بمقابر الصوفية تغمده الله برحمته.

توفي وله تسعون سنة، وأول درسة بالنورية في سنة إحدى عشر وستمائة، بعد الشرف داود الذي تولاها بعد البرهان مسعود، وأول مدرسيها رحمهم الله تعالى الأمير عماد الدين عمر بن شيخ الشيوخ صدر الدين على بن حمويه، كان سببا في ولاية الجواد دمشق.

ثم سار إلى مصر فلامه صاحبها العادل بن الكامل بن العادل.

فقال: الآن أرجع إلى دمشق وآمر الجواد بالمسير إليك، على أن تكون له إسكندرية عوض دمشق، فإن امتنع عزلته عنها وكنت أنا نائبك فيها، فنهاه أخوه فخر الدين بن الشيخ عن تعاطي ذلك فلم يقبل، ورجع إلى دمشق فتلقاه الجواد إلى المصلى وأنزله عنده بالقلعة بدار المسرة.

وخادعه عن نفسه ثم دس إليه من قتله جهرة في صورة مستغيث به، واستحوذ على أمواله وحواصله، وكانت له جنازة حافلة ودفن بقاسيون.

الوزير جمال الدين علي بن حديد

وزر للأشرف واستوزره الصالح أيوب أياما، ثم مات عقب ذلك، كان أصله من الرقة، وكان له أملاك يسيرة يعيش منها.

ثم آل أمره أن وزر للأشرف بدمشق، وقد هجاه بعضهم وكانت وفاته بالجواليق في جمادى الآخرة، ودفن بمقابر الصوفية.

جعفر بن علي ابن أبي البركات بن جعفر بن يحيى الهمداني

راوية السلفي، قدم إلى دمشق صحبة الناصر داود، وسمع عليه أهلها، وكانت وفاته بها ودفن بمقابر الصوفية رحمه الله تعالى، وله تسعون سنة.

الحافظ الكبير زكي الدين أبو عبد الله بن محمد بن يوسف بن محمد البرزالي الإشبيلي

أحد من اعتنى بصناعة الحديث وبرز فيه، وأفاد الطلبة، وكان شيخ الحديث بمشهد ابن عروة.

ثم سافر إلى حلب، فتوفي بحماه في رابع عشر رمضان من هذه السنة، وهو جد شيخنا الحافظ علم الدين بن القاسم بن محمد البرزالي، مؤرخ دمشق الذي ذيّل على الشيخ شهاب الدين أبي شامة، وقد ذيلت أنا على تاريخه بعون الله تعالى.

ثم دخلت سنة سبع وثلاثين وستمائة

استهلت هذه السنة وسلطان دمشق نجم الدين الصالح أيوب بن الكامل مخيم عند نابلس، يستدعي عمه الصالح إسماعيل ليسير إلى الديار المصرية، بسبب أخذها من صاحبها العادل بن الكامل، وقد أرسل الصالح إسماعيل ولده وابن يغمور إلى صحبة الصالح أيوب، فهما ينفقان الأموال في الأمراء ويحلفانهم على الصالح أيوب للصالح إسماعيل.

فلما تم الأمر وتمكن الصالح إسماعيل من مراده أرسل إلى الصالح أيوب يطلب منه ولده ليكون عوضه ببعلبك، ويسير هو إلى خدمته، فأرسله إليه وهو لا يشعر بشيء مما وقع، وكل ذلك عن ترتيب أبي الحسن غزال المتطبب وزير الصالح - وهو الأمين واقف أمينية بعلبك - فلما كان يوم الثلاثاء السابع والعشرين من صفر هجم الملك الصالح إسماعيل وفي صحبته أسد الدين شيركوه صاحب حمص إلى دمشق، فدخلاها بغتة من باب الفراديس، فنزل الصالح إسماعيل بداره من درب الشعارين، ونزل صاحب حمص بداره.

وجاء نجم الدين بن سلامة فهنأ الصالح إسماعيل ورقص بين يديه وهو يقول: إلى بيتك جئت.

وأصبحوا فحاصروا القلعة وبها المغيث عمر بن الصالح نجم الدين، ونقبوا القلعة من ناحية باب الفرج، وهتكوا حرمتها ودخلوها وتسلموها واعتقلوا المغيث في برج هنالك.

قال أبو شامة: واحترقت دار الحديث وما هنالك من الحوانيت والدور حول القلعة.

ولما وصل الخبر بما وقع إلى الصالح أيوب تفرق عنه أصحابه والأمراء خوفا على أهاليهم من الصالح إسماعيل وبقي الصالح أيوب وحده بمماليكه وجاريته أم ولده خليل، وطمع فيه الفلاحون والفوارنة، وأرسل الناصر داود صاحب الكرك إليه من أخذه من نابلس مهانا على بغلة بلا مهماز ولا مقدمة، فاعتقله عنده سبعة أشهر، وأرسل العادل من مصر إلى الناصر يطلب منه أخاه الصالح أيوب ويعطيه مائة ألف دينار، فما أجابه إلى ذلك، بل عكس ما طلب منه بإخراج الصالح من سجنه والإفراج عنه وإطلاقه من الحبس يركب وينزل، فعند ذلك حاربت الملوك من دمشق ومصر وغيرهما الناصر داود.

وبرز العادل من الديار المصرية إلى بلبيس قاصدا قتال الناصر داود، فاضطرب الجيش عليه واختلفت الأمراء، وقيدوا العادل واعتقلوه في خركاه، وأرسلوا إلى الصالح أيوب يستدعونه إليهم، فامتنع الناصر داود من إرساله حتى اشترط عليه أن يأخذ له دمشق وحمص وحلب بلاد الجزيرة وبلاد ديار بكر ونصف مملكة مصر، ونصف ما في الخزائن من الحواصل والأموال والجواهر.

قال الصالح أيوب: فأجبت إلى ذلك مكرها، ولا تقدر على ما اشترط جميع ملوك الأرض، وسرنا فأخذته معي خائفا أن تكون هذه الكائنة من المصريين مكيدة، ولم يكن لي به حاجة، وذكر أنه كان يسكر ويخبط في الأمور ويخالف في الآراء السديدة.

فلما وصل الصالح إلى المصريين ملكوه عليهم ودخل الديار المصرية سالما مؤيدا منصورا مظفرا محبورا مسرورا، فأرسل إلى الناصر داود عشرين ألف دينار فردها عليه ولم يقبلها منه.

واستقر ملكه بمصر.

وأما الملك الجواد فإنه أساء السيرة في سنجار وصادر أهلها وعسفهم، فكاتبوا بدر الدين لؤلؤ صاحب الموصل فقصدهم - وقد خرج الجواد للصيد - فأخذ البلد بغير شيء وصار الجواد إلى عانة.

ثم باعها من الخليفة بعد ذلك.

وفي ربيع الأول درّس القاضي الرفيع عبد العزيز بن عبد الواحد الجيلي بالشامية البرانية. وفي يوم الأربعاء ثالث ربيع الآخر ولي الشيخ عز الدين عبد العزيز بن عبد السلام بن أبي القاسم السلمي خطابة جامع دمشق، وخطب الصالح إسماعيل لصاحب الروم ببلد دمشق وغيرها، لأنه حالفه على الصالح أيوب.

قال أبو شامة: وفي حزيران أيام المشمش جاء مطر عظيم هدم كثيرا من الحيطان وغيرها، وكنت يومئذ بالمزة.

من الأعيان:

صاحب حمص الملك المجاهد أسد الدين شيركوه

بن ناصر الدين محمد بن أسد الدين شيركوه بن شادي، ولاه إياها الملك الناصر صلاح الدين بعد موت أبيه سنة إحدى وثمانين وخمسمائة، فمكث فيها سبعا وخمسين سنة، وكان من أحسن الملوك سيرة، طهّر بلاده من الخمور والمكوس والمنكرات، وهي في غاية الأمن والعدل، لا يتجاسر أحد من الفرنج ولا العرب يدخل بلاده إلا أهانه غاية الإهانة، وكانت ملوك بني أيوب يتقونه لأنه يرى أنه أحق بالأمر منهم، لأن جده هو الذي فتح مصر، وأول من ملك منهم، وكانت وفاته رحمه الله بحمص وعمل عزاءه بجامع دمشق عفا الله عنه بمنه.

القاضي الخويي شمس الدين أحمد بن خليل

ابن سعادة جعفر الحويي قاضي القضاة بدمشق يومئذ، وكان عالما بفنون كثيرة من الأصول والفروع وغير ذلك، وكانت وفاته يوم السبت بعد الظهر السابع من شعبان، وله خمس وخمسون سنة بالمدرسة العادلية، وكان حسن الأخلاق جميل المعاشرة، وكان يقول لا أقدر على إيصال المناصب إلى مستحقيها، له مصنفات منها عروض.

قال فيه أبو شامة:

أحمد بن الخليل أرشده الـ ** ـله لما أرشد الخليل بن أحمد

ذاك مستخرج العروض وهـ ** ـذا مظهر السر منه والعود أحمد

وقد ولي القضاء بعد رفيع الدين عبد العزيز بن عبد الواحد بن إسماعيل بن عبد الهادي الحنبلي مع تدريس العادلية، وكان قاضيا بعلبك.

فأحضره إلى دمشق الوزير أمين الدين الذي كان سامريا فأسلم، وزر للصالح إسماعيل، واتفق هو وهذا القاضي على أكل أموال الناس بالباطل.

قال أبو شامة: ظهر منه سوء سيرة وعسف وفسق وجور ومصادرة في الأموال.

قلت: وقد ذكر غيره عنه أنه ربما حضر يوم الجمعة في المشهد الكمالي بالشباك وهو سكران، وأن قناني الخمر كانت تكون على بركة العادلية يوم السبت، وكان يعتمد في التركات اعتمادا سيئا جدا، وقد عامله الله تعالى بنقيض مقصوده، وأهلكه الله على يدي من كان سبب سعادته، كما سيأتي بيانه قريبا إن شاء الله تعالى.

ثم دخلت سنة ثمان وثلاثين وستمائة

فيها: سلم الصالح إسماعيل صاحب دمشق حصن شقيف أرنون لصاحب صيدا الفرنجي فاشتد الإنكار عليه بسبب ذلك من الشيخ عز الدين بن عبد السلام خطيب البلد، والشيخ أبي عمرو بن الحاجب شيخ المالكية، فاعتقلهما مدة ثم أطلقهما وألزمهما منازلهما، وولى الخطابة وتدريس الغزالية لعماد الدين داود بن عمر بن يوسف المقدسي خطيب بيت الأبار.

ثم خرج الشيخان من دمشق فقصد أبو عمرو الناصر داود بالكرك، ودخل الشيخ عز الدين الديار المصرية، فتلقاه صاحبها أيوب بالاحترام والإكرام، وولاه خطابة القاهرة وقضاء مصر، واشتغل عليه أهلها فكان ممن أخذ عنه الشيخ تقي الدين ابن دقيق العيد رحمهما الله تعالى.

وفيها: قدم رسول من ملك التتار تولى بن جنكيز خان إلى ملوك الإسلام يدعوهم إلى طاعته ويأمرهم بتخريب أسوار بلدانهم. وعنوان الكتاب: (من نائب رب السماء ماسح وجه الأرض ملك الشرق والغرب قان قان).

وكان الكتاب مع رجل مسلم من أهل أصبهان لطيف الأخلاق، فأول ما ورد على شهاب الدين غازي بن العادل بميافارقين وقد أخبر بعجائب في أرضهم غريبة، منها أن في البلاد المتاخمة للسد أناسا أعينهم في مناكبهم، وأفواههم في صدورهم، يأكلون السمك وإذا رأوا أحدا من الناس هربوا.

وذكر أن عندهم بزرا ينبت الغنم يعيش الخروف منها شهرين وثلاثة، ولا يتناسل.

ومن ذلك أن بما زندران عينا يطلع فيها كل ثلاثين سنة خشبة عظيمة مثل المنارة، فتقيم طول النهار فإذا غابت الشمس غابت في العين فلا ترى إلى مثل ذلك الوقت، وأن بعض الملوك احتال ليمسكوها بسلاسل ربطت فيها فغارت وقطعت تلك السلاسل، ثم كانت إذا طلعت ترى فيها تلك السلاسل وهي إلى الآن كذلك.

قال أبو شامة: وفيها قلت المياه من السماء والأرض، وفسد كثير من الزرع والثمار والله أعلم.

من الأعيان والمشاهير:

محيي الدين بن عربي

صاحب الفصوص وغيره، محمد بن علي بن محمد ابن عربي أبو عبد الله الطائي الأندلسي، طاف البلاد وأقام بمكة مدة، وصنف فيها كتابه المسمى ب(الفتوحات المكية) في نحو عشرين مجلدا.

فيها ما يعقل وما لا يعقل، وما ينكر وما لا ينكر، وما يعرف وما لا يعرف، وله كتابه المسمى (بفصوص الحكم) فيه أشياء كثيرة ظاهرها كفر صريح، وله كتاب (العبادلة) وديوان شعر رائق، وله مصنفات أخر كثيرة جدا وأقام بدمشق مدة طويلة قبل وفاته، وكان بنو الزكي لهم عليه اشتمال وبه احتفال ولجميع ما يقوله احتمال.

قال أبو شامة: وله تصانيف كثيرة وعليه التصنيف سهل، وله شعر حسن وكلام طويل على طريق التصوف، وكانت له جنازة حسنة، ودفن بمقبرة القاضي محي الدين بن الزكي بقاسيون، وكانت جنازته في الثاني والعشرين من ربيع الآخر من هذه السنة.

وقال ابن السبط: كان يقول إنه يحفظ الاسم الأعظم ويقول إنه يعرف الكيمياء بطريق المنازلة لا بطريق الكسب، وكان فاضلا في علم التصوف، وله تصانيف كثيرة.

القاضي نجم الدين أبو العباس أحمد بن محمد بن خلف بن راجح المقدسي الحنبلي الشافعي

المعروف بابن الحنبلي، كان شيخا فاضلا دينا بارعا في علم الخلاف، ويحفظ الجمع بين الصحيحين للحميدي، وكان متواضعا حسن الأخلاق قد طاف البلدان يطلب العلم ثم استقر بدمشق ودرس بالفداوية والصارمية والشامية الجوانية وأم الصالح، وناب في الحكم عن جماعة من القضاة إلى أن توفي بها، وهو نائب الرفيع الجيلي، وكانت وفاته يوم الجمعة سادس شوال ودفن بقاسيون.

ياقوت بن عبد الله أمين الدين الرولي

منسوب إلى بيت أتابك، قدم بغداد مع رسول صاحب الموصل لؤلؤ.

قال ابن الساعي: اجتمعت به وهو شاب أديب فاضل، يكتب خطا حسنا في غاية الجودة، وينظم شعرا جيدا، ثم روى عنه شيئا من شعره. قال وتوفي في جمادى الآخرة محبوسا.

ثم دخلت سنة تسع وثلاثين وستمائة

فيها: قصد الملك الجواد أن يدخل مصر ليكون في خدمة الصالح أيوب، فلما وصل إلى الرمل توهم منه الصالح أيوب وأرسل إليه كمال الدين ابن الشيخ ليقبض عليه، فرجع الجواد فاستجار بالناصر داود، وكان إذ ذاك بالقدس الشريف، وبعث منه جيشا فالتقوا مع ابن الشيخ فكسروه وأسروه فوبخه الناصر داود ثم أطلقه، وأقام الجواد في خدمة الناصر حتى توهم منه فقيده وأرسله تحت الحوطة إلى بغداد، فأطلقه بطن من العرب عن قوة فلجأ إلى صاحب دمشق مدة، ثم انتقل إلى الفرنج، ثم عاد إلى دمشق فحبسه الصالح إسماعيل بعزتا إلى أن مات في سنة إحدى وأربعين كما سيأتي.

وفيها: شرع الصالح أيوب في بناء المدارس بمصر، وبنى قلعة بالجزيرة غرم عليها شيئا كثيرا من بيت المال، وأخذ أملاك الناس وخرب نيفا وثلاثين مسجدا، وقطع ألف نخلة.

ثم أخربها الترك في سنة إحدى وخمسين كما سيأتي بيانه.

وفيها: ركب الملك المنصور بن إبراهيم بن الملك المجاهد صاحب حمص ومعه الحلبيون، فاقتتلوا مع الخوارزمية بأرض حران، فكسروهم ومزقوهم كل ممزق، وعادوا منصورين إلى بلادهم، فاصطلح شهاب الدين غازي صاحب ميافارقين مع الخوارزمية وآواهم إلى بلده ليكونوا من حزبه.

قال أبو شامة: وفيها كان دخول الشيخ عز الدين إلى الديار المصرية فأكرمه صاحبها وولاه الخطابة بالقاهرة وقضاء القضاة بمصر، بعد وفاة القاضي شرف الدين المرقع ثم عزل نفسه مرتين وانقطع في بيته رحمه الله تعالى.

قال: وفيها: توفي الشمس بن الخباز النحوي الضرير في سابع رجب. والكمال بن يونس الفقيه في النصف من شعبان، وكانا فاضلي بلدهما في فنهما.

الشمس ابن الخباز

فهو أبو عبد الله أحمد بن الحسين بن أحمد بن معالي بن منصور بن علي الضرير النحوي الموصلي المعروف بابن الخباز، اشتغل بعلم العربية وحفظ المفصل والإيضاح والتكملة والعروض والحساب، وكان يحفظ المجمل في اللغة وغير ذلك، وكان شافعي المذهب كثير النوادر والملح، وله أشعار جيدة، وكانت وفاته عاشر رجب وله من العمر خمسون سنة رحمه الله تعالى. وأما:

الكمال بن يونس موسى بن يونس بن محمد بن منعة بن مالك العقيلي

أبو الفتح الموصلي شيخ الشافعية بها، ومدرس بعدة مدارس فيها، وكانت له معرفة تامة بالأصول والفروع والمعقولات والمنطق والحكمة، ورحل إليه الطلبة من البلدان، وبلغ ثمانيا وثمانين عاما، وله شعر حسن.

فمن ذلك ما امتدح به البدر لؤلؤ صاحب الموصل وهو قوله:

لئن زينت الدنيا بما لك أمرها ** فمملكة الدنيا بكم تتشرف

بقيت بقاء الدهر أمرك نافذ ** وسعيك مشكور وحكمك ينصف

كان مولده سنة إحدى وخمسين وخمسمائة، وتوفي للنصف من شعبان هذه السنة رحمه الله تعالى.

قال أبو شامة: وفيها توفي بدمشق:

عبد الواحد الصوفي الذي كان قسا راهبا في كنيسة مريم سبعين سنة، أسلم قبل موته بأيام

ثم توفي شيخا كبيرا بعد أن أقام بخانقاه السميساطية أياما، ودفن بمقابر الصوفية، وكانت له جنازة حافلة حضرت دفنه والصلاة عليه رحمه الله تعالى.

أبو الفضل أحمد بن اسفنديار

ابن الموفق بن أبي علي البوسنجي الواعظ شيخ رباط الأرجوانية.

قال ابن الساعي: كان جميل الصورة حسن الأخلاق كثير التودد والتواضع، متكلما متفوها منطقيا حسن العبارة جيد الوعظ طيب الإنشاد عذب الإيراد، له نظم حسن.

ثم ساق عنه قصيدة يمدح بها الخليفة المستنصر

أبو بكر محمد بن يحيى ابن المظفر بن علم بن نعيم المعروف بابن الحبير السلامي

شيخ عالم فاضل، كان حنبليا ثم صار شافعيا، ودرس بعدة مدارس ببغداد للشافعية، وكان أحد المعدلين بها، تولى مباشرات كثيرة، وكان فقيها أصوليا عالما بالخلاف، وتقدم ببلده وعظم كثيرا، ثم استنابه ابن فضلان بدار الحريم.

ثم صار من أمره أن درس بالنظامية وخلع عليه ببغلة، وحضر عنده الأعيان، وما زال بها حتى توفي عن ثمانين سنة، ودفن بباب حرب.

قاضي القضاة ببغداد أبو المعالي عبد الرحمن بن مقبل بن علي الواسطي الشافعي

اشتغل ببغداد وحصل وأعاد في بعض المدارس.

ثم استنابه قاضي القضاة عماد الدين أبو صالح نصر بن عبد الرزاق بن عبد القادر في أيام الخليفة الظاهر بن الناصر.

ثم ولي قضاء القضاة مستقلا، ثم ولي تدريس المستنصرية بعد موت أول من درس بها محيي الدين محمد بن فضلان.

ثم عزل عن ذلك كله وعن مشيخة بعض الربط.

ثم كانت وفاته في هذا العام، وكان فاضلا دينا متواضعا رحمه الله تعالى وعفا عنه.

ثم دخلت سنة أربعين وستمائة

فيها: توفي الخليفة المستنصر بالله وخلافة ولده المستعصم بالله، فكانت وفاة الخليفة أمير المؤمنين بكرة يوم الجمعة عاشر جمادى الآخرة، وله من العمر إحدى وخمسون سنة، وأربعة أشهر وسبعة أيام، وكتم موته حتى كان الدعاء له على المنابر ذلك اليوم، وكانت مدة ولايته ست عشرة سنة وعشرة أشهر وسبعة وعشرين يوما، ودفن بدار الخلافة.

ثم نقل إلى الترب من الرصافة.

وكان جميل الصورة حسن السريرة جيد السيرة، كثير الصدقات والبر والصلات، محسنا إلى الرعية بكل ما يقدر عليه، كان جده الناصر قد جمع ما يتحصل من الذهب في بركة في دار الخلافة، فكان يقف على حافتها ويقول: أترى أعيش حتى أملأها، وكان المستنصر يقف على حافتها ويقول: أترى أعيش حتى أنفقها كلها فكان يبني الربط والخانات والقناطر في الطرقات من سائر الجهات.

وقد عمل بكل محلة من محال بغداد دار ضيافة للفقراء، لا سيما في شهر رمضان، وكان يتقصد الجواري اللائي قد بلغن الأربعين فيشترين له فيعتقهن ويجهزهن ويزوجهن، وفي كل وقت يبرز صلاته ألوف متعددة من الذهب، تفرق في المحال ببغداد على ذوي الحاجات والأرامل والأيتام وغيرهم، تقبل الله تعالى منه وجزاه خيرا.

وقد وضع ببغداد المدرسة المستنصرية للمذاهب الأربعة، وجعل فيها دار حديث وحماما ودار طب، وجعل لمستحقيها من الجوامك والأطعمة والحلاوات والفاكهة ما يحتاجون إليه في أوقاته، ووقف عليها أوقافا عظيمة حتى قيل إن ثمن التبن من غلات ريعها يكفي المدرسة وأهلها.

ووقف فيها كتبا نفيسة ليس في الدنيا لها نظير، فكانت هذه المدرسة جمالا لبغداد وسائر البلاد، وقد احترق في أول هذه السنة المشهدا لذي بسامرا المنسوب إلى علي الهادي والحسن العسكري، وقد كان بناه أرسلان البساسيري في أيام تغلبه على تلك النواحي، في حدود سنة خمسين وأربعمائة، فأمر الخليفة المستنصر بإعادته إلى ما كان عليه، وقد تكلمت الروافض في الاعتذار عن حريق هذا المشهد بكلام طويل بارد لا حاصل له، وصنفوا فيه أخبار وأنشدوا أشعارا كثيرة لا معنى لها.

وهو المشهد الذي يزعمون أنه يخرج منه المنتظر الذي لا حقيقة له، فلا عين ولا أثر، ولو لم يبن لكان أجدر، وهو الحسن بن علي بن محمد الجواد بن علي الرضا بن موسى الكاظم بن جعفر الصادق بن علي بن محمد بن الباقر بن علي زين العابدين بن الحسين الشهيد بكر بلاء بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهم أجمعين، وقبح من يغلو فيهم ويبغض بسببهم من هو أفضل منهم.

وكان المستنصر رحمه الله كريما حليما رئيسا متوددا إلى الناس، وكان جميل الصورة حسن الأخلاق بهي المنظر، عليه نور بيت النبوة رضي الله عنه وأرضاه.

وحكى أنه اجتاز راكبا في بعض أزفة بغداد قبل غروب الشمس من رمضان، فرأى شيخا كبيرا ومعه إناء فيه طعام قد حمله من محلة إلى محلة أخرى.

فقال: أيها الشيخ لم لا أخذت الطعام من محلتك؟ أو أنت محتاج تأخذ من المحلتين؟ فقال: لا والله يا سيدي - ولم يعرف أنه الخليفة - ولكني شيخ كبير، وقد نزل بي الوقت وأنا أستحي من أهل محلتي أن أزاحمهم وقت الطعام، فيشمت بي من كان يبغضني، فأنا أذهب إلى غير محلتي فآخذ الطعام وأتحين وقت كون الناس في صلاة المغرب فأدخل بالطعام إلى منزلي بحيث لا يراني أحد.

فبكى الخليفة رحمه الله وأمر له بألف دينار، فلما دفعت إليه فرح الشيخ فرحا شديدا حتى قيل إنه انشق قلبه من شدة الفرح، ولم يعش بعد ذلك إلا عشرين يوما.

ثم مات فخلف الألف دينار إلى الخليفة، لأنه لم يترك وارثا.

وقد أنفق منها دينارا واحدا، فتعجب الخليفة من ذلك وقال: شيء قد خرجنا عنه لا يعود إلينا، تصدقوا بها على فقراء محلته، فرحمه الله تعالى.

وقد خلف من الأولاد ثلاثة، اثنان شقيقان وهما أمير المؤمنين المستعصم بالله الذي ولي الخلافة بعده وأبو أحمد عبد الله، والأمير أبو القاسم عبد العزيز وأختهما من أم أخرى كريمة صان الله حجابها.

وقد رثاه الناس بأشعار كثيرة أورد منها بن الساعي قطعة صالحة، ولم يستوزر أحدا بل أقر أبا الحسن محمد بن محمد القمي على نيابة الوزارة.

ثم كان بعده نصر الدين أبو الأزهر أحمد بن محمد الناقد الذي كان أستاذ دار الخلافة والله تعالى أعلم بالصواب.

خلافة المستعصم بالله

أمير المؤمنين وهو آخر خلفاء بني العباس ببغداد، وهو الخليفة الشهيد الذي قتله التتار بأمر هولاكو ابن تولى ملك التتار بن جنكيز خان لعنهم الله، في سنة ست وخمسين وستمائة كما سيأتي بيانه إن شاء الله تعالى، وهو أمير المؤمنين المستعصم بالله أبو أحمد عبد الله بن أمير المؤمنين المستنصر بالله أبي جعفر المنصور بن أمير المؤمنين الظاهر بالله أبي نصر محمد بن أمير المؤمنين الناصر لدين الله أبي العباس أحمد بن أمير المؤمنين المستضيء بالله أبي محمد الحسن بن أمير المؤمنين المستنجد بالله أبي المظفر يوسف بن أمير المؤمنين المقتفي لأمر الله أبي عبد الله محمد بن أمير المؤمنين المستظهر بالله أبي العباس أحمد بن الخليفة المقتدي بأمر الله أبي القاسم عبد الله وبقية نسبه إلى العباس في ترجمة جده الناصر.

وهؤلاء الذين ذكرناهم كلهم ولي الخلافة يتلو بعضهم بعضا، ولم يتفق هذا لأحد قبل المستعصم، أن في نسبه ثمانية نسقا ولوا الخلافة لم يتخللهم أحد، وهو التاسع رحمه الله تعالى بمنه.

لما توفي أبوه بكرة الجمعة عاشر جمادى الآخرة من سنة أربعين وستمائة استدعى هو من التاج يومئذ بعد الصلاة فبويع بالخلافة، ولقب بالمستعصم، وله من الأمر يومئذ ثلاثون سنة وشهور، وقد أتقن في شبيبته تلاوة القرآن حفظا وتجويدا.

وأتقن العربية والخط الحسن وغير ذلك من الفضائل على الشيخ شمس الدين أبي المظفر علي بن محمد بن النيار أحد أئمة الشافعية في زمانه، وقد أكرمه وأحسن إليه في خلافته، وكان المستعصم على ما ذكر كثير التلاوة حسن الأداء طيب الصوت، يظهر عليه خشوع وإنابة، وقد نظر في شيء من التفسير وحل المشكلات.

وكان مشهورا بالخير مشكورا مقتديا بأبيه المستنصر جهده وطاقته، وقد مشت الأمور في أيامه على السداد والاستقامة بحمد الله.

وكان القائم بهذه البيعة المستعصمية شرف الدين أبو الفضائل إقبال المستنصري، فبايعه أولا بنو عمه وأهله من بني العباس، ثم أعيان الدولة من الأمراء والوزراء والقضاة والعلماء والفقهاء ومن بعدهم من أولي الحل والعقد والعامة، وغيرهم وكان يوما مشهودا ومجمعا محمودا ورأيا سعيدا وأمرا حميدا، وجاءت البيعة من سائر الجهات والأقطار والبلدان والأمصار، وخطب له في سائر البلدان، والأقاليم والرساتيق، وعلى سائر المنابر شرقا وغربا، بعدا وقربا كما كان أبوه وأجداده، رحمهم الله أجمعين.

وفيها: وقع من الحوادث أنه كان بالعراق وباء شديد في آخر أيام المستنصر وغلا السكر والأدوية فتصدق الخليفة المستنصر بالله رحمه الله بسكر كثير على المرضى، تقبل الله منه.

وفي يوم الجمعة رابع عشر شعبان أذن الخليفة المستعصم بالله لأبي الفرج عبد الرحمن بن محيي الدين يوسف ابن الشيخ أبي الفرج بن الجوزي - وكان شابا ظريفا فاضلا - في الوعظ بباب البدرية، فتكلم وأجاد وأفاد وامتدح الخليفة المستعصم بقصيدة طويلة فصيحة، سردها ابن الساعي بكمالها، ومن يشابه أباه فما ظلم، والشبل في المخبر مثل الأسد.

وفيها: كانت وقعة عظيمة بين الحلبيين وبين الخوارزمية، ومع الخوارزمية شهاب الدين غازي صاحب ميافارقين، فكسرهم الحلبيون كسرة عظيمة منكرة، وغنموا من أموالهم شيئا كثيرا جدا، ونهبت نصيبين مرة أخرى، وهذه سابع عشر مرة نهبت في هذه السنين، فإنا لله وإنا إليه راجعون.

وعاد الغازي إلى ميا فارقين وتفرقت الخوارزمية يفسدون في الأرض صحبة مقدمهم بركات خان، لا بارك الله فيه، وقدم على الشهاب غازي منشور بمدينة خلاط فتسلمها وما فيها من الحواصل.

وفيها عزم الصالح أيوب صاحب مصر على دخول الشام فقيل له إن العساكر مختلفة فجهز عسكرا إليها وأقام هو بمصر يدير مملكتها.

من الأعيان:

المستنصر بالله

أمير المؤمنين كما تقدم

خاتون بنت عز الدين مسعود

ابن مودود بن زنكي بن آقسنقر الأتابكية واقفة المدرسة الأتابكية بالصالحية، وكانت زوجة السلطان الملك الأشرف رحمه الله وفي ليلة وفاتها كانت وقفت مدرستها وتربتها بالجبل قاله أبو شامة: ودفنت بها رحمها الله تعالى وتقبل منها.

ثم دخلت سنة إحدى وأربعين وستمائة

فيها ترددت الرسل بين الصالح أيوب صاحب مصر وبين عمه الصالح إسماعيل صاحب دمشق، على أن يرد إليه ولده المغيث عمر بن الصالح أيوب المعتقل في قلعة دمشق، وتستقر دمشق في يد الصالح إسماعيل، فوقع الصلح على ذلك، وخطب للصالح أيوب بدمشق، فخاف الوزير أمين الدولة أبو الحسن غزال المسلماني، وزير الصالح إسماعيل من غائلة هذا الأمر، فقال لمخدومه: لا ترد هذا الغلام لأبيه تخرج البلاد من يدك، هذا خاتم سليمان بيدك للبلاد، فعند ذلك أبطل ما كان وقع من الصلح ورد الغلام إلى القلعة، وقطعت الخطبة للصالح أيوب، ووقعت الوحشة بين الملكين، وأرسل الصالح أيوب إلى الخوارزمية يستحضرهم لحصار دمشق فإنا لله وإنا إليه راجعون.

وكانت الخوارزمية قد فتحوا في هذه السنة بلاد الروم وأخذوها من أيدي ملكها ابن علاء الدين، وكان قليل العقل يلعب بالكلاب والسباع، ويسلطها على الناس، فاتفق أنه عضه سبع فمات فتغلبوا على البلاد حينئذ.

وفيها: احتيط على أعوان القاضي الرفيع الجيلي، وضرب بعضهم بالمقارع، وصودروا ورسم على القاضي الرفيع بالمدرسة المقدمية داخل باب الفراديس، ثم أخرج ليلا وذهب به فسجن بمغارة أفقه من نواحي البقاع، ثم انقطع خبره.

وذكر أبو شامة: أنه توفي، ومنهم من قال إنه ألقى من شاهق، ومنهم من قال خنق، وذلك كله بذي الحجة من هذه السنة.

وفي يوم الجمعة الخامس والعشرين منه قرئ منشور ولاية القضاء بدمشق لمحي الدين بن محمد بن علي بن محمد بن يحيى القرشي، بالشباك الكمالي من الجامع، كذا قال الشيخ شهاب الدين أبو شامة. وزعم السبط أن عزله إنما كان في السنة الآتية، وذكر أن سبب هلاكه أنه كتب إلى الملك الصالح يقول له: إنه قد أورد إلى خزانته من الأموال ألف ألف دينار من أموال الناس. فأنكر الصالح ذلك، ورد عليه الجواب أنه لم يرد سوى ألف ألف درهم، فأرسل القاضي يقول فأنا أحاقق الوزير، وكان الصالح لا يخالف الوزير، فأشار حينئذ على الصالح فعزله لتبرأ ساحة السلطان من شناعات الناس، فعزله وكان من أمره ما كان.

وفوض أمر مدارسه إلى الشيخ تقي الدين ابن الصلاح فعين العادلية للكمال التفليسي، والعذراوية لمحي الدين بن الزكي الذي ولي القضاء بعده، والأمينية لابن عبد الكافي، والشامية البرانية للتقي الحموي، وغيب القاضي الرفيع وأسقط عدالة شهوده.

قال السبط: أرسله الأمين مع جماعة على بغل بأكاف لبعض النصارى إلى مغارة أفقه في جبل لبنان من ناحية الساحل، فأقام بها أياما ثم أرسل إليه عدلين من بعلبك ليشهدا عليه ببيع أملاكه من أمين الدولة، فذكرا أنهما شاهداه وعليه يخفيفة وقندورة، وأنه استطعمهما شيئا من الزاد وذكر أن له ثلاثة أيام لم يأكل شيئا، فأطعماه من زوادتهما وشهدا عليه وانصرفا، ثم جاءه داود النصراني فقال له: قم فقد أمرنا بحملك إلى بعلبك، فأيقن بالهلاك حينئذ، فقال: دعوني أصلي ركعتين.

فقال له: قم فقام يصلي فأطال الصلاة فرفسه النصراني فألقاه من رأس الجبل إلى أسفل الوادي الذي هناك، فما وصل حتى تقطع وحكي أنه تعلق ذيله بسن الجبل فما زال داود يرميه بالحجارة حتى ألقاه إلى أسفل الوادي، وذلك عند السقيف المطل على نهر إبراهيم.

قال السبط: وقد كان فاسد العقيدة دهريا مستهزئا بأمور الشرع، يخرج إلى المجلس سكرانا ويحضر إلى الجمعة كذلك، وكانت داره كالحانات.

فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم قال: وأخذ الموفق الواسطي أحد أمنائه - وكان من أكبر البلايا - أخذ لنفسه من أموال الناس ستمائة ألف درهم، فعوقب عقوبة عظيمة حتى أخذت منه، وقد كسرت ساقاه ومات تحت الضرب، فألقي في مقابر اليهود والنصارى، وأكلته الكلاب.

من الأعيان:

الشيخ شمس الدين أبو الفتوح أسعد بن المنجى التنوخي المعري الحنبلي

قاضي حران قديما، ثم قدم دمشق ودرس بالمسمارية وتولى خدما في الدولة المعظمية، وكانت له رواية عن ابن صابر والقاضيين الشهرزوري وابن أبي عصرون، وكانت وفاته في سابع ربيع الأول من هذه السنة رحمه الله تعالى.

الشيخ الحافظ الصالح تقي الدين أبو إسحاق إبراهيم بن محمد بن الأزهر الصريفيني

كان يدري الحديث وله به معرفة جيدة، أثنى عليه أبو شامة وصلي عليه بجامع دمشق ودفن بقاسيون رحمه الله.

واقف الكروسية

محمد بن عقيل بن كروس، جمال الدين محتسب دمشق، كان كيسا متواضعا، توفي بدمشق في شوال، ودفن بداره التي جعلها مدرسة، وله دار حديث رحمه الله تعالى وعفا عنه.

الملك الجواد يونس بن ممدود

ابن العادل أبي بكر بن أيوب الملك الجواد، وكان أبوه أكبر أولاد العادل، تقلبت به الأحوال وملك دمشق بعد عمه الكامل محمد بن العادل، وكان في نفسه جيدا محبا للصالحين، ولكن كان في بابه من يظلم الناس وينسب ذلك إليه، فأبغضته العامة وسبوه وألجؤوه إلى أن قايض بدمشق الملك الصالح أيوب بن الكامل إلى سنجار وحصن كيفا، ثم لم يحفظهما بل خرجتا عن يده، ثم آل به الحال إلى أن سجنه الصالح إسماعيل بحصن عزتا، حتى كانت وفاته في هذه السنة، ونقل في شوال إلى تربة المعظم بسفح قاسيون، وكان عنده ابن يغمور معتقلا فحوله الصالح إسماعيل إلى قلعة دمشق، فلما ملكها الصالح أيوب نقله إلى الديار المصرية وشنقه مع الأمين غزال وزير الصالح إسماعيل، على قلعة القاهرة، جزاء على صنعهما في حق الصالح أيوب رحمه الله تعالى.

أما ابن يغمور فإنه عمل عليه حتى حول ملك دمشق إلى الصالح إسماعيل، وأما أمين الدولة فإنه منع الصالح من تسليم ولده عمر إلى أبيه فانتقم منهما بهذا، وهو معذور بذلك.

مسعود بن أحمد بن مسعود

ابن مازه المحاربي أحد الفقهاء الحنفية الفضلاء، وله علم بالتفسير وعلم الحديث، ولديه فضل غزير، قدم بغداد صحبة رسول التتار للحج، فحبس مدة سنين ثم أفرج عنه، فحج ثم عاد، فمات ببغداد في هذه السنة، رحمه الله تعالى.

أبو الحسن علي بن يحيى بن الحسن

ابن الحسين بن علي بن محمد البطريق بن نصر بن حمدون بن ثابت الأسدي الحلي، ثم الواسطي، ثم البغدادي، الكاتب الشاعر الشيعي، فقيه الشيعة.

أقام بدمشق مدة وامتدح كثيرا من الأمراء والملوك، منهم الكامل صاحب مصر وغيره، ثم عاد إلى بغداد فكان يشغل الشيعة في مذهبهم، وكان فاضلا ذكيا جيدا النظم والنثر، لكنه مخذول محجوب عن الحق.

وقد أورد ابن الساعي قطعة جيدة من أشعاره الدالة على غزارة مادته في العلم والذكاء رحمه الله وعفا عنه.

ثم دخلت سنة أثنين وأربعين وستمائة

فيها استوزر الخليفة المستعصم بالله مؤيد الدين أبا طالب محمد بن أحمد بن علي بن محمد العلقمي المشؤوم على نفسه، وعلى أهل بغداد، الذي لم يعصم المستعصم في وزارته، فإنه لم يكن وزير صدق ولا مرضي الطريقة، فإنه هو الذي أعان على المسلمين في قضية هولاكو وجنوده قبحه الله وإياهم. وقد كان ابن العلقمي قبل هذه الوزارة أستاذ دار الخلافة، فلما مات نصر الدين محمد بن الناقد استوزر ابن العلقمي وجعل مكانه في الاستادارية الشيخ محيي الدين يوسف بن أبي الفرج بن الجوزي وكان من خيار الناس، وهو واقف الجوزية التي بالنشابين بدمشق تقبل الله منه.

وفيها: جعل الشيخ شمس الدين علي بن محمد بن الحسين بن النيار مؤدب الخليفة شيخ الشيوخ ببغداد، وخلع عليه، ووكل الخليفة عبد الوهاب ابن المطهر وكالة مطلقة، وخلع عليه.

وفيها: كانت وقعة عظيمة بين الخوارزمية الذين كان الصالح أيوب صاحب مصر استقدمهم ليستنجد بهم على الصالح إسماعيل أبي الحسن صاحب دمشق، فنزلوا على غزة وأرسل إليهم الصالح أيوب الخلع والأموال والأقمشة والعساكر، فاتفق الصالح إسماعيل والناصر داود صاحب الكرك، والمنصور صاحب حمص، مع الفرنج واقتتلوا مع الخوارزمية قتالا شديدا، فهزمتهم الخوارزمية كسرة منكرة فظيعة، هزمت الفرنج بصلبانها وراياتها العالية، على رؤس أطلاب المسلمين، وكانت كوؤس الخمر دائرة بين الجيوش فنابت كوؤس المنون عن كوؤس الزرجون.

فقتل من الفرنج في يوم واحد زيادة عن ثلاثين ألف، وأسروا جماعة من ملوكهم وقسوسهم وأساقفتهم، وخلقا من أمراء المسلمين وبعثوا بالأسارى إلى الصالح أيوب بمصر، وكان يومئذ يوما مشهودا وأمرا محمودا ولله الحمد.

وقد قال بعض أمراء المسلمين: قد علمت أنا لما وقفنا تحت صلبان الفرنج أنا لا نفلح.

وغنمت الخوارزمية من الفرنج ومن كان معهم شيئا كثيرا، وأرسل الصالح أيوب إلى دمشق ليحاصرها، فحصنها الصالح إسماعيل وخرب من حولها رباعا كثيرة، وكسر جسر باب توما فسار النهر فتراجع الماء حتى صار بحيرة من باب توما وباب السلامة، فغرق جميع ما كان بينهما من العمران، وافتقر كثير من الناس، فإنا لله وإنا إليه راجعون.

من الأعيان:

الملك المغيث عمر بن الصالح أيوب

كان الصالح إسماعيل قد أسره وسجنه في برج قلعة دمشق، حين أخذها في غيبة الصالح أيوب.

فاجتهد أبوه بكل ممكن في خلاصه فلم يقدر وعارضه فيه أمين الدولة غزال المسلماني، واقف المدرسة الأمينية التي ببعلبك، فلم يزل الشاب محبوسا في القلعة من سنة ثمان وثلاثين إلى ليلة الجمعة ثاني عشر ربيع الآخر من هذه السنة، فأصبح ميتا في محبسه غما وحزنا، ويقال إنه قتل فالله أعلم.

وكان من خيار أبناء الملوك، وأحسنهم شكلا، وأكملهم عقلا. ودفن عند جده الكامل في تربته شمالي الجامع، فاشتد حنق أبيه الصالح أيوب على صاحب دمشق.

شيخ الشيوخ بدمشق تاج الدين أبو عبد الله بن عمر بن حمويه

أحد الفضلاء المؤرخين المصنفين، له كتاب في ثماني مجلدات، ذكر فيه أصول وله السياسة الملوكية صنفها للكامل محمد وغير ذلك، وسمع الحديث وحفظ القرآن، وكان قد بلغ الثمانين، وقيل إنه لم يبلغها، وقد سافر إلى بلاد المغرب في سنة ثلاث وتسعين، واتصل بمراكش عند ملكها المنصور يعقوب بن يوسف بن عبد المؤمن، فأقام هناك إلى سنة ستمائة، فقدم إلى ديار مصر وولى مشيخة الشيوخ بعد أخيه صدر الدين بن حمويه رحمه الله تعالى.

الوزير نصر الدين أبو الأزهر

أحمد بن محمد بن علي بن أحمد الناقد البغدادي وزير المستنصر ثم ابنه المستعصم، كان من أبناء التجار، ثم توصل إلى أن وزر لهذين الخليفتين، وكان فاضلا بارعا حافظا للقرآن كثير التلاوة، نشأ في حشمة باذخة، ثم كان في وجاهة هائلة، وقد أقعد في آخر أمره، وهو مع هذا في غاية الاحترام والإكرام.

وله أشعار حسنة أورد منها ابن الساعي قطعة صالحة، توفي في هذه السنة وقد جاوز الخمسين رحمه الله تعالى.

نقيب النقباء خطيب الخطباء

وكيل الخلفاء أبو طالب الحسين بن أحمد بن علي بن أحمد بن معين بن هبة الله بن محمد بن علي ابن الخليفة المهتدي بالله العباسي، كان من سادات العباسيين وأئمة المسلمين، وخطباء المؤمنين، استمرت أحواله على السداد والصلاح، لم ينقطع قط عن الخطابة ولم يمرض قط حتى كانت ليلة السبت الثامن والعشرين من هذه السنة، قام في أثناء الليل لبعض حاجاته فسقط على أم رأسه، فسقط من فمه دم كثير وسكت فلم ينطق كلمة واحدة يومه ذلك إلى الليل، فمات وكانت له جنازة حافلة، رحمه الله تعالى وعفا عنه بمنه وكرمه.

ثم دخلت سنة ثلاث وأربعين وستمائة

وهي سنة الخوارزمية، وذلك أن الصالح أيوب بن الكامل صاحب مصر بعث الخوارزمية ومعهم ملكهم بركات خان في صحبة معين الدين ابن الشيخ فأحاطوا بدمشق يحاصرون عمه الصالح أبا الجيش صاحب دمشق، وحرق قصر حجاج، وحكر السماق، وجامع جراح خارج باب الصغير، ومساجد كثيرة.

ونصب المنجنيق عند باب الصغير وعند باب الجابية، ونصب من داخل البلد منجنيقان أيضا، وترآى الفريقان وأرسل الصالح إسماعيل إلى الأمير معين الدين بن الشيخ بسجادة وعكاز وإبريق وأرسل يقول:

اشتغالك بهذا أولى من اشتغالك بمحاصرة الملوك.

فأرسل إليه المعين بزمر وجنك وغلالة حرير أحمر وأصفر، وأرسل يقول:

أما السجادة فإنها تصلح لي، وأما أنت فهذا أولى بك.

ثم أصبح ابن الشيخ فاشتد الحصار بدمشق، وأرسل الصالح إسماعيل فأحرق جوسق قصر والده العادل، وامتد الحريق في زقاق الرمان إلى العقبية فأحرقت بأسرها، وقطعت الأنهار وغلت الأسعار، وأخيفت الطرق وجرى بدمشق أمور بشعة جدا، لم يتم عليها قط.

وامتد الحصار شهورا من هذه السنة إلى جمادى الأولى، فأرسل أمين الدولة يطلب من ابن الشيخ شيئا من ملابسه، فأرسل إليه بفرجية وعمامة وقميص ومنديل، فلبس ذلك الأمين وخرج إلى معين الدين، فاجتمع به بعد العشاء طويلا، ثم عاد ثم خرج مرة أخرى.

فاتفق الحال على أن يخرج الصالح إسماعيل إلى بعلبك ويسلم دمشق إلى الصالح أيوب، فاستبشر الناس بذلك وأصبح الصالح إسماعيل خارجا إلى بعلبك ودخل معين الدين ابن الشيخ فنزل في دار أسامة، فولي وعزل وقطع ووصل، وفوض قضاء القضاة إلى صدر الدين بن سني الدولة وعزل القاضي محي الدين بن الزكي، واستناب ابن سني الدولة التفليسي الذي ناب لابن الزكي والفرز السنجاري، وأرسل معين الدين ابن الشيخ أمين الدولة غزال ابن المسلماني وزير الصالح إسماعيل تحت الحوطة إلى الديار المصرية.

وأما الخوارزمية فإنهم لم يكونوا حاضرين وقت الصلح، فلما علموا بوقوع الصلح غضبوا وساروا نحو داريا فنهبوها وساقوا نحو بلاد الشرق، وكاتبوا الصالح إسماعيل فحالفوه على الصالح أيوب، ففرح بذلك ونقض الصلح الذي كان وقع منه.

وعادت الخوارزمية فحاصروا دمشق، وجاء إليهم الصالح إسماعيل من بعلبك فضاق الحال على الدماشقة، فعدمت الأموال وغلت الأسعار جدا، حتى إنه بلغ ثمن الغرارة ألف وستمائة، وقنطار الدقيق تسعمائة، والخبز كل وقيتين إلا ربع بدرهم، ورطل اللحم بسبعة وبيعت الأملاك بالدقيق، وأكلت القطاط والكلاب والميتات والجيفات، وتماوت الناس في الطرقات وعجزوا عن التغسيل والتكفين والإقبار فكانوا يلقون موتاهم في الآبار حتى أنتنت المدينة وضجر الناس فإنا لله وإنا إليه راجعون.

وفي هذه الأيام توفي الشيخ تقي الدين ابن الصلاح شيخ دار الحديث وغيرها من المدارس، فما أخرج من باب الفرج إلا بعد جهد جهيد، ودفن بالصوفية رحمه الله.

قال ابن السبط: ومع هذا كانت الخمور دائرة والفسق ظاهرا، والمكوس بحالها. وذكر الشيخ شهاب الدين: أن الأسعار غلت في هذه السنة جدا، وهلك الصعاليك بالطرقات، كانوا يسألون لقمة ثم صاروا يسألون لبابة ثم تنازلوا إلى فلس يشترون به نخالة يبلونها ويأكلونها، كالدجاج.

قال: وأنا شاهدت ذلك.

وذكر تفاصيل الأسعار وغلاءها في الأطعمة وغيرها، ثم زال هذا كله في آخر السنة بعد عيد الأضحى ولله الحمد.

ولما بلغ الصالح أيوب أن الخوارزمية قد مالؤا عليه وصالحوا عمه الصالح إسماعيل، كاتب الملك المنصور إبراهيم بن أسد الدين شيركوه صاحب حمص، فاستماله إليه وقوي جانب نائب دمشق معين الدين حسين ابن الشيخ، ولكنه توفي في رمضان من هذه السنة كما سيأتي في الوفيات.

ولما رجع المنصور صاحب حمص عن موالاة الصالح إسماعيل شرع في جمع الجيوش من الحلبيين والتركمان والأعراب لاستنقاذ دمشق من الخوارزمية، وحصارهم إياها، فبلغ ذلك الخوارزمية فخافوا من غائلة ذلك، وقالوا: دمشق ما تفوت، والمصلحة قتاله عند بلده.

فساورا إلى بحيرة حمص، وأرسل الناصر داود جيشه إلى الصالح إسماعيل مع الخوارزمية، وساق جيش دمشق فانضافوا إلى صاحب حمص، والتقوا مع الخوارزمية عند بحيرة حمص، وكان يوما مشهودا، قتل فيه عامة الخوارزمية، وقتل ملكهم بركات خان، وجيء برأسه على رمح، فتفرق شملهم وتمزقوا شذر مذر.

وساق المنصور صاحب حمص إلى بعلبك فتسلمها الصالح أيوب، وجاء إلى دمشق فنزل ببستان سامة خدمة للصالح أيوب، ثم حدثته نفسه بأخذها فاتفق مرضه، فمات رحمه الله في السنة الآتية، ونقل إلى حمص، فكانت مدة ملكه بعد أبيه عشر سنين.

وقام من بعده فيها ابنه الملك الأشرف مدة سنتين، ثم أخذت منه على ما سيأتي وتسلم نواب الصالح أيوب بعلبك وبصرى، ولم يبق بيد الصالح إسماعيل بلد يأوي إليه ولا أهل ولا ولد ولا مال؛ بل أخذت جميع أمواله ونقلت عياله تحت الحوطة إلى الديار المصرية.

وسار هو فاستجار بالملك الناصر بن العزيز بن الظاهر غازي صاحب حلب، فآواه وأكرمه واحترمه، وقال الأتابك لؤلؤ الحلبي لابن أستاذه الناصر، وكان شابا صغيرا: انظر إلى عاقبة الظلم.

وأما الخوارزمية فإنهم ساروا إلى ناحية الكرك فأكرمهم الناصر داود صاحبها، وأحسن إليهم وصاهرهم وأنزلهم بالصلت فأخذوا معها نابلس، فأرسل إليهم الصالح أيوب جيشا مع فخر الدين ابن الشيخ فكسرهم على الصلت وأجلاهم عن تلك البلاد، وحاصر الناصر بالكرك وأهانه غاية الإهانة، وقدم الملك الصالح نجم الدين أيوب من الديار المصرية فدخل دمشق في أبهة عظيمة، وأحسن إلى أهلها، وتصدق على الفقراء والمساكين، وسار إلى بعلبك وإلى بصرى وإلى صرخد، فتسلمها من صاحبها عز الدين أيبك المعظمي، وعوضه عنها ثم عاد إلى مصر مؤيدا منصورا. وهذا كله في السنة الآتية.

وفي هذه السنة: كانت وقعة عظيمة بين جيش الخليفة وبين التتار لعنهم الله، فكسرهم المسلمون كسرة عظيمة وفرقوا شملهم، وهزموا من بين أيديهم، فلم يلحقوهم ولم يتبعوهم، خوفا من غائلة مكرهم وعملا بقوله : «اتركوا الترك ما تركوكم».

وفي هذه السنة: ظهر ببلاد خوزستان على شق جبل داخله من الأبنية الغريبة العجيبة ما يحار فيه الناظر، وقد قيل: إن ذلك من بناء الجن.

وأورد صفته ابن الساعي في تاريخه.

وممن توفي في هذه السنة من الأعيان:

الشيخ تقي الدين ابن الصلاح

عثمان بن عبد الرحمن بن عثمان الإمام العلامة، مفتي الشام ومحدثها، الشهرزوري ثم الدمشقي، سمع الحديث ببلاد الشرق وتفقه هنالك بالموصل وحلب وغيرها، وكان أبوه مدرسا بالأسدية التي بحلب، وواقفها أسد الدين شيركوه ابن شاذي، وقدم هو الشام وهو في عداد الفضلاء الكبار.

وأقام بالقدس مدة ودرس بالصلاحية، ثم تحول منه إلى دمشق، ودرس بالرواحية ثم بدار الحديث الأشرفية، وهو أول من وليها من شيوخ الحديث، وهو الذي صنف كتاب وقفها.

ثم بالشامية الجوانية، وقد صنف كتبا كثيرة مفيدة في علوم الحديث والفقه، وله تعاليق حسنة على الوسيط وغيره من الفوائد التي يرحل إليها.

وكان دينا زاهدا ورعا ناسكا على طريق السلف الصالح، كما هو طريقة متأخري أكثر المحدثين، مع الفضيلة التامة في فنون كثيرة، ولم يزل على طريقة جيدة حتى كانت وفاته بمنزله في دار الحديث الأشرفية ليلة الأربعاء الخامس والعشرين من ربيع الآخر من سنة ثلاث وأربعين وستمائة.

وصلّي عليه بجامع دمشق وشيعه الناس إلى داخل باب الفرج، ولم يمكنهم البروز لظاهره لحصار الخوارزمية، وما صحبه إلى جبانة الصوفية إلا نحو العشرة رحمه الله وتغمده برضوانه.

وقد أثنى عليه القاضي شمس الدين بن خلكان، وكان من شيوخه.

قال السبط: أنشدني الشيخ تقي الدين من لفظه رحمه الله:

احذر من الواوات أربعة ** فهن من الحتوف

واو الوصية والوديعة ** والوكالة والوقوف

وحكى ابن خلكان عنه أنه قال: ألهمت في المنام هؤلاء الكلمات: ادفع المسألة ما وجدت التحمل يمكنك فإن لكل يوم رزقا جديدا، والإلحاح في الطلب يذهب البهاء، وما أقرب الصنيع من الملهوف، وربما كان العسر نوعا من آداب الله، والحظوظ مراتب، فلا تعجل على ثمرة قبل أن تدرك، فإنك ستنالها في أوانها، ولا تعجل في حوائجك فتضيق بها ذرعا، ويغشاك القنوط.

ابن النجار الحافظ صاحب التاريخ

محمد بن محمود بن الحسن بن هبة الله بن محاسن ابن النجار، أبو عبد الله البغدادي الحافظ الكبير، سمع الكثير ورحل شرقا وغربا، ولد سنة ثلاث وسبعين وخمسمائة، وشرع في كتابة التاريخ وعمره خمسة عشر سنة، والقراءات وقرأ بنفسه على المشايخ كثيرا حتى حصل نحوا من ثلاثة آلاف شيخ، من ذلك نحو من أربعمائة امرأة، وتغرب ثمانيا وعشرين سنة.

ثم جاء إلى بغداد وقد جمع أشياء كثيرة، من ذلك (القمر المنير في المسند الكبير)، يذكر لكل صحابي ما روى.

و(كنز الأيام) في معرفة السنن والأحكام، و(المختلف والمؤتلف)، و(السابق واللاحق) و(المتفق والمفترق) وكتاب (الألقاب)، و(نهج الإصابة في معرفة الصحابة)، و(الكافي) في أسماء الرجال، وغير ذلك مما لم يتم أكثره وله كتاب (الذيل) على تاريخ مدينة السلام، في ستة عشر مجلدا كاملا.

وله أخبار مكة ولمدينة وبيت المقدس وغرر الفوائد في خمس مجلدات، وأشياء كثيرة جدا سردها ابن الساعي في ترجمته، وذكر أنه لما عاد إلى بغداد عرض عليه الإقامة في المدارس فأبى وقال: معي ما أستغني به عن ذلك فأشتري جارية وأولدها وأقام برهة ينفق مدة على نفسه من كيسه.

ثم احتاج إلى أن نزل محدثا في جماعة المحدثين بالمدرسة المستنصرية حين وضعت.

ثم مرض شهرين وأوصى إلى ابن الساعي في أمر تركته وكانت وفاته يوم الثلاثاء الخامس من شعبان من هذه السنة، وله من العمر خمس وسبعون سنة وصلّي عليه بالمدرسة النظامية، وشهد جنازته خلق كثير، وكان ينادي حول جنازته هذا حافظ حديث رسول الله ، الذي كان ينفي الكذب عنه.

ولم يترك وارثا، وكانت تركته عشرين دينارا وثياب بدنه، وأوصى أن يتصدق بها، ووقف خزانتين من الكتب بالنظامية تساوي ألف دينار، فأمضى ذلك الخليفة المستعصم، وقد أثنى عليه الناس ورثوه بمراث كثيرة، سردها ابن الساعي في آخر ترجمته.

الحافظ ضياء الدين المقدسي

ابن الحافظ محمد بن عبد الواحد بن أحمد بن عبد الرحمن بن إسماعيل سمع الحديث الكثير وكتب كثيرا وطوف وجمع وصنف وألف كتبا مفيدة حسنة كثيرة الفوائد، من ذلك كتاب (الأحكام) ولم يتمه، وكتاب (المختارة) وفيه علوم حسنة حديثية، وهي أجود من (مستدرك الحاكم) لو كمل، وله (فضائل الأعمال) وغير ذلك من الكتب الحسنة الدالة على حفظه واطلاعه وتضلعه من علوم الحديث متنا وإسنادا.

وكان رحمه الله في غاية العبادة والزهادة والورع والخير، وقد وقف كتبا كثيرة عظيمة لخزانة المدرسة الضيائية التي وقفها على أصحابهم من المحدثين والفقهاء، وقد وقفت عليها أوقاف أخر كثيرة بعد ذلك.

الشيخ علم الدين أبو الحسن السخاوي

علي بن محمد بن عبد الصمد بن عبد الأحد بن عبد الغالب الهمذاني المصري، ثم الدمشقي شيخ القراء بدمشق، ختم عليه ألوف من الناس، وكان قد قرأ على الشاطبي وشرح قصيدته، وله شرح المفصل وله تفاسير وتصانيف كثيرة، ومدائح في رسول الله .

وكانت له حلقة بجامع دمشق، وولي مشيخة الإقراء بتربة أم الصالح، وبها كان مسكنه وبه توفي ليلة الأحد ثاني عشر جمادى الآخرة، ودفن بقاسيون.

وذكر القاضي ابن خلكان أن مولده في سنة ثمان وخمسين وخمسمائة وذكر من شعره قوله:

قالوا غدا نأتي ديار الحمى ** وينزل الركب بمغناهم

وكل من كان مطيعا لهم ** أصبح مسرورا بلقياهم

قلت فلي ذنب فما حيلتي ** بأي وجه أتلقاهم

قالوا أليس العفو من شأنهم ** لا سيما عمن ترجاهم

ربيعة خاتون بنت أيوب

أخت السلطان صلاح الدين، زوجها أخوها أولا بالأمير سعد الدين مسعود بن معين الدين وتزوج هو بأخته عصمة الدين خاتون، التي كانت زوجة الملك نور الدين واقفة الخاتونية الجوانية، والخانقاه البرانية.

ثم لما مات الأمير سعد الدين زوجها من الملك مظفر الدين صاحب إربل، فأقامت عنده بإربل أزيد من أربعين سنة حتى مات.

ثم قدمت دمشق فسكنت بدار العقيقي حتى كانت وفاتها في هذه السنة وقد جاوزت الثمانين، ودفنت بقاسيون، وكانت في خدمتها الشيخة الصالحة العالمة أمة اللطيف بنت الناصح الحنبلي، وكانت فاضلة، ولها تصانيف، وهي التي أرشدتها إلى وقف المدرسة بسفح قاسيون على الحنابلة.

ووقفت أمة اللطيف على الحنابلة مدرسة أخرى وهي الآن شرقي الرباط الناصري.

ثم لما ماتت الخاتون وقعت العالمة بالمصادرات وحبست مدة ثم أفرح عنها وتزوجها الأشرف صاحب حمص، وسافرت معه إلى الرحبة وتل راشد، ثم توفيت في سنة ثلاث وخمسين، ووجد لها بدمشق ذخائر كثيرة وجواهر ثمينة، تقارب ستمائة ألف درهم، غير الأملاك والأوقاف رحمها الله تعالى.

معين الدين الحسن بن شيخ الشيوخ

وزير الصالح نجم الدين أيوب، أرسله إلى دمشق فحاصرها مع الخوارزمية أول مرة حتى أخذها من يد الصالح إسماعيل، وأقام بها نائبا من جهة الصالح أيوب.

ثم مالأ الخوارزمية مع الصالح إسماعيل عليه فحصروه بدمشق، ثم كانت وفاته في العشر الأخر من رمضان هذه السنة، عن ست وخمسين سنة، فكانت مدة ولايته بدمشق أربعة أشهر ونصف، وصلّي عليه بجامع دمشق، ودفن بقاسيون إلى جانب أخيه عماد الدين.

وفيها كانت وفاة وقاف القليجية للحنفية وهو الأمير سيف الدين بن قلج

ودفن بتربته التي بمدرسته المذكورة، التي كانت سكنه بدار فلوس تقبل الله تعالى منه.

وخطيب الجبل شرف الدين عبد الله بن الشيخ أبي عمر رحمه الله.

والسيف أحمد بن عيسى بن الإمام موفق الدين بن قدامة.

وفيها: توفي إمام الكلاسة الشيخ تاج الدين أبو الحسن محمد بن أبي جعفر مسند وقته، وشيخ الحديث في زمانه رواية وصلاحا رحمه الله تعالى.

والمحدثان الكبيران الحافظان المفيدان شرف الدين أحمد بن الجوهري وتاج الدين عبد الجليل الأبهري.

ثم دخلت سنة أربع وأربعين وستمائة

فيها: كسر المنصور الخوارزمية عند بحيرة حمص واستقرت يد نواب الصالح أيوب على دمشق وبعلبك وبصرى.

ثم في جمادى الآخرة كسر فخر الدين بن الشيخ الخوارزمية على الصلت كسرت فرق بقية شملهم.

ثم حاصر الناصر بالكرك ورجع عنه إلى دمشق.

وقدم الصالح أيوب إلى دمشق في ذي القعدة فأحسن إلى أهلها وتسلم هذه المدن المذكورة، وانتزع صرخد من يد عز الدين أيبك، وعوضه عنها، وأخذ الصلت من الناصر داود بن المعظم وأخذ حصن الصبية من السعيد بن العزيز بن العادل، وعظم شأنه جدا، وزار في رجوعه بيت المقدس وتفقد أحواله وأمر بإعادة أسواره أن تعمر كما كانت في الدولة الناصرية، فاتح القدس، وأن يصرف الخراج وما يتحصل من غلات بيت المقدس في ذلك.

وإن عاز شيئا صرفه من عنده.

وفيها: قدمت الرسل من عند البابا الذي للنصارى تخبر بأنه قد أباح دم الأبدور ملك الفرنج لتهاونه في قتال المسلمين، وأرسل طائفة من عنده ليقتلوه، فلما انتهوا إليه كان استعد لهم وأجلس مملوكا له على السرير فاعتقدوه الملك فقتلوه، فعند ذلك أخذهم الأبدور فصلبهم على باب قصره بعد ما ذبحهم وسلخهم وحشى جلودهم تبنا، فلما بلغ ذلك البابا أرسل إليه جيشا كثيفا لقتاله فأوقع الله الخلف بينهم بسبب، ذلك وله الحمد والمنة.

وفيها: هبت رياح عاصفة شديدة بمكة في يوم الثلاثاء من عشر ربيع الآخر، فألقت ستارة الكعبة المشرفة، وكانت قد عتقت، فإنها من سنة أربعين لم تجدد لعدم الحج في تلك السنين من ناحية الخليفة، فما سكنت الريح إلا والكعبة عريانة قد زال عنها شعار السواد.

وكان هذا فألا على زوال دولة بني العباس، ومنذرا بما سيقع بعد هذا من كائنة التتار لعنهم الله تعالى.

فاستأذن نائب اليمن عمر بن سول شيخ الحرم العفيف بن منعة في أن يكسو الكعبة، فقال: لا يكون هذا إلا من مال الخليفة، ولم يكن عنده مال فاقترض ثلاثمائة دينار واشترى ثياب قطن وصبغها سوادا وركب عليها طرازاتها العتيقة وكسى بها الكعبة ومكثت الكعبة ليس عليها كسوة إحدى وعشرين ليلة.

وفيها: فتحت دار الكتب التي أنشأها الوزير مؤيد الدين محمد بن أحمد العلقمي بدار الوزارة، وكانت في نهاية الحسن، ووضع فيها من الكتب النفيسة والنافعة شيء كثير، وامتدحها الشعراء بأبيات وقصائد حسانا وفي أواخر ذي الحجة طهر الخليفة المستعصم بالله ولديه الأميرين أبا العباس أحمد، وأبا الفضائل عبد الرحمن، وعملت ولائم فيها كل أفراح ومسرة، لا يسمع بمثلها من أزمان متطاولة، وكان ذلك وداعا لمسرات بغداد وأهلها في ذلك الزمان.

وفيها: احتاط الناصر داود صاحب الكرك على الأمير عماد الدين داود بن موسك بن حسكو، وكان من خيار الأمراء الأجواد واصطفى أمواله كلها وسجنه عنده في الكرك، فشفع فيه فخر الدين ابن الشيخ لما كان محاصره في الكرك فأطلقه، فخرجت في حلقه جراحة فبطها فمات، ودفن عند قبر جعفر والشهداء بمؤتة رحمه الله تعالى.

وفيها: توفي ملك الخوارزمية قبلا بركات خان لما كسرت أصحابه عند بحيرة حمص كما تقدم ذكره. وفيها توفي:

الملك المنصور ناصر الدين إبراهيم بن الملك المجاهد أسد الدين شيركوه صاحب حمص بدمشق

بعد أن سلم بعلبك للصالح أيوب، ونقل إلى حمص، وكان نزوله أولا ببستان أسامة فلما مرض حمل إلى الدهشة بستان الأشرف بالنيرب فمات فيه. وفيها توفي:

الصائن محمد بن حسان

ابن رافع العامري الخطيب، وكان كثير السماع مسندا، وكانت وفاته بقصر حجاج رحمه الله تعالى. وفيها توفي:

الفقيه العلامة محمد بن محمود بن عبد المنعم

المرامي الحنبلي وكان فاضلا ذا فنون، أثنى عليه أبو شامة.

قال: صحبته قديما ولم يترك بعده بدمشق مثله في الحنابلة.

وصُلي عليه بجامع دمشق، ودفن بسفح قاسيون رحمه الله.

والضياء عبد الرحمن الغماري

المالكي الذي ولي وظائف الشيخ أبي عمرو ابن الحاجب حين خرج من دمشق سنة ثمان وثلاثين، وجلس في حلقته ودرس مكانه بزاوية المالكية، والفقيه تاج الدين إسماعيل بن جميل بحلب، وكان فاضلا دينا سليم الصدر، رحمه الله.

ثم دخلت سنة خمس وأربعين وستمائة

فيها: كان عود السلطان الصالح نجم الدين أيوب بن الكامل من الشام إلى الديار المصرية، وزار في طريقه بيت المقدس وفرق في أهله أموالا كثيرة، وأمر بإعادة سوره كما كان في أيام عم أبيه الملك الناصر فاتح القدس.

ونزل الجيوش لحصار الفرنج، ففتحت طبرية في عاشر صفر، وفتحت عسقلان في أواخر جمادى الآخرة، وفي رجب عزل الخطيب عماد الدين داود بن خطيب بيت الآبار عن الخطابة بجامع الأموي، وتدريس الغزالية، وولي ذلك للقاضي عماد الدين بن عبد الكريم بن الحرستاني شيخ دار الحديث بعد ابن الصلاح.

وفيها: أرسل الصالح أيوب يطلب جماعة من أعيان الدماشقة اتهموا بممالأة الصالح إسماعيل، منهم القاضي محي الدين بن الزكي، وبنو صصرى، وابن العماد الكاتب، والحليمي مملوك الصالح إسماعيل، والشهاب غازي والي بصرى، فلما وصلوا إلى مصر لم يكن إليهم شيء من العقوبات والإهانة؛ بل خلع على بعضهم وتركوا باختيارهم مكرمين.

من الأعيان:

الحسين بن الحسين بن علي ابن حمزة العلوي الحسيني

أبو عبد الله الأفساسي النقيب قطب الدين، أصله من الكوفة، وأقام ببغداد، وولي النقابة، ثم اعتقل بالكوفة وكان فاضلا أديبا شاعرا مطبقا.

أورد له ابن الساعي أشعارا كثيرة رحمه الله.

الشلوبين النحوي

هو عمر بن محمد بن عبد الله الأزدي، أبو علي الأندلسي الأشبيلي المعروف: بالشلوبين.

وهو بلغة الأندلسيين الأبيض الأشقر.

قال ابن خلكان: ختم به أئمة النحو، وكان فيه تغفل، وذكر له شعرا ومنصفات منها: (شرح الجزولية) وكتاب (التوطئة) وأرخ وفاته بهذه السنة. وقد جاوز الثمانين رحمه الله تعالى وعفا عنه.

الشيخ علي المعروف بالحريري

أصله من قرية بسر شرقي ذرع، وأقام بدمشق مدة يعمل صنعة الحرير، ثم ترك ذلك وأقبل يعمل الفقيري على يد الشيخ علي المغربل، وابتنى له زاوية على الشرف القبلي، وبدرت منه أفعال أنكرها عليه الفقهاء، كالشيخ عز الدين بن عبد السلام، والشيخ تقي الدين ابن الصلاح، والشيخ أبي عمرو بن الحاجب شيخ المالكية وغيرهم.

فلما كانت الدولة الأشرفية حبس في قلعة عزتا مدة سنين، ثم أطلقه الصالح إسماعيل واشترط عليه أن لا يقيم بدمشق، فلزم بلده بسر مدة حتى كانت وفاته في هذه السنة.

قال الشيخ شهاب الدين أبو شامة في (الذيل): وفي رمضان أيضا توفي الشيخ على المعروف بالحريري المقيم بقرية بسر في زاويته، وكان يتردد إلى دمشق، وتبعه طائفة من الفقراء وهم المعروفون: بأصحاب الحريري أصحاب المنافي للشريعة، وباطنهم شر من ظاهرهم، إلا من رجع إلى الله منهم.

وكان عند هذا الحريري من الاستهزاء بأمور الشريعة والتهاون فيها من إظهار شعائر أهل الفسوق والعصيان شيء كثير، وانفسد بسببه جماعة كبيرة من أولاد كبراء دمشق، وصاروا على زي أصحابه، وتبعوه بسبب أنه كان خليع العذار، يجمع مجلسه الغنا الدائم والرقص والمردان، وترك الإنكار على أحد فيما يفعله، وترك الصلوات وكثرت النفقات، فأضل خلقا كثيرا وأفسد جما غفيرا، ولقد أفتى في قتله مرارا جماعة من علماء الشريعة، ثم أراح الله تعالى منه. هذا لفظه بحروفه.

واقف العزية الأمير عز الدين أيبك

أستاذ دار المعظم، كان من العقلاء الأجواد الأمجاد، استنابه المعظم على صرخد وظهرت منه نهضة وكفاية وسداد، ووقف العزيتين الجوانية والبرانية، ولما أخذ منه الصالح أيوب صرخد عوضه عنها وأقام بدمشق، ثم وشي عليه بأنه يكاتب الصالح إسماعيل فاحتيط عليه وعلى أمواله وحواصله، فمرض وسقط إلى الأرض، وقال: هذا آخر عهدي.

ولم يتكلم حتى مات ودفن بباب النصر بمصر رحمه الله تعالى، ثم نقل إلى تربته التي فوق الوراقة.

وإنما أرخ السبط وفاته في سنة سبع وأربعين، فالله أعلم.

الشهاب غازي بن العادل

صاحب ميافارقين وخلاط وغيرهما من البلدان، كان من عقلاء بني أيوب وفضلائهم، وأهل الديانة منهم، ومما أنشد قوله:

ومن عجب الأيام أنك جالس ** على الأرض في الدنيا وأنت تسير

فسيرك يا هذا كسير سفينة ** بقوم جلوس والقلوع تطير

ثم دخلت سنة ست وأربعين وستمائة

فيها: قدم السلطان الصالح نجم الدين من الديار المصرية إلى دمشق، وجهز الجيوش والمجانيق إلى حمص، لأنه كان صاحبها الملك الأشرف بن موسى بن المنصور بن أسد الدين قد قايض بها إلى تل باشر لصاحب حلب الناصر يوسف بن العزيز، ولما علمت الحلبيون بخروج الدماشقة، برزوا أيضا في جحفل عظيم ليمنعوا حمص منهم.

واتفق الشيخ نجم الدين البادزاي مدرس النظامية ببغداد في رسالة فأصلح بين الفريقين، ورد كلا من الفئتين إلى مستقرها ولله الحمد.

وفيها: قتل مملوك تركي شاب صبي لسيده علي دفعه عنه لما أراد به من الفاحشة، فصلب الغلام مسمرا، وكان شابا حسنا جدا فتأسف الناس له لكونه صغيرا ومظلوما وحسنا، ونظموا فيه قصائد، وممن نظم فيه الشيخ شهاب الدين أبو شامة في (الذيل)، وقد أطال قصته جدا.

وفيها: سقطت قنطرة رومية قديمة البناء بسوق الدقيق من دمشق، عند قصر أم حكيم، فتهدم بسببها شيء كثير من الدور والدكاكين، وكان سقوطها نهارا.

وفي ليلة الأحد الخامس والعشرين من رجب وقع حريق بالمنارة الشرقية، فأحرق جميع حشوها، وكانت سلالمها سقالات من خشب، وهلك للناس ودائع كثيرة كانت فيها، وسلم الله الجامع وله الحمد.

وقدم السلطان بعد أيام إلى دمشق فأمر بإعادتها كما كانت.

قلت: ثم احترقت وسقطت بالكلية بعد سنة أربعين وسبعمائة، وأعيدت عمارتها أحسن مما كانت ولله الحمد.

وبقيت حينئذ المنارة البيضاء الشرقية بدمشق، كما نطق به الحديث في نزول عيسى عليه السلام عليها، كما سيأتي بيانه وتقريره في موضعه إن شاء الله تعالى.

ثم عاد السلطان الصالح أيوب مريضا في محفة إلى الديار المصرية وهو ثقيل مدنف، شغله ما هو فيه عن أمره بقتل أخيه العادل أبي بكر بن الكامل الذي كان صاحب الديار المصرية بعد أبيه، وقد كان سجنه سنة استحوذ على مصر، فلما كان في هذه السنة في شوالها أمر بخنقه فخنق بتربة شمس الدولة، فما عمر بعده إلا إلى النصف من شعبان في العام القابل في أسوأ حال، وأشد مرض، فسبحان من له الخلق والأمر.

وفيها كانت وفاة قاضي القضاة بالديار المصرية فضل الدين الخونجي

الحكيم المنطقي البارع في ذلك، وكان مع ذلك جيد السيرة في أحكامه.

قال أبو شامة: أثنى عليه غير واحد.

علي بن يحيى جمال الدين أبو الحسن المحرمي

كان شابا فاضلا أديبا شاعرا ماهرا، صنف كتابا مختصرا وجيزا جامعا لفنون كثيرة في الرياضة والعقل وذم الهوى، وسماه: (نتائج الأفكار).

قال: فيه من الكلم المستفادة الحكمية: السلطان إمام متبوع، ودين مشروع، فإن ظلم جارت الحكام لظلمه، وإن عدل لم يجر أحد في حكمه، من مكنه الله في أرضه وبلاده وائتمنه على خلقه وعباده، وبسط يده وسلطانه، ورفع محله ومكانه، فحقيق عليه أن يؤدي الأمانة، و يخلص الديانة، ويجمل السريرة، ويحسن السيرة، ويجعل العدل دأبه المعهود، والأجر غرضه المقصود، فالظلم يزل القدم، ويزيل النعم، ويجلب الفقر، ويهلك الأمم.

وقال أيضا: معارضة الطبيب توجب التعذيب، رُبَّ حيلة أنفع من قبيلة، سمين الغضب مهزول، ووالي الغدر معزول، قلوب الحكماء تستشف الأسرار من لمحات الأبصار، ارض من أخيك في ولايته بعشر ما كنت تعهده في مودته، التواضع من مصائد الشرف.

ما أحسن حسن الظن لولا أن فيه العجز، ما أقبح سوء الظن لولا أن فيه الحزم.

وذكر في غضون كلامه: أن خادما لعبد الله بن عمر أذنب فأراد ابن عمر أن يعاقبه على ذنبه، فقال:

يا سيدي، أما لك ذنب تخاف من الله فيه؟.

قال: بلى.

قال: بالذي أمهلك لما أمهلتني، ثم أذنب العبد ثانيا فأراد عقوبته فقال له مثل ذلك فعفا عنه، ثم أذنب الثالثة فعاقبه وهو لا يتكلم فقال له ابن عمر: مالك لم تقل مثل ما قلت في الأولتين؟.

فقال: يا سيدي، حياء من حلمك مع تكرار جرمي.

فبكى ابن عمر وقال: أنا أحق بالحياء من ربي، أنت حر لوجه الله تعالى.

ومن شعره يمدح الخليفة:

يا من إذا بخل السحاب بمائه ** هطلت يداه على البرية عسجدا

جورت كسرى يا مبخل حاتم ** فغدت بنو الآمال نحوك سجدا

وقد أورد له ابن الساعي أشعارا كثيرة حسنة رحمه الله تعالى.

الشيخ أبو عمرو بن الحاجب

المالكي عثمان بن عمر بن أبي بكر بن يونس الرويني ثم المصري، العلامة أبو عمرو شيخ المالكية كان أبوه صاحبا للأمير عز الدين موسك الصلاحي، واشتغل هو بالعلم فقرأ القراءات وحرر النحو تحريرا بليغا، وتفقه وساد أهل عصره.

ثم كان رأسا في علوم كثيرة، منها الأصول والفروع والعربية والتصريف والعروض والتفسير وغير ذلك.

وقد كان استوطن دمشق في سنة سبع عشرة وستمائة، ودرس بها للمالكية بالجامع حتى كان خروجه بصحبة الشيخ عز الدين بن عبد السلام في سنة ثمان وثلاثين، فصارا إلى الديار المصرية حتى كانت وفاة الشيخ أبي عمرو في هذه السنة بالإسكندرية، ودفن بالمقبرة التي بين المنارة والبلد.

قال الشيخ شهاب الدين أبو شامة: وكان من أذكى الأئمة قريحة، وكان ثقة حجة متواضعا عفيفا كثير الحياء منصفا محبا للعلم وأهله، ناشرا له محتملا للأذى صبورا على البلوى، قدم دمشق مرارا آخرها سنة سبع عشرة، فأقام بها مدرسا للمالكية وشيخا للمستفيدين عليه في علمي القراءات والعربية.

وكان ركنا من أركان الدين في العلم والعمل، بارعا في العلوم متقنا لمذهب مالك بن أنس رحمه الله تعالى.

وقد أثنى عليه ابن خلكان ثناء كثيرا، وذكر أنه جاء إليه في أداء شهادة حين كان نائبا في الحكم بمصر وسأله عن مسألة اعتراض الشرط على الشرط، إذا قال:

إن أكلتِ إن شربتِ فأنتِ طالق، لم كان يقع الطلاق حين شربت أولا؟ وذكر أنه أجاب عن ذلك في تؤده وسكون.

قلت: ومختصره في الفقه من أحسن المختصرات، انتظم فيه فوائد ابن شاش، ومختصره في أصول الفقه، استوعب فيه عامة فوائد الأحكام لسيف الدين الآمدي، وقد منّ الله تعالى عليّ بحفظه وجمعت كراريس في الكلام على ما أودعه فيه من الأحاديث النبوية، ولله الحمد.

وله شرح المفصل والأمالي في العربية والمقدمة المشهورة في النحو، اختصر فيها مفصل الزمخشري وشرحها، وقد شرحها غيره أيضا، وله التصريف وشرحه، وله عروض على وزن الشاطبية رحمه الله ورضى عنه.

ثم دخلت سنة سبع وأربعين وستمائة

فيها: كانت وفاة الملك الصالح أيوب، وقتل ابنه توران شاه وتوليه المعز عز الدين أيبك التركماني.

وفي رابع المحرم يوم الاثنين توجه الملك الصالح من دمشق إلى الديار المصرية في محفة. قاله ابن السبط.

وكان قد نادى في دمشق: من له عندنا شيء فليأت، فاجتمع خلق كثير بالقلعة، فدفعت إليهم أموالهم وفي عاشر صفر دخل إلى دمشق نائبها الأمير جمال الدين بن يغمور من جهة الصالح أيوب فنزل بدرب الشعارين داخل باب الجابية.

وفي جمادى الآخرة أمر النائب بتخريب الدكاكين المحدثة وسط باب البريد، وأمر أن لا يبقى فيها دكان سوى ما في جانبيه إلى جانب الخياطين القبلي والشامي، وما في الوسط يهدم.

قال أبو شامة: وقد كان العادل هدم ذلك ثم أعيد ثم هدمه ابن يغمور، والمرجو استمراره على هذه الصفة.

وفيها: توجه الناصر داود من الكرك إلى حلب فأرسل الصالح أيوب إلى نائبه بدمشق جمال الدين بن يغمور بخراب دار أسامة المنسوبة إلى الناصر بدمشق، وبستانه الذي بالقابون، وهو بستان القصر، وأن تقلع أشجاره ويخرب القصر، وتسلم الصالح أيوب الكرك من الأمجد حسن بن الناصر.

وأخرج من كان بها من بيت المعظم، واستحوذ على حواصلها وأموالها، فكان فيها من الذهب ألف ألف دينار، وأقطع الصالح الأمجد هذا إقطاعا جيدا.

وفيها: طغى الماء ببغداد حتى أتلف شيئا كثيرا من المحال والدور الشهيرة، وتعذرت الجمع في أكثر الجوامع بسبب ذلك سوى ثلاث جوامع، ونقلت توابيت جماعة من الخلفاء إلى الترب من الرصافة خوفا عليهم من أن تغرق محالهم، منهم المقتصد بن الأمير أبي أحمد المتوكل، وذلك بعد دفنه بنيف وخمسين سنة وثلاثمائة سنة، وكذا نقل ولده المكتفي وكذا المقتفي بن المقتدر بالله رحمهم الله تعالى.

وفيها: هجمت الفرنج على دمياط فهرب من كان فيها من الجند والعامة واستحوذ الفرنج على الثغر وقتلوا خلقا كثيرا من المسلمين، وذلك في ربيع الأول منها، فنصب السلطان المخيم تجاه العدو بجميع الجيش، وشنق خلقا ممن هرب من الفرنج، ولامهم على ترك المصابرة قليلا ليرهبوا عدو الله وعدوهم، وقوى المرض وتزايد بالسلطان جدا.

فلما كانت ليلة النصف من شعبان توفي إلى رحمة الله تعالى بالمنصورة، فأخفت جاريته أم خليل المدعوة شجرة الدر موته.

وأظهرت أنه مريض مدنف لا يوصل إليه، وبقيت تعلم عنه بعلامته سواء.

وأعلمت إلى أعيان الأمراء فأرسلوا إلى ابنه الملك المعظم توران شاه وهو بحصن كيفا، فأقدموه إليهم سريعا، وذلك بإشارة أكابر الأمراء منهم فخر الدين ابن الشيخ، فلما قدم عليهم ملكوه عليهم وبايعوه أجمعين، فركب في عصائب الملك وقاتل الفرنج فكسرهم وقتل منهم ثلاثين ألفا ولله الحمد.

وذلك في أول السنة الداخلة.

ثم قتلوه بعد شهرين من ملكه، ضربه بعض الأمراء وهو عز الدين أيبك التركماني فضربه في يده فقطع بعض أصابعه فهرب إلى قصر من خشب في المخيم فحاصروه فيه وأحرقوه عليه، فخرج من بابه مستجيرا برسول الخليفة فلم يقبلوا منه، فهرب إلى النيل فانغمر فيه ثم خرج فقتل سريعا شر قتلة وداسوه بأرجلهم ودفن كالجيفة، فإنا لله وإنا إليه راجعون.

وكان فيمن ضربه البندقداري على كتفه فخرج السيف من تحت إبطه الآخر وهو يستغيث فلا يغاث.

وممن قتل في هذه السنة:

فخر الدين يوسف بن الشيخ بن حمويه

وكان فاضلا دينا مهيبا وقورا خليقا بالملك، كانت الأمراء تعظمه جدا ولو دعاهم إلى مبايعته بعد الصالح لما اختلف عليه اثنان، ولكنه كان لا يرى ذلك حماية لجانب بني أيوب، قتلته الداوية من الفرنج شهيدا قبل قدوم المعظم توران شاه إلى مصر، في ذي القعدة.

ونهبت أمواله وحواصله وخيوله، وخربت داره ولم يتركوا شيئا من الأفعال الشنيعة البشعة إلا صنعوه به، مع أن الذين تعاطوا ذلك من الأمراء كانوا معظمين له غاية التعظيم. ومن شعره:

عصيت هو نفسي صغيرا فعندما ** رمتني الليالي بالمشيب وبالكبر

أطعت الهوى عكس القضية ليتني ** خلقت كبيرا ثم عدت إلى الصغر

ثم دخلت سنة ثمان وأربعين وستمائة

في ثالث المحرم يوم الأربعاء كان كسر المعظم توران شاه للفرنج على ثغر دمياط، فقتل منهم ثلاثين ألفا وقيل مائة ألف، وغنموا شيئا كثيرا ولله الحمد.

ثم قتل جماعة من الأمراء الذي أسروا، وكان فيمن أسر ملك الفرنسيس وأخوه، وأرسلت غفارة ملك الأفرنسيس إلى دمشق، فلبسها نائبها في يوم الموكب، وكانت من سقرلاط تحتها فروسنجاب، فأنشد في ذلك جماعة من الشعراء فرحا بما وقع.

ودخل الفقراء كنيسة مريم فأقاموا بها فرحا لما نصر الله تعالى على النصارى، وكادوا أن يخربوها وكانت النصارى ببعلبك فرحوا حين أخذت النصارى دمياط، فلما كانت هذه الكسرة عليهم سخموا وجوه الصور، فأرسل نائب البلد فجناهم وأمر اليهود فصفعوهم.

ثم لم يخرج شهر المحرم حتى قتل الأمراء ابن أستاذهم توران شاه، ودفنوه إلى جانب النيل من الناحية الأخرى رحمه الله تعالى ورحم أسلافه بمنه وكرمه.

المعز عز الدين أيبك التركماني يملك مصر بعد بني أيوب

لما قتل الأمراء البحرية وغيرهم من الصالحية ابن أستاذهم المعظم غياث الدين توران شاه بن الصالح أيوب بن الكامل بن العادل أبي بكر بن نجم الدين أيوب، وكان ملكه بعد أبيه بشهرين كما تقدم بيانه، ولما انفصل مره بالقتل نادوا فيما بينهم لا باس لا بأس.

واستدعوا من بينهم الأمير عز الدين أيبك التركماني، فملكوه عليهم وبايعوه ولقبوه بالملك المعز، وركبوا إلى القاهرة.

ثم بعد خمسة أيام أقاموا لهم صبيا من بين أيوب ابن عشر سنين وهو الملك الأشرف مظفر الدين موسى بن الناصر يوسف ابن المسعود إقسيس بن الكامل، وجعلوا المعز أتابكه فكانت السكة والخطبة بينهما، وكاتبوا أمراء الشام بذلك، فما تم لهم الأمر بالشام، بل خرج عن أيديهم ولم تستقر لهم المملكة إلا على الديار المصرية.

وكل ذلك عن أمر الخاتون شجرة الدر أم خليل حظية الصالح أيوب، فتزوجت بالمعز، وكانت الخطبة والسكة لها، يدعى لها على المنابر أيام الجمع بمصر وأعمالها، وكذا تضرب السكة باسمها أم خليل، والعلامة على المناشير والتواقيع بخطها واسمها، مدة ثلاثة أشهر قبل المعز.

ثم آل أمرها إلى ما سنذكره من الهوان والقتل.

الناصر بن العزيز بن الظاهر صاحب حلب يملك دمشق

لما وقع بالديار المصرية من قتل الأمراء للمعظم توران شاه بن الصالح أيوب ركب الجلبيون معهم ابن أستاذهم الناصر يوسف بن العزيز محمد بن الظاهر غازي بن الناصر يوسف فاتح بيت المقدس، ومن كان عندهم من ملوك بني أيوب منهم الصالح إسماعيل ابن العادل، وكان أحق الموجودين بالملك، من حيث السن والتعدد والحرمة والرياسة.

ومنهم الناصر داود بن المعظم بن العادل، والأشرف موسى بن المنصور إبراهيم بن أسد الدين شيركوه، الذي كان صاحب حمص وغيرهم، فجاؤوا إلى دمشق فحاصروها فملكوها سريعا.

ونهبت دار ابن يغمور وحبس في القلعة وتسلموا ما حولها كبعلبك وبصرى والصلت وصرخد، وامتنعت عليهم الكرك والشوبك بالملك المغيث عمر بن العادل بن الكامل، كان قد تغلب عليهما في هذه الفتنة حين قتل المعظم توران شاه، فطلبه المصريون ليملكوه عليهم فخاف مما حل بابني عمه، فلم يذهب إليهم ولما استقرت يد الحلبيين على دمشق وما حولها جلس الناصر في القلعة وطيب قلوب الناس.

ثم ركبوا إلى غزة ليتسلموا الديار المصرية، فبرز إليهم الجيش المصري فاقتتلوا معهم أشد القتال، فكسر المصريون أولا بحيث إنه خطب للناصر في ذلك بها.

ثم كانت الدائرة على الشاميين فانهزموا وأسروا من أعيانهم خلقا كثيرا، وعدم من الجيش الصالح إسماعيل رحمه الله تعالى، وقد أنشد هنا الشيخ أبو شامة لبعضهم:

ضيع إسماعيل أموالنا ** وخرب المغنى بلا معنى

وراح من جلق هذا جزاء ** من أفقر الناس وما استغنى

شيء من ترجمة الصالح إسماعيل واقف تربة الصالح

وقد كان الصالح رحمه الله ملكا عاقلا حازما تتقلب به الأحوال أطوارا كثيرة، وقد كان الأشرف أوصى له بدمشق من بعده، فملكها شهورا ثم انتزعها منه أخوه الكامل.

ثم ملكها من يد الصالح أيوب خديعة ومكرا، فاستمر فيها أزيد من أربع سنين.

ثم استعادها منه الصالح أيوب عام الخوارزمية سنة ثلاث وأربعين، واستقرت بيده بلداه بعلبك وبصرى.

ثم أخذتا منه كما ذكرنا، ولم يبق به بلد يأوي إليه، فلجأ إلى المملكة الحلبية في جوار الناصر يوسف صاحبها، فلما كان في هذه السنة ما ذكرنا عدم بالديار المصرية في المعركة فلا يدري ما فعل به والله تعالى أعلم.

وهو واقف التربة والمدرسة ودار الحديث والأفراء بدمشق رحمه الله بكرمه.

وممن توفي في هذه السنة من الأعيان:

الملك المعظم توران شاه بن الصالح أيوب

ابن الكامل ابن العادل، كان أولا صاحب حصن كيفا في حياة أبيه، وكان أبوه يستدعيه في أيامه فلا يجيبه، فلما توفي أبوه كما ذكرنا استدعاه الأمراء فأجابهم وجاء إليهم فملكوه عليهم.

ثم قتلوه كما ذكرنا، وذلك يوم الاثنين السابع والعشرين من المحرم، وقد قيل إنه كان متخلفا لا يصلح للملك، وقد رئي أبوه في المنام بعد قتل ابنه وهو يقول:

قتلوه شر قتلة ** صار للعالم مثله

لم يراعوا فيه إلاّ ** لا ولا من كان قبله

ستراهم عن قريب ** لأقل الناس أكله

فكان كما ذكرنا من اقتتال المصريين والشاميين.

وممن عدم فيما بين الصفين من أعيان الأمراء والمسلمين فمنهم الشمس لؤلؤ مدبر ممالك الحلبيين، وكان من خيار عباد الله الصالحين الآمرين بالمعروف وعن المنكر ناهين.

وفيها كانت وفاة:

الخاتون أرغوانية

الحافظية سميت الحافظية لخدمتها وتربيتها الحافظ، صاحب قلعة جعبر، وكانت امرأة عاقلة مدبرة عمرت دهرا ولها أموال جزيلة عظيمة، وهي التي كانت تصلح الأطعمة للمغيث عمر بن الصالح أيوب، فصادرها الصالح إسماعيل فأخذ منها أربعمائة صندوق من المال، وقد وقفت دارها بدمشق على خدامها، واشترت بستان النجيب ياقوت الذي كان خادم الشيخ تاج الدين الكندي، وجعلت فيه تربة ومسجدا، ووقفت فيه عليه أوقافا كثيرة جيدة رحمها الله.

واقف الأمينية التي ببعلبك أمين الدولة أبو الحسن غزال المتطبب

وزير الصالح إسماعيل أبي الجيش الذي كان مشؤوما على نفسه، وعلى سلطانه، وسببا في زوال النعمة عنه وعن مخدومه، وهذا هو وزير السوء، وقد اتهمه السبط بأنه كان مستهترا بالدين وانه لم يكن له في الحقيقة دين فأرح الله تعالى منه عامة المسلمين.

وكان قتله في هذه السنة لما عدم الصالح إسماعيل بديار مصر، عمد من عمد من الأمراء إليه وإلى ابن يغمور فشنقوهما وصلبوهما على القلعة بمصر متناوحين.

وقد وجد لأمين الدولة غزال هذا من الأموال والتحف والجواهر والأثاث ما يساوي ثلاثة آلاف ألف دينار، وعشرة آلاف مجلد بخط منسوب وغير ذلك من الخطوط النفيسة الفائقة.

ثم دخلت سنة تسع وأربعين وستمائة

فيها: عاد الملك الناصر صاحب حلب إلى دمشق وقدمت عساكر المصريين فحكموا على بلاد السواحل إلى حد الشريعة، فجهز لهم الملك الناصر جيشا فطردوهم حتى ردوهم إلى الديار المصرية، وقصروهم عليها.

وتزوجت في هذه السنة أم خليل شجرة الدر بالملك المعز عز الدين أيبك التركماني، مملوك زوجها الصالح أيوب.

وفيها: نقل تابوت الصالح أيوب إلى تربته بمدرسته، ولبست الأتراك ثياب العزاء، وتصدقت أم خليل عنه بأموال جزيلة.

وفيها: خربت الترك دمياط ونقلوا الأهالي إلى مصر وأخلوا الجزيرة أيضا خوفا من عود الفرنج.

وفيها: كمل شرح الكتاب المسمى (بنهج البلاغة) في عشرين مجلدا مما ألفه عبد الحميد بن داود بن هبة الله بن أبي الحديد المدائني، الكاتب للوزير مؤيد الدين بن العلقمي، فأطلق له الوزير مائة دينار وخلعة وفرسا، وامتدحه عبد الحميد بقصيدة، لأنه كان شيعيا معتزليا. وفي رمضان استدعى الشيخ سراج الدين عمر بن بركة النهرقلي مدرس النظامية ببغداد فولي قضاء القضاة ببغداد مع التدريس المذكور، وخلع عليه.

وفي شعبان ولي تاج الدين عبد الكريم بن الشيخ محيي الدين يوسف بن الشيخ أبي الفرج بن الجوزي حسبة بغداد بعد أخيه عبد الله الذي تركها تزهد عنها، وخلع عليه بطرحة، ووضع على رأسه غاشية، وركب الحجاب في خدمته.

وفي هذه السنة صليت صلاة العيد يوم الفطر بعد العصر، وهذا اتفاق غريب.

وفيها: وصل إلى الخليفة كتاب من صاحب اليمن صلاح الدين بن يوسف بن عمر بن رسول يذكر فيه أن رجلا باليمن خرج فادعى الخلافة، وأنه أنفذ إليه جيشا فكسروه وقتلوا خلقا من أصحابه وأخذ منهم صنعاء وهرب هو بنفسه في شرذمة ممن بقي من أصحابه.

وفيها: أرسل الخليفة إليه بالخلع والتقليد.

وفيها: كانت وفاة:

بهاء الدين علي بن هبة الله بن سلامة الحميري

خطيب القاهرة، رحل في صغره إلى العراق فسمع بها وغيرها، وكان فاضلا قد أتقن معرفة مذهب الشافعي رحمه الله تعالى، وكان دينا حسن الأخلاق واسع الصدر كثير البر، قل أن يقدم عليه أحد إلا أطعمه شيئا، وقد سمع الكثير على السلفي وغيره، وأسمع الناس شيئا كثيرا من مروياته، وكانت وفاته في ذي الحجة من هذه السنة، وله تسعون سنة ودفن بالقرافة رحمه الله تعالى.

وممن توفي فيها:

القاضي أبو الفضل عبد الرحمن بن عبد السلام

ابن إسماعيل بن عبد الرحمن بن إبراهيم اللمعاني الحنفي من بيت العلم والقضاء، درس بمشهد أبي حنيفة وناب عن قاضي القضاة ابن فضلان الشافعي، ثم عن قاضي القضاة أبي صالح نصر بن عبد الرزاق الحنبلي، ثم عن قاضي القضاء عبد الرحمن بن مقبل الواسطي، ثم بعد وفاته في سنة ثلاث وثلاثين استقل القاضي عبد الرحمن اللمعاني بولاية الحكم ببغداد.

ولقب أقضى القضاة، ولم يخاطب بقاضي القضاة، ودرس للحنفية بالمستنصرية في سنة خمس وثلاثين، وكان مشكور السيرة في أحكامه ونقضه وإبرامه.

ولما توفي تولى بعده قضاء القضاة ببغداد شيخ النظامية سراج الدين النهرقلي رحمهما الله تعالى وتجاوز عنهما بمنه وكرمه آمين.

ثم دخلت سنة خمسين وستمائة هجرية

فيها: وصلت التتار إلى الجزيرة وسروج ورأس العين وما والى هذه البلاد، فقتلوا وسبوا ونهبوا وخربوا فإنا لله وإنا إليه راجعون.

ووقعوا بسنجار يسيرون بين حران ورأس العين، فأخذوا منهم ستمائة حمل سكر ومعمول من الديار المصرية، وستمائة ألف دينار، وكان عدة من قتلوا في هذه السنة من أهل الجزيرة نحوا من عشرة آلاف قتيل، وأسروا من الولدان والنساء ما يقارب ذلك، فإنا لله وإنا إليه راجعون.

قال السبط: وفيها: حج الناس من بغداد، وكان لهم عشر سنين لم يحجوا من زمن المستنصر.

وفيها: وقع حريق بحلب احترق بسببه ستمائة دار، ويقال إن الفرنج لعنهم الله ألقوه فيه قصدا.

وفيها: أعاد قاضي القضاة عمر بن علي النهرقلي أمر المدرسة التاجية التي كان قد استحوذ عليها طائفة من العوام، وجعلوها كالقيسارية يبتاعون فيها مدة طويلة، وهي مدرسة جيدة حسنة قريبة الشبه من النظامية، وقد كان بانيها يقال له تاج الملك، وزير ملك شاه السلجوقي، وأول من درس بها الشيخ أبو بكر الشاشي.

وفيها: كانت وفاة:

جمال الدين بن مطروح

وقد كان فاضلا رئيسا كيسا شاعرا من كبار المتعممين، ثم استتابه الملك الصالح أيوب في وقت على دمشق فلبس لبس الجند.

قال السبط: وكان لا يليق في ذلك.

ومن شعره في الناصر داود صاحب الكرك لما استعاد القدس من الفرنج حين سلمت إليهم في سنة ست وثلاثين في الدولة الكاملية فقال هذا الشاعر، وهو ابن مطروح رحمه الله:

المسجد الأقصى له عادة ** سارت صارت مثلا سائرا

إذا غدا للكفر مستوطنا ** أن يبعث الله له ناصرا

فناصر طهره أولا ** وناصر طهره آخرا

ولما عزله الصالح من النيابة أقام خاملا وكان كثير البر بالفقراء والمساكين، وكانت وفاته بمصر.

وفيها توفي:

شمس الدين محمد بن سعد المقدسي

الكاتب الحسن الخط كان كثير الأدب، وسمع الحديث كثيرا، وخدم السلطان الصالح إسماعيل والناصر داود، وكان دينا فاضلا شاعرا له قصيدة ينصح فيها السلطان الصالح إسماعيل وما يلقاه الناس من وزيره وقاضيه وغيرهما، من حواشيه.

من الأعيان:

عبد العزيز بن علي ابن عبد الجبار المغربي

أبوه ولد ببغداد، وسمع بها الحديث، وعني بطلب العلم وصنف كتابا في مجلدات على حروف المعجم في الحديث، وحرر فيه حكاية مذهب الإمام مالك رحمه الله تعالى.

الشيخ أبو عبد الله محمد بن غانم بن كريم

الأصبهاني، قدم بغداد وكان شابا فاضلا، فتتلمذ للشيخ شهاب الدين السهروردي، وكان حسن الطريقة، له يد في التفسير، وله تفسير على طريقة التصوف، وفيه لطافة، ومن كلامه في الوعظ:

العالم كالذرة في فضاء عظمته، والذرة كالعالم في كتاب حكمته، الأصول فروع إذا تجلى جمال أوليته، والفروع أصول إذا طلعت من مغرب نفي الوسائط شمس أخريته، أستار الليل مسدولة، وشموع الكواكب مشعولة، وأعين الرقباء عن المشتاقين مشغولة، وحجاب الحجب عن أبواب الوصل معزولة ما هذه الوقعة والحبيب قد فتح الباب؟ ما هذه الفترة والمولى قد خرق حاجب الحجاب؟

وقوفي بأكناف العقيق عقوق ** إذا لم أرد والدمع فيه عقيق

وإذ لم أمت شوقا إلى ساكن الحمى ** فما أنا فيما أدعيه صدوق

أيا ربع ليلى ما المحبون في الهوى ** سواء، ولا كل الشراب رحيق

ولا كل من تلقاه يلقاك قلبه ** ولا كل من يحنو إليك مشوق

تكاثرت الدعوى على الحب فاستوى ** أسير صبابات الهوى وطليق

أيها الآمنون، هل فيكم من يصعد إلى السماء؟ أيها المحبوسون في مطامير مسمياتهم، هل فيكم سليم في الفهم يفهم رموز الوحوش والأطيار؟ هل فيكم موسوي الشوق يقول بلسان شوقه أرني أنظر إليك، فقد طال الانتظار؟

ولما استسقى الناس قال بعد الاستسقاء: لما صعدت إلى الله عز وجل نفس المشتاق بكت آماق الآفاق، وجادت بالدر مرضعة السحاب، وامتص لبن الرحمة رضيع التراب وخرج من أخلاف الغمام نطاف الماء النمير، فاهتزت به الهامدة، وقرت عيون المدر، وتزينت الرياض بالسندس الأخضر، فحبر الصب حبرها أحسن تحبير، وأنفلق بأنملة الصبا أكمام الأنوار، وانشقت بنفحات أنفاسه جيوب الأزهار، ونطقت أجزاء الكائنات بلغات صفاتها، وعادات عبرها:

أيها النائمون تيقظوا، أيها المبعدون تعرضوا { فَانْظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَةِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ ذَلِكَ لَمُحْيِي الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } 18.

أبو الفتح نصر الله بن هبة الله

ابن عبد الباقي بن هبة الله بن الحسين بن يحيى بن صاقعة الغفاري الكناني المصري ثم الدمشقي كان من أخصاء الملك المعظم، وولده الناصر داود، وقد سافر معه إلى بغداد في سنة ثلاث وثلاثين وستمائة، وكان أديبا مليح المحاضرة رحمه الله تعالى.

ومن شعره قوله:

ولما أبيتم سادتي عن زيارتي ** وعوضتموني بالبعاد عن القرب

ولم تسمحوا بالوصل في حال يقظتي ** ولم يصطبر عنكم لرقته قلبي

نصبت لصيد الطيف جفني حبالةً ** فأدركت خفض العيش بالنوم والنصب

ثم دخلت سنة إحدى وخمسين وستمائة

فيها: دخل الشيخ نجم الدين البادرائي رسول الخليفة بين صاحب مصر وصاحب الشام، وأصلح بين الجيشين، وكانوا قد اشتد الحرب بينهم ونشبت، وقد مالأ الجيش المصري الفرنج ووعدهم أن يسلموا إليهم بيت المقدس إن نصروهم على الشاميين، وجرت خطوب كثيرة، فأصلح بينهم وخلص جماعة من بيوت الملوك من الديار المصرية، منهم أولاد الصالح إسماعيل، وبنت الأشرف وغيرهم من أولاد صاحب حمص وغيرهم، جزاه الله خيرا.

وفيها: فيما ذكر ابن الساعي كان رجل ببغداد على رأسه زبادي قابسي فزلق فتكسرت ووقف يبكي، فتألم الناس له لفقره وحاجته، وأنه لم يكن يملك غيرها، فأعطاه رجل من الحاضرين دينارا فلما أخذه نظر فيه طويلا ثم قال: والله هذا الدينار أعرفه، وقد ذهب مني في جملة دنانير عام أول، فشتمه بعض الحاضرين فقال له ذلك الرجل: فما علامة ما قلت؟

قال: زنة هذا وكذا وكاذ، وكان معه ثلاثة وعشرون دينارا، فوزنوه فوجدوه كما ذكر، فأخرج له الرجل ثلاثة وعشرين دينارا، وكان قد وجدها كما قال حين سقطت منه، فتعجب الناس لذلك.

قال: ويقرب من هذا أن رجلا بمكة نزع ثيابه ليغتسل من ماء زمزم وأخرج من عضده دملجا زنته خمسون مثقالا فوضعه مع ثيابه، فلما فرغ من اغتساله لبس ثيابه ونسي الدملج ومضى، وصار إلى بغداد وبقي مدة سنتين بعد ذلك وأيس منه، ولم يبق معه شيء إلا يسير فاشترى به زجاجا وقوارير ليبيعها ويتكسب بها، فبينما هو يطوف بها إذا زلق فسقطت القوارير فتكسرت فوقف يبكي واجتمع الناس عليه يتألمون له.

فقال في جملة كلامه: والله يا جماعة لقد ذهب مني من مدة سنتين دملج من ذهب زنته خمسون دينارا، ما باليت لفقده كما باليت لتكسير هذه القوارير، وما ذاك إلا لأن هذه كانت جميع ما أملك، فقال له رجل من الجماعة: فأنا والله لقيت ذلك الدملج، وخرجه من عضده فتعجب الناس والحاضرون. والله أعلم بالصواب.

ثم دخلت سنة اثنين وخمسين وستمائة

قال سبط ابن الجوزي في كتابه (مرآة الزمان):

فيها وردت الأخبار من مكة شرفها الله تعالى بأن نارا ظهرت في أرض عدن في بعض جبالها بحيث إنه يطير شررها إلى البحر في الليل، ويصعد منها دخان عظيم في أثناء النهار، فما شكوا أنها النار التي ذكر النبي أنها تظهر في آخر الزمان، فتاب الناس وأقلعوا عما كانوا عليه من المظالم والفساد، وشرعوا في أفعال الخير والصدقات.

وفيها: قدم الفارس أقطاي من الصعيد ونهب أموال المسلمين وأسر بعضهم، ومعه جماعة من البحرية المفسدين في الأرض، وقد بغوا وطغوا وتجبروا، ولا يلتفتون إلى الملك المعز أيبك التركماني، ولا إلى زوجته شجرة الدر.

فشاور المعز زوجته شجرة الدر في قتل أقطاي، فأذنت له، فعمل عليه حتى قتله في هذه السنة بالقلعة المنصورة بمصر، فاستراح المسلمون من شره.

وفيها: درس الشيخ عز الدين بن عبد السلام بمدرسة الصالح أيوب بين القصرين.

وفيها: قدمت بنت ملك الروم في تجمل عظيم وإقامات هائلة إلى دمشق زوجة لصاحبها الناصر بن العزيز بن الظاهر بن الناصر، وجرت أوقات حافلة بدمشق بسببها.

من المشاهير:

عبد الحميد بن عيسى الشيخ شمس الدين بن الخسروشاهي

أحد مشاهير المتكلمين، وممن اشتغل على الفخر الرازي في الأصول وغيرها، ثم قدم الشام فلزم الملك الناصر داود بن المعظم وحظى عنده.

قال أبو شامة: وكان شيخا مهيبا فاضلا متواضعا حسن الظاهر رحمه الله تعالى.

قال السبط: وكان متواضعا كيسا محضر خير، لم ينقل عنه أنه آذى أحدا فإن قدر على نفع وإلا سكت، توفي بدمشق ودفن بقاسيون على باب تربة الملك المعظم رحمه الله تعالى.

الشيخ مجد الدين بن تيمية صاحب (الأحكام) عبد السلام بن عبد الله بن أبي القاسم الخضر بن محمد بن علي بن تيمية الحراني الحنبلي، جد الشيخ تقي الدين ابن تيمية، ولد في حدود سنة تسعين وخمسمائة وتفقه في صغره على عمه الخطيب فخر الدين، وسمع الكثير ورحل إلى البلاد وبرع في الحديث والفقه وغيره، ودرس وأفتى وانتفع به الطلبة ومات يوم الفطر بحران.

الشيخ كمال الدين بن طلحة

الذي ولي الخطابة بدمشق بعد الدولعي، ثم عزل وصار إلى الجزيرة فولى قضاء نصيبين، ثم صار إلى حلب فتوفى بها في هذه السنة.

قال أبو شامة: وكان فاضلا عالما طلب أن يلي الوزارة فامتنع من ذلك، وكان هذا من التأييد رحمه الله تعالى.

السيد بن علان

آخر من روى عن الحافظ ابن عساكر سماعا بدمشق.

الناصح فرج بن عبد الله الحبشي

كان كثير السماع مسندا خيرا صالحا مواظبا على سماع الحديث وإسماعه إلى أن مات بدار الحديث النورية بدمشق رحمه الله.

النصرة بن صلاح الدين يوسف بن أيوب

توفي بحلب في هذه السنة. وآخرون رحمهم الله أجمعين.

ثم دخلت سنة ثلاث وخمسين وستمائة

قال السبط: فيها عاد الناصر داود من الأنبار إلى دمشق، ثم عاد وحج من العراق وأصلح بين العراقيين، وأهل مكة، ثم عاد معهم إلى الحلة.

قال أبو شامة وفيها في ليلة الاثنين ثامن عشر صفر توفي بحلب الشيخ الفقيه ضياء الدين صقر بن يحيى بن سالم

وكان فاضلا دينا.

ومن شعره قوله رحمه الله تعالى:

من ادعى أن له حالة ** تخرجه عن منهج الشرع

فلا تكونن له صاحبا ** فإنه ضرٌ بلا نفع

وهو واقف القوصية.

أبو العز إسماعيل بن حامد ابن عبد الرحمن الأنصاري القوصي

واقف داره بالقرب من الرحبة على أهل الحديث وبها قبره، وكان مدرسا بحلقة جمال الإسلام تجاه البدارة، فعرفت به، وكان ظريفا مطبوعا حسن المحاضرة، وقد جمع له معجما حكى فيه عن مشايخه أشياء كثيرة مفيدة.

قال أبو شامة: وقد طالعته بخطه فرأيت فيه أغاليط وأوهاما في أسماء الرجال وغيرها، فمن ذلك أنه انتسب إلى سعد بن عبادة ابن دلم فقال سعد بن عبادة بن الصامت وهذا غلط.

وقال في شدة خرقه التصوف فغلط وصحف حييا أبا محمد حسينا.

قال أبو شامة: رأيت ذلك بخطه، توفي يوم الاثنين سابع عشر ربيع الأول من هذه السنة رحمه الله.

وقد توفي الشريف المرتضي نقيب الأشراف بحلب، وكانت وفاته بها، رحمه الله تعالى.

ثم دخلت سنة أربع وخمسين وستمائة

فيها: كان ظهور النار من أرض الحجاز التي أضاءت لها أعناق الإبل ببصرى، كما نطق بذلك الحديث المتفق عليه، وقد بسط القول في ذلك الشيخ الإمام العلامة الحافظ شهاب الدين أبو شامة المقدسي في كتابه (الذيل) وشرحه، واستحضره من كتب كثيرة وردت متواترة إلى دمشق من الحجاز بصفة أمر هذه النار التي شوهدت معاينة، وكيفية خروجها وأمرها، وهذا محرر في كتاب: دلائل النبوة من السيرة النبوية، في أوائل هذا الكتاب ولله الحمد والمنة.

وملخص ما أورده أبو شامة أنه قال: وجاء إلى دمشق كتب من المدينة النبوية على ساكنها أفضل الصلاة والسلام، بخروج نار عندهم في خامس جمادى الآخرة من هذه السنة، وكتبت الكتب في خامس رجب، والنار بحالها، ووصلت الكتب إلينا في عاشر شعبان ثم قال:

بسم الله الرحمن الرحيم، ورد إلى مدينة دمشق في أوائل شعبان من سنة أربع وخمسين وستمائة كتب من مدينة رسول الله ، فيها شرح أمر عظيم حدث بها فيه تصديق لما في الصحيحين من حديث أبي هريرة.

قال: قال رسول الله : «لا تقوم الساعة حتى تخرج نار من أرض الحجاز تضيء لها أعناق الإبل ببصرى» فأخبرني من أثق به ممن شاهدها أنه بلغه أنه كتب بتيماء على ضوئها الكتب.

قال: وكنا في بيوتنا تلك الليالي، وكان في دار كل واحد منا سراج، ولم يكن لها حر ولفح على عظمها، إنما كانت آية من آيات الله عز وجل.

قال أبو شامة: وهذه صورة ما وقفت عليه من الكتب الواردة فيها.

لما كانت ليلة الأربعاء ثالث جمادى الآخرة سنة ربع وخمسين وستمائة ظهر بالمدينة النبوية دوي عظيم، ثم زلزلة عظيمة رجفت منها الأرض والحيطان والسقوف والأخشاب والأبواب، ساعة بعد ساعة إلى يوم الجمعة الخامس من الشهر المذكور.

ثم ظهرت نار عظيمة في الحرة قريبة من قريظة نبصرها من دورنا من داخل المدينة كأنها عندنا، وهي نار عظيمة إشعالها أكثر من ثلاث منارات، وقد سالت أودية بالنار إلى وادي شظا مسيل الماء، وقد مدت مسيل شظا وما عاد يسيل، والله لقد طلعنا جماعة نبصرها فإذا الجبال تسيل نيرانا، وقد سدت الحرة طريق الحاج العراقي، فسارت إلى أن وصلت إلى الحرة فوقفت بعد ما أشفقنا أن تجيء إلينا.

ورجعت تسيل في الشرق فخرج من وسطها سهود وجبال نيران تأكل الحجارة.

فيها: أنموذج عما أخبر الله تعالى في كتابه: { إِنَّهَا تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ ** كَأَنَّهُ جِمَالَةٌ صُفْرٌ } 19 وقد أكلت الأرض، وقد كتبت هذا الكتاب يوم خامس رجب سنة أربع وخمسين وستمائة والنار في زيادة ما تغيرت، وقد عادت إلى الحرار في قريظة طريق عير الحاج العراقي إلى الحرة كلها نيران تشتعل نبصرها في الليل من المدينة كأنها مشاعل الحاج.

وأما أم النار الكبيرة فهي جبال نيران حمر، والأم الكبيرة التي سالت النيران منها من عند قريظة، وقد زادت وما عاد الناس يدرون أي شيء يتم بعد ذلك، والله يجعل العاقبة إلى خير، فما أقدر أصف هذه النار.

قال أبو شامة: وفي كتاب آخر فظهر في أول جمعة من جمادى الآخرة سنة أربع وخمسين وستمائة ووقع في شرقي المدينة المشرفة نار عظيمة بينها وبين المدينة نصف يوم: انفجرت من الأرض وسال منها واد من نار حتى حاذى جبل أحد.

ثم وقفت وعادت إلى الساعة، ولا ندري ماذا نفعل، ووقت ما ظهرت دخل أهل المدينة إلى نبيهم عليه الصلاة والسلام مستغفرين تائبين إلى ربهم تعالى، وهذه دلائل القيامة.

قال: وفي كتاب آخر: لما كان يوم الاثنين مستهل جمادى الآخرة، سنة أربع وخمسين وستمائة وقع بالمدينة صوت يشبه صوت الرعد البعيد تارة وتارة، أقام على هذه الحالة يومين، فلما كانت ليلة الأربعاء ثالث الشهر المذكور تعقب الصوت الذي كنا نسمعه زلازل.

فلما كان يوم الجمعة خامس الشهر المذكور انبجست الحرة بنار عظيمة يكون قدرها مثل مسجد رسول الله وهي برأي العين من المدينة، نشاهدها وهي ترمي بشرر كالقصر، كما قال الله تعالى، وهي بموضع يقال له أجيلين وقد سال من هذه النار واد يكون مقداره أربع فراسخ، وعرضه أربعة أميال، وعمقه قامة ونصف، وهي تجري على وجه الأرض ويخرج منها أمهاد وجبال صغار، وتسير على وجه الأرض وهو صخر يذوب حتى يبقى منك الآنك.

فإذا جمد صار أسود، وقبل الجمود لونه أحمر، وقد حصل بسبب هذه النار إقلاع عن المعاصي، والتقرب إلى الله تعالى بالطاعات، وخرج أمير المدينة عن مظالم كثيرة إلى أهلها.

قال الشيخ شهاب الدين أبو شامة: ومن كتاب شمس الدين بن سنان بن عبد الوهاب بن نميلة الحسيني قاضي المدينة إلى بعض أصحابه: لما كانت ليلة الأربعاء ثالث جمادى الآخرة حدث بالمدينة بالثلث الأخير من الليل زلزلة عظيمة أشفقنا منها، وباتت باقي تلك الليلة تزلزل كل يوم وليلة قدر عشر نوبات، والله لقد زلزلت مرة ونحن حول حجرة رسول الله اضطرب لها المنبر إلى أن أوجسنا منه إذ سمعنا صوتا للحديد الذي فيه.

واضطربت قناديل الحرم الشريف، وتمت الزلزلة إلى يوم الجمعة ضحى، ولها دوي مثل دوي الرعد القاصف، ثم طلع يوم الجمعة في طريق الحرة في رأس أجيلين نار عظيمة مثل المدينة العظيمة، وما بانت لنا إلا ليلة السبت وأشفقنا منها وخفنا خوفا عظيما، وطلعت إلى الأمير كلمته وقلت له: قد أحاط بنا العذاب، ارجع إلى الله تعالى، فاعتق كل مماليكه ورد على جماعة أموالهم، فلما فعل ذلك قلت:

اهبط الساعة معنا إلى النبي ، فهبط وبتنا ليلة السبت والناس جميعهم والنسوان وأولادهم، وما بقي أحد لا في النخيل ولا في المدينة إلا عند النبي .

ثم سال منها نهر من نار، وأخذ في وادي أجيلين وسد الطريق ثم طلع إلى بحرة الحاج وهو بحر نار يجري، وفوقه جمر يسير إلى أن قطعت الوادي وادي الشفا، وما عاد يجيء في الوادي سيل قط لأنها حضرته نحو قامتين وثلث علوها، والله يا أخي إن عيشتنا اليوم مكدرة والمدينة قد تاب جميع أهلها، ولا بقي يسمع فيها رباب ولا دف ولا شرب، وتمت النار تسيل إلى أن سدت بعض طريق الحاج وبعض بحرة الحاج.

وجاء في الوادي إلينا منها يسير وخفنا أنه يجيئنا فاجتمع الناس ودخلوا على النبي وتابوا عنده جميعهم ليلة الجمعة، وأما قتيرها الذي مما يلينا فقد طفئ بقدرة الله وأنها إلى الساعة وما نقصت إلا ترى مثل الجمال حجارة ولها دوي ما يدعنا نرقد ولا نأكل ولا نشرب، وما أقدر أصف لك عظمها ولا ما فيها من الأهوال.

وأبصرها أهل ينبع وندبوا قاضيهم ابن أسعد وجاء وعدا إليها، وما صبح يقدر يصفها من عظمها، وكتب الكتاب يوم خامس رجب، وهي على حالها، والناس منها خائفون، والشمس والقمر من يوم ما طلعت ما يطلعان إلا كاسفين، فنسأل الله العافية.

قال أبو شامة: وبان عندنا بدمشق أثر الكسوف من ضعف نورها على الحيطان، وكنا حيارى من ذلك إيش هو؟ إلى أن جاءنا هذا الخبر عن هذه النار.

قلت: وكان أبو شامة قد أرخ قبل مجيء الكتب بأمر هذه النار، فقال: وفيها: في ليلة الاثنين السادس عشر من جمادى الآخرة خسف القمر أول الليل، وكان شديد الحمرة ثم انجلى، وكسفت الشمس، وفي غده احمرت وقت طلوعها وغروبها وبقيت كذلك أياما متغيرة اللون ضعيفة النور، والله على كل شيء قدير، ثم قال: واتضح بذلك ما صوره الشافعي من اجتماع الكسوف والعيد، واستبعده أهل النجامة.

ثم قال أبو شامة: ومن كتاب آخر من بعض بني الفاشاني بالمدينة يقول فيه: وصل إلينا في جمادى الآخرة نجابة من العراق وأخبروا عن بغداد أنه أصابها غرق عظيم حتى طفح الماء من أعلى أسوار بغداد إليها، وغرق كثير منها، ودخل الماء دار الخلافة وسط البلد، وانهدمت دار الوزير وثلاثمائة وثمانون دارا، وانهدم مخزن الخليفة، وهلك من خزانة السلاح شيء كثير، وأشرف الناس على الهلاك وعادت السفن تدخل إلى وسط البلدة، وتخترق أزقة بغداد.

قال: وأما نحن فإنه جرى عندنا أمر عظيم: لما كان بتاريخ ليلة الأربعاء الثالث من جمادى الآخرة ومن قبلها بيومين، عاد الناس يسمعون صوتا مثل صوت الرعد، فانزعج لها الناس كلهم، وانتبهوا من مراقدهم وضج الناس بالاستغفار إلى الله تعالى.

وفزعوا إلى المسجد وصلوا فيه، وتمت ترجف بالناس ساعة بعد ساعة إلى الصبح، وذلك اليوم كله يوم الأربعاء وليلة الخميس كلها وليلة الجمعة، وصبح يوم الجمعة ارتجت الأرض رجة قوية إلى أن اضطرب منار المسجد بعضه ببعض، وسمع لسقف المسجد صرير عظيم، وأشفق الناس من ذنوبهم، وسكنت الزلزلة بعد صبح يوم الجمعة إلى قبل الظهر.

ثم ظهرت عندنا بالحرة وراء قريظة على طريق السوارقية بالمقاعد مسيرة من الصبح إلى الظهر نار عظيمة تنفجر من الأرض، فارتاع لنا الناس روعة عظيمة.

ثم ظهر لها دخان عظيم في السماء ينعقد حتى يبقى كالسحاب الأبيض، فيصل إلى قبل مغيب الشمس من يوم الجمعة.

ثم ظهرت النار لها ألسن تصعد في الهواء إلى السماء حمراء كأنها القلعة، وعظمت وفزع الناس إلى المسجد النبوي وإلى الحجرة الشريفة، واستجار الناس بها وأحاطوا بالحجرة وكشفوا رؤوسهم وأقروا بذنوبهم وابتهلوا إلى الله تعالى واستجاروا نبيه عليه الصلاة والسلام، وأتى الناس إلى المسجد من كل فج ومن النخل، وخرج النساء من البيوت والصبيان، واجتمعوا كلهم وأخلصوا إلى الله، وغطت حمرة النار السماء كلها حتى بقي الناس في مثل ضوء القمر، وبقيت السماء كالعلقة، وأيقن الناس بالهلاك أو العذاب.

وبات الناس تلك الليلة بين مصل وتال للقرآن وراكع وساجد، وداعٍ إلى الله عز وجل، ومتنصل من ذنوبه ومستغفر وتائب، ولزمت النار مكانها وتناقص تضاعفها ذلك ولهيبها، وصعد الفقيه والقاضي إلى الأمير يعظونه، فطرح المكس وأعتق مماليكه كلهم وعبيده، ورد علينا كل ما لنا تحت يده، وعلى غيرنا، وبقيت تلك النار على حالها تلتهب التهابا، وهي كالجبل العظيم ارتفاعا و كالمدينة عرضا، يخرج منها حصى يصعد في السماء ويهوي فيها ويخرج منها كالجبل العظيم نار ترمي كالرعد.

وبقيت كذلك أياما ثم سالت سيلانا إلى وادي أجيلين تنحدر مع الوادي إلى الشظا، حتى لحق سيلانها بالبحرة بحرة الحاج، والحجارة معها تتحرك وتسير حتى كادت تقارب حرة العريض.

ثم سكنت ووقفت أياما، ثم عادت ترمي بحجارة خلفها وأمامها، حتى بنت لها جبلين وما بقي يخرج منها من بين الجبلين لسان لها أياما، ثم إنها عظمت وسناءها إلى الآن، وهي تتقد كأعظم ما يكون، ولها كل يوم صوت عظيم في آخر الليل إلى ضحوة، ولها عجائب ما أقدر أن أشرحها لك على الكمال، وإنما هذا طرف يكفي.

والشمس والقمر كأنهما منكسفان إلى الآن. وكتب هذا الكتاب ولها شهر وهي في مكانها ما تتقدم ولا تتأخر.

وقد قال فيها بعضهم أبياتا:

يا كاشف الضر صفحا عن جرائمنا ** لقد أحاطت بنا يا رب بأساء

نشكو إليك خطوبا لا نطيق لها ** حملا ونحن بها حقا أحقاء

زلازل تخشع الصم الصلاب لها ** وكيف يقوى على الزلزال شماء

أقام سبعا يرج الأرض فانصدعت ** عن منظر منه عين الشمس عشواء

بحر من النار تجري فوقه سفن ** من الهضاب لها في الأرض أرساء

كأنما فوقه الأجبال طافيةٌ ** موج عليه لفرط البهج وعثاء

ترمي لها شررا كالقصر طائشةً ** كأنها ديمةٌ تنصب هطلاء

تنشق منها قلوب الصخر إن زفرت ** رعبا وترعد مثل السعف أضواء

منها تكاثف في الجو الدخان إلى ** أن عادت الشمس منه وهي دهماء

قد أثرت سفعةً في البدر لفحتها ** فليلة التم بعد النور ليلاء

تحدث النيرات السبع ألسنها ** بما يلاقى بها تحت الثرى الماء

وقد أحاط لظاها بالبروج إلى ** أن كاد يلحقها بالأرض إهواءُ

فيالها آية من معجزات رسو ** ل الله يعقلها القوم الألباء

فباسمك الأعظم المكنون إن عظمت ** منا الذنوب وساء القلب أسواء

فاسمح وهب وتفضل وامح واعف وجد ** واصفح فكل لفرط الجهل خطاء

فقوم يونس لما آمنوا كشف الـ ** ـعذاب عنهم وعم القوم نعماء

ونحن أمة هذا المصطفى ولنا ** منه إلى عفوك المرجو دعاء

هذا الرسول الذي لولاه ما سلكت ** محجة في سبيل الله بيضاء

فارحم وصل على المختار ما خطبت ** على علا منبر الأوراق ورقاء

قلت: والحديث الوارد في أمر هذه النار مخرج في الصحيحين من طريق الزهري عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة أن رسول الله قال: «لا تقوم الساعة حتى تخرج نار من أرض الحجاز تضيء أعناق الإبل ببصرى» وهذا لفظ البخاري.

وقد وقع هذا في هذه السنة - أعني سنة أربع وخمسين وستمائة -كما ذكرنا، وقد أخبرني قاضي القضاة صدر الدين علي بن أبي القاسم التميمي الحنفي الحاكم بدمشق في بعض الأيام في المذاكرة، وجرى ذكر هذا الحديث وما كان من أمر هذه النار في هذه السنة فقال: سمعت رجلا من الأعراب يخبر والدي ببصرى في تلك الليالي أنهم رأوا أعناق الإبل في ضوء هذه النار التي ظهرت في أرض الحجاز.

قلت: وكان مولده في سنة ثنتين وأربعين وستمائة، وكان والده مدرسا للحنفية ببصرى وكذلك كان جده، وهو قد درس بها أيضا ثم انتقل إلى دمشق فدرس بالصادرية وبالمعدمية، ثم ولي قضاء القضاة الحنفية، وكان مشكور السيرة في الأحكام، وقد كان عمره حين وقعت هذه النار بالحجاز ثنتا عشرة سنة، ومثله ممن يضبط ما يسمع من الخبر أن الأعرابي أخبر والده في تلك الليالي، وصلوات الله وسلامه على نبيه سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم تسليما كثيرا.

ومما نظمه بعض الشعراء في هذه النار الحجازية وغرق بغداد قوله:

سبحان من أصبحت مشيئته ** جارية في الورى بمقدار

اغرق بغداد بالمياه كما ** أحرق أرض الحجاز بالنار

قال أبو شامة: والصواب أن يقال:

في سنة أغرق العراق وقد ** أحرق أرض الحجاز بالنار

وقال ابن الساعي في تاريخ سنة أربع وخمسين وستمائة: في يوم الجمعة ثامن عشر رجب - يعني من هذه السنة - كنت جالسا بين يدي الوزير فورد عليه كتاب من مدينة الرسول صحبة قاصد يعرف بقيماز العلوي الحسني المدني، فناوله الكتاب فقرأه وهو يتضمن أن مدينة الرسول زلزلت يوم الثلاثاء ثاني جمادى الآخرة حتى ارتج القبر الشريف النبوي، وسمع صرير الحديد، وتحركت السلاسل، وظهرت نار على مسيرة أربع فراسخ من المدينة، وكانت ترمي بزبد كأنه رؤوس الجبال، ودامت خمسة عشر يوما.

قال القاصد: وجئت ولم تنقطع بعد، بل كانت على حالها، وسأله إلى أي الجهات ترمي؟ فقال: إلى جهة الشرق، واجتزت عليها أنا ونجابة اليمن ورمينا فيها سعفة فلم تحرقها، بل كانت تحرق الحجارة وتذيبها.

وأخرج قيماز المذكور شيئا من الصخر المحترق وهو كالفحم لونا وخفة.

قال وذكر في الكتاب وكان بخط قاضي المدينة أنهم لما زلزلوا دخلوا الحرم وكشفوا رؤوسهم واستغفروا وأن نائب المدينة أعتق جميع ممالكيه، وخرج من جميع المظالم، ولم يزالوا مستغفرين حتى سكنت الزلزلة، إلا أن النار التي ظهرت لم تنقطع.

وجاء القاصد المذكور ولها خمسة عشر يوما وإلى الآن.

قال ابن الساعي: وقرأت بخط العدل محمود بن يوسف بن الأمعاني شيخ حرم المدينة النبوية على ساكنها أفضل الصلاة والسلام، يقول: إن هذه النار التي ظهرت بالحجاز آية عظيمة، وإشارة صحيحة دالة على اقتراب الساعة، فالسعيد من انتهز الفرصة قبل الموت، وتدارك أمره بإصلاح حاله مع الله عز وجل قبل الموت.

وهذه النار في أرض ذات حجر لا شجر فيها ولا نبت، وهي تأكل بعضها بعضا إن لم تجد ما تأكله، وهي تحرق الحجارة وتذيبها، حتى تعود كالطين المبلول، ثم يضربه الهواء حتى يعود كخبث الحديد الذي يخرج من الكير، فالله يجعلها عبرة للمسلمين ورحمة للعالمين، بمحمد وآله الطاهرين.

قال أبو شامة: وفي ليلة الجمعة مستهل رمضان من هذه السنة احترق مسجد المدينة على ساكنه أفضل الصلاة والسلام، ابتدأ حريقه من زاويته الغربية من الشمال، وكان دخل أحد القومة إلى خزانة ثم ومعه نار فعلقت في الأبواب ثم، واتصلت بالسقف بسرعة، ثم دبت في السقوف، وأخذت قبلة فأعجلت الناس عن قطعها، فما كان إلا ساعة حتى احترقت سقوف المسجد أجمع، ووقعت بعض أساطينه وذاب رصاصها، وكل ذلك قبل أن ينام الناس، واحترق سقف الحجرة النبوية ووقع ما وقع منه في الحجرة، وبقي على حاله حتى شرع في عمارة سقفه وسقف المسجد النبوي على صاحبه أفضل الصلاة والسلام، وأصبح الناس فعزلوا موضعا للصلاة، وعد ما وقع من تلك النار الخارجة وحريق المسجد من جملة الآيات، وكأنها كانت منذرة بما يعقبها في السنة الآتية من الكائنات على ما سنذكره. هذا كلام الشيخ شهاب الدين أبي شامة.

وقد قال أبو شامة: في الذي وقع في هذه السنة وما بعدها شعرا وهو قوله:

بعد ست من المئين والخمسـ ** ين لدى أربع جرى في العام

نار أرض الحجاز مع حرق المس ** جد معه تغريق دار السلام

ثم أخذ التتار بغداد في أو ** ل عام، من بعد ذاك وعام

لم يعن أهلها وللكفر أعوا ** ن عليهم، يا ضيعة الإسلام

وانقضت دولة الخلافة منها ** صار مستعصم بغير اعتصام

فحنانا على الحجاز ومصر ** وسلاما على بلاد الشآم

ربّ سلم وصن وعاف بقايا ** المدن، يا ذا الجلال والإكرام

وفي هذه السنة كملت المدرسة الناصرية الجوانية داخل باب الفراديس، وحضر فيها الدرس واقفها الملك الناصر صلاح الدين يوسف بن الملك العزيز محمد بن الملك الظاهر غياث الدين غازي ابن الناصر صلاح الدين يوسف بن أيوب بن شادي فاتح بيت المقدس، ودرس فيها قاضي البلد صدر الدين ابن سناء الدولة، وحضر عنده الأمراء والدولة والعلماء وجمهور أهل الحل والعقد بدمشق. وفيها أمر بعمارة الرباط الناصري بسفح قاسيون.

وممن توفي في هذه السنة من الأعيان:

الشيخ عماد الدين عبد الله بن الحسن بن النحاس

ترك الخلائق وأقبل على الزهادة والتلاوة والعبادة والصيام المتتابع والانقطاع بمسجده بسفح قاسيون نحوا من ثلاثين سنة، وكان من خيار الناس.

ولما توفي دفن عند مسجده بتربة مشهورة به، وحمام ينسب إليه في مساريق الصالحية، وقد أثنى عليه السبط، وأرخوا وفاته كما ذكرت.

يوسف بن الأمير حسام الدين قزأوغلي بن عبد الله عتيق الوزير عون الدين يحيى بن هبيرة الحنبلي رحمه الله تعالى

الشيخ شمس الدين. أبو المظفر الحنفي البغدادي ثم الدمشقي، سبط ابن الجوزي، أمه رابعة بنت الشيخ جمال الدين أبي الفرج بن الجوزي الواعظ، وقد كان حسن الصورة طيب الصوت حسن الوعظ كثير الفضائل والمصنفات، وله (مرآة الزمان) في عشرين مجلدا من أحسن التواريخ، نظم فيه المنتظم لجده وزاد عليه وذيل إلى زمانه، وهو من أبهج التواريخ.

قدم دمشق في حدود الستمائة وحظي عند ملوك بني أيوب، وقدموه وأحسنوا إليه، وكان له مجلس وعظ كل يوم سبت بكرة النهار عند السارية التي تقوم عندها الوعاظ اليوم عند باب مشهد علي بن الحسين زين العابدين، وقد كان الناس يبيتون ليلة السبت بالجامع ويتركون البساتين في الصيف حتى يسمعوا ميعاده، ثم يسرعون إلى بساتينهم فيتذاكرون ما قاله من الفوائد والكلام الحسن، على طريقة جده.

وقد كان الشيخ تاج الدين الكندي، وغيره من المشايخ، يحضرون عنده تحت قبة يزيد، التي عند باب المشهد، ويستحسنون ما يقول.

ودرس بالعزية البرانية التي بناها الأمير عز الدين أيبك المعظمي، أستاذ دار المعظم، وهو واقف العزية الجوانية التي بالكشك أيضا، وكانت قديما تعرف بدور ابن منقذ.

ودرس السبط أيضا بالشبلية التي بالجبل عند جسر كحيل، وفوض إليه البدرية التي قبالتها، فكانت سكنه، وبها توفي ليلة الثلاثاء الحادي والعشرين من ذي الحجة من هذه السنة، وحضر جنازته سلطان البلد الناصر بن العزيز فمن دونه.

وقد أثنى عليه الشيخ شهاب الدين أبو شامة في علومه وفضائله ورياسته وحسن وعظه وطيب صوته ونضارة وجهه، وتواضعه وزهده وتودده، لكنه قال: وقد كنت مريضا ليلة وفاته فرأيت وفاته في المنام قبل اليقظة، ورأيته في حالة منكرة، ورآه غيري أيضا، فنسأل الله العافية. ولم أقدر على حضور جنازته، وكانت جنازته حافلة حضره السلطان والناس، ودفن هناك.

وقد كان فاضلا عالما ظريفا منقطعا منكرا على أرباب الدول ما هم عليه من المنكرات، وقد كان مقتصدا في لباسه مواظبا على المطالعة والاشتغال والجمع والتصنيف، منصفا لأهل العلم والفضل، مباينا لأولي الجهل.

وتأتي الملوك وأرباب المناصب إليه زائرين وقاصدين، وربي في طول زمانه في حياة طيبة وجاه عريض عند الملوك والعوام نحو خمسين سنة، وكان مجلس وعظه مطربا، وصوته فيما يورده حسنا طيبا، رحمه الله تعالى ورضى عنه.

وقد سئل في يوم عاشوراء زمن الملك الناصر صاحب حلب أن يذكر للناس شيئا من مقتل الحسين فصعد المنبر وجلس طويلا لا يتكلم، ثم وضع المنديل على وجهه وبكى شديدا ثم أنشأ يقول وهو يبكي

ويل لمن شفعاؤه خصماؤه ** والصور في نشر الخلائق ينفخُ

لا بد أن ترد القيامة فاطمٌ ** وقميصها بدم الحسين ملطخُ

ثم نزل عن المنبر وهو يبكي وصعد إلى الصالحية وهو كذلك رحمه الله.

واقف مرستان الصالحية

الأمير الكبير سيف الدين أبو الحسن يوسف ابن أبي الفوارس بن موسك القيمري الكردي، أكبر أمراء القيمرية، كانوا يقفون بين يديه كما تعامل الملوك، ومن أكبر حسناته وقفة المارستان الذي بسفح قاسيون، وكانت وفاته ودفنه بالسفح في القبة التي تجاه المارستان المذكورة، وكان ذا مال كثير وثروة رحمه الله.

مجير الدين يعقوب بن الملك العادل أبي بكر بن أيوب

دفن عند والده بتربة العادلية.

الأمير مظفر الدين إبراهيم ابن صاحب صرخد

عز الدين أيبك أستاذ دار المعظم واقف المعزيتين البرانية والجوانية، على الحنفية ودفن عند والده بالتربة تحت القبة عند الوراقة رحمهما الله تعالى.

الشيخ شمس الدين عبد الرحمن بن نوح

المقدسي الفقيه الشافعي مدرس الرواحية بعد شيخه تقي الدين بن الصلاح، ودفن بالصوفية أيضا، وكانت له جنازة حافلة رحمه الله.

قال أبو شامة: وكثر في هذه السنة موت الفجأة.

فمات خلق كثير بسبب ذلك.

زكي الدين أبو الغورية أحد المعدلين بدمشق.

وبدر الدين بن السني أحد رؤسائها.

وعز الدين عبد العزيز بن أبي طالب بن عبد الغفار الثعلبي أبي الحسين، وهو سبط القاضي جمال الدين بن الحرستاني، رحمهم الله تعالى وعفا عنهم أجمعين.

ثم دخلت سنة خمس وخمسين وستمائة

فيها: أ صبح الملك المعظم صاحب مصر عز الدين أيبك بداره ميتا وقد ولي الملك بعد أستاذه الصالح نجم الدين أيوب بشهور.

كان فيها ملك توران شاه المعظم بن الصالح، ثم خلفته شجرة الدر أم خليل مدة ثلاثة أشهر ثم أقيم هو في الملك، ومعه الملك الأشرف موسى بن الناصر يوسف بن أقسيس ابن الكامل مدة.

ثم استقل بالملك بلا منازعة، وكسر الناصر لما أراد أخذ الديار المصرية وقتل الفارس إقطاي في سنة ثنتين وخمسين، وخلع بعده الأشرف واستقل بالملك وحده، ثم تزوج بشجرة الدر أم خليل.

وكان كريما شجاعا حييا دينا، ثم كان موته في يوم الثلاثاء الثالث والعشرين من ربيع الأول، وهو واقف المدرسة المعزية بمصر ومجازها من أحسن الأشياء، وهي من داخل ليست بتلك الفائقة.

وقد قال بعضهم: هذه مجاز لا حقيقة له.

ولما قتل رحمه الله فإنهم مماليكه زوجته أم خليل شجرة الدر به، وقد كان عزم على تزوج ابنة صاحب الموصل بدر الدين لؤلؤ، فأمرت جواريها أن يمسكنه لها فما زالت تضربه بقباقبها والجواري يعركن في معاربه حتى مات وهو كذلك، ولما سمعوا مماليكه أقبلوا بصحبة مملوكه الأكبر سيف الدين قطز، فقتلوها وألقوها على مزبلة غير مستورة العورة، بعد الحجاب المنيع والمقام الرفيع، وقد علمت على المناشير والتواقيع، وخطب الخطباء باسمها، وضربت السكة برسمها، فذهبت فلا تعرف بعد ذلك بعينها ولا رسمها. { قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } 20.

وأقامت الأتراك بعد أستاذهم عز الدين أيبك التركماني، بإشارة أكبر مماليكه الأمير سيف الدين قطز، ولده نور الدين عليا ولقبوه الملك المنصور، وخطب له على المنابر وضربت السكة باسمه وجرت الأمور على ما يختاره برأيه ورسمه.

وفيها: كانت فتنة عظيمة ببغداد بين الرافضة وأهل السنة، فنهب الكرخ ودور الرافضة حتى دور قرابات الوزير ابن العلقمي، وكان ذلك من أقوى الأسباب في ممالأته للتتار.

وفيها: دخلت الفقراء الحيدرية الشام، ومن شعارهم لبس الراحي والطراطير ويقصون لحاهم ويتركون شواربهم، وهو خلاف السنة، تركوها لمتابعة شيخهم حيدر حين أسره الملاحدة فقصوا لحيته وتكروا شواربه، فاقتدوا به في ذلك، وهو معذور مأجور.

وقد نهى رسول الله عن ذلك، وليس لهم في شيخهم قدوة.

وقد بنيت لهم زاوية بظاهر دمشق قريبا من العونية.

وفي يوم الأربعاء ثامن عشر ذي الحجة من هذه السنة المباركة عمل عزاء واقف البادرائية بها الشيخ نجم الدين عبد الله بن محمد البادرائي البغدادي مدرس النظامية، ورسول الخلافة إلى ملوك الآفاق في الأمور المهمة، وإصلاح الأحوال المدلهمة، وقد كان فاضلا بارعا رئيسا وقورا متواضعا، وقد ابتنى بدمشق مدرسة حسنة مكان دار الأمير أسامة، وشرط على المقيم بها العزوبة وأن لا يكون الفقيه في غيرها من المدارس.

وإنما أراد بذلك توفر خاطر الفقيه وجمعه على طلب العلم، ولكن حصل بذلك خلل كثير وشر لبعضهم كبير، وقد كان شيخنا الإمام العلامة شيخ الشافية بالشام وغيرها برهان الدين أبو إسحاق إبراهيم بن الشيخ تاج الدين الفزاري مدرس هذه المدرسة وابن مدرسها، يذكر أنه لما حضر الواقف في أول يوم درس بها وحضر عنده السلطان الناصري، قرأ كتاب الوقف وفيه ولا تدخلها امرأة.

فقال السلطان: ولا صبي؟

فقال الواقف: يا مولانا السلطان ربنا ما يضرب بعصاتين.

فإذا ذكر هذه الحكاية تبسم عندها رحمه الله تعالى.

وكان هو أول من درس بها ثم ولده كمال الدين من بعده، وجعل نظرها إلى وجيه الدين بن سويد، ثم صار في ذريته إلى الآن.

وقد نظر فيه بعض الأوقات القاضي شمس الدين ابن الصائغ ثم انتزع منه حيث أثبت لهم النظر، وقد أوقف البادرائي على هذه المدرسة أوقافا حسنة دارة، وجعل فيها خزانة كتب حسنة نافعة، وقد عاد إلى بغداد في هذه السنة فولي بها قضاء القضاة كرها منه، فأقام فيه سبعة عشر يوما ثم توفي إلى رحمة الله تعالى في مستهل ذي الحجة من هذه السنة. ودفن بالشونيزيه رحمه الله تعالى.

وفي ذي الحجة من هذه السنة بعد موت البادرائي بأيام قلائل نزلت التتار على بغداد مقدمة لملكهم هولاكو بن تولى بن جنكيز خان عليهم لعائن الرحمن، وكان افتتاحهم لها وجنايتهم عليها في أول السنة الآتية على ما سيأتي بيانه وتفصيله - وبالله المستعان.

وممن توفي في هذه السنة من الأعيان البادرائي واقف البادرائية التي بدمشق كما تقدم بيانه رحمه الله تعالى.

والشيخ تقي الدين عبد الرحمن بن أبي الفهم

البلداني بها في ثامن ربيع الأول ودفن فيها، وكان شيخا صالحا مشتغلا بالحديث سماعا وكتابة وإسماعا، إلى أن توفي وله نحو مائة سنة.

قلت وأكثر كتبه ومجاميعه التي بخطه موقوفة بخزانة الفاضلية من الكلاسة، وقد رأى في المنام رسول الله فقال له: يا رسول الله ما أنا رجل جيد؟

قال: بلى أنت رجل جيد، رحمه الله وأكرم مثواه.

الشيخ شرف الدين محمد بن أبي الفضل المرسي

وكان شيخا فاضلا متقنا محققا للبحث كثير الحج، له مكانه عند الأكابر، وقد اقتنى كتبا كثيرة، وكان أكثر مقامه بالحجاز، وحيث حل عظمه رؤساء تلك البلدة وكان مقتصدا في أموره، وكانت وفاته رحمه الله بالذعقة بين العريش والداروم في منتصف ربيع الأول من هذه السنة رحمه الله.

المشد الشاعر الأمير سيف الدين

علي بن عمر بن قزل مشد الديوان بدمشق، وكان شاعرا مطبقا له ديوان مشهور، وقد رآه بعضهم بعد موته فسأله عن حاله فأنشده:

نقلت إلى رمس القبور وضيقها ** وخوفي ذنوبي أنها بي تعثرُ

فصادفت رحمانا رؤوفا وأنعما ** حباني بها سقيا لما كنت أحذرُ

ومن كان حسن الظن في حال موته ** جميلا بعفو الله فالعفو أجدرُ

بشارة بن عبد الله الأرمني الأصل

بدر الدين الكاتب مولى شبل الدولة المعظمي، سمع الكندي وغيره، وكان يكتب خطا جيدا، وأسند إليه مولاه النظر في أوقافه وجعله في ذريته، فهم إلى الآن ينظرون في الشبليتين، وكانت وفاته في النصف من رمضان من هذه السنة.

القاضي تاج الدين أبو عبد الله محمد بن قاضي القضاة جمال الدين المصري

ناب عن أبيه ودرّس بالشامية، وله شعر فمنه قوله:

صيرت فمي لفيه باللثم لئام ** عمدا ورشفت من ثناياه مدامْ

فأزور وقال أنت في الفقه إمام ** ريقي خمر وعندك الخمر حرامْ

الملك الناصر داود بن المعظم عيسى بن العادل

ملك دمشق بعد أبيه.

ثم انتزعت من يده وأخذها عمه الأشرف واقتصر على الكرك ونابلس.

ثم تنقلت به الأحوال وجرت له خطوب طوال حتى لم يبق معه شيء من المحال، وأودع وديعة تقارب مائة ألف دينار عند الخليفة المستنصر فأنكره إياها ولم يردها عليه، وقد كان له فصاحة وشعر جيد، ولديه فضائل جمة، واشتغل في علم الكلام على الشمس الخسر وشاهي تلميذ الفخر الرازي، وكان يعرف علوم الأوائل جدا، وحكوا عنه أشياء تدل إن صحت على سوء عقيدته فالله أعلم.

وذكر أنه حضر أول درس ذكر بالمستنصرية في سنة ثنتين وثلاثين وستمائة، وأن الشعراء أنشدوا المستنصر مدائح كثيرة، فقال بعضهم في جملة قصيدة له:

لو كنت في يوم السقيفة شاهدا ** كنت المقدم والإمام الأعظما

فقال الناصر داود للشاعر: اسكت فقد أخطأت، قد كان جد أمير المؤمنين العباس شاهدا يومئذ، ولم يكن المقدم، وما الإمام الأعظم إلا أبو بكر الصديق رضي الله عنه، فقال الخليفة: صدقت فكان هذا من أحسن ما نقل عنه رحمه الله تعالى.

وقد تقاصر أمره إلى أن رسم عليه الناصر بن العزيز بقرية البويضا لعمه مجد الدين يعقوب حتى توفي بها في هذه السنة، فاجتمع الناس بجنازته، وحمل منها فصلّي عليه ودفن عند والده بسفح قاسيون.

الملك المعز عز الدين أيبك التركماني أول ملوك الأتراك

كان من أكبر مماليك الصالح نجم الدين أيوب بن الكامل، وكان دينا صينا عفيفا كريما، مكث في الملك نحوا من سبع سنين ثم قتلته زوجته شجرة الدر أم خليل، وقام في الملك من بعده ولده نور الدين علي، ولقب بالملك المنصور، وكان مدير مملكة مملوك أبيه سيف الدين قطز، ثم عزله واستقل بالملك بعده نحوا من سنة وتلقب بالمظفر، فقدر الله كسرة التتار على يديه بعين جالوت.

وقد بسطنا هذا كله في الحوادث فيما تقدم وما سيأتي.

شجرة الدر بنت عبد الله

أم خليل التركية، كانت من حظايا الملك الصالح نجم الدين أيوب، وكان ولدها منه خليل من أحسن الصور، فمات صغيرا، وكانت تكون في خدمته لا تفارقه حضرا ولا سفرا من شدة محبته لها وقد ملكت الديار المصرية بعد مقتل ابن زوجها المعظم توران شاه، فكان يخطب لها وتضرب السكة باسمها وعلمت على المناشير مدة ثلاثة أشهر.

ثم تملك المعز كما ذكرنا، ثم تزوجها بعد تملكه الديار المصرية بسنوات، ثم غارت عليه لما بلغها أنه يريد أن يتزوج بنت صاحب الموصل بدر الدين لؤلؤ فعملت عليه حتى قتلته كما تقدم ذكره، فتمالأ عليها مماليكه المعزية فقتلوها وألقوها على مزبلة ثلاثة أيام.

ثم نقلت إلى تربة لها بالقرب من قبر السيدة نفيسة رحمها الله تعالى، وكانت قوية النفس، لما علمت أنه قد أحيط بها أتلفت شيئا كثيرا من الجواهر النفيسة واللآلئ المثمنة، كسرته في الهاون لا لها ولا لغيرها، وكان وزيرها في دولتها الصاحب بهاء الدين علي بن محمد بن سليمان المعروف بابن جند وهو أول مناصبه.

الشيخ الأسعد هبة الله بن صاعد

شرف الدين الفائزي لخدمته قديما الملك الفائز سابق الدين إبراهيم بن الملك العادل، وكان نصرانيا فأسلم، وكان كثير الصدقات والبر والصلات، استوزره المعز وكان حظيا عنده جدا، لا يفعل شيئا إلا بعد مراجعته ومشاورته، وكان قبله في الوزارة القاضي تاج الدين ابن بنت الأعز، وقبله القاضي بدر الدين السنجاري.

ثم صارت بعد ذلك كله إلى هذا الشيخ الأسعد المسلماني، وقد كان الفائزي يكاتبه المعز بالمملوك.

ثم لما قتل المعز أهين الأسعد حتى صار شقيا، وأخذ الأمير سيف الدين قطز خطه بمائة ألف دينار، وقد هجاه بهاء الدين زهير بن علي، فقال:

لعن الله صاعدا ** وأباه، فصاعدا

وبنيه فنازلا ** واحدا ثم واحدا

ثم قتل بعد ذلك كله ودفن بالقرافة، وقد رثاه القاضي ناصر الدين ابن المنير، وله فيه مدائح وأشعار حسنة فصيحة رائقة.

ابن أبي الحديد الشاعر العراقي

عبد الحميد بن هبة الله بن محمد بن محمد بن الحسين أبو حامد بن أبي الحديد عز الدين المدائني، الكاتب الشاعر المطبق الشيعي الغالي، له شرح (نهج البلاغة) في عشرين مجلدا، ولد بالمدائن سنة ست وثمانين وخمسمائة، ثم صار إلى بغداد فكان أحد الكتاب والشعراء بالديوان الخليفتي، وكان حظيا عند الوزير ابن العلقمي، لما بينهما من المناسبة والمقاربة والمشابهة في التشيع والأدب والفضيلة.

وقد أورد له ابن الساعي أشياء كثيرة من مدائحه وأشعاره الفائقة الرائقة، وكان أكثر فضيلة وأدبا من أخيه أبي المعالي موفق الدين بن هبة الله، وإن كان الآخر فاضلا بارعا أيضا، وقد ماتا في هذه السنة رحمهما الله تعالى.

ثم دخلت سنة ست وخمسين وستمائة

فيها: أخذت التتار بغداد وقتلوا أكثر أهلها حتى الخليفة، وانقضت دولة بني العباس منها.

استهلت هذه السنة وجنود التتار قد نازلت بغداد صحبة الأميرين اللذين على مقدمة عساكر سلطان التتار، هولاكو خان، وجاءت إليهم أمداد صاحب الموصل يساعدونهم على البغاددة وميرته وهداياه وتحفه، وكل ذلك خوفا على نفسه من التتار، ومصانعة لهم قبحهم الله تعالى.

وقد سترت بغداد ونصبت فيها المجانيق والعرادات وغيرها من آلات الممانعة التي لا ترد من قدر الله سبحانه وتعالى شيئا، كما ورد في الأثر: لن يغني حذر عن قدر.

وكما قال تعالى: { إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذَا جَاءَ لَا يُؤَخَّرُ } 21، وقال تعالى: { إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءا فَلَا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ } 22.

وأحاطت التتار بدار الخلافة يرشقونها بالنبال من كل جانب حتى أصيبت جارية كانت تلعب بين يدي الخليفة وتضحكه، وكانت من جملة حظاياه، وكانت مولدة تسمى عرفة، جاءها سهم من بعض الشبابيك فقتلها وهي ترقص بين يدي الخليفة، فانزعج الخليفة من ذلك وفزع فزعا شديدا، وأحضر السهم الذي أصابها بين يديه فإذا عليه مكتوب إذا أراد الله إنفاذ قضائه وقدره أذهب من ذوي العقول عقولهم.

فأمر الخليفة عند ذلك بزيادة الاحتراز، وكثرت الستائر على دار الخلافة - وكان قدوم هولاكو خان بجنوده كلها، وكانوا نحو مائتي ألف مقاتل- إلى بغداد في ثاني عشر المحرم من هذه السنة، وهو شديد الحنق على الخليفة بسبب ما كان تقدم من الأمر الذي قدره الله وقضاه وأنفذه وأمضاه.

وهو أن هولاكو لما كان أول بروزه من همدان متوجها إلى العراق أشار الوزير مؤيد الدين محمد بن العلقمي على الخليفة بأن يبعث إليه بهدايا سنية ليكون ذلك مداراة له عما يريده من قصد بلادهم فخذل الخليفة عن ذلك دويداره الصغير أيبك وغيره، وقالوا إن الوزير إنما يريد بهذا مصانعة ملك التتار بما يبعثه إليه من الأموال، وأشاروا بأن يبعث بشيء يسير، فأرسل شيئا من الهدايا فاحتقرها هولاكو خان، وأرسل إلى الخليفة يطلب منه دويداره المذكور، وسليمان شاه، فلم يبعثهما إليه ولا بالا به حتى أزف قدومه. ووصل بغداد بجنوده الكثيرة الكافرة الفاجرة الظالمة الغاشمة، ممن لا يؤمن بالله ولا باليوم الآخر، فأحاطوا ببغداد من ناحيتها الغربية والشرقية، وجيوش بغداد في غاية القلة ونهاية الذلة، لا يبلغون عشرة آلاف فارس، وهم وبقية الجيش كلهم قد صرفوا عن إقطاعاتهم حتى استعطى كثير منهم في الأسواق وأبواب المساجد.

وأنشد فيهم الشعراء قصائد يرثون لهم ويحزنون على الإسلام وأهله، وذلك كله عن آراء الوزير ابن العلقمي الرافضي، وذلك أنه لما كان في السنة الماضية كان بين أهل السنة والرافضة حرب عظيمة نهبت فيها الكرخ ومحلة الرافضة حتى نهبت دور قرابات الوزير.

فاشتد حنقه على ذلك، فكان هذا مما أهاجه على أن دبر على الإسلام وأهله ما وقع من الأمر الفظيع الذي لم يؤرخ أبشع منه منذ بنيت بغداد، وإلى هذه الأوقات، ولهذا كان أول من برز إلى التتار هو، فخرج بأهله وأصحابه وخدمه وحشمه، فاجتمع بالسلطان هولاكو خان لعنه الله.

ثم عاد فأشار على الخليفة بالخروج إليه والمثول بين يديه لتقع المصالحة على أن يكون نصف خراج العراق لهم ونصفه للخليفة، فاحتاج الخليفة إلى أن خرج في سبعمائة راكب من القضاة والفقهاء والصوفية ورؤوس الأمراء والدولة والأعيان، فلما اقتربوا من منزل السلطان هولاكو خان حجبوا عن الخليفة إلا سبعة عشر نفسا، فخلص الخليفة بهؤلاء المذكورين، وأنزل الباقون عن مراكبهم، ونهبت وقتلوا عن آخرهم، وأحضر الخليفة بين يدي هولاكو فسأله عن أشياء كثيرة فيقال إنه اضطرب كلام الخليفة من هول ما رأى من الإهانة والجبروت.

ثم عاد إلى بغداد، وفي صحبته خوجة نصير الدين الطوسي، والوزير ابن العلقمي وغيرهما، والخليفة تحت الحوطة والمصادرة، فأحضر من دار الخلافة شيئا كثيرا من الذهب والحلي والمصاغ والجواهر والأشياء النفيسة، وقد أشار أولئك الملأ من الرافضة وغيرهم من المنافقين على هولاكو أن لا يصالح الخليفة، وقال الوزير: متى وقع الصلح على المناصفة لا يستمر هذا إلا عاما أو عامين ثم يعود الأمر إلى ما كان عليه قبل ذلك، وحسنوا له قتل الخليفة، فلما عاد الخليفة إلى السلطان هولاكو أمر بقتله.

ويقال إن الذي أشار بقتله الوزير ابن العلقمي، والمولى نصير الدين الطوسي، وكان النصير عند هولاكو قد استصحبه في خدمته لما فتح قلاع الألموت، وانتزعها من أيدي الإسماعيلية، وكان النصير وزيرا لشمس الشموس ولأبيه من قبله علاء الدين بن جلال الدين، وكانوا ينسبون إلى نزار بن المستنصر العبيدي، وانتخب هولاكو النصير ليكون في خدمته كالوزير المشير، فلما قدم هولاكو وتهيب من قتل الخليفة هون عليه الوزير ذلك فتقلوه رفسا، وهو في جوالق لئلا يقع على الأرض شيء من دمه، خافوا أن يؤخذ بثأره فيما قيل لهم، وقيل بل خنق، ويقال بل أغرق فالله أعلم.

فباؤوا بإثمه وإثم من كان معه من سادات العلماء والقضاة والأكابر والرؤساء والأمراء وأولي الحل والعقد ببلاده - وستأتي ترجمة الخليفة في الوفيات - ومالوا على البلد فقتلوا جميع من قدروا عليه من الرجال والنساء والولدان والمشايخ والكهول والشبان، ودخل كثير من الناس في الآبار وأماكن الحشوش، وقنى الوسخ، وكمنوا كذلك أياما لا يظهرون.

وكان الجماعة من الناس يجتمعون إلى الخانات ويغلقون عليهم الأبواب فتفتحها التتار إما بالكسر وإما بالنار.

ثم يدخلون عليهم فيهربون منهم إلى أعالي الأمكنة فيقتلونهم بالأسطحة، حتى تجري الميازيب من الدماء في الأزقة، فإنا لله وإنا إليه راجعون.

وكذلك في المساجد والجوامع والربط، ولم ينج منهم أحد سوى أهل الذمة من اليهود والنصارى ومن التجأ إليهم وإلى دار الوزير ابن العلقمي الرافضي وطائفة من التجار أخذوا لهم أمانا، بذلوا عليه أموالا جزيلة حتى سلموا وسلمت أموالهم.

وعادت بغداد بعد ما كانت آنس المدن كلها كأنها خراب ليس فيها إلا القليل من الناس، وهم في خوف وجوع وذلة وقلة، وكان الوزير ابن العلقمي قبل هذه الحادثة يجتهد في صرف الجيوش وإسقاط اسمهم من الديوان، فكانت العساكر في آخر أيام المستنصر قريبا من مائة ألف مقاتل، منهم من الأمراء من هو كالملوك الأكابر الأكاسر، فلم يزل يجتهد في تقليلهم إلى أن لم يبق سوى عشرة آلاف.

ثم كاتب التتار وأطمعهم في أخذ البلاد وسهل عليهم ذلك، وحكى لهم حقيقة الحال، وكشف لهم ضعف الرجال، وذلك كله طمعا منه أن يزيل السنة بالكلية، وأن يظهر البدعة الرافضة وأن يقيم خليفة من الفاطميين، وأن يبيد العلماء والمفتيين، والله غالب على أمره، وقد رد كيده في نحره، وأذله بعد العزة القعساء، وجعله حوشكاشا للتتار بعد ما كان وزيرا للخلفاء، واكتسب إثم من قتل ببغداد من الرجال والنساء والأطفال، فالحكم لله العلي الكبير رب الأرض والسماء.

وقد جرى على بني إسرائيل ببيت المقدس قريب مما جرى على أهل بغداد كما قص الله تعالى علينا ذلك في كتابه العزيز، حيث يقول: { وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إسْرائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوّا كَبِيرا ** فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولَاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادا لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلَالَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْدا مَفْعُولا } الآيات 23.

وقد قتل من بني إسرائيل خلق من الصلحاء وأسر جماعة من أولاد الأنبياء، وخرب بيت المقدس بعد ما كان معمورا بالعباد والزهاد والأحبار والأنبياء، فصار خاويا على عروشه واهي البناء.

وقد اختلف الناس في كمية من قتل ببغداد من المسلمين في هذه الوقعة.

فقيل ثمانمائة ألف، وقيل ألف ألف وثمانمائة ألف، وقيل بلغت القتلى ألفي ألف نفس، فإنا لله وإنا إليه راجعون ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.

وكان دخولهم إلى بغداد في أواخر المحرم، وما زال السيف يقتل أهلها أربعين يوما، وكان قتل الخليفة المستعصم بالله أمير المؤمنين يوم الأربعاء رابع عشر صفر وعفي قبره.

وكان عمره يومئذ ستا وأربعين سنة وأربعة أشهر، ومدة خلافته خمس عشرة سنة وثمانية أشهر وأيام، وقتل معه ولده الأكبر أبو العباس أحمد، وله خمس وعشرون سنة، ثم قتل ولده الأوسط أبو الفضل عبد الرحمن، وله ثلاث وعشرون سنة، وأسر ولده الأصغر مبارك وأسرت أخواته الثلاث فاطمة وخديجة ومريم، وأسر من دار الخلافة من الأبكار ما يقارب ألف بكر فيما قيل والله أعلم، فإنا لله وإنا إليه راجعون.

وقتل أستاذ دار الخلافة الشيخ محيي الدين يوسف بن الشيخ أبي الفرج بن الجوزي، وكان عدو الوزير، وقتل أولاده الثلاثة: عبد الله، وعبد الرحمن، وعبد الكريم، وأكابر الدولة واحدا بعد واحد، منهم الديودار الصغير مجاهد الدين أيبك، وشهاب الدين سليمان شاه، وجماعة من أمراء السنة وأكابر البلد.

وكان الرجل يستدعي به من دار الخلافة من بني العباس فيخرج بأولاده ونسائه فيذهب به إلى مقبرة الخلال، تجاه المنظرة فيذبح كما تذبح الشاة، ويؤسر من يختارون من بناته وجواريه.

وقتل شيخ الشيوخ مؤدب الخليفة صدر الدين علي بن النيار، وقتل الخطباء والأئمة وحملة القرآن، وتعطلت المساجد والجماعات والجمعات مدة شهور ببغداد، وأراد الوزير ابن العلقمي قبحه الله ولعنه أن يعطل المساجد والمدارس والربط ببغداد ويستمر بالمشاهد ومحال الرفض، وأن يبني للرافضة مدرسة هائلة ينشرون علمهم بها وعليها، فلم يقدره الله تعالى على ذلك، بل أزال نعمته عنه وقصف عمره بعد شهور يسيرة من هذه الحادثة، وأتبعه بولده فاجتمعا والله أعلم بالدرك الأسفل من النار.

ولما انقضى الأمر المقدر وانقضت الأربعون يوما بقيت بغداد خاوية على عروشها ليس بها أحد إلا الشاذ من الناس، والقتلى في الطرقات كأنها التلول، وقد سقط عليهم المطر فتغيرت صورهم وأنتنت من جيفهم البلد، وتغير الهواء فحصل بسببه الوباء الشديد حتى تعدى وسرى في الهواء إلى بلاد الشام، فمات خلق كثير من تغير الجو وفساد الريح، فاجتمع على الناس الغلاء والوباء والفناء والطعن والطاعون، فإنا لله وإنا إليه راجعون.

ولما نودي ببغداد بالأمان خرج من تحت الأرض من كان بالمطامير والقنى والمقابر كأنهم الموتى إذا نبشوا من قبورهم، وقد أنكر بعضهم بعضا فلا يعرف الوالد ولده ولا الأخ أخاه، وأخذهم الوباء الشديد فتفانوا وتلاحقوا بمن سبقهم من القتلى، واجتمعوا تحت الثرى بأمر الذي يعلم السر وأخفى، الله لا إله إلا هو له الأسماء الحسنى.

وكان رحيل السلطان المسلط هولاكو خان عن بغداد في جمادى الأولى من هذه السنة إلى مقر ملكه، وفوض أمر بغداد إلى الأمير علي بهادر، فوض إليه الشحنكية بها وإلى الوزير بن العلقمي فلم يمهله الله ولا أهمله، بل أخذه أخذ عزيز مقتدر، في مستهل جمادى الآخرة عن ثلاث وستين سنة، وكان عنده فضيلة في الإنشاء ولديه فضيلة في الأدب، ولكنه كان شيعيا جلدا رافضيا خبيثا، فمات جهدا وغما وحزنا وندما، إلى حيث ألقت رحلها أم قشعم، فولي بعده الوزارة ولده عز الدين بن الفضل محمد، فألحقه الله بأبيه في بقية هذا العام ولله الحمد والمنة. وذكر أبو شامة وشيخنا أبو عبد الله الذهبي وقطب الدين اليونيني أنه أصاب الناس في هذه السنة بالشام وباء شديد، وذكروا أن سبب ذلك من فساد الهواء والجو، فسد من كثرة القتلى ببلاد العراق، وانتشر حتى تعدى إلى بلاد الشام فالله أعلم.

وفي هذه السنة اقتتل المصريون مع صاحب الكرك الملك المغيث عمر بن العادل الكبير، وكان في حبسه جماعة من أمراء البحرية، منهم ركن الدين بيبرس البندقداري، فكسرهم المصريون ونهبوا ما كان معهم من الأثقال والأموال، وأسروا جماعة من رؤوس الأمراء فقتلوا صبرا، وعادوا إلى الكرك في أسوا حال وأشنعه، وجعلوا يفسدون في الأرض ويعيثون في البلاد، فأرسل الله الناصر صاحب دمشق فبعث جيشا ليكفهم عن ذلك، فكسرهم البحرية واستنصروا فبرز إليهم الناصر بنفسه فلم يلتفتوا إليه وقطعوا أطناب خيمته التي هو فيها بإشارة ركن الدين بيبرس المذكور، وجرت حروب وخطوب يطول بسطها وبالله المستعان.

وممن توفي في هذه السنة من الأعيان:

خليفة الوقت المستعصم بالله

أمير المؤمنين آخر خلفاء بني العباس بالعراق رحمه الله، وهو أبو أحمد عبد الله بن المستنصر بالله أبي جعفر منصور بن الظاهر بأمر الله أبي نصر محمد بن الناصر لدين الله أبي العباس أحمد بن المستضيء بأمر الله أبي محمد الحسن بن المستنجد بالله أبي المظفر يوسف بن المقتفي لأمر الله أبي عبد الله محمد بن المستظهر بالله أبي العباس أحمد بن المقتدي بالله أبي القاسم عبد الله بن الذخيرة أبي العباس محمد بن القائم بأمر الله عبد الله بن القادر بالله أبي العباس أحمد بن الأمير إسحاق بن المقتدر بالله أبي الفضل جعفر بن المعتضد بالله أبي العباس أحمد بن الأمير الموفق أبي أحمد طلحة بن المتوكل على الله أبي الفضل جعفر بن المعتصم بالله أبي إسحاق محمد بن الرشيد أبي محمد هارون بن المهدي أبي عبد الله محمد بن المنصور أبي جعفر عبد الله بن محمد بن علي بن عبد الله بن العباس بن عبد المطلب بن هاشم الهاشمي العباسي.

مولده سنة تسع وستمائة، وبويع له بالخلافة في العشرين من جمادى الأولى سنة أربعين، وكان مقتله في يوم الأربعاء الرابع عشر من صفر سنة ست وخمسين وستمائة، فيكون عمره يوم قتل سبعا وأربعين سنة رحمه الله تعالى.

وقد كان حسن الصورة جيد السريرة، صحيح العقيدة مقتديا بأبيه المستنصر في المعدلة وكثرة الصدقات وإكرام العلماء والعباد، وقد استجاز له الحافظ ابن النجار من جماعة من مشايخ خراسان منهم المؤيد الطوسي، وأبو روح عبد العزيز بن محمد الهروي، وأبو بكر القاسم بن عبد الله بن الصفار وغيرهم، وحدث عنه جماعة منهم مؤدبه شيخ الشيوخ صدر الدين أبو الحسن علي بن محمد بن النيار، وأجاز هو للإمام محيي الدين بن الجوزي، وللشيخ نجم الدين البادرائي، وحدثا عنه بهذه الإجازة.

وقد كان رحمه الله سنيا على طريقة السلف واعتقاد الجماعة كما كان أبوه وجده، ولكن كان فيه لين وعدم تيقظ ومحبة للمال وجمعه، ومن جملة ذلك أنه استحل الوديعة التي استودعه إياها الناصر داود بن المعظم، وكانت قيمتها نحوا من مائة ألف دينار، فاستقبح هذا من مثل الخليفة وهو مستقبح ممن هو دونه بكثير، بل من أهل الكتاب من إن تأمنه بقنطار يؤده إليك، كما قال الله تعالى: { وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لَا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِما } 24.

قتلته التتار مظلوما مضطهدا في يوم الأربعاء رابع عشر صفر من هذه السنة، وله من العمر ستة وأربعون سنة وأربعة أشهر، وكانت مدة خلافته خمسة عشر سنة وثمانية أشهر وأياما، فرحمه الله وأكرم مثواه، وبل بالرأفة ثراه.

وقد قتل بعده ولداه وأسر الثالث مع بنات ثلاث من صلبه، وشغر منصب الخلافة بعده، ولم يبق في بني العباس من سد مسده، فكان آخر الخلفاء من بني العباس الحاكمين بالعدل بين الناس، ومن يرتجي منهم النوال ويخشى البأس، وختموا بعبد الله المستعصم كما فتحوا بعبد الله السفاح، بويع له بالخلافة وظهر ملكه وأمره في سنة ثنتين وثلاثين ومائة، بعد انقضاء دولة بني أمية كما تقدم بيانه، وآخرهم عبد الله المستعصم وقد زال ملكه وانقضت خلافته في هذا العام.

فجملة أيامهم خمسمائة سنة وأربع وعشرون سنة، وزال ملكهم عن العراق والحكم بالكلية مدة سنة وشهور في أيام البساسيري بعد الخمسين وأربعمائة، ثم عادت كما كانت.

وقد بسطنا ذلك في موضعه في أيام القائم بأمر الله ولله الحمد.

ولم تكن أيدي بني العباس حاكمة على جميع البلاد كما كانت بنو أمية قاهرة لجميع البلاد والأقطار والأمصار، فإنه خرج عن بني العباس بلاد المغرب، ملكها في أوائل الأمر بعض بني أمية ممن بقي منهم من ذرية عبد الرحمن بن معاوية بن هشام بن عبد الملك، ثم تغلب عليه الملوك بعد دهور متطاولة كما ذكرنا، وقارن بني العباس دولة المدعين أنهم من الفاطميين ببلاد مصر وبعض بلاد المغرب، وما هنالك، وبلاد الشام في بعض الأحيان والحرمين في أزمان طويلة وكذلك أخذت من أيدهم بلاد خراسان وما وراء النهر، وتداولتها الملوك دولا بعد دول، حتى لم يبق مع الخليفة منهم إلى بغداد وبعض بلاد العراق، وذلك لضعف خلافتهم واشتغالهم بالشهوات وجمع الأموال في أكثر الأوقات، كما ذكر ذلك مبسوطا في الحوادث والوفيات.

واستمرت دولة الفاطميين قريبا من ثلاثمائة سنة حتى كان آخرهم العاضد الذي مات بعد الستين وخمسمائة في الدولة الصلاحية الناصرية القدسية، وكانت عدة ملوك الفاطميين أربعة عشر ملكا متخلفا، ومدة ملكهم تحريرا من سنة سبع وتسعين ومائتين إلى أن توفي العاضد سنة بضع وستين وخمسمائة، والعجب أن خلافة النبوة التالية لزمان رسول كانت ثلاثين سنة كما نطق بها الحديث الصحيح.

فكان فيها أبو بكر ثم عمر ثم عثمان ثم علي ثم ابنه الحسن بن علي ستة شهور حتى كملت الثلاثون كما قررنا ذلك في دلائل النبوة، ثم كانت ملكا فكان أول ملوك الإسلام من بني أبي سفيان معاوية بن أبي سفيان صخر بن حرب بن أمية، ثم ابنه يزيد، ثم ابن ابنه معاوية بن يزيد بن معاوية، وانقرض هذا البطن المفتتح بمعاوية المختتم بمعاوية، ثم ملك مروان بن الحكم ابن أبي العاص بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف بن قصي.

ثم ابنه عبد الملك ثم الوليد بن عبد الملك، ثم أخوه سليمان ثم ابن عمه عمر بن عبد العزيز، ثم يزيد بن عبد الملك، ثم هشام بن عبد الملك، ثم الوليد بن يزيد، ثم يزيد بن الوليد، ثم أخوه إبراهيم الناقص وهو ابن الوليد أيضا، ثم مروان بن محمد بن مروان الملقب بالحمار، وكان آخرهم فكان أولهم اسمه مروان وآخرهم اسمه مروان، ثم انقرضوا من أولهم إلى خاتمهم.

وكان أول خلفاء بني العباس عبد الله السفاح، وآخرهم عبد الله المستعصم، وكذلك أول خلفاء الفاطميين، فالأول اسمه عبد الله العاضد، وآخرهم عبد الله العاضد، وهذا اتفاق غريب جدا قل من يتنبه له، والله سبحانه أعلم.

وهذه أرجوزة لبعض الفضلاء ذكر فيها جميع الخلفاء:

الحمد لله العظيم عرشه ** القاهر الفرد القوي بطشه

مقلب الأيام والدهور ** وجامع الأنام للنشور

ثم الصلاة بدوام الأبد ** على النبي المصطفى محمد

وآله وصحبه الكرام ** السادة الأئمة الأعلام

وبعد فإن هذه أرجوزة ** نظمتها لطيفة وجيزة

نظمت فيها الراشدين الخلفا ** من قام بعد النبي المصطفى

ومن تلاهم وهلم جرا ** جعلتها تبصرة وذكرى

ليعلم العاقل ذو التصوير ** كيف جرت حوادث الأمور

وكل ذي مقدرة وملك ** معرضون للفنا والهلك

وفي اختلاف الليل والنهار ** تبصرة لكل ذي اعتبار

والملك الجبار في بلاده ** يورثه من شاء من عباده

وكل مخلوق فللفناء ** وكل ملك فإلى انتهاء

ولا يدوم غير ملك الباري ** سبحانه من ملك قهار

منفرد بالعز والبقاء ** وما سواه فإلى انقضاء

أول من بويع بالخلافة ** بعد النبي ابن أبي قحافة

أعني الإمام الهادي الصديقا ** ثم ارتضى من بعده الفاروقا

ففتح البلاد والأمصارا ** واستأصلت سيوفه الكفارا

وقام بالعدل قياما يرضي ** بذاك جبار السما و الأرض

ورضي الناس بذي النورين ** ثم على والد السبطين

ثم أتت كتائب مع الحسن ** كادوا بأن يجددوا بها الفتن

فأصلح الله على يديه ** كما عزا نبينا إليه

وجمع الناس على معاوية ** ونقل القصة كل راويه

فمهد الملك كما يريد ** وقام فيه بعده يزيد

ثم ابنه وكان برا راشدا ** أعني أبا ليلى وكان زاهدا

فترك الإمرة لا عن غلبه ** ولم يكن إليها منه طلبه

وابن الزبير بالحجاز يدأب ** في طلب الملك وفيه ينصب

وبالشام بايعوا مروانا ** بحكم من يقول كن فكانا

ولم يدم في الملك غير عام ** وعافصته أسهم الحمام

واستوثق الملك لعبد الملك ** ونار نجم سعده في الفلك

وكل من نازعه في الملك ** خر صريعا بسيوف الهلك

وقتل المصعب بالعراق ** وسير الحجاج ذا الشقاق

إلى الحجاز بسيوف النقم ** وابن الزبير لائذٌ بالحرم

فجار بعد قتله بصلبه ** ولم يخف في أمره من ربه

وعندما صفت له الأمور ** تقلبت بجسمه الدهور

ثم أتى من بعده الوليد ** ثم سليمان الفتى الرشيد

ثم استفاض في الورى عدل عمر ** تابع أمر ربه كما أمر

وكان يدعى بأشجّ القوم ** وذي الصلاة والتقى والصوم

فجاء بالعدل والإحسان ** وكف أهل الظلم والطغيان

مقتديا بسنة الرسول ** والراشدين من ذوي العقول

فجرع الإسلام كأس فقده ** ولم يروا مثلا له من بعده

ثم يزيد بعده هشام ** ثم الوليد فت منه الهام

ثم يزيد وهو يدعى الناقصا ** فجاءه حمامه معافصا

ولم تطل مدة إبراهيما ** وكان كل أمره سقيما

وأسند الملك إلى مروانا ** فكان من أموره ما كانا

وانقرض الملك على يديه ** وحادث الدهر سطا عليه

وقتله قد كان بالصعيد ** ولم تفده كثرة العديد

وكان فيه حتف آل الحكم ** واستنزعت عنهم ضروب النعم

ثم أتى ملك بني العباس ** ولا زال فينا ثابت الأساس

وجاءت البيعة من أرض العجم ** وقلدت بيعتهم كل الأمم

وكل من نازعهم من أممٍ ** خر صريعا لليدين و الفم

وقد ذكرت من تولى منهم ** حين تولى القائم المستعصم

أولهم ينعت بالسفاح ** وبعده المنصور ذو الجناح

ثم أتى من بعده المهدي ** يتلوه موسى الهادي الصفي

وجاء هارون الرشيد بعده ** ثم الأمين حين ذاق فقده

وقام بعد قتله المأمون ** وبعده المعتصم المكين

واستخلف الواثق بعد المعتصم ** ثم أخوه جعفر موفي الذمم

وأخلص النية في المتوكل ** لله ذي العرش القديم الأول

فأدحض البدعة في زمانه ** وقامت السنة في أوانه

ولم يبق فيها بدعة مضلةٌ ** وألبس المعتزلي ثوب ذله

فرحمة الله عليه أبدا ** ما غار نجمٌ في السماء أو بدا

وبعده استولى وقام المعتمد ** ومهد الملك وساس المقتصد

وعندما استشهد قام المنتصر ** والمستعين بعده كما ذكر

وجاء بعد موته المعتز ** والمهتدي الملتزم الأعز

والمكتفي في صحف العلا أسطر ** وبعده ساس الأمور المقتدر

واستوثق الملك بعز القاهر ** وبعده الراضي أخو المفاخر

والمتقي من بعد ذا المستكفي ** ثم المطيع ما به من خلف

والطائع الطائع ثم القادر ** والقائم الزاهد وهو الشاكر

والمقتدي من بعده المستظهر ** ثم أتى المسترشد الموقر

وبعده الراشد ثم المقتفي ** وحين مات استنجدوا بيوسف

المستضيء العادل في أفعاله ** الصادق الصدوق في أقواله

والناصر الشهم الشديد الباسِ ** ودام طول مكثه في الناس

ثم تلاه الظاهر الكريم ** وعدله كلٌ به عليم

ولم تطل أيامه في المملكة ** غير شهور واعترته الهلكه

وعهده كان إلى المستنصر ** العادل البر الكريم العنصر

دام يسوس الناس سبع عشرة ** وأشهرا بعزمات برّه

ثم توفي عام أربعينا ** وفي جمادى صادف المنونا

وبايع الخلائق المستعصما ** صلى عليه ربنا وسلما

فأرسل الرسل إلى الآفاق ** يقضون بالبيعة والوفاق

وشرفوا بذكره المنابرا ** ونشروا في جوده المفاخرا

وسار في الآفاق حسن سيرته ** وعدله الزائد في رعيته

قال الشيخ عماد الدين ابن كثير رحمه الله تعالى: ثم قلت أنا بعد ذلك أبياتا:

ثم ابتلاه الله بالتتار ** أتباع جنكيز خان الجبار

صحبته ابن ابنه هولاكو ** فلم يكن من أمره فكاك

فمزقوا جنوده وشمله ** وقتلوه نفسه و جهله

ودمروا بغداد والبلادا ** وقتلوا الأحفاد والأجدادا

وانتهبوا المال مع الحريم ** ولم يخافوا سطوة العظيم

وغرهم إنظاره وحلمه ** وما اقتضاه عدله وحكمه

وشغرت من بعده الخلافة ** ولم يؤرخ مثلها من آفة

ثم أقام الملك أعني الظاهرا ** خليفةً أعني به المستنصرا

ثم ولي من بعد ذاك الحاكم ** مسيم بيبرس الإمام العالم

ثم ابنه الخليفة المستكفي ** وبعض هذا للبيب يكفي

ثم ولي من بعده جماعة ** ما عندهم علم ولا بضاعة

ثم تولي وقتنا المعتضد ** ولا يكاد الدهر مثله يجد

في حسن خلق واعتقادٍ وحلى ** وكيف لا وهو من السيم الأولى

سادوا البلاد والعباد فضلا ** وملأوا الأقطار حكما وعدلا

أولاد عم المصطفى محمد ** وأفضل الخلق بلا تردد

صلى عليه الله ذو الجلال ** ما دامت الأيام والليالي

والفاطميون قليلوا العدة ** لكنهم مد لهم في المدة

فملكوا بضعا وستين سنة ** من بعده مائتين وكان كالسنة

والعدة أربع عشرة المهدي ** والقائم المنصور المعدي

أعني به المعز باني القاهرة ** ثم العزيز الحاكم الكوافرة

والظاهر المستنصر المستعلي ** فالآمر الحافظ عنه سوء الفعل

والظافر الفائز ثم العاضد ** آخرهم وما لهذا جاحد

أهلك بعد البضع والسنينا ** من قبلها خمسمائةٍ سنينا

وأصلهم يهود ليسوا شرفا ** بذاك أفتى السادة الأئمة

أنصار دين الله من ذي الأمة.

وهكذا خلفاء بني أمية ** عدتهم كعدة الرافضية

ولكن المدة كانت ناقصة ** عن مائة من السنين خالصة

وكلهم قد كان ناصبيا ** إلا الإمام عمر التقيا

معاوية ثم ابنه يزيد ** وابن ابنه معاوية السديد

مروان ثم ابن له عبد الملك ** منابذ لابن الزبير حتى هلك

ثم استقل بعده بالملك ** في سائر الأرض بغير شك

ثم الوليد النجل باني الجامع ** وليس مثله بشكله من جامع

ثم سليمان الجواد وعمر ** ثم يزيد وهشام وغدر

أعني الوليد بن يزيد الفاسقا ** ثم يزيد بن الوليد فائقا

يلقب الناقص وهو كامل ** ثم إبراهيم وهو عاقل

ثم مروان الحمار الجعدي ** آخرهم فاظفر بذا من عندي

والحمد لله على التمام ** كذاك نحمد على الأنعام

ثم الصلاة مع تمام العدد ** على النبي المصطفى محمد

وآله وصحبه الأخيار ** في سائر الأوقات والأعصار

وهذه الأبيات نظم الكاتب ** ثمانية تتمة المناقب

وممن قتل مع الخليفة واقف الجوزية بدمشق أستاذ دار الخلافة محيي الدين يوسف بن الشيخ جمال الدين أبي الفرج بن الجوزي، عبد الرحمن بن علي بن محمد بن علي بن محمد بن علي بن عبيد الله بن حماد بن أحمد بن جعفر بن عبد الله بن القاسم بن النضر بن محمد بن أبي بكر الصديق القرشي التيمي البكري البغدادي الحنبلي المعروف بابن الجوزي.

ولد في ذي القعدة سنة ثمانين وخمسمائة، ونشأ شابا حسنا، وحين توفي أبوه وعظ في موضعه فأحسن وأجاد وأفاد، ثم لم يزل متقدما في مناصب الدنيا، فولي حسبة بغداد مع الوعظ الفائق والأشعار الحسنة، ثم ولي تدريس الحنابلة بالمستنصرية سنة اثنتين وثلاثين وستمائة، وكانت له تداريس أخر.

ولي أستاذ دار الخلافة، وكان رسولا للملوك من بني أيوب وغيرهم من جهة الخلفاء، وانتصب ابنه عبد الرحمن مكانه للحسبة والوعظ، ثم كانت الحسبة تتنقل في بنيه الثلاثة عبد الرحمن، وعبد الله، وعبد الكريم.

وقد قتلوا معه في هذه السنة رحمهم الله.

ولمحيي الدين هذا مصنف في مذهب أحمد، وقد ذكر له ابن الساعي أشعارا حسنة يهنئ بها الخليفة في المواسم والأعياد، تدل على فضيلة وفصاحة، وقد وقف الجوزية بدمشق وهي من أحسن المدارس، تقبل الله منه.

الصرصري المادح رحمه الله

يحيى بن يوسف بن يحيى بن منصور بن المعرم عبد السلام الشيخ الإمام العلامة البارع الفاضل في أنواع من العلوم، جمال الدين أبو زكريا الصرصري، الفاضل المادح الحنبلي الضرير البغدادي، معظم شعره في مدح رسول الله ، وديوانه في ذلك مشهور معروف غير منكر، ويقال إنه كان يحفظ صحاح الجوهري بتمامه في اللغة.

وصحب الشيخ علي بن إدريس تلميذ الشيخ عبد القادر، وكان ذكيا يتوقد نورا، وكان ينظم على البديهة سريعا أشياء حسنة فصيحة بليغة، وقد نظم (الكافي) الذي ألفه موفق الدين بن قدامة، و(مختصر الخرقي).

وأما مدائحه في رسول الله فيقال إنها تبلغ عشرين مجلدا، وما اشتهر عنه أنه مدح أحدا من المخلوقين من بني آدم إلا الأنبياء، ولما دخل التتار إلى بغداد دعي إلى ذارئها كرمون بن هولاكو فأبى أن يجيب إليه، وأعد في داره حجارة فحين دخل عليه التتار رماهم بتلك الأحجار فهشم منهم جماعة، فلما خلصوا إليه قتل بعكازه أحدهم، ثم قتلوه شهيدا رحمه الله تعالى، وله من العمر ثمان وستون سنة.

وقد أورد له قطب الدين اليونيني من ديوانه قطعة صالحة في ترجمته في (الذيل) استوعب حروف المعجم، وذكر غير ذلك قصائد طوالا كثيرة حسنة.

البهاء زهير صاحب الديوان

وهو زهير بن محمد بن علي بن يحيى بن الحسين بن جعفر المهلبي العتكي المصري، ولد بمكة ونشأ بقوص، وأقام بالقاهرة، الشاعر المطبق الجواد في حسن الخط له ديوان مشهور، وقدم على السلطان الصالح أيوب، وكان غزير المروءة حسن التوسط في إيصال الخير إلى الناس، ودفع الشر عنهم، وقد أثنى عليه ابن خلكان وقال: أجاز لي رواية ديوانه وقد، بسط ترجمته القطب اليونيني.

الحافظ زكي الدين المنذري

عبد العظيم بن عبد القوي بن عبد الله بن سلامة بن سعد بن سعيد، الإمام العلامة محمد أبو زكي الدين المنذري الشافعي المصري، أصله من الشام وولد بمصر، وكان شيخ الحديث بها مدة طويلة، إليه الوفادة والرحلة من سنين متطاولة.

وقيل: إنه ولد بالشام سنة إحدى وثمانين وخمسمائة، وسمع الكثير ورحل وطلب وعني بهذا الشأن، حتى فاق أهل زمانه فيه، وصنف وخرج واختصر (صحيح مسلم)، و(سنن أبي داود)، وهو أحسن اختصارا من الأول، وله اليد الطولى في اللغة والفقه والتاريخ، وكان ثقة حجة متحريا زاهدا توفي يوم السبت رابع ذي القعدة من هذه السنة بدار الحديث الكاملية بمصر.

ودفن بالقرافة رحمه الله تعالى.

النور أبو بكر بن محمد بن محمد بن عبد العزيز

ابن عبد الرحيم بن رستم الأشعري الشاعر المشهور الخليع، كان القاضي صدر الدين بن سناء الدولة قد أجلسه مع الشهود تحت الساعات، ثم استدعاه الناصر صاحب البلد فجعله من جلسائه وندمائه، وخلع عليه خلع الأجناد فانسلخ من هذا الفن إلى غيره، وجمع كتابا سماه (الزرجون في الخلاعة والمجون) وذكر فيه أشياء كثيرة من النظم والنثر والخلاعة، ومن شعره الذي لا يحمد:

لذة العمر خمسة فاقتنيها ** من خليعٍ غدا أديبا فقيها

في نديم وقينةٍ وحبيبٍ ** ومدامٍ وسب من لام فيها

الوزير بن العلقمي الرافضي قبحه الله

محمد بن أحمد بن محمد بن علي بن أبي طالب، الوزير مؤيد الدين أبو طالب ابن العلقمي، وزير المستعصم البغدادي، وخدمة في زمان المستنصر أستاذ دار الخلافة مدة طويلة، ثم صار وزير المستعصم وزير سوء على نفسه وعلى الخليفة وعلى المسلمين، مع أنه من الفضلاء في الإنشاء والأدب، وكان رافضيا خبيثا رديء الطوية على الإسلام وأهله.

وقد حصل له من التعظيم والوجاهة في أيام المستعصم ما لم يحصل لغيره من الوزراء، ثم مالأ على الإسلام وأهله الكفار هولاكو خان، حتى فعل ما فعل بالإسلام وأهله مما تقدم ذكره.

ثم حصل له بعد ذلك من الإهانة والذل على أيدي التتار الذين مالأهم وزال عنه ستر الله، وذاق الخزي في الحياة الدنيا، ولعذاب الآخرة أشد وأبقى، وقد رأته امرأة وهو في الذل والهوان وهو راكب في أيام التتار برذونا وهو مرسم عليه، وسائق يسوق به ويضرب فرسه، فوقفت إلى جانبه وقالت له:

يا ابن العلقمي هكذا كان بنو العباس يعاملونك؟ فوقعت كلمتها في قلبه وانقطع في داره إلى أن مات كمدا وغبينة وضيقا، وقلة وذلة، في مستهل جمادى الآخرة من هذه السنة، وله من العمر ثلاث وستون سنة، ودفن في قبور الروافض، وقد سمع بأذنيه، ورأى بعينيه من الإهانة من التتار والمسلمين ما لا يحد ولا يوصف.

وتولى بعده ولده الخبيث الوزارة، ثم أخذه الله أخذ القرى وهي ظالمة سريعا، وقد هجاه بعض الشعراء فقال فيه:

يا فرقة الإسلام نوحوا واندبوا ** أسفا على ما حل بالمستعصم

دست الوزارة كان قبل زمانه ** لابن الفرات فصار لابن العلقمي

محمد بن عبد الصمد بن عبد الله بن حيدرة

فتح الدين أبو عبد الله بن العدل محتسب دمشق، كان مشكورا حسن الطريقة، وجده العدل نجيب الدين أبو محمد عبد الله بن حيدرة، وهو واقف المدرسة التي بالزبداني في سنة تسعين وخمسمائة تقبل الله منه وجزاه خيرا.

القرطبي صاحب المفهم في شرح مسلم

أحمد بن عمر بن إبراهيم بن عمر أبو العباس الأنصاري القرطبي المالكي الفقيه المحدث المدرس بالإسكندرية، ولد بقرطبة سنة ثمان وسبعين وخمسمائة، وسمع الكثير هناك واختصر (الصحيحين)، وشرح (صحيح مسلم)المسمى بالمفهم، وفيه أشياء حسنة مفيدة محررة رحمه الله.

الكمال إسحاق بن أحمد بن عثمان

أحد مشايخ الشافعية، أخذ عنه الشيخ محيي الدين النووي وغيره، وكان مدرسا بالرواحية، توفي في ذي القعدة من هذه السنة.

العماد داود بن عمر بن يحيى بن عمر بن كامل

أبو المعالي وأبو سليمان الزبيدي المقدسي، ثم الدمشقي خطيب بيت الأبار، وقد خطب بالأموي ست سنين بعد ابن عبد السلام، ودرس بالغزالية، ثم عاد إلى بيت الأبار فمات بها.

علي بن محمد بن الحسين، صدر الدين أبو الحسن بن النيار شيخ الشيوخ ببغداد

وكان أولا مؤدبا للإمام المستعصم، فلما صارت الخلافة إليه برهة من الدهور رفعه وعظمه وصارت له وجاهة عنده، وانضمت إليه أزمة الأمور، ثم إنه ذبح بدار الخلافة كما تذبح الشاة على أيدي التتار

الشيخ علي العابد الخباز

كان له أصحاب وأتباع ببغداد، وله زاوية يزار فيها، قتلته التتار وألقي على مزبلة بباب زاويته ثلاثة أيام حتى أكلت الكلاب من لحمه، ويقال إنه أخبر بذلك عن نفسه في حال حياته.

محمد بن إسماعيل بن أحمد بن أبي الفرج أبو عبد الله المقدسي

الخطيب براد سمع الكثير، وعاش تسعين سنة، ولد في سنة ثلاث وخمسين فسمع الناس عليه الكثير بدمشق، ثم عاد فمات ببلده برادا في هذه السنة، رحمه الله.

البدر لؤلؤ صاحب الموصل

الملقب بالملك الرحيم، توفي في شعبان عن مائة سنة، وقد ملك الموصل نحوا من خمسين سنة، وكان ذا عقل ودهاء ومكر، لم يزل يعمل على أولاد أستاذه حتى أبادهم وأزال الدولة الأتابكية عن الموصل، ولما انفصل هولاكو خان عن بغداد - بعد الوقعة الفظيعة العظيمة - سار إلى خدمته طاعة له، ومعه الهدايا والتحف، فأكرمه واحترمه، ورجع من عنده فمكث بالموصل أياما يسيرة. ثم مات ودفن بمدرسته البدرية، وتأسف الناس عليه لحسن سيرته وجودة معدلته، وقد جمع له الشيخ عز الدين كتابه المسمى (بالكامل في التاريخ) فأجازه عليه وأحسن إليه، وكان يعطي لبعض الشعراء ألف دينار.

وقام في الملك بعده ولده الصالح إسماعيل.

وقد كان بدر الدين لؤلؤ هذا أرمنيا اشتراه رجل خياط، ثم صار إلى الملك نور الدين أرسلان شاه بن عز الدين مسعود بن مودود بن زنكي ابن آقسنقر الأتابكي، صاحب الموصل، وكان مليح الصورة، فحظي عنده وتقدم في دولته إلى أن صارت الكلمة دائرة عليه، والوفود من سائر جهات ملكهم إليه.

ثم إنه قتل أولاد أستاذه غيلة واحدا بعد واحد إلى أن لم يبق معه أحد منهم، فاستقل هو بالملك، وصفت له الأمور، وكان يبعث في كل سنة إلى مشهد على قنديلا ذهبا زنته ألف دينار، وقد بلغ من العمر قريبا من تسعين سنة، وكان شابا حسن الشباب من نضارة وجهه، وحسن شكله، وكانت العامة تلقبه: قضيب الذهب.

وكان ذا همة عالية، وداهية شديد المكر، بعيد الغور، وبعثه إلى مشهد علي بذلك القنديل الذهب في كل سنة دليل على قلة عقله وتشيعه، والله أعلم.

الملك الناصر داود المعظم

ترجمه الشيخ قطب الدين اليونيني في (تذييله على المرآة) في هذه السنة، وبسط ترجمته جدا وما جرى له من أول أمره إلى آخره.

وقد ذكرنا ترجمته في الحوادث، وأنه أودع الخليفة المستعصم في سنة سبع وأربعين وديعة قيمتها مائة ألف دينار فجحدها الخليفة، فتكرر وفوده إليه، وتوسله بالناس في ردها إليه، فلم يفد من ذلك شيئا، وتقدم أنه قال لذلك الشاعر الذي مدح الخليفة بقوله:

لو كنت في يوم السقيفة حاضرا ** كنت المقدم والإمام الأورعا

فقال له الناصر داود: أخطأت، فقد كان جد أمير المؤمنين العباس حاضرا يوم السقيفة، ولم يكن المقدم وهو أفضل من أمير المؤمنين، وإنما كان المقدم أبو بكر الصديق.

فقال الخليفة: صدق، وخلع عليه، ونفى ذلك الشاعر - وهو الوجيه الفزاري - إلى مصر، وكانت وفاة الناصر داود بقرية البويضا مرسما عليه، وشهد جنازته صاحب دمشق.

ثم دخلت سنة سبع وخمسين وستمائة

استهلت هذه السنة وليس للمسلمين خليفة، وسلطان دمشق وحلب الملك الناصر صلاح الدين يوسف بن العزيز محمد بن أبي الظاهر غازي بن الناصر صلاح الدين، وهو واقع بينه وبين المصريين.

وقد ملكوا نور الدين علي بن المعز أيبك التركماني ولقبوه: بالمنصور، وقد أرسل الملك الغاشم هولاكو خان إلى الملك الناصر صاحب دمشق يستدعيه إليه، فأرسل إليه ولده العزيز وهو صغير ومعه هدايا كثيرة وتحف، فلم يحتفل به هولاكو خان بل غضب على أبيه إذ لم يقبل إليه، وأخذ ابنه وقال: أنا أسير إلى بلاده بنفسي.

فانزعج الناصر لذلك، وبعث بحريمه وأهله إلى الكرك ليحصنهم بها، وخاف أهل دمشق خوفا شديدا، ولا سيما لما بلغهم أن التتار قد قطعوا الفرات، سافر كثير منهم إلى مصر في زمن الشتاء، فمات ناس كثير منهم ونهبوا، فإنا لله وإنا إليه راجعون.

وأقبل هولاكو خان فقصد الشام بجنوده وعساكره، وقد امتنعت عليه ميافارقين مدة سنة ونصف، فأرسل إليها ولده أشموط فافتتحها قسرا وأنزل ملكها الكامل بن الشهاب غازي بن العادل فأرسله إلى أبيه وهو محاصر حلب فقتله بين يديه، واستناب عليها بعض مماليك الأشرف، وطيف برأس الكامل في البلاد.

ودخلوا برأسه إلى دمشق فنصب على باب الفراديس البراني، ثم دفن بمسجد الرأس داخل باب الفراديس الجواني، فنظم أبو شامة في ذلك قصيدة يذكر فيها فضله وجهاده، وشبهه بالحسين في قتله مظلوما ودفن رأسه عند رأسه:

وفيها: عمل الخواجة نصير الدين الطوسي الرصد بمدينة مراغة، ونقل إليه شيئا كثيرا من كتب الأوقاف التي كانت ببغداد، وعمل دار حكمة، ورتب فيها فلاسفة، ورتب لكل واحد في اليوم والليلة ثلاثة دراهم.

ودار طب فيها للطبيب في اليوم درهان.

ومدرسة لكل فقيه في اليوم درهم.

ودار حديث لكل محدث نصف درهم في اليوم.

وفيها: قدم القاضي الوزير كمال الدين عمر بن أبي جرادة المعروف: بابن العديم إلى الديار المصرية رسولا من صاحب دمشق الناصر بن العزيز يستنجد المصريين على قتال التتار، وأنهم قد اقترب قدومهم إلى الشام، وقد استولوا على بلاد الجزيرة وغيرها.

وقد جاز أشموط بن هولاكو خان الفرات، وقرب من حلب، فعند ذلك عقدوا مجلسا بين يدي المنصور بن المعز التركماني، وحضر قاضي مصر بدر الدين السنجاري والشيخ عز الدين بن عبد السلام، وتفاوضوا الكلام فيما يتعلق بأخذ شيء من أموال العامة لمساعدة الجند، وكانت العمدة على ما يقوله ابن عبد السلام، وكان حاصل كلامه أنه قال:

إذا لم يبق في بيت المال شيء، ثم أنفقتم أموال الحوائض المذهبة وغيرها من الفضة والزينة، وتساويتم أنتم والعامة في الملابس سوى آلات الحرب بحيث لم يبق للجندي سوى فرسه التي يركبها، ساغ للحاكم حينئذ أخذ شيء من أموال الناس في دفع الأعداء عنهم، لأنه إذا دهم العدو البلاد، وجب على الناس كافة دفعهم بأموالهم وأنفسهم.

ولاية الملك المظفر قطز

وفيها: قبض الأمير سيف الدين قطز علي ابن أستاذه نور الدين علي الملقب بالمنصور، وذلك في غيبة أكثر الأمراء من مماليك أبيه وغيرهم في الصيد، فلما مسكه سيره مع أمه وأبنيه وأخوته إلى بلاد الإشكري، وتسلطن هو وسمى نفسه: بالملك المظفر.

وكان هذا من رحمة الله بالمسلمين، فإن الله جعل على يديه كسر التتار كما سيأتي بيانه إن شاء الله تعالى.

وبان عذره الذي اعتذر به إلى الفقهاء والقضاة وإلى ابن العديم، فإنه قال: لا بد للناس من سلطان قاهر يقاتل عن المسلمين عدوهم، وهذا صبي صغير لا يعرف تدبير المملكة.

وفيها: برز الملك الناصر صاحب دمشق إلى وطاء، برز في جحافل كثيرة من الجيش والمتطوعة والأعراب، وغيرهم ولما علم ضعفهم عن مقاومة المغول أرفض ذلك الجمع، ولم يسر لا هو ولا هم، فإنا لله وإنا إليه راجعون.

وفيها توفي من الأعيان:

واقف الصدرية صدر الدين أسعد بن المنجاة بن بركات بن مؤمل

التنوخي المغربي ثم الدمشقي الحنبلي أحد المعدلين، ذوي الأموال، والمروءات والصدقات الدارة البارة، وقف مدرسة للحنابلة، وقبره بها إلى جانب تربة القاضي المصري في رأس درب الريحان من ناحية الجامع الأموي، وقد ولي نظر الجامع مدة.

استجد أشياء كثيرة منها: سوق النحاسين قبلي الجامع، ونقل الصاغة إلى مكانها الآن، وقد كانت قبل ذلك في الصاغة العتيقة، وجدد الدكاكين التي بين أعمدة الزيارة، وثمر الجامع أموالا جزيلة، وكانت له صدقات كثيرة، وذكر عنه أنه كان يعرف صنعة الكيميا، وأنه صح معه عمل الفضة، وعندي أن هذا لا يصح ولا يصح عنه، والله أعلم.

الشيخ يوسف الأقميني

كان يعرف بالأقميني لأنه كان يسكن قمين حمام نور الدين الشهيد، وكان يلبس ثيابا طوالا تحف على الأرض، ويبول في ثيابه، ورأسه مكشوفة، ويزعمون أن له أحوالا وكشوفا كثيرة.

وكان كثير من العوام وغيرهم يعتقدون صلاحه وولايته، وذلك لأنهم لا يعملون شرائط الولاية ولا الصلاح، ولا يعملون أن الكشوف قد تصدر من البر والفاجر، والمؤمن والكافر، كالرهبان وغيرهم، وكالدجال وابن صياد وغيرهم.

فإن الجن تسترق السمع وتلقيه على أذن الإنسي، ولا سيما من يكون مجنونا أو غير نقي الثياب من النجاسة، فلا بد من اختبار صاحب الحال بالكتاب والسنة، فمن وافق حاله كتاب الله وسنة رسوله فهو رجل صالح، سواء كاشف أو لم يكاشف، ومن لم يوافق فليس برجل صالح سواء كاشف أم لا.

قال الشافعي: إذا رأيتم الرجل يمشي على الماء ويطير في الهواء فلا تغتروا به حتى تعرضوا أمره على الكتاب والسنة.

ولما مات هذا الرجل دفن بتربة بسفح قاسيون، وهي مشهورة به شرقي الرواحية، وهي مزخرفة قد اعتنى بها بعض العوام ممن كان يعتقده، فزخرفها وعمل على قبره حجارة منقوشة بالكتابة، وهذا كله من البدع.

وكانت وفاته في سادس شعبان من هذه السنة، وكان الشيخ إبراهيم بن سعيد جيعانة لا يتجاسر فيما يزعم أن يدخل البلد والقميني حي، فيوم مات الأقميني دخلها، وكانت العوام معه فدخلوا دمشق وهم يصيحون ويصرخون أذن لنا في دخول البلد، وهم أتباع كل ناعق لم يستضيئوا بنور العلم، فقيل لجيعانة:

ما منعك من دخولها قبل اليوم؟

فقال: كنت كلما جئت إلى باب من أبواب البلد، أجد هذا السبع رابضا فيه فلا أستطيع الدخول.

وقد كان سكن الشاغور، وهذا كذب واحتيال ومكر وشعبذة، وقد دفن جيعانة عنده في تربته بالسفح والله أعلم بأحوال العباد.

الشمس علي بن الشبي المحدث

ناب في الحسبة عن الصدر البكري، وقرأ الكثير بنفسه، وسمع وأسمع، وكتب بخطه كثيرا.

أبو عبد الله الفاسي شارح (الشاطبية)

اشتهر بالكنية، وقيل: إن اسمه القاسم، مات بحلب وكان عالما فاضلا في العربية والقراءات وغير ذلك، وقد أجاد في شرحه (للشاطبية) وأفاد، واستحسنه الشيخ شهاب الدين أبو شامة شارحها أيضا.

النجم أخو البدر مفضل

وكان شيخ الفاضلية بالكلاسة، وكان له إجازة من السلفي خطيب العقبية بدر الدين يحيى بن الشيخ عز الدين بن عبد السلام، ودفن بباب الصغير على جده، وكانت جنازته حافلة رحمه الله.

سعد الدين محمد بن الشيخ محي الدين بن عربي

ذكره أبو شامة وأثنى عليه في فضيلته وأدبه وشعره، هذا إن لم يكن من أتباع أبيه، وقد ذكره أبو شامة وفاة الناصر داود في هذه السنة.

سيف الدين بن صبرة

متولي شرطة دمشق، ذكر أبو شامة: أنه حين مات جاءت حية فنهشت أفخاذه، وقيل: إنها التفت في أكفانه، وأعيي الناس دفعها.

قال وقيل: إنه كان نصيريا رافضيا خبيثا مدمن خمر، نسأل الله الستر والعافية.

النجيب بن شعيشعة الدمشقي

أحد الشهود بها، له سماع حديث، ووقف داره بدرب البانياسي دار حديث، وهي التي كان يسكنها شيخنا الحافظ المزي قبل انتقاله إلى دار الحديث الأشرفية.

قال أبو شامة: وكان ابن شعيشعة وهو النجيب أبو الفتح نصر الله بن أبي طالب الشيباني، مشهورا بالكذب ورقة الدين وغير ذلك، وهو أحد الشهود المقدوح فيهم، ولم يكن بأهل أن يؤخذ عنه، قال: وقد أجلسه أحمد بن يحيى الملقب بالصدر ابن سني الدولة في حال ولايته القضاء بدمشق، فأنشد فيه بعض الشعراء:

جلس الشعيشعة الشقي ليشهدا ** تبا لكم، ماذا عدا فيما بدا؟

هل زلزل الزلزال؟ أم قد خرج الد ** جال أم عدم الرجال ذوو الهدى؟

عجبا لمحلول العقيدة جاهلٍ ** بالشرع قد أذنوا له أن يقعدا

قال أبو شامة: في سنة سبع وخمسين وستمائة مات شخص زنديق يتعاطى الفلسفة والنظر في علم الأوائل، وكان يسكن مدارس المسلمين، وقد أفسد عقائد جماعة من الشبان المشتغلين فيما بلغني، وكان أبوه يزعم أنه من تلامذة ابن خطيب الري الرازي صاحب المصنفات حية ولد حية.

ثم دخلت سنة ثمان وخمسين وستمائة

استهلت هذه السنة بيوم الخميس وليس للناس خليفة، وملك العراقين وخراسان وغيرها من بلاد المشرق للسلطان هولاكو خان ملك التتار، وسلطان ديار مصر الملك المظفر سيف الدين قطز، مملوك المعز أيبك التركماني، وسلطان دمشق وحلب الملك الناصر بن العزيز بن الظاهر، وبلاد الكرك والشوبك للملك المغيث بن العادل بن الكامل محمد بن العادل أبي بكر بن أيوب.

وهو حرب مع الناصر صاحب دمشق على المصريين، ومعهما الأمير ركن الدين بيبرس البندقداري، وقد عزموا على قتال المصريين، وأخذ مصر منهم.

وبينما الناس على هذه الحال وقد تواترت الأخبار بقصد التتار بلاد الشام إذ دخل جيش المغول صحبة ملكهم هولاكو خان وجازوا الفرات على جسور عملوها، ووصلوا إلى حلب في ثاني صفر من هذه السنة، فحاصروها سبعة أيام ثم افتتحوها بالأمان.

ثم غدروا بأهلها وقتلوا منهم خلقا لا يعلمهم إلا الله عز وجل، ونهبوا الأموال، وسبوا النساء والأطفال، وجرى عليهم قريب مما جرى على أهل بغداد، فجاسوا خلال الديار وجعلوا أعزة أهلها أذلة، فإنا لله وإنا إليه راجعون.

وامتنعت عليه القلعة شهرا ثم استلموها بالأمان، وخرب أسوار البلد وأسوار القلعة وبقيت حلب كأنها حمار أجرب، وكان نائبها الملك المعظم توران شاه بن صلاح الدين وكان عاقلا حازما، لكنه لم يوافقه الجيش على القتال، وكان أمر الله قدرا مقدورا.

وقد كان أرسل هولاكو يقول لأهل حلب: نحن إنما جئنا لقتال الملك الناصر بدمشق، فاجعلوا لنا عندكم شحنة، فإن كانت النصرة لنا فالبلاد كلها في حكمنا، وإن كانت علينا فإن شئتم قبلتم الشحنة وإن شئتم أطلقتموه.

فأجابوه ما لك عندنا إلا السيف، فتعجب من ضعفهم وجوابهم، فزحف حينئذ إليهم وأحاط بالبلد، وكان ما كان بقدر الله سبحانه.

ولما فتحت حلب أرسل صاحب حماه بمفاتيحها إلى هولاكو، فاستناب عليها رجلا من العجم يدّعي أنه من ذرية خالد بن الوليد يقال له: خسروشاه، فخرب أسوارها كمدينة حلب.

صفة أخذهم دمشق وزوال ملكهم عنها سريعا

أرسل هولاكو وهو نازل على حلب جيشا مع أمير من كبار دولته يقال له كتبغانوين، فوردوا دمشق في آخر صفر فأخذوها سريعا من غير ممانعة ولا مدافع، بل تلقاهم كبارها بالرحب والسعة.

وقد كتب هولاكو أمانا لأهل البلد، فقرئ بالميدان الأخضر ونودي به في البلد، فأمن الناس على وجل من الغدر، كما فعل بأهل حلب، هذا والقلعة ممتنعة مستورة، وفي أعاليها المجانيق منصوبة والحال شديدة.

فأحضرت التتار منجنيقا يحمل على عجل والخيول تجرها، وهم راكبون على الخيل وأسلحتهم على أبقار كثيرة، فنصب المنجانيق على القلعة من غربيها، وخربوا حيطانا كثيرة وأخذوا حجارتها ورموا بها القلعة رميا متواترا كالمطر المتدارك.

فهدموا كثيرا من أعاليها وشرفاتها وتداعت للسقوط، فأجابهم متوليها في آخر ذلك النهار للمصالحة، ففتحوها وخربوا كل بدنة فيها، وأعالي بروجها، وذلك في نصف جمادى الأولى من هذه السنة.

وقتلوا المتولي بها بدر الدين بن قراجا، ونقيبها جمال الدين بن الصيرفي الحلبي، وسلموا البلد والقلعة إلى أمير منهم يقال له: إبل سيان، وكان لعنه الله معظما لدين النصارى، فاجتمع به أساقفتهم وقسوسهم، فعظمهم جدا، وزار كنائسهم، فصارت لهم دولة وصولة بسببه.

وذهب طائفة من النصارى إلى هولاكو وأخذوا معهم هدايا وتحفا، وقدموا من عنده ومعهم أمان فرمان من جهته، ودخلوا من باب توما ومعهم صليب منصوب يحملونه على رؤوس الناس، وهم ينادون بشعارهم، ويقولون: ظهر الدين الصحيح دين المسيح.

ويذمون دين الإسلام وأهله، ومعهم أواني فيها خمر لا يمرون على باب مسجد إلا رشوا عنده خمرا، وقماقم ملآنة خمرا يرشون منها على وجوه الناس وثيابهم، ويأمرون كل من يجتازون به في الأزقة والأسواق أن يقوم لصليبهم.

ودخلوا من درب الحجر فوقفوا عند رباط الشيخ أبي البيان ورشوا عنده خمرا، وكذلك على باب مسجد درب الحجر الصغير والكبير، واجتازوا في السوق حتى وصلوا درب الريحان أو قريب منه، فتكاثر عليهم المسلمون فردوهم إلى سوق كنيسة مريم.

فوقف خطيبهم إلى دكة دكان في عطفة السوق فمدح دين النصارى وذم دين الإسلام وأهله، فإنا لله وإنا إليه راجعون.

ثم دخلوا بعد ذلك إلى كنيسة مريم وكانت عامرة ولكن كان هذا سبب خرابها ولله الحمد.

وحكى الشيخ قطب الدين في (ذيله على المرآة) أنهم ضربوا بالناقوس في كنيسة مريم فالله أعلم.

قال: وذكر أنهم دخلوا إلى الجامع بخمر وكان في نيتهم إن طالت مدة التتار أن يخربوا كثيرا من المساجد وغيرها، ولما وقع هذا في البلد اجتمع قضاة المسلمين والشهود والفقهاء فدخلوا القلعة يشكون هذا الحال إلى متسلمها إبل سيان فأهينوا وطردوا، وقدم كلام رؤساء النصارى عليهم. فإنا لله وإنا إليه راجعون.

وهذا كان في أول هذه السنة وسلطان الشام الناصر بن العزيز وهو مقيم في وطأة برزه، ومعه جيوش كثيرة من الأمراء وأبناء الملوك ليناجزوا التتار إن قدموا عليهم، وكان في جملة من معه الأمير بيبرس البندقداري في جماعة من البحرية، ولكن الكلمة بين الجيوش مختلفة غير مؤتلفة، لما يريده الله عز وجل.

وقد عزمت طائفة من الأمراء على خلع الناصر وسجنه ومبايعة أخيه شقيقه الملك الظاهر علي.

فلما عرف الناصر ذلك هرب إلى القلعة وتفرقت العساكر شذر مذر وساق الأمير ركن الدين بيبرس في أصحابه إلى ناحية غزة، فاستدعاه الملك المظفر قطز إليه واستقدمه عليه، وأقطعه قليوب، وأنزله بدار الوزارة، وعظم شأنه لديه، وإنما كان حتفه على يديه.

وقعت عين جالوت

اتفق وقوع هذا كله في العشر الأخير من رمضان من هذه السنة، فما مضت سوى ثلاثة أيام حتى جاءت البشارة بنصرة المسلمين على التتار بعين جالوت، وذلك أن الملك المظفر قطز صاحب مصر لما بلغه أن التتار قد فعلوا بالشام ما ذكرنا، وقد نهبوا البلاد كلها حتى وصلوا إلى غزة، وقد عزموا على الدخول إلى مصر، وقد عزم الملك الناصر صاحب دمشق على الرحيل إلى مصر، وليته فعل، وكان في صحبته الملك المنصور صاحب حماه وخلق من الأمراء وأبناء الملوك.

وقد وصل إلى قطية وأكرم الملك المظفر قطز صاحب حماه، ووعده ببلده ووفاه له، ولم يدخل الملك الناصر مصر بل كر راجعا إلى ناحية تيه بني إسرائيل، ودخل عامة من كان معه إلى مصر، ولو دخل كان أيسر عليه مما صار إليه.

ولكنه خاف منهم لأجل العداوة فعدل إلى ناحية الكرك فتحصن بها وليته استمر فيها، ولكنه قلق فركب نحو البرية - وليته ذهب فيها - واستجار ببعض أمراء الأعراب، فقصدته التتار وأتلفوا ما هنالك من الأموال وخربوا الديار وقتلوا الكبار والصغار وهجموا على الأعراب التي بتلك النواحي فقتلوا منهم خلقا وسبوا من نسلهم ونسائهم.

وقد اقتص منهم العرب بعد ذلك، فأغاروا على خيل جشارهم في نصف شعبان فساقوها بأسرها، فساقت وراءهم التتار فلم يدركوا لهم الغبار ولا استردوا منهم فرسا ولا حمارا.

وما زال التتار وراء الناصر حتى أخذوه عند بركة زيزي، وأرسلوه مع ولده العزيز، وهو صغير وأخيه إلى ملكهم هولاكو خان وهو نازل على حلب، فما زالوا في أسره حتى قتلهم في السنة الآتية كما سنذكره.

والمقصود أن المظفر قطز لما بلغه ما كان من أمر التتار بالشام المحروسة وأنهم عازمون على الدخول إلى ديار مصر بعد تمهيد ملكهم بالشام، بادرهم قبل أن يبادروه وبرز إليهم وأقدم عليهم قبل أن يقدموا عليه.

فخرج في عساكره وقد اجتمعت الكلمة عليه، حتى انتهى إلى الشام واستيقظ له عسكر المغول وعليهم كتبغانوين.

وكان إذ ذاك في البقاع فاستشار الأشرف صاحب حمص والمجير بن الزكي، فأشاروا عليه بأنه لا قبل له بالمظفر حتى يستمد هولاكو فأبى إلا أن يناجزه سريعا، فساروا إليه وسار المظفر إليهم، فكان اجتماعهم على عين جالوت يوم الجمعة الخامس والعشرين من رمضان.

فاقتتلوا قتالا عظيما، فكانت النصرة ولله الحمد للإسلام وأهله، فهزمهم المسلمون هزيمة هائلة، وقتل أمير المغول كتبغانوين وجماعة من بيته، وقد قيل إن الذي قتل كتبغانوين الأمير جمال الدين آقوش الشمسي، واتبعهم الجيش الإسلامي يقتلونهم في كل موضع، وقد قاتل الملك المنصور صاحب حماه مع الملك المظفر قتالا شديدا.

وكذلك الأمير فارس الدين أقطاي المستعرب، وكان أتابك العسكر، وقد أسر من جماعة كتبغانوين الملك السعيد بن العزيز بن العادل فأمر المظفر بضرب عنقه، وأستأمن الأشرف صاحب حمص.

وكان مع التتار وقد جعله هولاكو خان نائبا على الشام كله، فأمنه الملك المظفر، ورد إليه حمص، وكذلك رد حماه إلى المنصور وزاده المعرة وغيرها.

وأطلق سلمية للأمير شرف الدين عيسى بن مهنا بن مانع أمير العرب، واتبع الأمير بيبرس البندقداري وجماعة من الشجعان التتار يقتلونهم في كل مكان، إلى أن وصلوا خلفهم إلى حلب، وهرب من بدمشق منهم يوم الأحد السابع والعشرين من رمضان.

فتبعهم المسلمون من دمشق يقتلون فيهم، ويستفكّون الأسارى من أيديهم، وجاءت بذلك البشارة ولله الحمد على جبره إياهم بلطفه فجاوبتها دق البشائر من القلعة وفرح المؤمنون بنصر الله فرحا شديدا، وأيد الله الإسلام وأهله تأييدا وكبت الله النصارى واليهود والمنافقين وظهر دين الله وهم كارهون.

فتبادر عند ذلك المسلمون إلى كنيسة النصارى التي خرج منها الصليب فانتهبوا ما فيها وأحرقوها وألقوا النار فيما حولها فاحترق دور كثيرة إلى النصارى، وملأ الله بيوتهم وقبورهم نارا، وأحرق بعض كنيسة اليعاقبة، وهمت طائفة بنهب اليهود.

فقيل لهم إنه لم يكن منهم من الطغيان كما كان من عبدة الصلبان، وقتلت العامة وسط الجامع شيخا رافضيا كان مصانعا للتتار على أموال الناس يقال له: الفخر محمد بن يوسف بن محمد الكنجي، كان خبيث الطوية مشرقيا ممالئا لهم على أموال المسلمين قبحه الله.

وقتلوا جماعة مثله من المنافقين فقطع دابر القوم الذين ظلموا والحمد لله رب العالمين.

وقد كان هولاكو أرسل تقليدا بولاية القضاء على جميع المدائن: الشام، والجزيرة، والموصل، وماردين، والأكراد وغير ذلك، للقاضي كمال الدين عمر بن بدار التفليسي.

وقد كان نائب الحكم بدمشق عن القاضي صدر الدين أحمد بن يحيى بن هبة الله بن سني الدولة من مدة خمس عشرة سنة، فحين وصل التقليد في سادس عشرين ربيع الأول قرئ بالميدان الأخضر فاستقل بالحكم في دمشق، وقد كان فاضلا.

فسار القاضيان المعزولان صدر الدين بن سني الدولة ومحيي الدين بن الزكي إلى خدمة هولاكو خان إلى حلب، فخدع ابن الزكي لابن سني الدولة وبذل أموالا جزيلة، وتولى القضاء بدمشق ورجعا.

فمات ابن سني الدولة ببعلبك، وقدم ابن الزكي على القضاء ومعه تقليده وخلعة مذهبة فلبسها وجلس في خدمة إبل سنان تحت قبة النسر عند الباب الكبير، وبينهما الخاتون زوجة إبل سنان حاسرة عن وجهها.

وقرئ التقليد هناك والحالة كذلك، وحين ذكر اسم هولاكو نثر الذهب والفضة فوق رؤوس الناس، فإنا لله وإنا إليه راجعون، قبح الله ذلك القاضي والأمير والزوجة والسلطان.

وذكر أبو شامة: أن ابن الزكي استحوذ على مدارس كثيرة في مدته هذه القصيرة، فإنه عزل قبل رأس الحول، فأخذ في هذه المدة العذراوية والسلطانية والفلكية والركنية والقيمرية والعزيزية مع المدرستين اللتين كانتا بيده التقوية والعزيزية.

وأخذ لولده عيسى تدريس الأمينية ومشيخة الشيوخ، وأخذ أم الصالح لبعض أصحابه وهو العماد المصري، وأخذ الشامية البارانية لصاحب له، واستناب أخاه لأمه شهاب الدين إسماعيل بن أسعد بن حبيش في القضاء وولاه الرواحية والشامية البرانية.

قال أبو شامة: مع أن شرط واقفها أن لا يجمع بينها وبين غيرها.

ولما رجعت دمشق وغيرها إلى المسلمين، سعى في القضاء وبذل أموالا ليستمر فيه وفيما بيديه من المدارس، فلم يستمر بل عزل بالقاضي نجم الدين أبي بكر بن صدر الدين بن سني الدولة، فقرئ توقيعه بالقضاء يوم الجمعة بعد الصلاة في الحادي والعشرين من ذي القعدة عند الشباك الكمالي من مشهد عثمان من جامع دمشق.

ولما كسر الملك المظفر قطز عساكر التتار بعين جالوت ساق وراءهم ودخل دمشق في أبهة عظيمة وفرح به الناس فرحا شديدا ودعوا له دعاء كثيرا، وأقر صاحب حمص الملك الأشرف عليها، وكذلك المنصور صاحب حماه، واسترد حلب من يد هولاكو، وعاد الحق إلى نصابه ومهد القواعد.

وكان قد أرسل بين يديه الأمير ركن الدين بيبرس البندقداري ليطرد التتار عن حلب ويتسلمها ووعده بنيابتها، فلما طردهم عنها وأخرجهم منها وتسلمها المسلمون استناب عليها غيره وهو علاء الدين ابن صاحب الموصل.

وكان ذلك سبب الوحشة التي وقعت بينهما واقتضت قتل الملك المظفر قطز سريعا، ولله الأمر من قبل ومن بعد.

فلما فرغ المظفر من الشام عزم على الرجوع إلى مصر واستناب على دمشق الأمير علم الدين سنجر الحلبي الكبير والأمير مجير الدين بن الحسين بن آقشتمر، وعزل القاضي ابن الزكي عن قضاء دمشق، وولي ابن سني الدولة ثم رجع إلى الديار المصرية والعساكر الإسلامية في خدمته، وعيون الأعيان تنظر إليه شزرا من شدة هيبته.

ذكر سلطنة الملك الظاهر بيبرس البندقداري

وهو الأسد الضاري، وذلك أن السلطان الملك المظفر قطز لما عاد قاصدا مصر، وصل إلى ما بين الغزالي والصالحية، عدا عليه الأمراء فقتلوه هنالك.

وقد كان رجلا صالحا كثير الصلاة في الجماعة، ولا يتعاطى المسكر ولا شيئا مما يتعاطاه الملوك، وكانت مدة ملكه من حين عزل ابن أستاذه المنصور علي بن المعز التركماني إلى هذه المدة، وهي أواخر ذي القعدة نحوا من سنة، رحمه الله وجزاه عن الإسلام وأهله خيرا.

وكان الأمير ركن الدين بيبرس البندقداري قد اتفق مع جماعة من الأمراء على قتله، فلما وصل إلى هذه المنزلة ضرب دهليزه وساق خلف أرنب، وساق معه أولئك الأمراء فشفع عنده ركن الدين بيبرس في شيء فشفعه، فأخذ يده ليقّبلها فأمسكها وحمل عليه أولئك الأمراء بالسيوف فضربوه بها، وألقوه عن فرسه ورشقوه بالنشاب حتى قتلوه رحمه الله.

ثم كروا راجعين إلى المخيم وبأيديهم السيوف مصلتة، فأخبروا من هناك بالخبر، فقال بعضهم من قتله؟

فقالوا: ركن الدين بيبرس.

فقالوا: أنت قتلته؟.

فقال: نعم.

فقالوا: أنت الملك إذا.

وقيل لما قتل حار الأمراء بينهم فيمن يولون الملك، وصار كل واحد منهم يخشى غائلة ذلك، وأن يصيبه ما أصاب غيره سريعا، فاتفقت كلمتهم على أن بايعوا بيبرس البندقداري، ولم يكن هو من أكابر المقدمين، ولكن أرادوا أن يجربوا فيه، ولقبوه: الملك الظاهر.

فجلس على سرير المملكة وحكمه، ودقت البشائر وضربت الطبول والبوقات وصفرت الشغابة، وزعقت الشاووشية بين يديه، وكان يوما مشهودا وتوكل على الله واستعان به.

ثم دخل مصر والعساكر في خدمته، فدخل قلعة الجبل وجلس على كرسيها، فحكم وعدل وقطع ووصل وولى وعزل، وكان شهما شجاعا أقامه الله للناس لشدة احتياجهم إليه في هذا الوقت الشديد والأمر العسير.

وكان أولا لقب نفسه بالملك القاهر، فقال له الوزير: إن هذا اللقب لا يفلح من يلقب به.

تلقب به القاهر بن المعتمد فلم تطل أيامه حتى خلع وسملت عيناه، ولقب به القاهر صاحب الموصل فسم فمات، فعدل عنه حينئذ إلى الملك الظاهر.

ثم شرع في مسك من يرى في نفسه رئاسة من أكابر الأمراء حتى مهد الملك.

وقد كان هولاكو خان لما بلغه ما جرى على جيشه من المسلمين بعين جالوت أرسل جماعة من جيشه الذين معه كثيرين ليستعيدوا الشام من أيدي المسلمين، فحيل بينهم وبين ما يشتهون فرجعوا إليه خائبين خاسرين، وذلك أنه نهض إليهم الهزبر الكاسر والسيف البائر الملك الظاهر.

فقدم دمشق وأرسل العساكر في كل وجه لحفظ الثغور والمعاقل بالأسلحة، فلم يقدر التتار على الدنو إليه، ووجدوا الدولة قد تغيرت، والسواعد قد شمرت، وعناية الله بالشام وأهله قد حصلت، ورحمته بهم قد نزلت، فعند ذلك نكصت شياطينهم على أعقابهم، وكروا راجعين القهقرى والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات.

وقد كان الملك المظفر قطز رحمه الله استناب على دمشق الأمير علم الدين سنجر الحلبي أحد الأتراك، فلما بلغه مقتل المظفر دخل القلعة ودعا لنفسه وتسمى: بالملك المجاهد.

فلما جاءت البيعة للملك الظاهر خطب له يوم الجمعة السادس من ذي الحجة فدعا الخطيب أولا للمجاهد، ثم للظاهر ثانيا وضربت السكة باسمهما معا، ثم ارتفع المجاهد هذا من البين كما سيأتي.

وقد اتفق في هذا العام أمور عجيبة وهي: أن أول هذه السنة كانت الشام للسلطان الناصر ابن العزيز، ثم في النصف من صفر صارت لهولاكو ملك التتار، ثم في آخر رمضان صارت للمظفر قطز، ثم في أواخر العقدة صارت للظاهر بيبرس، وقد شركه في دمشق الملك المجاهد سنجر.

وكذلك كان القضاء في أولها بالشام لابن سني الدولة صدر الدين، ثم صار للكمال عمر التفليسي من جهة هولاكو، ثم لابن الزكي، ثم لنجم الدين ابن سني الدولة.

وكذلك كان خطيب جامع دمشق عماد الدين بن الحرستاني من سنين متطاولة، فعزل في شوال منها بالعماد الأسعردي، وكان صينا قارئا مجيدا، ثم أعيد العماد الحرستاني في أول ذي القعدة منها. فسبحان من بيده الأمور يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد.

وفيها توفي من الأعيان:

قاضي القضاة صدر الدين أبو العباس ابن سني الدولة

أحمد بن يحيى بن هبة الله بن الحسين بن يحيى بن محمد بن علي يحيى بن صدقة بن الخياط، قاضي القضاة صدر الدين أبو العباس ابن سني الدولة التغلبي الدمشقي الشافعي، وسني الدولة الحسين بن يحيى المذكور كان قاضيا لبعض ملوك دمشق في حدود الخمسمائة، وله أوقاف على ذريته.

وابن الخياط الشاعر صاحب الديوان، وهو: أبو عبد الله أحمد بن محمد بن علي بن يحيى بن صدقة التغلبي، هو عم سني الدولة.

ولد سني الدولة سنة تسع وخسمين وخمسمائة وسمع الخشوعي، وابن طبرزد، والكندي، وغيرهم، وحدث ودرس في عدة مدارس وأفتى، وكان عارفا بالمذاهب مشكور السيرة، ولكن أبو شامة ينال منه ويذمه فالله أعلم.

وقد ولي الحكم بدمشق استقلالا سنة ثلاث وأربعين واستمر إلى مدة السنة، وسافر حين عزل بالكمال التفليسي هو والقاضي محيي الدين ابن الزكي، وقد سافر هو وابن الزكي إلى هولاكو لما أخذ حلب فولى ابن الزكي القضاء، واختار ابن سني الدولة بعلبك فقدمها وهو متمرض فمات بها ودفن عند الشيخ عبد الله اليونيني.

وقد كان الملك الناصر يثني عليه كما كان الملك الأشرف يثني على والده شمس الدين.

ولما استقر الملك الظاهر بيبرس ولى القضاء ولده نجم الدين ابن سني الدولة، وهو الذي حدث في زمن المشمشي بطالة الدروس لأنه كان له بستان بأرض السهم، فكان يشق عليه مفارقة المشمش، والنزول إلى المدارس، فبطل الناس هذه الأيام واتبعوه في ذلك، والنفوس إنما تؤثر الراحة والبطالة، ولا سيما أصحاب البساتين في أيام الفواكه، وكثرة الشهوات في تلك الأيام ولا سيما القضاة.

وفيها توفي.

الملك السعيد صاحب ماردين

نجم الدين بن أيل غازي بن المنصور ارتق بن أرسلان بن أيل غازي بن السني بن تمرتاش ابن أيل غازي بن أريثي، وكان شجاعا ملك يوما، وقد وقع في قلعته توران شاه بن الملك صلاح الدين كان نائبا للملك الظاهر بن العزيز بن الظاهر بن الناصر، صاحب دمشق على حلب، وقد حصن حلب من أيدي المغول مدة شهر، ثم تسلمها بعد محاصرة شديدة صلحا.

كانت وفاته في هذه السنة، ودفن بدهليز داره

وفيها قتل الملك السعيد حسن بن عبد العزيز

ابن العادل أبي بكر بن أيوب، كان صاحب الصبيبة وبانياس بعد أبيه، ثم أخذتا منه وحبس بقلعة المنيرة، فلما جاءت التتار كان معهم وردوا عليه بلاده، فلما كانت وقعة عين جالوت أتي به أسيرا إلى بين يدي المظفر قطز، فضرب عنقه لأنه كان قد لبس سرقوج التتار وناصحهم على المسلمين.

عبد الرحمن بن عبد الرحيم بن الحسن بن عبد الرحمن بن طاهر

ابن محمد بن الحسين بن علي بن أبي طالب، شرف الدين بن العجمي الحلبي الشافعي، من بيت العلم والرئاسة بحلب، درس بالظاهرة ووقف مدرسة بها ودفن بها، توفي حين دخلت التتار حلب في صفر فعذبوه وصبوا عليه ماء باردا في الشتاء، فتشنج حتى مات رحمه الله تعالى.

الملك المظفر قطز بن عبد الله

سيف الدين التركي، أخص مماليك المعز التركماني أحد مماليك الصالح أيوب بن الكامل.

لما قتل أستاذه المعز قام في تولية ولده نور الدين المنصور علي، فلما سمع بأمر التتار خاف أن تختلف الكلمة لصغر ابن أستاذه فعزله ودعا إلى نفسه، فبويع في ذي القعدة سنة سبع وخمسين وستمائة كما تقدم، ثم سار إلى التتار فجعل الله على يديه نصرة الإسلام كما ذكرنا، وقد كان شجاعا بطلا كثير الخير ناصحا للإسلام وأهله، وكان الناس يحبونه ويدعون له كثيرا.

ذكر عنه: أنه لما كان يوم المعركة بعين جالوت قتل جواده ولم يجد أحدا في الساعة الراهنة من الوشاقية الذين معهم الجنائب، فترجل وبقي واقفا على الأرض ثابتا، والقتال عمال في المعركة، وهو في موضع السلطان من القلب.

فلما رآه بعض الأمراء ترجل عن فرسه وحلف على السلطان ليركبنها، فامتنع وقال لذلك الأمير: ما كنت لأحرم المسلمين نفعك، ولم يزل كذلك حتى جاءته الوشاقية بالخيل، فركب فلامه بعض الأمراء وقال:

يا خوند لم لا ركبت فرس فلان؟ فلو أن بعض الأعداء رآك لقتلك وهلك الإسلام بسببك.

فقال أما أنا فكنت أروح إلى الجنة، وأما الإسلام فله رب لا يضيعه، قد قتل فلان وفلان وفلان حتى عد خلقا من الملوك، فأقام للإسلام من يحفظه غيرهم، ولم يضيع الإسلام رحمه الله.

وكان حين سار من مصر في خدمته خلق من كبار الأمراء البحرية وغيرهم ومعه المنصور صاحب حماه، وجماعة من أبناء الملوك فأرسل إلى صاحب حماه يقول له:

لا تتعني في مد سماط في هذه الأيام وليكن مع الجندي لحمة يأكلها والعجل العجل، وكان اجتماعه مع عدوه كما ذكرنا في العشر الأخير من رمضان يوم الجمعة، وهذه بشارة عظيمة، فإن وقعة بدر كانت يوم الجمعة في رمضان، وكان فيها نصر الإسلام.

ولما قدم دمشق في شوال أقام بها العدل ورتب الأمور، وأرسل بيبرس خلف التتار ليخرجهم ويطردهم عن حلب، ووعده بنيابتها فلم يف له لما رآه من المصلحة فوقعت الوحشة بينهما بسبب ذلك، فلم عاد إلى مصر تملأ عليه الأمراء مع بيبرس فقتلوه بين القرابي والصالحية ودفن بالقصر، وكان قبره يزار.

فلما تمكن الظاهر من الملك بعث إلى قبره فغيبه عن الناس، وكان لا يعرف بعد ذلك قتل يوم السبت سادس عشر من ذي القعدة رحمه الله.

وحكى الشيخ قطب الدين اليونيني في الذيل على المرآة عن الشيخ علاء الدين بن غانم عن المولى تاج الدين أحمد بن الأثير كاتب السر في أيام الناصر صاحب دمشق، قال: لما كنا مع الناصر بوطاه برزه جاءت البريدية بخبر أن قطز قد تولى الملك بمصر، فقرأت ذلك على السلطان، فقال:

اذهب إلى فلان وفلان فأخبرهم بهذا.

قال: فلما خرجت عنه لقيني بعض الأجناد فقال لي: جاءكم الخبر من مصر بأن قطز قد تملك.

فقلت: ما عندي من هذا علم وما يدريك أنت بهذا؟

فقال: بلى والله سيلي المملكة ويكسر التتار.

فقلت: من أين تعلم هذا؟.

فقال: كنت أخدمه وهو صغير، وكان عليه قمل كثير فكنت أفليه وأهينه وأذمه، فقال لي يوما ويلك إيش تريد أعطيك إذا ملكت الديار المصرية؟.

فقلت له: أنت مجنون؟.

فقال: لقد رأيت رسول في المنام، وقال لي: أنت تملك الديار المصرية وتكسر التتار، وقول رسول الله حق لا شك فيه.

فقلت له حينئذ - وكان صادقا -: أريد منك إمرة خمسين فارسا.

فقال: نعم، أبشر.

قال ابن الأثير: فلما قال لي هذا قلت له: هذه كتب المصريين بأنه قد تولى السلطنة، فقال: والله ليكسرن التتار، وكان كذلك، ولما رجع الناصر إلى ناحية الديار المصرية وأراد دخولها، ورجع عنها ودخلها أكثر الجيوش الشامية، كان هذا الأمير الحاكي في جملة من دخلها، فأعطاه المظفر إمرة خمسين فارسا، ووفى له بالوعد، وهو الأمير جمال الدين التركماني.

قال ابن الأثير: فلقيني بمصر بعد أن تأمر فذكرني بما كان أخبرني عن المظفر، فذكرته ثم كانت وقعة التتار على إثر ذلك فكسرهم وطردهم عن البلاد، وقد روى عنه أنه لما رأى عصائب التتار قال للأمراء والجيوش الذين معه: لا تقاتلوهم حتى تزول الشمس، وتفيء الظلال، وتهب الرياح، ويدعو لنا الخطباء والناس في صلاتهم، رحمه الله تعالى.

وفيها: هلك كتبغانوين نائب هولاكو على بلاد الشام لعنه الله، ومعنى نوين يعني: أمير عشرة آلاف، وكان هذا الخبيث قد فتح لأستاذه هولاكو من أقصى بلاد العجم إلى الشام، وقد أدرك جنكيز خان جد هولاكو وكان كتبغا هذا يعتمد في حروبه للمسلمين أشياء لم يسبقه أحد إليها.

كان إذا فتح بلدا ساق مقاتلة هذا البلد إلى البلد الآخر الذي يليه، ويطلب من أهل ذلك البلد أن يؤوا هؤلاء إليهم، فإن فعلوا حصل مقصوده في تضييق الأطعمة والأشربة عليهم، فتقصر مدة الحصار عليه، لما ضاق على أهل البلد من أقواتهم، وإن امتنعوا من إيوائهم عندهم قاتلهم بأولئك المقاتلة الذين هم أهل البلد الذي فتحه قبل ذلك، فإن حصل الفتح وإلا كان قد أضعف أولئك بهؤلاء حتى يفني تلك المقاتلة، فإن حصل الفتح وإلا قاتلهم بجنده وأصحابه مع راحة أصحابه وتعب أهل البلد وضعفهم حتى يفتحهم سريعا.

وكان يبعث إلى الحصن يقول: إن ماءكم قد قلَّ فنخشى أن نأخذكم عنوة فنقتلكم عن آخركم، ونسبي نساءكم وأولادكم فما بقاؤكم بعد ذهاب مائكم، فافتحوا صلحا قبل أن نأخذكم قسرا.

فيقولون له: إن الماء عندنا كثير فلا نحتاج إلى ماء.

فيقول: لا أصدق، حتى أبعث من عندي من يشرف عليه فإن كان كثيرا انصرفت عنكم.

فيقولون: ابعث من يشرف، عليه فيرسل رجالا من جيشه معهم رماح مجوفة محشو سما، فإذا دخلوا الحصن الذي قد أعياه ساطوا ذلك الماء بتلك الرماح على أنهم يفتشونه ويعرفون قدره، فينفتح ذلك السم ويستقر في ذلك الماء فيكون سبب هلاكهم وهم لا يشعرون، لعنه الله لعنة تدخل معه قبره.

وكان شيخا كبيرا قد أسن، وكان يميل إلى دين النصارى، ولكن لا يمكنه الخروج من حكم جنكيز خان في الياساق.

قال الشيخ قطبي الدين اليونيني: وقد رأيته ببعلبك حين حاصر قلعتها، وكان شيخا حسنا له لحية طويلة مسترسلة قد ضفرها مثل الدبوقة، وتارة يعلقها من خلفه بأذنه، وكان مهيبا شديد السطوة قال: وقد دخل الجامع فصعد المنارة ليتأمل القلعة منها، ثم خرج من الباب الغربي فدخل دكانا خرابا فقضى حاجته والناس ينظرون إليه وهو مكشوف العورة، فلما فرغ من حاجته مسحه بعض أصحابه بقطن ملبد مسحة واحدة.

قال ولما بلغه خروج المظفر بالعساكر من مصر تلوم في أمره وحار ماذا يفعل، ثم حملته نفسه الأبية على لقائه، وظن أنه منصور على جاري عادته، فحمل يومئذ على الميسرة فكسرها ثم أيد الله المسلمين وثبتهم في المعركة فحملوا حملة صادقة على التتار فهزموهم خزيمة لا تجبر أبدا، وقتل أميرهم كتبغانوين في المعركة وأسر ابنه، وكان شابا حسنا، فأحضر بين يدي المظفر قطز فقال له: أهرب أبوك؟

قال: إنه لا يهرب، فطلبوه فوجدوه بين القتلى، فلما رآه ابنه صرخ وبكى، فلما تحققه المظفر سجد لله تعالى ثم قال: أنام طيبا.

كان هذا سعادة التتار، وبقتلة ذهب سعدهم، وهكذا كان كما قال ولم يفلحوا بعده أبدا، وكان قتله يوم الجمعة الخامس والعشرين من رمضان وكان الذي قتله الأمير آقوش الشمسي رحمه الله.

الشيخ محمد الفقيه اليونيني

الحنبلي البعلبكي الحافظ، هو محمد بن أحمد بن عبد الله بن عيسى بن أبي الرجال أحمد بن علي بن محمد بن محمد بن محمد بن الحسين بن إسحاق بن جعفر الصادق، كذا نقل هذه النسبة الشيخ قطب الدين اليونيني من خط أخيه الأكبر أبي الحسين علي، وأخبره أن والده قال له: نحن من سلالة جعفر الصادق.

قال: وإنما قال له هذا عند الموت ليتخرج من قبول الصدقات.

أبو عبد الله بن أبي الحسين اليونيني الحنبلي تقي الدين الفقيه الحنبلي الحافظ المفيد البارع العابد الناسك، ولد سنة ثنتين وسبعين وخمسمائة، وسمع الخشوعي وحنبلا، والكندري، والحافظ عبد الغني، وكان يثني عليه، وتفقه على الموفق، ولزم الشيخ عبد الله اليونيني فانتفع به.

وكان الشيخ عبد الله يثني عليه ويقدمه ويقتدي به في الفتاوى، وقد لبس الخرقة من شيخ شيخه عبد الله البطائحي، وبرع في علم الحديث، وحفظ الجمع بين الصحيحين بالفاء والواو، وحفظ قطعة صالحة من مسند أحمد، وكان يعرف العربية أخذها عن التاج الكندي، وكتب مليحا حسنا، وكان الناس ينتفعون بفنونه الكثيرة، ويأخذون عنه الطرق الحسنة، وقد حصلت له وجاهة عظيمة عند الملوك، توضأ مرة عند الملك الأشرف بالقلعة حال سماع البخاري على الزبيدي، فلما فرع من الوضوء نفض السلطان تخفيفته وبسطها على الأرض ليطأ عليها، وحلف السلطان له إنها طاهرة، ولا بد أن يطأ برجليه عليها ففعل ذلك.

وقدم الكامل على أخيه الأشرف دمشق فأنزله القلعة، وتحول الأشرف لدار السعادة، وفعل يذكر للكامل محاسن الشيخ الفقيه، فقال الكامل: أحب أن أراه فأرسل إليه إلى بعلبك بطاقة واستحضره فوصل إلى دار السعادة، فنزل الكامل إليه وتحادثا وتذاكرا شيئا من العلم فجرت مسألة القتل بالمثقل، وجرى ذكر حديث الجارية التي قتلها اليهودي فرض رأسها بين حجرين، فأمر رسول الله بقتله.

فقال الكامل: إنه لم يعترف، فقال الشيخ الفقيه في صحيح مسلم فاعترف، فقال الكامل: أنا اختصرت صحيح مسلم، ولم أجد هذا فيه فأرسل الكامل فأحضر خمس مجلدات اختصاره لمسلم، فأخذ الكامل مجلدا والأشرف آخر، وعماد الدين بن موسك آخر، وأخذ الشيخ الفقيه مجلدا فأول ما فتحه وجد الحديث كما قال الشيخ الفقيه، فتعجب الكامل من استحضاره وسرعة كشفه، وأراد أن يأخذه معه إلى الديار المصرية، فأرسله الأشرف سريعا إلى بعلبك، وقال للكامل:

إنه لا يؤثر ببعلبك شيئا، فأرسل له الكامل ذهبا كثيرا قال ولده قطب الدين: كان والدي يقبل بر الملوك، ويقول: أنا لي في بيت المال أكثر من هذا، ولا يقبل من الأمراء ولا من الوزراء شيئا إلا أن يكون هدية مأكول ونحوه، ويرسل إليهم من ذلك فيقبلونه على سبيل التبرك والاستشفاء.

وذكر أنه كثر ماله وأثرى، وصار له سعة من المال كثيرة، وذكر له أن الأشرف كتب له كتابا بقرية يونين، وأعطاه لمحيي الدين بن الجوزي ليأخذ عليه خط الخليفة، فلما شعر والدي بذلك أخذ الكتاب ومزقه وقال: أنا في غنية عن ذلك.

قال: وكان والدي لا يقبل شيئا من الصدقة، ويزعم أنه من ذرية علي بن أبي طالب من جعفر الصادق بن محمد الباقر بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب.

قال: وقد كان قبل ذلك فقيرا لا شيء له، وكان للشيخ عبد الله زوجة ولها ابنة جميلة، وكان الشيخ يقول لها: زوجيها من الشيخ محمد.

فتقول: إنه فقير، وأنا أحب أن تكون ابنتي سعيدة.

فيقول الشيخ عبد الله: كأني أنظر إليهما إياه وإياها في دار فيها بركة، وله رزق كثير والملوك يترددون إلى زيارته، فزوجتها منه فكان الأمر كذلك، وكانت أولى زوجاته رحمه الله تعالى.

وكانت الملوك كلهم يحترمونه ويعظمونه ويجيئون إلى مدينته، بنو العادل وغيرهم، وكذلك كان مشايخ الفقهاء كابن الصلاح، وابن عبد السلام، وابن الحاجب، والحصري، وشمس الدين بن سني الدولة، وابن الجوزي، وغيرهم يعظمونه ويرجعون إلى قوله لعلمه وعمله وديانته وأمانته.

وقد ذكرت له أحوال ومكاشفات وكرامات كثيرة رحمه الله.

وزعم بعضهم: أنه قطب منذ ثنتي عشرة سنة فالله أعلم.

وذكر الشيخ الفقيه قال: عزمت مرة على الرحلة إلى حران، وكان قد بلغني أن رجلا بها يعلم علم الفرائض جيدا، فلما كانت الليلة التي أريد أن أسافر في صبيحتها جاءتني رسالة الشيخ عبد الله اليونيني يعزم علي إلى القدس الشريف، وكأني كرهت ذلك وفتحت المصحف فطلع قوله: { اتَّبِعُوا مَنْ لَا يَسْأَلُكُمْ أَجْرا وَهُمْ مُهْتَدُونَ } 25.

فخرجت معه إلى القدس فوجدت ذلك الرجل الحراني بالقدس الشريف، فأخذت عنه علم الفرائض حتى خيل لي أني صرت أبرع فيه منه.

وقال الشيخ أبو شامة: كان الشيخ الفقيه رجلا ضخما، وحصل له قبول من الأمراء وغيرهم، وكان يلبس قبعا صوفه إلى خارج كما كان شيخه الشيخ عبد الله اليونيني.

قال: وقد صنف شيئا في المعراج فرددت عليه في كتاب سميته (الواضح الجلي في الرد على الحنبلي).

وذكر ولده قطب الدين أنه مات في التاسع عشر من رمضان من هذه السنة عن ثمان وثمانين سنة رحمه الله تعالى.

محمد بن خليل بن عبد الوهاب بن بدر

أبو عبد الله البيطار الأكال، أصله من جبل بني هلال، وولد بقصر حجاج، وكان مقيما بالشاغور، وكان فيه صلاح ودين وإيثار للفقراء والمحاويج والمحباس وكانت له حال غريبة، ولا يأكل لأحد شيئا إلا بأجرة، وكان أهل البلد يترامون عليه ليأكل لهم الأشياء المفتخرة الطيبة فيمتنع إلا بأجرة جيدة، وكلما امتنع من ذلك حلى عند الناس وأحبوه ومالوا إليه، ويأتونه بأشياء كثيرة من الحلاوات والشواء وغير ذلك فيرد عليهم عوض ذلك أجرة جيدة مع ذلك، وهذا غريب جدا، رحمه الله تعالى ورضى عنه بمنه وكرمه آمين.

ثم دخلت سنة تسع وخسمين وستمائة

استهلت بيوم الاثنين لأيام خلون من كانون الأول، وليس للمسلمين خليفة وصاحب مكة أبو نمي بن أبي سعيد بن علي بن قتادة الحسني، وعمه إدريس بن علي شريكه، وصاحب المدينة الأمير عز الدين جماز بن شيحه الحسيني، وصاحب مصر والشام السلطان الملك الظاهر بيبرس البندقداري، وشريكه في دمشق وبعلبك والصبيبة وبانياس الأمير علم الدين سنجر الملقب: بالملك المجاهد.

وشريكه في حلب الأمير حسام الدين لاشين الجوكنداري العزيزي، والكرك والشوبك للملك المغيث فتح الدين عمر بن العادل بن سيف الدين أبي بكر الكامل محمد بن العادل الكبير سيف الدين أبي بكر بن أيوب.

وحصن جهيون وبازريا في يد الأمير مظفر الدين عثمان بن ناصر الدين مكورس، وصاحب حماه الملك المنصور بن تقي الدين محمود، وصاحب حمص الأشرف بن المنصور إبراهيم بن أسد الدين الناصر، وصاحب الموصل الملك الصالح بن البدر لؤلؤ، وأخوه الملك المجاهد صاحب جزيرة ابن عمر.

وصاحب ماردين الملك السعيد نجم الدين أيل غازي بن أرتق، وصاحب بلاد الروم ركن الدين قلج أرسلان بن كيخسرو السلجوقي، وشريكه في الملك أخوه كيكاوس والبلاد بينهما نصفين، وسائر بلاد المشرق بأيدي التتار أصحاب هولاكو وبلاد اليمن تملكها غير واحد من الملوك، وكذلك بلاد الجوكندي المغرب في كل قطر منها ملك.

وفي هذا السنة: أغارت التتار على حلب فلقيهم صاحبها حسام الدين العزيزي، والمنصور صاحب حماه، والأشرف صاحب حمص، وكانت الوقعة شمالي حمص قريبا من قبر خالد بن الوليد، والتتار في ستة آلاف، والمسلمون في ألف وأربعمائة فهزمهم الله عز وجل.

وقتل المسلمون أكثرهم فرجع التتار إلى حلب فحصروها أربعة أشهر، وضيقوا عليها الأقوات وقتلوا من الغرباء خلقا صبرا، فإنا لله وإنا إليه راجعون.

والجيوش الذين كسروهم على حمص مقيمون لم يرجعوا إلى حلب، بل ساقوا إلى مصر، فتلقاهم الملك الظاهر في أبهة السلطنة، وأحسن إليهم، وبقيت حلب محاصرة لا ناصر لها في هذه المدة ولكن سلم الله سبحانه وتعالى.

وفي يوم الاثنين سابع صفر ركب الظاهر في أبهة الملك ومشى الأمراء والأجناد بين يديه، وكان ذلك أول ركوبه واستمر بعد ذلك يتابع الركوب واللعب بالكرة.

وفي سابع عشر صفر خرج الأمراء بدمشق على ملكها علم الدين سنجر فقاتلوه فهزموه، فدخل القلعة فحاصر فيها فهرب منها إلى قلعة بعلبك، وتسلم قلعة دمشق الأمير علم الدين أيدكين البندقداري، وكان مملوكا لجمال الدين يغمور، ثم للصالح أيوب بن الكامل، وإليه ينسب الملك الظاهر.

فأرسله الظاهر ليتسلم دمشق من الحلبي علم الدين سنجر، فأخذها وسكن قلعتها نيابة عن الظاهر، ثم حاصروا الحلبي ببعلبك حتى أخذوه فأرسلوه إلى الظاهر على بغل إلى مصر، فدخل عليه ليلا فعاتبه ثم أطلق له أشياء وأكرمه.

وفي يوم الاثنين ثامن ربيع الأول استوزر الظاهر بهاء الدين علي بن محمد المعروف بابن الحنا.

وفي ربيع الآخر قبض الظاهر على جماعة من الأمراء، بلغه عنهم أنهم يريدون الوثوب عليه.

وفيه أرسل إلى الشوبك فتسلمها من أيدي نواب المغيث صاحب الكرك.

وفيها: جهز الظاهر جيشا إلى حلب ليطردوا التتار عنها، فلما وصل الجيش إلى غزة كتب الفرنج إلى التتار ينذرونهم، فرحلوا عنها مسرعين واستولى على حلب جماعة من أهلها، فصادروا ونهبوا وبلغوا أغراضهم، وقدم إليهم الجيش الظاهري فأزالوا ذلك كله، وصادروا أهلها بألف ألف وستمائة ألف، ثم قدم الأمير شمس الدين آقوش التركي من جهة الظاهر فاستلم البلد فقطع ووصل وحكم وعدل.

وفي يوم الثلاثاء عاشر جمادى الأولى باشر القضاء بمصر تاج الدين عبد الوهاب بن القاضي الأعز أبي القاسم خلف بن رشيد الدين بن أبي الثناء محمود بن بدر العلائي، وذلك بعد شروط ذكرها للظاهر شديدة، فدخل تحتها الملك الظاهر وعزل عن القضاء بدر الدين أبو المحاسن، يوسف بن علي السنجاري ورسم عليه أياما ثم أفرج عنه.

البيعة بالخلافة للمستنصر بالله أبي القاسم أحمد بن أمير المؤمنين الظاهر

وكان معتقلا ببغداد فأطلق، وكان مع جماعة الأعراب بأرض بالعراق، ثم قصد الظاهر حين بلغه ملكه فقدم مصر صحبة جماعة من أمراء الأعراب عشرة منهم الأمير ناصر الدين مهنا في ثامن رجب، فخرج السلطان ومعه الوزير والشهود والمؤذنون فتلقوه، وكان يوما مشهودا، وخرج أهل التوراة بتوراتهم، والنصارى بإنجيلهم، ودخل من باب النصر في أبهة عظيمة.

فلما كان يوم الاثنين ثالث عشر رجب جلس السلطان والخليفة بالإيوان بقلعة الجبل، والوزير والقاضي والأمراء على طبقاتهم، وأثبت نسب الخليفة المذكور على الحاكم تاج الدين بن الأعز، وهذا الخليفة هو أخو المستنصر باني المستنصرية، وعم المستعصم، بويع بالخلافة بمصر بايعه الملك الظاهر والقاضي والوزير والأمراء.

وركب في دست الخلافة بديار مصر والأمراء بين يديه والناس حوله، وشق القاهرة في ثالث عشر رجب، وهذا الخليفة هو الثامن والثلاثون من خلفاء بني العباس بينه وبين العباس أربعة وعشرون أبا، وكان أول من بايعه القاضي تاج الدين لما ثبت نسبه، ثم السلطان، ثم الشيخ عز الدين بن عبد السلام، ثم الأمراء والدولة، وخطب له على المنابر، وضرب اسمه على السكة، وكان منصب الخلافة قد شغر منذ ثلاث سنين ونصفا.

لأن المستعصم قتل في أول سنة ست وخمسين وستمائة، وبويع هذا في يوم الاثنين في ثالث عشر رجب من هذه السنة - أعني سنة تسع وخمسين وستمائة - وكان أسمر وسيما شديد القوى، عالي الهمة، له شجاعة وإقدام، وقد لقبوه: بالمستنصر كما كان أخاه باني المدرسة، وهذا أمر لم يسبق إليه أن خليفتين أخوين يلقب كل منهما بالآخر، ولي الخلافة أخوين كهذين السفاح وأخوه المنصور، وكذا محمد بن علي بن عبد الله بن العباس، والهادي والرشيد، والمسترشد والمقتفي ولدا المستظهر.

وأما ثلاثة: فالأمين والمأمون والمعتصم أولاد الرشيد، والمنتصر والمعتز والمطيع أولاد المقتدر، وأما أربعة: فأولاد عبد الملك بن مروان الوليد وسليمان ويزيد وهشام.

وكانت مدة خلافته إلى أن فقد كما سيأتي خمسة أشهر وعشرين يوما أقصر مدة من جميع خلفاء بني العباس، وأما بنو أمية فكانت مدة خلافة معاوية بن يزيد بن معاوية أربعين يوما، وإبراهيم بن يزيد الناقص سبعين يوما، وأخوه يزيد بن الوليد خمسة أشهر.

وكانت مدة خلافة الحسن بن علي بعد أبيه سبعة أشهر وأحد عشر يوما.

وكانت مدة مروان بن الحكم تسعة أشهر وعشرة أيام، وكان في خلفاء بني العباس من لم يستكمل سنة منهم المنتصر بن المتوكل ستة أشهر والمهتدي بن الواثق أحد عشر شهرا وأياما، وقد أنزل الخليفة هذا بقلعة الجبل في برج هو وحشمه.

فلما كان يوم سابع رجب ركب في السواد وجاء إلى الجامع بالقلعة فصعد المنبر وخطب خطبة ذكر فيها شرف بني العباس، ثم استفتح فقرأ صدرا من سورة الأنعام ثم صلى على النبي ، ثم ترضى عن الصحابة، ودعا للسلطان الظاهر، ثم نزل فصلى بالناس فاستحسنوا ذلك منه، وكان وقتا حسنا ويوما مشهودا.

تولية الخلافة المستنصر بالله للملك الظاهر السلطنة

لما كان يوم الاثنين الرابع من شعبان، ركب الخليفة والسلطان والوزير والقضاة والأمراء وأهل الحل والعقد إلى خيمة عظيمة قد ضربت ظاهر القاهرة فجلسوا فيها، فألبس الخليفة السلطان بيده خلعة سوداء وطوقا في عنقه، وقيدا في رجليه وهما من ذهب.

وصعد فخر الدين إبراهيم بن لقمان وهو رئيس الكتاب منبرا فقرأ على الناس تقليد السلطان، وهو من إنشائه وبخط نفسه، ثم ركب السلطان بهذه الأبهة والقيد في رجليه، والطوق في عنقه، والوزير بين يديه، وعلى رأسه التقليد والأمراء والدولة في خدمته مشاة سوى الوزير، فشق القاهرة وقد زينت له، وكان يوما مشهودا، وقد ذكر الشيخ قطب الدين هذا التقليد بتمامه، وهو مطول والله أعلم.

ذهاب الخليفة إلى بغداد

ثم إن الخليفة طلب من السلطان أن يجهزه إلى بغداد، فرتب السلطان له جندا هائلة، وأقام له من كل ما ينبغي للخلفاء والملوك، ثم سار السلطان صحبته قاصدين دمشق، وكان سبب خروج السلطان من مصر إلى الشام أن التركي كما تقدم كان قد استحوذ على حلب.

فأرسل إليه الأمير علم الدين سنجر الحلبي الذي كان قد تغلب على دمشق فطرده عن حلب، وتسلمها وأقام بها نائبا عن السلطان، ثم لم يزل التركي حتى استعادها منه وأخرجه منها هاربا، فاستناب الظاهر على مصر عز الدين أيد مر الحلبي، وجعل تدبير المملكة إلى الوزير بهاء الدين بن الحنا، وأخذ ولده فخر الدين معه وزيرا، وجعل تدبير العساكر والجيوش إلى الأمير بدر الدين بيليك الخازندار، ثم ساروا فدخلوا دمشق يوم الاثنين سابع ذي القعدة، وكان يوما مشهودا، وصليا الجمعة بجامع دمشق، وكان دخول الخليفة من باب البريد، ودخل السلطان من باب الزيارة، وكان يوما مشهودا أيضا.

ثم جهز السلطان الخليفة إلى بغداد ومعه أولاد صاحب الموصل، وأنفق عليه وعليهم وعلى من استقل معه من الجيش الذين يردون عنه ما لم يقدر الله من الذهب العين ألف ألف دينار، وأطلق له وزاده، فجزاه الله خيرا.

وقدم إليه صاحب حمص الملك الأشرف فخلع عليه وأطلق له وزاده تل باشر، وقدم صاحب حماه المنصور فخلع عليه وأطلق له وكتب له تقليدا ببلاده، ثم جهز جيشا صحبة الأمير علاء الدين البندقداري إلى حلب لمحاربة التركي المتغلب عليها المفسد فيها.

وهذا كل ما بلغنا من وقائع هذه السنة ملخصا.

ثم دخلت سنة ستين وستمائة

في أوائل هذه السنة في ثالث المحرم قتل الخليفة المستنصر بالله الذي بويع له في رجب في السنة الماضية، بمصر وكان قتله بأرض العراق بعدما هزم من كان معه من الجنود فإنا لله وإنا إليه راجعون.

واستقل الملك الظاهر بجميع الشام ومصر، وصفت له الأمور، ولم يبق له منازع سوى التركي، فإنه ذهب إلى المنيرة فاستحوذ عليها وعصى عليه هنالك.

وفي اليوم الثالث من المحرم من هذه السنة خلع السلطان الملك الظاهر ببلاد مصر على جميع الأمراء والحاشية، وعلى الوزير وعلى القاضي تاج الدين ابن بنت الأعز وعزل عنها برهان الدين السنجاري، وفي أواخر المحرم أعرس الأمير بدر الدين بيليك الخازندار على بنت الأمير لؤلؤ صاحب الموصل، واحتفل الظاهر بهذا العرس احتفالا بالغا.

قال ابن خلكان: وفي هذه السنة: اصطاد بعض أمراء الظاهر بحدود حماة حمار وحش، فطبخوه فلم ينضج ولا أثر فيه كثرة الوقود، ثم افتقدوا جلده فإذا هو مرسوم على أذنه بهرام جور، قال: وقد أحضروه إلى فقرأته كذلك، وهو يقتضي أن لهذا الحمار قريبا من ثمانمائة سنة، فإن بهرام جور كان قبل المبعث بمدة متطاولة، وحمر الوحش تعيش دهرا طويلا.

قلت: يحتمل أن يكون هذا بهرام شاه الملك الأمجد، إذ يبعد بقاء مثل هذا بلا اصطياد هذه المدة الطويلة، ويكون الكاتب قد أخطأ فأراد كتابة بهرام شاه فكتب بهرام جور فحصل اللبس من هذا، والله أعلم.

ذكر بيعة الحاكم بأمر الله العباسي

في السابع والعشرين من ربيع الآخر دخل الخليفة أبو العباس الحاكم بأمر الله أحمد بن الأمير أبي علي القبي من الأمير علي بن الأمير أبي بكر بن الإمام المسترشد بالله بن المستظهر بالله أبي العباس أحمد من بلاد الشرق وصحبته جماعة من رؤوس تلك البلاد؛ وقد شهد الوقعة صحبة المستنصر، وهرب هو في جماعة من المعركة فسلم، فلما كان يوم دخوله تلقاه السلطان الظاهر، وأظهر السرور له والاحتفال به، وأنزله في البرج الكبير من قلعة الجبل وأجريت عليه الأرزاق الدارة والإحسان.

وفي ربيع الآخر عزل الملك الظاهر الأمير جمال الدين آقوش النجيبي عن استداريته واستبدل به غيره، وبعد ذلك أرسله نائبا على الشام كما سيأتي.

وفي يوم الثلاثاء تاسع رجب حضر السلطان الظاهر إلى دار العدل في محاكمة في بئر إلى بيت القاضي تاج الدين عبد الوهاب بن بنت الأعز، فقام الناس إلا القاضي فإنه أشار عليه أن لا يقوم.

وتداعيا وكان الحق مع السلطان وله بينه عادلة، فانتزعت البئر من يد الغريم وكان الغريم أحد الأمراء.

وفي شوال استناب الظاهر على حلب الأمير علاء الدين أيدكين الشهابي، وحينئذ انحاز عسكر سيس على القلعة من أرض حلب فركب إليهم الشهابي فكسرهم، وأسر منهم جماعة فبعثهم إلى مصر فقتلوا.

وفيها: استناب السلطان على دمشق الأمير جمال الدين أقوش النجيبي، وكان من أكابر الأمراء، وعزل عنها علاء الدين طيبرس الوزيري وحمل إلى القاهرة.

وفي ذي القعدة خرج مرسوم السلطان إلى القاضي تاج الدين ابن بنت الأعز أن يستنيب من كل مذهب من المذاهب الثلاثة نائبا، فاستناب من الحنفية صدر الدين سليمان الحنفي، ومن الحنابلة شمس الدين محمد بن الشيخ العماد، ومن المالكية شرف الدين عمر السبكي المالكي.

وفي ذي الحجة قدمت وفود كثيرة من التتار على الملك الظاهر مستأمنين فأكرمهم وأحسن إليهم، وأقطعهم إقطاعات حسنة، وكذلك فعل بأولاد صاحب الموصل ورتب لهم رواتب كافية.

وفيها أرسل هولاكو طائفة من جنده نحو عشرة آلاف فحاصروا الموصل ونصبوا عليها أربعة وعشرين منجنيقا وضاقت بها الأقوات

وفيها: أرسل الملك الصالح إسماعيل بن لؤلؤ إلى التركي يستنجده فقدم عليه فهزمت التتار، ثم ثبتوا والتقوا معه، وإنما كان معه سبعمائة مقاتل فهزموه وجرحوه وعاد إلى البيرة، وفارقه أكثر أصحابه فدخلوا الديار المصرية، ثم دخل هو إلى الملك الظاهر فأنعم عليه وأحسن إليه وأقطعه سبعين فارسا.

وأما التتار فإنهم عادوا إلى الموصل ولم يزالوا حتى استنزلوا صاحبها الملك الصالح إليهم ونادوا في البلد بالأمان حتى اطمأن الناس، ثم مالوا عليهم فقتلوهم تسعة أيام، وقتلوا الملك الصالح إسماعيل وولده علاء الدين، وخربوا أسوار البلد وتركوها بلاقع، ثم كروا راجعين قبحهم الله.

وفيها: وقع الخلف بين هولاكو وبين السلطان بركه خان ابن عمه، وأرسل إليه بركه يطلب منه نصيبا مما فتحه من البلاد، وأخذه من الأموال والأسرار، على ما جرت به عادة ملوكهم، فقتل رسله فاشتد غضب بركه، وكاتب الظاهر ليتفقا على هولاكو.

وفيها: وقع غلاء شديد بالشام فبيع القمح الغرارة بأربعمائة، والشعير بمائتين وخمسين، واللحم الرطل بستة أو سبعة، وحصل في النصف من شعبان خوف شديد من التتار، فتجهز كثير من الناس إلى مصر، وبيعت الغلات حتى حواصل القلعة والأمراء ورسم أولياء الأمور على من له قدرة أن يسافر من دمشق إلى بلاد مصر.

ووقعت رجفة عظيمة في الشام وفي بلاد الروم، ويقال: إنه حصل لبلاد التتر خوف شديد أيضا، فسبحان الفعال لما يريد وبيده الأمر.

وكان الآمر لأهل دمشق بالتحول منها إلى مصر نائبها الأمير علاء الدين طيبرس الوزيري، فأرسل السلطان إليه في ذي القعدة فامسكه وعزله واستناب عليها بهاء الدين النجيبي، واستوزر بدمشق عز الدين بن وداعة.

وفيها: نزل ابن خلكان عن تدريس الركنية لأبي شامة وحضر عنده حين درس وأخذ في أول (مختصر المزني).

وفيها توفي من الأعيان:

الخليفة المستنصر بن الظاهر بأمر الله العباسي

الذي بايعه الظاهر بمصر كما ذكرنا، وكان قتله في ثالث المحرم من هذه السنة وكان شهما شجاعا بطلا فاتكا، وقد أنفق الظاهر عليه حتى أقام له جيشا بألف ألف دينار، وأزيد وسار في خدمته ومعه خلق من أكابر الأمراء وأولاد صاحب الموصل، وكان الملك الصالح إسماعيل من الوفد الذين قدموا على الظاهر فأرسله صحبة الخليفة.

فلما كانت الوقعة فقد المستنصر، ورجع الصالح إلى بلاده فجاءته التتار فحاصروه كما ذكرنا، وقتلوه وخربوا بلاده وقتلوا أهلها فإنا لله وإنا إليه راجعون.

العز الضرير النحوي اللغوي

واسمه الحسن بن محمد بن أحمد بن نجا من أهل نصيبين، ونشأ بأربل فاشتغل بعلوم كثيرة من علوم الأوائل، وكان يشتغل عليه أهل الذمة، وغيرهم ونسب إلى الانحلال وقلة الدين، وترك الصلوات، وكان ذكيا وليس بذكي عالم اللسان جاهل القلب، ذكي القول خبيث الفعل.

وله شعر أورد منه الشيخ قطب الدين قطعة في ترجمته، وهو شبيه بأبي العلاء المعري قبحهما الله.

ابن عبد السلام عبد العزيز بن عبد السلام بن القاسم بن الحسن بن محمد المهذب

الشيخ عز الدين بن عبد السلام أبو محمد السلمي الدمشقي الشافعي شيخ المذهب، ومفيد أهله وله مصنفات حسان منها: (التفسير)، و(اختصار النهاية)، و(القواعد الكبرى والصغرى)، و(كتاب الصلاة والفتاوى الموصلية) وغير ذلك.

ولد سنة سبع أو ثمان وسبعين وخمسمائة، وسمع كثيرا واشتغل على فخر الدين بن عساكر وغيره وبرع في المذهب وجمع علوما كثيرة، وأفاد الطلبة ودرس بعدة مدارس بدمشق، وولي خطابتها ثم سافر إلى مصر ودرس بها وخطب وحكم، وانتهت إليه رئاسة الشافعية، وقصد بالفتاوى من الآفاق، وكان لطيفا ظريفا يستشهد بالأشعار، وكان سبب خروجه من الشام إنكاره على الصالح إسماعيل تسليمه صغد والثقيف إلى الفرنج.

ووافقه الشيخ أبو عمرو بن الحاجب المالكي، فأخرجهما من بلده فسار أبو عمرو إلى الناصر داود صاحب الكرك فأكرمه، وسار ابن عبد السلام إلى الملك الصالح أيوب بن الكامل صاحب مصر فأكرمه وولاه قضاء مصر وخطابة الجامع العتيق، ثم انتزعهما منه وأقره على تدريس الصالحية.

فلما حضره الموت أوصى بها للقاضي تاج الدين ابن بنت الأعز وتوفي في عاشر جمادى الأولى، وقد نيف على الثمانين، ودفن من الغد بسفح المقطم، وحضر جنازته السلطان الظاهر وخلقٌ كثير رحمه الله تعالى.

كمال الدين بن العديم الحنفي

عمر بن أحمد بن هبة الله بن محمد بن هبة الله بن أحمد بن يحيى بن زهير بن هارون بن موسى بن عيسى بن عبد الله بن محمد بن أبي جرادة عامر بن ربيعة بن خويلد بن عوف بن عامر بن عقيل الحلبي الحنفي أبو القاسم بن العديم، الأمير الوزير الرئيس الكبير، ولد سنة ست وثمانين وخمسمائة، سمع الحديث وحدث وتفقه وأفتى ودرس وصنف.

وكان إماما في فنون كثيرة، وقد ترسل إلى الخلفاء والملوك مرارا عديدة، وكان يكتب حسنا طريقة مشهورة، وصنف لحلب تاريخا مفيدا قريبا في أربعين مجلدا، وكان جيد المعرفة بالحديث، حسن الظن بالفقراء والصالحين كثير الإحسان إليهم، وقد أقام بدمشق في الدولة الناصرية المتأخرة، توفي بمصر ودفن بسفح المقطم بعد ابن عبد السلام بعشرة أيام، وقد أورد له قطب الدين أشعارا حسنة.

يوسف بن يوسف بن سلامة ابن إبراهيم بن الحسن

بن إبراهيم بن موسى بن جعفر بن سليمان بن محمد القاقاني الزينبي بن إبراهيم بن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس بن عبد المطلب، محيي الدين أبو المعز، ويقال: أبو المحاسن الهاشمي العباسي الحوصلي، المعروف: بابن زبلاق الشاعر، قتلته التتار لما أخذوا الموصل في هذه السنة عن سبع وخمسين سنة ومن شعره قوله:

بعثت لنا من سحر مقلتك الوسنا ** سهادا يزود الكرى أن يألف الجفنا

وأبصر جسمي حسن خصرك ناحلا ** فحاكاه لكن زاد في دقة المعنى

وأبرزت وجها أخجل الصبح طالعا ** وملت بقد علم الهيف الغصن اللدنا

حكيت أخال البدر ليلة تمه ** سنا وسناءً إذ تشابهتما سنا

وقال أيضا: وقد دعي إلى موضع فبعث يعتذر بهذين البيتين

أنا في منزلي وقد وهب الـ ** ـله نديما وقينةً وعقار

فأبسطوا العذر في التأخر عنكم ** شغل الخلي أهل بأن يعارا

قال أبو شامة: وفيها في ثاني عشر جمادى الآخرة توفي:

البدر المراغي الخلافي

المعروف بالطويل، وكان قليل الدين تاركا للصلاة مغتبطا بما كان فيه من معرفة الجدل، والخلاف على اصطلاح المتأخرين، راضيا بما لا يفيد. وفيها توفي:

محمد بن داود بن ياقوت الصارمي

المحدث، كتب كثير الطبقات وغيرها، وكان دينا خيرا يعير كتبه ويداوم على الاشتغال بسماع الحديث، رحمه الله تعالى.

ثم دخلت سنة إحدى وستين وستمائة

استهلت وسلطان البلاد الشامية والمصرية الظاهر بيبرس، وعلى الشام نائبه آقوش النجيبي، وقاضي دمشق ابن خلكان والوزير بها عز الدين بن وداعة، وليس للناس خليفة، وإنما تضرب السكة باسم المستنصر الذي قتل.

ذكر خلافة الحاكم بأمر الله أبي العباس

أحمد بن الأمير أبي على القبي ابن الأمير علي بن الأمير أبي بكر بن الإمام المسترشد بالله أمير المؤمنين أبي منصور الفضل بن الإمام المستظهر بالله أحمد العباسي الهاشمي.

لما كان ثاني المحرم وهو يوم الخميس، جلس السلطان الظاهر والأمراء في الإيوان الكبير بقلعة الجبل، وجاء الخليفة الحاكم بأمر الله راكبا حتى نزل عند الإيوان، وقد بسط له إلى جانب السلطان وذلك بعد ثبوت نسبه، ثم قرئ نسبه على الناس ثم أقبل عليه الظاهر بيبرس فبايعه وبايعه الناس بعده، وكان يوما مشهودا.

فلما كان يوم الجمعة ثانيه خطب الخليفة بالناس فقال في خطبته: الحمد لله الذي أقام لآل العباس ركنا ظهيرا، وجعل لهم من لدنه سلطانا نصيرا، أحمده على السراء والضراء، وأستعينه على شكر ما أسبغ من النعماء، وأستنصره على دفع الأعداء، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدا عبده ورسوله، وعلى آله وصحبه نجوم الاهتداء وأئمة الإقتداء، لا سيما الأربعة، وعلي العباس كاشف غمه أبي السادة الخلفاء وعلى بقية الصحابة أجمعين والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.

أيها الناس اعلموا أن الإمامة فرض من فروض الإسلام، والجهاد محتوم على جميع الأنام، ولا يقوم علم الجهاد إلا باجتماع كلمة العباد، ولا سبيت الحرم إلا بانتهاك المحارم، ولا سفكت الدماء إلا بارتكاب الجرائم، فلو شاهدتم أعداء الإسلام لما دخلوا دار السلام، واستباحوا الدماء والأموال وقتلوا الرجال والأطفال، وسبوا الصبيان والبنات، وأيتموهم من الآباء والأمهات، وهتكوا حرم الخلافة والحريم، وعلت الصيحات من هول ذلك اليوم الطويل، فكم من شيخ خضبت شيبته بدمائه، وكم من طفل بكى فلم يرحم لبكائه.

فشمروا عباد الله عن ساق الاجتهاد في إحياء فرض الجهاد: { فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَأَنْفِقُوا خَيْرا لِأَنْفُسِكُمْ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ } 26 فلم يبق معذرة في القعود عن أعداء الدين، والمحاماة عن المسلمين.

وهذا السلطان الملك الظاهر، السيد الأجل، العالم العادل المجاهد المؤيد ركن الدنيا والدين، قد قام بنصر الإمامة عند قلة الأنصار، وشرد جيوش الكفر بعد أن جاسوا خلال الديار، وأصبحت البيعة بهمته منتظمة العقود، والدولة العباسية به متكاثرة الجنود، فبادروا عباد الله إلى شكر هذه النعمة، وأخلصوا نياتكم تنصروا، وقاتلوا أولياء الشيطان تظفروا، ولا يروعكم ما جرى فالحرب سجال والعاقبة للمتقين.

والدهر يومان والأجر للمؤمنين، جمع الله على الهدى أمركم، وأعز بالإيمان نصركم، واستغفر الله لي ولسائر المسلمين، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

ثم خطب الثانية ونزل فصلى.

وكتب بيعته إلى الآفاق ليخطب له وضربت السكة باسمه.

قال أبو شامة: فخطب له بجامع دمشق وسائر الجوامع يوم الجمعة سادس عشر المحرم من هذه السنة.

وهذه الخليفة هو التاسع والثلاثون من خلفاء بني العباس، ولم يل الخلافة من بني العباس من ليس والده وجده خليفة بعد السفاح والمنصور سوى هذا، فأما من ليس والده خليفة فكثير منهم المستعين أحمد بن محمد ابن المعتصم، والمعتضد بن طلحة بن المتوكل، والقادر بن إسحاق بن المقتدر، والمقتدي بن الذخيرة ابن القائم بأمر الله.

ذكر أخذ الظاهر الكرك وإعدام صاحبها

ركب الظاهر من مصر في العساكر المنصورة قاصدا ناحية بلاد الكرك، واستدعى صاحبها الملك المغيث عمر بن العادل أبي بكر بن الكامل، فلما قدم عليه بعد جهد أرسله إلى مصر معتقلا فكان آخر العهد به، وذلك أنه كاتب هولاكو وحثه على القدوم إلى الشام مرة أخرى، وجاءته كتب التتار بالثبات ونيابة البلاد، وأنهم قادمون عليه عشرون ألفا لفتح الديار المصرية.

وأخرج السلطان فتاوى الفقهاء بقتله وعرض ذلك على ابن خلكان، وكان قد استدعاه من دمشق، وعلى جماعة من الأمراء، ثم سار فتسلم الكرك يوم الجمعة ثالث عشر جمادى الأولى ودخلها يومئذ في أبهة الملك، ثم عاد إلى مصر مؤيدا منصورا.

وفيها قدمت رسل بركه خان إلى الظاهر يقول له: قد علمت محبتي للإسلام، وعلمت ما فعل هولاكو بالمسلمين، فاركب أنت من ناحية حتى آتيه أنا من ناحية حتى نصطلمه أو نخرجه من البلاد وأعطيك جميع ما كان بيده من البلاد، فاستصوب الظاهر هذا الرأي وشكره وخلع على رسله وأكرمهم.

وفيها زلزلت الموصل زلزلة عظيمة وتهدمت أكثر دورها، وفي رمضان جهز الظاهر صناعا وأخشابا وآلات كثيرة لعمارة مسجد رسول الله بعد حريقه فطيف بتلك الأخشاب والآلات بمصر فرحة وتعظيما لشأنها.

ثم ساروا بها إلى المدينة النبوية، وفي شوال سار الظاهر إلى الإسكندرية فنظر في أحوالها وأمورها، وعزل قاضيها وخطيبها ناصر الدين أحمد بن المنير وولى غيره.

وفيها التقى بركه خان وهولاكو ومع كل واحد جيوش كثيرة فاقتتلوا فهزم الله هولاكو هزيمة فظيعة وقتل أكثر أصحابه وغرق أكثر من بقي وهرب هو في شرذمة يسيرة ولله الحمد.

ولما نظر بركه خان كثرة القتلى قال: يعز علي أن يقتل المغول بعضهم بعضا ولكن كيف الحيلة فيمن غير سنة جنكيز خان ثم أغار بركه خان على بلاد القسطنطينية فصانعه صاحبها وأرسل الظاهر هدايا عظيمة إلى بركه خان، وقد أقام التركي بحلب خليفة آخر لقبه بالحاكم، فلما اجتاز به المستنصر سار معه إلى العراق واتفقا على المصلحة وإنفاذ الحاكم المستنصر لكونه أكبر منه ولله الحمد.

ولكن خرج عليهما طائفة من التتار ففرقوا شملهما وقتلوا خلقا ممن كان معهما، وعدم المستنصر وهرب الحاكم مع الأعراب.

وقد كان المستنصر هذا فتح بلدانا كثيرة في مسيرة من الشام إلى العراق، ولما قاتله بهادر على شحنة بغداد كسره المستنصر وقتل أكثر أصحابه، ولكن خرج كمين من التتار نجدة فهرب العربان والأكراد الذين كانوا مع المستنصر وثبت هو في طائفة ممن كان معه من الترك فقتل أكثرهم وفقد هو من بينهم.

ونجا الحاكم في طائفة، وكانت الوقعة في أول المحرم من سنة ستين وستمائة، وهذا هو الذي أشبه الحسين بن علي في توغله في أرض العراق مع كثرة جنودها، وكان الأولى له أن يستقر في بلاد الشام حتى تتمهد له الأمور ويصفو الحال ولكن قدر الله وما شاء فعل.

وجهز السلطان جيشا آخر من دمشق إلى بلاد الفرنج فأغاروا وقتلوا وسبوا ورجعوا سالمين، وطلبت الفرنج منه المصالحة فصالحهم مدة لاشتغاله بحلب وأعمالها، وكان قد عزل في شوال قاضي مصر تاج الدين ابن بنت الأعز وولى عليها برهان الدين الخضر بن الحسين السنجاري.

وعزل قاضي دمشق نجم الدين أبا بكر بن صدر الدين أحمد ابن شمس الدين بن هبة الله بن سني الدولة، وولى عليها شمس الدين أحمد بن محمد بن إبراهيم بن أبي بكر بن خلكان، وقد ناب في الحكم بالقاهرة مدة طويلة عن بدر الدين السنجاري.

وأضاف إليه مع القضاء نظر الأوقاف والجامع والمارستان، وتدريس سبع مدارس، العادلية والناصرية والغدراوية والفلكية والركنية والإقبالية والبهنسية، وقرئ تقليده يوم عرفة يوم الجمعة بعد الصلاة بالشباك الكمالي من جامع دمشق.

وسافر القاضي المعزول مرسما عليه.

وقد تكلم فيه الشيخ أبو شامة وذكر أنه خان في وديعة ذهب جعلها فلوسا فالله أعلم.

وكانت مدة ولايته سنة وأشهرا.

وفي يوم العيد يوم السبت سافر السلطان إلى مصر، وقد كان رسول الإسماعيلية قدم على السلطان بدمشق يتهددونه ويتوعدونه، ويطلبون منه إقطاعات كثيرة، فلم يزل السلطان يوقع بينهم حتى استأصل شأفتهم واستولى على بلادهم.

وفي السادس والعشرين من ربيع الأول عمل عزاء السلطان الملك الناصر صلاح الدين يوسف بن العزيز محمد بن الظاهر غازي بن الناصر صلاح الدين يوسف بن أيوب بن شادي فاتح بيت المقدس وكان عمل هذا العزاء بقلعة الجبل بمصر، بأمر السلطان الظاهر ركن الدين بيبرس، وذلك لما بلغهم أن هولاكو ملك التتار قتله. وقد كان في قبضته منذ مدة، فلما بلغ هولاكو أن أصحابه قد كسروا بعين جالوت طلبه إلى بين يديه وقال له:

أنت أرسلت إلى الجيوش بمصر حتى جاؤوا فاقتتلوا مع المغول فكسروهم ثم أمر بقتله.

ويقال إنه اعتذر إليه وذكر له أن المصريين كانوا أعداءه وبينه وبينهم شنآن، فأقاله ولكنه انحطت رتبته عنده، وقد كان مكرما في خدمته وقد وعده أنه إذا ملك مصر استنابه في الشام فلما كانت وقعة حمص في هذه السنة وقتل فيها أصحاب هولاكو مع مقدمهم بيدرة غضب وقال له:

أصحابك في العزيزية أمراء أبيك، والناصرية من أصحابك قتلوا أصحابنا، ثم أمر بقتله.

وذكروا في كيفية قتله أنه رماه بالنشاب وهو واقف بين يديه يسأله العفو فلم يعف عنه حتى قتله وقتل أخاه شقيقه الظاهر عليا، وأطلق ولديهما العزيز محمد بن الناصر و زبالة بن الظاهر، وكانا صغيرين من أحسن أشكال بني آدم.

فأما العزيز فإنه مات هناك في أسر التتار، وأما زبالة فإنه سار إلى مصر وكان أحسن من بها، وكانت أمه أم ولد يقال له وجه القمر، فتزوجها بعض الأمراء بعد أستاذها، ويقال إن هولاكو لما أراد قتل الناصر أمر بأربع من الشجر متباعدات بعضها عن بعض فجمعت رؤوسها بحبال ثم ربط الناصر في الأربعة بأربعته ثم أطلقت الحبال فرجعت كل واحدة إلى مركزها بعضو من أعضائه رحمه الله.

وقد قيل إن ذلك كان في الخامس والعشرين من شوال في سنة ثمان وخمسين، وكان مولده في سنة سبع وعشرين بحلب، ولما توفي أبوه سنة أربع وثلاثين بويع بالسلطنة بحلب وعمره سبع سنين، وقام بتدبير مملكته جماعة من مماليك أبيه، وكان الأمر كله عن رأي جدته أم خاتون بنت العادل أبي بكر بن أيوب، فلما توفيت في سنة أربعين وستمائة استقل الناصر بالملك، وكان جيد السيرة في الرعية محببا إليهم، كثير النفقات، ولا سيما لما ملك دمشق مع حلب وأعمالها وبعلبك وحران وطائفة كبيرة من بلاد الجزيرة.

فيقال إن سماطه كان كل يوم يشتمل أربعمائة رأس غنم سوى الدجاج والإوز وأنواع الطير، مطبوخا بأنواع الأطعمة والقلويات غير المشوي والمقلي، وكان مجموع ما يغرم على السماط في كل يوم عشرين ألفا وعامته يخرج من يديه كما هو كأنه لم يؤكل منه شيء، فيباع على باب القلعة بأرخص الأثمان حتى إن كثيرا من أرباب البيوت كانوا لا يطبخون في بيوتهم شيئا من الطرف والأطعمة بل يشترون برخص ما لا يقدرون على مثله إلا بكلفة ونفقة كثيرة، فيشتري أحدهم بنصف درهم أو بدرهم ما لا يقدر عليه إلا بخسارة كثيرة، ولعله لا يقدر على مثله.

وكانت الأرزاق كثيرة دارة في زمانه وأيامه، وقد كان خليعا ظريفا حسن الشكل أديبا يقول الشعر المتوسط القوي بالنسبة إليه، وقد أورد له الشيخ قطب الدين في الذيل قطعة صالحة من شعره وهي رائقة لائقة.

قتل ببلاد المشرق ودفن هناك، وقد كان أعد له تربة برباطه الذي بناه بسفح قاسيون فلم يقدر دفنه بها.

والناصرية البرانية بالسفح من أغرب الأبنية وأحسنها بنيانا من الموكد المحكم قبلي جامع الأفرم، وقد بني بعدها بمدة طويلة، وكذلك الناصرية الجوانية التي بناها داخل باب الفراديس هي من أحسن المدارس، وبني الخان الكبير تجاه الزنجاري وحولت إليه دار الطعم، وقد كانت قبل ذلك غربي القلعة في اصطبل السلطان اليوم رحمه الله.

وفيها توفي من الأعيان:

أحمد بن محمد بن عبد الله ابن محمد بن يحيى بن سيد الناس أبو بكر اليعمري الأندلسي

الحافظ ولد سنة سبع وتسعين وخمسمائة وسمع الكثير، وحصل كتبا عظيمة، وصنف أشياء حسنة، وختم به الحافظ في تلك البلاد، توفي بمدينة تونس في سابع عشرين رجب من هذه السنة.

أيضا:

عبد الرزاق بن عبد الله ابن أبي بكر بن خلف عز الدين أبو محمد الرسعني المحدث المفسر

سمع الكثير، وحدث وكان من الفضلاء والأدباء، له مكانة عند البدر لؤلؤ صاحب الموصل، وكان له منزلة أيضا عند صاحب سنجار، وبها توفي في ليلة الجمعة الثاني عشر من ربيع الآخر وقد جاوز السبعين، ومن شعره:

نعب الغراب فدلنا بنعيبه ** أن الحبيب دنا أوان مغيبه

يا سائلي عن طيب عيشي بعدهم ** جدلي بعيش ثم سل عن طيبه

محمد بن أحمد بن عنتر السلمي الدمشقي

محتسبها، ومن عدولها وأعيانها، وله بها أملاك وأوقاف، توفي بالقاهرة ودفن بالمقطم.

علم الدين أبو القاسم بن أحمد

ابن الموفق بن جعفر المرسي البورقي اللغوي النحوي المقري.

شرح الشاطبية شرحا مختصرا، وشرح المفصل في عدة مجلدات، وشرح الجزولية وقد اجتمع بمصنفها وسأله عن بعض مسائلها، وكان ذا فنون عديدة حسن الشكل مليح الوجه له هيئة حسنة وبزة وجمال، وقد سمع الكندي وغيره.

الشيخ أبو بكر الدينوري

وهو باني الزاوية بالصالحية، وكان له فيها جماعة مريدون يذكرون الله بأصوات حسنة طيبة رحمه الله.

مولد الشيخ تقي الدين بن تيمية شيخ الإسلام

قال الشيخ شمس الدين الذهبي: وفي هذه السنة ولد شيخنا تقي الدين أبو العباس أحمد بن الشيخ شهاب الدين عبد الحليم بن أبي القاسم بن تيمية الحراني بحران يوم الاثنين عاشر ربيع الأول من سنة إحدى وستين وستمائة.

الأمير الكبير مجير الدين

أبو الهيجاء عيسى بن حثير الأزكشي الكردي الأموي، كان من أعيان الأمراء وشجعانهم، وله يوم عين جالوت اليد البيضاء في كسر التتار، ولما دخل الملك المظفر إلى دمشق بعد الوقعة جعله مع الأمير علم الدين سنجر الحلبي نائبا على دمشق مستشارا ومشتركا في الرأي والمراسيم والتدبير.

وكان يجلس معه في دار العدل وله الإقطاع الكامل والرزق الواسع، إلى أن توفي في هذه السنة.

قال أبو شامة: ووالده الأمير حسام الدين توفي في جيش الملك الأشرف ببلاد الشرق هو والأمير عماد الدين أحمد بن المشطوب.

قلت وولده الأمير عز الدين تولى هذه المدينة أعني دمشق مدة، وكان مشكور السيرة وإليه ينسب درب ابن سنون بالصاغة العتيقة، فيقال درب ابن أبي الهيجاء لأنه كان يسكنه وكان يعمل الولاية فيه فعرف به.

وبعد موته بقليل كان فيه نزولنا حين قدمنا من حوران وأنا صغير فختمت فيه القرآن، ولله الحمد.

ثم دخلت سنة ثنتين وستين وستمائة

استهلت والخليفة الحاكم بأمر الله العباسي، والسلطان الظاهر بيبرس، ونائب دمشق الأمير جمال الدين آقوش النجيبي وقاضيه ابن خلكان.

وفيها: في أولها كملت المدرسة الظاهرية التي بين القصرين، ورتب لتدريس الشافعية بها القاضي تقي الدين محمد بن الحسين بن رزين، ولتدريس الحنفية مجد الدين عبد الرحمن بن كمال الدين عمر ابن العديم، ولمشيخة الحديث بها الشيخ شرف الدين عبد المؤمن بن خلف الحافظ الدمياطي.

وفيها: عمر الظاهر بالقدس خانا ووقف عليه أوقافا للنازلين به من إصلاح نعالهم وأكلهم وغير ذلك، وبنى به طاحونا وفرنا.

وفيها: قدمت رسل بركه خان إلى الملك الظاهر ومعهم الأشرف ابن الشهاب غازي بن العادل، ومعهم من الكتب والمشافهات ما فيه سرور للإسلام وأهله مما حل بهولاكو وأهله.

وفي جمادى الآخرة منها درس الشيخ شهاب الدين أبو شامة عبد الرحمن بن إسماعيل المقدسي بدار الحديث الأشرفية، بعد وفاة عماد الدين بن الحرستاني، وحضر عنده القاضي ابن خلكان وجماعة من القضاة والأعيان، وذكر خطبة كتابه المبعث، وأورد الحديث بسنده ومتنه وذكر فوائد كثيرة مستحسنه، ويقال أنه لم يراجع شيئا حتى ولا درسه ومثله لا يستكثر ذلك عليه والله أعلم.

وفيها: قدم نصير الدين الطوسي إلى بغداد من جهة هولاكو، فنظر في الأوقاف وأحوال البلد، وأخذ كتبا كثيرة من سائر المدارس وحولها إلى رصده الذي بناه بمراغة، ثم انحدر إلى واسط والبصرة.

وفيها كانت وفاة:

الملك الأشرف موسى بن الملك المنصور إبراهيم

بن الملك المجاهد أسد الدين شيركوه بن ناصر الدين محمد بن أسد الدين شيركوه الكبير، كانوا ملوك حمص كابرا عن كابر إلى هذا الحين، وقد كان من الكرماء الموصوفين، وكبراء الدماشقة المترفين، معتنيا بالمأكل والمشرب والملابس والمراكب وقضاء الشهوات والمآرب وكثرة التنعم بالمغاني والحبائب، ثم ذهب ذلك كأن لم يكن أو كأضغاث أحلام، أو كظل زائل، وبقيت تبعاته وعقوباته وحسابه وعاره.

ولما توفي وجدت له حواصل من الجواهر النفيسة والأموال الكثيرة، وصار ملكه إلى الدولة الظاهرية، وتوفي معه في هذه السنة الأمير حسام الدين الجوكندار نائب حلب.

وفيها: كانت كسرة التتار على حمص وقتل مقدمهم بيدرة بقضاء الله وقدره الحسن الجميل.

وفيها: توفي الرشيد العطار المحدث بمصر. والذي حضر مسخرة الملك الأشرف موسى بن العادل والتاجر المشهور الحاج نصر بن دس وكان ملازما للصلوات بالجامع، وكان من ذوي اليسار والخير.

الخطيب عماد الدين بن الحرستاني

عبد الكريم بن جمال الدين عبد الصمد بن محمد بن الحرستاني، كان خطيبا بدمشق وناب في الحكم عن أبيه في الدولة الأشرفية، بعد ابن الصلاح إلى أن توفي في دار الخطابة في تاسع عشرين جمادى الأولى، وصلي عليه بالجامع ودفن عند أبيه بقاسيون، وكانت جنازته حافلة، وقد جاوز الثمانين بخمس سنين، وتولى بعده الخطابة والغزالية ولده مجد الدين، وباشر مشيخة دار الحديث الشيخ شهاب الدين أبو شامة.

محيي الدين محمد بن أحمد بن محمد

ابن إبراهيم بن الحسين بن سراقة الحافظ المحدث الأنصاري الشاطبي أبو بكر المغربي، عالم فاضل دين أقام بحلب مدة، ثم اجتاز بدمشق قاصدا مصر.

وقد تولى دار الحديث الكاملية بعد زكي الدين عبد العظيم المنذري، وقد كان له سماع جيد ببغداد وغيرها من البلاد، وقد جاوز السبعين.

الشيخ الصالح محمد بن منصور بن يحيى الشيخ أبي القاسم القباري الاسكندراني

كان مقيما بغيط له يقتات منه ويعمل فيه ويبدره، ويتورع جدا ويطعم الناس من ثماره.

توفي في سادس شعبان بالإسكندرية وله خمس وسبعون سنة، وكان يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر ويردع الولاة عن الظلم فيسمعون منه ويطيعونه لزهده، وإذا جاء الناس إلى زيارته إنما يكلمهم من طاقة المنزل وهم راضون منه بذلك.

ومن غريب ما حكى عنه أنه باع دابة له من رجل، فلما كان بعد أيام جاء الرجل الذي اشتراها فقال:

يا سيدي إن الدابة التي اشتريتها منك لا تأكل عندي شيئا، فنظر إليه الشيخ فقال له ماذا تعاني من الأسباب؟ فقال رقاص عند الوالي، فقال له:

إن دابتنا لا تأكل الحرام، ودخل منزله فأعطاه دراهم ومعها دراهم كثيرة قد اختلطت بها فلا تميز، فاشترى الناس من الرقاص كل درهم بثلاثة لأجل البركة، وأخذ دابته.

ولما توفي ترك من الأساس ما يساوي خمسين درهما فبيع بمبلغ عشرين ألفا.

قال أبو شامة: وفي الرابع والعشرين من ربيع الآخر توفي:

محيي الدين عبد الله بن صفي الدين

إبراهيم بن مرزوق بداره بدمشق المجاورة للمدرسة النورية رحمه الله تعالى.

قلت: داره هذه هي التي جعلت مدرسة للشافعية وقفها الأمير جمال الدين آقوش النجيبي التي يقال لها النجيبية تقبل الله منه.

وبها إقامتنا جعلها الله دارا تعقبها دار القرار في الفوز العظيم. وقد كان أبو جمال الدين النجيبي وهو صفي الدين وزير الملك الأشرف، وملك من الذهب ستمائة ألف دينار خارجا عن الأملاك والأثاث والبضائع، وكانت وفاة أبيه بمصر سنة تسع وخمسين، ودفن بتربته عند المقطم.

قال أبو شامة: وجاء الخبر من مصر بوفاة الفخر عثمان المصري المعروف بعين غين.

وفي ثامن عشر ذي الحجة توفي الشمس الوبار الموصلي، وكان قد حصل شيئا من عمل الأدب، وخطب بجامع المزة مدة فأنشدني لنفسه في الشيب وخصابه قوله:

وكنت وإياها مذ اختط عارضي ** كروحين في جسم وما نقضت عهدا

فلما أتاني الشيب يقطع بيننا ** توهمته سيفا فألبسته غمدا

وفيها استحضر الملك هولاكو خان الزين الحافظي وهو سليمان بن عامر العقرباني المعروف بالزين الحافظي، وقال له: قد ثبت عندي خيانتك، وقد كان هذا المغتر لما قدم التتار مع هولاكو دمشق وغيرها مالأ على المسلمين وآذاهم ودل على عوراتهم، حتى سلطهم الله عليه بأنواع القعوبات والمثلات { وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضا } 27.

ومن أعان ظالما سلط عليه، فإن الله ينتقم من الظالم بالظالم ثم ينتقم من الظالمين جميعا، نسأل الله العافية من انتقامه وغضبه عقابه وشر عباده.

ثم دخلت سنة ثلاث وستين وستمائة

فيها جهز السلطان الظاهر عسكرا جما كثيفا إلى ناحية الفرات لطرد التتار النازلين بالبيرة، فلما سمعوا بالعساكر قد أقبلت ولو مدبرين، فطابت تلك الناحية وأمنت تلك المعاملة، وقد كانت قبل ذلك لا تسكن من كثرة الفساد والخوف، فعمرت وأمنت.

وفيها: خرج الملك الظاهر في عساكره فقصد بلاد الساحل لقتال الفرنج ففتح قيسارية في ثلاث ساعات من يوم الخميس ثامن جمادى الأولى يوم نزوله عليها، وتسلم قلعتها في يوم الخمس الآخر خامس عشرة فهدمها وانتقل إلى غيرها، ثم جاء الخبر بأنه فتح مدينة أرسوف وقتل من بها من الفرنج وجاءت البريدية بذلك.

فدقت البشائر في بلاد المسلمين وفرحوا بذلك فرحا شديدا.

وفيها: ورد خبر من بلاد المغرب بأنهم انتصروا على الفرنج وقتلوا منهم خمسة وأربعين ألفا، وأسروا عشرة آلاف، واسترجعوا منهم ثنتين وأربعين بلدة منها برنس، وأشبيلية، وقرطبة، ومرسية، وكانت النصرة في يوم الخميس رابع عشر رمضان سنة ثنتين وستين.

وفي رمضان من هذه السنة شرع في تبليط باب البريد من باب الجامع إلى القناة التي عند الدرج وعمل في الصف القبلي منها بركة وشاذروان.

وكان في مكانها قناة من القنوات ينتفع الناس بها عند انقطاع نهر ماناس فغيرت وعمل الشاذروان، ثم غيرت وعمل مكانها دكاكين.

وفيها استدعى الظاهر نائبه على دمشق الأمير آقوش، فسار إليه سامعا مطيعا، وناب عنه الأمير علم الدين الحصني حتى عاد مكرما معزوزا.

وفيها: ولي الظاهر قضاة من بقية المذاهب في مصر مستقلين بالحكم يولون من جهتهم في البلدان أيضا كما يولى الشافعي، فتولى قضاء الشافعية التاج عبد الوهاب ابن بنت الأعز، والحنفية شمس الدين سليمان، والمالكية شمس الدين السبكي، والحنابلة شمس الدين محمد المقدسي، وكان ذلك يوم الاثنين الثاني والعشرين من ذي الحجة بدار العدل.

وكان سبب ذلك كثرة توقف القاضي ابن بنت الأعز في أمور تخالف مذهب الشافعي، وتوافق غيره من المذاهب، فأشار الأمير جمال الدين أيد غدي العزيزي على السلطان بأن يولي من كل مذهب قاضيا مستقلا يحكم بمقتضى مذهبه، فأجابه إلى ذلك، وكان يحب رأيه ومشورته، وبعث بأخشاب ورصاص وآلات كثيرة لعمارة مسجد رسول الله وأرسل منبرا فنصب هنالك.

وفيها: وقع حريق عظيم ببلاد مصر واتهم النصارى فعقابهم الملك الظاهر عقوبة عظيمة.

وفيها: جاءت الأخبار بأن سلطان التتار هولاكو هلك إلى لعنة الله وغضبه في سابع ربيع الآخر بمرض الصرع بمدينة مراغة، ودفن بقلعة تلا وبنيت عليه قبة واجتمعت التتار على ولده أبغا.

فقصده الملك بركة خان فكسره وفرق جموعه، ففرح الملك الظاهر بذلك، وعزم على جمع العساكر ليأخذ بلاد العراق فلم يتمكن من ذلك لتفرق العساكر في الإقطاعات.

وفيها: في ثاني عشر شوال سلطن الملك الظاهر ولده الملك السعيد محمد بركه خان، وأخذ له البيعة من الأمراء وأركبه ومشى الأمراء بين يديه، وحمل والده الظاهر الغاشية بنفسه والأمير بدر الدين بيسرى حامل الخبز، والقاضي تاج الدين والوزير بهاء الدين ابن حنا راكبان وبين يديه، وأعيان الأمراء ركبان وبقيتهم مشاة حتى شقوا القاهرة وهم كذلك.

وفي ذي القعدة ختن الظاهر ولده الملك السعيد المذكور، وختن معه جماعة من أولاد الأمراء وكان يوما مشهودا.

وفيها توفي:

خالد بن يوسف بن سعد النابلسي

الشيخ زين الدين ابن الحافظ شيخ دار الحديث النورية بدمشق، كان عالما بصناعة الحديث حافظا لأسماء الرجال، وقد اشتغل عليه في ذلك الشيخ محيي الدين النووي وغيره، وتولى بعده مشيخة دار الحديث النورية الشيخ تاج الدين الفزاري، كان الشيخ زين الدين حسن الأخلاق فكه النفس كثير المزاح على طريقة المحدثين.

رحل إلى بغداد واشتغل بها، وسمع الحديث وكان فيه خير وصلاح وعبادة، وكانت جنازته حافلة ودفن بمقابر باب الصغير رحمه الله.

الشيخ أبو القاسم الحواري

هو أبو القاسم يوسف ابن أبي القاسم بن عبد السلام الأموي الشيخ المشهور صاحب الزاوية بحواري، توفي ببلده، وكان خيرا صالحا له أتباع وأصحاب يحبونه، وله مريدون كثير من قرايا حوران في الجبل والبثنية وهم حنابلة لا يرون الضرب بالدف بل بالكف، وهم أمثل من غيرهم.

القاضي بدر الدين الكردي السنجاري

الذي باشر القضاء بمصر مرارا توفي بالقاهرة.

قال أبو شامة: وسيرته معروفة في أخذ الرشا من قضاة الأطراف والمتحاكمين إليه، إلا أنه كان جوادا كريما صودر هو وأهله.

ثم دخلت سنة أربع وستين وستمائة

استهلت و الخليفة الحاكم العباسي والسلطان الملك الظاهر وقضاة مصر أربعة.

وفيها: جعل بدمشق أربعة قضاة من كل مذهب قاض كما فعل بمصر عام أول، ونائب الشام آقوش النجيبي، وكان قاضي قضاة الشافعية ابن خلكان، والحنفية شمس الدين عبد الله بن محمد بن عطا، والحنابلة شمس الدين عبد الرحمن ابن الشيخ أبي عمر، والمالكية عبد السلام بن الزواوي، وقد امتنع من الولاية فألزم بها حتى قبل ثم عزل نفسه، ثم ألزم بها فقبل بشرط أن لا يباشر أوقافا ولا يأخذ جامكية على أحكامه.

وقال: نحن في كفاية فأعفى من ذلك أيضا رحمهم الله. وقد كان هذا الصنيع الذي لم يسبق إلى مثله قد فعل في العام الأول بمصر كما تقدم، واستقرت الأحوال على هذا المنوال.

وفيها: كمل عمارة الحوض الذي شرقي قناة باب البريد وعمل له شاذروان وقبة وأنابيب يجري منها الماء إلى جانب الدرج الشمالية.

وفيها: نازل ا لظاهر صفد واستدعى بالمنجانيق من دمشق وأحاط بها ولم يزل حتى افتتحها، ونزل أهلها على حكمه، فتسلم البلد في يوم الجمعة ثامن عشر شوال، وقتل المقاتلة وسبى الذرية، وقد افتتحها الملك صلاح الدين يوسف بن أيوب في شوال أيضا في أربع وثمانين وخمسمائة، ثم استعادها الفرنج فانتزعها الظاهر منهم قهرا في هذه السنة ولله الحمد.

وكان السلطان الظاهر في نفسه منهم شيء كثير فلما توجه إلى فتحها طلبوا الأمان، فأجلس على سرير مملكته الأمير سيف الدين كرمون التتري، وجاءت رسلهم فخلعوه وانصرفوا ولا يشعرون أن الذي أعطاهم العهود بالأمان إنما هو الأمير الذي أجلسه على السرير والحرب خدعة.

فلما خرجت الاسبتارية والداوية من القلعة وقد فعلوا بالمسلمين الأفاعيل القبيحة، فأمكن الله منهم فأمر السلطان بضرب رقابهم عن آخرهم، وجاءت البريدية إلى البلاد بذلك، فدقت البشائر وزينت البلاد، ثم بث السرايا يمينا وشمالا في بلاد الفرنج فاستولى المسلمون على حصون كثيرة تقارب عشرين حصنا، وأسروا قريبا من ألف أسير ما بين امرأة وصبي، وغنموا شيئا كثيرا.

وفيها: قدم ولد الخليفة المستعصم بن المستنصر من الأسر واسمه علي، فأكرم وأنزل بالدار الأسدية تجاه العزيزية، وقد كان أسيرا في أيدي التتار، فلما كسرهم بركه خان تخلص من أيديهم وسار إلى دمشق.

ولما فتح السلطان صفدا أخبره بعض من كان فيها من أسرى المسلمين أن سبب أسرهم أن أهل قرية فأرا كانوا يأخذونهم فيحملونهم إلى الفرنج فيبيعونهم منهم، فعند ذلك ركب السلطان قاصدا فأرا فأوقع بهم بأسا شديدا وقتل منهم خلقا كثيرا، وأسر من أبنائهم ونسائهم أخذا بثأر المسلمين جزاه الله خيرا.

ثم أرسل السلطان جيشا هائلا إلى بلاد سيس، فجاسوا خلال الديار وفتحوا سيس عنوة وأسروا ابن ملكها وقتلوا أخاه ونهبوها، وقتلوا أهلها وأخذوا بثار الإسلام وأهله منهم، وذلك أنهم كانوا أضر شيء على المسلمين زمن التتار، لما أخذوا مدينة حلب وغيرها أسروا من نساء المسلمين وأطفالهم خلقا كثيرا.

ثم كانوا بعد ذلك يغيرون على بلاد المسلمين في زمن هولاكو فكبته الله وأهانه على يدي أنصار الإسلام، هو وأميره كتبغا، وكان وأخذ سيس يوم الثلاثاء العشرين من ذي القعدة من هذه السنة، وجاءت الأخبار بذلك إلى البلاد وضربت البشائر.

وفي الخامس والعشرين من ذي الحجة دخل السلطان وبين يديه ابن صاحب سيس وجماعة من ملوك الأرمن أسارى أذلاء صغرة، والعساكر صحبته وكان يوما مشهودا.

ثم سار إلى مصر مؤيدا منصورا، وطلب صاحب سيس أن يفادي ولده، فقال السلطان لا نفاديه إلا بأسير لنا عند التتار يقال له سنقر الأشقر، فذهب صاحب سيس إلى ملك التتر فتذلل له وتمسكن وخضع له، حتى أطلقه له، فلما وصل سنقر الأشقر إلى السلطان أطلق ابن صاحب سيس.

وفيها: عمر الظاهر الجسر المشهور بين قرارا ودامية، تولى عمارته الأمير جمال الذين محمد بن بهادر وبدر الدين محمد بن رحال والي نابلس والأغوار، ولما تم بناؤه اضطرب بعض أركانه فقلق السلطان من ذلك وأمر بتأكيده فلم يستطيعوا من قوة جري الماء حينئذ.

فاتفق بإذن الله أن انسالت على النهر أكمة من تلك الناحية، فسكن الماء بمقدار أن أصلحوا ما يريدون، ثم عاد الماء كما كان وذلك بتيسير الله وعونه وعنايته العظيمة.

وفيها توفي من الأعيان:

أيد غدي بن عبد الله

الأمير جمال الدين العزيزي، كان من أكابر الأمراء وأحظاهم عند الملك الظاهر، لا يكاد الظاهر يخرج عن رأيه، وهو الذي أشار عليه بولاية القضاة من كل مذهب قاض على سبيل الاستقلال وكان متواضعا لا يلبس محرما، كريما وقورا رئيسا معظما في الدولة، أصابته جراحة في حصار صفد فلم يزل مريضا منها حتى مات ليلة عرفة، ودفن بالرباط الناصري بسفح قاسيون من صلاحية دمشق رحمه الله.

هولاكو خان بن تولي خان بن جنكيز خان

ملك التتار ابن ملك التتار، وهو والد ملوكهم، والعامة يقولون هولاوون مثل قلاوون، وقد كان هولاكو ملكا جبارا فاجرا كفارا لعنه الله.

قتل من المسلمين شرقا وغربا ما لا يعلم عددهم إلا الذي خلقهم وسيجازيه على ذلك شر الجزاء، كان لا يتقيد بدين من الأديان، وإنما كانت زوجته ظفر خاتون قد تنصرت وكانت تفضل النصارى على سائر الخلق، وكان هو يترامى على محبة المعقولات، ولا يتصور منها شيئا، وكان أهلها من أفراخ الفلاسفة لهم عنده وجاهة ومكانة، وإنما كانت همته في تدبير مملكته وتملك البلاد شيئا فشيئا، حتى أباده الله في هذه السنة.

وقيل في سنة ثلاث وستين ودفن في مدينة تلا، لا رحمه الله، وقام في الملك من بعده ولده أبغا خان وكان أبغا أحد إخوة عشرة ذكور، والله سبحانه أعلم وهو حسبنا ونعم الوكيل.

ثم دخلت سنة خمس وستين وستمائة

في يوم الأحد ثاني المحرم توجه الملك الظاهر من دمشق إلى الديار المصرية وصحبته العساكر المنصورة، وقد استولت الدولة الإسلامية على بلاد سيس بكمالها، وعلى كثير من معاقل الفرنج في هذه السنة، وقد أرسل العساكر بين يديه إلى غزة، وعدل هو إلى ناحية الكرك لينظر في أحوالها، فلما كان عند بركة زيزي تصيد هنالك فسقط عن فرسه فانكسرت فخذه.

فأقام هناك أياما يتداوى حتى أمكنه أن يركب في المحفة، وسار إلى مصر فبرأت رجله في أثناء الطريق فأمكنه الركوب وحده على الفرس.

ودخل القاهرة في أبهة عظيمة، وتجمل هائل، وقد زينت البلد، واحتفل الناس له احتفالا عظيما، وفرحوا بقدومه وعافيته فرحا كثيرا، ثم في رجب منها رجع من القاهرة إلى صفد، وحفر خندقا حول قلعتها وعمل فيه بنفسه وأمرائه وجيشه وأغار على ناحية عكا، فقتل وأسر وغنم وسلم وضرب لذلك البشائر بدمشق.

وفي ثاني عشر ربيع الأول صلى الظاهر بالجامع الأزهر الجمعة، ولم يكن تقام به الجمعة من زمن العبيديين إلى هذا الحين، مع أنه أول مسجد بني بالقاهرة، بناه جوهر القائد وأقام فيه الجمعة، فلما بنى الحاكم جامعه حول الجمعة منه إليه، وترك الأزهر لا جمعة فيه فصار في حكم بقية المساجد وشعث حاله وتغيرت أحواله، فأمر السلطان بعمارته وبياضه وإقامة الجمعة وأمر بعمارة جامع الحسينية وكمل في سنة سبع وستين كما سيأتي إن شاء الله تعالى.

وفيها: أمر الظاهر أن لا يبيت أحد من المجاورين بجامع دمشق فيه وأمر بإخراج الخزائن منه، والمقاصير التي كانت فيه، فكانت قريبا من ثلاثمائة، ووجدوا فيها قوارير البول والفرش والسجاجيد الكثيرة، فاستراح الناس والجامع من ذلك واتسع على المصلين.

وفيها: أمر السلطان بعمارة أسوار صفد وقلعتها، وأن يكتب عليها: { وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ } 28 { أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ } 29.

وفيها: التقى أبغا ومنكوتمر الذي قام مقام بركه خان فكسره أبغا وغنم منه شيئا كثيرا.

وحكى ابن خلكان فيما نقل من خط الشيخ قطب الدين اليونيني قال: بلغنا أن رجلا يدعى أبا سلامة من ناحية بصرى، كان فيه مجون واستهتار، فذكر عنده السواك وما فيه من الفضيلة، فقال: والله لا أستاك إلا في المخرج - يعني دبره - فأخذ سواكا فوضعه في مخرجه، ثم أخرجه فمكث بعده تسعة أشهر فوضع ولدا على صفة الجرذان له أربعة قوائم، ورأسه كرأس السمكة، وله دبر كدبر الأرنب.

ولما وضعه صاح ذلك الحيوان ثلاث صيحات، فقامت ابنة ذلك الرجل فرضخت رأسه فمات، وعاش ذلك الرجل بعد وضعه له يومين ومات في الثالث وكان يقول هذا الحيوان قتلني وقطع أمعائي، وقد شاهد ذلك جماعة من أهل تلك الناحية وخطباء ذلك المكان، ومنهم من رأى ذلك الحيوان حيا، ومنهم من رآه بعد موته.

من الأعيان:

السلطان بركه خان بن تولي بن جنكيز خان

وهو ابن عم هولاكو، وقد أسلم بركه خان هذا، وكان يحب العلماء والصالحين ومن أكبر حسناته كسره لهولاكو وتفريق جنوده، وكان يناصح الملك الظاهر ويعظمه ويكرم رسله إليه، ويطلق لهم شيئا كثيرا، وقد قام في الملك بعده بعض أهل بيته وهو منكوتمر بن طغان بن بابو بن تولي بن جنكيز خان، وكان على طريقته ومنواله ولله الحمد.

قاضي القضاة بالديار المصرية تاج الدين عبد الوهاب بن خلف بن بدر ابن بنت الأعز الشافعي

كان دينا عفيفا نزها لا تأخذه في الله لومة لائم، ولا يقبل شفاعة أحد، وجمع له قضاء الديار المصرية بكمالها، والخطابة والحسبة ومشيخة الشيوخ، ونظر الأجياش، وتدريس الشافعي والصالحية وإمامة الجامع، وكان بيده خمسة عشر وظيفة، وباشر الوزارة في بعض الأوقات.

وكان السلطان يعظمه، والوزير ابن حنا يخاف منه كثيرا، وكان يحب أن ينكبه عند السلطان ويضعه فلا يستطيع ذلك، وكان يشتهي أن يأتي داره ولو عائدا، فمرض في بعض الأحيان فجاء القاضي عائدا، فقام إلى تلقيه لوسط الدار، فقال له القاضي: إنما جئنا لعيادتك فإذا أنت سوي صحيح، سلام عليكم، فرجع ولم يجلس عنده.

وكان مولده في سنة أربع وستمائة، وتولى بعده القضاء تقي الدين بن رزين.

واقف القيمرية الأمير الكبير ناصر الدين

أبو المعالي الحسين بن العزيز بن أبي الفوارس القيمري الكردي، كان من أعظم الأمراء مكانة عند الملوك، وهو الذي سلم الشام إلى الملك الناصر صاحب حلب، حين قتل توران شاه بن الصالح أيوب بمصر، وهو واقف المدرسة القيمرية عند مأذنة فيروز، وعمل على بابها الساعات التي لم يسبق إلى مثلها، ولا عمل على شكلها، يقال إنه غرم عليها أربعين ألف درهم.

الشيخ شهاب الدين أبو شامة عبد الرحمن بن إسماعيل

بن إبراهيم بن عثمان بن أبي بكر بن عباس أبو محمد وأبو القاسم المقدسي الشيخ الإمام العالم الحافظ المحدث الفقيه المؤرخ المعروف بأبي شامة شيخ دار الحديث الأشرفية، ومدرس الركنية، وصاحب المصنفات العديدة المفيدة، له اختصار تاريخ دمشق في مجلدات كثيرة، وله شرح الشاطبية، وله الرد إلى الأمر الأول، وله في المبعث وفي الأسراء، وكتاب (الروضتين في الدولتين النورية والصلاحية)، وله الذيل على ذلك، وله غير ذلك من الفوائد الحسان والغرائب التي كالعقيان.

ولد ليلة الجمعة الثالث والعشرين من ربيع الآخر سنة تسع وتسعين وخمسمائة، وذكر لنفسه ترجمة في هذه السنة في الذيل، وذكر مرباه ومنشأه، وطلبه العلم، وسماعه الحديث، وتفقهه على الفخر بن عساكر وابن عبد السلام، والسيف الآمدي، والشيخ موفق الدين بن قدامة، وما رئي له من المنامات الحسنة.

وكان ذا فنون كثيرة، أخبرني علم الدين البرزالي الحافظ عن الشيخ تاج الدين الفزاري، أنه كان يقول: بلغ الشيخ شهاب الدين أبو شامة رتبة الاجتهاد، وقد كان ينظم أشعارا في أوقات، فمنها ما هو مستحلى، ومنها ما لا يستحلى، فالله يغفر لنا وله.

وبالجملة فلم يكن في وقته مثله في نفسه وديانته، وعفته وأمانته، وكانت وفاته بسبب محنة ألبوا عليه، وأرسلوا إليه من اغتاله وهو بمنزل له بطواحين الأشنان.

وقد كان اتهم برأي، الظاهر براءته منه، وقد قال جماعة من أهل الحديث وغيرهم: إنه كان مظلوما ولم يزل يكتب في التاريخ حتى وصل إلى رجب من هذه السنة، فذكر أنه أصيب بمحنة في منزله بطواحين الأشنان.

وكان الذين قتلوه جاؤوه قبل فضربوه ليموت فلم يمت، فقيل له: ألا تشتكي عليهم، فلم يفعل وأنشأ يقول:

قلت لمن قال: ألا تشتكي ** ما قد جرى فهو عظيم جليل

يقيض الله تعالى لنا ** من يأخذ الحق ويشفي الغليل

إذا توكلنا عليه كفى ** فحسبنا الله ونعم الوكيل

وكأنهم عادوا إليه مرة ثانية وهو في المنزل المذكور فقتلوه بالكلية في ليلة الثلاثاء تاسع عشر رمضان رحمه الله.

ودفن من يومه بمقابر دار الفراديس، وباشر بعده مشيخة دار الحديث الأشرفية الشيخ محيي الدين النووي.

وفي هذه السنة كان مولد الحافظ علم الدين القاسم بن محمد البرزالي، وقد ذيل على تاريخ أبي شامة لأن مولده في سنة وفاته، فحذا حذوه وسلك نحوه، ورتب ترتيبه وهذب تهذيبه.

وهذا أيضا ممن ينشد في ترجمته:

ما زلت تكتب في التاريخ مجتهدا ** حتى رأيتك في التاريخ مكتوبا

ويناسب أن ينشد هنا:

إذا سيد منا خلا قام سيد ** قؤول لما قال الكرام فعول

ثم دخلت سنة ست وستين وستمائة

استهلت هذه السنة والحاكم العباسي خليفة، وسلطان البلاد الملك الظاهر، وفي أول جمادى الآخرة خرج السلطان من الديار المصرية بالعساكر المنصورة، فنزل على مدينة يافا بغتة فأخذها عنوة، وسلم إليه أهلها قلعتها صلحا، فأجلاهم منها إلى عكا وخرب القلعة والمدينة وسار منها في رجب قاصدا حصن الشقيف.

وفي بعض الطريق أخذ من بعض بريدية الفرنج كتابا من أهل عكا إلى أهل الشقيف يعلمونهم قدوم السلطان عليهم، ويأمرونهم بتحصين البلد، والمبادرة إلى إصلاح أماكن يخشى على البلد منها. ففهم السلطان كيف يأخذ البلد وعرف من أين تؤكل الكتف، واستدعى من فوره رجلا من الفرنج فأمره أن يكتب بدله كتابا على ألسنتهم إلى أهل الشقيف، يحذر الملك من الوزير، والوزير من الملك، ويرمي الخلف بين الدولة.

فوصل إليهم فأوقع الله الخلف بينهم بحوله وقوته، وجاء السلطان فحاصرهم ورماهم بالمنجنيق فسلموه الحصن في التاسع والعشرين من رجب وأجلاهم إلى صور، وبعث بالأنفال إلى دمشق، ثم ركب جريدة فيمن نشط من الجيش فشن الغارة على طرابلس وأعمالها، فنهب وقتل وأرعب وكر راجعا مؤيدا منصورا.

فنزل على حصن الأكراد لمحبته في المرج، فحمل إليه أهله من الفرنج الإقامات فأبى أن يقبلها وقال: أنتم قتلتم جنديا من جيشي وأريد ديته مائة ألف دينار، ثم سار فنزل على حمص، ثم منها إلى حماة، ثم إلى فامية ثم سار منزلة أخرى، ثم سار ليلا وتقدم العسكر فلبسوا العدة وساق حتى أحاط بمدينة إنطاكية.

فتح إنطاكية على يد السلطان الملك الظاهر

وهي مدينة عظيمة كثيرة الخير، يقال إن دور سورها اثنا عشر ميلا، وعدد بروجها مائة وستة

وثلاثون برجا، وعدد شرافاتها أربعة وعشرون ألف شرافة، كان نزوله عليها في مستهل شهر رمضان، فخرج إليه أهلها يطلبون منه الأمان، وشرطوا شروطا له عليهم فأبى أن يجيبهم وردهم خائبين وصمم على حصارها، ففتحها يوم السبت رابع عشر رمضان بحول الله وقوته وتأييده ونصره، وغنم منها شيئا كثيرا، وأطلق للأمراء أموالا جزيلة، ووجد من أسارى المسلمين من الحلبيين فيها خلقا كثيرا، كل هذا في مقدار أربعة أيام.

وقد كان الأغريس صاحبها وصاحب طرابلس، من أشد الناس أذية للمسلمين، حين ملك التتار حلب وفر الناس منها، فانتقم الله سبحانه منه بمن أقامه للإسلام ناصرا وللصليب دامغا كاسرا، ولله الحمد والمنة.

وجاءت البشارة بذلك مع البريدية، فجاوبتها البشائر من القلعة المنصورة، وأرسل أهل بغراس حين سمعوا بقصد السلطان إليهم يطلبون منه أن يبعث إليهم من يتسلمها، فأرسل إليهم أستاذ داره الأمير أقسنقر الفارقاني في ثالث عشر رمضان فتسلمها، وتسلموا حصونا كبيرة وقلاعا كثيرة، وعاد السلطان مؤيدا منصورا، فدخل دمشق في السابع والعشرين من رمضان من هذه السنة في أبهة عظيمة وهيبة هائلة، وقد زينت له البلد ودقت له البشائر فرحا بنصرة الإسلام على الكفرة الطغام.

لكنه كان قد عزم على أخذ أراضي كثيرة من القرى والبساتين التي بأيدي ملاكها بزعم أنه قد كانت التتار استحوذوا عليها ثم استنقذها منهم، وقد أفتاه بعض الفقهاء من الحنفية تفريعا على أن الكفار إذا أخذوا شيئا من أموال المسلمين ملكوها، فإذا استرجعت لم ترد إلى أصحابها، وهذه المسألة مشهورة وللناس فيها قولان أصحها: قول الجمهور أنه يجب ردها إلى أصحابها لحديث العضباء ناقة رسول الله ، حين استرجعها رسول الله ، وقد كان أخذها المشركون، استدلوا بهذا وأمثاله على أبي حنيفة.

وقال بعض العلماء: إذا أخذ الكفار أموال المسلمين وأسلموا وهي في أيديهم استقرت على أملاكهم، واستدل على ذلك بقوله عليه الصلاة والسلام: «وهل ترك لنا عقيل من رباع».

وقد كان استحوذ على أملاك المسلمين الذين هاجروا وأسلم عقيل وهي في يده، فلم تنتزع من يده.

وأما إذا انتزعت من أيديهم قبل، فإنها ترد إلى أربابها لحديث العضباء، والمقصود أن الظاهر عقد مجلسا اجتمع فيه القضاة والفقهاء من سائر المذاهب وتكلموا في ذلك وصمم السلطان على ذلك اعتمادا على ما بيده من الفتاوى.

وخاف الناس من غائلة ذلك فتوسط الصاحب فخر الدين بن الوزير بهاء الدين بن أحنا، وكان قد درس بالشافعي بعد ابن بنت الأعز، فقال: يا خوند أهل البلد يصالحونك عن ذلك كله بألف ألف درهم، تقسط كل سنة مائتي ألف درهم، فأبى إلا أن تكون معجلة بعد أيام، وخرج متوجها إلى الديار المصرية، وقد أجاب إلى تقسيطها، وجاءت البشارة بذلك.

ورسم أن يعجلوا من ذلك أربعمائة ألف درهم، وأن تعاد إليه الغلات التي كانوا قد احتاطوا عليها في زمن القسم والثمار، وكانت هذه الفعلة مما شعثت خواطر الناس على السلطان.

ولما استقر أمر أبغا على التتار أمر باستمرار وزيره نصير الدين الطوسي، واستناب على بلاد الروم البرواناه وارتفع قدره عنده جدا واستقل بتدبير تلك البلاد وعظم شأنه فيها.

وفيها: كتب صاحب اليمن إلى الظاهر بالخضوع والانتماء إلى جانبه وأن يخطب له ببلاد اليمن، وأرسل إليه هدايا وتحفا كثيرة، فأرسل إليه السلطان هدايا وخلعا وسنجقا وتقليدا.

وفيها: رافع ضياء الدين بن الفقاعي للصاحب بهاء الدين بن الحنا عند الظاهر واستظهر عليه ابن الحنا، فسلمه الظاهر إليه، فلم يزل يضربه بالمقارع ويستخلص أمواله إلى أن مات، فيقال إنه ضربه قبل أن يموت سبعة عشر ألف مقرعة وسبعمائة فالله أعلم.

وفيها: عمل البرواناه على قتل الملك علاء الدين صاحب قونية وأقام ولده غياث الدين مكانه وهو ابن عشر سنين وتمكن البرواناه في البلاد والعباد وأطاعه جيش الروم.

وفيها: قتل الصاحب علاء الدين صاحب الديوان ببغداد ابن الخشكري النعماني الشاعر، وذلك أنه اشتهر عنه أشياء عظيمة، منها أنه يعتقد فضل شعره على القرآن المجيد، واتفق أن الصاحب انحدر إلى واسط فلما كان بالنعمانية حضر ابن الخشكري عنده وأنشده قصيدة قد قالها فيه، فبينما هو ينشدها بين يديه إذ أذن المؤذن فاستنصته الصاحب.

فقال ابن الخشكري: يا مولانا أسمع شيئا جديدا، وأعرض عن شيء له سنين، فثبت عند الصاحب ما كان يقال عنده عنه، ثم باسطه وأظهر أنه لا ينكر عليه شيئا مما قال حتى استعلم ما عنده، فإذا هو زنديق، فلما ركب قال لإنسان معه استفرده في أثناء الطريق واقتله، فسايره ذلك الرجل حتى إذا انقطع عن الناس قال لجماعة معه: أنزلوه عن فرسه كالمداعب له، فأنزلوه وهو يشتمهم ويلعنوهم، ثم قال: انزعوا عنه ثيابه فسلبوها وهو يخاصمهم، ويقول إنكم أجلاف، وإن هذا لعب بارد، ثم قال: اضربوا عنقه، فتقدم إليه أحدهم فضربه بسيفه فأبان رأسه.

وفيها توفي:

الشيخ عفيف الدين يوسف بن البقال

شيخ رباط المرزبانية، كان صالحا ورعا زاهدا حكى عن نفسه قال: كنت بمصر فبلغني ما وقع من القتل الذريع ببغداد في فتنة التتار، فأنكرت في قلبي وقلت: يا رب كيف هذا وفيهم الأطفال ومن لا ذنب له؟ فرأيت في المنام رجلا وفي يده كتاب فأخذته فقرأته فإذا فيه هذه الأبيات فيها الإنكار عليّ:

دع الاعتراض فما الأمر لك ** ولا الحكم في حركات الفلك

ولا تسأل الله عن فعله ** فمن خاض لجة بحر هلك

إليه تصير أمور العباد ** دع الاعتراض فما أجهلك

من الأعيان:

الحافظ أبو إبراهيم إسحاق بن عبد الله

ابن عمر المعروف بابن قاضي اليمن، عن ثمان وستين سنة، ودفن بالشرف الأعلى، وكان قد تفرد بروايات جيدة وانتفع الناس به.

وفيها: ولد الشيخ شرف الدين عبد الله بن تيمية أخو الشيخ تقي الدين ابن تيمية والخطيب القزويني.

ثم دخلت سنة سبع وستين وستمائة

في صفر منها جدد السلطان الظاهر البيعة لولده من بعده الملك السعيد محمد بركه خان، وأحضر الأمراء كلهم والقضاة والأعيان وأركبه ومشى بين يديه، وكتب له ابن لقمان تقليدا هائلا بالملك من بعد أبيه، وأن يحكم عنه أيضا في حال حياته، ثم ركب السلطان في عساكره في جمادى الآخرة قاصدا الشام، فلم دخل دمشق جاءته رسل من أبغا ملك التتار معهم مكاتبات ومشافهات، فمن جملة المشافهات: أنت مملوك بعت بسيواس فكيف يصلح لك أن تخالف ملوك الأرض؟ واعلم أنك لو صعدت إلى السماء أو هبطت إلى الأرض ما تخلصت مني فاعمل لنفسك على مصالحة السلطان أبغا.

فلم يلتفت إلى ذلك ولا عده شيئا بل أجاب عنه أتم جواب، وقال لرسله: أعلموه أني من روائه بالمطالبة ولا أزال حتى أنتزع منه جميع البلاد التي استحوذ عليها من بلاد الخليفة، وسائر أقطار الأرض.

وفي جمادى الآخرة رسم السلطان الملك الظاهر بإراقة الخمور وتبطيل المفسدات والخواطىء بالبلاد كلها، فنهبت الخواطىء وسلبن جميع ما كان معهن حتى يتزوجن، وكتب إلى جميع البلاد بذلك، وأسقط المكوس التي كانت مرتبة على ذلك، وعوض من كان محالا على ذلك بغيرها ولله الحمد والمنة.

ثم عاد السلطان بعساكره إلى مصر، فلما كان في أثناء الطريق عند خربة اللصوص تعرضت له امرأة فذكرت له أن ولدها دخل مدينة صور، وأن صاحبها الفرنجي غدر به وقتله وأخذ ماله، فركب السلطان وشن الغارة على صور فأخذ منها شيئا كثيرا، وقتل خلقا فأرسل إليه ملكها ما سبب هذا؟ فذكر له غدره ومكره بالتجار ثم قال السلطان لمقدم الجيوش:

أوهم الناس أني مريض وأني بالمحفة وأحضر الأطباء استوصف لي منهم ما يصلح لمريض به كذا وكذا، وإذا وصفوا لك فأحضر الأشربة إلى المحفة وأنتم سائرون.

ثم ركب السلطان على البريد وساق مسرعا فكشف أحوال ولده وكيف الأمر بالديار المصرية بعده ثم عاد مسرعا إلى الجيش فجلس في المحفة وأظهروا عافيته وتباشروا بذلك، وهذه جرأة عظيمة، وإقدام هائل.

وفيها حج السلطان الملك الظاهر وفي صحبته الأمير بدر الدين الخزندار، وقاضي القضاة صدر الدين سليمان الحنفي، وفخر الدين بن لقمان، وتاج الدين بن الأثير ونحو من ثلاثمائة مملوك، وأجناد من الخلقة المنصورة، فسار على طريق الكرك ونظر في أحوالها ثم منها إلى المدينة النبوية، فأحسن إلى أهلها ونظر في أحوالها، ثم منها إلى مكة فتصدق على المجاورين ثم وقف بعرفة وطاف طواف الإفاضة وفتحت له الكعبة فغسلها بماء الورد وطيبها بيده.

ثم وقف بباب الكعبة فتناول أيدي الناس ليدخلوا الكعبة وهو بينهم، ثم رجع فرمى الجمرات ثم تعجل النفر فعاد على المدينة النبوية فزار القبر الشريف مرة ثانية على ساكنه أفضل الصلاة وأتم التسليم، وعلى آله وأهل بيته الطيبين الطاهرين وصحابته الكرام أجمعين إلى يوم الدين.

ثم سار إلى الكرك فدخلها في التاسع والعشرين من ذي الحجة، وأرسل البشير إلى دمشق بقدومه سالما، فخرج الأمير جمال الدين آقوش النجيبي نائبها ليتلقى البشير في ثاني المحرم، فإذا هو السلطان نفسه يسير في الميدان الأخضر، وقد سبق الجميع، فتعجب الناس من سرعة سيره وصبره وجلده، ثم ساق من فوره حتى دخل حلب في سادس المحرم ليتفقد أحوالها، ثم عاد إلى حماة ثم رجع إلى دمشق ثم سار إلى مصر، فدخلها يوم الثلاثاء ثالث صفر من السنة المقبلة رحمه الله.

وفي أواخر ذي الحجة هبت ريح شديدة أغرقت مائتي مركب في النيل، وهلك فيها خلق كثير، ووقع هناك مطر شديد جدا، أصاب الشام من ذلك صاعقة أهلكت الثمار، فإنا لله وإنا إليه راجعون.

وفيها: أوقع الله تعالى الخلف بين التتار من أصحاب أبغا وأصحاب ابن منكوتمر ابن عمه وتفرقوا واشتغلوا ببعضهم بعضا، ولله الحمد.

وفيها: خرج أهل حران منها وقدموا الشام، وكان فيهم شيخنا العلامة أبو العباس أحمد بن تيمية صحبة أبيه وعمره ست سنين، وأخوه زين الدين عبد الرحمن وشرف الدين عبد الله، وهما أصغر منه.

من الأعيان:

الأمير عز الدين أيدمر بن عبد الله

الحلبي الصالحي، كان من أكابر الأمراء وأحظاهم عند الملوك، ثم عند الملك الظاهر، كان يستنيبه إذا غاب، فلما كانت هذه السنة أخذه معه وكانت وفاته بقلعة دمشق، ودفن بتربته بالقرب من اليغمورية، وخلف أموالا جزيلة، وأوصى إلى السلطان في أولاده، وحضر السلطان عزاءه بجامع دمشق.

شرف الدين أبو الظاهر محمد بن الحافظ

أبي الخطاب عمر بن دحية المصري، ولد سنة عشر وستمائة وسمع أباه وجماعة، وتولى مشيخة دار الحديث الكاملية مدة، وحدث وكان فاضلا.

القاضي تاج الدين أبو عبد الله محمد بن وثاب بن رافع البجيلي الحنفي

درس وأفتى عن ابن عطاء بدمشق، ومات بعد خروجه من الحمام على مساطب الحمام فجأة ودفن بقاسيون.

الطبيب الماهر شرف الدين أبو الحسن

علي بن يوسف بن حيدرة الرحبي شيخ الأطباء بدمشق، ومدرس الدخوارية عن وصية واقفها بذلك وله التقدمة في هذه الصناعة على أقرانه من أهل زمانه، ومن شعره قوله:

يساق بنو الدنيا إلى الحتف عنوةً ** ولا يشعر الباقي بحالة من يمضي

كأنهم الأنعام في جهل بعضها ** بمأثم من سفك الدماء على بعض

الشيخ نصير الدين المبارك بن يحيى بن أبي الحسن أبي البركات بن الصباغ الشافعي

العلامة في الفقه والحديث، درس وأفتى وصنف وانتفع به، وعمر ثمانين سنة، وكانت وفاته في حادي عشرة جمادى الأولى من هذه السنة، رحمه الله تعالى.

الشيخ أبو الحسن علي بن عبد الله بن إبراهيم الكوفي المقري النحوي الملقب بسيبويه

وكان فاضلا بارعا في صناعة النحو، توفي بمارستان القاهرة في هذه السنة عن سبع وستين سنة رحمه الله. ومن شعره:

عذبت قلبي بهجر منك متصل ** يا من هواه ضمير غير منفصل

فما زادني غير تأكيد صدك لي ** فما عدولك من عطف إلى بدل

وفيها ولد شيخنا العلامة كمال الدين محمد بن علي الأنصاري بن الزملكاني شيخ الشافعية.

ثم دخلت سنة ثمان وستين وستمائة

في ثاني المحرم منها دخل السلطان من الحجاز على الهجن فلم يرع الناس إلا وهو في الميدان الأخضر يسير، ففرح الناس بذلك، وأراح الناس من تلقيه بالهدايا والتحف، وهذه كانت عادته، وقد عجب الناس من سرعة مسيره وعلو همته، ثم سار إلى حلب، ثم سار إلى مصر فدخلها في سادس الشهر مع الركب المصري، وكانت زوجته أم الملك السعيد في الحجاز هذه السنة، ثم خرج في ثالث عشر صفر هو وولده والأمراء إلى الإسكندرية فتصيد هنالك، وأطلق للأمراء الأموال الكثيرة والخلع، ورجع مؤيدا منصورا.

وفي المحرم منها قتل صاحب مراكش أبو العلاء إدريس بن عبد الله بن محمد بن يوسف الملقب بالواثق، قتله بنو مرين في حرب كانت بينه وبينهم بالقرب من مراكش.

وفي ثالث عشر ربيع الآخر منها وصل السلطان إلى دمشق في طائفة من جيشه، وقد لقوا في الطريق مشقة كثيرة من البرد والوحل، فخيم على الزنبقية وبلغه أن ابن أخت زيتون خرج من عكا يقصد جيش المسلمين، فركب إليه سريعا فوجده قريبا من عكا فدخلها خوفا منه.

وفي رجب تسلم نواب السلطان مصياف من الإسماعيلية، وهرب منها أميرهم الصارم مبارك بن الرضي، فتحيل عليه صاحب حماه حتى أسره وأرسله إلى السلطان فحبسه في بعض الأبرجة في القاهرة.

وفيها: أرسل السلطان الدرابزينات إلى الحجرة النبوية، وأمر أن تقام حول القبر صيانة له، وعمل لها أبوابا تفتح وتغلق من الديار المصرية، فركب ذلك عليها.

وفيها: استفاضت الأخبار بقصد الفرنج بلاد الشام، فجهز السلطان العساكر لقتالهم، وهو مع ذلك مهتم بالإسكندرية خوفا عليها، وقد حصنها وعمل جسورة إليها إن دهمها العدو، وأمر بقتل الكلاب منها.

وفيها: انقرضت دولة بني عبد المؤمن من بلاد المغرب، وكان آخرهم إدريس بن عبد الله بن يوسف صاحب مراكش، قتله بنو مرين في هذه السنة.

من الأعيان:

الصاحب زين الدين يعقوب بن عبد الله الرفيع

ابن زيد بن مالك المصري لمعروف بابن الزبيري كان فاضلا رئيسا، وزر للملك المظفر قطز ثم للظاهر بيبرس في أول دولته، ثم عزله وولى بهاء الدين ابن الحنا، فلزم منزله حتى أدركته منيته في الرابع عشر من ربيع الآخر من هذه السنة، وله نظم جيد.

الشيخ موفق الدين أحمد بن القاسم بن خليفة الخزرجي

الطبيب المعروف بابن أبي أصيبعة له تاريخ الأطباء في عشر مجلدات لطاف، وهو وقف بمشهد ابن عروة بالأموي، توفي بصرخد وقد جاوز التسعين.

الشيخ زين الدين أحمد بن عبد الدائم

ابن نعمة بن أحمد بن محمد بن إبراهيم بن أحمد بن بكير، أبو العباس المقدسي النابلسي، تفرد بالرواية عن جماعة من المشايخ، ولد سنة خمس وسبعين وخمسمائة، وقد سمع ورحل إلى بلدان شتى، وكان فاضلا يكتب سريعا.

حكى الشيخ علم الدين أنه كتب مختصر الخرقي في ليلة واحدة، وخطه حسن قوي، وقد كتب تاريخ ابن عساكر مرتين، واختصره لنفسه أيضا، واضر في آخر عمره أربع سنين، وله شعر أورد منه قطب الدين في تذييله، توفي بسفح قاسيون وبه دفن في بكرة الثلاثاء عاشر رجب، وقد جاوز التسعين رحمه الله.

القاضي محيي الدين بن الزكي

أبو الفضل يحيى بن قاضي القضاة بهاء الدين أبي المعالي محمد بن علي بن محمد بن يحيى بن علي بن عبد العزيز بن علي بن عبد العزيز بن علي بن الحسين بن محمد بن عبد الرحمن بن القاسم بن الوليد ابن عبد الرحمن بن أبان بن عثمان بن عفان القرشي الأموي بن الزكي، تولى قضاء دمشق غير مرة، وكذلك آباؤه من قبله، كل قد وليها.

وقد سمع الحديث من حنبل وابن طبرزد والكندي وابن الحرستاني وجماعة، وحدث ودرس في مدارس كثيرة، وقد ولى قضاء الشام في الهلاوونية فلم يحمد على ما ذكره أبو شامة، توفي بمصر في الرابع عشر من رجب، ودفن بالمقطم وقد جاوز السبعين.

وله شعر جيد قوي.

وحكى الشيخ قطب الدين في ذلك بعد ما نسبه كما ذكرنا عن والده القاضي بهاء الدين أنه كان يذهب إلى تفضيل علي على عثمان موافقة لشيخه محيي الدين ابن عربي، ولمنام رآه بجامع دمشق معرضا عنه بسبب ما كان من بني أمية إليه في أيام صفين، فأصبح فنظم في ذلك قصيدة يذكر فيها ميله إلى علي، وإن كان هو أموي:

أدين بما دان الوصي ولا أرى ** سواه وإن كانت أمية محتدي

ولو شهدت صفين خيلي لا عذرت ** وشاء بني حرب هنالك مشهدي

لكنت آسن البيض عنهم تراضيا ** وأمنعهم نيل الخلافة باليد

ومن شعره:

قالوا ما في جلق نزهة ** تسليك عمن أنت به مغرا

يا عاذلي دونك في لحظة ** سهما وقد عارضه سطرا

الصاحب فخر الدين محمد بن الصاحب بهاء الدين علي بن محمد بن سليم بن الحنا المصري

كان وزير الصحبة، وقد كان فاضلا، بني رباطا بالقرافة الكبرى، ودرس بمدرسة والده بمصر، وبالشافعي بعد ابن بنت الأعز توفي بشعبان ودفن بسفح المقطم، وفوض السلطان وزارة الصحبة لولده تاج الدين.

الشيخ أبو نصر بن أبي الحسن ابن الخراز الصوفي البغدادي الشاعر

له ديوان حسن، وكان جميل المعاشرة حسن المذاكرة، دخل عليه بعض أصحابه فلم يقم له فأنشده قوله:

نهض القلب حين أقبلت ** إجلالا لما فيه من صحيح الوداد

ونهوض القلوب بالود أولى ** من نهوض الأجساد للأجساد

ثم دخلت سنة تسع وستين وستمائة

في مستهل صفر منها ركب السلطان من الديار المصرية في طائفة من العسكر إلى عسقلان فهدم ما بقي من سورها مما كان أهمل في الدولة الصلاحية.

ووجد فيما هدم كوزين فيهما ألفا دينار ففرقهما على الأمراء.

وجاءته البشارة وهو هنالك بأن منكوتمر كسر جيش أبغا ففرح بذلك، ثم عاد إلى القاهرة.

وفي ربيع الأول بلغ السلطان أن أهل عكا ضربوا رقاب من في أيديهم من أسرى المسلمين صبرا بظاهر عكا، فأمر بمن كان في يده من أسرى أهل عكا فضربت رقابهم في صبيحة واحدة، وكانوا قريبا من مائتي أسير.

وفيها: كمل جامع المنشية وأقيمت فيه الجمعة في الثاني والعشرين من ربيع الآخر.

وفيها: جرت حروب يطول ذكرها بين أهل تونس والفرنج، ثم تصالحوا بعد ذلك على الهدنة ووضع الحرب، بعدما قتل من الفريقين خلق لا يحصون.

وفي يوم الخميس ثامن رجب دخل الظاهر دمشق وفي صحبته ولده الملك السعيد وابن الحنا الوزير وجمهور الجيش ثم خرجوا متفرقين وتواعدوا أن يلتقوا بالساحل ليشنوا الغارة على جبلة واللاذقية ومرقب وعرقا وما هنالك من البلاد.

فلما اجتمعوا فتحوا صافينا والمجدل، ثم ساروا فنزلوا على حصن الأكراد يوم الثلاثاء تاسع عشر رجب، وله ثلاث أسوار، فنصبوا المنجنيقات ففتحها قسرا يوم نصف شعبان، فدخل الجيش، وكان الذي يحاصره ولد السلطان الملك السعيد، فأطلق السلطان أهله ومنّ عليهم وأجلاهم إلى طرابلس، وتسلم القلعة بعد عشرة أيام من الفتح، فأجلى أهلها أيضا وجعل كنيسة البلد جامعا، وأقام فيه الجمعة.

وولى فيها نائبا وقاضيا وأمر بعمارة البلد، وبعث صاحب طرسوس بمفاتيح بلده يطلب منه الصلح على أن يكون نصف مغل بلاده للسلطان، وأن يكون له بها نائبا فأجابه إلى ذلك، وكذلك فعل صاحب المرقب فصالحه أيضا على المناصفة ووضع الحرب عشر سنين.

وبلغ السلطان وهو مخيم على حصن الأكراد أن صاحب جزيرة قبرص قد ركب بجيشه إلى عكا لينصر أهلها خوفا من السلطان، فأراد السلطان أن يغتنم هذه الفرصة فبعث جيشا كثيفا في اثني عشرة شيني ليأخذوا جزيرة قبرص في غيبة صاحبها عنها.

فسارت المراكب مسرعة فلما قاربت المدينة جاءتها ريح قاصف فصدم بعضها بعضا فانكسر فيها أربعة عشر مركبا بإذن الله فغرق خلق وأسر الفرنج من الصناع والرجال قريبا من ألف وثمانمائة إنسان، فإنا لله وإنا إليه راجعون.

ثم سار السلطان فنصب المجانيق على حصن عكا فسأله أهلها الأمان على أن يخليهم فأجابهم إلى ذلك، ودخل البلد يوم عيد الفطر فتسلمه، وكان الحصن شديد الضرر على المسلمين، وهو واد بين جبلين، ثم سار السلطان نحو طرابلس فأرسل إليه صاحبها يقول: ما مراد السلطان في هذه الأرض؟ فقال: جئت لأرعى زروعكم وأخرب بلادكم، ثم أعود إلى حصاركم في العام الآتي.

فأرسل يستعطفه ويطلب منه المصالحة ووضع الحرب بينهم عشر سنين فأجابه إلى ذلك، وأرسل إليه الإسماعيلية يستعطفونه على والدهم، وكان مسجونا بالقاهرة، فقال: سلموا إلىّ العليقة وانزلوا فخذوا إقطاعات بالقاهرة، وتسلموا أباكم.

فلما نزلوا أمر بحبسهم بالقاهرة واستناب بحصن العليقة.

وفي يوم الأحد الثاني عشر من شوال جاء سيل عظيم إلى دمشق فأتلف شيئا كثيرا، وغرق بسببه ناس كثير، لا سيما الحجاج من الروم الذين كانوا نزولا بين النهرين، أخذهم السيل وجمالهم وأحمالهم، فهلكوا وغلقت أبواب البلد، ودخل الماء إلى البلد من مراقي السور، ومن باب الفراديس فغرق خان ابن المقدم وأتلف شيئا كثيرا.

وكان ذلك في زمن الصيف في أيام المشمش، ودخل السلطان إلى دمشق يوم الأربعاء خامس عشر شوال فعزل القاضي ابن خلكان، وكان له في القضاء عشر سنين.

وولى القاضي عز الدين بن الصائغ، وخلع عليه، وكان تقليده قد كتب بظاهر طرابلس بسفارة الوزير ابن الحنا، فسار ابن خلكان في ذي القعدة إلى مصر.

وفي ثاني عشر شوال دخل حصن الكردي شيخ السلطان الملك الظاهر وأصحابه إلى كنيسة اليهود فصلوا فيها وأزلوا ما فيها من شعائر اليهود، ومدوا فيها سماطا وعملوا سماعا، وبقوا على ذلك أياما، ثم أعيدت إلى اليهود، ثم خرج السلطان إلى السواحل فافتتح بعضها وأشرف على عكا وتأملها ثم سار إلى الديار المصرية.

وكان مقدار غرمه في هذه المدة وفي الغزوات قريبا من ثمانمائة ألف دينار، وأخلفها الله عليه، وكان وصوله إلى القاهرة يوم الخميس ثالث عشر ذي الحجة.

وفي اليوم السابع عشر من وصوله أمسك على جماعة من الأمراء منهم الحلبي وغيره بلغه أنهم أرادوا مسكه على الشقيف.

وفي اليوم السابع عشر من ذي الحجة أمر بإراقة الخمور من سائر بلاده وتهدد من يعصرها أو يعتصرها بالقتل، وأسقط ضمان ذلك، وكان ذلك بالقاهرة وحدها كل يوم ضمانة ألف دينار، ثم سارت البرد بذلك إلى الآفاق.

وفيها: قبض السلطان على العزيز بن المغيث صاحب الكرك، وعلى جماعة من أصحابه كانوا عزموا على سلطنته.

من الأعيان:

الملك تقي الدين عباس بن الملك العادل

أبي بكر بن أيوب بن شادي، وهو آخر من بقي من أولاد العادل، وقد سمع الحديث من الكندي وابن الحرستاني، وكان محترما عند الملوك لا يرفع عليه أحد في المجالس والمواكب، وكان لين الأخلاق حسن العشرة، لا تمل مجالسته.

توفي يوم الجمعة الثاني والعشرين من جمادى الآخرة بدرب الريحان، ودفن بتربته بسفح قاسيون.

قاضي القضاة شرف الدين أبو حفص

عمر بن عبد الله بن صالح بن عيسى السبكي المالكي، ولد سنة خمس وثمانين وخمسمائة، وسمع الحديث وتفقه وأفتى بالصلاحية، وولي حسبة القاهرة ثم ولي القضاء سنة ثلاث وستين، لما ولوا من كل مذهب قاضيا، وقد امتنع أشد الامتناع ثم أجاب بعد إكراه بشرط أن لا يأخذ على القضاء جامكية، وكان مشهورا بالعلم والدين، روى عنه القاضي بدر الدين ابن جماعة وغيره توفي لخمس بقين من ذي القعدة.

الطواشي شجاع الدين مرشد المظفري الحموي

كان شجاعا بطلا من الأبطال الشجعان، وكان له رأي سديد، كان أستاذه لا يخالفه وكذلك الملك الظاهر، توفي بحماه ودفن بتربته بالقرب من مدرسته بحماه.

ابن سبعين: عبد الحق بن إبراهيم بن محمد

ابن نصر بن محمد بن نصر بن محمد بن قطب الدين أبو محمد المقدسي الرقوطي، نسبة إلى رقوطة بلدة قريبة من مرسية، ولد سنة أربع عشرة وستمائة، واشتغل بعلم الأوائل والفلسفة فتولد له من ذلك نوع من الإلحاد، وصنف فيه، وكان يعرف السيميا.

وكان يلبس بذلك على الأغبياء من الأمراء والأغنياء، ويزعم أنه حال من أحوال القوم، وله من المصنفات كتاب (البدو) وكتاب (الهو)، وقد أقام بمكة واستحوذ على عقل صاحبها ابن سمي، وجاور في بعض الأوقات بغار حراء يرتجي فيما ينقل عنه أن يأتيه فيه وحي كما أتى النبي ، بناء على ما يعتقده من العقيدة الفاسدة من أن النبوة مكتسبة، وأنها فيض يفيض على العقل إذا صفا، فما حصل له إلا الخزي في الدنيا والآخرة، إن كان مات على ذلك.

وقد كان إذا رأى الطائفين حول البيت يقول عنهم كأنهم الحمير حول المدار، وأنهم لو طافوا به كان أفضل طوافهم بالبيت، فالله يحكم فيه وفي أمثاله.

وقد نقلت عنه عظائم من الأقوال والأفعال، توفي في الثامن والعشرين من شوال بمكة.

ثم دخلت سنة سبعين وستمائة من الهجرة

استهلت وخليفة الوقت الحاكم بأمر الله أبو العباس أحمد بالعباسي، وسلطان الإسلام الملك الظاهر.

وفي يوم الأحد الرابع عشر من المحرم ركب السلطان إلى البحر لالتقاء الشواني التي عملت عوضا عما غرق بجزيرة قبرص، وهي أربعون شينيا، فركب في شيني منها ومعه الأمير بدر الدين، فمالت بهم فسقط الخزندار في البحر فغاص في الماء فألقى إنسان نفسه وراءه فأخذ بشعره وأنقده من الغرق، فخلع السلطان على ذلك الرجل وأحسن إليه.

وفي أواخر المحرم ركب السلطان في نفر يسير من الخاصكية، والأمراء من الديار المصرية حتى قدم الكرك، واستحصب نائبها معه إلى دمشق، فدخلها في ثاني عشر صفر، ومعه الأمير عز الدين أيدمر نائب الكرك، فولاه نيابة دمشق وعزل عنها جمال الدين آقوش النجيبي في رابع عشر صفر، ثم خرج إلى حماة وعاد بعد عشرة أيام.

وفي ربيع الأول وصلت الجفال من حلب وحماة وحمص إلى دمشق بسبب الخوف من التتار، وجفل خلق كثير من أهل دمشق.

وفي ربيع الآخر وصلت العساكر المصرية إلى حضرة السلطان إلى دمشق فسار بهم منها في سابع الشهر، فاجتاز بحماة واستصحب ملكها المنصور، ثم سار إلى حلب فخيم بالميدان الأخضر بها، وكان سبب ذلك أن عساكر الروم جمعوا نحوا من عشرة آلاف فارس وبعثوا طائفة منهم فأغاروا على عين تاب.

ووصلوا إلى نسطون ووقعوا على طائفة من التركمان بين حارم وإنطاكية فاستأصلوهم فلما سمع التتار بوصول السلطان ومعه العساكر المنصورة ارتدوا على أعقابهم راجعين، وكان بلغه أن الفرنج أغاروا على بلاد قاقون ونهبوا طائفة من التركمان، فقبض على الأمراء الذين هناك حيث لم يهتموا بحفظ البلاد وعادوا إلى الديار المصرية.

وفي ثالث شعبان أمسك السلطان قاضي الحنابلة بمصر شمس الدين أحمد بن العماد المقدسي، وأخذ ما عنده من الودائع فأخذ زكاتها ورد بعضها إلى أربابها، واعتقله إلى شعبان من سنة ثنتين وسبعين، وكان الذي وشى به رجل من أهل حران يقال له شبيب، ثم تبين للسلطان نزاهة القاضي وبراءته فأعاده إلى منصبه في سنة ثنتين وسبعين.

وجاء السلطان في شعبان إلى أراضي عكا فأغار عليها فسأله صاحبها المهادنة فأجابه إلى ذلك فهادنه عشرة سنين وعشرة أشهر وعشرة أيام وعشرة ساعات، وعاد إلى دمشق فقرئ بدار السعادة كتاب الصلح، واستمر الحال على ذلك ثم عاد السلطان إلى بلاد الإسماعيلية فأخذ عامتها.

قال قطب الدين: وفي جمادى الآخرة ولدت زرافة بقلعة الجبل، وأرضعت من بقرة.

قال: وهذا شيء لم يعهد مثله.

وفيها توفي:

الشيخ كمال الدين سلار بن حسن بن عمر بن سعيد الأربلي الشافعي

أحد مشايخ المذهب، وقد اشتغل عليه الشيخ محيي الدين النووي، وقد اختصر البحر للروياني في مجلدات عديدة هي عندي بخط يده وكانت الفتيا تدور عليه بدمشق، توفي في عشر السبعين، ودفن بباب الصغير، وكان مفيدا بالبادرائية من أيام الواقف، لم يطلب زيادة على ذلك إلى أن توفي في هذه السنة.

وجيه الدين محمد بن علي بن أبي طالب

ابن سويد التكريتي التاجر الكبير بين التجار بن سويد ذو الأموال الكثيرة، وكان معظما عند الدولة، ولا سيما عند الملك الظاهر، كان يجله ويكرمه لأنه كان قد أسدى إليه جميلا في حال إمرته قبل أن يلي السلطنة، ودفن برباطه وتربته بالقرب من الرباط الناصري بقاسيون، وكانت كتب الخليفة ترد إليه في كل وقت، وكانت مكاتباته مقبولة عند جميع الملوك، حتى ملوك الفرنج في السواحل.

وفي أيام التتار في أيام هولاكو، وكان كثير الصدقات والبر.

نجم الدين يحيى بن محمد بن عبد الواحد بن اللبودي

واقف اللبودية التي عند حمام الفلك المبرر على الأطباء، ولديه فضيلة بمعرفة الطب، وقد ولى نظر الدواوين بدمشق، ودفن بتربته عند اللبودية.

الشيخ علي البكاء صاحب الزاوية

بالقرب من بلد الخليل عليه السلام، كان مشهورا بالصلاح والعبادة والإطعام لمن اجتاز به من المارة والزوار، وكان الملك المنصور قلاوون يثنى عليه ويقول: اجتمعت به وهو أمير وأنه كاشفة في أشياء وقعت جميعها، ومن جملتها أنه سيملك.

نقل ذلك قطب الدين اليونيني، وذكر أن سبب بكائه الكثير أنه صحب رجلا كانت له أحوال وكرامات، وأنه خرج معه من بغداد فانتهوا في ساعة واحدة إلى بلدة بينها وبين بغداد مسيرة سنة، وأن ذلك الرجل قال له إني سأموت في الوقت الفلاني، فأشهدني في ذلك الوقت في البلد الفلاني.

قال: فلما كان ذلك الوقت حضرت عنده وهو في السياق، وقد استدار إلى جهة الشرق فحولته إلى القبلة فاستدار إلى الشرق فحولته أيضا ففتح عينيه وقال: لا تتعب فإني لا أموت إلا على هذه الجهة، وجعل يتكلم بكلام الرهبان حتى مات فحملناه فجئنا به إلى دير هناك فوجدناهم في حزن عظيم.

فقلنا لهم: ما شأنكم؟ فقالوا: كان عندنا شيخ كبير ابن مائة سنة، فلما كان اليوم مات على الإسلام، فقلنا لهم: خذوا هذا بدله وسلمونا صاحبنا، قال فوليناه فغسلناه وكفناه وصلينا عليه ودفناه مع المسلمين، وولوا هم ذلك الرجل فدفنوه في مقبرة النصارى، نسأل الله حسن الخاتمة.

مات الشيخ علي في رجب من هذه السنة.

ثم دخلت سنة إحدى وسبعين وستمائة

في خامس المحرم وصل الظاهر دمشق من بلاد السواحل التي فتحها وقد مهدها، وركب في أواخر المحرم إلى القاهرة فأقام بها سنة ثم عاد فدخل دمشق في رابع صفر، وفي المحرم منها وصل صاحب النوبة إلى عيذاب فنهب تجارها وقتل خلقا من أهلها.

منهم الوالي والقاضي، فسار إليه الأمير علاء الدين أيد غدي الخزندار فقتل خلقا من بلاده ونهب وحرق وهدم ودوخ البلاد، وأخذ بالثأر ولله الحمد والمنة.

وفي ربيع الأول توفي الأمير سيف الدين محمد بن مظفر الدين عثمان بن ناصر الدين منكورس صاحب صهيون، ودفن في تربة والده في عشر السبعين، وكان له في ملك صهيون وبزريه إحدى عشرة سنة، وتسلمها بعده ولده سابق الدين، وأرسل إلى الملك الظاهر يستأذنه في الحضور فأذن له، فلما حضر أقطعه حيزا وبعث إلى البلدين نوابا من جهته.

وفي خامس جمادى الآخرة وصل السلطان بعسكره إلى الفرات لأنه بلغه أن طائفة من التتار هنالك فخاض إليهم الفرات بنفسه وجنده، وقتل من أولئك مقتلة كبيرة وخلقا كثيرا، وكان أول من اقتحم الفرات يومئذ الأمير سيف الدين قلاوون، وبدر الدين بيسرى، وتبعهما السلطان، ثم فعل بالتتار ما فعل، ثم ساق إلى ناحية البيرة وقد كانت محاصرة بطائفة من التتار أخرى.

فلما سمعوا بقدومه هربوا وتركوا أموالهم وأثقالهم، ودخل السلطان إلى البيرة في أبهة عظيمة وفرق في أهلها أموالا كثيرة، ثم عاد إلى دمشق في ثالث جمادى الآخرة ومعه الأسرى.

وخرج منها في سابعه إلى الديار المصرية، وخرج ولده الملك السعيد لتلقيه ودخلا إلى القاهرة، وكان يوما مشهودا.

ومما قاله القاضي شهاب الدين محمود الكاتب، وأولاده يقال لهم بنو الشهاب محمود، في خوض السلطان الفرات بالجيش:

سر حيث شئت لك المهيمن جار ** واحكم فطوع مرادك الأقدار

لم يبق للدين الذي أظهرته ** يا ركنه عند الأعادي ثار

لما تراقصت الرؤوس تحركت ** من مطربات قسيك الأوتار

خضت الفرات بعسكر أفضى به ** موج الفرات كما أتى الأثار

حملتك أمواج الفرات ومن رأى ** بحرا سواك تقله الأنهار

وتقطعت فرقا ولم يك طودها ** إذ ذاك إلا جيشك الجرار

وقال بعض من شاهد ذلك:

ولما تراءينا الفرات بخيلنا ** سكرناه منا بالقنا والصوارم

ولجنا فأوقف التيار عن جريانه ** إلى حين عدنا بالغنى والغنائم

وقال آخر ولا بأس به:

الملك الظاهر سلطاننا ** نفديه بالأموال والأهل

اقتحم الماء ليطفي به ** حرارة القلب من المغل

وفي يوم الثلاثاء ثالث رجب خلع على جميع الأمراء من حاشيته ومقدمي الحلقة وأرباب الدولة وأعطى كل إنسان ما يليق به من الخيل والذهب والحوايص، وكان مبلغ ما أنفق بذلك نحو ثلاثمائة ألف دينار.

وفي شعبان أرسل السلطان إلى منكوتمر هدايا عظيمة وفي يوم الاثنين ثاني عشر شوال استدعى السلطان شيخه الشيخ خضر الكردي إلى بين يديه إلى القلعة وحوقق على أشياء كثيرة، ارتكبها فأمر السلطان عند ذلك باعتقاله وحبسه، ثم أمر باغتياله وكان آخر العهد به.

وفي ذي القعدة سلمت الإسماعيلية ما كان بقي بأيديهم من الحصون وهي الكهف والقدموس والمنطقة، وعوضوا عن ذلك بإقطاعات، ولم يبق بالشام شيء لهم من القلاع، واستناب السلطان فيها.

وفيها: أمر السلطان بعمارة جسورة في السواحل، وغرم عليها مالا كثيرا، وحصل للناس بذلك رفق كبير.

من الأعيان:

الشيخ تاج الدين أبو المظفر محمد بن أحمد

ابن حمزة بن علي بن هبة الله بن الحوي، التغلبي الدمشقي، كان من أعيان أهل دمشق، ولي نظر الأيتام والحسبة، ثم وكالة بيت المال، وسمع الكثير وخرج له ابن بليان مشيخة قرأها عليه الشيخ شرف الدين الغراري بالجامع، فسمعها جماعة من الأعيان والفضلاء رحمه الله.

الخطيب فخر الدين أبو محمد عبد القاهر

بن عبد الغني بن محمد بن أبي القاسم بن محمد بن تيمية الحراني الخطيب بها.

وبيته معروف بالعلم والخطابة والرياسة، ودفن بمقبرة الصوفية وقد قارب الستين رحمه الله. وقد سمع الحديث من جده فخر الدين صاحب ديوان (الخطب المشهورة)، توفي بخانقاه القصر ظاهر دمشق.

الشيخ خضر بن أبي بكر المهراني العدوي

شيخ الملك الظاهر بيبرس، كان حظيا عنده مكرما لديه، له عنده المكانة الرفيعة، كان السلطان ينزل بنفسه إلى زاويته التي بناها له في الحسينية، في كل أسبوع مرة أو مرتين، وبنى له عندها جامعا يخطب فيه للجمعة، وكان يعطيه مالا كثيرا، ويطلق له ما أراد، ووقف على زاويته شيئا كثيرا جدا، وكان معظما عند الخاص والعام بسبب حب السلطان وتعظيمه له.

وكان يمازحه إذا جلس عنده، وكان فيه خير ودين وصلاح، وقد كاشف السلطان بأشياء كثيرة، وقد دخل مرة كنيسة القمامة بالمقدس فذبح قسيسها بيده، ووهب ما فيها لأصحابه، وكذلك فعل بالكنيسة التي بالإسكندرية وهي من أعظم كنائسهم، نهبها وحولها مسجدا ومدرسة أنفق عليها أموالا كثيرة من بيت المال، وسماها المدرسة الخضراء، وكذلك فعل بكنيسة اليهود بدمشق، دخلها ونهب ما فيها من الآلات والأمتعة، ومد فيها سماطا، واتخذها مسجدا مدة ثم سعوا إليه في ردها إليهم وإبقائها عليهم.

ثم اتفق في هذه السنة أنه وقعت منه أشياء أنكرت عليه وحوقق عليها عند السلطان الملك الظاهر فظهر له منه ما أوجب سجنه، ثم أمر بإعدامه وهلاكه وكانت وفاته في هذه السنة، ودفن بزاويته سامحه الله.

وقد كان السلطان يحبه محبة عظيمة حتى إنه سمى بعض أولاده خضرا موافقة لاسمه، وإليه تنسب القبة التي على الجبل غربي الربوة التي يقال لها قبة الشيخ خضر.

مصنف التعجيز العلامة تاج الدين عبد الرحيم بن محمد بن يونس بن محمد بن سعد بن مالك أبو القاسم الموصلي

من بيت الفقه والرياسة والتدريس، ولد سنة ثمان وتسعين وخمسمائة.

وسمع واشتغل وحصل وصنف واختصر (الوجيز) من كتابه (التعجيز) واختصر (المحصول) وله طريقة في الخلاف أخذها عن ركن الدين الطاووسي، وكان جده عماد الدين بن يونس شيخ المذهب في وقته كما تقدم.

ثم دخلت سنة اثنتين وسبعين وستمائة

في صفر منها قدم الظاهر إلى دمشق وقد بلغه أن أبغا وصل إلى بغداد فتصيد تلك الناحية، فأرسل إلى العساكر المصرية أن يتأهبوا للحضور، واستعد السلطان لذلك.

وفي جمادى الآخرة أحضر ملك الكرج لبين يديه بدمشق، وكان قد جاء متنكرا لزيارة بيت المقدس فظهر عليه فحمل إلى بين يديه فسجنه بالقلعة.

وفيها: كمل بناء جامع دير الطين ظاهر القاهرة، وصلى فيه الجمعة.

وفيها: سار السلطان إلى القاهرة فدخلها في سابع رجب.

وفي أواخر رمضان دخل الملك السعيد ابن الظاهر إلى دمشق في طائفة من الجيش، فأقام بها شهرا ثم عاد.

وفي يوم عيد الفطر ختن السلطان ولده خضرا الذي سماه باسم شيخه، وختن معه جماعة من أولاد الأمراء، وكان وقتا هائلا.

وفيها: فوض ملك التتار إلى علاء الدين صاحب الديوان ببغداد النظر في تستر وأعمالها، فسار إليها ليتصفح أحوالها فوجد بها شابا من أولاد التجار يقال له (لي)قد قرأ القرآن وشيئا من الفقه و(الإشارات)لابن سينا، ونظر في النجوم.

ثم ادعى أنه عيسى ابن مريم، وصدقه على ذلك جماعة من جهلة تلك الناحية، وقد أسقط لهم من الفرائض صلاة العصر وعشاء الآخرة، فاستحضره وسأله عن ذلك فرآه ذكيا، إنما يفعل ذلك عن قصد، فأمر به فقتل بين يديه جزاه الله خيرا، وأمر العوام فنهبوا أمتعته وأمتعة العوام ممن كان اتبعه.

من الأعيان:

مؤيد الدين أبو المعالي الصدر الرئيس

أسعد بن غالب المظفري ابن الوزير مؤيد الدين أسعد بن حمزة بن أسعد بن علي بن محمد التميمي ابن القلانسي.

جاوز التسعين وكان رئيسا كبيرا واسع النعمة، لا يغفل أن يباشر شيئا من الوظائف وقد ألزموه بعد ابن سويد بمباشرة مصالح السلطان فباشرها بلا جامكية، وكانت وفاته ببستانه، ودفن بسفح قاسيون يوم الثلاثاء ثالث عشر المحرم.

والد الصدر عز الدين حمزة رئيس البلدين دمشق والقاهرة، وحدهم مؤيد الدين أسعد بن حمزة الكبير كان وزيرا للملك الأفضل علي بن الناصر فاتح القدس، كان رئيسا فاضلا، له كتاب (الوصية في الأخلاق المرضية) وغير ذلك، وكانت له يد جيدة في النظم، فمن ذلك قوله:

يا رب جد لي إذا ما ضمني جدثي ** برحمة منك تنجيني من النار

أحسن جواري إذا أمسيت جارك في ** لحدي فإنك قد أوصيت بالجار

وأما والد حمزة بن أسعد بن علي بن محمد التميمي فهو العميد، وكان يكتب جيدا وصنف تاريخا فيما بعد سنة أربعين وأربعمائة إلى سنة وفاته في خمس وخمسمائة.

الأمير الكبير فارس الدين أقطاي

المستعربي أتابك الديار المصرية، كان أولا مملوكا لابن يمن، ثم صار مملوكا للصالح أيوب فأمره، ثم عظم شأنه في دولة المظفر وصار أتابك العساكر، فلما قتل امتدت أطماع الأمراء إلى المملكة فبايع أقطاي الملك الظاهر فتبعه الجيش على ذلك، وكان الظاهر يعرفها له ولا ينساها، ثم قبل وفاته بقليل انهضم عند الظاهر، ومات في هذه السنة بالقاهرة.

الشيخ عبد الله بن غانم ابن علي بن إبراهيم بن عساكر بن الحسين المقدسي

له زاوية بنابلس، وله أشعار رائقة، وكلام قوي في علم التصوف، وقد طول اليونيني ترجمته وأورد من أشعاره شيئا كثيرا.

قاضي القضاة كمال الدين أبو الفتح عمر بن بندار بن عمر بن علي التفليسي الشافعي

ولد بتفليس سنة إحدى وستمائة، وكان فاضلا أصوليا مناظرا، ولي نيابة الحكم مدة ثم استقل بالقضاء في دولة هلاوون - هولاكو - وكان عفيفا نزها لم يرد منصبا ولا تدريسا مع كثرة عياله وقلة ماله، ولما انقضت أيامهم تغضب عليه بعض الناس ثم ألزم بالمسير إلى القاهرة، فأقام بها يفيد الناس إلى أن توفي في ربيع الأول من هذه السنة، ودفن بالقرافة الصغرى.

إسماعيل بن إبراهيم بن شاكر بن عبد الله التنوخي

وتنوخ من قضاعة، كان صدرا كبيرا، وكتب الإنشاء للناصر داود بن المعظم، وتولى نظر المارستان النوري وغيره، وكان مشكور السيرة، وقد أثنى عليه غير واحد، وقد جاوز الثمانين، ومن شعره قوله:

خاب رجاء امرئ له أمل ** بغير رب السماء قد وصله

أيبتغي غيره أخو ثقة ** وهو ببطن الأحشاء قد كفله

وله أيضا:

خرس اللسان وكل عن ** أوصافكم ماذا يقول وأنتم ما أنتم

الأمر أعظم من مقالة قائل ** قد تاه عقل أن يعبر عنكم

العجز والتقصير وصفي دائما ** والبر والإحسان يعرف منكم

ابن مالك صاحب الألفية

الشيخ جمال الدين محمد بن عبد الله بن مالك أبو عبد الله الطائي الجياني النحوي، صاحب التصانيف المشهورة المفيدة، منها (الكافية الشافية) وشرحها، و(التسهيل) وشرحه، و(الألفية) التي شرحها ولده بدر الدين شرحا مفيدا.

ولد بجيان سنة ستمائة وأقام بحلب مدة، ثم بدمشق.

وكان كثير الاجتماع بابن خلكان وأثنى عليه غير واحد، وروى عنه القاضي بدر الدين بن جماعة، وأجاز لشيخنا علم الدين البرزالي.

توفي ابن مالك بدمشق ليلة الأربعاء ثاني عشر رمضان، ودفن برتبة القاضي عز الدين بن الصائغ بقاسيون.

النصير الطوسي

محمد بن عبد الله الطوسي، كان يقال له المولى نصير الدين، ويقال الخواجا نصير الدين، اشتغل في شبيبته وحصل علم الأوائل جيدا، وصنف في ذلك في علم الكلام، وشرح (الإشارات) لابن سينا، و وزر لأصحاب قلاع الألموت من الإسماعيلية، ثم وزر لهولاكو، وكان معه في واقعة بغداد، ومن الناس من يزعم أنه أشار على هولاكو خان بقتل الخليفة فالله أعلم، وعندي أن هذا لا يصدر من عاقل ولا فاضل.

وقد ذكره بعض البغاددة فأثنى عليه، وقال: كان عاقلا فاضلا كريم الأخلاق ودفن في مشهد موسى بن جعفر في سرداب كان قد أعد للخليفة الناصر لدين الله، وهو الذي كان قد بنى الرصد بمراغة، ورتب فيه الحكماء من الفلاسفة والمتكلمين والفقهاء والمحدثين والأطباء وغيرهم من أنواع الفضلاء.

وبنى له فيه قبة عظيمة، وجعل فيه كتبا كثيرة جدا، توفي في بغداد في ثاني عشر ذي الحجة من هذه السنة، وله خمس وسبعون سنة، وله شعر جيد قوي وأصل اشتغاله على المعين سالم بن بدار بن علي المصري المعتزلي المتشيع، فنزع فيه عروق كثيرة منه، حتى أفسد اعتقاده.

الشيخ سالم البرقي

صاحب الرباط بالقرافة الصغرى، كان صالحا متعبدا يقصد للزيارة والتبرك بدعائه، وله اليوم أصحاب معروفون على طريقه.

ثم دخلت سنة ثلاث وسبعين وستمائة

فيها اطلع السلطان على ثلاثة عشر أميرا منهم قجقار الحموي.

وقد كانوا كاتبوا التتر يدعونهم إلى بلاد المسلمين، وأنهم معهم على السلطان، فأخذوا فأقروا بذلك، وجاءت كتبهم مع البريدية وكان آخر العهد بهم.

وفيها: أقبل السلطان بالعساكر فدخل بلاد سيس يوم الاثنين الحادي والعشرين من رمضان، فقتلوا خلقا لا يعلمهم إلا الله وغنموا شيئا كثيرا من الأبقار والأغنام والأثقال والدواب والأنعام، فبيع ذلك بأرخص ثمن، ثم عاد فدخل دمشق مؤيدا منصورا في شهر ذي الحجة فأقام بها حتى دخلت السنة.

وفيها: ثار على أهل الموصل رمل حتى عم الأفق وخرجوا من دورهم يبتهلون إلى الله حتى كشف ذلك عنهم، والله تعالى أعلم.

من الأعيان:

ابن عطاء الحنفي قاضي القضاة شمس الدين

أبو محمد عبد الله بن الشيخ شرف الدين محمد بن عطاء بن حسن بن عطاء بن جبير بن جابر بن وهيب الأذرعي الحنفي، ولد سنة خمس وتسعين وخمسمائة، سمع الحديث وتفقه على مذهب أبي حنيفة.

وناب في الحكم عن الشافعي مدة، ثم استقل بقضاء الحنفية أول ما ولى القضاة من المذاهب الأربعة، ولما وقعت الحوطة على أملاك الناس أراد السلطان منه أن يحكم بها بمقتضى مذهبه، فغضب من ذلك فقال: هذه أملاك بيد أصحابها، وما يحل لمسلم أن يتعرض لها ثم نهض من المجلس فذهب.

فغضب السلطان من ذلك غضبا شديدا، ثم سكن غضبه فكان يثني عليه بعد ذلك ويمدحه، ويقول: لا تثبتوا كتبا إلا عنه.

كان ابن عطاء من العلماء الأخيار كثير التواضع قليل الرغبة في الدنيا، روى عنه ابن جماعة وأجاز للبرزالي.

توفي يوم الجمعة تاسع جمادى الأولى، ودفن بالقرب من المعظمية بسفح قاسيون رحمه الله تعالى.

بيمند بن بيمند بن بيمند

ابرنس طرابلس الفرنجي، كان جده نائبا لبنت صيحل الذي تملك طرابلس من ابن عمار في حدود الخمسمائة، وكانت يتيمة تسكن بعض جزائر البحر، فتغلب هذا على البلد لبعدها عنه.

ثم استقل بها ولده ثم حفيده هذا، وكان شكلا مليحا.

قال قطب الدين اليونيني: رأيته في بعلبك في سنة ثمان وخمسين وستمائة حين جاء مسلما على كتبغانوين، ورام أن يطلب منه بعلبك، فشق ذلك على المسلمين.

ولما توفي دفن في كنيسة طرابلس، ولما فتحها المسلمون في سنة ثمان وثمانين وستمائة نبش الناس قبره وأخرجوه منه وألقوا عظامه على المزابل للكلاب.

ثم دخلت سنة أربع وسبعين وستمائة

لما كان يوم الخميس ثامن جمادى الأولى نزل التتار على البيرة في ثلاثين ألف مقاتل، خمسة عشر ألفا من المغول، وخمسة عشر ألفا من الروم، والمقدم على الجميع البرواناه بأمر أبغا ملك التتار ومعهم جيش الموصل وجيش ماردين والأكراد، ونصبوا عليها ثلاثة وعشرين منجنيقا.

فخرج أهل البيرة في الليل فكبسوا عسكر التتار وأحرقوا المنجنيقات ونهبوا شيئا كثيرا، ورجعوا إلى بيوتهم سالمين، فأقام عليها الجيش مدة إلى تاسع عشر الشهر المذكور، ثم رجعوا عنها بغيظهم لم ينالوا خيرا وكفى الله المؤمنين القتال، وكان الله قويا عزيزا.

ولما بلغ السلطان نزول التتار على البيرة أنفق في الجيش ستمائة ألف دينار، ثم ركب سريعا وفي صحبته ولده السعيد، فلما كان في أثناء الطريق بلغه رحيل التتار عنها فعاد إلى دمشق، ثم ركب في رجب إلى القاهرة فدخلها في ثامن عشر فوجد بها خمسة وعشرين رسولا من جهة ملوك الأرض ينتظرونه فتلقوه وحدثوه وقبلوا الأرض بين يديه ودخل القلعة في أبهة عظيمة.

ولما عاد البرواناه إلى بلاد الروم حلف الأمراء الكبار منهم شرف الدين مسعود وضياء الدين محمود ابنا الخطيري، وأمين الدين ميكائيل، وحسام الدين ميجار، وولده بهاء الدين، على أن يكونوا من جهة السلطان الملك الظاهر وينابذوا أبغا، فحلفوا له على ذلك.

وكتب إلى الظاهر بذلك، وأن يرسل إليه جيشا ويحمل له ما كان يحمله إلى التتار، ويكون غياث الدين كنجري على ما هو عليه، يجلس على تخت مملكة الروم.

وفي هذه السنة استسقى أهل بغداد ثلاثة أيام فلم يسقوا.

وفيها: في رمضان منها وجد رجل وامرأة في نهار رمضان على فاحشة الزنا، فأمر علاء الدين صاحب الديوان برجمهما فرجما، ولم يرجم ببغداد قبلهما قط أحد منذ بنيت. وهذا غريب جدا.

وفيها: استسقى أهل دمشق أيضا مرتين.

في أواخر رجب وأوائل شعبان - وكان ذلك في آخر كانون الثاني - فلم يسقوا أيضا.

وفيها: أرسل السلطان جيشا إلى دنقلة فكسر جيش السودان وقتلوا منهم خلقا وأسروا شيئا كثيرا من السودان بحيث بيع الرقيق الرأس منها بثلاثة دراهم، ورهب ملكهم داوداه إلى صاحب النوبة فأرسله إلى الملك الظاهر محتاطا عليه، وقرر الملك الظاهر على أهل دنقلة جزية تحمل إليه في كل سنة.

كل ذلك كان في شعبان من هذه السنة.

وفيها: عُقِدَ عَقْد الملك السعيد بن الظاهر على بنت الأمير سيف الدين قلاوون الألفي في الإيوان بحضرة السلطان والدولة على صداق خمسة آلاف دينار، تعجل منها ألفا دينار وكان الذي كتبه وقرأه محيي الدين بن عبد الظاهر، فأعطي مائة دينار، وخلع عليه.

ثم ركب السلطان مسرعا فوصل إلى حصن الكرك فجمع القيمرية الذين به فإذا هم ستمائة نفر، فأمر بشنقهم فشفع فيهم عنده فأطلقهم وأجلاهم منه إلى مصر، كان قد بلغه عنهم انهم يريدون قتل من فيه ويقيموا ملكا عليهم، وسلم الحصن إلى الطواشي شمس الدين رضوان السهيلي، ثم عاد في بقية الشهر إلى دمشق فدخلها يوم الجمعة ثامن عشر الشهر.

وفيها: كانت زلزلة بأخلاط واتصلت ببلاد بكر.

من الأعيان:

الشيخ الإمام العلامة الأديب تاج الدين أبو الثناء محمود بن عابد بن الحسين بن محمد بن علي التميمي الصرخدي الحنفي

كان مشهورا بالفقه والأدب، والعفة والصلاح، ونزاهة النفس ومكارم الأخلاق.

ولد سنة ثمان وسبعين وخمسمائة وسمع الحديث وروى، ودفن بمقابر الصوفية في ربيع الآخر منها، وله ست وتسعون سنة رحمه الله.

الشيخ الإمام عماد الدين عبد العزيز بن محمد

ابن عبد القادر بن عبد الله بن خليل بن مقلد الأنصاري الدمشقي، المعروف بابن الصائغ، كان مدرسا بالعذراوية وشاهدا بالخزانة بالقلعة يعرف الحساب جيدا، وله سماع ورواية، ودفن بقاسيون.

ابن الساعي المؤرخ

تاج الدين بن المحتسب المعروف بابن الساعي البغدادي، ولد سنة ثلاث وتسعين وسمع الحديث واعتنى بالتاريخ، وجمع وصنف، ولم يكن بالحافظ ولا الضابط المتقن.

وقد أوصى إليه ابن النجار حين توفي، وله تاريخ كبير عندي أكثره، ومصنفات أخر مفيدة، وآخر ما صنف كتاب في الزهاد، كتب في حاشيته زكي الدين عبد الله بن حبيب الكاتب:

ما زال تاج الدين طول المدى ** من عمره يعتق في السير

في طلب العلم وتدوينه ** وفعله نفع بلا ضير

علا علي بتصانيفه ** وهذه خاتمة الخير

ثم دخلت سنة خمس وسبعين وستمائة

في ثالث عشر المحرم منها دخل السلطان إلى دمشق وسبق العساكر إلى بلاد حلب، فلما توافت إليه أرسل بين يديه الأمير بدر الدين الأتابكي بألف فارس إلى البلستين.

فصادف بها جماعة من عسكر الروم فركبوا إليه وحملوا إليه الإقامات، وطلب جماعة منهم أن يدخلوا بلاد الإسلام فأذن لهم، فدخل طائفة منهم بيجار وابن الخطير، فرسم لهم أن يدخلوا القاهرة فتلقاهم الملك السعيد، ثم عاد السلطان من حلب إلى القاهرة فدخلها في ثاني عشر ربيع الآخر.

وفي خامس جمادى الأولى عمل السلطان عرس ولده الملك السعيد على بنت قلاوون، واحتفل السلطان به احتفالا عظيما، وركب الجيش في الميدان خمسة أيام يلعبون ويتطاردون، ويحمل بعضهم على بعض، ثم خلع على الأمراء وأرباب المناصب.

وكان مبلغ ما خلع ألف وثلاثمائة خلعة بمصر، وجاءت مراسيمه إلى الشام بالخلع على أهلها، ومد السلطان سماطا عظيما حضره الخاص والعام، والشارد والوارد، وحبس فيه رسل التتار ورسل الفرنج وعليهم كلهم الخلع الهائلة، وكان وقتا مشهودا، وحمل صاحب حماه هدايا عظيمة وركب إلى مصر للتهنئة.

وفي حادي عشر شوال طيف بالمحمل وبكسوة الكعبة المشرفة بالقاهرة، وكان يوما مشهودا.

وقعة البلستين وفتح قيسارية

ركب السلطان من مصر في العساكر فدخل دمشق في سابع عشر شوال.

فأقام بها ثلاثة أيام، ثم سار حتى دخل حلب في مستهل ذي القعدة، فأقام بها يوما ورسم لنائب حلب أن يقيم بعسكر حلب على الفرات لحفظ المنائر وسار السلطان فقطع الدربند في نصف يوم، ووقع سنقر الأشقر في أثناء الطريق بثلاثة آلاف من المغول فهزمهم يوم الخميس تاسع ذي القعدة وصعد العسكر على الجبال فأشرفوا على وطأة البلستين فرأوا التتار قد رتبوا عسكرهم وكانوا أحد عشر ألف مقاتل.

وعزلوا عنهم عسكر الروم خوفا من مخامرتهم، فلما ترآى الجمعان حملت ميسرة التتار فصدمت سناجق السلطان، ودخلت طائفة منهم بينهم فشقوها، وساقت إلى الميمنة، فلما رأى السلطان ذلك أردف المسلمين بنفسه ومن معه.

ثم لاحت منه التفاتة فرأي الميسرة قد كادت أن تتحطم فأمر جماعة من الأمراء بأردافها، ثم حمل العسكر جميعه حملة واحدة على التتار فترجلوا إلى الأرض عن آخرهم، وقاتلوا المسلمين قتالا شديدا، وصبر المسلمون صبرا عظيما.

فأنزل الله نصره على المسلمين، فأحاطت بالتتار العساكر من كل جانب، وقتلوا منهم خلقا كثيرا، وقتل من المسلمين أيضا جماعة، وكان في جملة من قتل من سادات المسلمين الأمير الكبير ضياء الدين ابن الخطير، وسيف الدين قيماز، وسيف الدين بنجو الجاشنكير، وعز الدين أيبك الثقفي، وأسر جماعة من أمراء المغول، ومن أمراء الروم، وهرب البرواناه فنجا بنفسه.

ودخل قيسارية في بكرة الأحد ثاني عشرة ذي القعدة، وأعلم أمراء الروم ملكهم بكسرة التتار على البلستين، وأشار عليهم بالهزيمة فانهزموا منها وأخلوها، فدخلها الملك الظاهر وصلى بها الجمعة سابع ذي القعدة، وخطب له بها، ثم كر راجعا مؤيدا منصورا.

وسارت البشائر إلى البلدان ففرح المؤمنون يومئذ بنصر الله.

ولما بلغ خبر هذه الوقعة أبغا جاء حتى وقف بنفسه وجيشه، وشاهد مكان المعركة ومن فيها من قتلى المغول، فغاظه ذلك وأعظمه وحنق على البرواناه إذ لم يعلمه بجلية الحال، وكان يظن أمر الملك الظاهر دون هذا كله، واشتد غضبه على أهل قيسارية وأهل تلك الناحية، فقتل منهم قريبا من مائتي ألف، وقيل قتل منهم خمسمائة ألف من قيسارية وأرزن الروم، وكان في جملة من قتل القاضي جلال الدين حبيب، فإنا لله وإنا إليه راجعون.

من الأعيان:

الشيخ أبو الفضل ابن الشيخ عبيد بن عبد الخالق الدمشقي

ودفن بالقرب من الشيخ أرسلان.

قال الشيخ علم الدين وكان يذكر أن مولده كان سنة أربع وستين وخمسمائة.

الطواشي يمن الحبشي شيخ الخدم بالحرم الشريف

كان دينا عاقلا عدلا صادق اللهجة، مات في عشر السبعين رحمه الله.

الشيخ المحدث شمس الدين أبو العباس أحمد بن محمد بن عبد الله بن أبي بكر الموصلي

ثم الدمشقي الصوفي، سمع الكثير وكتب الكتب الكبار بخط رفيع جيد واضح، جاوز السبعين ودفن بباب الفراديس.

الشاعر شهاب الدين أبو المكارم

محمد بن يوسف بن مسعود بن بركة بن سالم بن عبد الله الشيباني التلعفري، صاحب ديوان الشعر، جاوز الثمانين، مات بحماة، وكان الشعراء مقرين له معترفين بفضله وتقدمه في هذا الفن.

ومن شعره قوله:

لساني طري منك يا غاية المنى ** ومن ولهي أني خطيب وشاعر

فهذا لمعنى حسن وجهك ناظم ** وهذا لدمعي في تجنيك ناشر

القاضي شمس الدين علي بن محمود بن علي بن عاصم الشهرزوري الدمشقي

مدرس القيمرية بشرط واقفها له ولذريته من بعده التدريس من تأهل منهم، فدرس بها إلى أن توفي في هذه السنة، ودرس بعده ولده صلاح الدين.

ثم ابن ابنه بعد ابن جماعة، وطالت مدة حفيده.

وقد ولى شمس الدين على نيابة ابن خلكان في الولاية الأولى، وكان فقيها جيدا نقالا للمذهب، رحمه الله.

وقد سافر مع ابن العديم لبغداد فسمع بها ودفن بمقابر الصوفية بالقرب من ابن الصلاح.

الشيخ الصالح العالم الزاهد أبو إسحاق إبراهيم بن سعد الله بن جماعة

بن علي بن جماعة بن حازم بن سنجر الكناني الحموي له معرفة بالفقه والحديث، ولد سنة ست وتسعين بحماة، وتوفي بالقدس الشريف ودفن بماملا وسمع من الفخر ابن عساكر، وروى عنه ولده قاضي القضاة بدر الدين ابن جماعة.

الشيخ الصالح جندل بن محمد المنيني

كانت له عبادة وزهادة وأعمال صالحة، وكان الناس يترددون إلى زيارته بمنين، وكان يتكلم بكلام كثير لا يفهمه أحد من الحاضرين بألفاظ غريبة، وحكى عنه الشيخ تاج الدين أنه سمعه يقول: ما تقرب أحد إلى الله بمثل الذل له والتضرع إليه، وسمعه يقول الموله منفي من طريق الله يعتقد أنه واصل ولو علم أنه منفي رجع عما هو فيه، لأن طريق القوم من أهل السلوك لا يثبت عليها إلا ذوو العقول الثابتة.

وكان يقول: السماع وظيفة أهل البطالة.

قال الشيخ تاج الدين: وكان الشيخ جندل من أهل الطريق وعلماء التحقيق.

قال: وأخبرني في سنة إحدى وستين وستمائة أنه قد بلغ من العمر خمسا وتسعين سنة.

قلت على هذا فيكون قد جاوز المائة، لأنه توفي في رمضان من هذه السنة، ودفن في زاويته المشهورة بقرية منين، وتردد الناس لقبره يصلون عليه من دمشق وأعمالها أياما كثيرة رحمه الله.

محمد بن عبد الرحمن بن محمد الحافظ بدر الدين أبو عبد الله بن الفويرة السلمي الحنفي

اشتغل على الصدر سليمان وابن عطاء وفي النحو على ابن مالك، وحصل وبرع ونظم ونثر، ودرس في الشبلية والقصاعين.

وطلب لنيابة القضاء فامتنع، وكتب الكتاب المنسوبة.

رآه بعض أصحابه في المنام بعد وفاته فقال: ما فعل الله بك؟ فأنشأ يقول:

ما كان لي من شافع عنده ** غير اعتقادي أنه واحد

وكانت وفاته في جمادى الآخرة ودفن بظاهر دمشق رحمه الله.

محمد بن عبد الوهاب بن منصور شمس الدين أبو عبد الله الحراني الحنبلي

تلميذ الشيخ مجد الدين ابن تيمية، وهو أول من حكم بالديار المصرية من الحنابلة نيابة عن القاضي تاج الدين ابن بنت الأعز، ثم ولى شمس الدين ابن الشيخ العماد القضاء مستقلا فاستناب به، ثم ترك ذلك ورجع إلى الشام يشتغل ويفتى إلى أن توفي وقد نيف على الستين رحمه الله.

ثم دخلت سنة ست وسبعين وستمائة

فيها كانت وفاة الملك الظاهر ركن الدين بيبرس، صاحب البلاد المصرية والشامية والحلبية وغير ذلك، وأقام ولده ناصر الدين أبا المعالي محمد بركه خان الملقب السعيد من بعده، ووفاة الشيخ محيي الدين النووي إمام الشافعية فيها في اليوم السابع من المحرم منها.

ودخل السلطان الملك الظاهر من بلاد الروم وقد كسر التتار على البلستين، ورجع مؤيدا منصورا فدخل دمشق وكان يوم دخوله يوما مشهودا، فنزل بالقصر الأبلق الذي بناه غربي دمشق بين الميدانين الأخضرين.

وتواترت الأخبار إليه بأن أبغا جاء إلى المعركة ونظر إليها وتأسف على من قتل من المغول وأمر بقتل البرواناه وذكروا أنه قد عزم على قصد الشام، فأمر السلطان بجمع الأمراء وضرب مشورة فاتفق مع الأمراء على ملاقاته حيث كان من البقاع، وتقدم بضرب الدهليز على القصر، ثم جاء الخبر بأن أبغا قد رجع إلى بلاده فأمر برد الدهليز وأقام بالقصر الأبلق يجتمع عنده الأعيان والأمراء والدولة في أسر حال، وأنعم بال.

وأما أبغا فإنه أمر بقتل البرواناه - وكان نائبه على بلاد الروم - وكان اسمه معين الدين سليمان ابن علي بن محمد بن حسن، وإنما قتله لأنه اتهمه بممالأته للملك الظاهر، وزعم أنه هو الذي حسن له دخول بلاد الروم، وكان البرواناه شجاعا حازما كريما جوادا، وله ميل إلى الملك الظاهر، وكان قد جاوز الخمسين لما قتل.

ثم لما كان يوم السبت خامس عشر المحرم توفي الملك القاهر بهاء الدين عبد الملك بن السلطان المعظم عيسى بن العادل أبي بكر بن أيوب، عن أربع وستين سنة، وكان رجلا جيدا سليم الصدر كريم الأخلاق، لين الكلمة كثير التواضع، يعاني ملابس العرب ومراكبهم، وكان معظما في الدولة شجاعا مقداما.

وقد روى عن ابن الليثي وأجاز للبرزالي.

قال البرزالي ويقال إنه سم، وذكر غيره أن السلطان الملك الظاهر سمه في كأس خمر ناوله إياه فشربه وقام السلطان إلى المرتفق ثم عاد وأخذ الساقي الكأس من يد القاهر فملأه وناوله السلطان الظاهر والساقي لا يشعر بشيء مما جرى.

وأنسى الله السلطان ذلك الكأس، أو ظن أنه غيره لأمر يريده الله ويقضيه، وكان قد بقي في الكأس بقية كثيرة من ذلك السم، فشرب الظاهر ما في الكأس ولم يشعر حتى شربه فاشتكى بطنه من ساعته، ووجد الوهج والحر والكرب الشديد من فوره.

وأما القاهر فإنه حمل إلى منزله وهو مغلوب فمات من ليلته، وتمرض الظاهر من ذلك أياما حتى كانت وفاته يوم الخميس بعد الظهر في السابع والعشرين من المحرم بالقصر الأبلق، وكان ذلك يوما عظيما على الأمراء.

وحضر نائب السلطنة عز الدين أيدمر وكبار الأمراء والدولة، فصلوا عليه سرا وجعلوه في تابوت ورفعوه إلى القلعة من السور وجعلوه في بيت من بيوت البحرية إلى أن نقل إلى تربته التي بناها ولده له بعد موته، وهي دار العقيقي تجاه العادلية الكبيرة، ليلة الجمعة خامس رجب من هذه السنة.

وكتم موته فلم يعلم جمهور الناس به حتى إذا كان العشر الأخير من ربيع الأول، وجاءت البيعة لولده السعيد من مصر فحزن الناس عليه حزنا شديدا، وترحموا عليه ترحما كثيرا، وجددت البيعة أيضا بدمشق وجاء تقليد النيابة بالشام مجددا إلى عز الدين أيدمر نائبها.

وقد كان الملك الظاهر شهما شجاعا عالي الهمة بعيد الغور مقداما جسورا معتنيا بأمر السلطنة، يشفق على الإسلام، متحليا بالملك، له قصد صالح في نصرة الإسلام وأهله، وإقامة شعار الملك واستمرت أيامه من يوم الأحد سابع عشر ذي القعدة سنة ثمان وخمسين إلى هذا الحين.

ففتح في هذه المدة فتوحات كثيرة قيسارية، وأرسون ويافا، والشقيف، وإنطاكية، وبعراس، وطبرية، والقصير، وحصن الأكراد، وحصن عكار، والغرين، وصافينا وغير ذلك من الحصون المنيعة التي كانت بأيدي الفرنج.

ولم يدع مع الإسماعيلية شيئا من الحصون، وناصف الفرنج على المرقب، وبانياس وبلاد انطرسوس، وسائر ما بقي بأيديهم من البلاد والحصون، وولى في نصيبه مما ناصفهم عليه النواب والعمال وفتح قيسارية من بلاد الروم.

وأوقع بالروم والمغول على البلستين بأسا لم يسمع بمثله من دهور متطاولة، واستعاد من صاحب سيس بلادا كثيرة، وجاس خلال ديارهم وحصونهم، واسترد من أيدي المتغلبين من المسلمين بعلبك، وبصرى، وصرخد، وحمص، وعجلون، والصلت، وتدمر، والرحبة، وتل باشر وغيرها، والكرك، والشوبك، وفتح بلاد النوبة بكمالها من بلاد السودان.

وانتزع بلادا من التتار كثيرة، منها شيرزور، والبيرة، واتسعت مملكته من الفرات إلى أقصى بلاد النوبة، وعمر شيئا كثيرا من الحصون والمعاقل والجسور على الأنهار الكبار، وبنى دار الذهب بقلعة الجبل، وبنى قبة على اثني عشر عمودا ملونة مذهبة.

وصور فيها صور خاصكيته وأشكالهم، وحفر أنهارا كثيرة وخلجانات ببلاد مصر، منها نهر السرداس، وبنى جوامع كثيرة ومساجد عديدة، وجدد بناء مسجد رسول الله حين احترق، ووضع الدرابزينات حول الحجرة الشريفة، وعمل فيه منبرا وسقفه بالذهب.

وجدد المارستان بالمدينة، وجدد قبر الخليل عليه السلام، وزاد في زاويته وما يصرف إلى المقيمين، وبنى على المكان المنسوب إلى قبر موسى عليه السلام قبة قبلي أريحا، وجدد بالقدس أشياء حسنة من ذلك قبة السلسلة، ورمم سقف الصخرة وغيرها.

وبنى بالقدس خانا هائلا بماملاّ، ونقل إليه باب قصر الخلفاء الفاطميين من مصر، وعمل فيه طاحونا وفرنا وبستانا، وجعل للواردين إليه أشياء تصرف إليهم في نفقة وإصلاح أمتعتهم رحمه الله.

وبنى على قبر أبي عبيدة بالقرب من عمتنا مشهدا، ووقف عليه أشياء للواردين إليه، وعمر جسر دامية، وجدد قبر جعفر الطيار بناحية الكرك، ووقف على الزائرين له شيئا كثيرا، وجدد قلعة صفت وجامعها، وجدد جامع الرملة وغيرها في كثير من البلاد التي كانت الفرنج قد أخذتها وخربت جوامعها ومساجدها.

وبنى بحلب دارا هائلة، وبدمشق القصر الأبلق والمدرسة الظاهرية وغيرها، وضرب الدراهم والدنانير الجيدة الخالصة على النصح والمعاملة الجيدة الجارية بين الناس، فرحمه الله.

وله من الأثار الحسنة والأماكن ما لم يبن في زمن الخلفاء وملوك بني أيوب، مع اشتغاله في الجهاد في سبيل الله واستخدم من الجيوش شيئا كثيرا، ورد إليه نحوا من ثلاثة آلاف من المغول فأقطعهم وأمَّر كثيرا منهم، وكان مقتصدا في ملبسه ومطعمه وكذلك جيشه، وهو الذي أنشأ الدولة العباسية بعد دثورها، وبقي الناس بلا خليفة نحوا من ثلاث سنين، وهو الذي أقام من كل مذهب قاضيا مستقلا قاضي قضاة.

وكان رحمه الله متيقظا شهما شجاعا لا يفتر عن الأعداء ليلا ولا نهارا، بل هو مناجز لأعداء الإسلام وأهله، ولم شعثه واجتماع شمله.

وبالجملة أقامه الله في هذا الوقت المتأخر عونا ونصرا للإسلام وأهله، وشجا في حلوق المارقين من الفرنج والتتار، والمشركين.

وأبطل الخمور ونفى الفساق من البلاد، وكان لا يرى شيئا من الفساد والمفاسد إلا سعى في إزالته بجهده وطاقته.

وقد ذكرنا في سيرته ما أرشد إلى حسن طويته وسريرته، وقد جمع له كاتبه ابن عبد الظاهر سيرة مطولة، وكذلك ابن شداد أيضا.

وقد ترك من الأولاد عشرة: ثلاثة ذكور وسبعة إناث ومات وعمره ما بين الخمسين إلى الستين، وله أوقاف وصلات وصدقات، تقبل الله منه الحسنات، وتجاوز له عن السيئات والله سبحانه أعلم.

وقام في الملك بعده ولده السعيد بمبايعة أبيه له في حال حياته، وكان عمر السعيد يومئذ دون العشرين سنة، وهو من أحسن الأشكال وأتم الرجال، وفي صفر وصلت الهدايا من الفنس مع رسله إلى الديار المصرية فوجدوا السلطان قد مات.

وقد أقيم الملك السعيد ولده مكانه والدولة لم تتغير، والمعرفة بعده ما تنكرت، ولكن البلاد قد فقدت أسدها بل أسدها وأشدها، بل الذي بلغ أشدها، وإذا انفتحت ثغرة من سور الإسلام سدها، وكلما انحلت عقدة من عرى العزائم شدها، وكلما رامت فرقة مارقة من طوائف الطغام أن تلج إلى حومة الإسلام صدها وردها، فسامحه الله، وبل بالرحمة ثراه، وجعل الجنة متقلبه ومثواه.

وكانت العساكر الشامية قد سارت إلى الديار المصرية ومعهم محفة يظهرون أن السلطان بها مريض، حتى وصلوا إلى القاهرة فجددوا البيعة للسعيد بعدما أظهروا موت الملك السديد الذي هو إن شاء الله شهيد.

وفي يوم الجمعة السابع والعشرين من صفر خطب في جميع الجوامع بالديار المصرية للملك السعيد، وصلى على والده الملك الظاهر واستهلت عيناه بالدموع.

وفي منتصف ربيع الأول ركب الملك السعيد بالعصائب على عادته وبين يديه الجيش بكماله المصري والشامي، حتى وصل إلى الجبل الأحمر وفرح الناس به فرحا شديدا، وعمره يومئذ تسع عشرة سنة، وعليه أبهة الملك ورياسة السلطنة.

وفي يوم الاثنين رابع جمادى الأولى فتحت مدرسة الأمير شمس الدين آقسنقر الفارقاني بالقاهرة، بحارة الوزيرية على مذهب أبي حنيفة، وعمل فيها مشيخة حديث وقارئ.

وبعده بيوم عُقِدَ عَقْد ابن الخليفة المستمسك بالله ابن الحاكم بأمر الله على ابنة الخليفة المستنصر ابن الظاهر، وحضر والده والسلطان ووجوه الناس.

وفي يوم السبت تاسع جمادى الأولى شرع في بناء الدار التي تعرف بدار العقيقي، تجاه العادلية، لتجعل مدرسة وتربة للملك الظاهر، ولم تكن قبل ذلك إلا دارا للعقيقي، وهي المجاورة لحمام العقيقي، وأسس أساس التربة في خامس جمادى الآخرة وأسست المدرسة أيضا.

وفي رمضان طلعت سحابة عظيمة بمدينة صفت لمع منها برق شديد، وسطع منها لسان نار، وسمع منها صوت شديد هائل، ووقع منها على منارة صفت صاعقة شقتها من أعلاها إلى أسفلها شقا يدخل الكف فيه.

من الأعيان:

البرواناه في العشر الأول من المحرم.

والملك الظاهر في العشر الأخير منه، وقد تقدم شيء من ترجمتهما.

الأمير الكبير بدر الدين بيلبك بن عبد الله

الخزندار نائب الديار المصرية للملك الظاهر، كان جوادا ممدحا له إلمام ومعرفة بأيام الناس، والتواريخ، وقد وقف درسا بالجامع الأزهر على الشافعية، ويقال إنه سم فمات فلما مات انتقض بعده حبل الملك السعيد، واضطربت أموره.

قاضي القضاة شمس الدين الحنبلي محمد بن الشيخ العماد أبي إسحاق إبراهيم بن عبد الواحد بن علي بن سرور المقدسي

أول من ولي قضاء قضاة الحنابلة بالديار المصرية، سمع الحديث خصوصا علي ابن طبرزد وغيره، ورحل إلى بغداد واشتغل بالفقه، وتفنن في علوم كثيرة، وولي مشيخة سعيد السعداء، وكان شيخا مهيبا حسن الشيبة كثير التواضع والبر والصدقة.

وقد اشترط في قبول الولاية أن لا يكون له عليها جامكية ليقوم في الناس بالحق في حكمه، وقد عزله الظاهر عن القضاء سنة سبعين واعتقله بسبب الودائع التي كانت عنده، ثم أطلقه بعد سنتين فلزم منزله واستقر بتدريس الصالحية إلى أن توفي في أواخر المحرم، ودفن عند عم الحافظ عبد الغني بسفح جبل المقطم، وقد أجاز للبرزالي.

قال الحافظ البرزالي: وفي يوم السبت ثاني عشر ربيع الأول ورد الخبر بموت ستة أمراء من الديار المصرية: سنقر البغدادي، وبسطا البلدي التتري، وبدر الدين الوزيري، وسنقر الرومي، وآق سنقر الفارقاني رحمهم الله.

الشيخ خضر الكردي شيخ الملك الظاهر

خضر بن أبي بكر بن موسى الكردي النهرواني العدوي ويقال إن أصله من قرية المحمدية من جزيرة ابن عمر، كان ينسب إليه أحوال ومكاشفات، ولكنه لما خالط الناس افتتن ببعض بنات الأمراء.

وكان يقول عن الملك الظاهر وهو أمير إنه سيلي الملك، فلهذا كان الملك الظاهر يعتقده ويبالغ في إكرامه بعد أن ولي المملكة، ويعظمه تعظيما زائدا، وينزل عنده إلى زاويته في الأسبوع مرة أو مرتين، ويستصحبه معه في كثير من أسفاره.

ويلزمه ويحترمه ويستشيره فيشير عليه برأيه ومكاشفات صحيحة مطابقة، إما رحمانية أو شيطانية، أوحال أو سعادة، لكنه افتتن لما خالط الناس ببعض بنات الأمراء، وكن لا يحتجبن منه، فوقع في الفتنة.

وهذا في الغالب واقع في مخالطة الناس فلا يسلم المخالط لهم من الفتنة، ولا سيما مخالطة النساء مع ترك الأصحاب، فلا يسلم العبد ألبتة منهن.

فلما وقع ما وقع فيه حوقق عند السلطان وتيسرى وقلاوون والفارس إقطاي الأتابك، فاعترف، فهمّ بقتله فقال له: إنما بيني وبينك أيام قلائل، فأمر بسجنه فسجن سنين عديدة من سنة إحدى وسبعين إلى سنة ست وسبعين.

وقد هدم بالقدس كنيسة وذبح قسيسها وعملها زاوية وقد قدمنا ترجمته قبل ذلك فيما تقدم، ثم لم يزل مسجونا حتى مات في يوم الخميس سادس المحرم من هذه السنة، فأخرج من القلعة وسلم إلى قرابته فدفن في تربة أنشأها في زاويته.

مات وهو في عشر الستين، وقد كان يكاشف السلطان في أشياء، وإليه تنسب قبة الشيخ خضر التي على الجبل غربي الربوة، وله زاوية بالقدس الشريف.

الشيخ محيي الدين النووي

يحيى بن شرف بن حسن بن حسين بن جمعة بن حزام الحازمي العالم، محيي الدين أبو زكريا النووي ثم الدمشقي الشافعي العلامة شيخ المذهب، وكبير الفقهاء في زمانه، ولد بنوى سنة إحدى وثلاثين وستمائة، ونوى قرية من قرى حوران.

وقد قدم دمشق سنة تسع وأربعين، وقد حفظ القرآن فشرع في قراءة التنبيه، فيقال إنه قرأه في أربعة أشهر ونصف، وقرأ ربع العبادات من المذهب في بقية السنة، ثم لزم المشايخ تصحيحا وشرحا، فكان يقرأ في كل يوم اثنا عشر درسا على المشايخ، ثم اعتنى بالتصنيف فجمع شيئا كثيرا، منها ما أكمله ومنها ما لم يكمله، فمما كمل (شرح مسلم)، و(الروضة)، و(المنهاج)، و (الرياض)، و(الأذكار)، و(التبيان)، و(تحرير التنبيه وتصحيحه)، و(تهذيب الأسماء واللغات)، و(طبقات الفقهاء) وغير ذلك.

ومما لم يتممه ولو كمل لم يكن له نظير في بابه: (شرح المهذب) الذي سماه المجموع، وصل فيه إلى كتاب الربا، فأبدع فيه وأجاد وأفاد، وأحسن الانتقاد، وحرر الفقه فيه في المذهب وغيره، وحرر الحديث على ما ينبغي، والغريب واللغة وأشياء مهمة لا توجد إلا فيه، وقد جعله نخبة على ما عن له ولا أعرف في كتب الفقه أحسن منه، على أنه محتاج إلى أشياء كثيرة تزاد فيه وتضاف إليه.

وقد كان من الزهادة والعبادة والورع والتحري والانجماح عن الناس على جانب كبير، لا يقدر عليه أحد من الفقهاء غيره، وكان يصوم الدهر ولا يجمع بين إدامين، وكان غالب قوته مما يحمله إليه أبوه من نوى، وقد باشر تدريس الاقبالية نيابة عن ابن خلكان، وكذلك ناب في الفلكية والركنية، وولي مشيخة دار الحديث الأشرفية.

وكان لا يضيع شيئا من أوقاته، وحج في مدة إقامته بدمشق، وكان يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر للملوك وغيرهم.

توفي في ليلة أربع وعشرين من رجب من هذه السنة بنوى، ودفن هناك رحمه الله وعفا عنا وعنه.

علي بن علي بن أسفنديار

نجم الدين الواعظ بجامع دمشق أيام السبوت في الأشهر الثلاثة، وكان شيخ الخانقاه المجاهدية وبها توفي في هذه السنة، كان فاضلا بارعا، وكان جده يكتب الإنشاء للخليفة الناصر، وأصلهم من بوشنج.

ومن شعر نجم الدين هذا قوله:

إذا زار بالجثمان غيري فإنني ** أزور مع الساعات ربعك بالقلب

وما كل ناء عن ديار نازح ** ولا كل دان في الحقيقة ذو قرب

ثم دخلت سنة سبع وسبعين وستمائة

كان أولها يوم الأربعاء وكان الخليفة الحاكم بأمر الله العباسي، وسلطان البلاد شاما ومصرا وحلبا الملك السعيد.

وفي أوائل المحرم اشتهر بدمشق ولاية ابن خلكان قضاء دمشق عودا على بدء في أواخر ذي الحجة، بعد عزل سبع سنين، فامتنع القاضي عز الدين بن الصائغ من الحكم في سادس المحرم وخرج الناس لتلقي ابن خلكان، فمنهم من وصل إلى الرملة وكان دخوله في يوم الخميس الثالث والعشرين من المحرم، فخرج نائب السلطنة عز الدين أيدمر بجميع الأمراء والمواكب لتلقيه، وفرح الناس بذلك، مدحه الشعراء، وأنشد الفقيه شمس الدين محمد بن جعفر:

لما تولى قضاء الشام حاكمه ** قاضي القضاة أبو العباس ذو الكرم

من بعد سبع شداد قال خادمه ** ذا العام في يغاث الناس بالنعم

وقال سعد الله بن مروان الفارقي:

أذقت الشام سبع سنين جدبا ** غداة هجرته هجرا جميلا

فلما زرت من أرض مصر ** مددت عليه من كفيك نيلا

وقال آخر:

رأيت أهل الشام طرا ** ما فيهم قط غير راض

نالهم الخير بعد شرٍ ** فالوقت بسط بلا انقباض

وعوضوا فرحة بحزن ** قد أنصف الدهر في التقاضي

وسرهم بعد طول غم ** بدور قاضي وعزل قاضي

وكلهم شاكر وشاكٍ ** بحال مستقبل وماض

قال اليونيني: وفي يوم الأربعاء ثالث عشر صفر ذكر الدرس بالظاهرية وحضر نائب السلطنة أيدمر الظاهري وكان درسا حافلا حضره القضاة، وكان مدرس الشافعية الشيخ رشيد الدين محمود بن الفارقي، ومدرس الحنفية الشيخ صدر الدين سليمان الحنفي، ولم يكن بناء المدرسة كمل.

وفي جمادى الأولى باشر قضاء الحنفية صدر الدين سليمان المذكور عوضا عن مجد الدين بن العديم، بحكم وفاته.

ثم توفي صدر الدين سليمان المذكور في رمضان وتولى بعده القضاء حسام الدين أبو الفضائل الحسن بن أنوشروان الرازي الحنفي، الذي كان قاضيا بملطية قبل ذلك.

وفي العشر الأول من ذي القعدة فتحت المدرسة النجيبية وحضر تدريسها ابن خلكان بنفسه، ثم نزل عنها لولده كمال الدين موسى، وفتحت الخانقاه النجيبية، وقد كانتا وأوقافهما تحت الحيطة إلى الآن.

وفي يوم الثلاثاء خامس ذي الحجة دخل السلطان السعيد إلى دمشق وقد زينت له وعملت له قباب ظاهرة وخرج أهل البلد لتلقيه وفرحوا به فرحا عظيما لمحبتهم والده، وصلى عيد النحر بالميدان، وعمل العيد بالقلعة المنصورة، واستوزر بدمشق الصاحب فتح الدين عبد الله بن القيسراني، وبالديار المصرية بعد موت بهاء الدين بن الحنا الصاحب برهان الدين بن الحضر بن الحسن السنجاري.

وفي العشر الأخير من ذي الحجة جهز السلطان العساكر إلى بلاد سيس صحبة الأمير سيف الدين قلاوون الصالحي، وأقام السلطان بدمشق في طائفة يسيرة من الأمراء والخاصكية والخواص، وجعل يكثر التردد إلى الزنبقية.

وفي يوم الثلاثاء السادس والعشرين من ذي الحجة جلس السلطان بدار العدل داخل باب النصر، وأسقط ما كان حدده والده على بساتين أهل دمشق، فتضاعفت له منهم الأدعية وأحبوه لذلك حبا شديدا، فإنه كان قد أجحف بكثير من أصحاب الأملاك، وود كثير منهم لو تخلص من ملكه جملة سبب ما عليه.

وفيها: طلب من أهل دمشق خمسين ألف دينار ضربت أجرة على أملاكهم مدة شهرين، وجبيت منهم على القهر والعسف.

من الأعيان:

آقوش بن عبد الله الأمير الكبير جمال الدين النجيبي

أبو سعيد الصالحي، أعتقه الملك نجم الدين أيوب الكامل، وجعله من أكابر الأمراء، وولاه أستاذ داريته، وكان يثق إليه ويعتمد عليه، وكان مولده في سنة تسع أو عشر وستمائة، وولاه الملك الظاهر أيضا أستاذ داريته.

ثم استنابه بالشام تسع سنين، فاتخذ فيها المدرسة النجيبية ووقف عليها أوقافا دارّة واسعة، لكن لم يقرر للمستحقين قدرا يناسب ما وقفه عليهم.

ثم عزله السلطان واستدعاه لمصر فأقام بها مدة بطالا.

ثم مرض بالفالج أربع سنين، وقد عاده في بعضها الملك الظاهر ولم يزل به حتى كانت وفاته ليلة الجمعة خامس شهر ربيع الآخر بالقاهرة بداره بدرب الملوخية، ودفن يوم الجمعة قبل الصلاة بتربته التي أنشأها بالقرافة الصغرى، وقد كان بنى لنفسه تربة بالنجيبية، وفتح لها شباكين إلى الطريق، فلم يقدر دفنه بها.

وكان كثير الصدقة محبا للعلماء محسنا إليهم، حسن الاعتقاد.

شافعي المذهب، متغاليا في السنة ومحبة الصحابة وبغض الروافض، ومن جملة أوقافه الحسان البستان والأراضي التي أوقفها على الجسورة التي قبلي جامع كريم الدين اليوم، وعلى ذلك أوقاف كثيرة، وجعل النظر في أوقافه لابن خلكان.

أيدكين بن عبد الله

الأمير الكبير علاء الدين الشهابي، واقف الخانقاه الشهابية، داخل باب الفرج.

كان من كبار الأمراء بدمشق، وقد ولاه الظاهر بحلب مدة، وكان من خيار الأمراء وشجعانهم، وله حسن ظن بالفقراء والإحسان إليهم، ودفن بتربة الشيخ عمار الرومي بسفح قاسيون، في خامس عشر ربيع الأول، وهو في عشر الخمسين، وخانقاه داخل باب الفرج، وكان لها شباك إلى الطريق. والشهابي نسبة إلى الطواشي شهاب الدين رشيد الكبير الصالحي.

قاضي القضاة صدر الدين سليمان بن أبي العز

ابن وهيب أبو الربيع الحنفي شيخ الحنفية في زمانه، وعالمهم شرقا وغربا، أقام بدمشق مدة يفتي ويدرس، ثم انتقل إلى الديار المصرية يدرس بالصالحية، ثم عاد إلى دمشق فدرس بالظاهرية.

وولي القضاء بعد مجد الدين بن العديم ثلاثة أشهر، ثم كانت وفاته ليلة الجمعة سادس شعبان، ودفن في الغد بعد الصلاة بداره بسفح قاسيون، وله ثلاث وثمانون سنة، ومن لطيف شعره في مملوك تزوج جارية للملك المعظم:

يا صاحبي قفا لي وانظرا عجبا ** أتى به الدهر فينا من عجائبه

البدر أصبح فوق الشمس منزلةً ** وما العلو عليها من مراتبه

أضحى يماثلها حسنا وشاركها ** كفوا وسار إليها في مواكبه

فأشكل الفرق لولا وشى نمنمةٍ ** بصدغه واخضرارٍ فوق شاربه

طه بن إبراهيم بن أبي بكر كمال الدين الهمداني

الإربلي الشافعي، كان أديبا فاضلا شاعرا، له قدرة في تصنيف روبيت، وقد أقام بالقاهرة حتى توفي في جمادى الأولى من هذه السنة، وقد اجتمع مرة بالملك الصالح أيوب، فجعل يتكلم في علم النجوم فأنشده على البديهة هذين البيتين:

دع النجوم لطرقي يعيش بها ** وبالعزيمة فانهض أيها الملك

إن النبي وأصحاب النبي نهوا ** عن النجوم وقد أبصرت ما ملكوا

وكتب إلى صاحب له اسمه شمس الدين يستزيره بعد رمد أصابه فبرأ منه:

يقول لي الكحال عينك قد هدت ** فلا تشغلن قلبا وطب بها نفسا

ولي مدة يا شمس لم أركم بها ** وآية برءِ العين أن تبصر الشمسا

عبد الرحمن بن عبد الله ابن محمد بن الحسن

بن عبد الله بن الحسن بن عفان جمال الدين بن الشيخ نجم الدين البادرائي البغدادي ثم الدمشقي، درس بمدرسة أبيه من بعده حتى حين وفاته يوم الأربعاء سادس رجب، ودفن بسفح قاسيون، وكان رئيسا حسن الأخلاق جاوز خمسين سنة.

قاضي القضاة مجد الدين عبد الرحمن بن جمال الدين

عمر بن أحمد بن العديم، الحلبي، ثم الدمشقي الحنفي، ولي قضاء الحنفية بعد ابن عطاء بدمشق، وكان رئيسا ابن رئيس، له إحسان وكرم أخلاق، وقد ولي الخطابة بجامع القاهرة الكبير، وهو أول حنفي وليه، توفي بجوسقه بدمشق في ربيع الآخر من هذه السنة، ودفن بالتربة التي أنشأها عند زاوية الحريري على الشرف القبلي غربي الزيتون.

الوزير ابن الحنا

علي بن محمد بن سليم بن عبد الله الصاحب بهاء الدين أبو الحسن بن الحنا الوزير المصري، وزير الملك الظاهر وولده السعيد إلى أن توفي في سلخ ذي القعدة، وهو جد جد.

وكان ذا رأي وعزم وتدبير ذا تمكن في الدولة الظاهرية، لا تمضي الأمور إلا عن رأيه وأمره، وله مكارم على الأمراء وغيرهم، وقد امتدحه الشعراء، وكان ابنه تاج الدين وزير الصحبة، وقد صودر في الدولة السعيدية.

الشيخ محمد ابن الظهير اللغوي

محمد بن أحمد بن عمر بن أحمد بن أبي شاكر مجد الدين أبو عبد الله الإربلي الحنفي المعروف بابن الظهير، ولد بإربل سنة ثنتين وستمائة، ثم أقام بدمشق ودرس بالقايمازية وأقام بها حتى توفي بها ليلة الجمعة ثاني عشر ربيع الآخر، ودفن بمقابر الصوفية، وكان بارعا في النحو واللغة.

وكانت له يد طولى في النظم وله ديوان مشهور، وشعر رائق، فمن شعره قوله:

كل حي إلى الممات مآبه ** ومدى عمره سريع ذهابه

يخرب الدار وهي دار بقاء ** ثم يبني ما عما قريب خرابه

عجبا وهو في التراب غريق ** كيف يلهيه طيبه وعلابة؟

كل يوم يزيد نقصا وإن عمـ ** ـر حلت أوصاله أوصابه

والورى في مراحل الدهر ركب ** دائم السير لا يرجى إيابه

فتزود إن التقى خير زاد ** ونصيب اللبيب منه لبابة

وأخو العقل من يقضي بصدق ** شيبته في صلاحه وشبابه

وأخو الجهل يستلذ هوى النفـ ** س فيغدو شهدا لديه مصابة

وهي طويلة جدا قريبة من مائة وخمسين بيتا، وقد أورد الشيخ قطب الدين شيئا كثيرا من شعره الحسن الفائق الرائق.

ابن إسرائيل الحريري

محمد بن سوار بن إسرائيل بن الخضر بن إسرائيل بن الحسن بن علي بن محمد بن الحسين نجم الدين أبو المعالي الشيباني الدمشقي، ولد في يوم الاثنين ثاني عشر ربيع الأول سنة ثلاث وستمائة، وصحب الشيخ علي بن أبي الحسن بن منصور اليسري الحريري، في سنة ثمان عشرة.

وكان قد لبس الخرقة قبله من الشيخ شهاب الدين السهروردي، وزعم أنه أجلسه في ثلاث خلوات، وكان ابن إسرائيل يزعم أن أهله قدموا الشام مع خالد بن الوليد فاستوطنوا دمشق، وكان أديبا فاضلا في صناعة الشعر، بارعا في النظم، ولكن في كلامه ونظمه ما يشير به إلى نوع الحلول والاتحاد على طريقة ابن عربي وابن الفارض وشيخه الحريري والله أعلم بحاله وحقيقة أمره.

توفي بدمشق ليلة الأحد الرابع عشر من ربيع الآخر هذه السنة، عن أربع وسبعين سنة، ودفن بتربة الشيخ رسلان معه داخل القبة، وكان الشيخ رسلان شيخ الشيخ علي المغربل الذي تخرج على يديه الشيخ على الحريري شيخ ابن إسرائيل، فمن شعره قوله:

لقد عادني من لا عج الشوق عائد ** فهل عهد ذات الخال بالسفح عائد؟

وهل نارها بالأجرع الفرد تعتلي ** لمنفردٍ شاب الدجى وهو شاهد؟

نديمي من سعدي أديرا حديثها ** فذكرى هواها والمدامة واحد

منعمة الأطراف رقت محاسنا ** حلى لي في حبها ما أكابد

فللبدر ما لاثت عليه خمارها ** وللشمس ما جالت عليه القلائد

وله:

أيها المعتاض بالنوم السهر ** ذاهلا يسبح في بحر الفكر

سلم الأمر إلى مالكه ** واصطبر فالصبر عقباه الظفر

لا تكونن آيسا من فرجٍ ** إنما الأيام تأتي بالعبر

كدر يحدث في وقت الصفا ** وصفي يحدث في وقت الكدر

وإذا ما ساء دهر مرةٍ ** سر أهليه ومهما ساء سر

فارض عن ربك في أقداره ** إنما أنت أسير للقدر

وله قصيدة في مدح النبي طويلة حسنة سمعها الشيخ كمال الدين ابن الزملكاني وأصحابه علي الشيخ أحمد الأعفف عنه، وأورد له الشيخ قطب الدين اليونيني أشعارا كثيرة.

فمنها قصيدته الدالية المطولة التي أولها:

وافى لي من أهواه جهرا لموعدي ** وأرغم عذالي عليه وحسدي

وزار على شط المزار مطولا ** على مغرمٍ بالوصل لم يتعود

فيا حسن ما أهدى لعيني جماله ** ويا برد ما أهدى إلى قلبي الصدي

ويا صدق أحلامي ببشرى وصاله ** ويانيل آمالي ويا نجح مقصدي

تجلى وجودي إذ تجلى لباطني ** بجدٍ سعيدٍ أو بسعدٍ مجدد

لقد حق لي عشق الوجود وأهله ** وقد علقت كفاي جمعا بموجدي

ثم تغزل فأطال إلى أن قال:

فلما تجلى لي على كل شاهدٍ ** وسامرني بالرمز في كل مشهد

تجنبت تقييد الجمال ترفعا ** وطالعت أسرار الجمال المبدد

وصار سماعي مطلقا منه بدؤه ** وحاشى لمثلي من سماع مقيد

ففي كل مشهود لقلبي شاهدٌ ** وفي كل مسموع له لحن معبد

ثم قال:

وصل في مشاهد الجمال

أراه بأوصاف الجمال جميعها ** بغير اعتقاد للحلو المبعد

ففي كل هيفاء المعاطف غادةً ** وفي كل مصقول السوالف أغيد

وفي كل بدر لاح في ليل شعره ** على كل غصنٍ مائس العطف أملد

وعنه اعتناقي كل قدٍ مهفهفٍ ** ورشفي رضابا كالرحيق المبرد

وفي الدر والياقوت والطيب والحلا ** على كل ساجي الطرف لدن المقلد

وفي حلل الأثواب راقت لناظري ** بزبرجها من مذهبٍ ومورد

وفي الراح والريحان والسمع والغنا ** وفي سجع ترجيع الحمام المغرد

وفي الدوح والأنهار والزهر والندى ** وفي كل بستان وقصرٍ مشيد

وفي الروضة الفيحاء تحت سمائها ** يضاحك نور الشمس نوارها الندى

وفي صفو رقراق الغدير إذا حكى ** وقد جعدته الريح صفحة مبرد

وفي اللهو الأفراح والغفلة التي ** تمكن أهل الفرق من كل مقصد

وعند انتشار الشرب في كل مجلسٍ ** بهيجٍ بأنواع الثمار المنضد

وعند اجتماع الناس في كل جمعةٍ ** وعيدٍ وإظهار الرياش المجدد

وفي لمعان المشرفيات بالوغى ** وفي ميل أعطاف القنا المتأود

المظاهر العلوية

وفي الأعوجيات العتاق إذا انبرت ** تسابق وفد الريح في كل مطرد

وفي الشمس تحكي وهي في برج نورها ** لدى الأفق الشرقي مرآة عسجد

وفي البدر بدر الأفق ليلة تمه ** جلته سماء مثل صرحٍ ممرد

وفي أنجم زانت دجاها كأنها ** نثار لآلٍ في بساطٍ زبرجد

وفي الغيث روى الأرض بعد همودها ** قبال نداء متهم بعد منجد

وفي البرق يبدو موهنا في سحابه ** كباسم ثغر أو حسام مجرد

وفي حسن الخطاب وسرعة الجـ ** ـواب وفي الخط الأنيق المجود

ثم قال:

المظاهر المعنوية

وفي رقة الأشعار راقت لسامعٍ ** بدائعها من مقصر ومقصد

وفي عود عيد الوصل من بعد جفوة ** وفي أمن أحشاء الطريد المشرد

وفي رحمة المعشوق شكوى محبه ** وفي رقة الألفاظ عند التودد

وفي أريحيات الكريم إلى الندى ** وفي عاطفات العفو من كل سيد

وحالة بسط العارفين وأنسهم ** وتحريكهم عند السماع المقيد

وفي لطف آيات الكتاب التي بها ** تنسم روح الوعد بعد التوعد

ثم قال:

المظاهر الجلالية

كذلك أوصاف الجلال مظاهر ** أشاهده فيها بغير تردد

ففي سطوة القاضي الجليل وسمته ** وفي سطوة الملك الشديد الممرد

وفي حدة الغضبان حالة طيشه ** وفي نخوة القرم المهيب المسود

وفي صولة الصهباء جاز مديرها ** وفي بؤس أخلاق النديم المعربد

وفي الحر والبرد اللذين تقسما الز** مان وفي إيلام كل محسد

وفي سر تسليط النفوس بشرها ** علي وتحسين التعدي لمعتدي

وفي عسر العادات يشعر بالقضا ** وتكحيل عين الشمس منه بأثمد

وعند اصطدام الخيل في كل موقفٍ ** يعثر فيه بالوشيج المنضد

وفي شدة الليث الصؤول وبأسه ** وشدة عيش بالسقام منكد

وفي جفوة المحبوب بعد وصاله ** وفي غدره من بعد وعد مؤكد

وفي روعة البين المسيء وموقف الـ ** ـوداع لحران الجوانح مكمد

وفي فرقة الألاّف بعد اجتماعهم ** وفي كل تشتيت وشمل مبدد

وفي كل دار أقفرت بعد أنسها ** وفي طلل بال ودارس معمد

وفي هول أمواج البحار ووحشة الـ ** ـقفار وسيل بالمزاييب مزبد

وعند قيامي بالفرائض كلها ** وحالة تسليم لسر التعبد

وعند خشوعي في الصلاة لعزة الـ ** ـمناجي وفي الأطراق عند التهجد

وحالة إهلال الحجيج بحجهم ** وأعمالهم للعيش في كل فدفد

وفي عسر تخليص الحلال وفترة الـ ** ـملال لقلب الناسك المتعبد

المظاهر الكمالية

وفي ذكريات العذاب وظلمة الـ **حجاب وقبض الناسك المتزهد

ويبدو بأوصاف الكمال فلا أرى ** برؤيته شيئا قبيحا ولا ردي

فكل مسيءٍ لي إليّ كمحسنٍ ** وكل مضل لي إليّ كمرشد

فلا فرق عندي بين أنسٍ ووحشةٍ ** ونورٍ وإظلامٍ ومدنٍ ومبعد

وسيان إفطاري وصومي وفترتي ** وجهدي ونومي وإدعاء تهجدي

أرى تارة في حانة الخمر خالعا ** عذارى وطورا في حنية مسجد

تجلى لسري بالحقيقة مشرب ** فوقتي ممزوج بكشفٍ مسرمد

تعمرت الأوطان بي وتحققت ** مظاهرها عندي بعيني ومشهدي

وقلبي على الأشياء أجمع قلب ** وشربي مقسوم على كل مورد

فهيكل أوثانٍ وديرٍ لراهبٍ ** وبيت لنيرانٍ وقبله معبدي

ومسرح غرلانٍ وحانة قهوةٍ ** وروضة أزهارٍ ومطلع أسعد

وأسرار عرفانٍ ومفتاح حكمةٍ ** وأنفاس وجدانٍ وفيض تبلد

وجيش لضرغامٍ وخدر لكاعب ** وظلمة جيرانٍ ونور لمهتدي

تقابلت الأضداد عندي جميعها ** لمحنة مجهود ومنحة مجتدي

وأحكمت تقرير المراتب صورةً ** ومعنى ومن عين التفرد موردي

فما موطن إلا ولي فيه موقفٌ ** على قدم قامت بحق التفرد

فلا غرو وإن فت الأنام جميعهم ** وقد علقت بحبل من حبال محمد

عليه صلاة الله تشفع دائما ** بروح تحيات السلام المردد

ابن العود الرافضي

أبو القاسم الحسين بن العود نجيب الدين الأسدي الحلي، شيخ الشيعة وإمامهم وعالمهم في أنفسهم، كانت له فضيلة ومشاركة في علوم كثيرة، وكان حسن المحاضرة والمعاشرة، لطيف النادرة، وكان كثير التعبد، بالليل وله شعر جيد، ولد سنة إحدى وثمانين وخمسمائة، وتوفي في رمضان من هذه السنة عن ست وتسعين سنة، والله أعلم بأحوال عباده وسرائرهم ونياتهم.

ثم دخلت سنة ثمان وسبعين وستمائة

كان أولها يوم الأحد والخليفة والسلطان هما المذكوران في التي قبلها، وقد اتفق في هذه السنة أمور عجيبة، وذلك أنه وقع الخلف بين الممالك كلها، اختلفت التتار فيما بينهم واقتتلوا فقتل منهم خلق كثير، واختلفت الفرنج في السواحل وصال بعضهم على بعض وقتل بعضهم بعضا. وكذلك الفرنج الذين في داخل البحور وجزائرها، فاختلفوا واقتتلوا، وقتلت قبائل الأعراب بعضها في بعض قتالا شديدا، وكذلك وقع الخلف بين العشير من الحوارنة وقامت الحرب بينهم على ساق، وكذلك وقع الخلف بين الأمراء الظاهرية بسبب أن السلطان الملك السعيد بن الظاهر لما بعث الجيش إلى سيس أقام بعده بدمشق وأخذ في اللهو واللعب والانبساط مع الخاصكية، وتمكنوا من الأمور.

وبعد عنه الأمراء الكبار، فغضبت طائفة منهم ونابذوه وفارقوه وأقاموا بطريق العساكر الذين توجهوا إلى سيس وغيرهم، فرجعت العساكر إليهم فلما اجتمعوا شعثوا قلوبهم على الملك السعيد، ووحشوا خوطر الجيش عليه.

وقالوا: الملك لا ينبغي له أن يلعب ويلهو إنما همة الملوك في العدل ومصالح المسلمين والذب عن حوزتهم، كما كان أبوه.

وصدقوا فيما قالوا، فإن لعب الملوك والأمراء وغيرهم دليل على زوال النعم وخراب الملك، وفساد الرعية.

ثم راسله الجيش في إبعاد الخاصكية عنه ودنو ذوي الأحلام والنهي إليه كما كان أبوه، فلم يفعل، وذلك أنه كان لا يمكنه ذلك لقوة شوكة الخاصكية

وكثرتهم، فركب الجيش وساروا قاصدين مرج الصفر، ولم يمكنهم العبور على دمشق بل أخذوا من شرقها، فلما اجتمعوا كلهم بمرج الصفر أرسل السلطان أمه إليهم فتلقوها وقبلوا الأرض بين يديها، فأخذت تتألفهم وتصلح الأمور، فأجابوها واشترطوا شروطا على ولدها السلطان، فلما رجعت إليه لم يلتزم بها ولم تمكنه الخاصكية من ذلك، فسارت العساكر إلى الديار المصرية، فساق السلطان خلفهم ليتلافى الأمور قبل تفاقمها وانفراطها، فلم يلحقهم وسبقوه إلى القاهرة، وقد كان أرسل أولاده وأهله وثقله إلى الكرك فحصنهم فيها، وركب في طائفة من الجيش الذين بقوا معه والخاصكية إلى الديار المصرية.

فلما اقترب منها صدوه عنها وقاتلوه فقتل من الفريقين نفر يسير، فأخذه بعض الأمراء فشق به الصفوف وأدخله قلعة الجبل ليسكن الأمر، فما زادهم ذلك إلا نفورا، فحاصروا حينئذ القلعة وقطعوا عنها الماء، وجرت خطوب طويلة وأحوال صعبة.

ثم اتفق الحال بعد ذلك مع الأمير سيف الدين قلاوون الألفي الصالحي - وهو المشار إليه حينئذ - أن يترك الملك السعيد الملك وتعوض بالكرك والشوبك، ويكون في صحبته أخوه نجم الدين خضر، وتكون المملكة إلى أخيه الصغير بدر الدين سلامش، ويكون الأمير سيف الدين قلاوون أتابكه.

خلع الملك السعيد وتولية أخيه الملك العادل سلامش

لما اتفق الحال على ما ذكرنا نزل السلطان الملك السعيد من القلعة إلى دار العدل في سابع عشر الشهر، وهو ربيع الآخر، وحضر القضاة والدولة من أولي الحل والعقد، فخلع السعيد نفسه من السلطنة وأشهدهم على نفسه بذلك، وبايعوا أخاه بدر الدين سلامش ولقب بالملك العادل، وعمره يومئذ سبع سنين، وجعلوا أتابكه الأمير سيف الدين قلاوون الألفي الصالحي.

خطب له الخطباء ورسمت السكة باسمهما وجعل لأخيه الكرك ولأخيه خضر الشوبك، وكتبت بذلك مكاتيب، ووضع القضاة والمفتيون خطوطهم بذلك، وجاءت البريدية إلى الشام بالتحليف لهم على ما حلف عليه المصريون.

ومسك الأمير أيدمر نائب الشام الظاهري واعتقل بالقلعة عند نائبها، وكان نائبها إذ ذاك علم الدين سنجر الدواداري، وأحيط على أموال نائب الشام وحواصله، وجاء على نيابة الشام الأمير شمس الدين سنقر الأشقر في أبهة عظيمة، وتحكم مكين، فنزل بدار السعادة وعظمه الناس وعاملوه معاملة الملوك، وعزل السلطان قضاة مصر الثلاثة الشافعي والحنفي والمالكي، وولوا القضاء صدر الدين عمر بن القاضي تاج الدين بن بنت الأعز عوضا عن الشافعي، وهو تقي الدين بن رزين وكأنهم إنما عزلوه لأنه توقف في خلع الملك السعيد والله أعلم.

بيعة الملك المنصور قلاوون الصالحي

لما كان يوم الثلاثاء الحادي والعشرين من رجب اجتمع الأمراء بقلعة الجبل من مصر وخلعوا الملك العادل سلامش ابن الظاهر، وأخرجوه من البين، وإنما كانوا قد بايعوه صورة ليسكن الشر عند خلع الملك السعيد، ثم اتفقوا على بيعه الملك المنصور قلاوون الصالحي، ولقبوه الملك المنصور، وجاءت البيعة إلى دمشق فوافق الأمراء وحلفوا، وذكر أن الأمير شمس الدين سنقر الأشقر لم يحلف مع الناس ولم يرض بما وقع، وكأنه داخله حسد من المنصور لأنه كان يرى أنه أعظم منه عند الظاهر.

وخطب للمنصور على المنابر في الديار المصرية والشامية، وضربت السكة باسمه، وجرت الأمور بمقتضى رأيه فعزل وولى ونفذت مراسيمه في سائر البلاد بذلك، فعزل عن الوزارة برهان الدين السنجاري وولى مكانه فخر الدين ابن لقمان كاتب السر، وصاحب ديوان الإنشاء بالديار المصرية.

وفي يوم الخميس الحادي عشر من ذي القعدة من هذه السنة توفي الملك السعيد ابن الملك الظاهر بالكرك وسيأتي ذكر ترجمته إن شاء الله تعالى.

فيها: حمل الأمير أيدمر الذي كان نائب الشام في محفة لمرض لحقه إلى الديار المصرية، فدخلها في أواخر ذي القعدة، واعتقل بقلعة مصر.

سلطنة سنقر الأشقر بدمشق

لما كان يوم الجمعة الرابع والعشرين من ذي القعدة ركب الأمير شمس الدين سنقر الأشقر من دار السعادة بعد صلاة العصر وبين يديه جماعة من الأمراء والجند مشاة.

وقصد باب القلعة الذي يلي المدينة، فهجم منه ودخل القلعة واستدعى الأمراء فبايعوه على السلطنة، ولقب بالملك الكامل، وأقام بالقلعة ونادت المنادية بدمشق بذلك، فلما أصبح يوم السبت استدعى بالقضاة والعلماء والأعيان ورؤساء البلد إلى مسجد أبي الدرداء بالقلعة، وحلفهم وحلف له بقية الأمراء والعسكر، وأرسل العساكر إلى غزة لحفظ الأطراف وأخذ الغلات، وأرسل الملك المنصور إلى الشوبك فتسلمها نوابه ولم يمانعهم نجم الدين خضر.

وفيها: جددت أربع أضلاع في قبة النسر من الناحية الغربية.

وفيها: عزل فتح الدين بن القيسراني من الوزارة بدمشق ووليها تقي الدين بن توبة التكريتي.

من الأعيان:

عز الدين بن غانم الواعظ عبد السلام

بن أحمد بن غانم بن علي بن إبراهيم بن عساكر بن حسين عز الدين أحمد الأنصاري المقدسي، الواعظ المطبق المفلق الشاعر الفصيح، الذي نسج على منوال ابن الجوزي وأمثاله، وقد أورد له قطب الدين أشياء حسنة كثيرة مليحة، وكان له قبول عند الناس، تكلم مرة تجاه الكعبة المعظمة.

وكان في الحضرة الشيخ تاج الدين بن الفزاري والشيخ تقي الدين بن دقيق العيد، وابن العجيل من اليمن وغيرهم من العلماء والعباد، فأجاد وأفاد وخطب فأبلغ وأحسن.

نقل هذا المجلس الشيخ تاج الدين الفزاري، وأنه كان في سنة خمس وسبعين.

الملك السعيد بن الملك الظاهر بركة خان ناصر الدين

محمد بن بركة خان أبو المعالي ابن السلطان الملك الظاهر.

ركن الدين بيبرس البندقداري، بايع له أبوه الأمراء في حياته، فلما توفي أبوه بويع له بالملك وله تسع عشرة سنة، ومشيت له الأمور في أول الأمر على السعادة، ثم إنه غلبت عليه الخاصكية فجعل يعلب معهم في الميدان الأخضر فيما قيل أول هوى، فربما جاءت النوبة عليه فينزل لهم.

فأنكرت الأمراء الكبار ذلك وأنفوا أن يكون ملكهم يلعب مع الغلمان، ويجعل نفسه كأحدهم، فراسلوه في ذلك ليرجع عما هو عليه فلم يقبل، فخلعوه كما ذكرنا، وولوا السلطان الملك المنصور قلاوون في أواخر رجب كما تقدم.

ثم كانت وفاته في هذه السنة بالكرك في يوم الجمعة الحادي عشر من ذي القعدة، يقال إنه سُمّ فالله أعلم، وقد دفن أولا عند قبر جعفر وأصحابه الذين قتلوا بموته.

ثم نقل إلى دمشق فدفن في تربة أبيه سنة ثمانين وستمائة، وتملك الكرك بعده أخوه نجم الدين خضر وتلقب بالملك المسعود، فانتزعها المنصور من يده كما سيأتي إن شاء الله تعالى.

ثم دخلت سنة تسع وسبعين وستمائة

كان أولها يوم الخميس ثالث أيار، والخليفة الحاكم بأمر الله وملك مصر الملك المنصور قلاوون الصالحي، وبعض بلاد الشام أيضا، وأما دمشق وأعمالها فقد ملكها سنقر الأشقر، وصاحب الكرك الملك المسعود بن الظاهر، وصاحب حماة الملك المنصور ناصر الدين محمد بن الملك المظفر تقي الدين محمود، والعراق وبلاد الجزيرة وخراسان والموصل وإربل وأذربيجان وبلاد بكر وخلاط وما والاها وغير ذلك من البلاد بأيدي التتار، وكذلك بلاد الروم في أيديهم أيضا.

ولكن فيها غياث الدين بن ركن الدين، ولا حكم له سوى الاسم وصاحب اليمن الملك المظفر شمس الدين يوسف بن عمر، وصاحب الحرم الشريف نجم الدين بن أبي نمي الحسني، وصاحب المدينة عز الدين جماز بن شيحه الحسيني.

ففي مستهل السنة المذكورة ركب السلطان الملك الكامل سنقر الأشقر من القلعة إلى الميدان وبين يديه الأمراء ومقدموا الحلقة الفاشية، وعليهم الخلع والقضاة والأعيان ركاب معه، فسير في الميدان ساعة ثم رجع إلى القلعة، وجاء إلى خدمته الأمير شرف الدين عيسى بن مهنا ملك العرب، فقّبل الأرض بين يديه، وجلس إلى جانبه وهو على السماط، وقام له الكامل، وكذلك جاء إلى خدمته ملك الأعراب بالحجاز، وأمر الكامل سنقر أن تضاف البلاد الحلبية إلى ولاية القاضي شمس الدين بن خلكان، وولاه تدريس الأمينية وانتزعها من ابن سني الدولة.

ولما بلغ الملك المنصور بالديار المصرية ما كان من أمر سنقر الأشقر بالشام أرسل إليه جيشا كثيفا فهزموا عسكر سنقر الأشقر الذي كان قد أرسله إلى غزة، وساقوهم بين أيديهم حتى وصل جيش المصريين إلى قريب دمشق، فأمر الملك الكامل أن يضرب دهليزه بالجسورة، وذلك في يوم الأربعاء ثاني عشر صفر، ونهض بنفسه وبمن معه فنزل هنالك واستخدم خلقا كثيرا وأنفق أموالا جزيلة.

وأنضاف إليه عرب الأمير شرف الدين عيسى بن مهنا، وشهاب الدين أحمد بن حجي، وجاءته نجدة حلب ونجدة حماة ورجال كثيرة من رجال بعلبك، فلما كان يوم الأحد السادس عشر من صفر أقبل الجيش المصري صحبة الأمير علم الدين سنجر الحلبي، فلما تراءى الجمعان وتقابل الفريقان وتقاتلوا إلى الرابعة في النهار، فقتل نفر كثير وثبت الملك الكامل سنقر الأشقر ثباتا جيدا، ولكن خامر عليه الجيش فمنهم من صار إلى المصري ومنهم من انهزم في كل وجه.

وتفرق عنه أصحابه فلم يسعه إلا الانهزام على طريق المرح في طائفة يسيرة، في صحبة عيسى بن مهنا، فسار بهم إلى برية الرحبة فأنزلهم في بيوت من شعر، وأقام بهم وبدوابهم مدة مقامهم عنده.

ثم بعث الأمراء الذين انهزموا عنه فأخذوا لهم أمانا من الأمير سنجر، وقد نزل في ظاهر دمشق وهي مغلوقة، فراسل نائب القلعة ولم يزل به حتى فتح باب الفرج من آخر النهار، وفتحت القلعة من داخل البلد فتسلمها للمنصور وأفرج عن الأمير ركن الدين بيبرس العجمي المعروف بالحالق، والأمير لاجين حسام الدين المنصوري وغيرهم من الأمراء الذين كان قد اعتقلهم الأمير سنقر الأشقر وأرسل سنجر البريدية إلى الملك المنصور يعلمونه بصورة الحال.

وأرسل سنجر بثلاثة آلاف في طلب سنقر الأشقر.

وفي هذا اليوم جاء ابن خلكان ليسلم على الأمير سنجر الحلبي فاعتقله في علو الخانقاه النجيبية، وعزله في يوم الخميس العشرين من صفر، ورسم للقاضي نجم الدين بن سني الدولة بالقضاء فباشره.

ثم جاءت البريدية معهم كتاب من الملك المنصور قلاوون بالعتب على طوائف الناس، والعفو عنه كلهم، فتضاعفت له الأدعية، وجاء تقليد النيابة بالشام للأمير حسام الدين لاجين السلحداري المنصوري، فدخل معه علم الدين سنجر الحلبي فرتبه في دار السعادة، وأمر سنجر القاضي ابن خلكان أن يتحول من المدرسة العادلية الكبيرة ليسكنها نجم الدين بن سني الدولة، وألح عليه في ذلك، فاستدعى جمالا لينقل أهله وثقله عليها إلى الصالحية فجاء البريد بكتاب من السلطان فيه تقرير ابن خلكان على القضاء والعفو عنه وشكره والثناء عليه.

وذكر خدمته المتقدمة، ومعه خلعة سنية له فلبسها وصلى بها الجمعة وسلم على الأمراء فأكرموه وعظموه، وفرح الناس به وبما وقع من الصفح عنه.

وأما سنقر الأشقر فإنه لما خرجت العساكر في طلبه فارق الأمير عيسى بن مهنا وساء إلى السواحل فاستحوذ منها على حصون كثيرة، منها صهيون، وقد كان بها أولاده وحواصله، وحصن بلاطس، وبرزية، وعكا، وجبلة، واللاذقية، والشفر، بكاس، وشيزر واستناب فيها الأمير عز الدين أزدمر الحاج.

فأرسل السلطان المنصور لحصار شيزر طائفة من الجيش، فبينما هم كذلك إذ أقبلت التتار لما سمعوا بتفريق كلمة المسلمين، فانجفل الناس من بين أيديهم من سائر البلاد إلى الشام، ومن الشام إلى مصر، فوصلت التتار إلى حلب فقتلوا خلقا كثيرا، ونهبوا جيشا كبيرا، وظنوا أن جيش سنقر الأشقر يكون معهم على المنصور، فوجدوا الأمر بخلاف ذلك، وذلك أن المنصور كتب إلى سنقر الأشقر.

إن التتار قد أقبلوا إلى المسلمين، والمصلحة أن نتفق عليهم لئلا يهلك المسلمون بيننا وبينهم، وإذا ملكوا البلاد لم يدعوا منا أحدا.

فكتب إليه سنقر بالسمع والطاعة وبرز من حصنه فخيم بجيشه ليكون على أهبة متى طلب أجاب، ونزلت نوابه من حصونهم وبقوا مستعدين لقتال التتار، وخرج الملك المنصور من مصر في أواخر جمادى الآخرة ومعه العساكر.

وفي يوم الجمعة الثالث من جمادى الآخرة قرئ على منبر جامع دمشق كتاب من السلطان أنه قد عهد إلى ولده علي، ولقب بالملك الصالح، فلما فرغ من قراءة الكتاب جاءت البريدية فأخبروا برجوع التتار من حلب إلى بلادهم، وذلك لما بلغهم من اتفاق كلمة المسلمين، ففرح المسلمون بذلك ولله الحمد، وعاد المنصور إلى مصر وكان قد وصل إلى غزة، أراد بذلك تخفيف الوطأة عن الشام فوصل إلى مصر في نصف شعبان.

وفي جمادى الآخرة أعيد برهان الدين السنجاري إلى وزارة مصر ورجع فخر الدين بن لقمان إلى كتابة الإنشاء.

وفي أواخر رمضان أعيد إلى القضاء ابن رزين وعزل ابن بنت الأعز، وأعيد القاضي نفيس الدين بن شكر المالكي، ومعين الدين الحنفي، وتولي قضاء الحنابلة عز الدين المقدسي.

وفي ذي الحجة جاء تقليد ابن خلكان بإضافة المعاملة الحلبية إليه يستنيب فيها من شاء من نوابه.

وفي مستهل ذي الحجة خرج الملك المنصور من بلاد مصر بالعساكر قاصدا الشام، واستناب على مصر ولده الملك الصالح علي بن المنصور إلى حين رجوعه.

قال الشيخ قطب الدين: وفي يوم عرفة وقع بمصر برد كبار أتلف شيئا كثيرا من المغلات، ووقعت صاعقة بالإسكندرية وأخرى في يومها تحت الجبل الأحمر على صخرة فأحرقتها، فأخذ ذلك الحديد فسبك فخرج منه أواقي بالرطل المصري.

وجاء السلطان فنزل بعساكره تجاه عكا، فخافت الفرنج منه خوفا شديدا وراسلوه في طلب تحديد الهدنة، وجاء الأمير عيسى بن مهنا من بلاد العراق إلى خدمة المنصور، وهو بهذه المنزلة فتلقاه السلطان بجيشه وأكرمه واحترمه وعامله بالصفح والعفو والإحسان.

من الأعيان:

الأمير الكبير جمال الدين آقوش الشمسي

أحد أمراء الإسلام وهو الذي باشر قتل كتبغانوين أحد مقدمي التتار، وهو المطاع فيهم يوم عين جالوت، وهو الذي مسك عز الدين أيدمر الظاهري في حلب من السنة الماضية، وكانت وفاته بها.

الشيخ الصالح داود بن حاتم

ابن عمر الحبال، كان حنبلي المذهب له كرامات وأحوال صالحة ومكاشفات صادقة، وأصل آبائه من حران، وكانت إقامته ببعلبك، وتوفي فيها رحمه الله عن ست وتسعين سنة، وقد أثنى عليه الشيخ قطب الدين ابن الشيخ الفقيه اليونيني.

الأمير الكبير نور الدين علي بن عمر أبو الحسن الطوري

كان من أكابر الأمراء، وقد نيف على تسعين سنة وكانت وفاته بسبب أنه وقع يوم مصاف سنقر الأشقر تحت سنابك الخيل فمكث بعد ذلك متمرضا إلى أن مات بعد شهرين ودفن بسفح قاسيون.

الجزار الشاعر يحيى بن عبد العظيم بن يحيى

بن محمد بن علي جمال الدين أبو الحسين المصري، الشاعر الماجن، المعروف بالجزار.

مدح الملوك والوزراء والأمراء، وكان ماجنا ظريفا حلو المناظرة، وله في حدود ستمائة بعدها بسنة أو سنتين، وتوفي يوم الثلاثاء ثاني عشر شوال من هذه السنة.

ومن شعره:

أدركوني فبي من البرد همٌ ** ليس ينسى وفي حشاي التهاب

ألبستني الأطماع وهما فها ** جسمي عارٍ ولي فرى وثياب

كلما ازرق لون جسمي من الـ ** ـبرد تخيلت أنه سنجاب

وقال وقد تزوج أبوه بعجوزة:

تزوج الشيخ أبي شيخةٍ ** ليس لها عقلٌ ولا ذهن

كأنها في فرشها رمة ** وشعرها من حولها قطن

وقال لي كم سنها ** قلت ليس في فمنها سن

لو أسفرت غربها في الدجى ** ما جسرت تبصرها الجن

ثم دخلت سنة ثمانين وستمائة من الهجرة

استهلت والخليفة الحاكم وسلطان البلاد الملك المنصور قلاوون. وفي عاشر المحرم انعقدت الهدنة بين أهل عكا والمرقب والسلطان، وكان نازلا على الروحاء وقد قبض على جماعة من الأمراء ممن كان معه، وهرب آخرون إلى قلعة صهيون إلى خدمة سنقر الأشقر، ودخل المنصور إلى دمشق في التاسع عشر من المحرم فنزل القلعة وقد زينت له البلد، وفي التاسع والعشرين من المحرم أعاد القضاء إلى عز الدين بن الصائغ وعزل ابن خلكان.

وفي أول صفر باشر قضاء الحنابلة نجم الدين ابن الشيخ شمس بن أبي عمر، وقد كان المنصب شاغرا منذ عزل والده نفسه عن القضاء، وتولى قضاء حلب في هذا الشهر تاج الدين يحيى بن محمد بن إسماعيل الكردي.

وجلس الملك المنصور في دار العدل في هذا الشهر فحكم وأنصف المظلوم من الظالم، وقدم عليه صاحب حماة فتلقاه المنصور بنفسه في موكبه، ونزل بداره بباب الفراديس.

وفي ربيع الأول وقع الصلح بين الملك المنصور قلاوون وبين سنقر الأشقر الملك الكامل على أن يسلم للسلطان شيزر ويعوضه عنها بإنطاكية، وكفر طاب، وشفر بكاس وغير ذلك، وعلى أن يقيم على ما بيده ستمائة فارس، وتحالفا على ذلك، ودقت البشائر لذلك، وكذلك تصالح صاحب الكرك والملك المنصور خضر بن الظاهر على تقرير ما بيده ونودي بذلك في البلاد.

وفي العشر الأول من هذا الشهر ضمن الخمر والزنا بدمشق، وجعل عليه ديوان ومشد، فقام في إبطال ذلك جماعة من العلماء والصلحاء والعباد، فأبطل بعد عشرين يوما وأريقت الخمور وأقيمت الحدود ولله الحمد والمنة.

وفي تاسع عشر ربيع الأول وصلت الخاتون بكرة خان زوجة الملك الظاهر ومعها ولدها السعيد قد نقلته من قرية المساجد بالقرب من الكرك لتدفنه عند أبيه بالتربة الظاهرية، فرفع بحبال من السور ودفن عند والده الظاهر، ونزلت أمه بدار صاحب حمص، وهيئت لها الإقامات وعمل عزاء ولدها يوم الحادي والعشرين من ربيع الآخر بالتربة المذكورة، وحضر السلطان المنصور وأرباب الدولة والقراء والوعاظ.

وفي أواخر ربيع الآخر عزل التقي بن توبة التكريتي من الوزارة بدمشق وباشرها بعده تاج الدين السهنوري، وكتب السلطان المنصور إلى مصر وغيرها من البلاد يستدعي الجيوش لأجل اقتراب مجيء التتار، فدخل أحمد بن حجي ومعه بشر كثير من الأعراب، وجاء صاحب الكرك الملك المسعود نجدة للسلطان يوم السبت الثاني عشر من جمادى الآخرة.

وقدم الناس عليه ووفدوا إليه من كل مكان، وجاءته التركمان والأعراب وغيرهم، وكثرت الأراجيف بدمشق، وكثرت العساكر بها وجفل الناس من بلاد حلب وتلك لنواحي، وتركوا الغلات والأموال خوفا من أن يدهمهم العدو من التتار.

ووصلت التتر صحبة منكوتمر بن هولاكو إلى عنتاب، وسارت العساكر المنصورة إلى نواحي حلب يتبع بعضها بعضا، ونازلت التتار بالرحبة في أواخر جمادى الآخرة جماعة من الأعراب، وكان فيهم ملك التتار إبغا مختفيا ينظر ماذا يفعل أصحابه، وكيف يقاتلون أعداءه.

ثم خرج المنصور من دمشق وكان خروجه منها في أواخر جمادى وقنت الخطباء والأئمة بالجوامع والمساجد في الصلوات وغيرها، وجاء مرسوم من السلطان باستسلام أهل الذمة من الدواوين والكتبة.

ومن لا يسلم يصلب، فأسلموا كرها وكانوا يقولون آمنا وحكم الحاكم بإسلامنا بعد أن عرض من امتنع منهم على الصلب بسوق الخيل، وجعلت الحبال في أعناقهم، فأجابوا والحالة هذه، ولما انتهى الملك المنصور إلى حمص كتب إلى الملك الكامل سنقر الأشقر يطلبه إليه نجدة فجاء إلى خدمته فأكرمه السلطان واحترمه ورتب له الإقامات.

وتكاملت الجيوش كلها في صحبة الملك المنصور عازمين على لقاء العدو لا محالة مخلصين في ذلك، واجتمع الناس بعد خروج الملك في جامع دمشق ووضعوا المصحف العثماني بين أيديهم، وجعلوا يبتهلون إلى الله تعالى في نصرة الإسلام وأهله على الأعداء، وخرجوا كذلك والمصحف على رؤوسهم إلى المصلى يدعون ويبتهلون ويبكون، وأقبلت التتار قليلا قليلا فلما وصلوا حماه أحرقوا بستان الملك وقصره وما هنالك من المساكن.

والسلطان المنصور مخيم بحمص في عساكر من الأتراك والتركمان وغيرهم جحفل كثير جدا، وأقبلت التتار في مائة ألف مقاتل أو يزيدون، فإنا لله وإنا إليه راجعون، ولا حول ولا قوة إلا بالله.

وقعة حمص

لما كان يوم الخميس رابع عشر رجب التقى الجمعان وتواجه الخصمان عند طلوع الشمس وعسكر التتر في مائة ألف فارس وعسكر المسلمين على النصف من ذلك أو يزيد قليلا.

والجميع فيما بين مشهد خالد بن الوليد إلى الرستن فاقتتلوا قتالا عظيما لم ير مثله من أعصار متطاولة، فاستظهر التتار أول النهار، وكسروا الميسرة واضطربت الميمنة أيضا وبالله المستعان.

وكسر جناح القلب الأيسر وثبت السلطان ثباتا عظيما جدا في جماعة قليلة، وقد انهزم كثير من عسكر المسلمين، والتتار في آثارهم حتى وصلوا وراءهم إلى بحيرة حمص ووصلوا حمص وهي مغلقة الأبواب، فقتلوا خلقا من العامة وغيرهم، وأشرف المسلمون على خطة عظيمة من الهلاك، ثم إن أعيان الأمراء من الشجعان والفرسان تآمروا فيما بينهم مثل سنقر الأشقر، وبيسرى، وطيبرس الوزيري، وبدر الدين أمير سلاح، وايتمش السعدي، وحسام الدين لاجين، وحسام الدين طرنطاي، والدوايداري وأمثالهم.

لما رأوا ثبات السلطان ردوا إلى السلطان وحملوا حملات متعددة صادقة، ولم يزالوا يتابعون الحملة بعد الحملة حتى كسر الله بحوله وقوته التتر، وجرح منكوتمر، وجاءهم الأمير عيسى بن مهنا من ناحية العرض فصدم التتر فأضربت الجيوش لصدمته، وتمت الهزيمة ولله الحمد.

وقتلوا من التتار مقتلة عظيمة جدا، ورجعت من التتار الذين اتبعوا المنهزمين من المسلمين فوجدوا أصحابهم قد كسروا، والعساكر في آثارهم يقتلون ويأسرون، والسلطان ثابت في مكانه تحت السناجق، والكوسات تضرب خلفه وما معه إلا ألف فارس.

فطمعوا فيه فقاتلوه فثبت لهم ثباتا عظيما فانهزموا من بين يديه فلحقهم فقتل أكثرهم، وكان ذلك تمام النصر، وكان انهزام التتار قبل الغروب، وافترقوا فرقتين أخذت فرقة منهم إلى ناحية سلمية والبرية، والأخرى إلى ناحية حلب والفرات.

فأرسل السلطان في آثارهم من يتبعهم وجاءت البطاقة بالبشارة بما وقع من النصر إلى دمشق يوم الجمعة خامس عشر رجب، فدقت البشائر وزينت البلد وأوقدت الشموع وفرح الناس.

فلما أصبح الناس يوم السبت أقبلت طائفة من المنهزمين منهم بيليك الناصري، والحالق وغيرهم، فأخبروا الناس بما شاهدوه من الهزيمة في أول الأمر، ولم يكونوا شاهدوا بعد ذلك، فبقي الناس في قلق عظيم، وخوف شديد، وتهيأ ناس كثير للهرب.

فبينما الناس في ذلك إذ أقبلت البريدية فأخبروا الناس بصورة ما وقع في أول الأمر وآخره، فتراجع الناس وفرحوا فرحا شديدا ولله الحمد والمنة.

ثم دخل السلطان إلى دمشق الثاني والعشرين من رجب، وبين يديه الأسارى بأيديهم الرماح عليها شقف رؤوس القتلى، وكان يوما مشهودا، ومع السلطان طائفة من أصحاب سنقر الأشقر منهم علم الدين الدويداري، فنزل السلطان بالقلعة مؤيدا منصورا، وقد كثرت له المحبة والأدعية، وكان سنقر الأشقر ودع السلطان من حمص ورجع إلى صهيون.

وأما التتر فإنهم انهزموا في أسوا حال وأتعسه يتخطفون من كل جانب، ويقتلون من كل فج، حتى وصلوا إلى الفرات فغرق أكثرهم.

ونزل إليهم أهل البيرة فقتلوا منهم خلقا كثيرا وأسروا آخرين والجيوش في آثارهم يطردونهم عن البلاد حتى أراح الله منهم الناس.

وقد استشهد في هذه الوقعة جماعة من سادات الأمراء منهم الأمير الكبير الحاج عز الدين ازدمر جمدار، وهو الذي جرح ملك التتار يومئذ منكوتمر، فإنه خاطر بنفسه وأوهم أنه مقفز إليه وقلب رمحه حتى وصل إليه فطعنه فجرحه فقتلوه رحمه الله، ودفن بالقرب من مشهد خالد.

وخرج السلطان من دمشق قاصدا الديار المصرية يوم الأحد ثاني شعبان والناس يدعون له، وخرج معه علم الدين الدويداري، ثم عاد من غزة وقد ولاه المشد في الشام والنظر في المصالح، ودخل السلطان إلى مصر في ثاني عشر شعبان.

وفي سلخ شعبان ولي قضاء مصر والقاهرة للقاضي وجيه الدين البهنسي الشافعي، وفي يوم الأحد سابع رمضان فتحت المدرسة الجوهرية بدمشق في حياة منشئها وواقفها الشيخ نجم الدين محمد بن عباس بن أبي المكارم التميمي الجوهري، ودرس بها قاضي الحنفية حسام الدين الرازي.

وفي بكرة يوم السبت التاسع والعشرين من شعبان وقعت مأذنة مدرسة أبي عمر بقاسيون على المسجد العتيق فمات شخص واحد، وسلم الله تعالى بقية الجماعة.

وفي عاشر رمضان وقع بدمشق ثلج عظيم وبرد كثير مع هواء شديد، بحيث إنه ارتفع عن الأرض نحوا من ذراع، وفسدت الخضراوات، وتعطل على الناس معايش كثيرة.

وفي شوال وصل صاحب سنجار إلى دمشق مقفزا من التتار داخلا في طاعة السلطان بأهله وماله، فتلقاه نائب البلد وأكرمه وسيره إلى مصر معززا مكرما.

وفي شوال عقد مجلس بسبب أهل الذمة من الكتاب الذين كانوا قد أسلموا كرها وقد كتب لهم جماعة من المفتيين بأنهم كانوا مكرهين فلهم الرجوع إلى دينهم، وأثبت الإكراه بين يدي القاضي جمال الدين بن أبي يعقوب المالكي، فعاد أكثرهم إلى دينهم وضربت عليهم الجزية كما كانوا، سود الله وجوههم يوم تبيض وجوه وتسود وجوه.

وقيل: إنهم غرموا مالا جزيلا جملة مستكثرة على ذلك، قبحهم الله.

وفي ذي القعدة قبض السلطان على أيتمش السعدي وسجنه بقلعة الجبل، وقبض نائبة بدمشق على سيف الدين بلبان الهاروني وسجنه بقلعتها.

وفي بكرة الخميس التاسع والعشرين من ذي القعدة، وهو العاشر من آذار، استسقى الناس بالمصلى بدمشق فسقوا بعد عشرة أيام.

وفي هذه السنة أخرج الملك المنصور جميع آل الملك الظاهر من النساء والولدان والخدام من الديار المصرية إلى الكرك ليكونوا في كنف الملك المسعود خضر بن الظاهر.

من الأعيان:

أبغا ملك التتار بن هولاكو خان

ابن تولى بن جنكيز خان، كان عالي الهمة بعيد الغور له رأي وتدبير، وبلغ من العمر خمسين سنة، ومدة ملكه ثماني عشرة سنة، ولم يكن بعد والده في التدبير والحزم مثله، ولم تكن وقعة حمص هذه برأيه ولا عن مشورته، ولكن أخوه منكوتمر أحب ذلك فلم يخالفه.

ورأيت في بعض تاريخ البغاددة أن قدوم منكوتمر إلى الشام إنما كان عن مكاتبة سنقر الأشقر إليه فالله أعلم.

وقد جاء إبغا هذا بنفسه فنزل قريبا من الفرات ليرى ماذا يكون من الأمر، فلما جرى عليهم ما جرى ساءه ذلك ومات غما وحزنا.

توفي بين العيدين من هذه السنة، وقام بالملك بعده ولده السلطان أحمد.

وفيها توفي:

قاضي القضاة محمد نجم الدين أبو بكر بن قاضي القضاة صدر الدين

أحمد بن قاضي القضاة شمس الدين يحيى بن هبة الله بن الحسن بن يحيى بن محمد بن علي الشافعي بن سني الدولة، ولد سنة ست عشرة وستمائة، وسمع الحديث وبرع في المذهب، وناب عن أبيه فشكرت سيرته، واستقل بالقضاء في الدولة المظفرية فحمد أيضا، وكان الشيخ شهاب الدين ينال منه ومن أبيه.

وقال البرزالي: كان شديدا في الأحكام متحريا، وقد ألزم بالمقام بمصر فدرس بجامع مصر، ثم عاد إلى دمشق فدرس بالأمينية والركنية، وباشر قضاء حلب، وعاد إلى دمشق، وولاه سنجر قضاء دمشق، ثم عزل بابن خلكان كما تقدم.

ثم كانت وفاته يوم الثلاثاء من المحرم، ودفن من الغد يوم تاسوعاء بتربة جده بقاسيون.

وفي عاشر المحرم توفي:

قاضي القضاة صدر الدين عمرابن القاضي تاج الدين عبد الوهاب

بن خلف بن أبي القاسم الغلابي ابن بنت الأعز المصري، كان فاضلا بارعا عارفا بالمذهب، متحريا في الأحكام كأبيه، ودفن بالقرافة.

الشيخ إبراهيم بن سعيد الشاغوري

الموله المعروف بالجيعانة، كان مشهورا بدمشق، ويذكر له أحوال ومكاشفات على ألسنة العوام ومن لا يعقل، ولم يكن ممن يحافظ على الصلوات ولا يصوم مع الناس، ومع هذا كان كثير من العوام وغيرهم يعتقدونه.

توفي يوم الأحد سابع جمادى الأولى، ودفن بتربة المولهين بسفح قاسيون عند الشيخ يوسف القيميني.

وقد توفي الشيخ يوسف قبله بمدة، وكان الشيخ يوسف يسكن إقمين حمام نور الدين الشهيد بالبزوريين، وكان يجلس على النجاسات والقذر، وكان يلبس ثيابا بداوية تجحف على النجاسات في الأزقة، وكان له قبول من الناس ومحبة وطاعة، وكان العوام يغالون في محبته واعتقاده، وكان لا يصلي ولا يتقي نجاسة، ومن جاءه زائرا جلس عند باب الأقمين على النجاسة، وكان العوام يذكرون له مكاشفات وكرامات.

وكل ذلك خرافات من خرافات العوام وأهل الهديان كما يعتقدون ذلك في غيره من المجانين والمولهين.

ولما مات الشيخ يوسف القميني خرج خلق في جنازته من العوام وغيرهم، وكانت جنازته حافلة بهم، وحمل على أعناق الرجال إلى سفح قاسيون، وبين يديه غوغاء وغوش كثير وتهليل وأمور لا تجوز من فعل العوام، حتى جاؤوا به إلى تربة المولهين بقاسيون فدفنوه بها، وقد اعتنى بعض العوام بقبره فعمل عليه حجارة منقوشة وعمل على قبره سقفا مقرنصا بالدهان وأنواعه.

وعمل عليه مقصورة وأبوابا، وغالى فيه مغالاة زائدة، ومكث هو وجماعة مجاورون عنده مدة في قراءة وتهليل، ويطبخ لهم الطبيخ فيأكلون ويشربون هناك.

والمقصود أن الشيخ إبراهيم الجيعانة لما مات الشيخ يوسف الأقميني جاء من الشاغور إلى باب الصغير في جماعة من أتباعه، وهم في صراخ وضجة وغوش كثير، وهم يقولون: أذن لنا في دخول البلد أذن لنا في دخول البلد، يكررون ذلك، فقيل له في ذلك فقال:

لي عشرون سنة ما دخلت داخل سور دمشق، لأني كنت كلما أتيت بابا من أبوابها أجد هذا السبع رابضا بالباب فلا أستطيع الدخول خوفا منه.

فلما مات أذن لنا في الدخول، وهذا كله ترويج على الطغام والعوام من الهمج الرعاع، الذين هم أتباع كل ناعق.

وقيل: إن الشيخ يوسف كان يرسل إلى الجيعانة مما يأتيه من الفتوح والله سبحانه أعلم بأحوال العباد، وإليه المنقلب والمآب، وعليه الحساب.

وقد ذكرنا أنه استشهد في وقعة حمص جماعة من الأمراء منهم الأمير عز الدين أزدمر السلحداري عن نحو من ستين سنة، وكان من خيار الأمراء وله همة عالية ينبغي أن ينال بها مكانا عاليا في الجنة.

قاضي القضاة تقي الدين أبو عبد الله محمد بن الحسين بن رزين بن موسى العامري الحموي الشافعي

ولد سنة ثلاث وستمائة، وقد سمع الحديث وانتفع بالشيخ تقي الدين بن الصلاح، وأم بدار الحديث مدة، ودرس بالشامية، وولي وكالة بيت المال بدمشق.

ثم سار إلى مصر فدرس بها بعدة مدارس، وولي الحكم بها، وكان مشكورا، توفي ليلة الأحد ثالث رجب منها، ودفن بالمقطم.

وفي يوم السبت السابع الرابع والعشرين من ذي القعدة توفي:

الملك الأشرف مظفر الدين موسى بن الملك الزاهر

محيي الدين داود المجاهد بن أسد الدين شيركوه بن الناصر ناصر الدين محمد بن أسد الدين شيركوه بن شاذي ابن صاحب حمص، ودفن بتربتهم بقاسيون.

وفي ذي القعدة توفي:

الشيخ جمال الدين الإسكندري

الحاسب بدمشق، وكان له مكتب تحت منارة كيروز، وقد انتفع به خلق كثير، وكان شيخ الحساب في وقته رحمه الله.

الشيخ علم الدين أبو الحسن محمد بن الإمام أبي علي الحسين

بن عيسى بن عبد الله بن رشيق الربعي المالكي المصري، ودفن بالقرافة، وكانت له جنازة حافلة، وقد كان فقيها مفتيا، سمع الحديث وبلغ خمسا وثمانين سنة.

وفي يوم الاثنين الخامس والعشرين من ذي الحجة توفي:

الصدر الكبير أبو الغنائم المُسلَّم

محمد بن المسلم مكي بن خلف بن غيلان، القيسي الدمشقي، مولده سنة أربع وتسعين وخمسمائة، وكان من الرؤساء الكبار، وأهل البيوتات، وقد ولي نظر الدواوين بدمشق وغير ذلك.

ثم ترك ذلك كله، وأقبل على العبادة وكتابة الحديث، وكان يكتب سريعا يكتب في اليوم الواحد ثلاث كراريس، وقد أسمع مسند الإمام أحمد ثلاث مرات، وحدث بصحيح مسلم وجامع الترمذي وغير ذلك، وسمع منه البرازلي والمري وابن تيمية، ودفن من يومه بسفح قاسيون عن ست وثمانين سنة رحمهم الله جميعا.

الشيخ صفي الدين أبو القاسم بن محمد بن عثمان بن محمد التميمي الحنفي

شيخ الحنفية ببصرى، ومدرس الأمينية بها مدة سنين كثيرة، كان بارعا فاضلا عالما عابدا منقطعا عن الناس، وهو والد قاضي القضاة صدر الدين علي، وقد عمر دهرا طويلا، فإنه ولد في سنة ثلاث وثمانين وخمسمائة، وتوفي ليلة نصف شعبان من هذه السنة عن تسع وتسعين سنة رحمه الله.

ثم دخلت سنة إحدى وثمانين وستمائة

استهلت والخليفة الحاكم بأمر الله والسلطان الملك المنصور قلاوون.

وفيها: أرسل ملك التتار أحمد إلى الملك المنصور يطلب منه المصالحة وحقن الدماء فيما بينهم، وجاء في الرسلية الشيخ قطب الدين الشيرازي أحد تلامذة النصير الطوسي، فأجاب المنصور إلى ذلك وكتب المكاتبات إلى ملك التتر بذلك.

وفي مستهل صفر قبض السلطان على الأمير الكبير بدر الدين بيسرى السعدي، وعلى الأمير علاء الدين السعدي الشمسي أيضا.

وفيها: درس القاضي بدر الدين بن جماعة بالقيمرية والشيخ شمس الدين بن الصفي الحريري، بالسرحانية وعلاء الدين بن الزملكاني بالأمينية.

وفي يوم الاثنين الحادي عشر من رمضان وقع حريق باللبادين عظيم، وحضر نائب السلطنة إذ ذاك الأمير حسام الدين لاجين السلحدار وجماعة كثيرة من الأمراء، وكانت ليلة هائلة جدا وقى الله شرها، واستدرك بعد ذلك أمرها القاضي نجم الدين بن النحاس ناظر الجامع، فأصلح الأمر وسد وأعاد البناء أحسن مما كان، ولله الحمد والمنة.

من الأعيان:

الشيخ الصالح بقية السلف إبراهيم بن الدرحي

برهان الدين أبو إسحاق بن الشيخ صفي الدين أبي الفدا إسماعيل بن إبراهيم بن يحيى بن علوي بن الرضى الحنفي إمام المعزية بالكشك.

وأسمع من جماعة منهم الكندي بن الحرستاني ولكن لم يظهر سماعه منهما إلا بعد وفاته، وقد أجاز له أبو نصر الصيدلاني وعفيفة الفارقانية وابن الميداني، وكان رجلا صالحا محبا لإسماع الحديث، كثير البر بالطلبة له، وقد قرأ عليه الحافظ جمال الدين المزي معجم الطبراني الكبير، وسمعه منه بقراءة الحافظ البرزالي وجماعة كثيرون.

وكان مولده في سنة تسع وتسعين وخمسمائة، وتوفي يوم الأحد سابع صفر، وهو اليوم الذي قدم فيه الحجاج إلى دمشق من الحجاز، وكان هو معهم فمات بعد استقراره بدمشق.

القاضي أمين الدين الأشتري

أبو العباس أحمد بن شمس الدين أبو بكر عبد الله بن محمد بن عبد الجبار بن طلحة الحلبي المعروف بالأشتري الشافعي، المحدث، سمع الكثير وحصل ووقف أجزاء بدار الحديث الأشرفية وكان الشيخ محيي الدين النووي يثني عليه، ويرسل إليه الصبيان ليقرأوا عليه في بيته لأمانته عنده، وصيانته وديانته.

الشيخ برهان الدين أبو الثناء

محمود بن عبد الله بن عبد الرحمن المراغي الشافعي، مدرس الفلكية، كان فاضلا بارعا، عرض عليه القضاء فلم يقبل، توفي يوم الجمعة الثالث والعشرين من ربيع الآخر عن ست وسبعين سنة، وسمع الحديث وأسمعه، ودرس بعده بالفلكية القاضي بهاء الدين بن الزكي.

القاضي الإمام العلامة شيخ القراء زين الدين

أبو محمد بن عبد السلام بن علي بن عمر الزواوي المالكي، قاضي قضاة المالكية بدمشق، وهو أول من باشر القضاء بها، وعزل نفسه عنها تورعا وزهادة، واستمر بلا ولاية ثمان سنين، ثم كانت وفاته ليلة الثلاثاء ثامن رجب منها عن ثلاث وثمانين سنة، وقد سمع الحديث واشتغل على السنجاري وابن الحاجب.

الشيخ صلاح الدين محمد بن القاضي شمس الدين علي بن محمود بن علي الشهرزوري

مدرس القيمرية وابن مدرسها، توفي في أواخر رجب، وتوفي أخوه شرف الدين بعده بشهر، ودرس بالقيمرية بعد الصلاح المذكور القاضي بدر الدين بن جماعة.

ابن خلكان قاضي القضاة شمس الدين أبو العباس

أحمد بن محمد بن إبراهيم بن أبي بكر بن خلكان الأربلي الشافعي أحد الأئمة الفضلاء، والسادة العلماء، والصدور الرؤساء، وهو أول من جدد في أيامه قضاء القضاة من سائر المذاهب، فاشتغلوا بالأحكام بعد ما كانوا نوابا له.

وقد كان المنصب بينه وبين ابن الصائغ دولا يعزل هذا تارة ويولىّ هذا، ويعزل هذا ويولىّ هذا، وقد درس ابن خلكان في عدة مدارس لم تجتمع لغيره، ولم يبق معه في آخر وقت سوى الأمينية، وبيد ابنه كمال الدين موسى النجيبية.

توفي ابن خلكان بالمدرسة النجيبية المذكورة بإيوانها يوم السبت آخر النهار، في السادس والعشرين من رجب، ودفن من الغد بسفح قاسيون عن ثلاث وسبعين سنة.

وقد كان ينظم نظما حسنا رائقا، وقد كانت محاضرته في غاية الحسن، وله (التاريخ المفيد) الذي رسم بوفيات الأعيان من أبدع المصنفات، والله سبحانه أعلم.

ثم دخلت سنة اثنتين وثمانين وستمائة

فيها: قدم الملك المنصور إلى دمشق في يوم الجمعة سابع رجب في أبهة عظيمة، وكان يوما مشهودا.

وفيها: ولى الخطابة بدمشق الشيخ عبد الكافي بن عبد الملك بن عبد الكافي عوضا عن محيي الدين بن الحرستاني الذي توفي فيها كما سيأتي، وخطب يوم الجمعة الحادي والعشرين من رجب من هذه السنة.

وفي هذا اليوم قبل الصلاة احتيط على القاضي عز الدين بن الصائغ بالقلعة وأثبت ابن الحصري نائب الحنفي محضرا يتضمن أن عنده وديعة بمقدار ثمانية آلاف دينار، من جهة ابن الإسكاف.

وكان الذي أثار ذلك شخص قدم من حلب يقال له تاج الدين بن السنجاري، وولي القضاء بعده بهاء الدين يوسف بن محيي الدين بن الزكي، وحكم يوم الأحد ثالث وعشرين رجب، ومنع الناس من زيارة ابن الصائغ، وسعى بمحضر آخر أن عنده وديعة بقيمة خمسة وعشرين ألف دينار للصالح إسماعيل بن أسد الدين، وقام في ذلك ابن الشاكري والجمال بن الحموي وآخرون، وتكلموا في قضية ثالثة.

ثم عقد له مجلس تأله فيه شدة شديدة، وتعصبوا عليه ثم أعيد إلى اعتقاله، وقام في صفة نائب السلطنة حسام الدين لاجين وجماعة من الأمراء، فكلموا فيه السلطان فأطلقه وخرج إلى منزله، وجاء الناس إلى تهنئته يوم الاثنين الثالث والعشرين من شعبان، وانتقل من العادلية إلى داره بدرب النقاشة، وكان عامة جلوسه في المسجد تجاه داره.

وفي رجب باشر حسبة دمشق جمال الدين بن صصرى.

وفي شعبان درس الخطيب جمال الدين بن عبد الكافي بالغزالية عوضا عن الخطيب ابن الحرستاني، وأخذ منه الدولعية لكمال الدين بن النجار، الذي كان وكيل بيت المال، ثم أخذ شمس الدين الأربلي تدريس الغزالية من ابن عبد الكافي المذكور.

وفي آخر شعبان باشر نيابة الحكم عن ابن الزكي شرف الدين أحمد بن نعمة المقدسي أحد أئمة الفضلاء، وسادات العلماء المصنفين.

ولما توفي أخوه شمس الدين محمد في شوال ولي مكانه تدريس الشامية البرانية، وأخذت منه العادلية الصغيرة، فدرس فيها القاضي نجم الدين أحمد بن صصرى التغلبي في ذي القعدة، وأخذت من شرف الدين أيضا الرواحية فدرس فيها نجم الدين البيابي نائب الحكم رحمهم الله أجمعين.

من الأعيان:

الصدر الكبير عماد الدين أبو الفضل

محمد بن القاضي شمس الدين أبي نصر محمد بن هبة الله بن الشيرازي، صاحب الطريقة المنسوبة في الكتابة، سمع الحديث وكان من رؤساء دمشق وأعيانها توفي في صفر منها.

شيخ الجبل الشيخ العلاّمة شيخ الإسلام

شمس الدين أبو محمد عبد الرحمن بن الشيخ أبي عمر محمد بن أحمد بن محمد بن قدامة الحنبلي، أول من ولي قضاء الحنابلة بدمشق، ثم تركه وتولاه ابنه نجم الدين، وتدريس الأشرفية بالجبل، وقد سمع الحديث الكثير، وكان من علماء الناس وأكثرهم ديانة وأمانة في عصره، مع هدى وسمت صالح حسن، وخشوع ووقار.

توفي ليلة الثلاثاء سلخ ربيع الآخر من هذه السنة عن خمس وثمانين سنة، ودفن بمقبرة والده رحمهم الله.

ابن أبي جعوان

العلامة شمس الدين أبو عبد الله محمد بن محمد بن عباس بن أبي جعوان الأنصاري الدمشقي المحدث الفقيه الشافعي البارع في النحو واللغة، سمعت شيخنا تقي الدين ابن تيمية وشيخنا الحافظ أبا الحجاج المزي يقول كل منهما للآخر: هذا الرجل قرأ مسند الإمام أحمد وهما يسمعان فلم يضبط عليه لحنة متفقا عليها، وناهيك بهذين ثناء على هذا وهما هما.

الخطيب محيي الدين يحيى بن الخطيب قاضي القضاة عماد الدين عبد الكريم

قاضي القضاة جمال الدين بن الحرستاني الشافعي خطيب دمشق ومدرس الغزالية، كان فاضلا بارعا أفتى ودرس وولي الخطابة والغزالية بعد أبيه، وحضر جنازته نائب السلطنة وخلق كثير، توفي في جمادى الآخرة عن ثمان وستين سنة، ودفن بقاسيون.

وفي خامس رجب توفي:

الأمير الكبير ملك عرب أل مثرى

أحمد بن حجى بمدينة بصرى، وصلى عليه بدمشق صلاة الغائب.

الشيخ الإمام العالم شهاب الدين عبد الحليم

بن الشيخ الإمام العلامة مجد الدين عبد الله بن عبد الله بن أبي القاسم بن تيمية الحراني، والد شيخنا العلامة العلم تقي الدين بن تيمية، مفتي الفرق، الفارق بين الفرق، كان له فضيلة حسنة، ولديه فضائل كثيرة، وكان له كرسي بجامع دمشق يتكلم عليه عن ظاهر قلبه، وولي مشيخة دار الحديث السكرية بالقصاعين، وبها كان سكنه.

ثم درس ولده الشيخ تقي الدين بها بعده في السنة الآتية كما سيأتي، ودفن بمقابر الصوفية رحمه الله.

ثم دخلت سنة ثلاث وثمانين وستمائة

في يوم الاثنين ثاني المحرم منها درس الشيخ الإمام العالم العلامة تقي الدين أبو العباس أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن تيمية الحراني بدار الحديث السكرية التي بالقصاعين، وحضر عنده قاضي القضاة بهاء الدين بن الزكي الشافعي، والشيخ تاج الدين الفزاري شيخ الشافعية، والشيخ زين الدين بن المرحل، وزين الدين بن المنجا الحنبلي.

وكان درسا هائلا، وقد كتبه الشيخ تاج الدين الفزاري بخطه لكثرة فوائده، وكثرة ما استحسنه الحاضرون.

وقد أطنب الحاضرون في شكره على حداثة سنه وصغره، فإنه كان عمره إذ ذاك عشرين سنة وسنتين.

ثم جلس الشيخ تقي الدين المذكور أيضا يوم الجمعة عاشر صفر بالجامع الأموي بعد صلاة الجمعة على منبر قد هيىء له لتفسير القرآن العزيز، فابتدأ من أوله في تفسيره، وكان يجتمع عنده الخلق الكثير والجم الغفير من كثرة ما كان يورد من العلوم المتنوعة المحررة مع الديانة والزهادة والعبادة سارت بذكره الركبان في سائر الأقاليم والبلدان، واستمر على ذلك مدة سنين متطاولة.

وفيها: قدم السلطان إلى دمشق من مصر يوم السبت ثاني عشر جمادى الآخرة، فجاء صاحب حماه الملك المنصور إلى خدمته فتلقاه السلطان في موكبه وأكرمه، فلما كان ليلة الأربعاء الرابع والعشرين من شعبان وقع مطر عظيم بدمشق، ورعد وبرق، وجاء سيل عظيم جدا حتى كسر أقفال باب الفراديس، وارتفع الماء ارتفاعا كثيرا، بحيث أغرق خلقا كثيرا، وأخذ جمال الجيش المصري وأثقالهم، فخرج السلطان إلى الديار المصرية بعد ثلاثة أيام، وتولى مشد الدواوين الأمير شمس الدين سنقر عوضا عن الدويدراي علم الدين سنجر.

وفيها: اختلف التتار فيما بينهم على ملكهم السلطان أحمد فعزلوه عنهم وقتلوه، وملكوا عليهم السلطان أرغون بن أبغا، ونادوا بذلك في جيشهم، وتأطدت أحوالهم، ومشت أمورهم على ذلك، وبادت دولة السلطان أحمد.

وقامت دولة أرغون بن أبغا.

من الأعيان:

الشيخ طالب الرفاعي بقصر حجاج

وله زاوية مشهورة به، وكان يزور بعض المريدين فمات.

وفيها مات:

القاضي الإمام عز الدين أبو المفاخر

محمد بن شرف الدين عبد القادر بن عفيف الدين عبد الخالق بن خليل الأنصاري الدمشقي ولي القضاء بدمشق مرتين، عزل بابن خلكان، ثم عزل ابن خلكان به ثانية، ثم عزل وسجن، وولي بعده بهاء الدين بن الزكي، وبقي معزولا إلى أن توفي ببستانه في تاسع ربيع الأول.

وصُلي عليه بسوق الخيل، ودفن بسفح قاسيون، وكان مولده سنة ثمان وعشرين وستمائة، وكان مشكور السيرة، له عقل وتدبير واعتقاد كثير في الصالحين، وقد سمع الحديث له ابن بلبان مشيخة قرأها ابن جعوان عليه، ودرس بعده بالعزروية الشيخ زين الدين عمر بن مكي بن المرحل، وكيل بيت المال، ودرس ابنه محيي الدين أحمد بالعمادية وزاوية الكلاسة من جامع دمشق.

ثم توفي ابنه أحمد هذا بعده في يوم الأربعاء ثامن رجب، فدرس بالعمادية والدماغية الشيخ زين الدين بن الفارقي شيخ دار الحديث نيابة عن أولاد القاضي عز الدين بن الصائغ بدر الدين وعلاء الدين.

وفيها توفي:

الملك السعيد فتح الدين عبد الملك

بن الملك الصالح أبي الحسن إسماعيل بن الملك العادل، وهو والد الملك الكامل ناصر الدين محمد، في ليلة الاثنين ثالث رمضان، ودفن من الغد بتربة أم الصالح، وكان من خيار الأمراء محترما كبيرا رئيسا، روى الموطأ عن يحيى بن بكير عن مكرم بن أبي الصقر، وسمع ابن الليثي وغيره.

القاضي نجم الدين عمر بن نصر بن منصور

البياني الشافعي، توفي في شوال منها، وكان فاضلا، ولي قضاء زرع ثم قضاء حلب، ثم ناب في دمشق ودرس بالرواحية وباشرها بعده شمس الدين عبد الرحمن بن نوح المقدسي، يوم عاشر شوال.

وفي هذا اليوم توفي بحماة ملكها:

الملك المنصور ناصر الدين محمد بن محمود

بن عمر بن ملكشاه بن أيوب، ولد سنة ثلاثين وستمائة، وتملك حماه سنة ثنتين وأربعين، وله عشر سنين، فمكث في الملك أزيد من أربعين سنة، وكان له بر وصدقات، وقد أعتق في بعض موته خلقا من الأرقاء، وقام في الملك بعده ولده الملك المظفر بتقليد الملك المنصور له بذلك.

القاضي جمال الدين أبو يعقوب يوسف بن عبد الله بن عمر الرازي

قاضي قضاة المالكية، ومدرسهم بعد القاضي زين الزواوي الذي عزل نفسه، وقد كان ينوب عنه فاستقل بعده بالحكم، توفي في الخامس من ذي القعدة وهو في طريق الحجاز، وكان عالما فاضلا قليل التكليف والتكلف.

وقد شغر المنصب بعده ثلاث سنين ودرس بعده للمالكية الشيخ جمال الدين الشريشي، وبعده أبو إسحاق اللوري، وبعده بدر الدين أبو بكر البريسي، ثم لما وصل القاضي جمال الدين بن سليمان حاكما درس بالمدارس والله سبحانه أعلم.

ثم دخلت سنة أربع وثمانين وستمائة

في أواخر المحرم قدم الملك المنصور إلى دمشق ومعه الجيوش وجاء إلى خدمته صاحب حماه الملك المظفر بن المنصور فتلقاه بجميع الجيوش، وخلع عليه خلعة الملوك.

ثم سافر السلطان بالعساكر المصرية والشامية فنزل المرقب ففتحه الله عليهم في يوم الجمعة ثامن عشر صفر، وجاءت البشارة بذلك إلى دمشق فدقت البشائر وزينت البلد وفرح المسلمون بذلك، لأن هذا الحصن كان مضرة على المسلمين، ولم يتفق فتحه لأحد من ملوك الإسلام لا للملك صلاح الدين، ولا للملك الظاهر ركن الدين بيبرس البندقداري، وفتح حوله بلنياس ومرقب وهي بلدة صغيرة إلى جانب البحر عند حصن منيع جدا لا يصل إليه سهم ولا حجر منجنيق، فأرسل إلى صاحب طرابلس فهدمه تقربا إلى السلطان الملك المنصور، واستنقذ المنصور خلقا كثيرا من أسارى المسلمين، الذين كانوا عند الفرنج، ولله الحمد.

ثم عاد المنصور إلى دمشق، ثم سافر بالعساكر المصرية إلى القاهرة.

وفي أواخر جمادى الآخرة ولد للمنصور ولده الملك الناصر محمد بن قلاوون.

وفيها: عزل محيي الدين ابن النحاس عن نظر الجامع ووليه عز الدين بن محيي الدين بن الزكي، وباشر ابن النحاس الوزارة عوضا عن التقي توبة التكريتي، وطلب التقي توبة إلى الديار المصرية وأحيط على أمواله وأملاكه، وعزل سيف الدين طوغان عن ولاية المدينة دمشق، وباشرها عز الدين بن أبي الهيجاء.

من الأعيان:

الشيخ عز الدين محمد بن علي ابن إبراهيم بن شداد

توفي في صفر، وكان فاضلا مشهورا، له كتاب سيرة الملك الظاهر، وكان معتنيا بالتاريخ.

البندقداري

أستاذ الملك الظاهر بيبرس، وهو الأمير الكبير علاء الدين أيديكين البندقداري الصالحي، كان من خيار الأمراء سامحه الله.

توفي في ربيع الآخر منها، وقد كان الصالح نجم الدين صادر البندقداري هذا، وأخذ منه مملوكه بيبرس فأضافه إليه لشهامته ونهضته، فتقدم عنده على أستاذه وغيره.

الشيخ الصالح العابد الزاهد شرف الدين أبو عبد الله محمد بن الحسن بن إسماعيل الأخميمي

كانت له جنازة هائلة، ودفن بقاسيون رحمه الله.

ابن عامر المقري الذي ينسب إليه الميعاد الكبير

الشيخ الصالح المقري شمس الدين أبو عبد الله محمد بن عامر بن أبي بكر الغسولي الحنبلي، سمع الحديث من الشيخ موفق الدين بن قدامة وغيره، وكان يعمل الميعاد ليلة الأحد، فإذا فرغوا من ذلك دعا بهم ثم وعظهم.

توفي يوم الأربعاء حادي عشر جمادى الآخرة ودفن بالقرب من تربة الشيخ عبد الله الأرمني.

القاضي عماد الدين داود بن يحيى بن كامل القرشي النصروي الحنفي

مدرس العزية بالكشك، وناب في الحكم عن مجد الدين بن العديم، وسمع الحديث وتوفي ليلة النصف من شعبان، وهو والد الشيخ نجم الدين القجقازي، شيخ الحنفية، وخطيب جامع تنكر.

الشيخ حسن الرومي شيخ سعيد السعداء بالقاهرة

وقد وليها بعده شمس الدين الأتابكي.

الرشيد سعيد بن علي بن سعيد، الشيخ رشيد الدين الحنفي مدرس الشبلية، وله تصانيف مفيدة كثيرة، ونظم حسن.

فمن ذلك قوله:

قل لمن يحذر أن تدركه ** نكبات الدهر لا يغني الحذر

أذهب الحزن اعتقادي ** أن كل شيء بقضاءٍ وقدر

ومن شعره قوله:

إلهي لك الحمد الذي أنت أهله ** على نعم منها الهداية للحمد

صحيحا خلقت الجسم مني مسلما ** ولطفلك بي ما زال مذ كنت في المهد

وكنت يتيما قد أحاط بي الردى ** فآويت واستنقذت من كل ما يردي

وهبت لي العقل الذي بضيائه ** إلى كل خير يهتدي طالب الرشد

ووفقت للإسلام قلبي ومنطقي ** فيا نعمة قد حل موقعها عندي

ولو رمت جهدي أن أجازى فضيلةً ** فضلت بها لم يجز أطرافها جهدي

ألست الذي أرجو حنانك عندما ** يخلفني الأهلون وحدي في لحدي

فجلي بلطف منك يهدي سريرتي ** وقلبي ويدينني إليك بلا بعد

توفي يوم السبت ثالث رمضان، وصلّي عليه العصر بالجامع المظفري، ودفن بالسفح.

أبو القاسم علي بن بلبان بن عبد الله

الناصري المحدث المفيد الماهر، توفي يوم الخميس مستهل رمضان.

الأمير مجير الدين محمد بن يعقوب بن علي المعروف بابن تميم الحموي الشاعر

صاحب الديوان في الشعر، فمن شعره قوله:

عاينت ورد الروض يلطم خده ** ويقول قولا في البنفسج يحنق

لا تقربوه وإن تضوع نشره ** ما بينكم فهو العدو الأزرق

الشيخ العارف شرف الدين

أبو عبد الله محمد بن الشيخ عثمان بن علي الرومي، ودفن بتربتهم بسفح قاسيون، ومن عندهم خرج الشيخ جمال الدين محمد الساوحي وحلق ودخل في ذي الجوالقية وصار شيخهم ومقدمهم.

ثم دخلت سنة خمس وثمانين وستمائة

استهلت والخليفة الحاكم أبو العباس أحمد، والسلطان الملك المنصور قلاوون، ونائبه بالشام الأمير حسام الدين لاجين السلحداري المنصوري، والأمير بدر الدين الصوابي محاصر مدينة الكرك في أواخر السنة الماضية، وقدم عليه من مصر عسكر صحبة الأمير حسام الدين طرقطاي.

فاجتمعوا على حصار الكرك حتى أنزلوا منها صاحبها الملك المسعود خضر بن الملك الظاهر، في مستهل صفر، وجاءت البشارة بذلك إلى دمشق، فدقت البشائر ثلاثة أيام، وعاد طرقطاي بالملك خضر وأهل بيته إلى الديار المصرية، كما فعل الملك الظاهر أبوه بالملك المغيث عمر بن العادل، كما تقدم ذلك.

واستناب في الكرك نائبا عن أمر المنصور، ورتب أمورها وأجلوا منها خلقا من الكركيين، واستخدموا بقلعة دمشق.

ولما اقترب دخول آل الظاهر إلى القاهرة تلقاهم المنصور فأكرم لقياهم وأحسن إلى الأخوين نجم الدين خضر، وبدر الدين سلامش، وجعلهما يركبان مع ابنيه علي والأشرف خليل، وجعل عليهما عيونا يرصدون ما يفعلان، وأنزلا الدور بالقلعة وأجرى عليهم من الرواتب والنفقات ما يكفيهم وزيادة كثيرة.

وكتب الأمير بدر الدين بكتوت العلائي وهو مجرد بحمص إلى نائب دمشق لاجين، أنه قد انعقد زوبعة في يوم الخميس سابع صفر بأرض حمص ثم ارتفعت في السماء كهيئة العمود والحية العظيمة، وجعلت تختطف الحجارة الكبار، ثم تصعد بها في الجو كأنها سهام النشاب وحملت شيئا كثيرا من الجمال بأحمالها، والأثاث والخيام والدواب، ففقد الناس من ذلك شيئا كثيرا، فإنا لله وإنا إليه راجعون.

وفي هذا اليوم وقع مطر عظيم في دمشق وجاء سيل كثير ولا سيما في الصالحية.

وفيها: أعيد علم الدين الدويداري إلى مشد الدواوين بدمشق، والصاحب تقي الدين بن توبة إلى الوزارة بدمشق.

وفيها: تولى قضاء المالكية بمصر زين الدين بن أبي مخلوف البريدي عوضا عن القاضي تقي الدين بن شاس الذي توفي بها.

وفيها: درس بالغزالية بدر الدين بن جماعة انتزعها من يد شمس الدين إمام الكلاسة، الذي كان ينوب عن شمس الدين الأيكي، والأيكي شيخ سعيد السعدا، باشرها شهرا ثم جاء مرسوم بإعادتها إلى الأيكي، وأنه قد استناب عنه جمال الدين الباجريقي، فباشرها الباجريقي في ثالث رجب.

من الأعيان:

أحمد بن شيبان ابن تغلب الشيباني

أحد مشايخ الحديث المسندين المعمرين بدمشق، توفي بصفر عن ثمان وثمانين سنة، ودفن بقاسيون.

الشيخ الإمام العالم البارع الشيخ جمال الدين أبو بكر محمد بن أحمد بن محمد بن عبد الله بن بحمان البكري الشريشي المالكي

ولد بشريش سنة إحدى وستمائة، ورحل إلى العراق فسمع بها الحديث من المشايخ والقطيعي وابن زوربة وابن الليثي وغيرهم، واشتغل وحصل وساد أهل زمانه.

ثم عاد إلى مصر فدرس بالفاضلية، ثم أقام بالقدس شيخ الحرم، ثم جاء إلى دمشق فولي مشيخة الحديث بتربة أم الصالح، ومشيخة الرباط الناصري بالسفح، ومشيخة المالكية، وعرض عليه القضاء فلم يقبل.

توفي يوم الاثنين الرابع والعشرين من رجب بالرباط الناصري بقاسيون، ودفن بسفح قاسيون تجاه الناصرية وكانت جنازته حافلة جدا.

قاضي القضاة يوسف ابن قاضي القضاة محيي الدين أبي الفضل

يحيى بن محمد بن علي بن محمد بن يحيى بن علي بن عبد العزيز بن علي بن الحسين بن محمد بن عبد الرحمن بن أبان بن عثمان بن عفان، القرشي الدمشقي المعروف بابن الزكي الشافعي، كان فاضلا مبرزا، وهو آخر من ولي القضاء من بني الزكي إلى يومنا هذا، ولد في سنة أربعين وسمع الحديث.

توفي ليلة الاثنين حادي عشر ذي الحجة، ودفن بقاسيون، وتولى بعده ابن الخوي شهاب الدين.

الشيخ مجد الدين يوسف بن محمد بن محمد بن عبد الله المصري ثم الدمشقي الشافعي الكاتب المعروف بابن المهتار

كان فاضلا في الحديث والأدب، يكتب كتابة حسنة جدا، وتولى مشيخة دار الحديث النورية، وقد سمع الكثير وانتفع الناس به وبكتابته، توفي عاشر ذي الحجة ودفن بباب الفراديس.

الشاعر الأديب شهاب الدين أبو عبد الله محمد بن عبد المنعم بن محمد المعروف بابن الخيمي

كانت له مشاركة في علوم كثيرة، ويد طولى في النظم الرائق، الفائق جاوز الثمانين وقد تنازع هو نجم الدين بن إسرائيل في قصيدة بائية فتحاكما إلى ابن الفارض فأمرهما بنظم أبيات على وزنها فنظم كل منهما فأحسن، ولكن لابن الخيمي يد طولى عليه.

وكذلك فعل ابن خلكان، وامتدحه على وزنها بأبيات حسان، وقد أطال ترجمته الجزري في كتابه.

وفيها كانت وفاة:

الحاج شرف الدين ابن مري

والد الشيخ محيي الدين النووي رحمه الله.

يعقوب بن عبد الحق أبو يوسف المديني

سلطان بلاد المغرب، خرج على الواثق بالله أبي دبوس فسلبه الملك بظاهر مراكش، واستحوذ على بلاد الأندلس والجزيرة الخضراء، في سنة ثمان وستين وستمائة، واستمرت أيامه إلى محرم هذه السنة، وزالت على يديه دولة الموحدين بها.

البيضاوي صاحب التصانيف

هو القاضي الإمام العلامة ناصر الدين عبد الله بن عمر الشيرازي، قاضيها وعالمها وعالم أذربيجان وتلك النواحي، مات بتبريز سنة خمس وثمانين وستمائة.

ومن مصنفاته: (المنهاج في أصول الفقه)، وهو مشهور، وقد شرحه غير واحد، وله: (شرح التنبيه) في أربع مجلدات، وله: (الغاية القصوى في دراية الفتوى)، و(شرح المنتخب) و(الكافية في المنطق)، وله: (الطوالع) و(شرح المحصول) أيضا، وله غير ذلك من التصانيف المفيدة، وقد أوصى إلى القطب الشيرازي أن يدفن بجانبه بتبريز والله سبحانه أعلم.

ثم دخلت سنة ست وثمانين وستمائة

في أول المحرم ركبت العساكر صحبة نائب الشام حسام الدين لاجين إلى معصارة صهيون وحصن برزية.

فما نعمهم الأمير سيف الدين سنقر الأشقر، فلم يزالوا به حتى استنزلوه وسلمهم البلاد، وسار إلى خدمة السلطان الملك المنصور، فتلقاه بالإكرام والاحترام، وأعطاه تقدمة ألف فارس، ولم يزل معظما في الدولة المنصورية إلى آخرها، وانقضت تلك الأحوال.

وفي النصف من المحرم حكم القاضي جلال الدين الحنفي نيابة عن أبيه حسام الدين الرازي، وفي الثالث عشر من ربيع الأول قدم القاضي شهاب الدين محمد بن القاضي شمس الدين بن الخليل الخوي من القاهرة على قضاء قضاة دمشق، وقرئ تقليده يوم الجمعة مستهل ربيع الآخر، واستمر بنيابة شرف الدين المقدسي.

وفي يوم الأحد ثالث شوال درس بالرواحية الشيخ صفي الدين الهندي، وحضر عنده القضاة والشيخ تاج الدين الفزاري، وعلم الدين الدويداري، وتولى قضاء قضاة القاهرة تقي الدين عبد الرحمن ابن بنت الأعز، عوضا عن برهان الدين الخضر السنجاري، وقد كان وليها شهرا بعد ابن الخوي فاجتمع حينئذ إلى ابن بنت الأعز بين القضاء كله بالديار المصرية، وذلك في أوائل صفر منها.

وفيها: استدعى سيف الدين السامري من دمشق إلى الديار المصرية ليشتري منه ربع جزر ما الذي اشتراه من بنت الملك الأشرف موسى، فذكر لهم أنه وقفه، وكان المتكلم في ذلك علم الدين الشجاعي، وكان ظالما، وكان قد استنابه الملك المنصور بديار مصر، وجعل يتقرب إليه بتحصيل الأموال، ففتق لهم ناصر الدين محمد بن عبد الرحمن المقدسي أن السامري اشترى هذا من بنت الأشرف، وهي غير رشيدة.

وأثبت سفهها على زين الدين بن مخلوف الجائر الجاهل، وأبطل البيع من أصله، واسترجع على السامري بمغل مدة عشرين سنة مائتي ألف درهم، وأخذوا منه حصة من الزنبقية قيمتها سبعين ألفا وعشرة آلاف مكملة، وتركوه فقيرا على بردا لديار.

ثم أثبتوا رشدها واشتروا منها تلك الحصص بما أرادوه، ثم أرادوا أن يستدعوا بالدماشقة واحدا بعد واحدٍ، ويصادرونهم، وذلك أنه بلغهم أن من ظلم بالشام لا يفلح وأن من ظلم بمصر أفلح وطالت مدته، وكانوا يطلبونهم إلى مصر أرض الفراعنة والظلم، فيفعلون معهم ما أرادوا.

من الأعيان:

الشيخ الإمام العلامة قطب الدين أبو بكر

محمد بن الشيخ الإمام أبي العباس أحمد بن علي بن محمد بن الحسن بن عبد الله بن أحمد الميموني القيسي التوزري المصري.

ثم المالكي الشافعي المعروف بالقسطلاني، شيخ دار الحديث الكاملية بالقاهرة، ولد سنة أربع عشرة وستمائة، ورحل إلى بغداد فسمع الكثير وحصل علوما، وكان يفتي على مذهب الشافعي، وأقام بمكة مدة طويلة ثم صار إلى مصر فولي مشيخة دار الحديث، وكان حسن الأخلاق محببا إلى الناس، توفي في آخر المحرم ودفن بالقرافة الكبرى، وله شعر حسن أورد منه ابن الجزري قطعة صالحة.

عماد الدين محمد بن العباس الدنيسري الطبيب الماهر

والحاذق الشاعر، خدم الأكابر والوزراء وعمر ثمانين سنة وتوفي في صفر من هذه السنة بدمشق.

قاضي القضاة برهان الدين الخضر بن الحسين بن علي السنجاري

تولى الحكم بديار مصر غير مرة، وولي الوزارة أيضا، وكان رئيسا وقورا مهيبا، وقد باشر القضاء بعده تقي الدين ابن بنت الأعز.

شرف الدين سليمان بن عثمان

الشاعر المشهور، له ديوان. مات في صفر منها.

الشيخ الصالح عز الدين عبد العزيز بن عبد المنعم بن الصيقل الحراني

ولد سنة أربع وتسعين وخمسمائة، وسمع الكثير، ثم استوطن مصر حتى توفي بها في رابع عشر رجب، وقد جاوز التسعين، وقد سمع منه الحافظ علم الدين البرزالي لما رحل إلى مصر في سنة أربع وثمانين.

وحكى عنه أنه شهد جنازة في بغداد فتبعهم نباش، فلما كان الليل جاء إلى ذلك القبر ففتح عن الميت، وكان الميت شابا قد أصابته سكتة، فلما فتح القبر نهض ذلك الشاب الميت جالسا فسقط النباش ميتا في القبر، وخرج الشاب من قبره، ودفن فيه النباش.

وحكى له قال: كنت مرة بقليوب وبين يدي صبرة قمح، فجاء زنبور فأخذ واحدة ثم ذهب بها، ثم جاء فأخذ أخرى ثم ذهب بها، ثم جاء فأخذ أخرى أربع مرات، قال: فاتبعته فإذا هو يضع الحبة في فم عصفور أعمى بين تلك الأشجار التي هناك.

قال: وحكى لي الشيخ عبد الكافي أنه شهد مرة جنازة فإذا عبد أسود معنا، فلما صلى الناس عليها لم يصل، فلما حضرنا الدفن نظر إلي وقال: أنا عمله ثم ألقى نفسه في قبر ذلك الميت، قال فنظرت فلم أر شيئا.

الحافظ أبو اليمن أمين الدين عبد الصمد بن عبد الوهاب بن الحسن بن محمد بن الحسن بن عساكر الدمشقي

ترك الرياسة والأملاك، وجاور بمكة ثلاثين سنة، مقبلا على العبادة والزهادة، وقد حصل له قبول من الناس شاميهم ومصريهم وغيرهم، توفي بالمدينة النبوية في ثاني رجب منها.

ثم دخلت سنة سبع وثمانين وستمائة

فيها قدم الشجاعي من مصر إلى الشام بنية المصادرة لأرباب الأموال من أهل الشام وفي أواخر ربيع الآخر قدم الشيخ ناصر الدين عبد الرحمن المقدسي من القاهرة، على وكالة بيت المال ونظر الأوقاف، ونظر الخاص، ومعه تقاليد وخلع فتردد الناس إلى بابه وتكلم في الأمور وآذى الناس، وكانت ولايته بسفارة الأمير علم الدين الشجاعي المتكلم في الديار المصرية.

توسل إليه بالشيخ شمس الدين الأيكي وبابن الوحيد الكاتب، وكانا عنده لهما صورة، وقد طلب جماعة من أعيان الدماشقة في أول هذه السنة إلى الديار المصرية فطولبوا بأموال كثيرة، فدافع بعضهم بعضا.

وهذا مما يخفف عقوبته من ظلمهم، وإلا فلو صبروا لعوجل الظالم بالعقوبة، ولزال عنهم ما يكرهون سريعا.

ولما قدم ابن المقدسي إلى دمشق كان يحكم بتربة أم الصالح، والناس يترددون إليه ويخافون شره، وقد استجد باشورة بباب الفراديس ومساطب باب الساعات للشهود، وجدد باب الجابية الشمالي ورفعه، وكان متواطئا، وأصلح الجسر الذي تحته، وكذلك أصلح جسر باب الفراديس تحت السويقة التي جددها عليه من الجانبين.

وهذا من أحسن ما عمله ابن المقدسي، وقد كان مع ذلك كثير الأذية للناس ظلوما غشوما، ويفتح على الناس أبوابا من الظلم لا حاجة إليها.

وفي عاشر جمادى الأولى قدم من الديار المصرية أيضا قاضي القضاة حسام الدين الحنفي، والصاحب تقي الدين توبة التكريتي، وقاضي القضاة جمال الدين محمد بن سليمان الزواوي المالكي على قضاء المالكية بعد شغوره عن حاكم بدمشق ثلاث سنين ونصف، فأقام شعار المنصب ودرس ونشر المذهب وكان له سؤدد ورياسة.

وفي ليلة الجمعة رابع شعبان توفي الملك الصالح علاء الدين بن الملك المنصور قلاوون بالسنطارية فوجد عليه أبوه وجدا شديدا، وقد كان عهد إليه بالأمر من بعده وخطب له على المنابر من مدة سنين، فدفنه في تربته وجعل ولاية العهد من بعده إلى ابنه الأشرف خليل، من بعد أبيه، وخطب له على المنابر من بعد ذكر أبيه يوم الجمعة، ودقت البشائر وزين البلد سبعة أيام، ولبس الجيش الخلع وركبوا، وأظهر الناس سرورا لشهامته، مع ما في قلوبهم على أبيه لأجل ظلم الشجاعي.

وفي رمضان باشر حسبة دمشق شمس الدين محمد بن السلعوسي عوضا عن شرف الدين ابن الشيزري وفيه توجه الشيخ بدر الدين بن جماعة إلى خطابة القدس بعد موت خطيبه قطب الدين، فباشر بعده تدريس القيمرية علاء الدين أحمد بن القاضي تاج الدين بن بنت الأعز.

وفي شهر رمضان كبس نصراني وعنده مسلمة وهما يشربان الخمر في نهار رمضان، فأمر نائب السلطنة حسام الدين لاجين بتحريق النصراني فبذل في نفسه أموالا جزيلة فلم يقبل منه، وأحرق بسوق الخيل، وعمل الشهاب محمود في ذلك أبياتا في قصيدة مليحة، وأما المرأة فجلدت الحد.

من الأعيان:

الخطيب الإمام قطب الدين أبو الزكا عبد المنعم

بن يحيى بن إبراهيم بن علي بن جعفر بن عبد الله بن محمد بن سعد بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف، القرشي، الزهري، خطيب بيت المقدس أربعين سنة، وكان من الصلحاء الكبار محبوبا عند الناس، حسن الهيئة مهيبا عزيز النفس، يفتى الناس ويذكر التفسير من حفظه في المحراب بعد صلاة الصبح.

وقد سمع الكثير وكان من الأخيار، ولد سنة ثلاث وستمائة، وتوفي ليلة الثلاثاء سابع رمضان عن أربع وثمانين سنة.

الشيخ الصالح العابد إبراهيم بن معضاد بن شداد بن ماجد الجعبري

تقي الدين أبو إسحاق، أصله من قلعة جعبر، ثم أقام بالقاهرة، وكان يعظ الناس وكان الناس ينتفعون بكلامه كثيرا.

توفي بالقاهرة يوم السبت الرابع والعشرين من المحرم، ودفن في تربته بالحسينية، وله نظم حسن، وكان من الصلحاء المشهورين رحمه الله.

الشيخ الصالح يس بن عبد الله المقري الحجام

شيخ الشيوخ محيي الدين النووي، وقد حج عشرين حجة، وكانت له أحوال وكرامات.

الخونده غازية خاتون

بنت الملك المنصور قلاوون، زوجة الملك السعيد.

الحكيم الرئيس علاء الدين علي بن أبي الحزم بن نفيس

شرح (القانون) لابن سينا وصنف (الموجز) وغيره من الفوائد وكان يكتب من حفظه، كان اشتغاله على ابن الدخواري، وتوفي بمصر في ذي القعدة.

الشيخ بدر الدين عبد الله بن الشيخ جمال الدين بن مالك النحوي

شارح الألفية التي عملها أبوه، وهو من أحسن الشروح وأكثرها فوائد، وكان لطيفا ظريفا فاضلا، توفي في يوم الأحد الثامن من المحرم، ودفن من الغد بباب الصغير. والله أعلم.

ثم دخلت سنة ثمان وثمانين وستمائة

فيها: كان فتح مدينة طرابلس: وذلك أن السلطان قلاوون قدم بالجيوش المنصورة المصرية صحبته إلى دمشق، فدخلها في الثالث عشر من صفر.

ثم سار بهم وبجيش دمشق وصحبته خلق كثير من المتطوعة، منهم القاضي نجم الدين الحنبلي، قاضي الحنابلة، وخلق من المقادسة وغيرهم، فنازل طرابلس يوم الجمعة مستهل ربيع الأول، وحاصرها بالمجانيق حصارا شديدا، وضيقوا على أهلها تضيقا عظيما، ونصب عليها تسعة عشر منجنيقا، فلما كان يوم الثلاثاء رابع جمادى الآخرة فتحت طرابلس في الساعة الرابعة من النهار عنوة، وشمل القتل والأسر جميع من فيها، وغرق كثير من أهل الميناء وسبيت النساء والأطفال، وأخذت الذخائر والحواصل، وقد كان لها في أيدي الفرنج من سنة ثلاث وخمسمائة إلى هذا التاريخ.

وقد كانت قبل ذلك في أيدي المسلمين من زمان معاوية، فقد فتحها سفيان بن نجيب لمعاوية، فأسكنها معاوية اليهود، ثم كان عبد الملك بن مروان جدد عمارتها وحصنها وأسكنها المسلمين، وصارت آمنة عامرة مطمئنة، وبها ثمار الشام ومصر، فإن بها الجوز والموز والثلج والقصب، والمياه جارية فيها تصعد إلى أماكن عالية، وقد كانت قبل ذلك ثلاث مدن متقاربة، ثم صارت بلدا واحدا، ثم حولت من موضعها كما سيأتي الآن.

ولما وصلت البشارة إلى دمشق دقت البشائر وزينت البلاد وفرح الناس فرحا شديدا ولله الحمد والمنة.

ثم أمر السلطان الملك المنصور قلاوون، أن تهدم البلد بما فيها من العمائر والدور والأسوار الحصينة التي كانت عليها، وأن يبنى على ميل منها بلدة غيرها أمكن منها وأحسن، ففعل ذلك، فهي هذه البلدة التي يقال لها طرابلس، ثم عاد إلى دمشق مؤيدا منصورا مسرورا محبورا.

فدخلها يوم النصف من جمادى الآخرة، ولكنه فوض الأمور والكلام في الأموال فيها إلى علم الدين الشجاعي، فصادر جماعة وجمع أموالا كثيرة، وحصل بسبب ذلك أذى الخلق.

وبئس هذا الصنيع فإن ذلك تعجيل لدمار الظالم وهلاكه، فلم يغن عن المنصور ما جمع له الشجاعي من الأموال شيئا، فإنه لم يعش بعد ذلك إلا اليسير حتى أخذه الله أخذ القرى وهي ظالمة، كما سيأتي.

ثم سافر السلطان في ثاني شعبان بجيشه إلى الديار المصرية، فدخلها في أواخر شعبان.

وفيها: فتحت قلاع كثيرة بناحية حلب: كركر، وتلك النواحي، وكسرت طائفة من التتر هناك، وقتل ملكهم خربندا نائب التتر على ملطية.

وفيها: تولى الحسبة بدمشق جمال الدين يوسف بن التقي توبة التكريتي، ثم أخذها بعد شهور تاج الدين الشيرازي.

وفيها: وضع منبر عند محراب الصحابة بسبب عمارة كانت في المقصورة، فصلى برهان الدين الإسكندري نائب الخطيب بالناس هناك مدة شهر، الجماعات والجمعات، ابتدؤا ذلك من يوم الجمعة الثاني والعشرين من ذي الحجة.

من الأعيان:

الشيخة فاطمة بنت الشيخ إبراهيم زوجة النجم بن إسرائيل

كانت من بيت الفقر، لها سلطنة وإقدام وترجمة وكلام في طريقة الحريرية وغيرهم، وحضر جنازتها خلق كثير، ودفنت عند الشيخ رسلان.

العالم بن الصاحب الشيخ الماجن

هو الشيخ الفاضل علم الدين أحمد بن يوسف بن عبد الله بن شكر، كان من بيت علم ورياسة، وقد درس في بعض المدارس، وكان له وجاهة ورياسة، ثم ترك ذلك كله وأقبل على الحرفشة وصحبة الحرافيش والتشبه بهم في اللباس والطريقة.

وأكل الحشيش واستعمله، كان من الفهم في الخلاعة والمجون والزوائد الرائقة الفائقة التي لا يلحق في كثير منها، وقد كان له أولاد فضلاء ينهونه عن ذلك فلم يلتفت إليهم، ولم يزل ذلك دأبه حتى توفي ليلة الجمعة الحادي والعشرين من ربيع الأول.

ولما ولي القضاة الأربعة كان ابن خالته تاج الدين بن بنت الأعز مستقلا في القضاء قبل ذلك، فقال له ابن الصاحب المذكور: ما مت حتى رأيتك صاحب ربع، فقال له: تسكت وإلا خليتهم يسقونك السم، فقال له: في قلة دينك تفعل، وفي قلة عقولهم يسمعوا منك، وقال يمدح الحشيشة الخسيسة:

في خمار الحشيش معنى مرامي ** يا أهيل العقول والإفهام

حرموها من غير عقلٍ ونقلٍ ** وحرام تحريم غير الحرام

وله أيضا:

يا نفس ميلي إلى التصابي ** فاللهو منه الفتى يعيش

ولا تملي من سكر يومٍ ** إن أعوز الخمر فالحشيش

وله أيضا:

جمعت بين الحشيش والخمر ** فرحت لا أهتدي من السكر

يا من يريني لباب مدرستي ** يريح والله غاية الأجر

وقال يهجو الصاحب بهاء الدين بن الحنا:

اقعد بها وتهنا ** لا بد أن تتعنى

تكتب على بن محمد ** من أين لك يا بن حنا

فاستدعاه فضربه، ثم أمر به إلى المارستان فمكث فيه سنة ثم أطلق.

شمس الدين الأصبهاني شارح المحصول

محمد بن محمود بن محمد بن عباد السلماني العلامة، قدم دمشق بعد الخمسين وستمائة، وناظر الفقهاء واشتهرت فضائله، وسمع الحديث وشرح (المحصول) للرازي، وصنف القواعد في أربعة فنون، أصول الفقه، وأصول الدين، والمنطق، والخلاف.

وله معرفة جيدة في المنطق والنحو والأدب، وقد رحل إلى مصر فدرس بمشهد الحسين والشافعي وغيرهما، ورحل إليه الطلبة، وتوفي في العشرين من رجب في القاهرة عن ثنتين وسبعين سنة.

الشمس محمد بن العفيف سليمان بن علي بن عبد الله بن علي التلمساني

الشاعر المطبق، كانت وفاته في حياة أبيه فتألم له ووجد عليه وجدا شديدا، ورثاه بأشعار كثيرة، توفي يوم الأربعاء الرابع عشر من رجب، وصلّي عليه بالجامع، ودفن بالصوفية.

فمن رائق شعره قوله:

وإن ثناياه نجومٌ لبدره ** وهن لعقد الحسن فيه فرائد

وكم يتجافى خصره وهو ناحلٌ ** وكم يتحلى ثغره وهو بارد

وله يذم الحشيشة:

ما للحشيشة فضلٌ عند آكلها ** لكنها غير مصروف إلى رشده

صفراء في وجهه خضراء في فمه ** حمراء في عينة سوداء في كبده

ومن شعره أيضا:

بدا وجهه من فوق ذابل خده ** وقد لاح من سود الذوائب في جنح

فقلت عجيب كيف لم يذهب الدجا ** وقد طلعت شمس النهار على رمح

وله من جملة أبيات:

ما أنت عندي والقضيـ **ـب اللدن في حد سوى هذاك حركه الهوا ** وأنت حركت الهوى

الملك المنصور شهاب الدين محمود بن الملك الصالح

إسماعيل بن العادل، توفي يوم الثلاثاء ثامن عشر شعبان.

وصلي عليه بالجامع، ودفن من يومه بتربة جده، وكان ناظرها، وقد سمع الحديث الكثير، وكان يحب أهله، وكان فيه لطف وتواضع.

الشيخ فخر الدين أبو محمد عبد الرحمن بن يوسف البعلبكي الحنبلي

شيخ دار الحديث النورية ومشهد ابن عروة، وشيخ الصدرية، كان يفتي ويفيد الناس مع ديانة وصلاح وزهادة وعبادة، ولد سنة إحدى عشرة وستمائة، وتوفي في رجب منها.

ثم دخلت سنة تسع وثمانين وستمائة

فيها:كانت وفاة الملك المنصور قلاوون، وكان الخليفة الحاكم العباسي، ونائب مصر حسام الدين طرقطاي، ونائب الشام حسام الدين لاجين، وقضاة الشام شهاب الدين بن الخوي الشافعي، وحسام الدين الحنفي، ونجم الدين بن شيخ الجبل، وجمال الدين الزواوي المالكي.

وجاء البريد يطلب شمس الدين سنقر الأشقر إلى الديار المصرية، فأكرمه السلطان وقواه وشديده وأمره باستخلاص الأموال، وزاده مشد الجيوش، والكلام على الحصون إلى البيرة وكختا وغير ذلك، فقويت نفسه وزاد تجبره ولكن كان يرجع إلى مروءة وستر وينفع من ينتمي إليه، وذلك مودة في الدنيا في أيام قلائل، وفي جمادى الآخرة جاء البريد بالكشف على ناصر الدين المقدسي، وكيل بيت المال، وناظر الخاص، فظهرت عليه مخازي من أكل الأوقاف وغيرها، فرسم عليه بالعذراوية وطولب بتلك الأموال وضيق عليه.

وعمل فيه سيف الدين أبو العباس السامري قصيدة يتشفى فيها لما كان أسدى إليه من الظلم والإيذاء، مع أنه راح إليه وتغمم له وتمازحا هنالك.

ثم جاء البريد بطلبه إلى الديار المصرية فخاف النواب من ذهابه، فأصبح يوم الجمعة وهو مشنوق بالمدرسة العذراوية، فطلبت القضاة والشهود فشاهدوه كذلك، ثم جهز وصلي عليه بعد الجمعة ودفن بمقابر الصوفية عند أبيه، وكان مدرسا بالرواحية وتربة أم الصالح، مع الوكالتين والنظر.

وجاء البريد بعمل مجانيق لحصار عكا، فركب الأعسر إلى أراضي بعلبك، لما هنالك من الأخشاب العظيمة التي لا يوجد مثلها بدمشق، وهي تصلح لذلك، فكثرت الجنايات والجبايات والسخر، وكلفوا الناس تكليفا كثيرا، وأخذوا أخشاب الناس، وحملت إلى دمشق بكلفة عظيمة وشدة كثيرة، فإنا لله وإنا إليه راجعون.

وفاة الملك المنصور قلاوون

بينما الناس في هذا الهم والمصادرات وأمثال ذلك، إذ وردت بريدية فأخبروا بوفاة الملكا لمنصور يوم السبت سادس ذي القعدة من هذه السنة، بالمخيم ظاهر القاهرة، ثم حمل إلى قلعة الجبل ليلا وجلس بعده ولده الملك الأشرف خليل بولاية العهد له، وحلف له جميع الأمراء، وخطب له على المنابر، وركب في أبهة الملك، والعساكر كلهم في خدمته مشاة من قلعة الجبل إلى الميدان الأسود الذي هو سوق الخيل، وعلى الأمراء والمقدمين الخلع، وعلى القضاة والأعيان.

ولما جاءت الأخبار بذلك حلف له الأمراء بالشام، وقبض على حسام الدين طرقطاي نائب أبيه وأخذ منه أموالا جزيلة أنفق منها على العساكر.

وفيها: ولي خطابة دمشق زين الدين عمر بن مكي بن المرحل عوضا عن جمال الدين بن عبد الكافي، وكان ذلك بمساعدة الأعسر، وتولى نظر الجامع الرئيس وجيه الدين بن المنجي الحنبلي، عوضا عن ناصر الدين بن المقدسي، وثمر وقعة وعمره وزاد مائة وخمسين ألفا.

وفيها: احترقت دار صاحب حماه، وذلك أنه وقع فيها نار في غيبته فلم يتجاسر أحد يدخلها، فعملت النار فيها يومين فاحترقت واحترق كل ما فيها.

وفي شوال درس بتربة أم الصالح بعد ابن المقدسي القاضي إمام الدين القونوي.

وفيها: باشر الشرف حسين بن أحمد بن الشيخ أبي عمر قضاء الحنابلة عوضا عن ابن عمه نجم الدين بن شيخ الجبل، عن مرسوم الملك المنصور قبل وفاته.

وحج بالناس في هذه السنة من الشام الأمير بدر الدين بكتوت الدوباسي، وحج قاضي القضاة شهاب الدين بن الخوي، وشمس الدين بن السلعوس، ومقدم الركب الأمير عتبة، فتوهم منه أبو نمي، وكان بينهما عداوة فأغلق أبواب مكة ومنع الناس من دخولها فأحرق الباب وقتل جماعة ونهب بعض الأماكن، وجرت خطوب فظيعة.

ثم أرسلوا القاضي ابن الخوي ليصلح بين الفريقين، ولما استقر عند أبي نمي رحل الركوب وبقي هو في الحرم وحده وأرسل معه أبو نمي من ألحقه بهم سالما معظما.

وجاء الخبر بموت المنصور إلى الناس وهم بعرفات وهذا شيء عجيب.

وجاء كتاب يستحث الوزير ابن السلعوس في المسير إلى الديار المصرية، وبين الأسطر بخط الملك الأشرف: يا شقير يا وجه الخير احضر لتستلم الوزارة.

فساق إلى القاهرة فوصلها يوم الثلاثاء عاشر المحرم، فتسلم الوزارة كما قال السلطان.

من الأعيان:

السلطان الملك المنصور قلاوون

ابن عبد الله التركي الصالحي الألفي، اشتراه الملك الصالح نجم الدين أيوب بن الملك الكامل محمد بن العادل أبي بكر بن أيوب، بألفي دينار، وكان من أكابر الأمراء عنده وبعده.

ولما تزوج الملك السعيد بن الظاهر بابنته غازية خاتون، عظم شأنه جدا عند الظاهر، وما زال يترفع في الدولة حتى صار أتابك سلامش بن الظاهر، ثم رفعه من البين واستقل بالملك في سنة أربع وثمانين، وفتح طرابلس سنة ثمان وثمانين، وعزم على فتح عكا وبرز إليها فعاجلته المنية في السادس والعشرين من ذي القعدة، ودفن بتربته بمدرسته الهائلة التي أنشأها بين القصرين، التي ليس بديار مصر ولا بالشام مثلها.

وفيها: دار حديث ومارستان.

وعليها أوقاف دارة كثيرة عظيمة، مات عن قريب من ستين سنة، وكانت مدة ملكه اثنتي عشرة سنة، وكان حسن الصورة مهيبا، عليه أبهة السلطنة ومهابة الملك، تام القامة حسن اللحية عالي الهمة شجاعا وقورا سامحه الله.

الأمير حسام الدين طرقطاي

نائب السلطنة المنصورية بمصر، أخذه الأشرف فسجنه في قلعة الجبل، ثم قتله وبقي ثمانية أيام لا يدري به، ثم لف في حصير وألقي عل مزبلة، وحزن عليه بعض الناس، فكفن كآحاد الفقراء بعد النعيم الكثير، والدنيا المتسعة، والكلمة النافذة، وقد أخذ السلطان من حواصله ستمائة ألف دينار وسبعين قنطارا بالمصري فضة، ومن الجواهر شيئا كثيرا، سوى الخيل والبغال والجمال والأمتعة والبسط الجياد، والأسلحة المثمنة، وغير ذلك من الحواصل والأملاك بمصر والشام.

وترك ولدين أحدهما أعمى، وقد دخل هذا الأعمى على الأشرف فوضع المنديل على وجهه وقال: شيء لله وذكر له أن لهم أياما لا يجدون شيئا يأكلونه، فرق له وأطلق لهم الأملاك يأكلون من ريعها، فسبحان الله المتصرف في خلقه بما يشاء، يعز من يشاء ويذل من يشاء.

الشيخ الإمام العلامة رشيد الدين عمر بن إسماعيل بن مسعود الفارقي الشافعي

مدرس الظاهرية، توفي بها وقد جاوز التسعين، وجد مخنوقا في المحرم، ودفن بالصوفية، وقد سمع الحديث، وكان منفردا في فنون من العلوم كثيرة، منها علم النحو، والأدب، وحل المترجم، والكتابة، والإنشاء، وعلم الفلك والنجوم، وضرب الرمل، والحساب، وغير ذلك، وله نظم حسن.

الخطيب جمال الدين أبو محمد عبد الكافي بن عبد الملك بن عبد الكافي الربعي

توفي بدار الخطابة وحضر الناس الصلاة عليه يوم السبت سلخ جمادى الأولى، وحمل إلى السفح فدفن إلى جانب الشيخ يوسف الفقاعي.

فخر الدين أبو الظاهر إسماعيل ابن عز القضاة أبي الحسن علي بن محمد بن عبد الواحد بن أبي اليمن

الشيخ الزاهد المتقلل من متاع الدنيا، توفي في العشرين من رمضان، وصلي عليه في الجامع، ودفن بتربة بني الزكي بقاسيون محبة في محيي الدين بن عربي، فإنه كان يكتب من كلامه كل يوم ورقتين، ومن الحديث ورقتين، وكان مع هذا يحسن الظن به، وكان يصلي مع الأئمة كلهم بالجامع، وقد أخبر عنه بعض العلماء أنه رأى بخطه.

وفي كل شيء له آية ** تدل على أنه عينه

وقد صحح على عينه وإنما الصحيح المروي عمن أنشد هذا الشعر: ** تدل على أنه واحد **

وله شعر فمنه:

والنهر مذ جن في الغصون هوى ** فراح في قلبه يمثلها

فغار منه النسيم عاشقها ** فجاء عن وصله يميلها

وله أيضا:

لما تحقق بالإمكان فوقكم ** وقد بدا حكمه في عالم الصور

فميز الجمع عنه وهو متخذ ** فلاح فرقكم في عالم الصور

وله:

لي سادة لا أرى سواهم ** هم عين معناي وعين جوفي

لقد أحاطوا بك جزء ** مني وعزوا عن درك طرفي

هم نظروا في عموم فقري ** وطول ذلي وفرط ضعفي

فعاملوني ببحت جود ** وصرف بر ومحض لطف

فلا تلم إن جررت ذيلي ** فخرا بهم أو ثنيت عطفي

وله:

مواهب ذي الجلال لدى تتري ** فقد أخر ستني ونطقن شكرا

فنعمى إثر نعمى إثر نعمى ** وبشرى بعد بشرى بعد بشرى

لها بدء وليس لها انتهاء ** يعم مزيدها دنيا وأخرى

الحاج طيبرس بن عبد الله

علاء الدين الوزير، صهر الملك الظاهر، كان من أكابر الأمراء، ذوي الحل والعقد، وكان دينا كثير الصدقات، له خان بدمشق أوقفه، وله في فكاك الأسرى وغير ذلك، وأوصى عند موته بثلاثمائة ألف تصرف على الجند بالشام ومصر، فحصل لكل جندي خمسون درهما، وكانت وفاته في ذي الحجة، ودفن بتربته بسفح المقطم.

قاضي القضاة نجم الدين أبو العباس أحمد بن الشيخ شمس الدين بن أبي عمر المقدسي

توفي ثاني عشر رجب بسوا، وكان فاضلا بارعا خطيبا مدرسا بأكثر المدارس، وهو شيخ الحنابلة وابن شيخهم، وتولى بعده القضاء الشيخ شرف الدين حسين بن عبد الله بن أبي عمر، والله أعلم.

ثم دخلت سنة تسعين وستمائة من الهجرة

فيها: فتحت عكا وبقية السواحل التي كانت بأيدي الفرنج من مدد متطاولة، ولم يبق لهم فيها حجر واحد، ولله الحمد والمنة.

استهلت هذه السنة والخليفة الحاكم بأمر الله أبو العباس العباسي، وسلطان البلاد الملك الأشرف خليل بن المنصور قلاوون، ونائبه بمصر وأعمالها بدر الدين بيدرا، ووزيره ابن السلعوس الصاحب شمس الدين، ونائبه بالشام حسام الدين لاجين السلحداري المنصوري، وقضاة الشام هم المذكورون في التي قبلها، وصاحب اليمن الملك المظفر شمس الدين يوسف بن المنصور نور الدين عمر بن علي بن رسول، وصاحب مكة نجم الدين أبو نمي محمد بن إدريس بن علي بن قتادة الحسيني، وصاحب المدينة عز الدين جماز بن شيحة الحسيني، وصاحب الروم غياث الدين كيخسرو، وهو ابن ركن الدين قلج أرسلان السلجوقي، وصاحب حماة تقي الدين محمود بن الملك المنصور ناصر الدين محمد بن الملك المظفر تقي الدين محمد، وسلطان بلاد العراق وخراسان وتلك النواحي أرغون بن أبغا بن هولاكو بن تولى بن جنكيز خان.

وكان أول هذه السنة يوم الخميس وفيه تصدق عن الملك المنصور بأموال كثيرة جدا من الذهب والفضة، وأنزل السلطان إلى تربته في ليلة الجمعة فدفن بها تحت القبة، ونزل في قبره بدر الدين بيدرا، وعلم الدين الشجاعي، وفرقت صدقات كثيرة حينئذ، ولما قدم الصاحب شمس الدين بن السلعوس من الحجاز خلع عليه للوزارة، وكتب تقليده بها القاضي محيي الدين بن عبد الظاهر كاتب الإنشا بيده، وركب الوزير في أبهة الوزارة إلى داره، وحكم.

ولما كان يوم الجمعة قبض على شمس الدين سنقر الأشقر وسيف الدين بن جرمك الناصري، وأفرج عن الأمير زين الدين كتبغا، وكان قد قبض عليه مع طرقطاي، ورد عليه أقطاعه، وأعيد التقي توبة إلى وزارة دمشق مرة أخرى.

وفيها: أثبت ابن الخوي محضرا يتضمن أن يكون تدريس الناصرية للقاضي الشافعي وانتزعها من زين الدين الفارقي.

فتح عكا وبقية السواحل

وفيها جاء البريد إلى دمشق في مستهل ربيع الأول لتجهيز آلات الحصار لعكا، ونودي في دمشق الغزاة في سبيل الله إلى عكا، وقد كان أهل عكا في هذا الحين عدوا على من عندهم من تجار المسلمين فقتلوهم وأخذوا أموالهم، فأبرزت المناجيق إلى ناحية الجسورة، وخرجت العامة والمتطوعة يجرون في العجل حتى الفقهاء والمدرسين والصلحاء، وتولى ساقها الأمير علم الدين الدويداري، وخرجت العساكر بين يدي نائب الشام، وخرج هو في اخترهم، ولحقه صاحب حماة الملك المظفر وخرج الناس من كل صوب، واتصل بهم عسكر طرابلس، وركب الأشرف من الديار المصرية بعساكره قاصدا عكا.

فتوافت الجيوش هنالك، فنازلها يوم الخميس رابع ربيع الآخر ونصبت عليها المناجيق من كل ناحية يمكن نصبها عليها، واجتهدوا غاية الاجتهاد في محاربتها والتضييق على أهلها، واجتمع الناس بالجوامع لقراءة صحيح البخاري، فقرأه الشيخ شرف الدين الفزاري، فحضر القضاة والفضلاء والأعيان.

وفي أثناء محاصرة عكا وقع تخبط من نائب الشام حسام الدين لاجين، فتوهم أن السلطان يريد مسكه، وكان قد أخبره بذلك الأمير الذي يقال له أبو خرص، فركب هاربا فرده علم الدين الدويداري بالمسا به، وجاء به إلى السلطان، فطيب قلبه وخلع عليه.

ثم أمسكه بعد ثلاثة أيام وبعثه إلى قلعة صفد واحتاط على حواصله، ورسم على أستاذ داره بدر الدين بكداش، وجرى ما لا يليق وقوعه هنالك، إذ الوقت وقت عسر وضيق وحصار.

وصمم السلطان على الحصار فرتب الكوات ثلاثمائة حمل، ثم زحف يوم الجمعة سابع عشر جمادى الأولى ودقت الكوات جملة واحدة عند طلوع الشمس، وطلع المسلمون على الأسوار مع طلوع الشمس ونصبت السناجق الإسلامية فوق أسوار البلد، فولت الفرنج عند ذلك الأدبار، وركبوا هاربين في مراكب التجار.

وقتل منهم عدد لا بعمله إلا الله تعالى، وغنموا من الأمتعة والرقيق والبضائع شيئا كثيرا جدا، وأمر السلطان بهدمها وتخريبها، بحيث لا ينتفع بها بعد ذلك، فيسر الله فتحها نهار جمعة، كما أخذتها الفرنج من المسلمين في يوم الجمعة، وسلمت صور وصيدا قيادتهما إلى الأشرف، فاستوثق الساحل للمسلمين، وتنظف من الكافرين، وقطع دابر القوم الذين ظلموا والحمد لله رب العالمين.

وجاءت البطاقة إلى دمشق بذلك ففرح المسلمون، ودقت البشائر في سائر الحصون، وزينت البلاد ليتنزه فيها الناظرون المتفرجون، وأرسل السلطان إلى صور أميرا فهدم أسوارها وعفا آثارها.

وقد كان لها في أيدي الفرنج من سنة ثمان عشرة وخمسمائة.

وأما عكا فقد كان الملك الناصر يوسف بن أيوب أخذها من أيدي الفرنج، ثم إن الفرنج جاؤوا فأحاطوا بها بجيوش كثيرة، ثم جاء صلاح الدين ليمنعهم عنها مدة سبعة وثلاثين شهرا، ثم آخر ذلك استملكوها وقتلوا من كان فيها من المسلمين، كما تقدم ذلك.

ثم إن السلطان الملك الأشرف خليل بن المنصور قلاوون، سار من عكا قاصدا دمشق في أبهة الملك، وحرمة وافرة، وفي صحبته وزيره ابن السلعوس والجيوش المنصورة، وفي هذا اليوم استناب بالشام الأمير علم الدين سنجر الشجاعي، وسكن بدار السعادة، وزيد في إقطاع حرستا ولم تقطع لغيره، وإنما كانت لمصالح حوا صل القلعة، وجعل له في كل يوم ثلاثمائة على دار الطعام.

وفوض إليه أن يطلق من الخزانة ما يريد من غير مشاورة ولا مراجعة، وأرسله السلطان إلى صيدا لأنه كان قد بقي بها برج عصي، ففتحه ودقت البشائر بسببه، ثم عاد سريعا إلى السلطان فودعه، وسار السلطان نحو الديار المصرية في أواخر رجب، وبعثه إلى بيروت ليفتحها فسار إليها ففتحها في أقرب وقت، وسلمت عقلية وانطرطوس وجبيل.

ولم يبق بالسواحل ولله الحمد معقل للإفرنج إلا بأيدي المسلمين، وأراح الله منهم البلاد والعباد، ودخل السلطان إلى القاهرة في تاسع شعبان في أبهة عظيمة جدا، وكان يوما مشهودا، وأفرج عن بدر الدين بيسرى بعد سجن سبع سنين.

ورجع علم الدين سنجر الشجاعي نائب دمشق إلى دمشق في سابع عشرين الشهر المذكور، وقد نظف السواحل من الفرنج بالكلية، ولم يبق لهم بها حجر.

وفي رابع رمضان أفرج عن حسام الدين لاجين من قلعة صفد ومعه جماعة أمراء، ورد عليهم إقطاعياتهم، وأحسن إليهم وأكرمهم.

وفي أوائل رمضان طلب القاضي بدر الدين بن جماعة من القدس الشريف وهو حاكم به، وخطيب فيه، على البريد إلى الديار المصرية فدخلها في رابع عشرة، وأفطر ليلتئذ عند الوزير بن السلعوس وأكرمه جدا واحترمه، وكانت ليلة الجمعة، فصرح الوزير بعزل تقي الدين ابن بنت الأعز، وتوليه ابن جماعة بالديار المصرية قضاء القضاة، وجاء القضاة إلى تهنئته وأصبح الشهود بخدمته، ومع القضاء خطابة الجامع الأزهر، وتدريس الصالحية، وركب في الخلعة والطرحة ورسم لبقية القضاة أن يستمروا بلبس الطريحات، وذهب فخطب بالجامع الأزهر، وانتقل إلى الصالحية ودرس بها في الجمعة الأخرى، وكان درسا حافلا، ولما كان يوم الجمعة رسم السلطان للحاكم بأمر الله أن يخطب هو بنفسه الناس يومئذ، وأن يذكر في خطبته أنه قد ولى السلطنة لأشرف خليل بن المنصور.

فلبس خلعة سوداء وخطب الناس بالخطبة التي كان خطب بها في الدولة الظاهرية، وكانت من إنشاء الشيخ شرف الدين المقدسي في سنة ستين وستمائة، فيكون بين الخطبتين أزيد من ثلاثين سنة، وذلك بجامع قلعة الجبل، ثم استمر ابن جماعة يخطب بالقلعة عند السلطان، وكان يستنيب في الجامع الأزهر.

وأما ابن بنت الأعز فناله من الوزير إخراق ومصادرة وإهانة بالغة، ولم يترك له من مناصبه شيئا، وكان بيده سبعة عشر منصبا، منها القضاء والخطابة ونظر الأحباش ومشيخة الشيوخ، ونظر الخزانة وتداريس كبار، وصادره بنحو من أربعين ألف، غير مراكبه وأشياء كثيرة، ولم يظهر منه استكانة له ولا خضوع.

ثم عاد فرضي عنه وولاه تدريس الشافعي، وعملت ختم عند قبر المنصور في ليلة الاثنين رابع ذي القعدة وحضرها القضاة والأمراء، ونزل السلطان ومعه الخليفة إليهم وقت السحر، وخطب الخليفة بعد الختم خطبة بليغة، حرض الناس على غزو بلاد العراق واستنقاذها من أيدي التتر، وقد كان الخليفة قبل ذلك محتجبا فرآه الناس جهرةً، وركب في الأسواق بعد ذلك.

وعمل أهل دمشق ختمة عظيمة بالميدان الأخضر إلى جانب القصر الأبلق، فقرئت ختمات كثيرة، ثم خطب الناس بعدها الشيخ عز الدين القاروني، ثم ابن البزوري، ثم تكلم من له عادة بالكلام وجاءت البريدية بالتهيؤ لغزو العراق، ونودي في الناس بذلك، وعملت سلاسل عظام بسبب الجسورة على دجلة بغداد، وحصلت الأجور على المقصود وإن لم يقع المقصود، وحصل لبعض الناس أذىً بسبب ذلك.

وفيها: نادى نائب الشام الشجاعي أن لا تلبس امرأة عمامة كبيرة، وخرب الأبنية التي على نهر بانياس والجداول كلها والمسالح والسقايات التي على الأنهار كلها، وأخرب جسر الزلابية وما عليه من الدكاكين، ونادى أن لا يمشي أحد بعد العشاء الآخرة، ثم أطلق لهم هذه فقط.

وأخرب الحمام الذي كان بناه الملك السعيد ظاهر باب النصر، ولم يكن بدمشق أحسن منه، ووسع الميدان الأخضر من ناحية الشمال مقدار سدسه، ولم يترك بينه وبين النهر إلا مقدارا يسيرا، وعمل هو بنفسه والأمراء بحيطانه.

وفيها: حبس جمال الدين آقوش الأفرم المنصوري وأميرا آخر معه في القلعة.

وفيها: حمل الأمير علم الدين الدويداري إلى الديار المصرية مقيدا.

وقد نظم الشيخ شهاب الدين محمود قصيدة في فتح عكا:

الحمد لله زالت دولة الصلب ** وعز الترك دين المصطفى العربي

هذا الذي كانت الآمال لو طلبت ** رؤياه في النوم لاستحيت من الطلب

ما بعد عكا وقد هدت قواعدها ** في البحر للترك عند البر من أرب

لم يبق من بعدها للكفر إذ خربت ** في البحر والبر ما ينجي سوى الهرب

أم الحروب فكم قد أنشأت فتنا ** شاب الوليد بها هولا ولم تشب

يا يوم عكا لقد أنسيت ما سبقت ** به الفتوح وما قد خط في الكتب

لم يبلغ النطق حد الشكر فيك فما ** عسى يقوم به ذو الشعر والأدب

أغضبت عباد عيسى إذ أبدتهم ** لله أي رضى في ذلك الغضب

وأشرف الهادي المصطفى البشير على ** ما أسلف الأشرف السلطان من قرب

فقر عينا لهذا الفتح وابتهجت ** ببشره الكعبة الغراء في الحجب

وسار في الأرض سيرا قد سمعت به ** فالبر في طرب، والبحر في حرب

وهي طويلة جدا، وله ولغيره في فتح عكا أشعار كثيرة.

ولما رجع البريد أخبر بأن السلطان لما عاد إلى مصر خلع على وزيره ابن السلعوس جميع ملابسه التي كانت عليه، ومركوبه الذي كان تحته، فركبه ورسم له بثمانية وسبعين ألفا من خزانة دمشق، ليشتري له بها قرية قرحتا من بيت المال.

وفي هذه السنة انتهت عمارة قلعة حلب بعد الخراب الذي أصابها من هولاكو وأصحابه عام ثمان وخمسين.

وفيها: في شوال شرع في عمارة قلعة دمشق وبناء الدور السلطانية والطارمة والقبة الزرقاء، حسب ما رسم به السلطان الأشرف خليل بن قلاوون لنائبه علم الدين سنجر الشجاعي.

وفيها: في رمضان أعيد إلى نيابة القلعة الأمير أرجواش وأعطى إقطاعات سنية.

وفيها: أرسل الشيخ الرجيحي من ذرية الشيخ يونس مضيقا عليه محصورا إلى القاهرة.

وفيها: درس عز الدين القاروني بالمدرسة النجيبية عوضا عن كمال الدين ابن خلكان، وفي ذلك اليوم درس نجم الدين مكي بالرواحية عوضا عن ناصر الدين ابن المقدسي.

وفيه درس كمال الدين الطبيب بالمدرسة الدخوارية الطبية، وفي هذا الشهر درس الشيخ جلال الدين الخبازي بالخاتونية البرانية، وجمال الدين بن الناصر بقي بالفتحية، وبرهان الدين الإسكندري بالقوصية التي بالجامع والشيخ نجم الدين الدمشقي بالشريفية عند حارة الغرباء.

وفيها: أعيدت الناصرية إلى الفارقي، وفيه درس بالأمينية القاضي نجم الدين بن صصرى بعد ابن الزملكاني، وأخذت منه العادلية الصغيرة لكمال الدين ابن الزملكاني.

من الأعيان:

أرغون بن أبغا ملك التتار

كان شهما شجاعا سفاكا للدماء، قتل عمه السلطان أحمد بن هولاكو، فعظم في أعين المغول، فلما كان في هذه السنة مات من شراب شربه فيه سم، فاتهمت المغول اليهود به - وكان وزيره سعد الدولة ابن الصفي يهوديا - فقتلوا من اليهود خلقا كثيرا، ونهبوا منهم أموالا عظيمة جدا في جميع مدائن العراق، ثم اختلفوا فيمن يقيمونه بعده، فمالت طائفة إلى كيختو فأجلسوه على سرير المملكة، فبقي مدة، قيل سنة وقيل أقل من ذلك، ثم قتلوه وملكوا بعده بيدرا.

وجاء الخبر بوفاة أرغون إلى الملك الأشرف وهو محاصر عكا ففرح بذلك كثيرا، وكانت مدة ملك أرغون ثمان سنين، وقد وصفه بعض مؤرخي العراق بالعدل والسياسة الجيدة.

المسند المعمر الرحالة فخر الدين بن النجار

وهو أبو الحسن علي بن أحمد بن عبد الواحد المقدسي الحنبلي المعروف بابن النجار، ولد في سلخ أو مستهل سنة ست وسبعين وخمسمائة، وسمع الكثير ورحل مع أهله، وكان رجلا صالحا عابدا زاهدا ورعا ناسكا، تفرد بروايات كثيرة لطول عمره، وخرجت له مشيخات وسمع منه الخلق الكثير والجم الغفير، وكان منصوبا لذلك حتى كبر وأسن وضعف عن الحركة، وله شعر حسن، منه قوله:

تكررت السنون عليَّ حتى ** بليت وصرت من سقط المتاع

وقل النفع عندي غير أني ** أعلل بالرواية والسماع

فإن يك خالصا فله جزاء ** وإن يك مالقا فإلى ضياع

وله أيضا:

إليك اعتذاري من صلاتي قاعدا ** وعجزي عن سعي إلى الجمعات

وتركي صلاة الفرض في كل مسجد ** تجمع فيه الناس للصلوات

فيا رب لا تمقت صلاتي ونجني ** من النار واصفح لي عن الهفوات

توفي ضحى نهار الأربعاء ثاني ربيع الآخر من هذه السنة، عن خمس وتسعين سنة، وحضر جنازته خلق كثير، ودفن عند والده الشيخ شمس الدين أحمد بن عبد الواحد بسفح قاسيون.

الشيخ تاج الدين الفزاري

عبد الرحمن بن سباع بن ضياء الدين أبو محمد الفزاري، الإمام العلامة العالم، شيخ الشافعية في زمانه، حاز قصب السبق دون أقرانه، وهو والد شيخنا العلامة برهان الدين.

كان مولد الشيخ تاج الدين في سنة ثلاثين وستمائة، وتوفي ضحى الاثنين خامس جمادى الآخرة، بالمدرسة البادرائية، وصلي عليه بعد الظهر بالأموي، تقدم للصلاة عليه قاضي القضاة شهاب الدين بن الخوي، ثم صلّي عليه عند جامع جراح الشيخ زين الدين الفارقي، ودفن عند والده بباب الصغير، وكان يوما شديد الزحام.

وقد كان ممن اجتمع فيه فنون كثيرة من العلوم النافعة، والأخلاق اللطيفة، وفصاحة المنطق، وحسن التصنيف، وعلو الهمة، وفقه النفس، وكتابة الأقليد الذي جمع على أبواب التنبيه وصل فيه إلى باب الغصب، دليل على فقه نفسه وعلو قدره، وقوة همته ونفوذ نظره، واتصافه بالاجتهاد الصحيح في غالب ما سطره، وقد انتفع به الناس، وهو شيخ أكابر مشايخنا هو ومحيي الدين النووي، وله اختصار الموضوعات لابن الجوزي، وهو عندي بخطه، وقد سمع الحديث الكثير وحضر عند ابن الزبيدي صحيح البخاري، وسمع من ابن الليثي وابن الصلاح واشتغل عليه، وعلى ابن عبد السلام وانتفع بهما، وخرج له الحافظ علم الدين البرزالي أحد تلاميذه مشيخة في عشرة أجزاء عن مائة شيخ فسمعها عليه الأعيان: وله شعر جيد فمنه:

لله أيام جمع الشمل ما برحت ** بها الحوادث حتى أصبحت سمرا

ومبتدا الحزن من تاريخ مسألتي ** عنكم، فلم ألق لاعينا ولا أثرا

يا راحلين قدرتم فالنجاة لكم ** ونحن للعجز لا نستعجز القدرا

وقد ولي الدرس بعده بالبادرائية والحلقة والفتيا بالجامع ولده شيخنا برهان الدين، فمشى على طريقة والده وهديه وسمته، رحمه الله.

وفي ثالث شعبان توفي:

الطبيب الماهر عز الدين إبراهيم بن محمد بن طرخان

السويدي الأنصاري، ودفن بالسفح عن تسعين سنة، وروى شيئا من الحديث، وفاق أهل زمانه في صناعة الطب، وصنف كتبا في ذلك، وكان يرمى بقلة الدين وترك الصلوات وانحلال في العقيدة، وإنكار أمور كثيرة مما يتعلق باليوم الآخر، والله يحكم فيه وفي أمثاله بأمره العدل الذي لا يجور ولا يظلم.

وفي شعره ما يدل على قلة عقله ودينه وعدم إيمانه، واعتراضه على تحريم الخمر، وأنه قد طال رمضان عليه في تركها وغير ذلك.

الشيخ الإمام العلامة علاء الدين أبو الحسن

علي بن الإمام العلامة كمال الدين عبد الواحد بن عبد الكريم بن خلف الأنصاري الزملكاني، وقد درس بعد أبيه المذكور بالأمينية، وكانت وفاة والده هذا ليلة الثلاثاء التاسع والعشرين من ربيع الآخر بالأمينية.

ودفن بمقابر الصوفية عند والده الأمير الكبير بدر الدين علي بن عبد الله الناصري، ناظر الرباط بالصالحية، عن وصية أستاذه، وهو الذي ولى الشيخ شرف الفزاري مشيخة الرباط بعد ابن الشريشي جمال الدين، وقد دفن بالتربة الكبيرة داخل الرباط المذكور.

الشيخ الإمام أبو حفص عمر بن يحيى بن عمر الكرخي

صهر الشيخ تقي الدين بن الصلاح، وأحد تلاميذه، ولد سنة تسع وتسعين وخمسمائة، ومات يوم الأربعاء ثاني ربيع الآخر من هذه السنة، ودفن إلى جانب ابن الصلاح.

الملك العادل بدر الدين سلامش بن الظاهر

الذي كان قد بويع بالملك بعد أخيه الملك السعيد، وجعل الملك المنصور قلاوون أتابكه.

ثم استقل قلاوون بالملك، وأرسلهم إلى الكرك، ثم أعادهم إلى القاهرة، ثم سفرهم الأشرف خليل في أول دولته إلى بلاد الأشكري من ناحية استنبول، فمات سلامش هناك وبقي أخوه نجم الدين خضر وأهلوهم بتلك الناحية، وقد كان سلامش من أحسن الناس شكلا وأبهاهم منظرا، وقد افتتن به خلق كثير، واللوطية الذين يحبون المردان، وشبب به الشعراء وكان عاقلا رئيسا مهيبا وقورا.

العفيف التلمساني

أبو الربيع سليمان بن علي بن عبد الله بن علي بن يس العابدي الكومي، ثم التلمساني الشاعر المتقن المتفنن في علوم منها النحو والأدب والفقه والأصول، وله في ذلك مصنفات، وله شرح (مواقف النفر)، وشرح (أسماء الله الحسنى)، وله ديوان مشهور، ولولده محمد ديوان آخر، وقد نسب هذا الرجل إلى عظائم في الأقوال والاعتقاد في الحلول والاتحاد والزندقة والكفر المحض، وشهرته تغني عن الإطناب في ترجمته، توفي يوم الأربعاء خامس رجب ودفن بالصوفية، ويذكر عنه أنه عمل أربعين خلوة كل خلوة أربعين يوما متتابعة فالله أعلم.

ثم دخلت سنة إحدى وتسعين وستمائة

فيها فتحت قلعة الروم.

وسلطان البلاد من دنقله إلى مصر إلى أقصى بلاد الشام بكماله وسواحله بلاد حلب، وغير ذلك الملك الأشرف صلاح الدين خليل بن الملك المنصور قلاوون، ووزيره شمس الدين بن السعلوس، وقضاته بالشام ومصرهم المذكورون في التي قبلها، ونائب مصر بدر الدين بيدرا ونائب الشام علم الدين سنجر الشجاعي، وسلطان التتر بيدار بن أرغون بن أبغا، وفي رابع صفر وقع حريق في بعض الخزائن بقلعة الجبل، أتلف شيئا كثيرا من الذخائر والنفائس والكتب.

وفي التاسع والعشرين من ربيع الأول خطب الخليفة الحاكم، وحث في خطبته على الجهاد والنفير، وصلى بهم الجمعة وجهر بالبسملة.

وفي ليلة السبت ثالث عشر صفر جيء بهذا الجرز الأحمر الذي بباب البرادة من عكا، فوضع في مكانه.

وفي ربيع الأول كمل بناء الطارمة وما عندها من الدور والقبة الزرقاء، وجاءت في غاية الحسن والكمال والارتفاع.

وفي يوم الاثنين ثاني جمادى الأولى ذكر الدرس بالظاهرية الشيخ صفي الدين محمد بن عبد الرحيم الأرموي، عوضا عن علاء الدين بن بنت الأعز، وفي هذا اليوم درس بالدولعية كمال الدين بن الزكي.

وفي يوم الاثنين سابع جمادى الآخرة درس بالنجيبية الشيخ ضياء الدين عبد العزيز الطوسي، بمقتضى نزول الفارقي له عنها. والله أعلم بالصواب.

فتح قلعة الروم

وفي ربيع الأول منها توجه السلطان الأشرف بالعساكر نحو الشام فقدم دمشق ومعه وزيره ابن السلعوس فاستعرض الجيوش، وأنفق فيهم أموالا جزيلة، ثم سار بهم نحو بلاد حلب، ثم سار إلى قلعة الروم، فافتتحها بالسيف قهرا في يوم السبت حادي عشر رجب، وجاءت البشارة بذلك إلى دمشق، وزينت البلد سبعة أيام وبارك الله لجيش المسلمين في سعيهم، وكان يوم السبت إلبا على أهل يوم الأحد، وكان الفتح بعد حصار عظيم جدا، مدة ثلاثين يوما.

وكانت المنجنيقات تزيد على ثلاثين منجنيقا، واسشتهد من الأمراء شرف الدين بن الخطير، وقد قتل من أهل البلد خلق كثير، وغنم المسلمون منها شيئا كثيرا، ثم عاد السلطان إلى دمشق وترك الشجاعي بقلعة الروم يعمرون ما وهى من قلعتها بسبب رمي المنجنيقات عليها وقت الحصار، وكان دخوله إلى دمشق بكرة يوم الثلاثاء تاسع عشر شعبان، فاحتفل الناس لدخوله ودعوا له وأحبوه، وكان يوما مشهودا، بسط له كما يبسط له إذا قدم من الديار المصرية، وإنما كان ذلك بإشارة ابن السلعوس، فهو أول من بسط له، وقد كسر أبوه التتر على حمص ولم يبسط له، وكذلك الملك الظاهر كسر التتر والروم على البلستين.

وفي غير موطن ولم يبسط له، وهذه بدعة شنعاء قد أحدثها هذا الوزير للملوك، وفيها إسراف وضياع مال وأشر وبطر ورياء وتكليف للناس، وأخذ أموال ووضعها في غير مواضعها، والله سبحانه سائله عنها، وقد ذهب وتركها يتوارثها الملوك والناس عنه، وقد حصل للناس بسبب ذلك ظلم عظيم، فليتق العبد ربه ولا يحدث في الإسلام بسبب هواه ومراد نفسه ما يكون سبب مقت الله له، وإعراضه عنه، فإن الدنيا لا تدوم لأحد، ولا يدوم أحد فيها، والله سبحانه أعلم.

وكان ملك قلعة الروم مع السلطان أسيرا، وكذلك رؤوس أصحابه، فدخل بهم دمشق وهم يحملون رؤوس أصحابهم على رؤوس الرماح، وجهز السلطان طائفة من الجيش نحو جبل كسروان والجزر بسبب ممالأتهم للفرنج قديما على المسلمين، وكان مقدم العساكر بندار وفي صحبته سنقر الأشقر.

وقرا سنقر المنصوري الذي كان نائب حلب فعزله عنها السلطان وولى مكانه سيف الدين بلبان البطاحي المنصوري، وجماعة آخرون من الأمراء الكبار، فلما أحاطوا بالجبل ولم يبق إلا دمار أهليه حملوا في الليل إلى بندار حملا كثيرا ففتر في قضيتهم.

ثم انصرف بالجيوش عنهم وعادوا إلى السلطان، فتلقاهم السلطان وترجل السلطان إلى الأمير بندار وهو نائبه على مصر، ثم ابن السلعوس نبه السلطان على فعل بندار فلامه وعنفه، فمرض من ذلك مرضا شديدا أشفى به على الموت حتى قيل إنه مات، ثم عوفي فعمل ختمة عظيمة بجامع دمشق حضرها القضاة والأعيان، وأشغل الجامع نظير ليلة النصف من شعبان، وكان ذلك ليلة العشر الأول من رمضان.

وأطلق السلطان أهل الحبوس وترك بقية الضمان عن أرباب الجهات السلطانية، وتصدق عنه بشيء كثير، ونزل هو عن ضمانات كثيرة كان قد حاف فيها على أربابها، وقد امتدح الشهاب محمود الملك الأشرف خليل على فتحه قلعة الروم بقصيدة هائلة فاضلة أولها:

لك الراية الصفراء يقدمها النصر ** فمن كيقباد إن رآها وكيخسرو

إذا خفقت في الأفق هدت بنورها ** هوى الشرك واستعلى الهدى وانجلى الثغر

وإن نشرت مثل الأصائيل في الوغى ** جلى النقع من لألاء طلعتها البدر

وإن يممت زرق العدى سار تحتها ** كتائب خضر دوحها البيض والسمر

كان مثار النقع ليل وخفقها ** بروق وأنت البدر والفلك الحتر

وفتح أتى في إثر فتحٍ كأنما ** سماء بدت تترى كواكبها الزهر

فكم فطمت طوعا وكرها معاقلا ** مضى الدهر عنها وهي عانسة بكر

بذلت لها عزما فلولا مهابة ** كساها الحيا جاءتك تسعى ولا مهر

قصدت حمىً من قلعة الروم ولم يتح ** لغيرك إذ غرتهم المغل فاغتروا

ووالوهم سرا ليخفوا أذاهم ** وفي آخر الأمر استوى السر والجهر

صرفت إليهم همة لو صرفتها ** إلى البحر لاستولى على مده الجزر

وما قلعة الروم التي حزت فتحها ** وإن عظمت إلا إلى غيرها جسر

طليعة ما يأتي من الفتح بعدها ** كما لاح قبل الشمس في الأفق الفجر

فصبحتها بالجيش كالروض بهجةٍ ** صوارمه أنهاره والقنا الزهر

وأبعدت بل كالبحر والبيض موجه ** وجرد المزاكي السفن والخود الذر

وأغربت بل كالليل عوج سيوفه ** أهلته ولا نبل أنجمه الزهر

ولحظات لا بل كالنهار شموسه ** محياك والآصال راياتك الصفر

ليوث من الأتراك آجامها القنا ** لها كل يوم في ذرى ظفر ظفر

فلا الريح يجري بينهم لاشتباكها ** عليهم ولا ينهل من فوقهم قطر

عيون إذا الحرب العوان عرضت ** لخطابها بالنفس لم يغلها مهر

ترى الموت معقودا يهدب نبالهم ** إذا ما رماها القوس والنظر الشزر

ففي كل سرحٍ غصن بان مهفهف ** وفي كل قوس مدة ساعد بدر

إذا صدموا شم الجبال تزلزلت ** وأصبح سهلا تحت خيلهم الوعر

ولو ردت ماء الفرات خيولهم ** لقيل هنا قد كان فيما مضى نهر

أداروا بها سورا فأضحت كخاتم ** لدى خنصر أو تحت منطقه خصر

وأرخوا إليها من أكف بحارهم ** سحاب ردى لم يخل من قطره قطر

كأن المجانيق التي قمن حولها ** رواعد سخط وبلها النار والصخر

أقامت صلاة الحرب ليلا صخورها ** فأكثرها شفع وأكبرها وتر

ودارت بها تلك النقوب فأسرفت ** وليس عليها في الذي فعلت حجر

فأضحت بها كالصب يخفي غرامه ** حذار أعاديه وفي قلبه جمر

وشبت بها النيران حتى تمزقت ** وباحت بما أخفته وأنهتك الستر

فلاذوا بذيل العفو منك فلم تجب ** رجاءهم لو لم يشب قصدهم مكر

وما كره المغل اشتغالك عنهم ** بها عند ما فروا ولكنهم سروا

فأحرزتها بالسيف قهرا وهكذا ** فتوحك فيما قد مضى كله قسر

وأضحت بحمد الله ثغرا ممنعا ** تبيد الليالي والعدى وهو مفتر

فيا أشرف الأملاك فزت بغزوة ** تحصل منها الفتح والذكر والأجر

ليهنيك عند المصطفى أن دينه ** توالي له في يمن دولتك النصر

وبشراك أرضيت المسيح وأحمدا ** وإن غضب اليعفور من ذاك والكفر

فسر حيث ما تختار فالأرض كلها ** تطيعك والأمصار أجمعها مصر

ودم وابق للدنيا ليحيى بك الهدى ** ويزهى على ماضي العصور بك العصر

حذفت منها أشياء كثيرة.

وفيها: تولى خطابة دمشق الشيخ عز الدين أحمد الفاروثي الواسطي، بعد وفاة زين الدين بن المرحل، وخطب واستسقى بالناس فلم يسقوا، ثم خطب مرة ثانية بعد ذلك بأيام عند مسجد القدم، فلم يسقوا، ثم ابتهل الناس من غير دعاية واستسقاية فسقوا.

ثم عزل الفاروثي بعد أيام بالخطيب موفق الدين أبي المعالي محمد بن محمد بن محمد بن عبد المنعم بن حسن المهراني الحموي، كان خطيب حماة، ثم نقل إلى دمشق في هذه السنة، فقام وخطب وتألم الفاروثي لذلك ودخل على السلطان واعتقد أن الوزير عزله من غير علمه، فإذا هو قد شعر لذلك واعتذر بأنه إنما عزله لضعفه، فذكر له أن يصلي ليلة النصف مائة ركعة بمائة قل هو الله أحد، فلم يقبلوا واستمروا بالحموي.

وهذه دناءة وقلة عقل وعدم إخلاص من الفاروثي، وأصاب السلطان في عزله.

وفي هذا اليوم قبض السلطان على الأمير سنقر الأشقر وغيره فهرب هو والأمير حسام الدين لاجين السلحداري، فنادت عليه المنادية بدمشق من أحضره فله ألف دينار، ومن أخفاه شنق، وركب السلطان ومماليكه في طلبه، وصلى الخطيب بالناس في الميدان الأخضر، وعلى الناس كآبة بسبب تفرق الكلمة، واضطراب الجيش، واختبط الناس، فلما كان سادس شوال أمسكت العرب سنقر الأشقر فردوه على السلطان فأرسله مقيدا إلى مصر.

وفي هذا اليوم ولى السلطان نيابة دمشق لعز الدين أيبك الحموي، عوضا عن الشجاعي، وقدم الشجاعي من الروم ثاني يوم عزله فتلقاه الفاروثي فقال: قد عزلنا من الخطابة، فقال: ونحن من النيابة، فقال الفاروثي: { عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ } 30 فلما بلغ ابن السلعوس تغضب عليه، وكان قد عين له القيمرية فترك ذلك، وسافر السلطان عاشر شوال إلى مصر فدخلها في أبهة الملك.

وفي يوم دخوله أقطع قرا سنقر مائة فارس بمصر عوضا عن نيابة حلب، وفي هذه السنة اشترى الأمير سيف الدين طغاي الأشقري قيسارية القطن المعروفة بإنشاء الملك المعظم بن العادل من بيت المال، بمرسوم من السلطان، وكان حظيا عنده، ونقل سوق الحريريين تلك المدة إليها، وكان السلطان قد أفرج عن علم الدين الدويداري بعد رجوعه من قلعة الروم واستحضره إلى دمشق وخلع عليه، واستصحبه معه إلى القاهرة، وأقطعه مائة فارس، وولاه مشد الدواوين مكرها.

وفي ذي القعدة استحضر السلطان سنقر الأشقر وطقصوا فعاقبهما فاعترفا بأنهما أرادا قتله، فسألهما عن لاجين فقالا: لم يكن معنا ولا علم له بهذا، فخنقهما وأطلقه بعد ما جعل الوتر في حلقه، وكان قد بقي له مدة لا بد أن يبلغها، وقد ملك بعد ذلك كما سنذكره إن شاء الله تعالى.

وفي ذي الحجة عقد الشيخ برهان الدين بن الشيخ تاج الدين عقده على بنت قاضي القضاة شهاب الدين الخويي بالبادرائية، وكان حافلا.

وفيها: دخل الأمير سنقر الأعسر على بنت الوزير شمس الدين بن السلعوس على صداق ألف دينار، وعجل لها خمسمائة.

وفيها: قفز جماعة من التتر نحوا من ثلاثمائة إلى الديار المصرية فأكرموا.

من الأعيان:

الخطيب زين الدين أبو حفص عمر بن مكي بن عبد الصمد الشافعي المعروف بابن المرحل

وهو والد الشيخ صدر الدين بن الوكيل، سمع الحديث وبرع في الفقه وفي علوم شتى، منها علم الهيئة، وله فيه مصنف، تولى خطابة الجامع الأموي بدمشق ودرس وأفتى، توفي ليلة السبت الثالث والعشرين من ربيع الأول، وصلّي عليه من الغد بباب الخطابة.

الشيخ عز الدين الفاروثي

ولي الخطابة قليلا، ثم عزل ثم مات، ودفن بباب الصغير عفا الله عنا وعنه.

الصاحب فتح الدين أبو عبد الله

محمد بن محيي الدين بن عبد الله بن عبد الظاهر، كاتب الأسرار في الدولة المنصورية بعد ابن لقمان، وكان ماهرا في هذه الصناعة، وحظي عند المنصور وكذا عند ابنه الأشرف، وقد طلب منه ابن السلعوس أن يقرأ عليه كل ما يكتبه، فقال: هذا لا يمكن فإن أسرار الملوك لا يطلع عليها غيرهم، وأبصروا لكم غيري يكون معكم بهذه المثابة، فلما بلغ ذلك الأشرف أعجبه منه، وازدادت عنده منزلته.

توفي يوم السبت نصف رمضان، وأخرجت في تركته قصيدة قد رثا بها تاج الدين بن الأثير، وكان قد شوش فاعتقد أنه يموت فعوفي فبقيت بعده، وتولى ابن الأثير بعده ورثاه تاج الدين كما رثاه، وتوفي ابن الأثير بعده شهر وأربعة أيام.

يونس بن علي بن رضوان بن برقش

الأمير عماد الدين، كان أحد الأمراء بطبلخانة في الدولة الناصرية، ثم حمل وبطل الجندية بالكلية في الدولة المظفرية وهلم جرا إلى هذه السنة، وكان الظاهر يكرمه، توفي في شوال ودفن عند والده بتربة الخزيميين رحمهم الله.

جلال الدين الخبازي عمر بن محمد بن عمر أبو محمد الخجندي أحد مشايخ الحنفية الكبار

أصله من بلاد ما وراء النهر من بلد يقال لها خجندة، واشتغل ودرس بخوارزم، وأعاد ببغداد، ثم قدم دمشق فدرس بالعزية والخاتونية البرانية، وكان فاضلا بارعا منصفا مصنفا في فنون كثيرة، توفي لخمس بقين من ذي الحجة منها، وله ثنتان وستون سنة، ودفن بالصوفية.

الملك المظفر قرا أرسلان الأفريقي

صاحب ماردين، توفي وله ثمانون سنة، وقام بعده ولده شمس الدين داود ولقب بالملك السعيد، والله سبحانه أعلم.

ثم دخلت سنة ثنتين وتسعين وستمائة

في تاريخ ظهير الدين الكازروني ظهرت نار بأرض المدينة النبوية في هذه السنة، نظير ما كان في سنة أربع وخمسين على صفتها، إلا أن هذه النار كان يعلو لهيبها كثيرا، وكان تحرق الصخر ولا تحرق السعف، واستمرت ثلاثة أيام.

استهلت هذه السنة والخليفة الحاكم العباسي وسلطان البلاد الملك الأشرف بن المنصور ونائبه بمصر بدر الدين بيدرا، وبالشام عز الدين أيبك الحموي، وقضاة مصر والشام هم الذين كانوا في التي قبلها، والوزير شمس الدين بن السلعوس.

وفي جمادى الآخرة قدم الأشرف دمشق فنزل في القصر الأبلق والميدان الأخضر، وجهز الجيوش وتهيأ لغزو بلاد سيس، وقدم في غضون ذلك رسل صاحب بلاد سيس يطلبون الصلح، فشفع الأمراء فيهم فسلموا بهسنا وتل حمدون ومرعش، وهي أكبر بلادهم وأحسنها وأحصنها، وهي في فم الدربند.

ثم ركب السلطان في ثاني رجب نحو سلمية بأكثر الجيش صورة، أنه يريد أن يصيب الأمير حسام الدين لاجين، فأضافه الأمير مهنا بن عيسى، فلما انقضت الضيافة أمسك له حسام الدين لاجين، وكان عنده، فجاءه به فسجنه في قلعة دمشق، وأمسك مهنا بن عيسى، وولى مكانه محمد بن علي بن حديثة، ثم أرسل السلطان جمهور الجيش بين يديه إلى الديار المصرية صحبة نائبه بيدرا، ووزيره ابن السلعوس، وتأخر هو في خاصكيته ثم لحقهم.

وفي المحرم منها حكم القاضي حسام الدين الرازي الحنفي، بالتشريك بين العلويين والجعفرين في الدباغة، التي كانوا يتنازعونها من مدة مائتي سنة، وكان ذلك يوم الثلاثاء سادس عشرين المحرم، بدار العدل، ولم يوافقه ابن الخويي ولا غيره، وحكم للاعناكيين بصحة نسبهم إلى جعفر الطيار.

وفيها: رسم الأشرف بتخريب قلعة الشوبك فهدمت، وكانت من أحصن القلاع وأمنعها وأنفعها، وإنما خربها عن رأي عتبة العقبى، ولم ينصح للسلطان فيها ولا للمسلمين، لأنها كانت شجىً في حلوق الأعراب الذين هناك.

وفيها: أرسل السلطان الأمير علم الدين الدويداري إلى صاحب القسطنطينية وإلى أولاد بركة ومع الرسول تحفا كثيرة جدا، فلم يتفق خروجه حتى قتل السلطان فعاد إلى دمشق.

وفي عاشر جمادى الأولى درّس القاضي إمام الدين القزويني بالطاهرية البرانية، وحضر عنده القضاة والأعيان.

وفي الثاني والعشرين من ذي الحجة يوم الاثنين طهر الملك الأشرف أخاه الملك الناصر محمد وابن أخيه الملك المعظم مظفر الدين موسى بن الصالح علي بن المنصور، وعمل مهم عظيم ولعب الأشرف بالقبق وتمت لهم فرحة هائلة، كانت كالوداع لسلطنته من الدنيا.

وفي أول المحرم درّس الشيخ شمس الدين بن غانم بالعصرونية، وفي مستهل صفر درّس الشيخ كمال الدين بن الزملكاني بالرواحية، عوضا عن نجم الدين بن مكي بحكم انتقاله إلى حلب وإعراضه عن المدرسة المذكورة، ودخل الركب الشامي في آخر صفر.

وكان ممن حج في هذه السنة الشيخ تقي الدين بن تيمية رحمه الله، وكان أميرهم الباسطي ونالهم في معان ريح شديدة جدا مات بسببها جماعة، وحملت الريح جمالا عن أماكنها، وطارت العمائم عن الرؤوس، واشتغل كل أحد بنفسه.

وفي صفر منها: وقع بدمشق برد عظيم أفسد شيئا كثيرا من المغلات بحيث بيع القمح كل عشرة أواق بدرهم، ومات شيء كثير من الدواب، وفيه زلزلت ناحية الكرك، وسقط من تلفيتا أماكن كثيرة.

من الأعيان:

الشيخ الأرموي الشيخ الصالح القدوة العارف أبو إسحاق إبراهيم

بن الشيخ الصالح أبي محمد عبد الله بن يوسف بن يونس بن إبراهيم بن سلمان الأرموي، المقيم بزاويته بسفح قاسيون، كان فيه عبادة وانقطاع وله أوراد وأذكار، وكان محببا إلى الناس، توفي بالمحرم ودفن عند والده بالسفح.

ابن الأعمى صاحب المقامة

الشيخ ظهير الدين محمد بن المبارك بن سالم بن أبي الغنائم الدمشقي المعروف بابن الأعمى، ولد سنة عشرة وستمائة، وسمع الحديث، وكان فاضلا بارعا، له قصائد يمتدح بها رسول الله ، سماها الشفعية، عدد كل قصيدة اثنان وعشرون بيتا.

قال البرزالي: سمعته وله المقامة البحرية المشهورة، توفي في المحرم ودفن بالصوفية.

الملك الزاهر مجير الدين أبو سليمان

داود بن الملك المجاهد أسد الدين شيركوه صاحب حمص ابن ناصر الدين محمد بن الملك المعظم، توفي ببستانه عن ثمانين سنة، وصلّي عليه بالجامع المظفري، ودفن بتربته بالسفح، وكان دينا كثير الصلاة في الجامع، وله إجازة من المؤيد الطوسي وزينب الشعرية وأبي روح وغيرهم.

توفي في جمادى الآخرة.

الشيخ تقي الدين الواسطي أبو إسحاق إبراهيم بن علي بن أحمد بن فضل الواسطي ثم الدمشقي الحنبلي

شيخ الحديث بالظاهرية بدمشق، توفي يوم الجمعة آخر النهار رابع عشرين جمادى الآخرة عن تسعين سنة، وكان رجلا صالحا عابدا، تفرد بعلو الرواية، ولم يخلف بعده مثله، وقد تفقه ببغداد، ثم رحل إلى الشام، ودرس بالصالحية مدة عشرين سنة، وبمدرسة أبي عمر، وولي في آخر عمره مشيخة الحديث بالظاهرية بعد سفر الفاروثي.

وكان داعية إلى مذهب السلف والصدر الأول، وكان يعود المرضى ويشهد الجنائز ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، وكان من خيار عباد الله تعالى رحمه الله.

وقد درّس بعده بالصالحية الشيخ شمس الدين محمد بن عبد القوى المرداوي، وبدار الحديث الظاهرية شرف الدين عمر بن خواجا إمام الجامع المعروف بالناصح.

ابن صاحب حماة الملك الأفضل نور الدين علي بن الملك المظفر

تقي الدين محمود بن الملك المنصور محمد بن الملك المظفر تقي الدين عمر بن شاهنشاه بن أيوب، توفي بدمشق وصلي عليه بجامعها، وخرج به من باب الفراديس محمولا إلى مدينة أبيه وتربتهم بها، وهو والد الأميرين الكبيرين بدر الدين حسن وعماد الدين إسماعيل الذي تملك حماة بعد مدة.

ابن عبد الظاهر محيي الدين عبد الله بن رشيد الدين عبد الظاهر بن نشوان بن عبد الظاهر بن علي بن نجدة السعدي

كاتب الإنشاء بالديار المصرية، وآخر من برز في هذا الفن على أهل زمانه، وسبق سائر أقرانه، وهو والد الصاحب فتح الدين النديم، وقد تقدم ذكر وفاته قبل والده، وقد كانت له مصنفات منها سيرة الملك الظاهر، وكان ذا مروءة، وله النظم الفائق والنثر الرائق.

توفي يوم الثلاثاء رابع رجب، وقد جاوز السبعين، ودفن بتربته التي أنشاها بالقرافة.

الأمير علم الدين سنجر الحلبي

الذي كان نائب قطز على دمشق، فلما جاءته بيعة الظاهر دعا لنفسه فبويع، وتسمى بالملك المجاهد، ثم حوصر وهرب إلى بعلبك فحوصر فأجاب إلى خدمة الظاهر فسجنه مدة وأطلقه وسجنه المنصور مدة وأطلقه الأشرف، واحترمه وأكرمه، بلغ الثمانين سنة وتوفي في هذه السنة.

ثم دخلت سنة ثلاث وتسعين وستمائة

في أولها كان مقتل الأشرف، وذلك أنه خرج إلى الصيد في ثالث المحرم، فلما كان بأرض تروجة بالقرب من الإسكندرية ثاني عشر المحرم، حمل عليه جماعة من الأمراء الذين اتفقوا على قتله حين انفرد عن جمهور الجيش، فأول من صوبه نائبه بيدرا، وتمم عليه لاجين المنصوري، ثم اختفى إلى رمضان، ثم ظهر يوم العيد.

وكان ممن اشترك في قتل الأشرف بدر الدين بيسرى وشمس الدين قراسنقر المنصوري، فلما قتل الأشرف اتفق الأمراء على تمليك بيدرا، وسموه الملك القاهر أو الأوحد، فلم يتم له ذلك، فقتل في اليوم الثاني بأمر كتبغا، ثم اتفق زين الدين كتبغا، وعلم الدين سنجر الشجاعي على أن يملكوا أخاه محمد الملك الناصر بن قلاوون، وكان عمره إذ ذاك ثمان سنين وشهورا.

فأجلسوه على سرير المملكة يوم الرابع عشر من المحرم، وكان الوزير ابن السلعوس بالإسكندرية، وكان قد خرج في صحبة السلطان، وتقدم هو إلى الإسكندرية فلم يشعر إلا وقد أحاط به البلاء، وجاءه العذاب من كل ناحية، وذلك أنه كان يعامل الأمراء الكبار معاملة الصغار، فأخذوه وتولى عقوبته من بينهم الشجاعي فضرب ضربا عظيما، وقرر على الأموال، ولم يزالوا يعاقبونه حتى كان وفاته في عاشر صفر بعد أن احتيط على حواصله كلها.

وأحضر جسد الأشرف فدفن بتربته، وتألم الناس لفقده وأعظموا قتله، وقد كان شهما شجاعا، عالي الهمة، حسن المنظر، كان قد عزم على غزو العراق، واسترجاع تلك البلاد من أيدي التتار، واستعد لذلك ونادى به في بلاده، وقد فتح في مدة ملكه - وكانت ثلاث سنين - عكا وسائر السواحل، ولم يترك للفرنج فيها معلما ولا حجرا، وفتح قلعة الروم وبهسنا وغيرها.

فلما جاءت بيعة الناصر إلى دمشق خطب له بها على المنابر، واستقر الحال على ذلك، وجعل الأمير كتبغا أتابكه، والشجاعي مشاورا كبيرا، ثم قتل بعد أيام بقلعة الجبل، وحمل رأسه إلى كتبغا فأمر أن يطاف به في البلد، ففرح الناس بذلك، وأعطوا الذين حملوا رأسه مالا، ولم يبق لكتبغا منازع، ومع هذا كان يشاور الأمراء تطييبا لقلوبهم.

وفي صفر بعد موت ابن السلعوس عزل بدر الدين بن جماعة عن القضاء، وأعيد تقي الدين بن بنت الأعز واستمر ابن جماعة مدرسا بمصر في كفاية ورياسة.

وتولى الوزارة بمصر الصاحب تاج الدين ابن الحنا، وفي ظهر يوم الأربعاء الحادي والعشرين من صفر رتب إمام بمحراب الصحابة، وهو كمال الدين عبد الرحمن بن القاضي محيي الدين بن الزكي، وصلى بعدئذ بعد الخطيب، ورتب بالمكتب الذي بباب الناطفانيين إمام أيضا، وهو ضياء الدين بن برهان الدين الإسكندري.

وباشر نظر الجامع الشريف زين الدين حسين بن محمد بن عدنان، وعاد سوق الحريريين إلى سوقه، وأخلوا قيسارية القطن الذي كان نواب طغجي ألزموهم بسكناها، وولي خطابة دمشق الشيخ العلامة شرف الدين أحمد بن جمال الدين أحمد بن نعمة بن أحمد المقدسي، بعد عزل موفق الدين الحموي، دعوه إلى حماة فخطب المقدسي يوم الجمعة نصف رجب، وقرئ تقليده، وكانت ولايته بإشارة تاج الدين ابن الحنا الوزير بمصر، وكان فصيحا بليغا عالما بارعا.

وفي أواخر رجب حلف الأمراء للأمير زين الدين كتبغا مع الملك الناصر محمد بن قلاوون، وسارت البيعة بذلك في سائر المدن والمعامل.

واقعة عساف النصراني

كان هذا الرجل من أهل السويداء، قد شهد عليه جماعة أنه سب النبي ، وقد استجار عساف هذا بابن أحمد بن حجى أمير آل علي، فاجتمع الشيخ تقي الدين بن تيمية، والشيخ زين الدين الفارقي شيخ دار الحديث، فدخلا على الأمير عز الدين أيبك الحموي نائب السلطنة فكلماه في أمره فأجابهما إلى ذلك، وأرسل ليحضره فخرجا من عنده ومعهما خلق كثير من الناس، فرأى الناس عسافا حين قدم ومعه رجل من العرب فسبوه وشتموه.

فقال ذلك الرجل البدوي: هو خير منكم - يعني النصراني - فرجمهما الناس بالحجارة، وأصابت عسافا ووقعت خبطة قوية فأرسل النائب فطلب الشيخين ابن تيمية والفارقي فضربهما بين يديه، ورسم عليهما في العذراوية، وقدم النصراني فأسلم، وعقد مجلس بسببه، وأثبت بينه وبين الشهود عداوة، فحقن دمه.

ثم استدعى بالشيخين فأرضاهما وأطلقهما، ولحق النصراني بعد ذلك ببلاد الحجاز، فاتفق قتله قريبا من مدينة رسول الله ، قتله ابن أخيه هنالك، وصنف الشيخ تقي الدين بن تيمية في هذه الواقعة كتابه (الصارم المسلول على ساب الرسول).

وفي شعبان منها، ركب الملك الناصر في أبهة الملك، وشق القاهرة، وكان يوما مشهودا، وكان هذا أول ركوبه، ودقت البشائر بالشام وجاء المرسوم من جهته، فقرئ على المنبر بالجامع فيه الأمر بنشر العدل وطي الظلم، وإبطال ضمان الأوقاف والأملاك إلا برضي أصحابها.

وفي اليوم الثاني والعشرين من شعبان درّس بالمسرورية القاضي جمال الدين القزويني، أخو إمام الدين، وحضر أخوه وقاضي القضاة شهاب الدين الخويي، والشيخ تقي الدين بن تيمية، وكان درسا حافلا.

قال البرزالي: وفي شعبان اشتهر أن في الغوطة بجسرين تنينا عظيما ابتلع رأسا من المعز كبيرا صحيحا.

وفي أواخر رمضان ظهر الأمير حسام الدين لاجين، وكان مختفيا منذ قتل الأشرف، فاعتذر له عند السلطان فقبله، وخلع عليه وأكرمه، ولم يكن قتله باختياره.

وفي شوال منها اشتهر أن مهنا بن عيسى خرج عن طاعة السلطان الناصر، وانحاز إلى التتر.

وفي يوم الأربعاء ثامن ذي القعدة درّس بالغزالية الخطيب شرف الدين المقدسي عوضا عن قاضي القضاة شهاب الدين ابن الخويي.

توفي وترك الشامية البرانية، وقدم على قضاء الشام القاضي بدر الدين أحمد بن جماعة يوم الخميس الرابع عشر من ذي الحجة، ونزل العادلية وخرج نائب السلطنة والجيش بكماله لتلقيه، وامتدحه الشعراء، واستناب تاج الدين الجعبري نائب الخطابة وباشر تدريس الشامية البرانية، عوضا عن شرف الدين المقدسي، الشيخ زين الدين الفاروثي، وانتزعت من يده الناصرية فدرّس بها ابن جماعة.

وفي العادلية في العشرين من ذي الحجة، وفي هذا الشهر أخرجوا الكلاب من دمشق إلى الفلاة بأمر واليها جمال الدين اقياي، وشدد على الناس والبوابين بذلك.

من الأعيان:

الملك الأشرف خليل بن قلاوون المنصور

وبيدرا والشجاعي، وشمس الدين بن السلعوس.

الشيخ الإمام العلامة تاج الدين موسى بن محمد بن مسعود المراغي

المعروف بأبي الجواب الشافعي، درّس بالإقبالية وغيرها، وكان من فضلاء الشافعية، له يد في الفقه والأصول والنحو وفهم جيد، توفي فجأة يوم السبت، ودفن بمقابر باب الصغير، وقد جاوز السبعين.

الخاتون مؤنس بنت السلطان العادل أبي بكر بن أيوب

وتعرف بدار القطبية، وبدار إقبال، ولدت سنة ثلاث وستمائة، وروت الإجازة عن عفيفة الفارقانية، وعن عين الشمس بنت أحمد بن أبي الفرج الثقفية، توفيت في ربيع الآخر بالقاهرة، ودفنت بباب زويلة.

الصاحب الوزير فخر الدين أبو إسحاق إبراهيم

بن لقمان بن أحمد بن محمد البناني المصري رأس الموقعين، وأستاذ الوزراء المشهورين، ولد سنة ثنتي عشرة وستمائة، وروى الحديث، توفي في آخر جمادى الآخرة في القاهرة.

الملك الحافظ غياث الدين بن محمد الملك السعيد معين الدين

بن الملك الأمجد بهرام شاه بن المعز عز الدين فروخ شاه بن شاهنشاه بن أيوب، وكان فاضلا بارعا، سمع الحديث وروى البخاري، وكان يحب العلماء والفقراء، توفي يوم الجمعة سادس شعبان، ودفن عند جده لأمه ابن المقدم، ظاهر باب الفراديس.

قاضي القضاة شهاب الدين بن الخويي

أبو عبد الله محمد بن قاضي القضاة شمس الدين أبي العباس أحمد بن خليل بن سعادة بن جعفر بن عيسى بن محمد الشافعي، أصلهم من خوي، اشتغل وحصل علوما كثيرة، وصنّف كتبا كثيرة منها كتاب فيه عشرون فنا، وله (نظم علوم الحديث)، و(كفاية المتحفظ)، وغير ذلك.

وقد سمع الحديث الكثير، وكان محبا له ولأهله، وقد درس وهو صغير بالدماغية، ثم ولي قضاء القدس، ثم بهسنا، ثم ولي قضاء حلب، ثم عاد إلى المحلة، ثم ولي قضاء القاهرة، ثم قدم على قضاء الشام مع تدريس العادلية والغزالية وغيرهما.

وكان من حسنات الزمان وأكابر العلماء الأعلام، عفيفا نزها بارعا محبا للحديث، وعلمه وعلمائه، وقد خرّج له شيخنا الحافظ المزي أربعين حديثا متباينة الإسناد، وخرّج له تقي الدين بن عتبة الأسودي الأسعردي مشيخة على حروف المعجم، اشتملت على مائتين وستة وثلاثين شيخا.

قال البرزالي: وله نحو ثلاثمائة شيخ لم يذكروا في هذا المعجم، توفي يوم الخميس الخامس والعشرين من رمضان، عن سبع وستين سنة، وصلى عليه ودفن من يومه بتربة والده بسفح قاسيون، رحمه الله تعالى.

الأمير علاء الدين الأعمى

ناظر القدس وباني كثيرا من معالمه اليوم، وهو الأمير الكبير علاء الدين أيدكين بن عبد الله الصالحي النجمي، كان من أكابر الأمراء، فلما أضر أقام بالقدس الشريف، وولى نظره معمره ومثمره، وكان مهيبا لا تخالف مراسيمه، وهو الذي بنى المطهرة قريبا من مسجد النبي ، فانتفع الناس بها بالوضوء وغيره، ووجد بها الناس تيسيرا، وابتنى بالقدس ربطا كثيرة، وآثارا حسنة، وكان يباشر الأمور بنفسه، وله حرمة وافرة توفي شوال منها.

الوزير شمس الدين محمد بن عثمان

ابن أبي الرجال التنوخي، المعروف بابن السلعوس، وزير الملك الأشرف، مات تحت الضرب الذي جاوز ألف مقرعة، في عاشر صفر من هذه السنة، ودفن بالقرافة، وقيل إنه نقل إلى الشام بعد ذلك.

وكان ابتداء أمره تاجرا، ثم ولي الحسبة بدمشق بسفارة تقي الدين بن توبة، ثم كان يعامل الملك الأشرف قبل السلطنة فظهر منه على عدل وصدق.

فلما ملك بعد أبيه المنصور استدعاه من الحج فولاه الوزارة، وكان يتعاظم على أكابر الأمراء ويسميهم بأسمائهم، ولا يقوم لهم، فلما قتل أستاذه الأشرف تسلموه بالضرب والإهانة وأخذ الأموال، حتى أعدموه حياته، وصبروه وأسكنوه الثرى، بعد أن كان عند نفسه قد بلغ الثريا، ولكن حقا على الله أنه ما رفع شيئا إلا وضعه.

ثم دخلت سنة أربع وتسعين وستمائة

استهلت والخليفة الحاكم بأمر الله وسلطان البلاد الملك الناصر محمد بن قلاوون، وعمره إذ ذاك اثنتا عشرة سنة وأشهرا.

ومدبر الممالك وأتابك العساكر الأمير زين الدين كتبغا، ونائب الشام الأمير عز الدين أيبك الحموي، والوزير بدمشق تقي الدين توبة التكريتي، وشاد الدواوين شمس الدين الأعسر، وقاضي الشافعية ابن جماعة، والحنفية حسام الدين الرازي، والمالكية جمال الدين الزواوي، والحنابلة شرف الدين حسن، والمحتسب شهاب الدين الحنفي، ونقيب الأشراف زين الدين بن عدنان، ووكيل بيت المال وناظر الجامع تاج الدين الشيرازي، وخطيب البلد شرف الدين المقدسي.

فلما كان يوم عاشوراء نهض جماعة من مماليك الأشرف وخرقوا حرمة السلطان وأرادوا الخروج عليه، وجاؤوا إلى سوق السلاح فأخذوا ما فيه، ثم احتيط عليهم، فمنهم من صلب ومنهم من شنق، وقطع أيدي آخرين منهم وألسنتهم.

وجرت خبطة عظيمة جدا، وكانوا قريبا من ثلاثمائة أو يزيدون.

سلطنة الملك العادل كتبغا

وأصبح الأمير كتبغا في الحادي عشر من المحرم فجلس على سرير المملكة، وخلع الملك الناصر محمد بن المنصور، وألزمه بيت أهله، وأن لا يخرج منه، وبايعه الأمراء على ذلك، وهنئوه ومد سماطا حافلا، وسارت البريدية بذلك إلى الأقاليم، فبويع له وخطب له مستقلا، وضربت السكة باسمه.

وتم الأمر وزينت البلاد، ودقت البشائر، ولقب بالملك العادل، وكان عمره إذ ذاك نحوا من خمسين سنة، فإنه من سبي وقعة حمص الأولى التي كانت في أيام الملك الظاهر بعد وقعة عين جالوت.

وكان من الغويرانية، وهم طائفة من التتر، واستناب في مصر الأمير حسام الدين لاجين السلحداري المنصوري، وكان بين يديه مدير المماليك.

وقد ذكر الجزري في تاريخه عن بعض الأمراء أنه شهد هولاكو خان قد سأل منجمه أن يستخرج له من هؤلاء المقدمين في عسكره الذي يملك الديار المصرية، فضرب وحسب وقال له: أجد رجلا يملكها اسمه كتبغا فظنه كتبغانوين، وهو صهر هولاكو، فقدمه على العساكر فلم يكن هو، فقتل في عين جالوت كما ذكرنا، وأن الذي ملك مصر هذا الرجل وهو من خيار الأمراء وأجودهم سيرة ومعدلة، وقصدا في نصرة الإسلام.

وفي يوم الأربعاء مستهل ربيع الأول ركب كتبغا في أبهة الملك، وشق القاهرة ودعا له الناس وعزل الصاحب تاج الدين بن الحنا عن الوزارة، وولى فخر الدين بن الخليلي، واستسقى الناس بدمشق عند مسجد القدم، وخطب بهم تاج الدين صالح الجعبري نيابة عن مستخلفه شرف الدين المقدسي.

وكان مريضا فعزل نفسه عن القضاء، وخطب الناس بعد ذلك، وذلك يوم الأربعاء خامس جمادى الأولى، فلم يسقوا ثم استسقوا مرة أخرى يوم السبت سابع جمادى الآخرة بالمكان المذكور، وخطب بهم شرف الدين المقدسي، وكان الجمع أكثر من أول، فلم يسقوا.

وفي رجب حكم جمال الدين بن الشريشي نيابة عن القاضي بدر الدين بن جماعة، وفيه درّس بالمعظمية القاضي شمس الدين بن العز، انتزعها من علاء الدين بن الدقاق.

وفيه ولي القدس والخليل الملك الأوحد بن الملك الناصر داود بن المعظم.

وفي رمضان رسم للحنابلة أن يصلوا قبل الإمام الكبير وذلك أنهم كانوا يصلون بعده، فلما أحدث لمحراب الصحابة إمام كانوا يصلون جميعا في وقت واحد، فحصل تشويش بسبب ذلك، فاستقرت القاعدة على أن يصلوا قبل الإمام الكبير، وفي وقت صلاة مشهد علي بالصحن عند محرابهم في الرواق الثالث الغربي.

قلت وقد تغيرت هذه القاعدة بعد العشرين وسبعمائة كما سيأتي.

وفي أواخر رمضان قدم القاضي نجم الدين بن صصرى من الديار المصرية على قضاء العساكر بالشام.

وفي ظهر يوم الخميس خامس شوال صلى القاضي بدر الدين بن جماعة بمحراب الجامع إماما وخطيبا عوضا عن الخطيب المدرس شرف الدين المقدسي، ثم خطب من الغد وشكرت خطبته وقراءته، وذلك مضاف إليه ما بيده من القضاء وغيره.

وفي أوائل شوال قدمت من الديار المصرية تواقيع شتى منها تدريس الغزالية لابن صصرى، عوضا عن الخطيب المقدسي، وتوقيع بتدريس الأمينية لإمام الدين القزويني، عوضا عن نجم الدين ابن صصرى، ورسم لأخيه جلال الدين بتدريس الظاهرية البرانية عوضا عنه.

وفي شوال كملت عمارة الحمام الذي أنشاه عز الدين الحموي بمسجد القصب، وهو من أحسن الحمامات، وباشر مشيخة دار الحديث النورية الشيخ علاء الدين بن العطار، عوضا عن شرف الدين المقدسي.

وحج فيها: الملك المجاهد أنس بن الملك العادل كتبغا، وتصدقوا بصدقات كثيرة في الحرمين وغيرهما ونودي بدمشق في يوم عرفة أن لا يركب أحد من أهل الذمة خيلا ولا بغالا، ومن رأى من المسلمين أحدا من أهل الذمة قد خالف ذلك فله سلبه.

وفي أواخر هذه السنة، والتي تليها حصل بديار مصر غلاء شديد، هلك بسببه خلق كثير، هلك في شهر ذي الحجة نحو من عشرين ألفا.

وفيها: ملك التتار قازان بن أرغون بن أبغا بن تولى بن جنكيز خان فأسلم وأظهر الإسلام على يد الأمير توزون رحمه الله، ودخلت التتار أو أكثرهم في الإسلام، ونثر الذهب والفضة واللؤلؤ على رؤوس الناس يوم إسلامه، وتسمى بمحمود، وشهد الجمعة والخطبة، وخرب كنائس كثيرة، وضرب عليهم الجزية ورد مظالم كثيرة ببغداد وغيرها من البلاد، وظهرت السبح والهياكل مع التتار والحمد لله وحده.

وفيها توفي من الأعيان:

الشيخ أبو الرجال المنيني

الشيخ الصالح الزاهد العابد أبو الرجال بن مري بن بحتر المنيني، كانت له أحوال ومكاشفات، وكان أهل دمشق والبلاد يزورونه في قرية منين، وربما قدم هو بنفسه إلى دمشق فيكرم ويضاف وكانت له زاوية ببلده، وكان بريئا من هذه السماعات الشيطانية.

وكان تلميذ الشيخ جندل، وكان شيخه الشيخ جندل من كبار الصالحين سالكا طريق السلف أيضا، وقد بلغ الشيخ أبو الرجال ثمانين سنة، وتوفي بمنين في منزله في عاشر المحرم، وخرج الناس من دمشق إلى جنازته فمنهم من أدركها ومن الناس من لم يدرك فصلى على القبر ودفن بزاويته رحمه الله.

وفيها: في أواخر ربيع الأول جاء الخبر بأن عساف بن أحمد بن حجى، الذي كان قد أجار ذلك النصراني الذي سب الرسول قتل ففرح الناس بذلك.

الشيخ الصالح العابد الزاهد الورع بقية السلف جمال الدين أبو القاسم عبد الصمد بن الحرستاني بن قاضي القضاة

وخطيب الخطباء، عماد الدين عبد الكريم بن جمال الدين عبد الصمد، سمع الحديث وناب عن أبيه في الإمامة وتدريس الغزالية.

ثم ترك المناصب والدنيا، وأقبل على العبادة، وللناس فيه اعتقاد حسن صالح، يقبلون يده ويسألونه الدعاء، وقد جاوز الثمانين، ودفن بالسفح عند أهله في أواخر ربيع الآخر.

الشيخ محب الدين الطبري المكي

الشافعي، سمع الكثير وصنّف في فنون كثيرة، من ذلك كتاب (الأحكام) في مجلدات كثيرة مفيدة، وله كتاب على ترتيب جامع المسانيد أسمعه لصاحب اليمن، وكان مولده يوم الخميس السابع والعشرين من جمادى الآخرة منها، ودفن بمكة، وله شعر جيد فمنه قصيدته في المنازل التي بين مكة والمدينة، تزيد على ثلاثمائة بيت، كتبها عنه الحافظ شرف الدين الدمياطي في معجمه.

الملك المظفر صاحب اليمن يوسف بن المنصور

نور الدين عمر بن علي بن رسول، أقام في مملكة اليمن بعد أبيه سبعا وأربعين سنة، وعمره ثمانين سنة، وكان أبوه قد ولي أزيد من مدة عشرين سنة بعد الملك أقسيس بن الكامل محمد، وكان عمر بن رسول مقدم عساكر أقسيس، فلما مات أقسيس وثب على الملك فتم له الأمر، وتسمى بالملك المنصور.

واستمر أزيد من عشرين سنة، ثم ابنه المظفر سبعا وأربعين سنة، ثم قام من بعده في الملك ولده الملك الأشرف ممهد الدين، فلم يمكث سنة حتى مات، ثم قام أخوه المؤيد عز الدين داود بن المظفر، فاستمر في الملك مدة، وكانت وفاة الملك المظفر المذكور في رجب من هذه السنة، وقد جاوز الثمانين، وكان يحب الحديث وسماعه، وقد جمع لنفسه أربعين حديثا.

شرف الدين المقدسي الشيخ الإمام الخطيب المدرس المفتي

شرف الدين أبو العباس أحمد بن الشيخ كمال الدين أحمد بن نعمة بن أحمد بن جعفر بن حسين بن حماد المقدسي الشافعي، ولد سنة ثنتين وعشرين وستمائة، وسمع الكثير وكتب حسنا وصنف فأجاد وأفاد.

وولي القضاء نيابة بدمشق، والتدريس والخطابة بدمشق، وكان مدرس الغزالية ودار الحديث النورية مع الخطابة، ودرس في وقت بالشامية البرانية، وأذن في الإفتاء لجماعة من الفضلاء، منهم: الشيخ الإمام العلامة، شيخ الإسلام أبو العباس بن تيمية، وكان يفتخر بذلك ويفرح به، ويقول: أنا أذنت لابن تيمية بالإفتاء، وكان يتقن فنونا كثيرة من العلوم، وله شعر حسن، وصنف كتابا في أصول الفقه جمع فيه شيئا كثيرا، وهو عندي بخطه الحسن، توفي يوم الأحد سابع عشر رمضان، وقد جاوز السبعين، ودفن بمقابر باب كيسان عند والده، رحمه الله ورحم أباه.

وقد خطب بعده يوم العيد، الشيخ شرف الدين الفزاري خطيب جامع جراح، ثم جاء المرسوم لابن جماعة بالخطابة.

ومن شعر الخطيب شرف الدين بن المقدسي:

أحجج إلى الزهر لتسعى به ** وارم جمار الهم مستنفرا

من لم يطف بالزهر في وقته ** من قبل أن يحلق قد قصرا

واقف الجوهرية الصدر نجم الدين

أبو بكر محمد بن عياش بن أبي المكارم التميمي الجوهري، واقف الجوهرية على الحنفية بدمشق، توفي ليلة الثلاثاء تاسع عشر شوال، ودفن بمدرسته وقد جاوز الثمانين، وكانت له خدم على الملوك، فمن دونهم.

الشيخ الإمام العالم المفتي الخطيب الطبيب

مجد الدين أبو محمد عبد الوهاب بن أحمد بن أبي الفتح بن سحنون التنوخي الحنفي، خطيب النيرب، ومدرس الدماغية للحنفية، وكان طبيبا ماهرا حاذقا، توفي بالنيرب وصلّي عليه بجامع الصالحية، وكان فاضلا، وله شعر حسن، وروى شيئا من الحديث، توفي ليلة السبت خامس ذي القعدة عن خمس وسبعين سنة.

الفاروثي الشيخ الإمام العابد الزاهد الخطيب عز الدين أبو العباس

أحمد بن الشيخ محيي الدين إبراهيم بن عمر بن الفرج بن سابور بن علي بن غنيمة الفاروثي الواسطي، ولد سنة أربع عشرة وستمائة، وسمع الحديث ورحل فيه، وكانت له فيه يد جيدة، وفي التفسير والفقه والوعظ والبلاغة، وكان دينا ورعا زاهدا، قدم إلى دمشق في دولة الظاهر فأعطى تدريس الجاروضية، وإمام مسجد ابن هشام، ورتب له فيه شيء على المصالح، وكان فيه إيثار وله أحوال صالحة، ومكاشفات كثيرة، تقدم يوما في محراب ابن هشام ليصلي بالناس، فقال - قبل أن يكبر للإحرام والتفت عن يمينه - فقال: أخرج فاغتسل، فلم يخرج أحد، ثم كرر ذلك ثانية وثالثة، فلم يخرج أحد.

فقال: يا عثمان أخرج فاغتسل، فخرج رجل من الصف فاغتسل ثم عاد، وجاء إلى الشيخ يعتذر إليه، وكان الرجل صالحا في نفسه، ذكر أنه أصابه فيض من غير أن يرى شخصا، فاعتقد أنه لا يلزمه غسل، فلما قال الشيخ ما قال اعتقد أنه يخاطب غيره، فلما عينه باسمه علم أنه المراد.

ثم قدم الفاروثي مرة أخرى في أواخر أيام المنصور قلاوون، فخطب بجامع دمشق مدة شهور، ثم عزل بموفق الدين الحموي، وتقدم ذكر ذلك، وكان قد درس بالنجيبية وبدار الحديث الظاهرية، فترك ذلك كله وسافر إلى وطنه، فمات بكرة يوم الأربعاء مستهل ذي الحجة.

وكان يوم موته يوما مشهودا بواسط، وصلّى عليه بدمشق وغيرها رحمه الله، وكان قد لبس خرقة التصوف من السهروردي، وقرأ القراءات العشرة، وخلّف ألفي مجلد ومائتي مجلدا، وحدّث بالكثير، وسمع منه البرزالي كثيرا (صحيح البخاري)، و(جامع الترمذي)، و(سنن ابن ماجه)، و(مسند الشافعي)، و(مسند عبد بن حميد)، و(معجم الطبراني الصغير)، و(مسند الدارمي)، و(فضائل القرآن) لأبي عبيد، وثمانين جزء وغير ذلك.

الجمال المحقق أحمد بن عبد الله بن الحسين الدمشقي

اشتغل بالفقه على مذهب الشافعي، وبرع فيه وأفتى وأعاد، وكان فاضلا في الطب، وقد ولي مشيخة الدخوارية لتقدمه في صناعة الطب على غيره، وعاد المرضى بالمارستان النوري على قاعدة الأطباء، وكان مدرسا للشافعية بالفرخشانية، ومعيدا بعدة مدارس، وكان جيد الذهن مشاركا في فنون كثيرة سامحه الله.

الست خاتون بنت الملك الأشرف موسى بن العادل

زوجة ابن عمها المنصور بن المنصور بن الصالح إسماعيل بن العادل، وهي التي أثبت سفهها زمن المنصور قلاوون حتى اشترى منها حزرما، وأخذت الزنبقية من زين الدين السامري.

الصدر جمال الدين يوسف بن علي بن مهاجر التكريتي

أخو الصاحب تقي الدين توبة، ولي حسبة دمشق في وقت، ودفن بتربة أخيه بالسفح، وكانت جنازته حافلة، وكان له عقل وافر وثروة ومروءة، وخلف ثلاث بنين: شمس الدين محمد، وعلاء الدين علي، وبدر الدين حسن.

ثم دخلت سنة خمس وتسعين وستمائة

استهلت وخليفة الوقت الحاكم بأمر الله أبو العباس أحمد العباسي، وسلطان البلاد الملك العادل زين الدين كتبغا، ونائبه بمصر الأمير حسام الدين لاجين السلحداري المنصوري، ووزيره فخر الدين بن الخليلي، وقضاة مصر والشام هم المذكورون في التي قبلها، ونائب الشام عز الدين الحموي، ووزيره تقي الدين توبة، وشاد الدواوين الأعسر، وخطيب البلد وقاضيها ابن جماعة.

وفي المحرم ولي نظر الأيتام برهان الدين بن هلال عوضا عن شرف الدين بن الشيرجي.

وفي مستهل هذه السنة كان الغلاء والفناء بديار مصر شديدا جدا، وقد تفانى الناس إلا القليل، وكانوا يحفرون الحفيرة فيدفنون فيها الفئام من الناس، والأسعار في غاية الغلاء، والأقوات في غاية القلة والغلاء، والموت عمال، فمات بها في شهر صفر مائة ألف ونحو من ثلاثين ألفا، ووقع غلاء بالشام فبلغت الغرارة إلى مائتين، وقدمت طائفة من التتر العويراتية لما بلغهم سلطنة كتبغا إلى الشام لأنه منهم، فتلقاهم الجيش بالرحب والسعة، ثم سافروا إلى الديار المصرية مع الأمير قراسنقر المنصوري، وجاء الخبر باشتداد الغلاء والفناء بمصر، حتى قيل إنه بيع الفروج بالإسكندرية بستة وثلاثين درهما، وبالقاهرة بتسعة عشر، والبيض كل ثلاثة بدرهم، وأفنيت الحمر والخليل والبغال والكلاب من أكل الناس لها، ولم يبق شيء من هذه الحيوانات يلوح إلا أكلوه.

وفي يوم السبت الثاني عشر من جمادى الأولى ولي قضاء القضاة بمصر الشيخ العلامة تقي الدين بن دقيق العيد عوضا عن تقي الدين بن بنت الأعز، ثم وقع الرخص بالديار المصرية، وزال الضر والجوع في جمادى الآخرة ولله الحمد.

وفي يوم الأربعاء ثاني شهر رجب درّس القاضي إمام الدين بالقيمرية عوضا عن صدر الدين بن رزين الذي توفي.

قال البرزالي: وفيها وقعت صاعقة على قبة زمزم فقتلت الشيخ علي بن محمد بن عبد السلام مؤذن المسجد الحرام، كان يؤذن على سطح القبة المذكورة، وكان قد روى شيئا من الحديث.

وفيها: قدمت امرأة الملك الظاهر أم سلامش من بلاد الاشكري إلى دمشق في أواخر رمضان فبعث إليها نائب البلد بالهدايا والتحف ورتبت لها الروائب والإقامات، وكان قد نفاهم خليل بن المنصور لما ولي السلطنة.

قال الجزري: وفي رجب درّس كمال الدين بن القلانسي عوضا عن جلال الدين القزويني.

وفي يوم الأربعاء سابع عشر شعبان درّس الشيخ الإمام العلامة شيخ الإسلام تقي الدين بن تيمية الحراني بالمدرسة الحنبلية عوضا عن الشيخ زين الدين بن المنجى توفي إلى رحمة الله، ونزل ابن تيمية عن حلقة العماد بن المنجا لشمس الدين بن الفخر البعلبكي.

وفي آخر شوال ناب القاضي جمال الدين الزرعي الذي كان حاكما بزرع، وهو سليمان بن عمر بن سالم الأزرعي عن ابن جماعة بدمشق، فشكرت سيرته.

وفيها: خرج السلطان كتبغا من مصر قاصدا الشام في أواخر شوال، ولما جاء البريد بذلك ضربت البشائر بالقلعة، ونزلوا بالقلعة السلطان ونائبه لاجين ووزيره ابن الخليلي.

وفي يوم الأحد سادس عشر ذي القعدة ولي قضاء الحنابلة الشيخ تقي الدين سليمان بن حمزة المقدسي عوضا عن شرف الدين مات رحمه الله، وخلع عليه وعلى بقية الحكام وأرباب الولايات الكبار وأكابر الأمراء.

وولي نجم الدين بن أبي الطيب وكالة بيت المال عوضا عن ابن الشيرازي، وخلع عليه مع الجماعة، ورسم على سنقر الأعسر وجماعة من أصحابه وخلق من الكتبة والولاة وصودروا بمال كثير، واحتيط على أموالهم وحواصلهم، وعلى بنت ابن السلعوس وابن عدنان وخلق، وجرت خبطة عظيمة.

وقدم ابنا الشيخ علي الحريري حسن وشيث من بسر لزيارة السلطان فحصل لهما منه رفد وإسعاف وعادا إلى بلادهما، وضيفت القلندرية السلطان بسفح جبل المزة، فأعطاه نحوا من عشرة آلاف، وقدم صاحب حماة إلى خدمة السلطان ولعب معه الكرة بالميدان، واشتكت الأشراف من نقيبهم زين الدين بن عدنان، فرفع الصاحب يده عنهم وجعل أمرهم إلى القاضي الشافعي.

فلما كان يوم الجمعة الثاني والعشرين من ذي القعدة صلى السلطان الملك العادل كتبغا بمقصورة الخطابة، وعن يمينه صاحب حماة، وتحته بدر الدين أمير سلاح، وعن يساره أولاد الحريري حسن وأخواه، وتحتهم نائب المملكة حسام الدين لاجين، وإلى جانبه نائب الشام عز الدين الحموي، وتحته بدر الدين بيسرى، وتحته قراسنقر وإلى جانبه الحاج بهادر، وخلفهم أمراء كبار، وخلع على الخطيب بدر الدين بن جماعة خلعة سنية.

ولما قضيت الصلاة سلم على السلطان وزار السلطان المصحف العثماني.

ثم أصبح يوم السبت فلعب الكرة بالميدان.

وفي يوم الاثنين ثاني ذي الحجة عزل الأمير عز الدين الحموي عن نيابة الشام، وعاتبه السلطان عتابا كثيرا على أشياء صدرت منه، ثم عفا عنه وأمره بالمسير معه إلى مصر، واستناب بالشام الأمير سيف الدين غرلو العادلي، وخلع على المولى وعلى المعزول.

وحضر السلطان دار العدل وحضر عند الوزير والقضاة والأمراء، وكان عادلا كما سمي، ثم سافر السلطان في ثاني عشر ذي الحجة نحو بلاد حلب فاجتاز على حرستا، ثم أقام بالبرية أياما، ثم عاد فنزل حمص، وجاء إليه نواب البلاد، وجلس الأمير غرلو نائب دمشق بدار العدل، فحكم وعدل.

وكان محمود السيرة سديد الحكم رحمه الله تعالى.

من الأعيان:

الشيخ زين الدين بن منجى الإمام العالم العلامة مفتي المسلمين

الصدر الكامل، زين الدين أبو البركات بن المنجى بن الصدر عز الدين أبي عمر عثمان بن أسعد بن المنجى بن بركات بن المتوكل التنوخي، شيخ الحنابلة وعالمهم، ولد سنة إحدى وثلاثين وستمائة، وسمع الحديث وتفقه، فبرع في فنون من العلم كثيرة من الأصول والفروع والعربية والتفسير وغير ذلك.

وانتهت إليه رياسة المذهب، وصنّف في الأصول، وشرح (المقنع)، وله تعاليق في التفسير، وكان قد جمع له بين حسن السمت والديانة، والعلم والوجاهة، وصحة الذهن والعقيدة، والمناظرة، وكثرة الصدقة، ولم يزل يواظب على الجامع للاشتغال متبرعا حتى توفي يوم الخميس رابع شعبان، وتوفيت معه زوجته أم محمد ست البها بنت صدر الدين الخجندي، وصلّي عليهما بعد الجمعة بجامع دمشق، وحملا جميعا إلى سفح قاسيون شمال الجامع المظفري تحت الروضة، فدفنا في تربة واحدة رحمهما الله تعالى.

وهو والد قاضي القضاة علاء الدين، وكان شيخ المسمارية، ثم وليها بعده ولداه شرف الدين وعلاء الدين، وكان شيخ الحنبلية فدرّس بها بعده الشيخ تقي الدين بن تيمية كما ذكرنا ذلك في الحوادث.

المسعودي صاحب الحمام بالمزة

أحد كبار الأمراء، هو الأمير الكبير بدر الدين لؤلؤ بن عبد الله المسعودي، أحد الأمراء المشهورين بخدمة الملوك، توفي ببستانه بالمزة يوم السبت سابع عشرين شعبان، ودفن صبح يوم الأحد بتربته بالمزة، وحضر نائب السلطنة جنازته، وعمل عزاؤه تحت النسر بجامع دمشق.

الشيخ الخالدي هو الشيخ الصالح إسرائيل

بن علي بن حسين الخالدي، له زاوية خارج باب السلامة، كان يقصد فيها للزيارة، وكان مشتملا على عبادة وزهادة، وكان لا يقوم لأحد، ولو كان من كان، وعنده سكون وخشوع ومعرفة بالطريق، وكان لا يخرج من منزله إلا إلى الجمعة، حتى كانت وفاته بنصف رمضان ودفن بقاسيون رحمه الله تعالى.

الشرف حسين المقدسي هو قاضي القضاة شرف الدين أبو الفضل

الحسين بن الإمام الخطيب شرف الدين أبي بكر عبد الله بن الشيخ أبي عمر المقدسي، سمع الحديث وتفقه وبرع في الفروع واللغة، وفيه أدب وحسن محاضرة، مليح الشكل، تولى القضاء بعد نجم الدين بن الشيخ شمس الدين في أواخر سنة سبع وثمانين.

ودرس بدار الحديث الأشرفية بالسفح، توفي ليلة الخميس الثاني والعشرين من شوال، وقد قارب الستين، ودفن من الغد بمقبرة جده بالسفح، وحضر نائب السلطنة والقضاة والأعيان جنازته، وعمل من الغد عزاؤه بالجامع المظفري، وباشر القضاء بعده تقي الدين سليمان بن حمزة، وكذا مشيخة دار الحديث الأشرفية بالسفح، وقد وليها شرف الدين الغابر الحنبلي النابلسي مدة شهور، ثم صرف عنها واستقرت بيد التقي سليمان المقدسي.

الشيخ الإمام العالم الناسك أبو محمد بن أبي حمزة المغربي المالكي

توفي بالديار المصرية في ذي القعدة، وكان قوالا بالحق، أمارا بالمعروف ونهاءا عن المنكر.

الصاحب محيي الدين بن النحاس أبو عبد الله

محمد بن بدر الدين يعقوب بن إبراهيم بن عبد الله بن طارق بن سالم بن النحاس الأسدي الحلبي الحنفي، ولد سنة أربع عشرة وستمائة بحلب، واشتغل وبرع وسمع الحديث وأقام بدمشق مدة، ودرس بها بمدارس كبار، منها الظاهرية، والزنجانية، وولى القضاء بحلب والوزارة بدمشق، ونظر الخزانة ونظر الدواوين والأوقاف، ولم يزل مكرما معظما معروفا بالفضيلة، والإنصاف في المناظرة، محبا للحديث وأهله على طريقة السلف، وكان يحب الشيخ عبد القادر وطائفته، توفي ببستانه بالمزة عشية الاثنين سلخ ذي الحجة، وقد جاوز الثمانين، ودفن يوم الثلاثاء مستهل سنة ست وتسعين بمقبرة له بالمزة، وحضر جنازته نائب السلطنة والقضاة.

قاضي القضاة تقي الدين أبو القاسم عبد الرحمن

بن قاضي القضاة تاج الدين أبي محمد عبد الوهاب بن القاضي الأعز أبي القاسم خلف بن بدر العلائي الشافعي، توفي في جمادى الأولى ودفن بالقرافة بتربتهم.

ثم دخلت سنة ست وتسعين وستمائة

استهلت والخليفة والسلطان ونائب مصر ونائب الشام والقضاة هم المذكورون في التي قبلها، والسلطان الملك العادل كتبغا في نواحي حمص يتصيد، ومعه نائب مصر لاجين وأكابر الأمراء ونائب الشام بدمشق وهو الأمير سيف الدين غرلو العادلي.

فلما كان يوم الأربعاء ثاني المحرم، دخل السلطان كتبغا إلى دمشق، وصلى الجمعة بالمقصورة وزار قبر هود، وصلى عنده، وأخذ من الناس قصصهم بيده، وجلس بدار العدل في يوم السبت ووقع على القصص هو ووزيره فخر الدين الخليلي.

وفي هذا الشهر حضر شهاب الدين بن محيي الدين بن النحاس في مدرستي أبيه الريحانية والظاهرية، وحضر الناس عنده، ثم حضر السلطان دار العدل يوم الثلاثاء، وجاء يوم الجمعة فصلى الجمعة بالمقصورة، ثم صعد في هذا اليوم إلى مغارة الدم لزيارتها، ودعا هنالك وتصدق بجملة من المال، وحضر الوزير الخليلي ليلة الأحد ثالث عشر المحرم إلى الجامع بعد العشاء، فجلس عند شباك الكاملية، وقرأ القراؤون بين يديه، ورسم بأن يكمل داخل الجامع بالفرش ففعلوا ذلك، واستمر ذلك نحوا من شهرين ثم عاد إلى ما كان عليه.

وفي صبيحة هذا اليوم درس القاضي شمس الدين بن الحريري بالقيمازية عوضا عن ابن النحاس باتفاق بينهم، وحضر عنده جماعة، ثم صلى السلطان الجمعة الأخرى بالمقصورة ومعه وزيره ابن الخليلي، وهو ضعيف من مرض أصابه.

وفي سابع عشر المحرم أمر للملك الكامل بن الملك السعيد بن الصالح إسماعيل بن العادل بطبلخانة ولبس الشربوش، ودخل القلعة ودقت له الكوسات على بابه، ثم خرج السلطان العادل كتبغا بالعساكر من دمشق بكرة الثلاثاء ثاني عشرين المحرم، وخرج بعده الوزير فاجتاز بدار الحديث، وزار الأثر النبوي، وخرج إليه الشيخ زين الدين الفارقي، وشافهه بتدريس الناصرية، وترك زين الدين تدريس الشامية البرانية فوليها القاضي كمال الدين بن الشريشي، وذكر أن الوزير أعطى الشيخ شيئا من حطام الدنيا فقبله، وكذلك أعطى خادم الأثر وهو المعين خطاب.

وخرج الأعيان والقضاة مع الوزير لتوديعه.

ووقع في هذا اليوم مطر جيد استشفى الناس به وغسل آثار العساكر من الأوساخ وغيرها، وعاد التقي توبة من توديع الوزير، وقد فوض إليه نظر الخزانة وعزل عنها شهاب الدين بن النحاس، ودرس الشيخ ناصر الدين بالناصرية الجوانية عوضا عن القاضي بدر الدين بن جماعة في يوم الأربعاء آخر يوم من المحرم.

وفي هذا اليوم تحدث الناس فيما بينهم بوقوع تخبيط بين العساكر، وخلف وتشويش، فغلق باب القلعة الذي يلي المدينة، ودخل الصاحب شهاب الدين إليها من ناحية الخوخة، وتهيأ النائب والأمراء وركب طائفة من الجيش على باب النصر وقوفا.

فلما كان وقت العصر وصل السلطان الملك العادل كتبغا إلى القلعة في خمسة أنفس أو ستة من مماليكه، فدخل القلعة فجاء إليه الأمراء، وأحضر ابن جماعة وحسام الدين الحنفي، وجددوا الحلف للأمراء ثانية فحلفوا، وخلع عليهم وأمر بالاحتياط على نواب الأمير حسام الدين لاجين وحواصله، وأقام العادل بالقلعة هذه الأيام، وكان الخلف الذي وقع بينهم بوادي فحمة يوم الاثنين التاسع والعشرين من المحرم.

وذلك أن الأمير حسام الدين لاجين كان قد واطأ جماعة من الأمراء في الباطن على العادل، وتوثق منهم، وأشار على العادل حين خرجوا من دمشق أن يستصحب معه الخزانة، وذل لئلا يبقى بدمشق شيء من المال، يتقوى به العادل إن فاتهم، ورجع إلى دمشق، ويكون قوة له هو في الطريق، على ما عزم عليه من الغدر، فلما كانوا بالمكان المذكور قتل لاجين الأمير سيف الدين بيحاص وبكتوت الأزرق العادليين، وأخذ الخزانة من بين يديه والعسكر، وقصدوا الديار المصرية.

فلما سمع العادل بذلك خرج في الدهليز وساق جريدة إلى دمشق فدخلها كما ذكرنا، وتراجع إليه بعض مماليكه كزين الدين غلبك وغيره، ولزم شهاب الدين الحنفي القلعة لتدبير المملكة، ودرس ابن الشريشي بالشامية البرانية بكرة يوم الخميس مستهل صفر، وتقلبت أمور كثيرة في هذه الأيام.

ولزم السلطان القلعة لا يخرج منها، وأطلق كثيرا من المكوس، وكتب بذلك تواقيع وقرئت على الناس، وغلا السعر جدا فبلغت الغرارة مائتين، واشتد الحال وتفاقم الأمر، فإنا لله وإنا إليه راجعون.

سلطنة الملك منصور لاجين السلحداري

وذلك أنه لما استاق الخزانة، وذهب الجيوش إلى الديار المصرية، دخلها في أبهة عظيمة، وقد اتفق مع جمهور الأمراء الكبار وبايعوه وملكوه عليهم، وجلس على سرير الملك يوم الجمعة عاشر صفر، ودقت بمصر البشائر، وزينت البلد، وخطب له على المنابر، وبالقدس والخليل، ولقب بالملك المنصور، وكذلك دقت له البشائر بالكرك ونابلس وصفد، وذهبت إليه طائفة من أمراء دمشق، وقدمت التجريدة من جهة الرحبة صحبة الأمير سيف الدين كجكن، فلم يدخلوا البلد بل نزلوا بميدان الحصن، وأظهروا مخالفة العادل وطاعة المنصور لاجين صاحب مصر، وركب إليه الأمراء طائفة بعد طائفة، وفوجا بعد فوج، فضعف أمر العادل جدا، فلما رأى انحلال أمره قال للأمراء:

هو خشداشي وأنا وهو شيء واحد، وأنا سامع له مطيع، وأنا أجلس في أي مكان من القلعة أراد، حتى تكاتبوه وتنظروا ما يقول.

وجاءت البريدية بالمكاتبات بالأمر بالاحتياط على القلعة وعلى العادل، وبقي الناس في هرج وأقوال ذات ألوان مختلفة، وأبواب القلعة مغلقة، وأبواب البلد سوى باب النصر إلا الخوخة، والعامة حول القلعة قد ازدحموا، حتى سقطت طائفة منهم بالخندق، فمات بعضهم، وأمسى الناس عشية السبت وقد أعلن باسم الملك المنصور لاجين، ودقت البشائر بذلك بعد العصر، ودعا له المؤذنون في سحر ليلة الأحد بجامع دمشق.

وتلوا قوله تعالى: { قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } الآية 31

وأصبح الناس يوم الأحد، فاجتمع القضاة والأمراء وفيهم غرلو العادلي، بدار السعادة فحلفوا للمنصور لاجين، ونودي بذلك في البلد، وأن يفتح الناس دكاكينهم، واختفى الصاحب شهاب الدين وأخوه زين الدين المحتسب، فعمل الوالي ابن النشابي حسبة البلد، ثم ظهر زين الدين فباشرها على عادته.

وكذلك ظهر أخوه شهاب الدين، وسافر نائب البلد غرلو والأمير جاعان إلى الديار المصرية، يعلمان السلطان بوقوع التحليف على ما رسم به، وجاء كتاب السلطان أنه جلس على السرير يوم الجمعة عاشر صفر، وشق القاهرة في سادس عشرة في أبهة المملكة، وعليه الخلعة الخليفية والأمراء بين يديه، وأنه قد استناب بمصر الأمير سيف الدين سنقر المنصوري، وخطب للمنصور لاجين بدمشق أول يوم ربيع الأول، وحضر المقصورة القضاة وشمس الدين الأعسر وكجكن.

واستدمر وجماعة من أمراء دمشق، وتوجه القاضي إمام الدين القزويني وحسام الدين الحنفي وجمال الدين المالكي إلى الديار المصرية مطلوبين، وقدم الأمير حسام الدين أستاذ دار السلطان، وسيف الدين جاعان من جهة السلطان فحلفوا الأمراء ثانية، ودخلوا على العادل القلعة، ومعهم القاضي بدر الدين ابن جماعة وكجكن فحلفوه أيمانا مؤكدة، بعدما طال بينهم الكلام بالتركي، وذكروا بالتركي في مبايعته أنه راض من البلدان أي بلد كان، فوقع التعيين بعد اليمين على قلعة صرخد، وجاءت المراسيم بالوزارة لتقي الدين توبة، وعزل شهاب الدين الحنفي، وبالحسبة لأمين الدين يوسف الأرمني الرومي صاحب شمس الدين الأيكي، عوضا عن زين الدين الحنفي.

ودخل الأمير سيف الدين قبجق المنصوري على نيابة الشام إلى دمشق بكرة السبت السادس عشر من ربيع الأول، ونزل دار السعادة عوضا عن سيف الدين غرلو العادلي، وقد خرج الجيش بكماله لتلقيه، وحضر يوم الجمعة إلى المقصورة فصلى بها، وقرأ بعد الجمعة كتاب سلطاني حسامي، بإبطال الضمانات من الأوقاف والأملاك بغير رضى أصحابها، وقرأه القاضي محيي الدين بن فضل الله صاحب ديوان الإنشاء، ونودي في البلد من له مظلمة فليأت يوم الثلاثاء إلى دار العدل، وخلع على الأمراء والمقدمين وأرباب المناصب من القضاة والكتبة، وخلع على ابن جماعة خلعتين واحد للقضاء والأخرى للخطابة.

ولما كان في شهر جمادى الآخرة وصل البريد، فأخبر بولاية إمام الدين القزويني، القضاء بالشام عوضا عن بدر الدين بن جماعة، وإبقاء ابن جماعة على الخطابة، وتدريس القيمرية التي كانت بيد إمام الدين، وجاء كتاب السلطان بذلك وفيه احترام وإكرام له.

فدرس بالقيمرية يوم الخميس ثاني رجب، ودخل إمام الدين إلى دمشق عقيب صلاة الظهر يوم الأربعاء الثامن من رجب، فجلس بالعادلية وحكم بين الناس وامتدحه الشعراء بقصائد، منها قصيدة لبعضهم يقول في أولها:

تبدلت الأيام من بعد عسرها يسرا ** فأضحت ثغور الشام تفتر بالبشرى

وكان حال دخوله عليه خلعة السلطان، ومعه القاضي جمال الدين الزواوي، قاضي قضاة المالكية وعليه خلعة أيضا، وقد شكر سيرة إمام الدين في السفر، وذكر من حسن أخلاقه ورياضته ما هو حسن جميل ودرس بالعادلية بكرة الأربعاء منتصف رجب، وأشهد عليه بعد الدرس بولاية أخيه جلال الدين نيابة الحكم، وجلس في الديوان الصغير وعليه الخلعة، وجاء الناس يهنئونه، وقرئ تقليده يوم الجمعة بالشباك الكمالي، بعد الصلاة بحضرة نائب السلطنة وبقية القضاة، قرأه شرف الدين الفزاري.

وفي شعبان وصل الخبر بأن شمس الدين الأعسر تولى بالديار المصرية شد الدواوين والوزارة، وباشر المنصبين جميعا، وباشر نظر الدواوين بدمشق فخر الدين بن السيرجي، عوضا عن زين الدين بن صصرى، ثم عزل بعدد قليل بشهر أو أقل بأمين الدين بن هلال، وأعيدت الشامية البرانية إلى الشيخ زين الدين الفارقي مع الناصرية بسبب غيبة كمال الدين بن الشريشي بالقاهرة.

وفي الرابع عشر من ذي القعدة أمسك الأمير شمس الدين قراسنقر المنصوري نائب الديار المصرية لاجين هو وجماعة من الأمراء معه، واحتيط على حواصلهم وأموالهم بمصر والشام، وولى السلطان نيابة مصر للأمير سيف الدين منكوتمر الحسامي، وهؤلاء الأمراء الذين مسكهم هم الذين كانوا قد أعانوه وبايعوه على العادل كتبغا.

وقدم الشيخ كمال الدين الشريشي ومعه توقيع بتدريس الناصرية عوضا عن الشامية البرانية، وأمسك الأمير شمس الدين سنقر الأعسر وزير مصر وشاد الدواوين يوم السبت الثالث والعشرين من ذي الحجة، واحتيط على أمواله وحواصله بمصر والشام.

ونودي بمصر في ذي الحجة أن لا يركب أحد من أهل الذمة فرسا ولا بغلا، ومن وجد منهم راكبا ذلك أخذ منه.

وفيها: ملك اليمن السلطان الملك المؤيد هزبر الدين داود بن الملك المظفر المتقدم ذكره في التي قبلها.

من الأعيان:

قاضي قضاة الحنابلة بمصر عز الدين عمر

بن عبد الله بن عمر بن عوض المقدسي الحنبلي، سمع الحديث وبرع في المذهب وحكم بمصر، وكان مشكورا في سيرته وحكمه، توفي في صفر ودفن بالمقطم، وتولى بعده شرف الدين عبد الغني بن يحيى بن محمد بن عبد الله بن نصر الحراني بديار مصر.

الشيخ الإمام الحافظ القدوة عفيف الدين أبو محمد

عبد السلام بن محمد بن مزروع بن أحمد بن عزاز البصري الحنبلي، توفي بالمدينة النبوية في أواخر صفر، ولد سنة خمس وعشرين وستمائة، وسمع الحديث الكثير، وجاور بالمدينة النبوية خمسين سنة، وحج فيها أربعين حجة متوالية، وصلّي عليه بدمشق صلاة الغائب رحمه الله.

الشيخ شيث بن الشيخ علي الحريري

توفي بقرية بسر من حوران يوم الجمعة ثالث عشر ربيع الآخر، وتوجه أخوه حسن والفقراء من دمشق إلى هناك لتعزية أخيهم حسن الأكبر فيه.

الشيخ الصالح المقري جمال الدين عبد الواحد

بن كثير بن ضرغام المصري، ثم الدمشقي، نقيب السبع الكبير والغزالية، كان قد قرأ على السخاوي وسمع الحديث، توفي في أواخر رجب وصلّي عليه بالجامع الأموي، ودفن بالقرب من قبة الشيخ رسلان.

واقف السامرية الصدر الكبير سيف الدين

أبو العباس أحمد بن محمد بن علي بن جعفر البغدادي السامري، واقف السامرية التي إلى جانب الكروسية بدمشق، وكانت دارة التي يسكن بها، ودفن بها ووقفها دار حديث وخانقاه، وكان قد انتقل إلى دمشق وأقام بها بهذه الدار مدة.

وكانت قديما تعرف بدار ابن قوام، بناها من حجارة منحوتة كلها، وكان السامري كثير الأموال حسن الأخلاق معظما عند الدولة، جميل المعاشرة، وله أشعار رائقة ومبتكرات فائقة، توفي يوم الاثنين ثامن عشر شعبان.

وقد كان ببغداد له خطوة عند الوزير ابن العلقمي، وامتدح المعتصم وخلع عليه خلعة سوداء سنية، ثم قدم دمشق في أيام الناصر صاحب حلب فحظي عنده أيضا، فسعى فيه أهل الدولة، فصنف فيهم أرجوزة فتح عليهم بسببها بابا، فصادرهم الملك بعشرين ألف دينار، فعظموه جدا وتوسلوا به إلى أغراضهم، وله قصيدة في مدح النبي ، وقد كتب عنه الحافظ الدمياطي شيئا من شعره.

واقف النفيسية التي بالرصيف

الرئيس نفيس الدين أبو الفداء إسماعيل بن محمد بن عبد الواحد بن إسماعيل بن سلام بن علي بن صدقة الحراني، كان أحد شهود القيمة بدمشق، وولي نظر الأيتام في وقت، وكان ذا ثروة من المال، ولد سنة ثمان وعشرين وستمائة، وسمع الحديث ووقف داره دار حديث، توفي يوم السبت بعد الظهر الرابع من ذي القعدة، ودفن بسفح قاسيون بكرة يوم الأحد بعد ما صلّي عليه بالأموي.

الشيخ أبو الحسن المعروف بالساروب الدمشقي

يلقب بنجم الدين، ترجمه الحريري فأطنب، وذكر له كرامات وأشياء في علم الحروف وغيرها والله أعلم بحاله.

وفيها: قتل قازان الأمير نوروز الذي كان إسلامه على يديه، كان نوروز هذا هو الذي استسلمه ودعاه للإسلام، فأسلم وأسلم معه أكثر التتر، فإن التتر شوشوا خاطر قازان عليه واستمالوه منه وعنه، فلم يزل به حتى قتله وقتل جميع من ينسب إليه، وكان نورزو هذا من خيار أمراء التتر عند قازان، وكان ذا عبادة وصدق في إسلامه وأذكاره وتطوعاته، وقصده الجيد رحمه الله وعفا عنه، ولقد أسلم على يديه منهم خلق كثير لا يعلمهم إلا الله، واتخذوا السبح والهياكل وحضروا الجمعة والجماعات، وقرأوا القرآن والله أعلم.

ثم دخلت سنة سبع وتسعين وستمائة

استهلت والخليفة الحاكم والسلطان لاجين ونائب مصر منكوتمر ونائب دمشق قبجق.

وفي عاشر صفر تولى جلال الدين بن حسام الدين القضاء مكان أبيه بدمشق، وطلب أبوه إلى مصر فأقام عند السلطان، وولاه قضاء قضاة مصر للحنفية عوضا عن شمس الدين السروجي، واستقر ولده بدمشق قاضي قضاة الحنفية، ودرّس بمدرستي أبيه الخانونية والمقدمية، وترك مدرسة القصاعين والشبلية وجاء الخبر على يدي البريد بعافية السلطان من الوقعة التي كان وقعها فدقت البشائر وزينت البلد، فإنه سقط عن فرسه وهو يلعب بالكرة، فكان كما قال الشاعر:

حويت بطشا وإحسانا ومعرفةً ** وليس يحمل هذا كله الفرس

وجاء على يديه تقليد وخلعة لنائب السلطنة، فقرأ التقليد وباس العتبة.

وفي ربيع الأول درّس بالجوزية عز الدين ابن قاضي القضاة تقي الدين سليمان، وحضر عنده إمام الدين الشافعي وأخوه جلال الدين وجماعة من الفضلاء، وبعد التدريس جلس وحكم عن أبيه بإذنه في ذلك.

وفي ربيع الأول غضب قاضي القضاة تقي الدين بن دقيق العيد وترك الحكم بمصر أياما، ثم استرضي وعاد وشرطوا عليه أن لا يستنيب ولده المحب، وفي يوم الجمعة عاشر ربيع الآخر أقيمت الجمعة بالمدرسة المعظمية، وخطب فيها مدرسها القاضي شمس الدين بن المعز الحنفي، واشتهر في هذا الحين القبض على بدر الدين بيسرى، واحتيط على أمواله بديار مصر.

وأرسل السلطان بجريدة صحبة علم الدين الدويداري إلى تل حمدون ففتحه بحمد الله ومنه، وجاء الخبر بذلك إلى دمشق في الثاني عشر من رمضان، وخربت به الخليلة وأذن بها الظهر، وكان أخذها يوم الأربعاء سابع رمضان.

ثم فتحت مرعش بعدها فدقت البشائر، ثم انتقل الجيش إلى قلعة حموص، فأصيب جماعة من الجيش منهم الأمير علم الدين سنجر طقصبا أصابه زيار في فخذه، وأصاب الأمير علم الدين الدويداري حجر في رجله.

ولما كان يوم الجمعة سابع عشر شوال عمل الشيخ تقي الدين بن تيمية ميعادا في الجهاد، وحرض فيه وبالغ في أجور المجاهدين، وكان ميعادا حافلا جليلا.

وفي هذا الشهر عاد الملك المسعود بن خضو بن الظاهر من بلاد الأشكري إلى ديار مصر، بعد أن مكث هناك من زمن الأشرف بن المنصور، وتلقاه السلطان بالموكب وأكرمه وعظمه.

وحج الأمير خضر بن الظاهر في هذه السنة مع المصريين، وكان فيهم الخليفة الحاكم بأمر الله العباسي.

وفي شهر شوال جلس المدرسون بالمدرسة التي أنشأها نائب السلطنة بمصر وهي المنكوتمرية داخل باب القنطرة.

وفيها: دقت البشائر لأجل أخذ قلعتي حميمص ونجم من بلاد سيس.

وفيها: وصلت الجريدة من بلاد مصر قاصدين بلاد سيس مددا لأصحابهم، وهي نحو ثلاثة آلاف مقاتل، وفي منتصف ذي الحجة أمسك الأمير عز الدين أيبك الحموي الذي كان نائب الشام هو وجماعة من أهله وأصحابه من الأمراء.

وفيها: قلت المياه بدمشق جدا، حتى بقي ثورا في بعض الأماكن لا يصل إلى ركبة الإنسان، وأما بردى فأنه لم يبق فيه مسكة ماء، ولا يصل إلى جسر حسرين، وغلا سعر الثلج بالبلد.

وأما نيل مصر فإنه كان في غاية الزيادة والكثرة.

من الأعيان:

الشيخ حسن بن الشيخ علي الحريري

في ربيع الأول بقرية بسر، وكان من كبار الطائفة، وللناس إليه ميل لحسن أخلاقه وجودة معاشرته، ولد سنة إحدى وعشرين وستمائة.

الصدر الكبير شهاب الدين أبو العباس أحمد بن عثمان بن أبي الرجا بن أبي الزهر التنوخي

المعروف بابن السلعوس، أخو الوزير، قرأ الحديث وسمع الكثير، وكان من خيار عباد الله، كثير الصدقة والبر، توفي بداره في جمادى الأولى، وصلّي عليه بالجامع ودفن بباب الصغير، وعمل عزاؤه بمسجد ابن هشام.

وقد ولي في وقت نظر الجامع وشكرت سيرته، وحصل له وجاهة عظيمة عريضة أيام وزارة أخيه، ثم عاد إلى ما كان عليه قبل ذلك حتى توفي، وشهد جنازته خلق كثير من الناس.

الشيخ شمس الدين الأيكي محمد بن أبي بكر

بن محمد الفارسي، المعروف بالأيكي، أحد الفضلاء الحلالين للمشكلات، الميسرين المعضلات، لا سيما في علم الأصلين والمنطق، وعلم الأوائل، باشر في وقت مشيخة الشيوخ بمصر.

وأقام مدرّس الغزالية قبل ذلك، توفي بقرية المزة يوم جمعة، ودفن يوم السبت ومشى الناس في جنازته، منهم: قاضي القضاة إمام الدين القزويني، وذلك في الرابع من رمضان، ودفن بمقابر الصوفية إلى جانب الشيخ شملة، وعمل عزاؤه بخانقاه السميساطية، وحضر جنازته خلق كثير، وكان معظما في نفوس كثير من العلماء وغيرهم.

الصدر ابن عقبة إبراهيم بن أحمد

بن عقبة بن هبة الله بن عطاء البصراوي، درس وأعاد، وولي في وقت قضاء حلب، ثم سافر قبل وفاته إلى مصر فجاء بتوقيع فيه قضاء قضاة حلب، فلما اجتاز بدمشق، توفي بها في رمضان من هذه السنة، وله سبع وثمانون سنة.

يشيب المرء ويشب معه خصلتان الحرص وطول الأمل.

الشهاب العابر أحمد بن عبد الرحمن بن عبد المنعم بن نعمة المقدسي

الحنبلي، شهاب الدين عابر الرؤيا، سمع الكثير وروى الحديث.

وكان عجبا في تفسير المنامات، وله فيه اليد الطولى، وله تصنيف فيه ليس كالذي يؤثر عنه، من الغرائب والعجائب، ولد سنة ثمان وعشرين وستمائة، توفي في ذي القعدة ودفن بباب الصغير، وكانت جنازته حافلة رحمه الله.

(تم الجزء الثالث عشر من البداية والنهاية. ويليه الجزء الرابع عشر. وأوله سنة ثمان وتسعين وستمائة.)


هامش

  1. [الحشر: 22]
  2. [التوبة: 129]
  3. [النمل: 37]
  4. [البقرة: 19]
  5. [العنكبوت: 69]
  6. [الدخان: 29]
  7. [طه: 5]
  8. [فاطر: 10]
  9. [الشورى: 11]
  10. [مريم: 65]
  11. [التحريم:5]
  12. [الأنفال: 44]
  13. [المطففين: 1-6]
  14. [المائدة: 50]
  15. [النساء: 65]
  16. [البقرة: 155-156]
  17. [فصلت: 46]
  18. [الروم: 50]
  19. [المرسلات: 32-33]
  20. [آل عمران: 26]
  21. [نوح: 4]
  22. [الرعد: 11]
  23. [الإسراء: 4-5]
  24. [آل عمران: 75]
  25. [يس: 21]
  26. [التغابن: 16]
  27. [الأنعام: 129]
  28. [الأنبياء: 105]
  29. [المجادلة: 22]
  30. [الأعراف: 129]
  31. [آل عمران: 26]