الأمالي (الأصفهاني)

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة
​الأمالي​ المؤلف أبو على أحمد بن محمد بن الحسن المرزوقي الأصفهاني


باب

المعتل الفاء المضمومة

أو المكسورة، كواو وياء، تقول: وُعد وأُعد وُقت وأُقت، والوجوه والأجوه، والوقود والأقود، والوسادة والإسادة، والوشاح والإشاح، على الإبدال منها، وهي مضموم مطردة لا خلاف فيه، وقد تبدل التاء من الواو أيضاً، في نحو تخمة، فإن كانت مكسورة، فمن النحويين من يتبع العرب فلا يبدل إلا ما روي عنهم إبداله، والياء يصح في كسرها وضمها لخفتها، فاعلمه.

وتقول في مستقبل وعد يعد، والأصل يوعد، لكن الواو لما وقعت بين ياء وكسرة استثقلت فحذفت تخفيفاً، ولا يدخل على هذا الذي قلناه يوعد ويوقن وما أشبههما، فيقال: هلا حذفت الواو منهما لوقوعها بين ياء وكسرة، أو هلا أبقيتها في يعد وما أشبهه، وكنت تقول: يوعد، لأن الأصل في يوعد يأوعد، لأنه مستقبل أوعد، وأوعد على زنة دحرج، وكما تقول: يدحرج فعل المستقبل، يلزم أن يقال يأوعد، لكنهم استثقلوا اللفظ بالهمزة فحذفوها تخفيفاً، وهي في النية، لأن أصل الكلمة يقتضيه، وإذا كان الأمر على ذلك، فالواو كأنها واقعة بين همزة وكسرة، إذا كانت الهمزة في النية، ومن مقتضى بناء الكلمة، فلا كون مثل يعد، ولا يلزم على ما ذكرناه فيه فأنت تعد، فالواو قد أسقطت، وإن لم تكن واقعة بين ياء وكسرة لاستنكارهم ثبات الواو في بعض بناء المستقبل من الكلمة وانحذافه في آخر، وهذا مما اتبع فيه الإعلال طلباً للاطراد والاستمرار، وتقول في الأمر: عد، والأصل: أوعِد، لأن الأمر يبنى على المستقبل، لأنه بناء لما لم يقع، كما أن المستقبل بناء لما لم يقع، لكن الواو لما وقعت بين كسرتين صارت في حكمها لما وقعت بين ياء وكسرة فحذفوها تخفيفاً، فصار أعد، ثم استغني عن الهمزة المجتلبة لتحرك ما بعدها فصار: عد، وذلك أن الهمزة إنما تجلب في بناء الأمر إذا كان أوله ساكناً، لأن الأمر الحاضر يبنى على المستقبل، ويحذف حرف المضارعة من أوله، فإذا كان بعدها الحرف الأول ساكنا، احتيج إلى ما يتوصل به فيجلب الألف لذلك، ولذلك كان الثلاثي كله في أول بناء الأمر منه ألف الوصل واستغني في الرباعي كدحرج وهرول عنه، تقول في الأمر منهما: دحرج وهرول، لأنك لما حذفت حرف المضارعة كان ما يليه متحركاً، فاستغنيت عن الأول، ثم جرى أكثر ما كان مبنياً من الثلاثي بزيادة مجراة في نطاق ألف الوصل أوله عند الأمر، وذلك: كانطلق، واستخرج، واقتتلوا، وما أشبهها، فإن بنيت قلت: عد، وإن جمعت قلت: عدوا، وإن أمرت مؤنثاً قلت: عدي، وفي الثنتين: عدا، وفي الجمع: عدن، والعلة في جميع ذلك كالعلة في عد.

فأما مصدره: فالوعد، والموعد، واعتل عِدة، لأن الأصل فيه: وعْدة، فلما كان الواو في الفعل اعتل وسقط، ومن حكم المصدر أن يبنى على فعلة في صحته واعتلاله، وكانت الكسرة في الواو مستثقلة، حذفت الواو كما حذفت في الفعل، ولو كان فعله اسماً لا مصدراً لكان يصح لبعد الاسم من الفعل، وقرب المصدر منه على ذلك، ولكل وجهة، وقولهم: وِلدة، فاعلمه.

واسم الفاعل واعدُ، فإن جمعت قلت: أواعد، وهو فواعل فأبدلت كما أبدلت في تصغيره إذ قلت: أُويعد، وهو فويعل لتكرار الواو، ولأن التكسير من نجر التصغير، وإنما أبدل في التصغير لاجتماع واوين متحركين، والأولى مضمومة، فكأنما اجتمع ثلاث واوات، واسم المفعول موعود، وفعل المفعول وُعد للماضي، وللمستقبل يوعد، وقد صح الواو كما رأيت، فإن شئت أبدلت منها همزة، وقد مر ذلك.

فإن كان الفاء ياء كيسر، فإنه يصح في المستقبل، تقول: يسر ييسر يسراً فهو ياسر، وينع الثمر ويعر الجدي، وذلك يصح في مصدره، والأمر منه واسم الفاعل. وفي الجمع تقول: اليسر وأيسُر وياسر ويواسر، ولن يعامل الياء معاملة الواو لخفتها وغلبة نقل الواو، وقد قلت إن الألف لا تكون إلا زائدة أو منقلبة في الفعل، وإذا كان كذلك فلا يقع موقع الفاء من الفعل فاعلمه.

فأما فعِل بكسر العين من المعتل فإنه يصح، تقول: وجِل يوجَل، لأن الواو لم يقع بين ياء وكسرة، لما كان مستقبله يفعل، والأمر أوجل، وقد قيل: أيجل وهذا كما قالوا في المستقبل ياجل، ومن حكم فعِل أن بعض العرب يكسر حروف المضارعة فيه، كما يفعل ذلك فيما زاد على ثلاثة إلاّ الياء وحدها، يقولون: أنت تِعلم، وأنا إعلم، ونحن نِعلم، وكذلك نِستعين، وتِسعين وإستعين، فأما الياء فلا يكسرونه لاستثقال الكسرة فيها جلي، وقد حكي فيما كان من المعتل أنهم يقولون: ييجل، قال الأخفش: لما قلبوا الواو ياء مع النون والتاء والألف مكسورة: تِيجل، ونيجل، وإيجل، ففروا من أن يردوا الواو مع الياء، فاحتملوا ثقل الكسرة في الياء وتكلموا به لئلا يختلف بناء المضارع في لغتهم.

فأما ما كان فاؤه ياء من هذا البناء كيئس ييئس، فإنه إذا كان الواو فيه يصح، فالياء أولى لما ذكرته من خفته، وأما يلغ فهو مستقبل فعل، وكأنه جاء في الأصل على يفعِل، بكسر العين، كأنه كان يولغ فوقعت الواو بين ياء وكسرة فحذفت استثقالاً، ثم ردوا من يلِغ إلى يلَغ لما كان حرف الحلق وهو الغين، ومثل ذلك يطأ ويسع ويدع، فأما يذر فهو مستقبل وذر، فمحمول على يدع، كما يحمل الشيء على نظيره، وما شذ في هذا الباب فجاء بكسر العين في المستقبل ولِي يلي، وومِق، وورِي الزند يرِي، وأحرف أخر، وهذا كما جاء في الصحيح، وحسِب يحسب ونعم ينعِم، ويئس ييئس، ويبس ييبس، فاعلمه.

فأما المهموز كأتى، فإنه يصح لأن الهمز حرف صحيح، تقول في المستقبل: يأتي، والأمر إئت، وليس هذا مما اعتل فاؤه في شيء.

فأما خذ، وكل، ومر، فهذه الثلاثة الأحرف حذفت فاؤها تخفيفاً، وقال سيبويه: إنما شذت لكثرة الاستعمال فيها، وسائر ما فاؤه همزة لا تحذف منه في الأمر، وقد ردت الهمزة في مر خاصة مع حرف العطف، قال الله تعالى:) وأمر أهلك بالصلاة (، ولم يرد في خذ، وكل، فأما سيبويه فزعم أن رده مع الواو بعد استمرار الحذف شذوذ ثان.

وقد علل المازني هذا المكان فذكر أن رد الهمزة كان لضعف الميم والراء، وذلك أن الميم بالغنة التي فيه أشبهت النون، والنون مشبهة بحروف المد واللين، قال: والراء في مخرجه تكرار فلا يستقر اللسان عند النطق به استقراره في الحروف الشديدة، قال: فلما ضعف الحرفان ويا برد الهمزة مع حرف العطف في بعض متصرفاته.

باب

المعتل العين

اعلم أن فعل من هذا الباب بفتح العين يساوي لفظه ولفظ فعِل بكسر العين من الواو كان أو من الياء، لأنهما بتحركهما وانفتاح ما قبلهما ينقلبان ألفاً، وذلك نحو: قال، وثاب، وسار، ونام، وهاب، وصار، والأصل: قوَل، وثوَب، وسيَر، وبيَع، بفتح الواو والياء، ونوِم، وخوِف، وهيِب، وصيِر، بكسر الواو والياء، فلما كانت تحركت أحرف العلة فيها كلها وما قبلها مفتوح انقلبت له ألفاً، والمستقبل: يقول، ويثوب، ويسير، ويبيع، وينام، ويخاف، والأصل فيها: يقْوُل، ويثوُب، ويسيِر، ويبيِع، وينوَم، ويخوَف، فألقيت حركة حرف العلة على ما قبله فانقلبت - إذا كانت فتحة - ألفاً، وبقيت - إذا كانت ضمة أو كسرة - واواً وياء.

وإنما اعتل هذا اتباعاً للماضي، لأنهم كرهوا أن يعتل الماضي ويسلم المستقبل، وإنما قلنا هذا لأن ما قبل حرف العلة كان ساكناً، ولولا اعتلال ماضيه لكان يسلم، وهذا وأمثاله يسمى اعتلال الاتباع، ولهذا صح المصدر، فقالوا: قولاً، وسيراً، ونوماً، لما لم يحصل فيه ما أوجب اعتلالاً إذا كان حرف العلة ساكنة وما قبله مفتوح.

فأما حوِلَ وعوِرَ فإنما صحا لأنهما منقوص احولّ واعورّ، بدلالة أبنية نظائرهما، وكما صحا صح اسم الفاعل منهما، تقول: هو حاوِلٌ، وعاوِرٌ، فاعلمه.

وقد جعلوا فعل من بنات الواو، ولا يجيء مستقبله إلاّ يفعل، ومن بنات الياء لا يجيء إلاّ يفعل لئلا يختلف البابان ويدخل أحدهما في شيبة الآخر بالاعتلال، وفعِل بكسر العين منهما يلزم مضارعه يفعل، لأن نظيره من الصحيح يكون كذلك، نحو: حذِر يحذر، وعلِم يعلم. والأمر من القول: قل، لما كان مستقبله يقول، والأصل: إقْوُل، فألقيت حركة الواو على القاف، كما في المستقبل، فالتقى ساكنان: الواو واللام، فحذفت الأمر من السير، قالوا: سيْر، والأصل: إسْير، فألقيت حركة الياء على السين كما فعلوا في المستقبل، ثم حذفت الياء لالتقاء الساكنين وطرحت الهمزة للاستغناء عنها، وكذلك الأمر من النوم: نمْ، إنْوم، فألقيت حركة الواو على النون ثم حذفت لالتقاء الساكنين فاستغنيت عن الهمزة، ونظائر هذه الأبنية الثلاثة في الأمر على ما قلناه. والذي يدل على أن أحرف العلة من هذه الأبنية حذفت لالتقاء الساكنين بعد نقل الحركة عنها إلى ما قبلها، أنها ترد إذا تحركت لام الفعل، تقول: قولا، وسيرا، وناما، وفي الجميع: قولوا، وسيروا، وناموا، وفي المؤنث: سيري، وقولي، ونامي، وفي جميع المؤنث لما سكنت لام الفعل ثانياً حذفت، تقول: قلن، وسرن، ونمن يا نسوة، والاعتلال فيها كما ذكرنا من قبل. فإن كان فعلت بفتح العين، حول في بنات الواو إلى فعُلْت، وفي بنات الياء إلى فعِلْت ليمكن إلقاء حركة عينيهما على فائهما، تقول: قلته وبعته، والأصل: قولته وبيعته. فردا إلى قولته وبيعته، ثم ألقي حركة الواو والياء على ما قبلهما فيهما، فاجتمع ساكنان في كل واحد منهما، فحذف الأول لاجتماعهما، وإن كان فعِلت بكسر العين، لاحتاج فيه إلى تغيير نحو: هبْت، وخِفت، كما أن فعُلت بضم العين لا يحتاج فيه إلى تغيير، نحو: طلت تطول فأنت طويل، والأصل: هيِبت وخوِفت فألقيت حركة الواو والياء فيهما على ما قبلهما، فالتقى ساكنان فحذف الأول منهما لاجتماعهما. فإذا بنيت في هذا الباب لما لم يسم فاعله، كان لفظه واحداً، تقول: قيل وبيع، وخيف، والأصل: قوِل، وبُيِع، وخوِف، فألقي حركة الواو، والياء، على ما قبلهما، فانقلبت الواو ياء لانكسار ما قبلها، فصار: قيل، وبيع، وخيف، وإذا عديتها إلى نفسك كان على صورة ما هو إخبار عنك، تقول: خِفت وبِعت وهِبت، أي خافني غيري، وهابني، وباعني، والأصل: خوِفت، وبيِعت، فألقيت حركة الواو والياء على ما قبلهما فاجتمع ساكنان فحذفت الواو والياء لهما فصارا: بعت، وخفت، ومن العرب من يقول: بوع الشيء، وقول القول، ومنهم من يشم، وكسر الأول أجود، فاعلم.

واعلم أنه لو وقع مكان حرف العلة همزة لصحت، إلاّ ما أجمعوا على حذفه في رأيت، ولهذا أجمعوا على: بريّة، ورويّة، والنّبيّ وقريش كلها لا همز في كلامها، وهذا ما روي عن النبي عليه السلام أنه خاطبه بعضهم فقال: يا نبيءَ الله، بالهمز، فقال: لست بنبيء الله إنما أنا نبي الله.

والنحويون كلهم على أن هذا من الهمز من النبأ الذي هو الخبر، وقد ذهب بعض أهل اللغة إلى أنه لا يمتنع أن يكون من النبوة وهي الارتفاع، كأنه أعطي أرفع المنازل لما كلف من أداء الرسالة.

فأما الروية فلا خلاف أنه من رأوت، والبرية بعضهم يجعله من البرى وهو التراب، والأكثر أن يكون من برأت، أي: خلقت، فإذا قلت: رأيت، فمستقبله يرى، والأصل: يرأى، فحذفت الهمزة استخفافاً وألقيت حركتها على الراء فصار يرى، ثم بني الأمر على المستقبل فصار للحذف إلى العارض فيه واطراده في حكم ما قد اجتمع فيه إعلال فتقول إذا أمرت: ريَا هذا، وهو من الفعل افعل، وهذا الأصل فيه إرأ على مثال: إسعى، فحذفت الهمزة وألقيت حركتها على الراء، ثم استغني عن الهمزة المجتلبة لتحرك الراء فصار ريا، هذا ولو وقفت على هذا لكنت تقول: رَه، وإنما زدت الهاء لأن الحرف الواحد لا يتأتى فيه الابتداء به والوقف عليه، فإن ثنيت قلت: ريا، والأصل: أرأيا، وفي الجمع روا والأصل أرأيوا، فلما حذفت الهمزة ونقلت حركتها إلى الراء قلبت الياء ألفاً لتحركها وانفتاح ما قبلها، فحذفت الألف لالتقاء الساكنين فصار: روا، لأن الهمزة حذفت من أوله استغناء عنها. وفي المؤنث تقول: ري، والأصل: أرأيي، وفي الثنتين: ريا، وفي النساء: رين، والعلة في جميعه على ما تقدم.

واعلم أن اسم الفاعل من هذا الباب يعلّ فيبدل من يائه وواوه همزة، فتقول من قال: قائل ومن سار: سائر، والأصل: قاول، وساير، فلما كان اسم الفاعل يبنى على الفعل، وكان الواو والياء قد اعتلا فيه، ووقعا في اسم الفاعل مكسورين بعد ألف أعلا أيضاً استثقالاً للكسرة فيها، ولاعتلالهما فيما انبنى اسم الفاعل عليه لما تحركتا، وما قبلهما مفتوح، فأبدلت الهمزة منها لمجانسة الهمزة للألف التي قبلهما.

فإن بنيت اسم المفعول من بنات الواو قلت في قال: مقول، وفي سار إليه: مسور إليه، والأصل: مقوول، فألقيت حركة الواو على القاف فالتقى ساكنان وهما الواوان، فحذفت واو المفعول عند سيبويه، أو الواو الأصلي عند الأخفش فصار مقول، ولم يجيء صحيحاً من بنات الواو في مفعول إلاّ حرفان، جاء: ثوب مصوون، وهو اسم المفعول من صانه يصونه، والقياس: مصون، وهو المستعمل، ومسك مدووف، وهو من دافه يدوفه والقياس مدوف وهو المستعمل، وهذان حكاهما الكسائي، وتقول في بنات الياء: كلته فهو مكيل، وبعته فهو مبيع، والأصل: مكول ومبيوع، فألقيت حركة الياء على ما قبله، فالتقى ساكنان ثم بينهما اختلاف، فمنهم من يقول: حذفت واو المفعول ثم كسرت الكاف والياء لمجاورتهما الياء فصار: مكيل، ومبيع، ومنهم من يقول: حذفت لام الفعل هو الياء ثم أبدلت من واو المفعول ياء لئلا يلتبس بناء الواو ببنات الياء وكسرت ما قبل الياء بعد الإبدال لمجاورته للياء فصار: مكيل، وقد أتموا بنات الياء خاصة، قالوا: ثوب مخيوط، وبرّ مكيول.

وقال: غبِن الرجل فهو مغبون، وقال: وإخال أنك سيّد معيون، وهذا لخفة الياء، وعلى هذا يجيء فيما كان من فعل أيضاً إذا كان من بنات الواو كخاف وما أشبهه، تقول: هو مخوف فاعلمه.

واعلم أن ساء يسوء، وناء ينوء، كقام يقوم، وعاد يعود، وفاء يفيء، وجاء يجيء، كسار يسير، وباع يبيع، وشاء يشاء، كخاف يخاف، في كل أحكامها إلاّ اسم الفاعل فإنه يجتمع فيه همزتان، فتقلب الثانية ياء استثقالاً لاجتماعهما، تقول: هو جاء وشاء وفاء، وكان الخليل يقول في هذا: إنه مقلوب، والطريقتان صنفان.

باب

ما اعتل لامه

اعلم أن الواو والياء إذا كانتا لامين متحركتين وما قبلهما مفتوح قلبتا ألفاً، إلاّ أن يختل بناء الكلمة بالقلب أو يدخل بناء في بناء، وذلك مثل: سرى، وغزى، وسعى، فيقول: غزا يغزو، والأصل في مستقبله: يغزو، فاستثقلت الضمة في الواو وقبلها ضمة فأسكنوها فصار يغزو، أو من السرى يسري، والأصل: يسريُ، ومن السعي: سعى يسعيُ وهذا جاء على فعل يفعلُ، والأصل: يسعيُ، فقلبت الياء ألفاً لتحركها وانفتاح ما قبلها.

واعلم أن مستقبل ما كان من بنات الواو، وهو على فعَل بفتح العين، يفعُل بالضم، ومن الياء يفعِل بالكسر، على حد ما كان فيما اعتل عينه، وفعِلتُ بكسر العين يدخل عليهما أيضاً، نحو: شقِي، غنِي، وهما من الشّقوة والغنية.

وأما فعُل بضم العين، فيختص به الواو نحو سرُو ويسرُو، وسخُو يسخو، ولا يكون في الياء كراهة أن يصيروا إلى ما يستثقل بالقلب الذي يلزم فيه، وكذلك في الباب المتقدم اختص هذا البناء بالواو نحو: طال فهو طويل.

فأما الباب الأول فقد جاء فيه منهما نحو: وجَز فهو وجيز، ويسَر فهو يسير، وهذا البناء لا يكون أبداً متعدياً عند أصحابنا، وكذلك إذا قلت: هم يغزون، ويرمون، وأنتِ تغزين وترمين، الأصل: تغزوون، وترميون، وأنتِ ترميين، وتغزوين، والعلة واحدة، لأنها تثقل الضمة في الواو، والياء وقبلهما ضمة وكسرة، فنزعوها فالتقى ساكنان، فحذفت الواو والياء فصار: هم يغزون، ويرمون، وأنتِ تغزين، وترمين، ثم يبنى الأمر في كل ذلك على مستقبله فيقول من الغزو إذا أمرت رجلاً: أغزُ، كما يقول في الصحيح: أبعُد، وإنما ضممت ألف الوصل: لضمة العين، وذلك أنهم كرهوا أن يكسروا فيرتقوا من كسرة إلى ضمة في البناء، وقولي: في البناء احترازاً من أن تكون إحدى الحركتين إعراباً أو مجتلبة لالتقاء الساكنين، وكذلك كقولك: فخذوه عضُداً، وكما تقول: قلِ الحقّ، ألا ترى أنك ارتقيت في هذه المواضع من كسرة إلى ضمة، أو من ضمة إلى كسرة، ولم يعدوه ثقلاً لما لم تكن حركة الإعراب ثابتة، ولا حركة التقاء الساكنين لاستثقالهم ما ذكرت، لم يكن في الكلام فُعِل ولا فِعُل.

ولا يدخل على هذا الذي قلناه بناء ما لم يسم فاعله كضُرب، لأنهم تعمدوا فيه أن يكون على بناء لا نظير له، فصلاً بين الفعل، وهو خبر عن الفاعل، وبينه، وهو خبر عن المفعول، فأما دُئل وهو اسم دويبة، فهو حرف واحد شاذ مختلف فيه، فهو في حكم ما لم يجيء لشذوذه وللخلاف الواقع فيه، فإن قيل ولم كرهوا افْعِل ولم يستثقلوا افْعُل، قلت: إن الهمزة كانت تفتح في بناء الخبر، والكسرة مستثقلة لما ذكرت، فلن يبق إلاّ الضمة، وكأنه إذا قابلته ضمة أخرى فكان جرمهما من نمط واحد كان أخف عليهم، على ذلك باب الإمالة، وإدناء الحرف من الحرف، وإن ثنيت قلت: اغْزوا، وهو افعَلوا، فاستثقلت الضمة وقبلها ضمة فأسكنوها، فالتقى ساكنان فحذفت الواو الأولى، لالتقاء الساكنين، وكانت أولى بالحذف، لأن الثانية واو الضمير، ولو حذفت لعاد الفعل إلى بناء الواحد، ولام الفعل إذا حذفت يستدل بالمبقي من بناء الكلمة عليها، فتقول في المرأة: اغْزي، وهو افْعَلي، والأصل: اْزوي، وفي الثنتين اغْزوا، وفي النساء: اغْزونَ، وهو على افْعلن على أصله، وإن أمرت من السُّرى قلت: اسْرِ، وفي الاثنين: اسْريا، وفي الجماعة: اسْروا، وهو من الفعل افعلوا، والأصل: اسرَيوا، وفي المرأة: اسْري، وهو افعلي، والأصل: اسْرَيي، والمحذوفة الياء الأولى لما أعلت لأن الثانية للضمير، وفي الثنتين: اسْريا، وفي النساء: اسْرينَ، وهو افْعَلنَ على أصله، وإذا أمرت من السَّعي قلت: اسْعَ، وفي الاثنين: اسْعيا، وفي الجمع: اسْعُوا، والأصل: اسْعَيوا، فقلبت الياء ألفاً لتحركها وانفتاح ما قبلها، فالتقى ساكنان، فحذفت الألف لالتقائهما، وكان الألف أولى بالحذف لأن الواو للضمير.

فإن قيل: هلا ضممت العين لمجاورتها للواو لما زالت الألف، قلت: إن الفتحة لم يجز إسقاطها لأنها دالة على الألف، وفي المرأة تقول: اسْعَي وهو افعلي، والأصل: اسْعَيِي، وفي الثنتين: اسْعيا، وفي الجمع: اسْعَيْن، وهو افعلن على أصله.

واعلم أن الضمة تستثقل في الواو والياء وهما حرفا علة، ولذلك كان مضارع هذا الباب في الرفع ساكن الآخر كيغزو ويرمي، والفتحة مستخفة، فلذلك كان يعرب في النصب، تقول: لن يغزو، ولن يجري، وعلى ذلك يجري اسم الفاعل في هذا الباب، والذي يدل على استثقالهم الضمة والكسرة في أنفسها أنهم يقولون في عضُدٍ: عضْدٌ، وفي كبِد: كبْد، فيسمنون وسطهما، ولا يقولون في جمَل: جمْل، فإن أخبرت عن امرأة في هذا الباب قلت: غزت، ورمت، حذفت لام الفعل لسكونه، وسكون التاء الداخلة عليه. فإن ثنيت لم ترد الكلام، تقول: غزتا، ورمتا، لأن التاء وإن تحركت فإن الحركة لا تلزمه إذا كانت حصلت فيه لسكون الألف.

وما جاء على فعِل يفعَل، كجَري يجري، وشجِي يشجى، فالكلام فيه كالكلام في سعى يسعى، لأنهما اجتمعا في كونهما على يفعل، والعلة في جميع ما لم تذكره فهو كمثل ما تقدم، فلم يجب تكريره، فاعلمه.

واعلم أن اسم الفاعل في هذا الباب يعتل في الرفع والجر كما اعتل الفعل فيقول في يسري: هو سارٍ، وفي غزى: هو غازٍ، والأصل: غازوٌ، وساريٌ، فاستثقلت الضمة في الواو والياء وقبلهما كسرة فأسكنتا، فالتقى ساكنا التنوين والياء، فحذفت الياء لالتقاء الساكنين التنوين والياء فحذفت، ومتى سقط التنوين عاد الياء، تقول: هو الساري، والغازي، فإن وقفت على غازٍ قلت: هذا غازٍ، لأن التنوين في النية فلا تثبت الياء لئلا يلتقي ساكنان بهما. وإن وقفت على الغازي أثبت الياء لأنه لا تنوين، ومن العرب من يحذف الياء ههنا أيضاً، ولا خلاف عند الإضافة في ثبوتها، وكذلك في جمع النساء، وتقول: غوازٍ، وسوارٍ، وذلك لأن التنوين لما دخل عوضاً من إعرابه، إذا كان هذا البناء مما لا ينصرف لكونه على زنة مساجد وما أشبهه، جرى مجرى الواحد، ولذلك حذف الياء في الكتابة منهما.

ومن أصحابنا من يقول: إن الياء من هذا الجمع ألزم حذفه تحقيقاً لا قياساً، فلما سقط عاد التنوين لنقصان البناء عما لا يجب صرفه، وفي النصب تثبت الياء في الكلَ تقول: رأيت قاضياً، وغوازيَ، لأن الفتحة مستخفة، ولما دخل الإعراب في موضع النصب في غوازٍ منع الصرف على ما وجب وتقول في اسم المفعول من الواو: مغزوٌّ على أصله، ومن الياء: مرميّ، والأصل: مرمُويٌ، فلما اجتمع الياء والواو وكانت الأولى ساكنة أبدلت من الواو ياء ثم أدغم، لانكسار ما قبلها، تقول: غُزِي، ووُعِي، والأصل: غُزِو، وفي التثنية: غُزِيا، وفي الجمع: غزُوا، والأصل: غُزِيوا، وكذلك تقول في الرمي: رُموا، والأصل: رُمِيوا، فاستثقلت الضمة في الياء وقبلها كسرة فأسكنوها فالتقى ساكنان، فحذفت الياء ثم ضمت الميم والراء لمجاورتهما للواو فصار: رُموا وغُزوا.

باب

ما اعتل فاؤه ولامه

اعلم أن هذا الباب يجري أوله على ما اعتل فاؤه، وآخره على ما اعتل لامه، وذلك كقولك: وشى يشي، ووفى يفي، ووعى يعي، وإنما يعتل فاؤه في المستقبل والأمر لوقوع حرف العلة فيه على الحد الذي يقع فيه: وعد يعد، ويعتل لامه فيهما لوقوع حرف العلة فيه موقعه من: جرى، وسعى، وغزا، فتقول في مستقبل وشى، ووعى: يشي، ويعي، والأصل: يوْشي، ويوْعي، فلما وقعت الواو بين ياء وكسرة حذفت، وتقول في الأمر: عِ يا هذا، وشِ ثوبك، والأصل: اوْعِ، واوْشِ، فلما وقعت الواو بين كسرتين حذفت، ثم استغني عن الهمزة المجتلبة، فإن وقفت عليه قلت: عِهْ، وشِهْ، وإنما ردت الهاء لأنهم يبتدئون بمتحرك ويقفون على ساكن، وهذا لا يتأتى في الحرف الواحد، فإن ثنيت قلت: شِيا، وعِيا، وفي الجمع: شُوا أثوابكم، وعُوا حديثنا، قال الله تعالى:) يا أيها الذين آمنوا قُوا أنفسكم (، والأصل: اوقِيوا، على افعلوا، فأسقطت الواو لما تقدم فبقي: اقْيُوا، فاسثقلت الضمة في الياء وقبلها كسرة فنزعوها، فالتقى ساكنان الياء والواو، فحذفت الياء لالتقاء الساكنين ثم ضمت القاف لمجاورته للواو، واستغني عن الهمزة المجتلبة لتحرك ما بعدها فحذفت فصار: قُوا، وعُوا.

واعلم أن ما كان على فعِل: كولي، ووري الزند يري لما جاء مستقبله على يفعل صار بناء الأمر فيه على حد ما ذكرناه في: وقى، ووعى، فتقول في الأمر: لِ بلدنا يا رجل، و: رِ ناراً يا زند، وهذا لوجاء على أصل الباب وهو يفعل بفتح العين لكان الأمر منه: اِولِ واوْرِ لأن فاءه كان يصح في المستقبل كما يصح في: وجِل يوْجَل، ولكن لما جاء على يفعِل بكسر العين، جرى الأمر فيه على ما ذكرناه.

فإن أمرت مؤنثاً من: وعى، ووشى، قلت: عِيْ، وشِيْ، والأصل: اوْعي، واوْشي، أسقطت الواو لما تقدم، ثم استثقلت الياء وقبلها كسرة فسكنت وحذفت لالتقاء الساكنين، وفي الثنتين: قِيا، وعِيا، يستوي ما للمذكر والمؤنث، كما استوى في سائر الأبواب، وفي النساء: عِينَ، وشِينَ، والأصل: اُعِينَ، واُشِينَ، على: افعلنَ، وفاء الفعل سقطت كما تقدم، وكذلك الهمزة المجتلبة.

فصل

يشتمل على أمثلة من هذه الأبواب الأربعة أفردنا أحكامها والقول فيها ليأنس الناظر بما يتقدم قبلها من ذكر ما مضى.

اعلم أن افتعل من باب ما اعتل فاؤه يجيء مدغماً وهو الوجه المختار، وذلك كقولك: اتَّعد، واتَّهب، واتَّزن، واتَّأس، واتَّبس، ومعنى اتَّهب: قبل الهبة وكذلك اتَّعد معناه: التزم العدة وقبلها، وكذلك اتَّزن معناه: قبل الوزن، واتَّأس من اليأس، واتَّبس من اليبس، والأصل فيها: اوتعد، واوتزن، واوتهب، وايتأس، وايتبس، فأبدل من الواو والياء تاء ثم أدغم الأولى في الثانية، ولو تركوهما على أصلهما لتبعا ما قبلهما، ومن العرب من يتركه على الأصل، وإنما صلح الإدغام بين الواو والتاء لتقارب الحرفين وتناسبهما في كونهما من حروف الزوائد والإبدال، ألا ترى أن تقول: تخمة، والأصل: وُخمة، وتُكأة والأصل: وِكأة، وتقول: تقي يتَّقي، والأصل: وقى يقي، وتقول: اتكأته، والأصل: أوكأته، وإنهما في مخرجهما يتقاربان، ألا ترى أن التاء من طرف اللسان، وطرف الثنية الأعلى وأنه لا منبع للحرف بعد إلاّ الشفة التي منها الواو، فلما تناسبتا من هذه الوجوه طلب فيهما الإدغام لاجتماعهما.

واسم الفاعل والمصدر يبنيان على الفعل، فتقول: متَّعد، ومتَّزن، وبينهما اتِّعاد واتِّزان، ومتى كان الفعل متعدياً كان اسم المفعول على ذلك أيضاً، إلاّ أنه ينفصل عن الفاعل بانفتاح الهاء فيه، فتقول: هو متَّهب له، لما صلح أن يقول: اتَّهبته.

واعلم أن اسم المكان والمصدر اللذين يكونان بزيادة الميم يكونان في هذا الباب على مفعِل نحو: موعد، ومودِق، وموزِن، ومورد، وموضِع، إلاّ أحرفاً شذت: كموهَب اسم رجل بفتح الهاء، وإنما هو مصدر وهب، ويدل على أن الأصل فيه مفعِل بكسر العين قولك: موهِبة الله حسنة، وموحَد، إذا قلت: جاء القوم موحَد موحَد، كما تقول: جاء القوم أُحادَ أُحادَ، وموكَل اسم موضع، وكان القياس فيه أن يقال: موحِد، وموهِب، وموكِل.

فأما ما اعتل عينه، فالمصدر على مفعَل، مفتوح العين، ويعتل كما اعتل فعله نحو: المقال، والمزار، والمقام، والمرام، وإن جمعت صحت الواو لبعد الجمع من الواحد وكونها في موضع الحركة، تقول: مقاوم، هذا في بنات الواو، لأنه كله يفعُل بضم العين، وفي بنات الياء جاء في المصدر مفعَل بفتح العين، وهو القياس نحو: المعاش، وجاء فيه مفعِل بالكسر أيضاً نحو: المحِيض، والقياس في مفعِل في مثله أن يكون اسم المكان لأنه جاء كله على يفعِل بكسر العين، وأما ما اعتل لامه، فمفعَل منه مفتوح اسماً كان أو مصدراً، نحو: المغزى، والمدعى، والمرعى، والمرسى، والمجرى.

واعلم أن اسم المفعول، واسم الفاعل من الأول يصحان كواهِب، وموهوب، وواعد، وموعود، وإن بنيت أفعَل كأوعَد، وأورق، وأورث، فإنه يثبت الواو، وكذلك في اسم الفاعل، والمفعول، تقول: موعِد، للفاعل، وموعَد، للمفعول، ومصدره يكون على إفعال، كإيْعاد، وإيْراق، تنقلب الواو ياء لانكسار ما قبله، وعلى هذا انقلابه في مثل: مِيعاد، ومِيزان، ولو بنيت منه استفعل لصح الواو أيضاً، تقول: استوهب، وفي المصدر ينقلب أيضاً لانكسار ما قبله، تقول: اسْتيهاب، واسْتيراق، في مصدر استورق، فاعلمه، وقس ما لم نذكره على ما ذكرناه.

وأما ما اعتل عينه كقال، ونام، ودام، فإنه يعتل في: أفعل، وافتعل، واستفعل، وانفعل، وما أشبهه بانقلاب عينه، تقول: أقالَ يُقيل، واقتالَ يقتال، واستقال يستقيل، وانقاد ينقاد، وانقلاب العين في هذه المواضع إما أن يكون لتحركه وانفتاح ما قبله، ألا ترى أن اختار أصله اخْتير، واقتالَ أصله اقْتول، وانقاد أصله انْقود، وإما أن يكون لإلقاء حركة العين على ما قبله، ألا ترى أن أقال أصله أقول، وأن استقاد أصله استقود، واستقال أصله استقول، واستمال أصله استميل.

واسم الفاعل والمفعول يعتل في الكل، تقول: هو مَقيل، والمفعول: مُقال، ومستقيل، ومستقال، وهو مختار، والشيء مختار، يكون للمفعول على وزنه للفاعل، وهو منقاد، والعلة في انقلاب العينات في هذه المواضع على ما تقدم.

وإن بنيت لما لم يسم فاعله قلت: اخْتير، واعْتيد، وابتيع، فعل به على ما فعل في قيل، وسير به، وفي هذا من اللغات مثل ما قيل في قيل، وبيع، فاعلمه.

وقد جاءت أحرف صحيحة في هذا الباب كأغيلت المرأة، واحولَّ، وهي أحرف قليلة أرادوا في تصحيحها التنبيه على ما اطّرد في الباب من الاعتلال، والمرجع في جميعه إلى السماع، فأما: اجْتوروا، فإنما صحيح لما كان في معنى تجاوروا، فكما صح الواو في تجاوروا صح ههنا، وهذا كما قالوا: حوِلَ، وعوِرَ، لما كان في معنى: احولَّ، واعورَّ، وكل هذا يجري مجرى الشذوذ، وكذا قوله تعالى:) اسْتحوذ عليهم الشيطان (هو مما خرج من الباب المطرد لينتهوا به على أصل الباب، وهذا عادتهم في جميع أبواب الإعراب أن ينبهوا على الأصول المرفوضة بأحرف يسيرة.

فأما مصدر ما انقلب لنقل الحركة إلى ما قبله كأعاد، وأقال، واستقال، واستعاد، فإنه يزاد فيه الهاء، تقول: استقالة، واستعاذة، وإقالة، وإعادة.

وقال النحويون: زيادة الهاء هنا بدل من نقل حركة العين إلى الفاء، وقد تحذف الهاء في بعضها، وذلك كقوله تعالى:) وإقامَ الصلاة وإيتاء الزكاة (.

واعلم أن مثل معيشة، ومصيبة، فالياء فيهما في موضع الحركة، لأنها من الفعل مفعُلة، ومفعِلة لكن الكسرة استثقلت فيها فنقلت إلى ما قبلها حملاً على الفعل لكونهما مصدراً واسم فاعل، والقياس في جمعها تصحيح حرف العلة، وترك الإبدال منه، إذ كان يهمز في الجمع ما كان مدةً في الواحد لا عيناً، نحو: عجوز وعجائز، وصحيفة وصحائف، ورسالة ورسائل، فتكون معايش جمع معيشة، ومصاوب جمع مصيبة، فأما قولهم: مصائب فمما شذ عن القياس، وإن كثر في الاستعمال، كأنهم توهموها فعيلة.

واعلم أن فاعل في هذا الباب، وتفاعل، وتفعَّل، وفعَّل، وافعلَّ، وافعالَّ، ومصادرها، كلها تصح لانفتاح حرف العلة فيها وسكون ما قبلها.

واعلم أن الواو تنقلب إلى الياء في هذا الباب كثيراً، فمن ذلك: حلَت حِيالاً، وصامت صياماً، والأصل: صواماً، وحوالاً، لكنه لما انكسر ما قبل الواو، واعتل الفعل، تبعه المصدر في الاعتلال، ولو سلم الفعل لسلم المصدر أيضاً، ألا ترى أنك تقول: جاورته جِواراً، ولاوذته لواذاً، ومما قلب: سوط وسياط، لما سكن الواو في الواحد وضعف، وقع بعده في الجمع ألف قريبة من الطرف، قلبت ياء لانكسار ما قبله، ولو تحرك الواو في الواحد، كطويل وطوال ولم يكن بعد ألف في الجمع كعود وعِوَدة لسلم.

وإذا انقلبت الواو في الواحدة انقلبت في الجمع نحو: ديمة وديَم، ومثل هذا في القرب والبعد: سيايد في جمع سيّد، ودياوير في جمع دَيَّار، ومثله ما تبع الواحد في الاعتلال: صائم وصيَّم، وقائم وقيَّم، وهذا لقربه من الطرف، ألا ترى أنه لو بعد لصح، ونحو: قوَّام وصوَّام، وإذا اجتمع واو وياء فأيهما سبق الآخر بالسكون يقلب بالواو ياء، ثم يدغم الأول في الثاني، على ذلك: سيِّد وهيِّن، وديَّار، وقيَّام، وكيَّة، وليَّة، ومرميّ، ومقضيّ، فاعلمه.

فإن قيل: فلم قلت: تغازيت، وتعاطيت، ومستقبله لا ينكسر عينه، قلت: هذا مبني على عاطى، وغازى، لأن التاء دخل عليهما فاستمرا على ما كان، ومثل هذا حملهم مستقبل شقيَ، ورضيَ، على الماضي في القلب إلى الياء فقالوا: هما يرضيان، ويشقيان، لما قالوا: رضيت، وشقيت، فتقدير: صلَّى يصلِّي، فعَّل يفعِّل، والأصل: يصلي، وكذلك أعطى يعطي، وقد تقدم القول في أن أفعل الأصل في مستقبله أن يجيء: يُأفعِل، على زنة: دحرج يدحرج، فكما يقال: يدحرج، يجب أن يقال: يُأفعِل، والماضي من هذه الأبنية التي ذكرناها انقلب آخره لتحركه وانفتاح ما قبله، كما مثلت في: أعطى، وصلَّى.

فما الفعل من الحوَّة والقوَّة، فحوي وقوي، يصح الأول من حرفي العلة فيه لئلا يتوالى إعلالان، فتختل الكلمة، وعلى ذلك تقول في الحوَّة: احْواوى يحْواوي احْويواء، هكذا حكاه الأصمعي، وذهب النحويون في مصدره إلى أنه يقال: احْوياء، ولأن الواو والياء إذا اجتمعا فأيهما سبق الآخر بالسكون يقلب الواو ياء ويدغم الأول في الثاني، وقياس ما حكاه الأصمعي أنه صحح المصدر لصحة الفعل، وقد يتفق في هذا الباب موافقة فعل الواحدة من المؤنث فعل الجمع منها في اللفظ، تقول: أنتِ تصلِّين، وهو من الفعل تفعِّلين، كان الأصل: تصليين، فاستثقلت الكسرة في الياء وقبلها كسرة فأسكنوها، فالتقى ساكنان فحذفت الياء الأولى لالتقائهما فصار تصلين، والياء في تصلين ضمير الفاعل، والنون علامة الرفع، وتقول في الجمع: أنتن تصلِّين، هذا من الفعل: تفعّلن، وهو على أصله، فالياء لام الفعل، والنون ضمير الفاعلات، فاعتبر كل ما وافق لفظ الواحدة فيه لفظ الجمع بهذا، وقدَّره بالصحيح، فاعلمه.

واعلم أنه لا يكون اسم آخره واو وما قبله مضموم، ولهذا قلبوا: أدْلٍ، وأحقٍ، وهما جمع: دلوٍ، وحقوٍ، بلى، قد جاء في الأفعال نحو: يغزو، ويدنو، وهذا كاستثقالهم الواوين في الجمع وقلبهم لها ياء نحو: عصيّ، وجثيّ، ويدل على استثقالهم لمكان الجمع أنه لو كانتا في الواحد لصحتا، وذلك كقولهم: عتا عتوّاً، ومن العرب من يقلب في المصدر أيضاً، على ذلك قوله تعالى:) أيهم أشدُّ على الرَّحمن عتيَّا (.

واعلم أن الواو والياء إذا كان جارياً في إعراب، وقبلهما ألف ثالثة فصاعداً، أبدل منها همزة، نحو: غذاء، وسقاء، وبناء، وكساء، وهذا كانقلابهما إذا تحركتا وقبلهما فتحة، ولم يمنع مانع من القلب، فإن لم يكونا حرفي إعراب أصلاً وفرعاً، أو كانت الألف ثابتة لم يقلبا نحو: شقاوة، ونهاية، وراي، وآي، جمع رآية وآية.

والعام أن ما اعتل فاؤه ولامه، فإن البناء بالزيادة منه يصح فيه الأول، تقول: أوكاه يوكيه إذا شده، فصح فاء الفعل كما ترى، وعلى هذا إذا بنيت استفعل، تقول: استوكى، وتفعَّل: كتوقَّى، وتفاعل: كتواقى، وتواصى القوم، وقياس الآخر في الكل كقايس ما اعتل لامه، بلى قد يتفق فيه الإعلال بالإدغام، وذلك كقولك: اتَّقى، افتعل من وقى، والأصل: أُوْتَقى، فأبدلت من الواو ثم أدغمته في الثانية.

فإذا بنيت فعِل مما اعتل لامه كرضي، وصلي، فإنك في اتصال المضمر به تقول: رضُوا فتضمر عين الفعل، وصلوا بالأمر، وكذلك في بنات الياء تقول: حيُوا حياة طيبة، ولو بنيت منه فعلوا بفتح العين لفتحت عين الفعل في اتصال ضمير الغائبين به، تقول: دعَوا، ورمَوا، وإنما كان كذلك لأن الأصل في صلوا صليُوا، وفي بقوا بقيوا، فاستثقلت الضمة في الياء وقبلها كسرة فنزعوها، فاجتمع ساكنان الياء وواو الضمير، فحذفت الياء ثم ضمت اللام والقاف لمجاورتهما لواو الضمير، والأصل في دعَوا ورمَوا: دعووا ورميوا، فقلبت الياء والواو لتحركهما وانفتاح ما قبلهما، فالتقى ساكنان: الألف وواو الضمير، فحذفت الألف وبقيت الفتحة في الميم والعين ليكون دلالة على الألف الساقطة، فلا يلتبس باب فعِلوا بباب فعَلوا، فاعلمه.

ويستوي بنات الياء والواو إذا جاوزت الثلاثة، لأن الواو ينقلب ياء في المستقبل البتَّةَ، فجعل الماضي على الياء أيضاً، على ذلك اغْزَيتُ واسْتَغْزَيْتُ، وتَغَازَيْنَا، وإن كان من الغَزْو، فاعلمه.

باب

التضعيف

والتضعيف أن يتكرر الحرف الواحد في العين واللام، كردَّ، ومدَّ، وفرَّ، وقلَّ، وكما تكرر الحرف الواحد في هذين الموضعين، فإنه قد يتكرر، وإن كان قليلاً في موضع الفاء واللام، وذلك كقولك: قلقَ، وسلسَ، وأقل من هذا تكون الفاء والعين، لم يجيء في كلامهم من هذا إلاّ قولهم: دَدَن، وهو اللهو، قال عدي:

أيُّها القلبُ تعلَّلْ بدَدَنْ

وقد يحذف اللام منه فيقال: دَدٌ، وجاء في الحديث: ما أنا من ددٍ ولا ددُ منِّي. وجاء أيضاً: سيف ددانٌ، أي كهام، ولا ثالث لهما، وإنما سلِّط الإدغام في المثلين إذا اجتمعا والمتقاربين لاستثقالهم اجتماعهما.

وحكي عن الخليل أنهم يستثقلون ذلك كاستثقالهم الحديث إذا أعيد مرتين، وهذا مستثقل إذا تؤمل دوران اللسان في مواضع الحروف، ألا ترى أن من تكلم بالحرف الواحد مرتين يحتاج أن يدير لسانه في موضع ذلك الواحد مرتين فيصير كتقييد اللسان، ويشبه تصرفه مشي المقيد إذا أعاد رجله في الموضع الذي كان رفعها منه، والمقارب في المخرج سبيله في هذا كنحو من سبيل المماثل.

والإدغام هو: أن يوضع اللسان على موضع الحرف، فيعتمد عليه اعتمادة شديدة، ويرفع عنه رفعة، وفي هذا رد الحرفين إلى صورة الحرف الواحد، فالإدغام في باب المضاعف لأدائه إلى ضرب من التخفيف فيما يستثقل، كإعلال في باب المعتلات، فاعلمه.

واعلم أنه إذا اجتمع حرفان من جنس واحد في كلمة واحدة، الأولى ساكنة، والثانية متحركة، فإنه لا بد من الإدغام، فإن كانت الأولى متحركة أيضاً، فمتى كان فعلاً، أو اسماً جرى مجرى الفعل، فإنه لا بد من الإدغام، وهذا الذي ذكرته احتراز من مثل: الطَّلل، والشَّرر، والبدد، والسُّرر، وما أشبهها.

فإن كانت الأولى متحركة والثانية ساكنة سكوناً غير لازم كقولك: اردد، وامدد، وازرر، وما أشبهها، فإن بني تميم يدغمونه أيضاً بعد أن يلقوا حركة الأولى على الساكن الذي قبله، ولهم في مثل هذا لغات، فمنهم من يقول: ردّ، يبنيه على الفتح، لأن الفتحة أخف الحركات، ومنهم من يقول: رُدَّ، فيتبع الضمة، ومنهم من يقول: ردّ، فيبنيه على الأصل في التقاء الساكنين، وأهل الحجاز يظهرون التضعيف في مثل هذا، ويأتون على الأصل، فإن كانت الأولى متحركة والثانية ساكنة سكوناً لازماً، فإنه يجوز الإدغام، وعلى ذلك: مررت ومررنا، وسررت وسررنا، وما أشبهه، بل يجعلون الحذف بدلاً منه، تقول في ظللت: ظلت، قال الله تعالى:) الذي ظلتَ عليه عاكفاً (، وفي مسست، مستُ، وربما ألقوا حركة العين على الفاء، فيقولون: ظلتُ، ومستُ، وعلى هذا قولهم: علماء بنو فلان، وبلعنبر، وبلهجيم، يريدون: على الماء، وبني العنبر، وبني الهجيم، وهذه آخر مسألة في كتاب سيبويه، وقد جاءوا إلى مثل: تداركوا، وتطيَّروا، فراموا الإدغام فألجأهم ذلك إلى إدخال ألف الوصل، قال تعالى عز وجل:) اطَّيرنا بكَ وبمن معك (الأصل: تطيرنا، فلما أسكن الأولى عند الإدغام أدخل عليه ألف الوصل ليتوصل به إلى النطق بساكن، فقال تعالى:) بل ادَّارك علمهم في الآخرة (، وكما جعلوا الحذف بدلاً من الإدغام فيما تقدم، كذلك جعلوه بدلاً منه في مثل: تتذكرون، وتتوقفون، وما أشبهه، فقيل: تذكَّرون، فالمانع من الإدغام ههنا هو أنه لو أدغم لاحتيج إلى ألف الوصل، لسكون أول الكلمة، وألف الوصل لا يدخل على الفعل المضارع، فاعلمه.

واعلم أنه لا يدغم حروف المد واللين في أمثالها، لكونها مدات لا معتمد لها في مخارجها، ومن العرب من لا يحقق الهمزتين إذا اجتمعتا، بل تسلط عليها التليين والحذف، ومن كان هذا لغته لم يدغم الهمزة في مثلها.

وحكى سيبويه أن ابن أبي إسحاق كان يحقق الهمزتين، يقول: أأنذرتم، على لغة، فصح إدغامها في مثلها، فكما منع مانع من إدغام الحرف في مثله، فقد اتفق ما منع من إدغام الحرف في مقاربة، وإن كان يدغم ذلك المقارب في الممتنع، وهذا يرجع إلى فضل قوة أحد الحرفين على الآخر، وذلك كإدغامهم اللام في الراء، وامتناعهم عن إدغام الراء في اللام من حيث كان الراء حرفاً فيه تكرار، فلو أدغم في اللام لذهب تكراره، وكان ذلك إجحافاً به من حيث وجب إخراجه إلى صورة اللام، ثم إدغامه، وكان أبو عمرو يجوّز هذا ويقرأ به، يقول: نذله، يريد: نذر له، وهنا جميلة من شروط الإدغام، وبابه يطول، وليس القصد إلى تقصيه، وإنما أحببنا أن نرى الإدغام يجري مجرى الاعتلال فاعلمه إن شاء الله تعالى.

واعلم أن التضعيف في بنات الواو والياء يتفق، وذلك كحييت، وعييت، وأصييت، وأعييت، وكما تقدم ذكره في الحوَّة والقوَّة، والعين في جميع ذلك يصح، ويعتل اللام لأنه موضع التغير، وإذا كان كذلك، فإنه يجري حيِيَ على باب خشي، وأُحيي على باب أُعطي، فإذا جاء موضع يلزم لام خشي فيه الحركة لزمت لام حييت وعييت أيضاً، وتكون حِ الخيار في الإدغام والتضعيف، تقول حييَ زيد، وحيِّ زيد، وعيي عمرو، وعيِّ عمرو، وتقول: هو يحيى، كما تقول: هو يخشى، وهو يعيى، كما تقول: هو يعطى، ومن قال: حيي فلم يدغم قال في الجمع: حيُوا بالتخفيف، فحذف كما قالوا: عمَوا ورضَوا وخشَوا، ومن قال: حيّ فأدغم، قال في الجمع: حيُوا، فلم يحذف.

باب

الهمزة

اعلم أن الهمزة أثقل حروف المعجم، لما يلحق المتكلم بها من الكلفة في إخراجها من منبعها، إذ كان فيها كالتهوّع، ولذلك لحقها ضروب من التحقيق والإبدال والحذف وبين بين، وفي العرب من يحقق الهمزتين، وكان ابن أبي إسحاق يقرأ بمذهبهم.

واعلم أن الهمزة تحقق أولاً مفتوحة كانت أو مضمومة أو مكسورة، نحو همزة أب وأم وإبل، فإذا لم تكن أولاً فإنها لا تخلو من أن تكون ساكنة وما قبلها ساكن، أو متحركة وما قبلها متحرك، فإذا كانت ساكنة وما قبلها مفتوح، فإنه يبدل منها الألف إذا خففت، تقول في لم أقرأ: لم أقرا، وفي رأس: راس، فإذا كان ما قبلها مكسوراً فخففت، أبدل منها ياء، تقول في: لم أجيء، لم أجي، وفي: ذئب، ذيب، وإذا كان ما قبلها مضموم أبدل منها الواو، تقول في: لم أبوء، لم أبو، وفي جؤنة، جونة، وجيت، ونوت، إذا خففت، فهذا إذا كانت ساكنة وما قبلها متحرك، فإن كانت متحركة وما قبلها ساكن وحذفت هي تخفيفاً إذا لم يحقق في: كمءٌ، كمٌ، وفي مسألة، مسالة، وفي: مرأة، مرة، وقرئ في قوله تعالى:) الذي يخرج الخبّ (، وإنما هو العبء، والجزء، إذا خففت، هذا إذا كان الساكن الذي قبلها غير مدة، فإذا كانت مدة فإنها لا تخلو من أن تكون ألفاً، وحكم الهمزة بعدها إذا خففت أن تجعل بين بين، ومعنى ذلك أن تخرج الهمزة بين الحرف الذي حركتها منه، وبين نفسها، فإذا كانت حركتها كسرة أخرجت بين الياء والهمزة، على ذلك: قايل، وبايع، وما أشبههما، تقول إذا حققت الهمزة: بائع، وقائل، وإن كانت ضمة أخرجت بين الواو والهمزة نحو: التساؤل، وإن كانت فتحة أخرجت بين الألف والهمزة نحو: سأل، تقول إذا خففت: سال، وكذلك قولك: السماء فوقي، ومن السماء نزل، وهذا لا يحكمها إلاّ المشافهة، فإن كانت المدّة التي قبلها ياء مكسوراً ما قبلها، أو واو مضموماً ما قبله وأريد تخفيف الهمزة التي بعدها، أبدلت منها بعد الواو واواً، وبعد الياء ياء، ثم أدغمت ما قبلها فيها، تقول في خطيئة خطيّة، وفي بريء بريّ، وفي مشنوء ومقنوء، مشنو ومقنو، فإن كان ما قبلها ياء مفتوح ما قبله، أو واو مفتوح ما قبله، فإنه يجري الهمزة بعدها إذا خففت مجراها إذا كان قبلها واو مضموم ما قبلها، أو ياء مكسور ما قبلها في الإبدال والإدغام، تقول في مصغر أفؤس جمع فأس، وهو أُفيئس، وإذا خففت: أُفيّس، وكذلك إذا خففت: رأيت بقراً أو إبلاً، تقول: بقْرا أو بلاّ، فإن كانت الهمزة متحركة وما قبلها متحرك، فإنها تخرج إذا خففت بين بين، وإذا كانت مفتوحة وقبلها كسرة أو ضمة فإنها تجعل ياء خالصة، أو واواً خالصة، فالأول نحو قرأ ويقرأ، وسأل، ومئين، وضئين، وشؤون، ورؤوس، ودئل، وسئل، وتخرج الهمزة بين الألف والهمزة، وبين الواو والهمزة وبين الياء والهمزة، وأما قولهم: سالت في سألت، فإنما هو لغة، قال الشاعر:

سالتْ هذيلٌ رسولَ اللهِ فاحشةً ... ضلَّتْ هذيلٌ بما قالت ولم تُصبِ

والثاني نحو جؤن في جمع جونة، إذا خففت تقول: جُوْن، وفي مئَر جمع مئَر، فأما مثل قولهم: يستهزئون، فإن سيبويه يخفف همزتها بأن يجعلها بين بين، والأخفش يجعلها ياء خالصة لانكسار ما قبلها.

واعلم أن الهمزتين إذا اجتمعتا في كلمتين نحو: السفهاء ألا، فمنهم بعد من يحقق، ومنهم من يخفف الأولى منهما، حملاً على قولهم: دينار وقيراط من المضعف المبدل منه، ومنهم من يخفف الثانية حملاً على ما أجمع عليه من قولهم: آدر، وآدم، وهي أفعل من الأدرة، والأدمة، فاعلمه إن شاء الله، فعلى هذا تقول: السفهاء، ولا تجعلها بين الهمزة والياء نحو: على البواء، إن أردت، ومذهب سيبويه أن يجعل المضموم ما قبلها واواً خالصة، والمكسور ما قبلها ياء خالصة، فاعلمه إن شاء الله تعالى.

فإن اجتمعا من كلمة نحو: أأنذرتهم، فسيبويه زعم أن الخليل كان يرى تحقيق الثانية فيجعلها بين الألف والهمزة إذا كانت مفتوحة، وبين الواو والهمزة إذا كانت مضمومة، وذلك نحو: أوْنبِّكم، وبين الياء والهمزة إذا كانت مكسورة، فذلك نحو: أئِبلي رعت موضع كذا، فاعلمه.

وقد كنا قلنا: إن الهمزة حرف صحيح، وإن كان مستثقلاً، وذكرنا في أواخر الأبواب الماضية أن شرطه الباء والتاء، ونبهنا على ما شذ بالاعتلال من بابه لكثرة الاستعمال، نحو: أرى، وترى، ونحو: خذ، وكل، ومر، وسيمر القول فيه ما يستحكم معه العلم بتحقيقه إن شاء الله.

تقول فيما فاؤه همزة: أزم إذا مضى، يأزم أزما، فهو آزم، والمفعول مأزوم، والأمر إئزم، كما تقول: عزم عليه يعزم عزماً فهو عازم، والمفعول: معزوم عليه، والأمر اعزم، على هذا كل ما كان فاؤه همزة من الثلاثي وغيره، أمره كأمر الصحيح، فإن كان الهمز عيناً وذلك نحو: ذأمه ذأماً، ورزأت الشيء أرزؤه رزءاً، والأمر منهما: اذأم، وارزأ، وإن كان لاماً فكذلك نحو: سبأت الخمرة أسبأها سبأ وسباء، والأمر: اسبأ، واجتماع حروف العلة مع الهمز كاجتماعها مع الصحيح من الحروف، تقول: ناء ينوء نوءاً، إذا نهض، كما تقول: قال يقول قولاً، والأمر: نوءْ كقُل، وناء اللحم ينيء نيئاً، وجاء يجيء جيئاً، كسار يسير سيراً والأمر منه جيء كسر وأنأت اللحم كأسرت الرجل وتقول: وأرت أرةً أأرها وأرا، كما تقول: وعدته أعده وعدة، والأمر: إرْ، كعِد، وتقول: بأوت ... .

... فأنا قريب من الأرض لانحنائي، وإذا أردت الجلوس نأت الأرض عني لما عليه مفاصلي من عصياني.

مسألة من الغريب

البارحة اسم لليلة يومك الذي أنت فيه وقد مضت، والبارح من قولك: ما برحت، أي ما تنحيت ولا غبت، والبارح من الظباء الذي يوافق يساره يسارك، وهذا عندهم يتشاءم به، والسانح خلافه وهو مبارك عندهم، قال ذو الرمة:

خليليَّ لا لاقيتُما ما حييتُما ... من الطَّيرِ إلاّ السَّانحاتِ وأسعدا

ومثل للعرب: من لي بالسّانح بعد البارح، يقوله الرجل يوعد بالإحسان بعد الإساءة إليه، وقد يتيمن بعضهم بالبارح ويتشاءم بالسانح، قال زهير:

جرتْ سنحاً فقلتُ لها أجيزِي ... نوًى مشمولةً فمتى اللِّقاءُ

قوله: نوى مشمولة، أصابها الشمال، والشمال تفرق السحاب، وأجيزي: أي اقطعي، كأنه خاطب الظباء متحسراً أي أنني على نوى من صفتها، وسيري فيها، هذا إذا جعلت النوى مفعول أجيزي، ويجوز أن يجعلها في موضع الرفع، وتجعل مفعول أجيزي محذوفاً، أو تجريه مجرى إذ هي، ويصير الخطاب للنفس على طريق التفجع كأنه قال: هذه نوى مشمولة، ومعنى: فمتى اللقاء في الوجهين تلاين واستبعاد، والبارح: طلوع الكوكب بالفلاة في المشرق، ونوؤه سقوطه في المغرب، فللكوكب نوء وبارح، والبارح: ريح حارة تهب في الصيف، وأيام البوارح: وهي رياح أنجم معروفة، النجمة الريدان والجوزاء والشعري والعقرب، قال ذو الرمة:

مرَّا سحابٌ ومَرَّا بارحٌ ترِبُ

وأنشد الأصمعي:

أيا بارحَ الجوزاءِ مالَكَ لا ترى ... عيالكَ قد أمسَوْا مراميلَ جوَّعا

وقال: الشعر للص أحب أن تهب عليه منها الريح فتمكنه الخرابة وهي سرقة الإبل تعفي الآثار، قال: وقد استبطأها آخر فقال:

أيا بارحَ الجوزاءِ مالَكَ مُضربا ... وقد غنى مال الشَّيخ غير قعودِ

والبارح الهم والشوق يبرح ويشق، ويقال: أصابه برحٌ بارح، وبراح: اسم للشمس معدول عن البارحة الزائلة، مثل حذام، ويقال للرامي إذا أخطأ: برحى، لزواله عن المقصد، ومرحى، إذا أصاب، وكذلك: أيحا، كأنه من المرح.

مسألة

الفرق بين قول القائل: كل هؤلاء أصحابك، وبين قولك: كل أصحابك هؤلاء، أن أقول: كل هؤلاء أصحابك، كل واحد منهم صاحبك، وجائز أن يكون له أصحاب غيرهم، وإذا قال: كل أصحابك هؤلاء، فالفائدة أن جملة أصحابه هم هؤلاء، ولا يجوز أن يكون له أصحاب غيرهم، فإن قيل: ما معنى قولك: كل، وكيف جاز أن يضاف إلى الأصحاب، والكل هم الأصحاب، والشيء لا يضاف إلى نفسه، بدلالة أنه لا يحصل له بذلك تخصيص، قلت، أما معنى كل، فهو اسم لأجزاء الشيء وأحاده، فعلى هذا الوجه أضيف، وكذلك وجب إضافة بعض لأنه بمنزلة جزء، وكان أبو علي الفارسي رحمه الله، يستدل على جواز دخول الألف واللام على كل واحد منهما بأن سبيلهما سبيل الأجزاء، والجزء، فلما لا يمتنع واحد منهما من حرف التعريف، كذلك قولك: كل وبعض، ولذلك لزمتهما الإضافة، قال أبو علي: وهذا قياس قول سيبويه، ومثلهما: النصف والثلث وغيرهما مما يلزمه الإضافة من أسماء أجزاء الشيء، فكما لا يمتنع شيء منهما من الألف واللام، فكذلك هما ولا فصل.

مسألة

يقال: زال الشيء يزول زوالاً، إذا فارق ولم يثبت، وأزاله غيره، فهذا لا يتعدى، وزال الشيء من الشيء يزيله زيلاً إذا مارَّه، وهذا يتعدى إلى مفعول واحد، وما زال يفعل كذا، يزال: بمعنى ما برح، وقال سيبويه: يقال منه زايلت بمعنى بارحت، فدل هذا على أنه من الياء، وإذا كان كذلك فكأنه لغة في زال يزول فيكون على هذا: فعل يفعل من الياء، وذاك على: فَعَل يَفْعِل من الواو، وقد أخرج ما زال وما برح جميعاً إلى باب العبادات، وجرد كلاهما للزمان، فدخل على المبتدأ والخبر ومعناهما الإثبات، لأن زال ضد دام، وبرح ضد ثبت، وبدخول الحرف الثاني عليهما وهو ما صارا للإثبات، لأن نفي النفي إثبات، وبانتقالهما إلى باب العبادات لم يكتفيا بالفاعل واحتاجا إلى الخبر. وحكى أبو علي الفارسي رحمه الله أن بعض أهل النظر فرق بينهما بأن قال: برح لا يستعمل في الكلام إلاّ أن يراد به البَراح من المكان، ذكر المكان أو لم يذكر، لقيام الدليل عليه، قال أبو علي: وهذا فاسد، ألا ترى قول الله تعالى:) وإذ قال موسى لفتاه لا أبرح حتَّى أبلغ مجمع البحرين (، ومن المحال أن يبلغ الموضع المذكور ولم يبرح مكانه، وإذا لم يخل قوله لا أبرح في الآية من أن يكون في معنى البراح من المكان والمضي عنه، أو في معنى لا أزال، وامتنع أحدهما فما بقي إلاّ الآخر. قال: ويدل على أن معناهما الإثبات امتناع العرب من جواز قول القائل: ما زال زيد إلاّ راكباً، وما برح عمرو إلاّ منطلقاً، كما امتنعوا من جواز: دام زيد إلاّ راكباً، أو ثبت زيد إلاّ ساكتاً، وللمعترض على أبي علي فيما رده أن يقول: وجدت قولهم: لم يزل، مستعملاً في صفة القديم تعالى، تقول: لم يزل الله تعالى قادراً وعالماً، ولم يبرح، غير مستعمل في صفاته، لا يقال: لم يبرح القديم كذا، ولو استويا في المعنى لجريانه على حد واحد في الجواز والامتناع، وإذا قد اختلفا فيما ذكرته فلاختلاف معناهما، وإذ لا يقال في جواب هذا هو أن يزال لما لم يستعمل فيما وضع له في الأصل استعمال يزول، وكان منقولاً إلى باب العبادات بهذه للبنية التي لم يشتهر بإفادته معنى الزوال، صار كأن معناه ولفظه لا مناسبة بينهما وبين معنى الزوال ولفظه، فصلح بعد النقل لدخوله في صفات القديم تعالى.

وما برح، استعمل في الزوال من المكان والبراح منه والمضي عنه قبل النقل كثيراً، واشتهر بإفادته هذا المعنى اشتهاراً بيناً، فلما كان أمره قبل النقل كذلك نزهوا القديم عز وجل بعد النقل عن وصفه به لاختيارهم أشرف الألفاظ لصفاته، ولاستغنائهم بما زال عنه، ويكشف هذا ويوضحه أنهم وصفوه تعالى بعلام الغيوب، وامتنعوا من استعمال: علامة، وإن كان أبلغ في المعنى مكانه، لما في لفظه من صورة علامة التأنيث، وأنهم لا يقولون في صفاته معلِّم، وإن كان قد قال:) الرحمن علم القرآن (لاشتهار لفظه معلِّم بالمحترف له، فقس على ما أصلته لك تصب إن شاء الله.

مسألة

الإمَّرُ: الضعيف الرأي، ويزاد فيه الهاء، فيقال: إمَّرة، قال:

ولستُ بذي رثْيةٍ أمَّرٍ ... إذا قيدَ مستكرهاً أصحبا

ووزنهما على ما قال سيبويه: فِعَّلَ وفِعَّلة، ولا يجوز أن يكون أفعلة لأمرين: أحدهما أن أفعلة لا يكون صفة ولا أفعل، والثاني: أنه لو كانت الهمزة زائدة لكان الفاء والعين في موضع واحد، وهذا يعز في الكلام ويقل، وقال أبو عمرو الجرمي: الإمَّرة ضرب من الغنم، وعلى وزنه الإمَّعة، يريد أن إمَّعة فعَّلة أيضاً، وهو الذي يتبع غيره، قال: وسمعت أعرابياً ويحدث عن يونس قال، قال أبي: إني لأبغض الإمَّعة من الرجال، قالوا: وما الإمَّعة، قال: الذي يقول من يذهب حتَّى أذهب معه، ولم يرد بهذا التفسير أن إمَّعة مشتق من لفظ مع.

مسألة

سأل بعضهم عن الأقحوانة والأسطوانة ما وزنهما، والجواب: أن الأقحوانة النون فيها زائدة، ووزنها افعلانة، ومثلها: الأرجوان والأثعبان، لأنه ليس في الكلام افعلال، ويدل على زيادتها أيضاً أن جمعها: الأقاحي، وتصغيرها: أُقْحية وأسطوانة، وحكي الجرميّ أن كل العرب يقول في جمعها: أساطين، قال: ومن العرب من يقول إذا بني الفعل منها: تسطَّن يتسطَّن، فعلى ما حكى يجوز أن يوزن بأنها أفعوالة، فيكون: أساطين أفاعيل، وتسطن شاهد على أن النون أصلية، ويجوز أن يوزن بأنها: فُعْلُوانة، ويكون أساطين: فعالين، مثل سراحين وضياعين، وقياس فعله حينئذ على أن يقال: تأسَّط، لأن النون تكون زائدة، وحكى أبو زيد، أن العرب تقول إذا صغرتها على طريق الترخيم: سُطَيَّة، وهذا يوجب أن يكون وزنها أُفْعُلانة، والفعل منه تسطَّى.

أنشد لأبي النجم يصف الفرس:

يحثي بجمرٍ خلفه وينجلُهْ ... يقبضُ ما بين المنارِ مِغولُهْ

لمعاً كخفقِ بارق مسلسلُهْ ... في جنبه الطائر ريثَ عجلهْ

قوله: يحثي بجمر: يريد أن الفرس لشدة وطئه للأرض ترى الحصى يتطاير من تحت حوافره، فكأنها الجمر، لأنه يقدح منها النار، والباء من قوله بجمر، مقحمة مفيدة للتأكيد، والمراد: يحثي جمراً، وينجله: يرمي به إلى خلف، وقوله: يفيض ما بين المنار، يقول: كأنه يجمع ما بين المنار لسرعته، ومغولة: ما يغول به للطريق من عدوه، ومنه قيل للفرس: هو يغول الحزام، ويغتاله: يحوزه، إذا كان عظيم المحزم، وقوله: لمعا كخفق بارق، فيه قلب، يريد: كبرق خافق، يعني تشبيه الإسراع بلمع البرق إذا خفق، والمسلسل: المتصل، وقوله: في جنبه الطائر ريث عجله، يعني أنه إذا قرن به الطائر وقيس إليه كانت عجلة الطائر أبطأ عند هذا الفرس.

مسألة من الغريب

الجَرُّ: السَّحْب، والجرّ: سفح الجبل، والجرّ: جمع الجرة، وفي الحديث نهى عن نبيذ الجرّ، والجرَّة في قولهم: لا أفعل كذا ما خالفت جرَّة وجرة: ما يجتره البعير من كرشه، وما خالفت ما مع الفعل في تقدير مصدر حذف اسم الزمان معه، كأنه قيل: لا أفعله مدة مخالفتها، لأن الجرة تعلو والدرة تسفل، فهو في موضع الظرف.

فأما قولهم: هلمَّ جرَّا، فالمعنى تلوموا في سيركم ولا تجهدوا أنفسكم، أخذ من الجرّ في السَّوْق، وهو أن تترك الإبل ترعى في السير، وجرَّا، انتصب على أنه مصدر في موضع الحال، والمراد: هلم جارين، ومثله: جاء مشياً، وأقبل ركضاً، والكوفيون يقولون: هو مصدر، لأن هلم معنى جروا، فكأنهم قالوا: جروا جراً.

مسألة من الأبنية

ذكر الخليل أنه لم يوجد في كلامهم على وزن مفعولاء إلاّ ثلاثة أحرف: معْيوراء، وهي الأعيار، ومَشْيوخاء، للشيوخ، ومعْلوجاء للعلوج، وقد جاء: المعْبوداء، جمع العبد، والمَكْبوراء: جمع الكبير، والمغفوراء جمع الغفور، والمَصْغوراء جمع الصغير، والمَأتوناء جمع الأتان، والمَتْيوساء جمع التَّيْس، والمبغولاء جمع البغل، والمَشْيوحاء: الأرض التي تنبت الشيح، ويقال أيضاً: هم في مشيوحاء من أمرهم، أي في أمر يبتدرونه، وهم في مرموثاء من أمرهم، أي في اختلاط، ويقال: رمث أمرهم، وكذلك هم في مرْجوساء من أمرهم، بمعناه، والمَفْيولاء أولاد الفيل، وأرض مسلوماء، كثير السَّلَم.

مسألة

سأل بعضهم عن قول العرب: ما أُبالي بكذا من أي شيء أخذ، وما معناه؟ والجواب: أنه يجوز أن يكون أفاعل من البلاء، مثل: أضارب من الضرب، والمعنى أنه ليس من النِعَم التي يفاخر بها، ثم أُتُسِع فيه فقيل في كل موضع، وقد تتعدى اللفظة باستعمال ما وضعت له في الأصل إلى غيره، ألا ترى أن قولهم: تعالى، هو تفاعل من العلو، وأنه كان يقوله من كان في رابية أو على جبل لمن كان في حضيض، أو في قرارة أرض، فانتقل بكثرة التداول له واستمرار الاستعمال به حتَّى صار يقوله المُسْتَفِل، وحتى وضع موضع: صِرْ إليَّ، وأقبل نحوي، وعلى هذا يفسر قول الشاعر:

مالي أراكَ دائبا تُبالي ... وأنتَ قد متَّ من الهُزالِ

أي لم يغالب غيرك بتعداد ما كان منك من البلاء الحسن، وأنت من سوء الحال مشارف التلف، ويقوى هذه الطريقة أنه يقال في معناه: ما احتُفل بكذا، فاحتُفل من الحفل، كما أن أبالي من البلاء. وقال بعضهم: إن معنى قولهم لم أبالَ به: لم أخطره ببالي، والبال: الخَلَد، وجه هذا القول أن يكون بالي مقلوباً، لأن البال عينه معتل، وزعم أنه يشهد له ما جاء في المثل: ما إباليه بالة، وما جاء في المأثور عن بعضهم في صفة قوم: لا يباليهم الله بالة، وقول سويد بن أبي كاهل:

عنا لكَ لا أبالي الناسَ بالاً ... أشتَّى بعدُ كانوا أو جميعاً

وهذا الوجه يضعف لأن سيبويه ذكر أن بالة وزنه بالية، وأنه مصدر كالعافية، والعاقبة، فحذفت لامه تخفيفاً، ومثله قولهم: الحانة، ألا ترى أنه يقال في جمعه الحواني، كما قيل في جارية: الجواري، وأن النسبة إليه حانوى، وأنشد:

وكيفَ لنا بالشُّربِ إن لم تكنْ لنا ... دوانيقُ عند الحانويّ ولا نقْدُ

وإذا كان الأمر في قولهم بالة، على ما ذكر سيبويه، فإن بالى جاء على أصله لا قلب فيه ولا تغيير، فأما قولهم: لا ألقي له بالاً، فهو كما يقال: ما ألقي له سمعاً، أي لا أستمع إليه، ويجب أن يكون أخذ من البال الخلد، قال الله تعالى:) إنَّ في ذلك لَذِكرى لمن كان له قلبٌ أو ألقى السمع وهو شهيد (. وقال الأصمعي في الأمثال: ما ألقي لذلك بالاً أي لا له ولا أتحفَّظ به، والبال: الحال ههنا، كما يقال: أصلح الله بالكم.

مسألة من التنزيل

قوله تعالى:) حتَّى يعطوا الجِزيةَ عن يد وهم صاغرون (، فيه وجوه، يجوز أن يكون اليد النعمة، فيكون المعنى: يؤدون الجزية عن نعمة عليهم وامتنان للمسلمين فيهم، وهو مقادتهم لهم على ما هم عليه، وتخليتهم بينهم وبين أسبابهم ومساكنهم، ويكون موضع عن يد نصباً على الحال، كأنه قال: يعطون الجزية مقابلة لنعمكم عندهم، وعوضاً عنها، وقد حمل على مثل هذا اليد في قوله تعالى:) فرَدُّوا أيديَهمْ في أفواهِهم (، فقيل معناه: ردوا نعم الله عليهم بتكذيبهم وجحدهم وتخوفهم، ويقاربه قوله عز وجل:) يريدونَ أن يُطفئوا نورَ الله بأفواههم (، ويجوز أن يكون المراد باليد القوة من قولهم: لا يدَ لي بكذا، أي لا قوة، فيكون المعنى: يؤدون الجزية متعقبةً لاستعلائكم، ويجوز أن يكون الجارحة، وقد توسّع فيها، فيكون المعنى: يعطون الجزية بعد اعتراف لكم بأن أيديكم فوق أيديهم، وإظهار للتذلل في مصارفهم، والجزية في كلامهم، الخراج الموضوع، وسمى جزية: لأنها قضاء لما عليه أخذ، يقال: جزى عني كذا، أي قضى، وفي القرآن:) واتقوا يوماً لا تجزي نفسٌ عن نفسٍ شيئاً (لا يقضي ولا يُغني، ومنه قيل للمتقاضي: المتجازي، وفي الحديث: كان رجلٌ يُداينُ الناسَ وله كاتبٌ ومُتجازٍ.

مسألة من الآثار

يشمل على ضروب من الفوائد

روي في الخبر أن النبي عليه السلام والمسلمين رضي الله عنهم يوم أُحد، لما قال أبو سفيان وحزبه: أُعْلُ هُبَل، قالوا في جوابهم: الله أعلى وأجلّ. فسأل بعضهم، فقال: كيف جاز هذا الكلام؟ وأفعل من باب التفضيل موضوعة لأن يجيء لتفضيل واحد على جماعة هو منها، ولذلك يضاف إليها، أو إلى واحد منكور ينوب منابها، تقول: هذا أفضل القوم، وزيد أفضل الرجال، والمعنى أنه واحد منهم يزيد فضله على فضلهم، وكذلك إذا تممته بمن يوجب التشارك فيما يقع التفضيل فيه، تقول: زيد أفضل من عمرو، والمعنى: يزيد فضله على فضل عمرو، ولو قلت: الإنسان أصلب من الحجارة، لم يجز لاختلاف الجنسين، وإذا كان موضوع أفعل في التفضيل على هذا، فلا يجوز أن يكون كلام النبيّ عليه السلام للتفضيل لما يحصل فيه من مشاركة هُبل لله تعالى في العلُوّ والجلالة، وإن كان الله عز وجل مفضلاً في الكلام عليه، ولا يجوز أيضاً أن يكون المراد بأعلى وأجل: الله عليٌّ وجليلٌ، كما قال عبيد:

فتلكَ سبيلٌ لستُ فيها بأوحدِ

أي بواحد، لخروج الكلام من أن يكون واقعاً في مقابلة كلام الكفار ومعارضاً، وإذا امتنع الوجهان فيه، فعلى ماذا يُحمل؟ والجواب: أن النبي صلى الله عليه وسلّم لما رأى الكفار يوازنونه إذا دعاهم إلى الله عز وجل، وإلى الإيمان به، أو استنصر الله تعالى عليهم، واستنجز كريم وعده فيه بذكر هُبَل، ويدَّعون في مباراته ومحاكاته أن لهم إلهاً يرجعون في المسألة إليه، ويعتمدون في الإجابة عليه، وأنهم يرجون عُلوَّهُ وقهره وإظهاره، حتَّى قالوا له: تعبد إلهنا سنة ونعبد إلهك سنة، ثم نتعاقب على ذلك، فأنزل الله جل جلاله:) قلْ يا أيُّها الكافرون لا أعبدُ ما تعبدون (السورة، ووجد أبا سفيان وصحبه ركبوا في مقابلته ومحاذاة أفعاله ذلك اليوم تلك الطريقة، قال على طريقة التنزيه والتعظيم والتبرئة والتفخيم: الله أعلى وأجل، أي: تعالى عن أن يذكر معه شيء، وجل عن أن يغالبه مذكور. وهذا كما يقال: فلان أوثق من أن يواقف، وأعدل من أن يحاكم، وإذا كان كذلك سقط مشاركة هبل له في المدح، وفي هذه الطريقة قول الله عز وجل:) لا يُسئلُ عمّا يفعل وهم يُسألون (، أي أفعاله في الإتقان والإصابة والجري في سبيل الحكمة بحيث لا تتعقب بالسؤال عنها، والبحث عن مواقعها، وهم يسألون لجواز السهو عليهم، وتخلل الاختلال لأفعالهم، وهذا ظاهر، ويغلب في نفسي أن الفرزدق أراد بقوله:

بيتٌ دعائمُه أعزُّ وأطولُ

هذا المعنى، أي أعز من أن يغالب، وأطول من أن يفاضل، وأنه لم يقصد: أعز من غيره، لما في الأول من التَّعلي والفخامة، فاعلمه إن شاء الله تعالى.

مسألة

سأل بعضهم عن قول القائل: احمل المال أولَ أولَ. وإعرابه ومعناه.

والجواب: اعلم أن للعرب في تكرير مثل هذا مذهبين، منهم من يبنيهما معاً فيجريهما مجرى خمسة عشر، كما فعل ذلك بقولهم: هو جاري بيْتَ بيتَ، ولقيته كفَّةً كفَّةً، وصباحَ مساءَ، ويوم يوم، فيقول على ذلك: احمل المالَ أولَ أولَ، والمراد في الكل نية حرف الجر، وتضمين الاسمين معناه، وكان الأصل: هو جاري بيتٌ لبيتٍ، أو بيتٌ إلى بيتٍ، ولقيته كفَّةً لكفَّةٍ، وصباحاً لمساء، ويوماً ليوم، فلما حذف حرف الجر وتضمن الاسمان معناه، وجب البناء، كما أن خمسة عشرَ لما كان أصله خمسة وعشرة، ثم حذف حرف العطف وضمن معناه الاسمين وجعلا كالاسم الواحد، وجب بناؤه، وكذلك قولك: احمل المال أولَ أولَ، أي أولاً لأول، أو أولاً مضافاً إلى أول، كأنه لا ينتظر بكل أول أن يكون له ثان، بل يحمله معجَّلاً، حتَّى يصير كل محمول أولاً لأول، أو أولاً مضاف إلى أول، وعلى هذا: ألقى متاعه أخوَلَ أخْوَلَ، قال الشاعر:

يُساقطُ عنه روْقهُ ضارياتها ... سِقاطَ حديدِ القينِ أخوَلَ أخولا

وقال امرؤ القيس:

ورِثنا الغِنى والمجدَ أكْبرَ أكبرا

أي: أكبرٌ عن أكبرٍ، وأخول عن أخول، ومنهم من لا ينوي حرف الجر، ولا يجعل الاسمين اسماً واحداً، فيقول: صُمْتُ رمضان يوماً يوماً، وقبضت المال درهماً درهماً، وأحمل المال أولاً أولاً، والمعنى: أحمله شيئاً شيئاً، وجملة جملة، أي متتابعاً، وإن أدخلت الفاء حسن وجاد الكلام وصار جائياً على أصله، تقول: احمل المال أولاً فأولاً.

وزعم سيبويه أن الغالب على هذا الكتاب كله أن يكون انتصابه من إحدى الجهتين: الحال أو الظرف، فإن أدخلت الألف واللام فقلت: أدخلوا الأول فالأول، فيجب أن لا تعتدَّ بهما، ويكون انتصابه على الحال أيضاً، والتقدير: ادخلوا واحداً واحداً، وشبهها سيبويه بقولهم: جاءوا الجمَّاءَ الغفير، وجاءوا قضّعم بقضيضهم: في أنه معرفة، وقد وقع موقع ما يكون نكرة، وهو الحال.

بيت معنى

أقولُ لعمرٍو والظّباءُ سوانحٌ ... وهنَّ لنا الأكتابُ والصَّيدُ مُخلقُ

ألا إنما التَّمرُ الذي أنتَ آكلٌ ... هو الإسبُ والمُسترخصُ المُمزَّقُ

فعنهنَّ أو فاسببْ فتلك رمايةٌ ... بها عندَ دبَّاغي تِهامةَ تنفقُ

هذا يعير رجلاً بأنه صائد، وأنه يشتري التمر بجلود الوحش فيأكله، فقوله: فعنهم، أي فأصب عيونهن، يقال: عنت الرجل، أصبته بعين، أو رميت عينه فأصبتها، قوله: فاسبب أي أصب سبَّاتهن بالسهام وعلى الأدبار، وهذا مما يوصف به حذق الرامي، لأنه إذا رمى عيونها وسباتها سلمت الجلود من الثقب فلم يكسد في البيع، وأنشد في بعضهم:

إذا ما تولُّوا سبَيْناهمُ ... وإن أقبلوا فهمُ من نسُرْ

نسر: نرمي سررهم فنصيبها، كذلك يقال من كل أعضاء البدن، يقال: وجهته وبطنته: أي أصبت بطنه ووجهه، وكذلك جميع الأعضاء، يقال: نِبتهُ، أي: أصبت نابه، لأنه من بنات الياء، كما يقال: بِعته، وسُقته، أي: أصبت ساقه، لأنه من بنات الواو، مثل: قُلته، ويقول: رأيته، أي: ضربت رئتيه، وفأدْتُه، أي: أصبت فؤاده، فهو مفؤود.

مسألة

سأل بعضهم عن قول القائل: عَذيري من فلان، ومن يعذرني من فلان، وعن موضعه في الكلام وفائدته.

اعلم أن هذه اللفظة، أعني من يعذرني من فلان، ينوب عنها: من عاذري من فلان، وعذيرك من فلان، ومن عذيري من فلان، فأما من يعذرني من فلان، فقال الخليل فيه: معناه من يلوم فلاناً ولا يلومني، ويقال: عذرته عذراً وعذرا ومعذرة وعذرةً وعذرى وعذيرا، ويستعمل أعذرت في معنى عذرت، وتقول: من عذيرك من فلان، والمعنى: من يعذرك من فلان وأنشد بعضهم:

يا قومُ من عاذرى من الجَدَعةْ

وأنشد أيضاً قول عمرو بن معد يكرب:

أريدُ حِباءهُ ويريدُ قتلي ... عذيرُكَ من خليلكَ من مُرادِ

وينشد:

عذيرُ الحيِّ من عدوا ... نَ كانوا حيَّةَ الأرضِ

وذكر أبو سعيد السيرافي رحمه الله في قول القائل: من يعذرني من فلان، أنه يفسر على وجهين، أحدهما أن يكون المعنى: من يعذرني في احتمالي إياه على ما أحتمله عليه، والثاني: أن يكون معناه: من يذكر عذر فلان لي، ثم ذكر أن المفضل بن سلمة اللغوي أنكر على سيبويه حين جعل العذير مصدراً واستضعف طريقته فيه، وقال: إن المصادر على فعيل بابه الأصوات، كالصَّهيل، والنَّهيق، والشَّحيج، والهدير، وما أشبهه، وإنه في غير هذا الباب يقل، فعلى طريقته يجب أن يكون عذير صفة لا مصدراً، لأن الأكثر عليه في غير الأصوات، فيكون عذير وعاذر، كشهيد وشاهد، وقدير وقادر، فكأن القائل إذا قال: عذيرك من فلان معناه: هات عذيرك، واحضر عاذرك، وهات من يعذرك، وكذلك إذا قال: من عذيري من فلان، فالمعنى: من عاذري.

واعلم أن أحد الوجهين اللذين حكاهما أبو سعيد في تفسير من يعذرني من فلان، وهو: من يذكر لي عذر فلان عندي، بعيد، إذ لم أجد في اللغة: اعذرني من زيد، بمعنى اذكر لي عذره، فأما الوجه الآخر مما حكاه، وهو: من يعذرني في احتمالي فلاناً فهو طريقه، إلاّ أنك تقول: عذرت فلاناً، إذا بسطت عذره، وأعذرته أيضاً، وما فسر به الخليل: من يعذرني من فلان، أي: من يلوم فلاناً ويدع لومي، هو المختار في تفسير ذا اللفظ، ألا ترى أن الخليل قال، إنهم يقولون: ألا تعذرني من فلان، قال: ومعناه أن يكون الرجل مطلوباً من جهة فلان، فكأنه استعذر من مخاطبه متقدماً في الشكوى من فلان، ومبيناً عذر نفسه فيما يكون من عقوبته، أن أختار معاقبته، وأنه جاء في الحديث المروي: لن يهلك الناسُ حتَّى يعذروا من أنفسهم، والمعنى: حتَّى من رجعوا باللَّوم على أنفسهم من كثرة ذنوبهم، ويعذروا مؤاخذهم ومخاصمهم على ما يكون منهم. وقد فسر بعض أهل اللغة هذا الحديث على أن معناه: حتَّى يكثّر عيوبهم وذنوبهم، وهذا الرجل لم يأت بتفسيره على حدة، ولا تحقيقه الكلمة، وإن كان لا بد من كثرة الذنوب منهم، فأما ما أنكره المفضل بن سلمة على سيبويه فغير منكر، لأن المصادر في غير باب الأصوات قد جاءت على فعيل كثيراً، وذلك: كالنَّكير، واللَّهيب، والوجيب، والرَّسيم، والخبيب، والشَّميم، وما لا يتسع لذكره.

وقد قال أبو الحسن الأخفش في قول الله تعالى:) فالمُلقياتِ ذكراً عذراً أو نُذرا (، النُّذر والنَّذير، كالنُّكر والنَّكير، في أنها مصادر، فعلى هذا العذر والعذير، وإذا كان كذلك، فمعنى عذيرك من فلان: أقم معذرتك منه، وهات معذرتك، فإن قال قائل: كيف فسر الخليل: من يعذرني من فلان، على أن معناه: لُمْ فلاناً ولا تلمني، قلت: كان فلان الكذوب عامله بما استحق به لوماً، واقتضى مؤاخذة المتكلم إياه به ومحاسبته عليه، فخاطب الفتى فقال: من يعذرني من فلان، أي من يبسط عذري من أجل فلان الذي استحق اللوم فيما يعاملني به، كأن ذاك لا عذر له، وهذا إذا عاقبه كان معذوراً، وفي لوم المخاطب لذلك بيان عذر هذا، فقال: من يعذرني منه، وكذلك قوله: حتَّى يعذروا من أنفسهم، لأن في رجوعهم على أنفسهم باللوم بيان عذر الله جل جلاله في مؤاخذتهم ومعاقبتهم، وعلى هذا قول عمرو:

أريدُ حِباءهُ ويريد قتلي ... عذيرك من خليلك من مرادِ

لأنك إن جعلت عذيرك في معنى عذارك، أو جعلته في معنى معذرتك، فالطريقة واحدة في أن المعنى: اطلب من يعذر منه، أو هات المعذرة منه، ومعنى العاذر منه، من يبسط عذري ويلحق اللوم به لذلك تمثل أمير المؤمنين صلوات الله عليه بالبيت، لأنه أراد أني أختار الخير لمن يكايدني وهو يبغي الغوائل، فمن يعذرني منه، أي من يبسط عذري ويلحق اللوم به إذا تنكرت له، فإن قيل: ما الفصل بين ما اخترته في تفسير: من يعذرني من فلان، من يبسط عذري في احتمالي فلاناً على ما أحتمله عليه، فحقيقة الكلام وصوابه تضيق عذر نفسه، ويكون الاستفهام على وجه الإنكار، كأنه أراد: لا عذر لي فيما آتيه معه من الحلم والإغضاء مع إصراره على ما يسوؤني، وإذا فسِّر على أن المعنى: لُمْ فلاناً ولا تلمني، فحقيقته نفي المعذرة لفلان وإقامتها لنفسه فيما سيأخذ به وفيه من معاقبته بعد ذلك، وإذ تأملت الطريقتين، بان لك الفضل وصح.

مسألة إعراب

سأل بعضهم عن الفصل بين قول القائل: أنت أفْرَهُ عبداً وعبيداً، وبين قوله: أنت أفْرَهُ عبدٍ والعبيد، والجواب: أن معنى: أنت أفره عبداً، أنت تزيد فراهة عبدك على غيرها، فالفراهة أفره عبيداً، إذا كثر عبيده، وإن كان قولك عبداً للجنس إزالة التوهم أن له عبداً واحداً، قال الله عز وجل:) قلْ هل أنبئكمْ بالأخسرينَ أعمالاً (، تنبيهاً على أن زيادة خسرهم في أعمال مختلفة الأجناس لا في جنس واحد، فإن قلت: أنت أفرهُ عبدٍ، فالمخاطب من العبيد، والمعنى: أنت أفره من كل عبد، إذا أفردوا عبداً عبداً، وكذلك لو قلت: أنت أفرَهُ العبيد، لأن المعنى: أنت مقدم في العبيد، فإن نكَّرت العبيد لم يجز بوجه.

مسألة في التنزيل

قوله تعالى:) أصحابُ الجنَّةِ يومئذٍ خيرٌ مستقرّاً وأحسنُ مقيلا (، سأل بعضهم فقال: إذا كان أفعل في باب التفضيل موضوعة بأن جيء لتفضيل واحد على جماعة هو فيها، فكيف مورد الآية وأهل الجنة لا مشاركة بينهم وبين أهل النار في شيء يقع فيه التفضيل.

اعلم أن الفرَّاء قال في هذا: أهل الكلام إذا اجتمع لهم أحمق وعاقل، لم يستجيزوا أن يقولوا: هذا أحمق الرجلين، ولا أعقل الرجلين، ويقولون: لا نقول هذا أعقل الرجلين إلاّ لعاقلين، يفضل أحدهما على صاحبه، وقد سمعنا قول الله تعالى:) خيرٌ مستقرّاً (فجعل أهل الجنة خيراً مستقراً من أهل النار، وليس في مستقر أهل النار شيء من الخير، فأعرف ذلك من خطابهم، انتهى كلام الفراء، والطريقة في الآية أن المراد أصحاب الجنة أزيد استقراراً في الخيرية من أن يوازنوا وأنفع مبادلة من أن يكايلوا، وهذا على التفخيم لأمرهم، والتعظيم لشأنهم، فأما تفضيل أحد الشيئين على الآخر، وادِّعاء الزيادة له في معنى لا يحصل في الآخر منه شيء البتة، فبعيد في العرف والعقل جميعاً، لارتفاع اللُّبس منه، وظهور الحال فيه، وسقوط الفائدة في الإخبار به، ألا ترى أن قائلاً لو قال: العسل أحلى من الصبر، أو الخل أحمض من السكر لاستُخفَّ خبره، إذ لم يكن في الصبر حلاوة بوجه من الوجوه، فيقال بفضلها حلاوة العسل، ولا في السكر حموضة فيدعي أن حموضة الخل أزيد منها، فاعلمه.

مسألة من الأبنية

قال سيبويه: ليس في الكلام فعلٌ وصفاً إلاّ في حرف من المعتل، وهو قولهم: قوم عدى، أي أعداء، وقد يكون العدى الغرباء وأن لم يكونوا أعداء، قال الشاعر:

إذا كنتَ في قومٍ عدًى لستَ منهمُ

وزيدَ عليه قراءة بعضهم: ديناً قيّماً في معنى قيْماً، ويمكن أن ينصر سيبويه بأن قَيِّماً منقوص عن قيام مصدر قام، وقد وضع موضع الصفة، وزيد عليه: مكانٌ سوى، أي مستوٍ، ولحم زِيَمٌ أي متفرِّق، قال زهير:

على قوائمَ عوْجٍ لحمها زِيَمُ

وقال النابغة:

بذي المجازِ تراعي مُنزلا زيَما

أي متفرق النبات.

والثِّني: من دون السيد، قال:

يسودُ ثنانا من سوانا وبدْؤنا ... يسودُ معدّاً كلَّها ما تدافعهْ

وماء رِوى في معنى رواءٍ كثيرة. فهذه خمسة أحرف ذهبت عن سيبويه. قال الشيخ أبو علي أيده الله: والرِّوى من بينها، من الضَّوال التي أنا وجدتها.

بيت معنى

غرائرُ أبكارٌ حِسانٌ فنونها ... كأنَّ عيونَ المرشقاتِ عيونها

يزرنَ ابن أمٍّ لا يعزَّى بهالكٍ ... أبوهْ ولم يحملْ لنسلٍ جنينها

غرائر أشباه: يعني قصائد شبهها بالنساء الغرائر وهي المنعمات الغافلات، واحدتها غريرة، أشباه: أي كلها خيار يشبه بعضها بعضاً، والمرشقات: الظباء الناصبات الأعناق مشبه عيونها في جنسها بعيونها، وقوله: يزرن ابن أم لا يعزى بهالك، أي يسرن في طريق هذه صفتها، حتَّى يصرن إلى الممدوح، وابن أم: هو السبيل، لا يعزى بهالك: أي من هلك فيه لم يُعزَّ به، ولا جنينها حمل لنسل، لأنه إنما نسب إليها الأمومة والبنوَّة على المجاز.

مسألة من الغريب

حكى ابن الأعرابي: أن العرب تقول في أمثالهم عند تقليل الشيء والإزراء به: زَنْدان في مُرَقَّعة، ويقولون أيضاً: ليس في جفيره غير زندين، والجفير: الكنانة، والزندان: قِدْحان تُورَّى بهما النار، ويقال: وريتُ بك زنادى، في معنى شد الله بك ركني، ويقال للرجل البخيل: صلدتْ زناده، أي: قدح فلم يورِ، قال الشاعر:

صلدتْ زنادُكَ يا يزيدُ وطالما ... ثقبْتَ زنادُكَ للضَّريكِ المُرمل

الضريك: الفقير، والمرمل: الذي انقطع زاده، ويقال: قدح فأصلد أيضاً: إذا لم يغنِ شيئاً، وقول عمرو بن معد يكرب:

ما إن جزعْتُ ولا هلِعتُ ... وما يردُّ بُكايَ زَنْدا

يريد أن بكاءه لا يرد التَّافه الذي يقل خطره، وقيل للبخيل المبخوس الحظ من الخير المزنَّد، من هذا.

فأما قول الأعشى:

وزندكَ خيرُ زنادِ الملو ... كِ صادفَ منهنَّ مرخٌ عفارا

ولو بتَّ تقدحُ في ظلمةٍ ... صفاةً بنبعٍ لأوريتَ نارا

فقد كشف عن المعنى، والعرب تقول: في كلِّ شجرٍ نار واستمجد المرخ والعفار فلذلك ذكرهما، ومعنى استمجد استكثر من النار، ومنه أمجدت الدابة العلف، فهو يصف الممدوح بجزالة الرأي، وإدراك الفوز في المطالب والظفر، والبتم لا يثقب لصلابته، فقال: لو قدحت به لأوريت، أي ينجح سعيك فيما يخيب ويكدى فيه غيرك.

مسألة إعراب

يقول أصحابنا البصريون: شرط فعل التعجب أن يكون من الثلاثي لا غير، فإن زاد، تعجب منه بأشد وما أشبهه مما لا يخلو الأحداث منه، وكذلك الألوان والخلق، لأن الشرط في الفعل منهما أن يكون على أكثر من ثلاثة أحرف، وقال سيبويه: يبنى مما كان على أفعل أيضاً وليس لأحد أن يعترض على ما يقولونه بما أحسنه وما أقبحه وما أطوله وما أقصره، وذلك أن الحسن والقبح ليسا من الخلق في شيء بدلالة أن الوصف بهما إنما يثيره استحلاء الناظر أو اجتواؤه دون ما عليه الشيء نفسه، ألا ترى أن ما يقول فيه: زيد ما أحسنه، قد يقول فيه: عمرو ما أقبحه من غير تغير حدث فيه أو تبدل عرض له، وإذا كان الأمر كما قلنا بأن مفارقتهما للخلق، وكذلك الوصف بالطول والقصر يحصل عن مضامَّة الغير للموصوف بأحدهما، بدلالة أن نفس ما يقول فيه: ما أطوله قد يقول فيه: ما أقصره من غير أن يتحول عن الحالة التي كان عليها من قبل، وإذا كان ذلك كذلك فارق العرج، والصَّمم، والبكم، وما أشبهها من الخلق، لأن الموصوف بها أو ببعضها يوصف بها كيف دار الأمر، إلاّ أن يخرج عن الصفة بتغيير من قبل خالقه.

ولا يدخل عليه قولهم للفقير: ما أفقره، وللغني: ما أغناه، وللممكن والمتمكِّن: ما أمكنه، وللمقيم والمستقيم: ما أقومه، وإن كان الفعل الماضي منها افتقر واستغنى واستقام وأمكن وتمكَّن، لأنهم إنما أخرجوه على فقر وغني وقام، وإن كان بعض هذه لم يستعمل استغناء بغيره عنه، وقد قال سيبويه: هم يستغنون بالشيء عن الشيء، ألا تراهم قالوا: هو يذرُ ويدَعُ، ولم يقولوا: وذَرَ ولا ودعَ استغنوا عنهما بترك، وقال أيضاً في غير موضع: وقد يجري الشيء على ما لا يستعملونه في كلامهم نحو قولهم: ملامح ومذاكير ومحاسن، ونحو مصغَّرات لا مكبَّر لها نحو: كُميت وكُعَيت، إلى غير ذلك مما يكثر.

وقد جاء في هذا الباب ما ليس له أفعل، قالوا: ما أشغله، وهو مشغول، وما أجنَّه، وهو مجنون، وما أملاه، وهو مملوء، كأنهم أضافوا الفعل إلى هذه الأشياء، لأنهم يقولون: ما أفعله، فيما يكون الفعل منه، ألا ترى أنهم يقولون: ما أضربه، إذا كان مضروباً، وإنما قالوا هذه لأنهم جعلوا المشغول صاحب شغل، والمجنون صاحب جنون، والمملوء صاحب ملء، فكأنهم جعلوا الشغل والجنون والملء لها وأجروها، كأنهم قالوا فيها: قد فعلت وإن لم يكونوا قالوه.

ومما يسهل هذا ويقرب أنهم ربما جاؤوا بالصفة على قياس الفعل، ولا يتكلمون بفعلها، قالوا: رجل أظفر، للطويل الأظفار، وأعين للكبير العين، وأعنق للطويل العنق، وكذلك رجل أشعر، وكبش أصوف، كأنهم قالوا فيها: كأنها قد فعل وإن لم يتكلموا به، ولا يدخل عليه قولهم: ما أنوكه، وما أحمقه، وأهوجه، وأرعنه، وما أعمى قلبه، لأن هذه الأشياء فارقت الخلق بدلالة أن الإنسان يعاتب عليها كلها ويوبَّخ.

فإن قيل: زعمت أن ما كان ثلاثياً أو على أفعل خاصة على طريقة سيبويه، يتعجَّب منه ب: ما أفعله، وقد قالوا: ما أشد سكره، والفعل منه سَكِر، ولم يقولوا: ما أسكره، وكذلك يقولون: ما أشدَّ جوابه، ولا يقولون: ما أجوبه، والفعل منه أجاب، قلت: أول ما في هذا أن ما ادعيته علينا لم نقله، وذلك أنا قلنا: فعل التعجب لا يبنى إلاّ مما كان على ثلاثة أحرف أو من أفعل خاصة، ولم نقل: كل فعل ثلاثي، أو على زنة أفعل يبنى منه للتعجب البتة.

وإذا كان كذلك فقد سقط ما أردت إلزامه، على أنا قد قدمنا أنهم يستغنون بالشيء عن الشيء فلا يستعملونه وإن كان القياس يقتضيه. وإذا ثبت ذلك وكان قولهم: ما أسكره، لو قيل: وما أشد سكره، وما أجوبه، لو قيل: ما أشد جوابه، في أنهما عبارتان عن معنى واحد ك: ما أضربه، وما أكثر ضربه، وما أحسنه، وما أتم حسنه، لم يمتنع أن يستغني بأحدهما عن الآخر، كما كان ذلك في: تركَ، ووذرَ، ونظرائهما، فإن قيل: كيف يصحُّ لكم ما أسَّستم الكلام عليه وقد قالوا: ما ألسنه، بمعنى: ما أبينه وأنطقه، كما يقال: رجل لسن، وقد لسنَ يلسنُ لسناً، وكذلك أرادوا بطول اللسان الطلاقة والفصاحة، ولا يريدون اللسان وطوله.

وإذا كان الأمر كما قلناه بأن سقوط هذا الكلام وظهر أنه غلط من السائل أو مغالطة وهذا ظاهر.

مسألة من التنزيل

قوله تعالى:) وإذا قيلَ لهم ماذا أنزلَ ربَّكمْ قالوا أساطيرُ الأولين (، حكى أبو عمر الجرمي في هذا أنه سمع أبا زيد الأنصاري يقول فيه: لم يعترفوا، ومعنى هذا أنهم لما قيل لهم:) ماذا أنزل ربكم (لم يعترفوا بالإنزال فيه، ولكن أعرضوا عن الجواب وقالوا: هو) أساطيرُ الأولين (وليس بمنزل، فلا يكون على هذا محمولاً على أنه خبر المبتدأ الذي هو الذي، كأنه قال: الذي أنزل أساطير الأولين، ولكنهم تركوا البناء على هذا ولأضمروا هو معرضين عن السؤال، وقائلين: هو أساطير الأولين، لأنهم دفعوا أن يكون منزلاً.

ويجوز أن يحمل على وجه آخر، وهو: أن يكون أساطير مبتدأ، وخبره مضمر، كأنه قال: أساطير الأولين أنزله عندكم وفي اعتقادكم، فأخرج الكلام مخرج الحكاية عنهم، كما قال في موضع آخر: يا أيُّها الساحر ادعُ لنا ربَّك على حكاية كلامهم.

ومثل الرفع في أساطير قولك للرجل: ماذا رأيت؟ فيقول: خيرٌ، وفي جواب: كيف أصبحت؟ صالحٌ. وقول لبيد بن ربيعة على هذا:

ألا تسألانِ المرء ماذا يحاولُ ... أنحبٌ فيقضى أم ضلالٌ وباطلُ

ولماذا موضع آخر، وهو أن يجعل ذا مع ما بمنزلة اسم واحد، كما جعلوا ما وإن حرفاً حين قالوا: إنما وكأنما وحيثما في الجزاء، وعلى هذا قوله تعالى:) ماذا أنزل ربكم قالوا خيرا (، أي: أيُّ شيء أنزل ربكم؟ فقالوا: أنزل خيراً.

وأنشدنا أبو علي الفارسيّ رحمه الله في جعل ذا مع ما بمنزلة اسم، قول جرير:

يا خزرَ تغلبَ ماذا بالُ نسوتكمْ ... لا يستفقنَ إلى الدَّيرينِ تحنانا

وقال: أترى أنه لا يحتمل في معنى البيت أن يجعل ما بمعنى الذي على وجه من الوجوه.

بيت معاياة

أنشده:

خذوا بأبي أمِّ الرِّئالِ فأجلفتْ ... نعامتهُ من عارضٍ يتلهَّبُ

يعني بأبي أم الرئال: قطرى بن الفجاءة، لأنه كان يكنَّى أبا نعامة، والنعامة أم الرئال، وقوله: أجفلت نعامته، يريد أنه انهزم لما حدوا به. ويقال أيضاً: شالت نعامته، وزفَّ رأله، وطار طائره، ويعني بالعارض سحابة حرب، وأراد بالتلهب: تأجُّج نارها وبريق سلاحها.

بيت إعراب

أنشد:

أمنْ رسْمِ دارٍ مربعٌ ومصيفُ ... لعينيكَ من ماءِ الشؤونِ وكيفُ

سأل بعضهم فقال: أي شيء يرجع إلى مربع ومصيف، من قولك: لعينيك من ماء الشؤون وكيف؟ وبأي شيء يرتفع: مربع ومصيف، إذا لم يكونا خبر المبتدأ؟ والجواب: أن الرسم ههنا مصدر، والمعنى: أمن أن رسم دارٍ مربع ومصيف تبكي، كما تقول: أمن أكل الخبز زيد تبكي، والمصدر يضاف إلى مفعوله كما يضاف إلى الفاعل، فدار المضاف إليه في موضع المفعول، والمربع في موضع الفاعل، كما أن الخبر مما مثلنا به في موضع المفعول، وزيد في موضع الفاعل.

فصل

من النوادر

حكى أبو العباس ثعلب عن الفراء قال: يقال لما يبقى من الماء في القدح أو في غيره: السُّؤر مهموز، وللفضلة من النبيذ في القنينة: البَسيل، ولما يبقى من المسك في الفأرة: العِتْرة، ولما يبقى في الإناء من العسل: الجلس، ولما يبقى من الرماد في الموقد النار: الأُسُّ، ولما يلتزق من الخبز بالتنور: القُرَامة، ولما يبقى في الخليَّة ويختلط بما يموت من النحل: المحارن، ولما يبقى في البطن من الطعام ولا يخرج مع النَّجْو: الثَّميلة، ولما يبقى في المِخلاة من الشعير: البغيث، ولما يبقى من الطيب في المُدهن: الصُّوار، قال، وقال أعرابي لامرأته: تعهدي الصُّوار فإن ريحك نَغِلة، ولما يبقى في الجفنة من العجين: فَرَزْدقة، ولما يبقى في القصعة من الثريد: الرُّكْحة، ولما يبقى على الخوان من العجين بعد الخبز: الجحفة، ولما يبقى من الدقيق على الخوان: اللُّواثة، يقال: لاثت قرصها باللِّواث، ولما يبقى من الماء وينقطع عن البحر: الخليج، ولما يبقى منه في النُّقر والحُفر بعد إقلاع المطر: الحُسيّ، ولما يبقى في الأرض من الحصى إذا تبدد أكثره: الجُلَيْهة، ولما يبقى من الحنَّاء ومن الخضاب: العُصُم، قال: وبعثت فتاة إلى أخرى: ابعثي لي عصم حنَّائك، ولما يبقى من الصوف بعد ندف الندَّاف: البُقامة، ولما يبقى في الرحى من الدقيق بعد ما يؤخذ طحينها: النُّباغة، ولما يبقى في النخلة بعد ما يُصرم من الرَّطب: الكُرابة، ولما يبقى في الحوض من الماء: الفراشة، ولما يبقى من القطن بعد الندف: السَّابخ، ولفات العيدان: القُصارة، ولما يتفرك من السنبل: العصافة.

مسألة من التنزيل

قوله تعالى:) قد أنزل اللهُ إليكم ذِكراً رسولاً (، يجوز أن يكون الإنزال بمعنى الخلق، كما قال تعالى في موضع آخر:) وأنزلنا الحديدَ فيهِ بأسٌ شديدٌ (، وفي أخر:) وأنزل لكم من الأنعامِ ثمانيةَ أزواجٍ (، ويكون الذكر محمداً رسول الله صلى الله عليه وسلّم ويكون الكلام على حذف المضاف، كأنه صاحب ذكر رسولاً، وينتصب رسولاً على الوصف، وإن شئت على الحال، وقد يجوز أيضاً أن يكون محمولاً على فعل آخر، كأنه قال: قد أنزل الله إليكم ذكراً، وأرسل رسولاً إلاّ أن يكون الإنزال بمعنى: التنزيل، والذكر: القرآن، ويجوز أن ينتصب رسولاً على أن يكون معمول الذكر، مثل قوله تعالى:) أو إطعامٌ في يومٍ ذي مسغبةٍ يتيماً (، ومثل قوله:) رزقاً، شيئاً (، ويقوى حمل الذكر على الإنزال قوله:) إنا نحنُ نزَّلنا الذِّكر (، وفي موضع آخر:) وأنزلنا إليكَ الذِّكر (فكما أن الذكر يكون محمولاً على التنزيل كذلك يكون محمولاً على الإنزال، وهما بمعنى واحد. فاعلمه.

بيت معنى

أنشد:

يقدِّمها النَّجيبُ إذا تبارتْ ... إذا احتاجَ النَّجيبُ إلى النَّجيبِ

يصف ناقته يقول: إذا تبارت النوق من السير وتجاهدت، يقدم هذه الناقة ويحصل لها التبريز على صواحبها، عنقها التي كأنها قضيب قد نُجب، أي: أُخذ قشره، وإنما قال هذا، لأنه يستحب من النوق طول العنق وتجردها من الوبر، وقوله: إذا احتاج النجيب، يعني أنها تفعل ذلك في الوقت الذي يشتد الأمر في الطلب أو الهرب فيحوج الكريم العتيق من الإبل إلى السوط والحثّ به، فالنجيب الأول يراد به: العنق، والنجيب الثاني: الكريم من الإبل ذو النجابة، والثالث: السّوط المتخذ من جلد منجوب، أي مدبوغ بالنٌّجب، وهو لحاء شجرة، وهو فعيل بمعنى مفعول، ومثله قول عصام الزَّماني:

ينضُو الفَلا بالمنِّ خوفَ نجيبِ ... ويغولُ فضلَ زمامهِ بنجيبِ

ينضو: أي يجاوزه ويمضيه، والمن: الإعياء، أي: على ما يلحقه من الضعف والكلال يجاوز الفلا من خوف السوط، ويغول فضل زمامه، أي: يمد زمامه ويذهب به لطول عنقه، فالنجيب الأول في هذا البيت: السوط، والنجيب الثاني: العنق.

مسألة من الغريب

ذكر ابن الأعرابي، عن أبي المكارم، وهو أستاذه، في قول الناس: لا تبلِّمْ عليه، قال: يكون مدحاً وذماً، فإذا أريد به التقبيح فهو من قولهم: أبلمت الناقة إذا انتفخ حياؤها من شدة الضَّبعة، وهو أقبح ما يكون، قال: ويملَّح فيزداد قبحاً، ولذلك قيل: كأنَّ وجههُ حرٌ مملَّح.

ويروى أن الفرزدق دخل على عبد الملك بن مروان فقال عبد الملك لبعض ندمائه: حرِّك من الفرزدق لننظر ماذا يقول، فلما استقر به المجلس قال له ذلك النديم: يا أبا فراس، كأن وجهك أحراحاً مملَّحة، فقال الفرزدق: انظر هل ترى حرَّ أمك فيه؟ فخجل النديم، فهذا وجه الذم.

وإذا أريد به المدح فإنه يكون مأخوذاً من البلماء وهي ليلة البدر، ويقال: وجهه مبلم إذا امتلأ نوراً واستكمل حسناً، قال: ويقال لذلك طفاوة القمر، وأنشدونا:

كأنَّهُ البدرُ في طَفاوتِهِ

مسألة من التنزيل

قوله تعالى:) وما يُشعركم أنَّها إذا جاءتْ لا يؤمنونَ (، ذكر بعضهم أنه لا يجوز أن يقرأ فيه أنها بالفتح، لأن هذا الكلام منقطع عن الأول وإخبار بأن الذين نزلت الآية فيهم لا يؤمنون.

وفي قراءة أن بالفتح ما يبطل هذا المعنى ويجعل لهم عذراً في تركهم الإيمان، وهذا غير جائز، فالوجه كسر إن ويكون المعنى أنهم مع الآيات يعاندون أيضاً فلا يؤمنون.

ووجه الفتح في أن أن يجري يشعر مجرى يدري لاتفاقهما في المعنى، ويجعل أن بمعنى لعل كما تقول العرب: إئت السوق أنَّك تشتري كذا بمعنى: لعلك تشتري شيئاً، فيكون التقدير: وما يدريكم لعلها، يعني الآيات، إذا جاءت لا يؤمنون أيضاً.

مسألة تشتمل على فوائد كثيرة من اللغة والتنزيل والشعر

سأل بعضهم عن قول الله عز وجل:) يا نساءَ النَّبيّ من يأتِ منكنَّ بفاحشةٍ مبيّنةٍ يضاعفُ لها العذابُ ضعفينِ (، وعما حكي عن أبي عبيدة فيه وكيف خالفه الناس، وعن قول أبي ذؤيب:

جزيتُكِ ضعفَ الودّ لمَّا اشْتركتهِ ... وما إنْ جزاكِ الضِّعفَ منْ أحدٍ قبلِي

وإنكار الأصمعي عليه فيما قاله، وهذه مسألة توجب بسط القول في جوانبها، فإنها لا تكاد تبين إلاّ بذلك لاختلاف وجوهها وتداخل طرقها، وأنا أفصل جملها، وأشرح مبهمها بحول الله.

اعلم أن للضعف في اللغة مواضع ثلاثة، يكون المثل لما تضاعف به الشيء، ويكون: الشيء المضاعف، ويكون: التضعيف. ولكل من هذه الوجوه بيان ومجاز، قال الخليل: يقال: أضعفت الشيء وضعَّفته وضاعفته إذا جعلته مثلين أو أكثر، ويقال: ضعَفته بالتخفيف في هذا المعنى أيضاً، ضعفاً فهو مضعوف، قال لبيد:

وعالَيْنَ مضْعوفاً وفرداً سموطُه ... جمانٌ ومرجانٌ يشُك المفاصِلا

فقد تبين من كلامه لما قال: وفرداً، أن المضعوف: ما جعل معه مثله شيء وأضعف، وإذا كان الأمر على هذا، فالضَّعف بالفتح: المصدر، والضِّعف بالكسر: المثل الذي يضاعف به غيره، وإذا ثبت هذا صح أن يسمى الأول الذي ضم إليه مثله فضوعف به ضعفاً، كما سمي المثل الذي أضعف به ضعفاً لاشتراكهما في أن كلاً منهما مثل الآخر، وقد تضاعف به، وهذا كما تقول: ثنيت الشيء ثنياً، إذا جعلت معه ثانياً ثم يسمى ما ثنى به الأول ثنياً بالكسر، والأول الذي تثني به أيضاً ثنيا، وعلى هذا قولهم في أسماء العدد: واحد واثنان، لأن الواحد الذي لا ثاني له، فلما جعل له ثان يثنى به خرج من أن يكون واحداً فسمي الثاني ثنيا لتثني الأول به، والأول أيضاً ثنيا لاشتراكهما في أن تثنى كل منهما بصاحبه، فقيل، اثنان، والأصل ثنيان، فالضَّعف بالفتح مصدر كالثَّني، والضِّعف بالكسر كالثِّني، ولو انفصل كل منهما عن صاحبه وانفرد لم يسمّ واحد منهما ضعفاً ولا ثنياً، وقال طرفة:

لكالطّولِ المُرخى وثِنياهُ باليدِ

ولهذا قالوا: وجدت في أثناءه كذا وفي أضعافه، فاستعملوها على حد واحد وإن كان الضعف يقتضي أن يكون اسماً لمثل الذي ضعف به لا زيادة فيه. والثّني لا يقتضي ذلك، ومثل ذلك في أن جعلوا المصدر على فعْل، والمفعول على فعل بالكسر.

قولهم: نقضتُ البعير في السَّفر نقضاً فهو منقوض ونقض، وذبحتُ الطائر ذبحاً فهو مذبوح وذبح، وهذا كثير وقد تصرفوا في هذا البناء على وجه آخر، قالوا: ضعفتُ الثَّوب ضعفا، ثم سموا الثياب المضعّفة ضعفا بفتح الضاد والعين، وهذا كما تقول: نفضتُ الورق نفضا بسكون الفاء، ثم يسمى المنفوض نفضا بفتح الفاء، وقضتُ الشيء قبضا، ثم يسمى المقبوض قبضا.

وأضعاف الجوف: أطباقه التي بعضه فوق بعض، يجوز أن يكون جمع الضّعف والضعف جميعاً وقال الخليل أيضاً: يقال: ضعفتُ القوم ضعفاً كثرتهم فصار لك ولأصحابك الضعف عليهم، أي التضعيف، وقال الله تعالى:) فأولئك لهم جزاء الضِّعف بما عملوا (أي جزاء التضعيف أو المضاعف الذي عرفتم قدره، أي لهم أن يجاوزوا بذلك، إلاّ ترى أن المفسرين قالوا: أراد بالضعف قوله:) من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها (، وكما وضعوا الضعف موضع التضعيف، وضعوا التضعيف أيضاً موضع الضعف، فقالوا: وجدت في تضاعيفه كذا، كما قالوا: وجدت في أضعافه كذا، وقال الخليل: يسمى حملان الكيمياء التضعيف، وكما جعلوا الضعف بمعنى المضاعف، جعلوا الثِّنْي بمعنى المثنّى.

وقال الشماخ:

وكلّهنَّ يُباري ثِنْي مطَّردٍ ... كحيَّةِ الطَّودِ ولَّى غيرَ مطرودِ

أي زماماً مثنياً، فهذا ذكر وجوه الضعف. فأما قول الله تعالى:) يا نساءَ النَّبيِّ من يأتي منكنَّ بفاحشةٍ مبيِّنةٍ يضاعف لها العذاب ضعفين (، فقد قرئ: يضعّف أيضاً، وقال سيبويه: هما بمعنى واحد، وقال أبو الحسن الأخفش: الخفيفة حجازية، والثقيلة تميمية، وقال أبو عبيدة في معنى الآية: يعذب ثلاثة أعذبة، لأن كان عليها أن يعذب مرة فإذا ضوعفت المرة ضعفين صار العذاب ثلاثة أعذبة، وإنما قال هذا فيما أظن لأنه جعل قوله العذاب مراداً به القدر المستحق بالذنب في الأصل، ثم أضعف ذلك بعينه مرتين، فيكون ضعفين على هذا موضوعاً موضع إضعافين وتضعيفتين، كما قال تعالى في موضع آخر:) من ذا الذي يقرض الله قرضاً حسناً فيضاعفه له أضعافاً كثيرةً (، يريد مضاعفات كثيرة، وهذا الذي قاله في الآية غير شائع فيها، وإن كانت اللغة لا تدفعه، لأن الضعف في الآية بمعنى المثل لا بمعنى المضاعف، ولا بمعنى التضعيف، ولهذا خالفه من بعده، قال أبو إسحاق الزجاج: ليس ما قاله بشيء، لأن معنى يضاعف لها العذاب ضعفين يجعل عذاب جرمها كعذاب جرمين، والدليل على ذلك قوله تعالى:) نؤتها أجرها مرَّتين (فلا يكون أن تعطى على الطاعة أجرين، وعلى المعصية ثلاثة أعذبة، ومعنى ضعف الشيء مثله الذي يضعفه فهو بمنزلة مثال انتهت الحكاية.

والأمر في الآية على ما قاله، والمعنى أنه لما كنّ يشاهدن من الزواجر التي تردع عن مواقعة الذنوب ينبغي أن يكون منهن أكثر ممن لا يشاهدها، فمن لم يفعل ذلك منهن ضوعف لها العذاب، ومثل هذه المضاعفة قوله تعالى:) نؤتها أجرها مرَّتين (، ومتى زاد العذاب على الأجر خرج عن التعادل، تعالى الله عن ذلك.

وأما قول أبي ذؤيب:

جزيتُكِ ضِعفَ الودِّ لمَّا اشْتكيتهِ ... وما إنْ جزاكِ الضِّعفَ من أحدٍ قبلي

فالذي حكي عن الأصمعي فيه أنه قال: لم يصب في قوله: ضعف الود، لأن المعنى أضعفت لك الود، فكان يجب أن يقول: ضعفي الود، وهذا الذي ساقه الأصمعي لو قاله لكان صحيحاً على أن يكون سمى الأصل ضعفاً لما يضاعف به، والزيادة المضمومة إليه المماثلة له ضعفاً أيضاً لهذا المعنى ثم ثنى، ومثله قول الله عز وجل:) ربَّنا آتهم ضعفين من العذاب (، لأن المعنى: أضعف لهم العذاب، إلاّ أن أبا ذؤيب لم يذهب هذا المذهب، بل أراد قوله: ضعف الود، مضاعف الود، أو تضعيف الود، أي جزيتك لما استثبت أن ضعفت لك الود، ويدل على هذا أنه قال:

وما إنْ جزاكِ الضِّعفَ من أحدٍ قبلي

يريد ما جزاك المضاعف أو التضعيف غيري، وهذا كما قال الله تعالى:) فأتِهم عذاباً ضِعفاً من النَّار قال لكلٍّ ضِعفٌ (، أي: آتهم مضاعفاً من النار، قال لكل مضاعف أو تضعيف، وكما قال:) فأولئك لهم جزاءُ الضِّعفِ بما عملوا (، أي: جزاء التضعيف، وكما يبعد أن يكون الضِّعف ههنا المِثل فيكون المعنى لهم جزاء المثل، يبعد في بيت أبي ذؤيب أن يكون المراد ما إن جزاكِ المثل أحد قبلي، فإن قيل: فما المراد بقول القائل: اعطِهِ ضعفَ مستحقه؟ وما الفصل بينه وبين قول القائل: اعطه ضعفَي مستحقه؟ قلت: المراد بقوله: اعطه ضعف مستحقه، مضعوف مستحقه، ومضاعف مستحقه، أي الذي صير مضاعفاً بانضمام المستحق إليه، والمراد بقوله: ضعفي مستحقه، مثلي مستحقه. فإذا كان المستحق درهماً فعلى مقتضى الكلامين جميعاً يجب أن يعطيه درهمين، ولو قال: اعطه ضعف ما معه، وهو يريد مثلي ما معه، لم يصلح حتَّى يقول: ضعفي ما معه، وهو يريد مثلي ما معه، وهذا مبني على ما قدمناه من وجوه الضعف، فتأمله إن شاء الله.

فإن قيل: أليس قد زعمت أن الضعف قد يكون بمعنى التضعيف، والتضعيف والمضاعفة تكون للزائد على اثنين بدلالة قوله تعالى:) مثلُ الذينَ ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثلِ حبَّةٍ أنبتت سبع سنابل في كلِّ سنبلةٍ مائة حبَّةٍ والله يضاعف لمن يشاء (، فهلا حملته عليه في هذه المسائل، فالجواب: إن مثل هذه المسائل وما يدخل في الإقرارات والوصايا وأشباهها يجب حمله مما يصلح له على أدون الرتب وأقل العدد، إذا تجرد عن القرائن، إذا كان ذلك لا بد منه، وألا يحمل على الأكثر والأعلى إلاّ بدلالة تدل عليه وتوجبه، وإذا كان كذلك، فصرف الضعف إلى معنى المثل، والمضعوف المثنى هو الأولى إلى أن يرى معه دلالة توجب تجاوزهما إلى الكثير، وقال الخليل وغيره: الكِفل من الأجر والإثم الضعف، كقوله: له كفلان من أجر وعليه كفلان من الإثم، ومثله قوله عز وجل:) يؤتكم كفلين من رحمته (، وقوله تعالى:) ومن يشفع شفاعةً سيِّئةً يكن له كفلٌ منها (، قالوا: ولا يقال: هذا كفل فلان حتَّى يكون قد هيأت مثله لغيره، كالنصيب، فإن أفردت فلا يقول: كفل ولا نصيب، وقال بعضهم: يجوز أن يكون الكفل من كفل فلانٌ فلاناً إذا عاله وأنفق عليه.

مسألة إعراب

ذكر بعضهم قول الشاعر:

في ليلةٍ من جُمادى ذاتِ أنديةٍ

فقال: كيف جاء ندى على أندية، وأفعلة جمع الممدود لا المقصور؟ تقول: رداء وأردية، وكساء وأكسية، وقذى وأقذاء، ورحى وأرحاء، والجواب: قال أبو العباس: هو جمع ندًى، كقول الشاعر:

يومانِ يومُ مقاماتٍ وأنديةٍ

والمعنى: في ليلة جمادية، لشمول القحط فيها وصعوبة الزمان على أهلها يتخذ الأغنياء فيها مجامع لتدبير الفقراء وإعداد الجزر للميسر، وجبر أهل الفاقة والمسكنة، وقال أبو الحسن الأخفش: كسَّر ندًى على نداء، كجبل وجبال، ثم كسَّر نداء على أندية كرداء وأردية. وقال بعضهم: كسِّر فعلا على أفعل، كزمن وأزمن، وجبل وأجبل، فصار أندٍ كايد ثم أنث أفعل هذه بالتاء فصار أندية، كما قيل: فحول وبعول وحجارة، توكيداً لتأنيث الجمع، فأندية على هذا أفعلة. وقال بعض الكوفيين: هو شاذ في الجموع، ومثله: قفا وأقفية، ورحى وأرحية، وهذان حكاهما الفراء وابن السكيت.

بيت معنى

أنشد للحطيئة:

غضبتمْ علينا أن قتلنا بخالدٍ ... بني مالكٍ ها إنَّ ذا غضبٌ مُطْرُ

الغضب المطر الذي يوضع في غير موضعه، وهو أن يذكر مثل مضر بمكروه فيغضب لها رجل من بلْعَم وهم أدعياء في مضر، فيقول القائل هذا غضب مطر، أي: ما أنت ومضر، وما حظك من مضر؟ والمطْرُ أصله: أن يجيء من طرر الوادي، وفي المثل: أطرِّي فإنَّك ناعلة.

باب

نوادر وأمثال

يقال: هذا ريِّقُ الغيث فاحذروا معظمه، يضرب عند الأمر يتخوَّف معرَّته وقد بدا أوله. ويقال: كان ذاك منه في ريق الشباب وريقه، كما تقول: هيِّن وليِّن وهيْن وليْن، والأصل روق الشباب، وريِّق فيْعل وقد أدغم، لأن الواو والياء إذا اجتمعتا فأيهما سبق الآخر بالسكون يقلب الواو ياء ثم يدغم الأول في الثاني.

ويقال: لا يدري المكذوب كيف يأتمر، ومثله: ليس لمكذوب رأي.

قال رجل للحسن: قِئْتُ وأنا صائم، فقال: هل راع عليك القيء؟ يقول: هل رجع منه شيء بعد ما خرج.

وقال الأصمعي: حدثت عن قشعم من حكماء العرب، وكان ذا رأي وتجربة وشرف: أين يجب أن يكون طعامك؟ فقال: في بطن أم طفل راضع، أو في بطن ذي رحم قاطع، أو صغير جائع، أو كبير ضارع، أو ابن سبيل شاسع، أو أسير كانع.

وقال عمرو بن العاص: ليس العاقل الذي يعرف الخير من الشر، ولكن العاقل الذي يعرف خير الشرين.

نعل سمط: إذا كانت غير مخصوفة، ونعل أسماط، وقميص أسماط، وسراويل أسماط: إذا كان غير مبطن، وهذا كقولك: ثوب خَلَق وأخلاق، قال الشاعر:

على سراويلَ لهُ أسماطِ

ويقال: حبل أرمام وأقطاع وأرماث، وبرقة أعشار، وثوب أكباس لجنس من الكتان، ويقال تخلل فلان بسهم في وقعة كذا، إذا أصيب وكان حضوره تلك الوقعة بطراً منه. وهذا تهكم، أي كان غنياً عنه، وبفضوله وقع فيه.

ومما يجري بهذا المجرى قول الشاعر:

إذا ما استبالوا الخيلَ كانتْ أكفُّهمْ ... وقائعَ للأبوالِ والماءُ أبردُ

يقول: كانوا أغنياء عما صاروا إليه وكان الماء أبرد لو لم يتجاوزوه أشرا، وهذا تهكم واستهزاء.

جاء فلان وقد ابتدَّه رجلان، إذا كان كل واحد منهما قد أخذ بأحد شقيه، وما يقدره على فلان إذا ابتدَّه إبناه أو أخواه.

الخلف محركة هو: البدل، وإذا سكنت فهو: النَّسل صالحاً كان أو طالحاً، وقال الله تعالى:) فخلفَ من بعدهم خلفٌ (.

وقال:

وبقيتُ في خلفٍ كجلدِ الأجربِ

وأنشد بعضهم:

ومأقطُ صدرٍ من ربيعةَ صالحٌ ... وطار الوشيظُ بينهمْ والزَّعانفُ

الزعانف فضول الأدم وما يسقط من حواشيه، والوشيظ واحدته وشيظة وهو: عُويد يسدُّ به الثلمة يكون في القدح إذا شعب ليس منه، يقال: وشيظة ووشيظ ووشائظ، وحكي أن رجلاً شكى إلى الفرزدق زوجته، فقال: اكسُها بالمحرِجات، يقول: طلقها ثلاث تطليقات، ويقال: احْرِجها عليك أي طلقها.

الأحابيش: أخلاط من الناس على غير نسب يجمعهم، ومنهم أحابيش كنانة، أي من ضوى إليهم الناس وحالفهم، وخصوا بهذا الاسم، كما قيل لأسد وغطفان الحليفان، وفي العرب قبائل كثيرة قد تحالفت ولم يخصوا بالحلف، وهذا الاشتهار قد اتفق في الآحاد، ألا ترى أنه متى قيل ابن عباس لم يسبق إلى الاسم به إلاّ عبد الله، وكذلك إذا قيل ابن الزبير وابن أبي طالب أريد به عبد الله وعلي عليه السلام، وإن كان لكل منهما أخ مشارك في النسب.

ذكر ابن الأعرابي أنه سئل بعض فصائحهم: أيلقح الجذع؟ فقال: لا، ولا يدع، يريد أنه بعيث، قيل: فهل يلقح الثِّني؟ قال: نعم، وهو أنِيّ، أي: بطيء، قيل: فهل يلقح الرِّباع؟ قال: نعم، برصِّ ذراع. قال: ويقال: إذا اجتمع في عانة رباع وقارح أخرج الرِّباعي القارح.

قال الأصمعي: سمعت قاصاً بالبصرة يقول: المؤمن ثوبه عِلقه، ومرقته سُلقة، وسمكته شلقة، وغذاؤه فلقة، قال: العلقة والبقير شيء واحد، وهو: أن يؤخذ الثوب فيبقر ثم يلبسه الرجل، وليس له كمَّان ودخاريص.

قال: سألت امرأة من العرب عن الشِّغاف، فقالت:

ذعْلبةٌ ليسَ لها وِصافُ ... واللهُ لا يأخذُها خُفافُ

يعجزُ أوْ يحينُ أو يخافُ ... يبغونَها وهي لها شِغافُ

والشِّغاف داء يكون تحت الشَّراسيف.

قال: ويقال ضرام الفتنة الكلام، ويقال: رأيته يأكل أكل الجائع المقرور.

ومن أمثالهم: ليس الرِّيُّ عن التَّشاف، يريد ليس الريّ أن يشرب كل شيء في الإناء، والتَّشاف تفاعل من الشفاهة، ويقال: فلان إذا شرب اشتفَّ، وإن أكل لفَّ.

ويقال: قد تصابَّ إناءه، إذا أخذ صبابته، ويقال: ما بقي من الدنيا إلاّ صبابة كصبابة الإناء يتصابُّها صاحبها.

أسماء القداح: الفذّ والتوأم والرَّقيب والحِلس، ويقال: الحِلس على مثال الكتف وهو الأصل، والنَّافس والمصفح والمعلَّى، فهذه ذوات الأنصباء، والسَّفيح والمنيح والوغد لا أنصباء له، ولكن كلما خرجت ردَّت في القداح، تكثيراً لها.

حكى الأصمعي، قال: كان رجل من العرب دخل مع إخوة له غاراً، فسقط عليهم الغار، فهلك أخوته وأفلت هو، وتزوج في قوم من العرب بعد ذلك، وأحدث فيهم حدثاً، فخافهم، فغبر عنهم دهراً غائباً، ثم انصرف إليهم، وأشكل عليهم معرفة أهله، فجعل يقتري الظعائن ويقول: هل سمعت ببني أمٍّ ماتوا غمّاً إلاّ فتيّاً ما فعل فعلة، ما رأى خالاً فعلها ولا عمّاً، فيقول: إليك عني، فلم يزل كذلك حتَّى مر بامرأته فعرفته، فألقت إليه ابنه وكانت بابنه شامة فقالت: الأشيم فخذنه، وأخانا فدينه، والقوم فاحذرنه. فاحتمل ابنه فانطلق، فقال للأشيم: ما ترى؟ وهو الذي به شامة، فقال: أرى عوطاً بوطاً يجري في لباتها السوط، يعني باللبات لبات الفرس، والغوط: ضرب من الركض والطلب، والبوط: اتباع العوط. قال له: انظر ما ترى؟ قال: أرى على جارك واركاً مستمسكاً أو هالكاً، ثم قال له: ما ترى؟ قال: أرى حدرة بدرة من خيلنا أو خيل آل مرَّة، فقال: انزل حدرة بدرة، أي: حادرة بادرة.

ومن أمثالهم: افعل ذاك ما دام سرحك آمناً، وتفسير هذا ما روى بعضهم أنه قال: فلان لا ينزع عن كذا حتَّى يصيبه الله بصاعقة أو بقارعة ينفر منها شأوه. وللشاعر في طريقته قوله:

إذا زُفَّ راعي البهْمِ والبهمُ نافرُ

مسألة من الأبنية زعم الخليل أنه ليس في كلامهم على مثال فعالَّة غير ثلاثة أحرف وهي: حمارَّة، وصبارَّة الشتاء، وزعارَّة الخلق، وقد جاء: أتيته على حبالَّة ذلك، أي: على حين ذلك، وألقى عليه عبالَّته، أي ثقله، وجاء القوم بزرافَّتهم، أي: بجماعتهم، وقد حكى زرافي أيضاً، يريد الزُّرافات، ويروى عن الحجاج أنه قال: إيَّاي وهذه الزَّرافي، أي: الجماعات.

وهذه جرابَّة فلان، أي: عياله إذا كانوا مسانَّ، ويقال: جربَّة أيضاً، وأنشد الأصمعي:

جرَبَّةٌ كحُمرِ الأبَكِّ ... لا ضرَعٌ فيهم ولا مذَّكُ

وفيه مذارَّة: أي تبذير مال، وفيه دعارَّة: أي خبث، ومنه العود الدَّعر وهو الكثير الدخان، والحمارَّة هبريَّة الرأس.

فصل

مما نسب الخليل فيه إلى التصحيف أو التقصير

زعم أن الغين معجمة والهاء والميم لا تجتمع في كلمة، وأنكر الهميغ الموت، وقال: هو الهميع بالعين، وهذا صحيح مروي، واشتق من همغ رأسه أي شدخه، ويقال: انهمغ الشيء، أي: انفسخ، وقُرحة منهمغة أي مبتلة.

ويقال للظلمة: غيهم وغيهب. وذكر في باب الحاء والقاف القارح: القوس التي بان وترها من مقبضها، وإنما هو الفارج.

وفي باب الخاء المعجمة والصاد: الخِصب، الحية، وإنما هو الخِضب.

وفي باب الحاء غير المعجمة: الحبير، الزَّبد، وإنما هو: الخبير بالخاء معجمة، قال الهذلي:

تغذَّمنَ في حافتيهِ الخبي ... رَ وهَى خرجُهُ واستُبيحا

تغذَّمنَ أي: مضغن، والخبير: الزبد، وهذا مثل ضربه للسحاب، ومعنى: وهى خرجه، يعني: ماءه، كأن الأرض استباحته وذهبت به.

وقال في باب الذال معجمة والباء: شيء ربيذ أي: منضود، وإنما هو: رثيد بالثاء والدال.

وقال في باب الزاي والراء مع الباء: كبش زبير، أي: أعجر مملوء بتقديم الزاء، وإنما هو: ربيز بتأخيرها.

وقال في باب الكاف والتاء مع الميم: التَّكمَة مشي الأعمى بلا قائد، وإنما هو: التَّكمَّهُ من الأكمه، وهو الذي يولد أعمى.

وذكر في باب القاف والياء في اللفيف: تقيَّأت المرأة لزوجها إذا تثنَّت عليه متغنِّجة، وإنما هو تفيَّأت بالفاء.

وقال في باب المعتل: الملقات رأس الجبل على مثال مفعلة وجمعها الملاقي، وإنما الملقَات وجمعها ملقة على مثال علقة.

وزعم أن العين والحاء لا يأتلفان في كلمة أصلية الحروف، وقد وُجد، يقال: اتْعنجح الماء بمعنى انفجر.

بيت معنى

للكميت بن زيد:

خرجتُ خروجَ القِدحِ قدحِ ابنِ مقبلٍ ... على الرَّغمِ من تلكَ النَّوابحِ والمُشلي

عليَّ ثيابُ الغانياتِ وتحتَها ... صريمةُ أمرٍ أشبهتْ سلَّة النَّصلِ

كان خالد القسري سجن الكميت فحضرت امرأته السجن، فلبس ثيابها وخرج متشبهاً بها ومتنكراً، فسلِم وتخلَّص.

وقدح ابن مقبل يضرب به المثل في الفوز، وضربه الكميت مثلاً لنفسه حين خرج من السجن، وكان قدح ابن مقبل فوَّازاً معروفاً بذلك، قد أجاد نعته في شعره وكرر ذكره، وكانت العرب تستأجره وتستعيره وتتيمن به، وكتب الحجاج إلى زيد بن الحصين وكان على أصبهان: مثلي ومثلك قدح ابن مقبل. فلم يدر زيد ما أراد، حتَّى لقي رجلاً شامياً فسأله عنه فقال: يخبرك أني سأظفر بك، وكان الكميت لما هرب من السجن لحق بمسلمة، فقال:

يا مسلمَ بنَ أبي الوليدِ ... لميَّتٍ إن شئتَ ناشِرْ

قطعَ التنائفَ عابراً ... بك في وديقةِ باجِرْ

مسألة إعراب

قولهم: خلق الله الزَّرافة يديها أطول من رجليها، يديها بدل من الزرافة وأطول: انتصب على الحال، وإنما جاز كونه حالاً لما كان ينتقل في الطول فيتطاول شيئاً بعد شيء، كما قال الشاعر:

ومالٍ بقنوانٍ من البسرِ أحمرا

فنصب أحمر على الحال، لما كان القنوان ينتقل في الحمرة، لولا ذلك لما جاز؟ وأما قوله تعالى:) ويومَ القيامةِ ترى الذين كذَبوا على اللهِ وجوههُم مسودَّةٌ (، وجوههم يرتفع بالابتداء، ومسودة: خبره، وهو بمنزلة قولك: رأيت زيداً أبوه أفضل منه، وإنما جاز فيهما لكون الضمير راجعاً إلى الأول من سببه، ويجوز أن تنصب وجوههم على أن تجعله بدلاً من الذين، ويكون مثل قول القائل: رأيت متاعك بعضه أحسن من بعض، ولا مانع يمنع من جوازه، إلاّ أن القرّاء أجمعوا على نزول القراءة به من دون علة.

مسألة من التنزيل

قوله تعالى:) وكلُّ إنسانٍ ألزمناهُ طائرهُ في عنقهِ ونخرجُ له يومَ القيامةِ كتاباً يلقاهُ منشوراً اقرأ كتابكَ كفى بنفسكَ اليومَ عليكَ حسيباً (، قوله: طائره يعني عمله من الخير والشر، وإنما صح تسمية العمل طائراً لأنه يسبق عامله فكأنه يطير منه فلا يملك فيه لحوقاً وإدراكاً، ويقال على هذا: فجرٌ مستطيرٌ، وغبار مستطار، قال الخليل: هكذا كلام العرب.

وقال البعيث:

فطوتْ بهِ شجْعاء قراء جُرشعاً ... إذا عدَّ مجدُ العيشِ قدَّمَ بينَها

يريد فثُّ بها، وسبقت بها. ويشبه هذا قولهم: الفرُط: وهو ما سبق من عمل أو ولد يكون لك أجره. ويقال: فرط له ولد، أي يسبق إلى الجنة، وفي الدعاء: اللهم اجعله لنا فرُطا، أي أجراً متقدماً، وأصله: الفارط الذي يسبق القوم إلى الماء، قال لبيد:

فوردْنا قبلَ فُرَّاطِ القطا ... إنَّ منْ وِرديَ تغليسُ النَّهلْ

ومعنى:) ألزمناهُ طائرهُ في عنقهِ (، ألزمناه جزاء عمله الذي قدمه، فهو سابقه إن خيراً فخيراً، وإن شراً فشراً، متقلداً به وملازماً له، فموضع قوله: في عنقه نصب على الحال، وهم يولعون بذكر العنق والرقبة ويكنون بها عن جملة الإنسان، هذا قولهم: أعتق فلان رقبة، في المملوك، وهذه الأمانة في عنقه، ويقولون: قلده السلطان كذا في الولاية، ورهن مقلده بكذا، كما قالوا: شغل ذمته بكذا، وقال بشر يصف غدرة حاذر:

وقُلِّدها طوقَ الحمامةِ جعفرُ

وأنشد الأصمعي قول ابن أبي ربيعة وقد كنى عن العنق:

إنَّ لي حاجةً إليكِ فقالتْ ... بينَ أُذنِي وعاتقي ما تريدُ

أي في عنقي، وهذا الذي ذكرناه عليه أكثر المتقدمين، وقد شرحته جهدي.

وذكر بعضهم أن المراد بقوله: طائره، ما تطير الإنسان إليه أو منه من محبوب أو مكروه، قال: وهذا كما كانت العرب تذهب إليه في زجر الطير والاستدلال به على الأمور الكائنة، قال الله عز وجل حاكياً عن قوم في مخاطبة نبيهم لما تطيروا وفي جوابه لهم:) قالوا اطَّيَّرنا بكَ وبمن معكَ قالَ طائركم عندَ اللهِ (، وعلى هذا قول المسلمين في التبرؤ من الزجر: اللهم لا طير إلاّ طيرك، ولا خير إلاّ خيرك، ولا رب غيرك. فيكون المعنى: كل إنسان ألزمناه جزاء طيرته في عنقه، ويكون مجازه وبيانه على ما ذكرت، وهذا الكلام فيه ردع شديد وزجر عن مواقعة الذنوب بليغ، لأن المراد إذا علم لزوم علمه له وتيقن مواقعته عليه ارعوى عن كثير مما يهوى، وقد فسر الله تعالى ذلك وبين الحال فيه بقوله:) ونخرجُ يومَ القيامةِ كتاباً يلقاهُ منشوراً (، فقوله:) نخرج له كتاباً (، انتصب كتاباً على أنه مفعول، ودليل الآية قوله:) هذا كتابنا ينطقُ عليكم بالحقِّ (، وقوله:) يلقاهُ منشوراً (في موضع الصفة لكتاب، ودليله قوله:) وإذا الصُّحفُ نُشرتْ (، فأما قوله:) اقرأ كتابكَ (فهو على إضمار القول، كأن المراد: ونقول له اقرأ كتابك، أو: ويقال له اقرأ كتابك.

ويروى عن الحسن أنه قال: لقد أنصفك يا ابن آدم من جعلك حسيب نفسك، وإنما أعلمنا جل جلاله أمر الحفظة ومن يحصي علينا أعمالنا، التقوى الرواعي في الارتداع عن المعاصي، وقوله:) كفى بنفسكَ اليومَ عليكَ حسيباً (، إن قيل: هلا قال عليك ولك، لأن الكتاب المتوعد به لا شك اشتمل على ما له من الحسنات، وعليه من السيئات، ولأن الوعيد إذا قارنه النَّصفة وبنى عليها، كان أبلغ في الوعظ، فالجواب: أن لفظة عليك يجوز أن يتعلق بقوله: اقرأ، كأنه قال: اقرأ كتابك عليك كفى بنفسك حسيباً، وموضع بنفسك رفع على أنه فاعل كفى، وحسيباً انتصب على الحال أو التمييز، ولولا مجانبة التكرار لكان الأوجه أن يقال: اقرأ كتابك على نفسك، لأن الأكثر في الاستعمال في باب الأمر أن يقال: اتخذ لنفسك كذا، واجعل لنفسك كذا، لمنه كره أن يقال: اقرأ كتابك على نفسك كفى بنفسك، فهذا وجه. ويجوز أن يتعلق بقوله: كفى، كأنه قال: كفى نفسك عليك من حسيب، ويكون موضع عليك نصباً على الحال، أي: كفى نفسك وهي عليك لا لك ومعك، ويكون المعنى مثل ما اشتمل عليه قوله في موضع آخر:) يومَ تشهدُ عليهم ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون (، ويجوز أن يتعلق بقوله: حسيباً، وهو في موضع الحال، أي: كفى نفسك مستوفياً عليك اليوم، لأن معنى الحسيب والمستوفي والمحاسب واحد، وما أعلم أحداً شرح هذه الآية بمثل ما ذكرنا.

مسألة من الأبنية

قال سيبويه: لم يجيء من المعتل اللام مفعِل بكسر العين، فإنما جاء بالفتح نحو: المرمى والمدعى والملمى، وقال الفراء: قد جاء عليه حرفان وهما: مأقي العين ومأوي الإبل. أما تمثيل مأق بأنه مفعِل فغلط، وذاك أن في هذه الكلمة عدة لغات: موق، ومأق، وماق، في وزن قاض، وكل ذلك يشهد بأن الميم من الكلمة فاء الفعل، ولا يجوز أن يكون مما فيه لغتان فيكون الحرف الواحد في إحدى اللغتين منهما أصلياً في الأخرى زائداً، لأن ما هذا سبيله لا بد من دلالتهم عليه في تصاريف الكلمة، ولم يسمح في شيء يوجب خلاف ما ذكرت.

وأما مأوي الإبل، فغريب لا يعتدُّ به، فإن قيل: فمن اللغات فيها مأقى، فعلى هذا ما وزنه؟ قلت: وزنه فعلَى، وكأن الزيادة فيه دخلت على فعل فصار فعلى، ويكون زيادة الهاء في آخر هذا كزيادة الألف في قبعثرى، والنون في كنهبل، وقرنفل، وانقحل، في أنها لا تكون للإلحاق ولكن اتحد بها بناء متجدد.

فأما مأق في وزن قاض فهو فاعل مقلوباً، أصله مائق، فقدم القاف على الهمزة فصار مأقي، وألزموها الإبدال تخفيفاً كما فعل بالذّريَّة والدَّويَّة وما أشبهها، ويشهد لهذا ما حكاه أبو زيد من تخفيف الهمزة فيه، وأنه جمع على مواق ومواقي جميعاً.

بيت معنى

للراعي:

أقامتْ بهِ حدَّ الرَّبيعِ وجارُها ... أخُو سلوةٍ مسَّى بهِ اللَّيلُ أملحُ

قوله: أخو سلوة، يريد الندى، أي كانت في سلوة من العيش يسليهم عن غيره، يقول: أقامت بهذا المكان في قوة الربيع يجاور الندى، وقوله: مسَّى به الليل، أي جامع الليل، وأملح: أبيض في أسود، وهو من نعت أخي سلوة، والمعنى: أقامت ما ساعدها الندى ثم ارتحلت.

مسألة إعراب

إن قال القائل: من أين جاز أن يقال: عاماً أول، ولم يجز شهراً أول، ولا يوماً أول، ولا سنة أولى؟ قلت: إن قولهم: عاماً أول مما عمدوا فيه إلى تخصيصهم بشيء لا يكون في غيره اعتماداً على التعارف، لأن المعنى عاماً أول من عامي، فلما كانت الكلمة متداولة، وكانت الحاجة إلى كثرة استعمالها ماسة حذفوا واختصروا وأوجزوا واقتصروا، معتمدين على علم المخاطب، والنية الإتمام، والفصل بين هذا وبين ما بني على الضم، وهو أبداً بهذا أول، أن المبني على الضم قد جُعل غاية متضمنة لمعنى المحذوف منه، وهو في النية ثابت، ولم يجعل المبني غاية الكلام ولا متضمناً لمعنى الملغي منه، بل غاية الكلام ما في النفس، فهو في حكم المنطوق به معه، وإن حذفت تخفيفاً، فهو كما حذف في قول الراجز:

خالطَ مِنْ سلمَى خياشيمَ رفَا

ألا ترى أنه لما نوى الإضافة قال: وفا، فحذف من اللفظ وأثبتها في النية، حتى صار في حكم المنطوق به، ولو أراد الإفراد لم يجز إلاّ فاها، ومثل هذا الاختصاص قولهم: اليوم فعلت كذا، جعلوه ليومك الذي أنت فيه، ولا يقولون: لقيته الشهر ولا السنة، وقد قالوا أيضاً: لقيته العام، وإن كان العام بمعنى السنة، قال الشاعر:

يا أيُّها العامُ الذي قد رابَني ... أنتَ الفداءُ كذكرِ عامٍ أوَّلا

فإن قيل: ولم احتيج إلى من حتَّى قدرت في قولك عاماً أول، إن أصله عاماً أول من عامي، قلت: إنما افتقر الكلام إلى من لأنهم أرادوا أن يتبينوا في أفعل هذا ابتداء الزيادة من أي شيء كان ليعرف حده ومبتدؤه، فمعنى قولك: زيد أفضل من عمرو، أن ابتداء زيادة فضله من فضل عمرو، فهو حده وأوله، وكذلك قولهم: عاماً أول، فعلمه.

مسألة من الأثر

روي عن عبد الله بن مسعود أنه قال: طول الصلاة وقصر الخطبة مِئنَّةٌ من فقه الرجل، قوله: مئنة، قال الفراء: يقال أنت عمدتنا ومئتنا، أي نقصد إليك حوائجنا، وأصله: من أنَّ في الأمر يئن، وذنَّ يذنُّ، إذا تردد فيه وعاود بنجز قضائه، ويقال أيضاً: أنَّنَ ودنَّنَ، وحكي عن بعض بني قيس أنه قال: تأنَّنتُ فلاناً، بمعنى: تنصَّفته، أي طلب عنده النصفة من تبعة لي قبله، وقال اللحياني: المئنَّة: المكانة، قال:

إنَّ اكتحالاً بالنقيِّ الأفْلجِ

ونظَراً في الحاجبِ المُزجَّجِ

مئنَّةٌ من الفعالِ الأعوجِ

أي مضنَّة، وقال أبو زيد: إنه لمئنة أن يفعل كذا، أي خليق، وقال أبو مالك المسجد مني مئنة، أي مكان، وأنشد لدكين:

يُسقى على درَّاجةٍ نخوسِ ... معصوبةٍ بينَ ركايَا شوسٍ مئنَّةٌ من قلَتِ النفوسِ

أي: مكان من ملاك النفوس.

الكسائي: حضرني رجل من الأعراب يكنى أبا زيد، وكان فصيحاً، فقال: إني لأرى مجلسك هذا مئنة للعلماء، أي معدناً، وأنشد:

فتوضحُ منها فالقنَانُ مئنَّةٌ ... فثهلانُ منها مربعٌ ومصيفُ

وروى أبو سعيد: دخل رجل ذو مئنَّة بوزن معنَّة، ورجال ذوو مئنَّة، أي: مجلوب للخير.

وأنشد أبو مالك في المئنة:

ومنزلٍ مِنْ هوى جملٍ نزلتُ بهِ ... مئنَّةُ من مراصيدِ المَئنَّاتِ

فصل

فوائد ونكت

الأصمعي: للطعن الوخض، الذي إذا طعن لم ينفذ، والتَّصريد: الطعن النافذ، والمصدر منه الصَّرد. قال الشاعر:

فما بقِيا عليَّ تركتُماني ... ولكنْ خفتُما صرَدَ النِّبالِ

ويقال: أصرده إصراداً، ويقال: طعن وطعنات نواجم، وهي التي إذا طعنت نفذ منها شيء قليل من الشق الآخر، ينجم القرن والسن حين طلع، ويقال: وخطه وخطَات، إذا طعن طعناً خفيفاً شبه الاختلاس، قال:

وخْطاً بماضٍ في الكُلى وخَّاطِ

ويقال: طعن لزّ، وطعن شزر، فالشزر ما كان عن يمين وشمال، ويقال في مثله: إذا كان الأمر مستقيم الأمر: سُلكى، وما سُلكى، وليس بمخلوجة، وليس بسلكي، وقال امرؤ القيس:

نطعنُهمْ سُلكى ومخلوجة ... كرَّاكَ لأمينِ على نابلِ

أي: رام.

وكان الأصمعي يقول: كانوا فيما مضى يرمون بسهمين سهمين، ثم يرد السهمان على الرامي، واللأم مهموز هو السهم، وإنما أخذ من الملتئم في الريش. وحارثة بن لأم من هذا، وقال الشاعر:

يظنُّ النَّاسُ بالملَكَيْ ... نِ أنَّهما قد التأما

فإنْ تسمحْ بليمِهما ... فإنَّ الأمرَ قد فقَمَا

اللَّيم: الصلح، سمي به لأنه لا يكون إلاّ عن التئام.

قال الأصمعي: أوقات للعرب تذكرها، منهن زمن الفِطحل، يقولون: كان ذلك زمن الفِطحل، إذ السِّلام رطاب، ومنهن أعوام الفتَق قال رؤبة:

لمْ تُرْجَ بعدَ أعوامِ الفتَقْ

وإنما يشيرون به إلى زمن الخصب والخير، ومنهن أزمان الخُنان، وهذا يشيرون به إلى الشر والآفات، وقال جرير:

وأكوِي النَّاظرينَ من الخُنانِ

يضربه مثلاً، لأن البعير إذا أصابه الخُنان كوي ناظراه وهما عرقان.

الأصمعي قال: القربة للماء، والوطب سقاء اللبن، والنِّحْي بكسر النون للسمن والرُّبّ، والزِّق وهو المزفت للخمر والخل وما أشبههما، ويقال: ما الصفا الزلال الذي لا تثبت عليه أقدام العلماء، فيقال: الطمع.

قال: وكان ابن هبيرة يتعوذ من الحيات والعقرب والعِلج إذا استغرب.

قال: وكان بلال يتعوذ من الشيطان والسلطان، قال: ويقال لأذن الفرس: كأنه سنف مرخة صفراء، والسِّنف: بيت يخرج في أصل الرخ كهيئة الثمر، وإذا جف ثمره وتحاتَّ عنه بقي السِّنف محدودباً أجوف مؤلَّلاً كأنه قذَّة سهم، فشبهت الأذن به.

دخل رجل على معاوية فسأله عن عطائه، فقال: ألفان وخمس مائة درهم، فقال: ما بال العلاوة بين الفودين؟ فألقى خمس المائة من عطائه وأثبت له ألفين. والفودان وعاءان كبيران يحملان على البعير أو الدابة، ويعليان بوعاء آخر دونهما يجعل بينهما، وهذا مثل يضرب، والفودان: شقَّا الرأس أيضاً.

الأصمعي: يقال: الدافع: الماء في الوادي من الجبل أو كل مشرف وإذا كان دفع صغير فهو شعبة، وإذا كان أعظم فهو تلعة، فإذا زاد عليها فهي ميثاء، قال: وما كان في القرار فهو قريِّ، والمِذنب: إذا دفع في الروضة.

قال أبو زيد: ما له سعنة ولا معنة، أي: ما له قليل ولا كثير، وقيل: السَّعنة: الودك، والمعنة: المعروف، ومنه الماعون، وقد يحذف الهاء منهما فيقال: ما له سعن ولا معن، ولا عافطة ولا نافطة، فالعافطة: الضائنة، والنافطة: الماعزة، وهي التي تنثر بأنفها. وما له سارح ولا رائح، فالسارح الذي يغدو، والرائح: الذي يروح. وما له هبع ولا ربع. وما له زرع ولا ضرع. وما له ثاغية ولا راغية، يعني الشاة والبعير. وما له سبد ولا لبد. وما له خير ولا مير، من مارهم يميرهم، والهبع الذي ينتج في آخر الزمان، ويقال: عفط بضأنه يعفط عفطاً.

قال الأصمعي: السيف الخشيب عند الناس الصقيل، وإنما هو الذي بُرد ولم يليَّن، ويقال: أفرغت من السيف؟ فيقول مجيباً له: قد خشبته، وكذلك النبل يخشب ثم يخلق، فالخشب: البري الأول، والتخليق: تليينها عند الفراغ منها، ومنها الصفاة الخلقاء وهي اللينة، ويقال: سيف مشقوق الخشيبة، وهو تعريضه عند طبعه، ثم تشقه فتجعل فيه سيفين، ويقال: فلان يخشب الشعر، أي: يمرُّه كما يجيء ويتفق ولا يتأنق فيه، وقال العجاج:

وقترةٍ منْ أثَلٍ ما تخشَّبَا

يقال: تخشب الأثل منه قترة، والتخشب ألا يلقي عن الخشب شعبه وزوائده وهذا كما يقال: خرج يتقضَّب القضبان، وخرج يتكمَّأ الكمأة، وقال بعض حكماء العرب: إن صلاة الأوابين حين ترمض الفصال. ويقال: فلان مخضَّم، وفلان مقضَّم، والمخضم أحسنها عداء وألينها عيشاً، وقد قضم يقضم، وخضم يخضم.

وحكي عن أبي ذر رحمه الله: تخضمون ونقضم والموعد الله. ويقال: جاد ما حبك ثوبه يعني النسيج، ومن الأمثال: الصريح تحت الرغوة.

وحكي عن ابن عمر عن الحسن أنه قال: حادثوا هذه القلوب فإنها سريعة الدثور، وأقذعوا هذه النفوس فإنها طُلعة.

الأصمعي: أخبرنا الوليد بن القاسم، قال: قال معاوية: وما كان في الشباب شيء إلاّ وقد كان فيَّ منه مستمتع، ألا أني لم أكن نُكحة ولا صُرعة ولا سبّاً، أي: لم أكن شديد السِّباب.

مسألة من التنزيل

قوله تعالى:) وإذا أردنا أنْ نُهلكَ قريةً أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحقَّ عليها القول، فدمَّرناها تدميرا (، قرئ: أمرنا بالتخفيف، فيجوز أن يكون من الأمر ضد النهي، ويجوز أن يكون بمعنى كثرنا، يقال: أمرت الشيء فأمر، أي كثرته فكثر، وجاء في الخبر: خير المال مهرةٌ مأمورة أو سكَّة مأبورة.

وأمَّرنا بالتشديد يكون من الإمارة والتسليط، وآمرنا بالمد يكون بمعنى كثرنا لا غير، يقال: أمر القوم وآمرهم الله فيكون زيادة الألف للنقل والتعدية، وجعل أكثر الناس جواب إذا أمرنا على وجوهه المذكورة، وفي كل وجه سؤال، فمن ذلك: إذا سئل في أمرنا بالتخفيف كيف يجوز إرادة الله تعالى إهلاك قوم قبل أن يأمرهم فيقابلوا أمره بالعصيان والفسوق؟ والجواب: أن ذكر الإرادة مجاز، وحقيقته ما سبق في علمه من استحقاقهم للهلاك، وهذا كما يقال: إذا أراد التاجر إفلاسه اشترى بالنقد وباع بالنسيئة، ومن الظاهر أنه لا إرادة منه لذلك، ووجه آخر وهو إذا أردنا في المستقبل إهلاك قرية أمرنا مترفيها في الحال فعصوا، لأنه على هذا يزول منه ما أنكره السائل.

وسئل في أمَّرنا بالتشديد كيف يجوز أن يهلكوا ويسلطوا حتَّى يفسقوا فيهلكوا؟ وهل يكون ذلك إلاّ معونة من الله تعالى في العصيان والفسوق ووجوب الإهلاك؟ والجواب أن الله تعالى يؤَمرهم أن يذر الخير عليهم والنعيم لهم ليشكروا ويعبدوا فإذا خالفوا واستكبروا وعتوا وفسقوا فإنما أتوا من سوء اختيارهم، وعوقبوا وأهلكوا بما قدموا من ذميم أفعالهم، ومثل هذا السؤال والجواب يتأتيان في قراءة من قرأ آمرنا بالمد والتخفيف، وقال بعضهم: جواب إذا محذوف، وقوله:) أمرنا مترفيها (مع ما انعطف عليه صفة، كأنه قال: إذا أردنا ذلك سهل ولم يتعذر.

وقيل: الفاء من قوله: فدمَّرناها زيادة، لأنه الجواب، والمعنى: إذا أردنا إهلاك قرية صفتها أنَّا أمرناها بالطاعة ففسقوا ووجب عليها القول والحكم لما سبق في علمنا بها وبسوء مصيرها دمَّرناها، ومما يدل على جواز زيادة الفاء ما حكاه الأخفش من قول بعضهم: أخوك فوُجد، يراد وُجد، وقول الشاعر:

وإذا هلكتُ فعندَ ذلك فاجْزَعي

ألا ترى أنه لا بد من جعل إحدى الفاءين زيادة. وأجود من هذه الوجوه عندي وأبعدها من الاعتراض والقدح أن يقال: إن الفاء من قوله: فدمَّرناها هي التي يجاب بها الشرط لا العاطفة ولا الزائدة، وذاك أن إذا لما يتضمن من معنى المجازاة يجاب بما يجاب به إن وأخواتها، وإن لم تعمل عملها في الأغلب، وهي تجاب بالفاء لما بعده من المبتدأ والخبر والفعل، وإنما احتيج إلى الفاء لمخالفة الجزاء الشرط، فإذا روى الفعل بعد الفاء فليعلم أن المبتدأ محذوف، ولولا ذلك لما احتيج إلى الفاء، والفعل المستقبل والماضي في ذلك سواء، يشهد لذلك قول عمرو بن المخلاة:

فمن يكُ قدْ لاقَى منَ المرجِ غبطةً ... فكانَ لقيسٍ فيه خاصٍ وجادعُ

وإذا كان كذلك، وكان قوله: أمرنا مترفيها، بما عطف عليه صفة للقرية، فتقدير الآية: إذا أردنا إهلاك قرية مأمورة بالطاعة، عاصية فاسقة، قد حق القول عليها، فنحن ندمرها تدميراً. ومثل ذلك قول الله تعالى:) ومن عادَ فينتقمُ اللهُ منهُ (،) ومنْ كفرَ فأُمتِّعه قليلاً (،) وإنْ يمسسْكمْ قرحٌ فقد مسَّ القومَ قرحٌ مثلُه (، ألا ترى أنه رفع الفعل المضارع بعد الفاء لكونه مبنياً على المبتدأ، وأنه لو أراد أن يكون الجواب بالفعل لاستغنى عن الفاء وجزم الفعل، ولكن التقدير: من عاد فهو ينتقم الله منه، ومن كفر فأنا أمتعه قليلاً، وإن يمسسكم قرح فالأمر والشأن مسَّ القوم قرح مثله، وإذا كان الفاء من قوله: فدمَّرناها، فالجواب: سلمت الآية من الاعتراضات المذكورة، وسهل طريقها، فاعلمه إن شاء الله.

مسألة من الآثار

في حديث أم زرع أن المرأة الخامسة قالت: زوجي إن أكل لفَّ، وإن شرب اشتفَّ، ولا يولج الكفَّ ليعلم البثَّ. قال أبو عبيد: اللّف في المطعم الإكثار منه مع التخليط من صنوفه، والاشتفاف في الشرب أن يستقصي ما في الإناء ولا يُسئر فيه، أُخذ من الشفافة، وهي البقية تبقى في الإناء من الشراب، ويقال في المثل: ليس الرِّيُّ عن التَّشاف.

وقوله: ولا يولج الكف ليعلم البث، أحسبه كان يجدها داء وعيباً تكتئب له، لأنَّ البث الحزن، فكأنه لا يدخل يده في ثوبها ليمس العيب فيشق عنها، تصفه بالكرم، قال أبو محمد القتيبي: على أنها قد ذمته في اللفظين الأولين، لأنها وصفته بالشر والبخل فيهما، ومدحته في الثالث، لأنها وصفته بالكرم، فكيف يجمع بينهما، فلا أرى القول إلاّ ما قال ابن الأعرابي، فإنه رواه: زوجي إن أكل لفَّ، وإن شرب اشتفَّ، وإن رقد التفَّ، ولا يدخل الكفَّ فيعلم البث، وفسره قال: أرادت أنه إذا رقد التف ناحية ولم يضاجعها، ولم يمارس ما يمارس الرجل من المرأة إذا أراد وطأها فيدخل اليد في ثوبها ويعلم البث، ولا بث هناك غير حب المرأة دنو زوجها منها، ومضاجعتها إياه، فكنَّت بالبث عن ذلك، لأن البث كان من أجله.

قال القتيبي: وهو كما قالت امرأة من كنانة لزوجها تعيره: إنَّ شربك لاشتفاف، وإن ضجعتك لانجعاف، وإن شملتك لالتفاف، وإنك لتشبع ليلة تضاف، وتأمن ليلة تخاف، ومثله قول أوس:

وهبَّتِ الشَّمألُ البليلُ وإذْ ... باتَ كميعُ الفتاةِ مُتفِعا

أي ملتفاً ناحية لا يضاجعها، والذي أقوله: إن ما أنكره على أبي عبيد من الجمع بين المدح والذم في الصفة على مقتضى ما فسره ليس بمنكر، لأن من يعدد خصال الموصوف قد يجمع بين ما يكون مدحاً وبين ما يكون ذماً، وهذا، كما حكي عن لقمان في وصفه أخاه: يهب البَكرة السَّنمة وليست فيه لعثمة، إلاّ أنه ابن أمة، وقد فسره القتيبي هذا في كتابه في حديث ولد عاد فقال: التلعثم التوقف عن الشيء حتَّى يفكر فيه، وأراد أنه ليس في خلاله شيء يتوقف عنه وعن مدحه به إلاّ أنه ابن أمة، فأما ما رواه عن ابن الأعرابي فهو أقرب وأشبه مما ذكره أبو عبيد. وأحسن منهما أن يجعل الكلام كله مدحاً، وتكون المرأة واصفة بعلها بسلاسة الطبع، وسهولة الجانب، وإيثاره في كل أحواله، موافقة أهله وإيناسهم، والبسط منهم، وإجمال موافقتهم، وترك التقزز معهم، وإظهار الاستطالة لكل ما يدنونه، والارتضاء لكل ما يعملونه، توصلاً إلى ارتفاع الحشمة من بينهم، في مواكلتهم ومجالستهم، ليطيب عيشه وعيشهم، وتزول الرقبة والتهيب عن جملتهم، فإن أكل تناول من كل ما يحضر وجمع بين ما يمكن، وإن شرب أتى على آخر ما يعب فيه، واستنفد كل ما في إنائه، وإن تخلَّى لا يتطلب ما يوجب الاهتمام له، ويجلب البثَّ عليه فيراه تشبك أصابعه ناقضاً بفكره طرق الهموم، وغامزاً بتتبعه مفاصل الأمور، ليعلم خافي البثّ، ويرد شارد الحزن، فهذا على ما ترى.

فأما في الزيادة التي في رواية ابن الأعرابي، وهو: إن رقد التفَّ، فالمراد به على العكس مما ذكر، وهو أن يلتصق بأهله متوشِّحاً به، يقال: ارتدى فلان فلاناً والتفَّ به، إذا عانقه وتلوى به، قال:

وكِلانَا مُرتدٍ صاحبهُ ... كارْتداءِ السَّيفِ في يومِ الوغَا

وقال أويس:

كأنَّ هرّاً جَنيباً تحتَ غِرزتِها ... والتفَّ ديكٌ برجليها وصيدينِ

فصل

ما جاء من أسماء الأجناس مضافاً في كلامهم إلى أسماء مواضعها وما يجري مجراها مما تشهدها

شيطان الحماطة. أيم الضَّال. سِرحان الفضاء. أرنب خلَّة. تيس حلَّب. قنفذ برقة. أسروع عقدة. جؤذر رملة. جداية حلَّب. جِنَّة عبقر. حمَّى خيبر. نخل مُلهم. وحش وجرة. جنُّ جيهم. بقر الخلصاء. ثعبان الحماطة. أسد غيل. ليث عثَّر. فزّ غيطلة. وحش تعشار. قطا الأجباب. رماح رُدينيَّة. نِصال يثرب. عقاب ملاع. حِزَّان الأُنيْعم. ثعالب أوالِ. نعام خطفة. وشي عبقر. حمامة أيكة. عُقاب تنوفى. عُقاب القواعل. كلاب الحوأب. صفائح بصرى. خزان البراهق. جِراء هبْوة. أرآم الصَّريم. ميس عمان. أرآم تُبَل. خمر عانة. نار الحُباحب. ماء المفاصل. تَريكة البَسيل. نخيل وبار. جنَّة البقَّار. ثور العراب. ضبّ إسحلة. أساود رمَّان. ثعبان الرمال. ذنب الحمر. جمر الغضا. تيس الرَّبْل. أثل سعيا. قصب حلبة. دوم عليب. حرباء تنْضُبة. قنا أطراف. ضبّ كديّة. ظباء تبالة. ذيخ الخليف. ضباع عريجة. قطا كاظمة. قردان موظب. ذبّ الرِّياد. دوْم بيشة. أراك نعمان. ملح بارق. تمر هجر. أحواض صدَّاء. أتان الضَّحل. ضبّ جندلة. جان العشرة. مساويك إسحا. أتان الثَّميل. صخرة الوادي. حية الوادي. سنف مرخ. فقع قرقرة. بيضة البلد. أسنَّة قعضب. وحش إصمت. شاة الإران. أسد ترج. جِنّ البديّ. بلدة الأصرمين. إرخ خبَّة. ضبّ السَّحا. خويّ خبت.

بسم الله الرحمن الرحيم

مسألة في ألفاظ الشمول والعموم

الحمد لله رب العالمين، والصلاة على النبي محمد وآله أجمعين، قال الشيخ الجليل أبو علي أحمد بن محمد بن الحسن بن الحسن المرزوقي أدام الله نعمته.

اعلم أن الأسماء التي تفيد الشمول والعموم لها أحكام ومواضع وشروط، فمنها ما يفيد ذلك البتَّة في موضع بعينه، ثم إذا فارق ذلك الموضع، إن كان مما يفارق، جاز أن يفيده وصلح له، وجاز أن يفيد غيره، ومنها ما الأولى به أن يفيد الوحدة والانفراد، ثم إذا اقترن به لفظ أو حال أفاد الشمول والعموم، ومنها ما يفيد بلفظه الجنس الذي وضع له ثم ينصرف إلى الوحدة، والانصراف بعلامة تلحقه وتغيير، ومنها ما يفيد الشمول في التنكير على وجه، ويفيده في التعريف على وجه، ثم لا يقع أحدهما موقع الآخر، ومنها ما يفيد الكثرة، ولفظه لفظ الواحد، وقد صيغ اسماً للجمع، ومنها ما يفيد الكثرة ولفظه لفظ الجمع، ومنها ما يفيد الشمول في باب النفي ولا يقع في الإثبات البتة.

فالأول هو ما يفيد الشمول في موضع بعينه ينقسم قسمين: منه ما يلزم ذلك الموضع ولا يفارقه، وذلك: ككم وكيف وأين ومتى، لأنها تلزم موضعي الإبهام والاستفهام والجزاء، ولا يدخل على الذي ذكرناه وقوع كما في الخبر، لأنه بالاستفهام أولى حتَّى يقع في الخبر إذا وقع بغير صلة، فيبقى على حده في الاستفهام من الإبهام وسنبين من حاله في البابين ما يحتاج إليه في هذا الموضع.

ومنه ما يفارق ذلك الموضع وينتقل إلى غيره، ويقترن به، فيه ما يخصصه ويزيل الإبهام عنه فلا يفيد الشمول والعموم، وقد يقع مع اقتران المخصص به مفيداً للكثرة والشمول، وذلك ك: من، وما، وأيّ، ألا ترى أن هذه الأسماء تقع في موضع الإبهام من بابي الجزاء والاستفهام على حد وقوع الأسماء التي تقدمت فيه، نحو: من عندك؟ وما تفعل؟ ومن تضرب أضرب، ومن تعطه يأخذ، وأيهم في الدار؟ وأيهم تكرم أكرم، فيكون حكمها من الشمول حكم تلك، ويقع أيضاً في باب الخبر موصولة موضحة، أو موصوفة محدودة، فيكون الأولى بها الدلالة على المفرد المخصص في التنكير، وهي إذا كانت موصوفة وقد يقترن به أيضاً ما يستدل منه على إفادته الكثرة والشمول، فالأول وإن كان لا يحتاج إلى مثال لظهوره نحو: رأيت من أبوه منطلق، وما سلمته إلى زيد، وأيهم في الدار، فهذه مختصة بصلاتها معارف بمعنى الذي، ولموصوف المنكور نحو: ربَّ من أحسنت إليه أساء إليَّ، لأنه بمعنى: رب إنسان، ومررت بمن ظريف، أي: بإنسان، وكذلك تقول: مررت بما صالح، أي بشيء صالح، وحمل قوله تعالى:) هذا ما لديَّ عتيد (على أن ما فيه نكرة، ولديَّ صفته، وقال سيبويه: يلزم لما هذا الوصف ثم حكاه غير موصوف في التعجب وغيره، كأنه يريد أن ذلك أكثر أحواله.

والثاني كقوله تعالى:) ويعبدون من دون الله ما لا يضرَّهم ولا ينفعهم (، ثم قال:) ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله (، وكقوله) ويعبدون من دون الله ما لا يملكُ لهم رزقاً من السماوات والأرض شيئاً (، ثم قال:) ولا يستطيعون (. ألا ترى أن القرينة أبانت إفادتها الكثرة، وقد جاء من الأسماء المبهمة مجيء هذه.

الأسماء الذي وبابه الخبر، كقوله تعالى:) والذي جاء بالصِّدق (، ثم قال:) أولئك هم (، وفي قوله عز وجل:) ومنهم من يستمعون إليك (، وهذا كثير جداً.

وأما الثاني من القسمة الأولى، وهو ما الأولى به أن يفيد الوحدة والانفراد، ثم إذا اقترن به لفظ أو حال أفاد الشمول والعموم، فذلك نحو: عشرون درهماً، وما جاءني من رجل، وهل جاءك من خبر، وكقولك: كل إنسان، وأول فارس، وكل رجل، وتقول كذا فكل هذا حكمه في أصل نيته ووضعه أن يكون للجنس، فصار بالعرف الأولى به أن يكون للواحد، ثم اقترن به ما يستدل به على تناوله الكثرة.

وأما الثالث: وهو ما يفيد بلفظه الجنس الذي وضع له، ثم ينصرف إلى الوحدة والانفراد بعلامة تلحقه وتغيير، فأسماء الأحداث، نحو: الضرب، والضربة، والانصراف، والانصرافة، ومن شرطها وشرط سائر أسماء الأجناس أن لا تقف على قليل دون كثير، ولا كثير دون قليل إلاّ بدلالة.

وأما الرابع: وهو ما يفيد الشمول في التنكير على وجه، ويفيده في التعريف على وجه، ثم لا يقع أحدهما موقع الآخر، نحو قولك: كل إنسان يقول ذلك، وكقوله تعالى:) إن الإنسان لفي خسر (، وكقوله عز وجل:) إنَّ الإنسان خلقَ هلوعاً (، وكقولك: عشرون درهماً، وعشرون ديناراً، وعشرون شاة، وعشرون بعيراً. وكقولك: أهلك الناس الدينار والدرهم، وكثر الشاء والبعير، وكذلك: رب سارق سلم، وكل مذنب وفاسق فله وزره. وكقوله تعالى:) السَّارق والسَّارقة (، وكقوله:) والزاني والزَّانية (. ألا ترى أن معرف هذا الفصل لا يقع موقع منكَّره، وكذلك منكره لا يقع موقع معرفة، وأنه ليس كقولك: مائة درهم، ومائة الدرهم. وكقولك: يعطي خزَّا وقزَّا ودرهماً وديناراً، والخز والقز والدرهم والدينار، وقد كان منه ضرب وشتم، والضرب والشتم.

وأما الخامس: وهو ما يفيد الكثرة ولفظه لفظ الواحد، فهي الأسماء المصوغة لجمع، نحو، كل من جزء وبعض، نحو: قوم من رجل، ونساء من امرأة، وإبل من ناقة وجمل، وأولاء من ذا.

والثاني: أن يكون من لفظ المجموع بالاسم المفرد المصوغ للكثرة، وذلك نحو: الجامل من جمل، والباقر من بقر، ونحو: الضئين والكليب، من ضأن وكلب.

وأما السادس: وهو ما يفيد الكثرة ولفظه لفظ الجمع، فذلك كجموع السلامة، نحو: المسلمون والمسلمات. وجمع التكسير، نحو: الفجّار والفسّاق. ولأبنية هذه الجموع تفاصيل وأحكام سننتهي إليها ونفصلها، وهي على الجملة لا تفيد الشمول والكثرة إلاّ بعد تجردها مما يقصرها على الأعداد ويخصصها.

وأما السابع: وهو ما يفيد الشمول في باب النفي ولا يقع في الإثبات البتَّة، وذلك نحو قولهم: ما في الدار ديَّار، وما بها طوريّ، وما بها صافر، ألا ترى أنك لا تقول: بها صافر، وبها طوريّ، وبها ديَّار، فهذا بعض تفصيل ذلك الإجمال، ونحن نشتغل الآن بتبيينه وذكر الأدلة فيه إن شاء الله تعالى.

اعلم أن الذي يدل على أن كم صيغ للعموم والشمول، أنه يسأل به عن الأعداد، والمخاطب ملجأ إذا سئل به عن معدود إلى أن يجيب عن قليل ذلك المسؤول وكثيرة، حتَّى إذا قصَّر لم يكن له عذر، فيقول إن عدد ما سألت عنه كذا وكذا، ولم يتناول سؤالك، فلولا أن كم منتظم لكل عدد لما كان المخاطب حاله إذا أراد الجواب أن يكون مُلجأ إلى ذكر عدد المسؤول البتَّة، وكذلك حال كيف في الأحوال، لأنه يسأل به عنها، فلا حاجة للمسؤول عنه إلاّ وينتظمه كيف حتَّى ليس للمخاطب متعلق بشيء إذا أنزل الجواب. فإن قيل: كيف تدَّعي ذلك في كيف، وقد علمنا أن قائلاً لو قال لغيره: كيف أنت؟ فأخذ يقول: مغسول الثياب، نقي البدن، وما يجري مجراه من أحواله لكان له أن يقول: ما سألتك عن شيء من هذا، وإذا كان الأمر على هذا فكيف يكون لفظ كيف منتظماً للسؤال عن الأحوال كلها؟ وإن كان منتظماً فكيف له أن يقول: ما سألتك عن شيء مما ذكرته، قيل له: إن الذي ذكرته لا يدل على أن كيف ليس بمنتظم للأحوال كلها، وذلك أن معهود المتخاطبين إذا سأل أحدهما الآخر عنه بلفظة كيف فهو يحتاج أن ينظر إلى ماذا من أحواله قصد السائل، فيخبره عن كيفية ذلك المسؤول عنه دون غيره، لأنه مضطر إلى أنه لم يسأله عن أحواله كلها، فإن كان لفظه كيف استغرقها بالوضع، فصار ما لم يسأله عنه كالمستثنى من جملتها، والشيء يصير مستثنى باللفظ ويصير مستثنى بالعرف والعقل والشرع.

وإذا كان الأمر على هذا، وكان لا حال من أحوالك ذلك المعهود بينهما إلاّ وصح أن يكون مسؤولاً عنه بلفظ كيف، ويجوز أن يريده، ولا يكون مستثنى بالعرف والعقل، فقد ثبت انتظامه لها كلها بهذه الدلالة، وسقط ما سأل عنه السائل بما ذكرناه وبيناه من أنه كالمستثنى، فاعلمه.

فإن قيل: ما تنكر من أن يكون كيف متناولاً للذي زعمته أنه مراد السائل والمسؤول، يحتاج أن تقصد إلى الجواب عنه بعد أن تتأمل وتقف عليه لا غيره.

وإن قولك: إنه متناول لكل بالوضع في الأصل، والمتزود كالمستثنى فاسد، قيل: إن الذي ذكرته ليس يقدح في الدلالة، ونحن نكتشف ما ذكرناه بما يؤيد الدلالة ونسقط السؤال، وهو أنا وجدنا الإيجاب بما هو نكرة، كصالح وكمعافى، وما يجري هذا المجرى، ولو كان السؤال عن شيء بعينه لكان جوابه يخرج على طريقة المعارف، وفي أن لا يجيء جوابه إلاّ نكرة دلالة على أنه لم يقصد به عند الوضع ما ذكرته.

والذي يكشف ما ذكرناه هو أنه إنما امتنع المعرفة من أن تكون في جواب كيف، فيقال: الصالح والمعافى، يخرج الكلام إلى أن يكون جواباً عن السؤال عن الذوات لا عن أحوالها. فلو كان السائل عن الأحوال ب كيف قاصداً إلى السؤال عن شيء بعينه منها، لكان حكم ذلك الشيء في الاختصاص، حكم الذات، فكان يجيء جوابه معرفة، وهو لا يجيء جوابه إلاّ نكرة.

وإذا كان الأمر على ما ذكرناه، فكما لا يجوز أن يكون جوابه المعرفة لخروجه في السؤال إلى أن يكون متناولاً للذات، فكذلك في الحال لا يجوز أن يكون متناولاً لشيء بعينه منهما، لأن ذلك يقتضي أن يكون جوابه المعرفة.

وبمثل هذه الطريقة نبين حال أين في المواضع، ومتى في الأوقات، هذا في باب الاستفهام.

فأما كم وكيف فلا مدخل لهما في الجزاء، وأين ومتى حالهما في الجزاء كحالهما في الاستفهام، وأما كم في الخبر، فهو باقٍ على إبهامه، لما ذكرناه من أن باب الاستفهام أولى به، بدلالة أنه لم يوصل فيه، وإن كان باب إيضاح وتبين، كما فعل ذلك بأخوته فيه. فإذا قال القائل: كم رجل أكرمته، فمعناه كثير من الرجال، والكثرة التي يشير إليها لا تبلغ حد الشمول للجنس كله، وإن كان غير واقف في مبلغ بعينه، ولهذا جاز أن يضاف إلى الواحد والجمع، فيقال: كم رجل، وكم رجال.

وفي الاستفهام لا يميز إلاّ باسم الجنس موحداً، وهذا التكثير الذي وصفناه، استصحبه إلى الخبر، لأن ذاك مؤثر فيه لا محالة. ألا ترى أن مستنكراً في العقل أن يكون المتكلم ب كم رجل أكرمته أكرم الجنس كله، ولو كان الباب باب النفي أو الاستفهام أو الجزاء، لم يكن ذلك منكراً، وهذا ينكشف بأدنى تأمل، فاعلمه.

والذي يدل على أن من وما، وهو القبيل الثاني مما يفيد الشمول، يفيدان الشمول في الموضع الذي ذكرناه، وهو الإبهام في بابي الجزاء والاستفهام، أدلة مما استدللنا به في النوع الأول، أن المسؤول ملجأ في الجنس الذي سئل عنه إلى الجواب، حتَّى لا منزل له لتعلقه بأن لفظ السائل تناول كذا وكذا، دون كذا وكذا، وهنا الموضع يتبين بتأمل الدواعي التي دعت إلى وضع هذه الألفاظ، وهو أنهم نظروا فيما يسألون عنه من الأحوال والأوقات والمواضع والأعداد والأجناس والناطقين، فوجدوا أنفسهم مع المسؤولين على حالة أوجبت عليهم صياغة ألفاظ شاملة مستغرقة، وإلا كان للمسؤول أن يعدل عن الجواب عما يسأل عنه، وإن تكلف السائل أموراً كثيرة، وبسط من القول ما أتعبه وشق عليه.

ألا ترى أن السائل عن عدد معدود ما يتوهمه مع الغير من جنس لو قال له: أكذا عندك من هذا الجنس أم كذا أم كذا، حتَّى يكثر من أسماء الأعداد، وأفنى في ذلك أوقاتاً كان لا يأمن أن يكون ما معه منقوصاً عن الأعداد التي ذكرناها، أو زائداً عليها.

وكذلك هنا في الأحوال، أو عدّد أحوالاً كثيرة في مسؤول عنه بعينه، كان لا يأمن من أن يكون على غيرها. وكذلك في الأوقات، لو ذكرنا أوقاتاً كثيرة من الماضي والمستقبل، كان لا يأمن مع امتداد الأوقات أن يكون المسؤول عنه في غيرها، فلا يخرج جوابه على مراده. وكذلك في الناطقين لو ذكر أكثر من يعرفه، لكان لا يأمن أن يكون غيرهم.

هذا وقد سئل الإنسان عما لا يعرفه، كما يسأل عمن يعرفه، وذكر من يعرفه متعذر على الوجه الذي ذكرناه. فأما من لا يعرفه فمحال أن يذكره. فلما كان الأمر على هذا عمدوا إلى صياغة ألفاظ كافية من التطويل، شاملة للأجناس، ملجئة للمسؤولين حتَّى إن أرادوا الجواب لا الانتهاء إلى المراد، وفي ذلك من الدلالة على الموضع الذي يريد الدلالة عليه من شمول هذه الألفاظ لما وضعت له، واستغراقها ما لا خفاء به.

ومنها أن المسؤول متى سمع هذه الألفاظ، فإنه متى راعى، لم يجد في الأجناس التي يسأل بها عنها سبباً إلاّ ويصلح أن يكون جواباً للسائل، إذا قصده وجعله جواباً.

ولولا شمول هذه الألفاظ للأجناس التي صيغت لها استغراقها، لما صلح في كل وبعض منها أن تكون جواباً، فإن اعترض على هذه الدلالة بأن من قال: من دخل داري أكرمته، في الجزاء أن اللص لا يجوز أن يكون مراداً، ولو قال: من دخل داري أهنته، لا يجوز أن يكون الملك مراداً.

وكذلك ما يجري هذا المجرى، فالجواب عنه، أن اللفظ منتظم للكل في أصل الوضع، وما خرج منه بالعقل أو العرف أو الشرع، فهو كما أخرج منه بالاستثناء.

ألا ترى أنه لو قال: من دخل داري فهو محاسب، أو: من دخل داري فهو مثاب أو معاقب، وقال: خلق الله من في السموات والأرض، أو ما في السموات والأرض، لدخل تحت هذا كل متعبد وموجود من الجن والملك وغيرهم، إن كان المتكلم به ممن يعلم أن العبادة تشمل هذه الأجناس، كذلك الثواب والعقاب والخلق، فلولا أن اللفظ شامل، لكان يتغير أحكام الإخبار والعدَّات والمضمون لها، والإخبار في هذه الألفاظ التي تستعمل في هذه المواضع، وعلمت أن أصل الوضع فيها ما ذكرنا لا غير.

ومنها جواز استثناء المستثنى منها ما أراد، بالغاً ما بلغ في القلة والكثرة، فلولا شمول هذه الألفاظ واستغراقها، لما جاز الاستثناء منها على الحد الذي ذكرناه، ولا يقدح في هذا قول القائل: إنه مع الاستثناء كأنه صيغ لذلك الذي يدل عليه. ولا قوله: إنها ما أفادت الشمول على وجه، لأنها عندك لا تعرى من الاستثناء، أو ما يجري مجرى الاستثناء من العرف والعقل. لأن من راعى أن اللفظ في انفراده ماذا يفيد، وعند الاستثناء منه ماذا يفيد الاستثناء فيه، ولولا الاستثناء كان حال اللفظ: كيف يكون بأن له، إن هذا السؤال ساقط. وكذلك من راعى أن اللفظ ووضعه شيء، وتسلط العرف والعقل والشرع عليه شيء آخر، يجري عليه بعد التواضع به، كما أن الاستثناء منه باللفظ بعد التواضع به. اعلم أن قوله: إنه لم يفد الشمول قط، فاسد، لأن اللفظ لا بد أن يكون سابقاً لما وضع له للعرف والعقل جميعاً، لأن هذين يتسلطان عليه كتسلط اللفظ المخصص له من بعد.

فإن قيل: ما ينكر أن يكون العقل عند الوضع متسلطاً عليه كما يتسلط العرف واللفظ من بعد، قيل له: إن العقل إذا تسلط في الموضع الذي أشرت إليه، منع من وضع الاسم له رأساً، ومتى قصد القاصد إلى الوضع مع منع العقل منه، كان كمن يتعاطى محالاً، أو العبث بما يضعه، وإذا كان الأمر على هذا وكان العقل لا يمنع ولا يحظر، وضع له اسم مستغرق، بل كيف يحظر والحاجة تمس إليه كما بيناه، فيجب أن يكون التواضع قد حصل به، وأن يكون العقل تسلط من بعد الوضع فتخصص كما يتسلط العرف من بعده، وكما يتسلط اللفظ من بعده، وفي هذا لمن أنعم النظر كفاية.

ومنها أن الألفاظ إنما كانت توضع بحسب الحاجة إليها، فقد علمنا أن الواحد منا كما يقصد إلى الإخبار عن الأعيان المحسوسة، كذلك يقصد إلى الإخبار عن الأجناس المعلومة، ويعلق المقصود بها كما يعلقها بالمفردات.

وإذا كان الأمر على هذا، فلا بد من أن يكون في كلامهم ما يفيد الجنس مشتملاً عليه، مستغرقاً له، وإلا كان يظهر قصور لغة العرب عن المعاني الهاجسة في النفس.

وإن كان لا بد من أن تكون حاجتهم إلى ما يعبرون عنه كحاجتنا، ودواعيهم كدواعينا، وإذا كان الأمر على هذا، ويصح القصد منا إلى الإخبار عن الجنس بلفظ شامل لهم كلهم، فكذلك يجب أن يكون أمرهم كأمرنا، وإذا كان أمرهم كأمرنا، فلا بد من أن يكون في لغتهم ما يفيد ذلك حقيقة لا مجازاً، وهذه في الأسماء التي ذكرناها.

وبهذا الذي ذكرناه يسقط قول من يزعم أنه لا يمتنع من أن تكون الألفاظ مستصلحة للشمول من غير أن تكون مفيدة له على الحقيقة، مقصورة عليه، ويؤيده أنّا وجدنا هذه الأسماء تفيد هذه الأجناس في المواضع التي أشرنا إليها على سبيل اطِّراد فيها، ومن علامة ما يكون حقيقة في الشيء اطِّراده فيه واستمراره، وإذا كانت هذه الألفاظ مستمرة في إفادة هذه الأجناس على الوجوه التي ذكرناها، فيجب أن تكون حقيقة لها.

وهذه الأدلة التي ذكرناها فيها ما يدل على إفادة الشمول والعموم في من وما إذا انتقلا عن موضع الإبهام إلى باب الإيضاح والتبيين، وهو باب الخبر أيضاً، وذلك جواز الاستثناء منا على الوجه الذي بيناه، وجواز تعلق القصد منا بما يفيد الشمول والعموم إذا أردنا الإخبار عن جنس، وإن سبيلهم كسبيلنا، وإنه لا بد من أن يكون في كلامهم ما يفيد ذلك حقيقة، وإلا كانت اللغة قاصرة عما كانت تهجس في نفوسهم حينئذ، وفي نفوسنا الساعة، فهذا حال من وما وهما للاستغراق.

وأما أيُّ فهي لبعض من كل، وهو وإن كان لا يختص ببعض دون بعض، ولكن يصح كل منها على طريق البدل وعلى ما يقدر بعضاً من الجملة، فإنه لا يفيد الاستغراق. ولشدة إبهامه لزمته الإضافة، ومعنى الإبهام فيه أنه لا يختص بجنس دون جنس، كما اختص كل واحد من مَنْ ألا ترى أنك لا تقصد جنساً.

وأيُّ تستعمل في العام فهي أشمل من منْ وما في هذا الوجه، ودونهما فيما يفيد أنه من الاستغراق.

فأما ما الأولى به أن يفيد الوحدة والانفراد، ثم إذا اقترن به لفظ أو حال أفاد الشمول والعموم كقولهم: عشرون درهماً، وما جاءني من رجل، وهل جاءك من خبر، ولا رجل في الدار. وكقولك: كل إنسان، وأول فرس، وما أشبه هذا. فإن هذه النكرات تفيد الاستغراق بما اقترنت به من الألفاظ التي قبلها إذا كانت هي وأشباهها قد جعلها العرف والاستعمال بأن تفيد بمجردها الوحدة أولى، وإن كانت وضعت للآحاد فما فوقها، وهنا في هذه الأسماء كالعلامة والتغيير في أسماء الأحداث، ويدل على ذلك أن من في قولك: ما جاءني من رجل، وهل عندك من شيء، لا يجوز أن يدخل على مخصوص مفرد، لا تقول: ما جاءني من عند الله، فلولا أنه يفيد في رجل إذا اقترن به في قولك: ما جاءني من رجل، وهل جاءك من خبر، وهل عندك من شيء، للكثرة والشمول، كان لا يمتنع من دخوله على المفرد المخصوص أيضاً، وإذا قد امتنع منه، وكان قولك رجل لا يخلو من أن يفيد واحداً من قبيلة غير معين، أو القبيل كما هو.

وكنا قد علمنا من لغتهم وقصدهم أنهم لا يريدون نفي واحد غير معين في قولهم: ما جاءني من رجل، فما بقي إلاّ أن يكون مفيداً نفي القبيل كما هو مستغرق الأسماء، وأنت إذا قلت: ما جاءني رجل، من دون مِنْ فالأولى أن تريد به نفي واحد غير معين، وكذلك قولك: عشرون رجلاً، نبّه قولك: عشرون على أن يراد به الجنس كلهم، إذ كان لا يجوز أن يكون يفيد واحداً غير معين مع اقتران العشرين به لما يدخل المعنى من الفساد، ولأنه من الظاهر أن المراد ب عشرين رجلاً عشرون من الرجال، ومن القبيل الذين هو الرجال.

وكذلك إذا قلت: كل رجل، ف كل تبين أن رجلاً بعد عامّ للجنس. وكذلك قولك: هل عندك من أحد، أحد في معنى الجمع بدلالة أنه لا يجوز أن يقع في واحد، إذا كان القصد الذي يصح به في غير الواحد لا يصح في الواحد، إلاّ أن يكون موضع يحصل فيه قريب من الفائدة التي ذكرناها فيما ليست بواحد، كقول القائل: جاءني اليوم كل أحد، لأن هذا وإن أفاد الكثرة لا يفيد الاستغراق، فهو كما ذكرناه في كم إذا انتقل عن باب الاستفهام إلى باب الخبر.

فإن قيل: فلم لا تقول: جاءني عشرون واحداً، لأن الذي بعد العشرين لا يكون إلاّ في معنى الجمع بزعمك، قيل له من قبل: إن العشرين وما أشبهه، عدد مخصوص يحتاج إلى بيان المعدود الذي وقع عليه العدة، وذلك ما تفيده أسماء الأجناس وأحد ليس منها.

وقد بينَّا أن هذه الأسماء متى تعدّت الموضع الذي يفيد الوحدة فيه والانفراد، انصرف إلى الجنس، ولا بد من اقتران ما يفيد به.

فإن قيل قولك: كل رجل، وكل إنسان، هل يجوز أن يقع موقع المنكور هاهنا اسم الجنس المعرف بالألف واللام، لأن كلا منهما يفيد فائدة صاحبه بزعمك، ويكون مثل قولك: مائة درهم، ومائة الدرهم، إذا أردت التعريف، قيل: لا، ولكن إذا أريد التعريف في قولك: كل رجل، قلت: كل الرجال، وفي كل إنسان، كل الناس، ولا يجوز: كل إنسان، وكل الرجال، وذلك أن: كل رجل، في معنى: كل أحد، وتلخيصه: كل الرجال، إذا كانوا رجلاً رجلاً، على حد قولك: كل اثنين أي: كل الناس، إذا كانوا اثنين اثنين، وكقولك: هما خير اثنين في الناس، أي: هما خير الناس، إذا كانوا اثنين اثنين.

فإذا أردت التعريف خرج من هذا، لأن مثل هذا التقدير لا يتأتى فيه إلى قولك: كل الرجال، كل الناس، ولا يكون غيره، ومائة رجل، لا يقع موقعه أحد لما بيناه في قولنا: عشرين ونحوهما، فلما أضفت المائة إلى رجل، وكنت قد فرغت من العدد فاحتجت إلى الصنف، عرفت على ما كان نكرة، فقلت: مائة الدرهم. وفي هذا فصل ظاهر بين: مائة درهم، وقبيله، وبين كل أحد، وقبيله، فافهمه.

وإن قيل: لم امتنعت من كل الرجل، والله عز وجل يقول:) كلُّ الطعامِ كان حلاَّ لبني إسرائيل (، قلت: إن هذا السؤال غلط أو مغالطة، لأن الطعام في شموله لأنواع كالناس في شموله لأنواع، وقد جوزنا أن يقال: كل الناس، وإنما امتنعنا من أن يقال: كل رجل، وكل الرجال، وقد دللنا عليه بما فيه كفاية، فاعلمه.

وأما قولهم: أهلك الناس الدينار والدرهم، فليس هذا مما الاعتماد في إفادته الكثرة على شيء قبله، كما ذكرناه في النكرات، ولكن متى ما تعرَّى مما يخصصه فيجب أن يكون متناولاً للجنس، مستغرقاً له، ودالاً على أن الألف واللام من شأنهما التعريف والتخصيص.

والمعرَّف المخصص كما يكون محسوساً مدركاً معهوداً، يكون معلوماً معقولاً. فالألف واللام يشار به إلى تخصيص ذلك المعرف على ما يصح تخصيصه به، فإن كان معهوداً مدركاً محسوساً، فالإشارة بالألف واللام إلى تعريفه على ذلك الوجه.

وإن كان معلوماً معقولاً، فالإشارة به إلى تعريفه على ذلك الوجه. وقولنا: رجل لا يخلو من أن يكون المراد به واحداً من الجنس غير معين، والجنس كما هو، فكذلك إذا دخله الألف واللام ولم يقترن به ما يخصصه بمعين معهود، فيجب أن يفيد الموضع الثاني الذي له من الموضعين وهو الجنس كما هو، ويستدل على أن قولك: أهلك الناس الدينار والدرهم، وكثر الشاة والبعير. المراد به العموم والكثرة، مما تقدم من جواز استثناء الجماعة من هذا الاسم المفرد في اللفظ، وكذلك الدلالة الثانية من الحاجة إلى تعليق المقصود باسم الجنس مفيداً للعموم.

فإن قيل: إذا كان النكرة تفيد ذلك كما زعمت من قبل، فما فائدة هذا التعريف؟ قيل له: القصد فيه الإشارة إلى ما ثبت في النفس وعقل من معرفة الأنواع، وليس الدرهم في هذا أو نحوه كواحد عهدته وعلمته محسوساً، ثم أشرت إليه، لأن معرفة الأنواع من هذه الجهة ممتنعة، وغير مجوّز أن يعلم منا أحد هذه الأنواع محسوساً، كما يعلم بعض الأشخاص كذلك.

وإذا كان الأمر على هذا، وكان لا يمتنع في لغتهم أن تكون اللفظة المنكورة يستفاد منها ما يستفاد من المعرفة، ويستفاد من المعرفة مثل ما يستفاد من النكرة، فكذلك لا يمتنع في أسماء الأجناس ما ذكرناه من أن تكون نكرتها تفيد مثل ما تفيد معرفتها باقتران القرائن.

فإذا كان معرفة، فلفظه وفق مستفاده، وإذا كان نكرة فإنما تبين ما تبين منه ومن قرائنه التي بلَّغته ذلك الحد.

فأما قول من يقول: إن الألف واللام يفيدان الجنس، وتقديره أنه وضع في اللغة لذلك، فجعل باللغة والصناعة، لأن الألف واللام ليس فائدتهما إلاّ التعريف. وقولنا: الألف واللام مسامحة منا ومجرى على عادة النحويين، لأن اللام هي التي وضعت للتعريف فقط. والألف معها ألف الوصل، فاعلمه.

فإن قيل: كيف زعمت أن الألف واللام في نحو هذا التعريف، يدخل فيما يفيد التكثير دون الإفراد، وأنت قد تقول: خرجت فرأيت الأسد، وتعريفه ذلك التعريف، وأنت لا تريد تكثيراً ولا استغراقاً، وإنما المراد: خرجت فرأيت الواحد من هذا الجنس، من غير تعيين ولا تخصيص.

قلت: إنما جاز هذا في هذا النحو من المفردات لمشابهته النوع في أنه ليس بمعهود حسّاً، كما أن النوع ليس كذلك، وكأنك قد وضعت الجنس موضع المفرد لوقوع الاسم عليه كوقوعه على الجنس، ولأن العامّ يستعمل في موضع الخاص، كقولهم: أسيرَ عليه الأبدَ، وإنما يراد به: أسيرَ به، كثيراً.

وإذا كان الأمر على هذا، فهو كالشيء يستعار من بابه لغير بابه. ومثله ما يستعمل من لفظ الجمع في موضع المفرد. ألا ترى أنه يحسن أن تقول لمن ملك عبد، أو وهب ديناراً: صرت تملك العبيد وتهب الدنانير، وإن لم يكن ما ملكه أو وهبه إلاّ واحداً.

فكما تجوِّز بالجمع، كذلك تجوّز باسم الجنس، معرفاً في الواحد غير معين، وإن كان ذلك من فائدة النكرات.

ألا ترى أنه لا فصل بين قوله: خرجت فرأيت الأسد، وبين قوله: خرجت فرأيت أسداً، إلاّ ما تراه من التعريف. بلى، ممكن أن يقال: لو قيل: خرجت فرأيت أسداً، لكان السامع يجوز أن يتبع قوله أسداً صفة من الصفات، فإذا سكت المتكلم ولم يتبعه الصفة، بان له من بعد، أن قصده إلى واحد من الجنس غير معين ولا موصوف.

ولو قيل: خرجت فرأيت الأسد، كان السامع يعلم أن القصد إلى الواحد من الجنس ولا ينتظر الصفة التي تجوز مجيئها مع النكرة، فهذا يجوز أن يكون من فائدة ما فيه الألف واللام.

وعلى كل وجه، لم يزد التعريف اختصاصاً لم يكن في التنكير، والنكرة التي تفيد فائدة المعارف يشير به إلى النكرات المحدودة بالصفات وبالأحوال، حتَّى لا يجري مجرى الإشارة إلى المعنى كقولك: فينا رجل عليه درَّاعة شأنه كذا، وليس في القوم من عليه درّاعة غيره. والمعرفة التي تفيد النكرة غير قولك: مثلك شبهك، حسن الوجه، لأن هذا من حيث اللفظ، لا لما عرض من اللبس في الموضع.

فإن تقل بدل قولك: فينا رجل عليه درّاعة، فينا زيد أو أبو فلان أو غلامك، وفي الجماعة اسم كل واحد منهم أو صفته أو كنيته، مثل ذلك الاسم أو الصفة أو الكنية، كان فائدة المعرفة إذا كان الأمر على هذا فائدة النكرة.

فإن قيل له: زعمت أنه إذا دخل الألف واللام اسم الجنس، وتعرّى مما يخصصه، كان مستغرقاً شاملاً. وما تنكر أن يكون المراد به القبيل والجنس غير معين، كذلك يصح أن يقصد إلى الجنس من غير أن تريد الاستغراق، وإذا كان كذلك فانصرافه إلى الاستغراق يحتاج إلى دليل يقترن به يفيد فيه ذلك. وإلا كان لخلوه مما يفيد التخصيص فيه لا يخرج إلاّ إلى إفادته الجنس فحسب، قلت: إن من تأمل أسماء الأجناس كيف صيغت، ولماذا وضعت، استغنى بذلك عن هذا السؤال. وذاك أنهم إنما قصدوا إلى تمييز الأجناس بعضها عن بعض في وضع الأسماء لها، كما قصدوا إلى تمييز الآحاد وضعوا بشريطة أن يتناول الواحد إلى حيث انتهى وبلغ، واكتفوا له بذلك الاسم في تمييزه عما يخالفه. ولذلك لم يجمعوه ولم يثنوه، لأنهم صاغوه بشرط أن يفيد ما وضع هو له بالغاً ما بلغ، وكيف تزايد وتناقص.

والشيء إنما يصح التثنية والجمع عليه، إذا انحصر بدلالة أن التثنية ضم الشيء إلى مثله، والجمع ضم الشيء إلى مثليه أو أمثاله. وإذا كان هذا الضم الذي أشرنا إليه لا يصح إلاّ فيما قد وقف، فإذا لا يصح هذا المعنى في اسم الجنس.

وإذا كان حال اسم الجنس هذه الحالة، فمتى لم يقترن به ما يخصصه ببعض ما وضع له، فلا بد من أن يكون شاملاً له كله، مستغرقاً لأن موضوعه على ذلك، وكيف يفيد الجنس كما هو، ولا يكون مستغرقاً له.

وإذا كان ذلك على ما ذكرناه، فلا معنى لقول القائل: يفيد الجنس دون الاستغراق، لأن ذلك يتصور في الموضع الذي يقول فيه هذا. إن تعلق المعنى المقصود ببعض الجنس، ولغير ذلك البعض اسم الجنس. وذلك لا يعلم إلاّ بدلالة، كما يعلم الانفراد والتخصيص إلاّ بدلالة.

فإن قيل: ألست تجوز أن يقال: ضع هذا المال في هذا الجنس، ويشار به إلى الرجال، ولا يراد به الكل والاستغراق. وإذا كان في لفظه الجنس ذلك يجوز، فما ينكر أن يكون في اسم الجنس أيضاً يجوز.

قلت: إن قوله: ضع هذا المال في هذا الجنس مخصص بالعرف، ولهذا كان مأموراً بأن يصرفه إلى بعض الجنس لا كله. لأنه ليس في العرف أن يكون الواحد يعمّ الجنس، كما هو بصلة أو أمر.

وإذا كان كذلك، فلولا التخصص العرفي الذي ذكرناه، فكان قولهم: الجنس يشملهم كلهم.

وإذا كان حال لفظ الجنس هذه الحالة، فكذلك حال اسم الجنس هذه الحال، متى تجرد عما يخصصه من العرف أو الشرع أو العقل أو اللفظ، فلا يكون إلاّ شاملاً، فاعلمه.

ومن هذا القبيل قولهم: أول فارس، لأنه بدخول أول خرج فارس من أن يكون يفيد ما هو أولى به من الوحدة والانفراد، وصار يفيد الشمول والعموم. وعلى ذلك قوله عز وجل:) ولا تكونوا أوَّل كافرٍ له (. ولهذا فسره الأخفش على أن معناه: أول من كفر به.

وقال غيره: إن معناه: أول فريق كافر به، والفصل بين الطريقين، أنه جعله الأخفش مستغرقاً، فوضع مكانه من كان المراد: ولا تكونوا أول الكافرين به إذا صار كافراً كافراً.

وجعله غيره على غير الوجه، فصرفه إلى فريق من القبيل غير معلوم، كأنه قال: أول الكافرين به إذا صاروا فريقاً فريقاً.

وأكثر أصحابنا البصريين على طريقة أبي الحسن الأخفش، وهو لا يصح، كما دللنا عليه وبيناه، لأن ادعاء حذف فريق وإقامة كافر الذي هو صفته مقامه، يحتاج إلى دلالة.

ومن هذا القبيل قولهم: رب رجل، وكم رجل لأن رجل بدخول كم ورب عليه صار مفيداً للكثرة ومستغرقاً، يدلك على ذلك أن كم يفيد التكثير مما يدخله بلا نهاية، ورب تفيد التقليل منه غير محصور.

ولكن على ما يراه المخبر من استقلال الشيء واستكثاره، فلولا أن رجل بعدهما للاستغراق، لم يكن يصلح دخول واحد منهما عليه.

وكيف يخرج الكثير الذي لا نهاية له معلومة، إلاّ من اللفظ الذي يفيد الاستغراق، وكذلك القليل الذي هو على الحد الذي ذكرناه. ومن هذا القبيل أسماء الفاعلين والمفعولين كقولهم: الكافر، السارق، الزاني، المسلم، المؤمن.

واعلم أن قولهم: الفاسق والزاني موضوع موضع: الذي فسق وزنى والألف واللام فيه بمعنى الذي، وهذا لأن الفعل لما لم يكن موضوعاً للتخصيص، بل كان موضوعاً لأن يكون خبراً مفيداً لا غير، امتنع مما يكون وروده للتخصيص كالإضافة والألف واللام، لكنهم كما جعلوه، أعني الفعل، من تمام الذي أحبوا أن يتناوله التخصيص أيضاً فنقلوه إلى اسم الفاعل، ونووا بالألف واللام فيه، وإن كان مجيئه في أصل الكلام التخصيص فقط، عنى الذي كان يحتمله الفعل في صلة الذي ليتم الألف واللام باسم الفاعل كما تم ذلك الفعل.

فكما أن الذي إذا لم يقترن به ما يخصصه بواحد بعينه، انصرف إلى الجنس، فيدل على استغراقه وشموله ما يدل في اسم الجنس لا فصل بينهما، ويقرب أمره تضمنه لمعنى الجزاء، حتَّى صار يجاب بما يجاب به الجزاء من الفاء. فكما أن الجزاء بالإبهام الذي صار حكم الاسم المستعمل فيه ما بيناه ودللنا عليه، وهو: من، وما، كذلك حكم اسم الفاعل والمفعول، بدلالة أن قوله تعالى:) السارق والسارقة فاقطعوا أيديهما (، بمثابة قوله لو قال: من سرق فاقطعوا يده.

وقد حكى أبو العباس المازني، أن اسم الفاعل يدخله الألف واللام مفيداً للتعريف فقط، يكون دخوله عليه كدخوله على اسم الجنس، إذا قلت: الرجل، وهذا وإن كان خلافاً من أصحابنا، فلا مدخل له فيما نحن فيه. فإن قيل: أراك تدير كلامك في الألف واللام على أن له موضعين: أحدهما تعريف العهد، والثاني تعريف الجنس، وأنت قد تقول: هذا الرجل فعل كذا أو كذا من غير أن يكون بينك وبين المخاطب عهد فيه.

فإذا كنت بقوله ولا عهد، ومن الظاهر أن قولك: هذا الرجل ليس يراد به الجنس، فهلا قلت: إن له موضعاً ثالثاً، وهو قولك: هذا الرجل، وتلك المرأة، وأنت تشير إلى حاضرين أحدهما بالبعد، والآخر بالقرب. قلت: إن الرجل والمرأة نقلهما ما صحبهما من اسم الإشارة إلى الحاضر، وهما في الأصل للجنس، ولا يمتنع ما يكون للجنس أن يقترن به ما يجعله لواحد من الجنس، لأن اسم الجنس ينتظم الواحد إلى ما لا نهاية، فاعلمه.

ومن هذا القبيل قولهم: نعم الرجل زيدٌ، وحبَّذا زيد لأن ذا كالرجل، والرجل اسم جنس، والمعنى: زيد محمود في قبيله، إلاّ أنه ليس بمستغرق، بدلالة أنه ثني وجمع، فقيل: نعم الرجلان الزيدان، نعم الرجال الزيدون، ولو كان مستغرقاً لما صح تثنيته، وليس قول القائل: زيد محمود في الرجال، وإذا صاروا رجلاً رجلاً بصواب. ولا قول: إنه لواحد بعينه بصواب، لأن وقوع رجل موقع أحد حتَّى يكون متناولاً لآحاد الجنس على طريق البدل، إنما يكون في النكرة، فأما إذا تعرف فإنه لا يفيد الاتحاد، ولهذا لم نقل: كل الرجل، ولا: كل الإنسان، وقد مضت الدلالة على ذلك.

ولا يجوز أن تكون لواحد بعينه، لأنه لو كان كذلك لما امتنع ما يفيد الاختصاص من الأعلام وغيرها من وقوعه موقعه، لتساويها كلها في إفادتها واحداً بعينه. وفي امتناع ذلك دلالة على أنه للجنس لا للواحد بعينه.

فإن قيل: فالرجل من قولك: نعم الرجل على أي وجه توجهه إذا لم تجعله مستغرقاً، قلت إن المادح كأنه عرف زيداً وأضرابه أو عرفه وقبيله الذي هو منه فأراد أن يتناوله المدح وهو مفضل عليهم، فاستعار لفظ الجنس لبعضهم، وصار تثنيته وجمعه له يدل على مراده، لأنه لما ذهب بالرجل إلى أن يكون مقصوراً على أضرابه أو قبيله الذي هو منه، صار مخصوصاً أو واقفاً على عدد، فصار يحتمل التثنية والجمع. فكأنّا إذا قلنا: نعم الرجلان الزيدان، قلنا: الزيدان محمودان في قبيلهما، وكل قبيل من القبيلين مخالف للآخر، ولو كان في وجه واحد، لأن تماثل شيئين كل واحد منهما للآخر من كل وجه، فاسد غير جائز.

وقد عرف من أصول اللغة وقول أصحابنا النحويين: أن أسماء الأجناس تثنى وتجمع إذا اختلفت، وقد حمل قوله تعالى:) بل يداهُ مبسوطتان (على أنه تثنية الجنس، كأنه جنسان من النعمة، نعمة الدنيا والآخرة، أو نعمة الدين والدنيا. ومن هذا القبيل قولهم: قلَّ رجل يقول ذاك، وأقل رجل يقول ذاك.

ألا ترى أنه ليس يجوز أن تريد واحداً غير معين من القبيل بقولك رجل، لأن واحداً لا يكون أقل من واحد عدداً، وليس قصد المتكلم بهذا إلى هذا الغرض، ولا أن يفيد أقل حقر وذل، لكن المراد: قل القائلون لذاك، أي: ما أحد يقول ذاك. فإذا كان الأمر على هذا فرجل يفيد الجنس، وليس سواه بمستغرق، بل هو على طريقة البدل، كأنه قال: قل القائلون لذاك إذا صاروا رجلاً رجلاً. ومعنى: قلّ رجل يقول ذاك، كمعنى: أقلّ رجل، وليس هنا موضع شرحه. والفصل بين الكلمتين أو التسوية إلاّ فيم ذكرناه من حال قولك: إن رجلاً واقع فيهما على حد واحد.

وقد تبين بما ذكرناه من حال قولك: درهماً من عشرين درهماً أن كل مميز في الموزون والممسوح والكيل، حاله حال هذا المميز به في المعدود، فاعلمه.

وليس كل ما يفيد الكثرة يفيد الاستغراق، وقد مضى بيان كل موضع من المواضع الذي تناوله كلامنا، فاعلمه.

وقد جاء ما يراد به الجنس مضافاً في كلامهم، فمن ذلك ما جاء في الحديث: ومنعت العراق درهمان وقفيزها، أي إخراجها وغلاتها. وقال الله عز وجل:) وإن تعدُّوا نعمة الله لا تُحصوها (وروي عن ابن عباس رحمه الله أنه قرأ:) وملائكته (، فإنه قال: كتابه أكثر من كتبه.

فأما ما يفيد الكثرة، ولفظه الواحد، وهي الأسماء المصوغة للجمع، فقد قسمته قسمين عند تفصيل الإجمال الذي صدر به هذا الكلام.

واعلم أن هذه الأسماء على اختلافها، لا تخلو من أحوال ثلاث: أما أن يكون الاسم منها صيغ للقليل خاصة، وأريد بالقليل أدنى العدد، وهي من الثلاثة إلى العشرة، كالنفر، والرهط، والذود، أو يراد به عدد معلوم، كقولهم: صِرْمة، وهجمة، وهُنيدة، وعرْج.

أو يراد به التكثير، وذلك: كقوم ونساء وكليب، وما جرى مجراه، وكل واحد من هذه الأنواع حكمه أن يفيد ما وضع له، فنقول: إن القائل إذا قال: مررت بنفر، أو رأيت رهطاً، أو جزت على ذَوْد، فكل عدد من الثلاثة إلى العشرة يمتُّ بماتَّة صاحبه في أن الاسم وضع له، وأنه يفيده إذا أفاده حقيقة.

فمتى اقترن به ما يخصصه ببعض ما وضع له، كان مفيداً لذلك على الحقيقة، وإن أطلق إطلاقاً فأول هذه الأعداد متيقن، والباقي ينتهي إليه بدلالة، وإنما قلنا هذا لأن اللفظ صيغ للتقليل، فلما كان مصوغاً للتقليل وكان له فيما يتناوله آخر معلوم، كما أن له أولاً معلوماً، حكم على المتيقن منه هو الأول دون الأوسط، والآخر، لأن الكل لم يخرج عما وضع له الكلمة من التقليل.

وكان الأول متيقناً، وما عداه ليس بمتيقن، والأخذ بالمتيقن أولى، وليس سبيل هذا سبيل الاسم الذي وضع لأشياء مختلفة، فلا يصرف إلى واحد منها إلاّ بدلالة. ألا ترى أنه ليس من شرط ما اشترك فيه عدة معان أن لا يوضع لواحد منها إلاّ وقد وضع للسائر، سواء حصل لها بواضع واحد أو بواضعين، وإن من شرط هذا تناول كل واحد من الأعداد التي يصلح لها بعد التواضع لواحد منها به لاشتراكها فيما وضع من أجله لذلك الواحد، فهذا سبيل هذه وأمثالها.

وأما إذا قال: مررت بهنيدة، وما يجري مجراها، ففائدته ما وضع له من العدد، لأن هنيدة اسم المائة وما داناها، والعرج اسم للخمس مائة والست مائة إلى الألف وكذلك ما يجري مجراه مما قصر به على عدد، أو على عدد وما يقاربه، وهذا أمره ظاهر.

فأما الجامل والباقر، والضَّئين، والكليب، ففائدته الكثرة، لأن هذه الأسماء وضعت للتكثير، فاعلمه. وكما ليس لها مبلغ تنتهي إليه، فليس لها ابتداء أيضاً. ولكن تتناول ما يكون كثيراً ولا تختص بعدد، وإن كان كثيراً إلاّ بدلالة.

وأما ما يفيد الكثرة ولفظه لفظ الجمع، فله أحكام، ونحن نبين القول فيه بما يحضر.

اعلم أن الجمع على ضربين: جمع سلامة، وجمع تكسير، فجمع السلامة هو الذي يسلم فيه لفظ الواحد، وله بناءان، أحدهما ما يكون بالواو والنون أو الياء والنون، والثاني: يكون بالألف والتاء.

وقال سيبويه: وهذا لفظه الجمع بالألف والتاء والواو والنون لتثليث أدنى العدد إلى تعشيره، وهو الواحد. كما صارت الألف والنون لتثنيته ومثناه أقل من مثلثه. ألا ترى أن جر التاء ونصبها سواء، وجر الاثنين والثلاثة الذين هم على التثنية ونصبهم سواء. فهذا يقرب أن الألف والتاء والواو والنون للأدنى لأنه وافق المثنى، انتهت الحكاية عنه.

واعلم أن فيما حكيناه من كلامه استدلالاً على شيئين من مذهبه: أحدهما: أن أول الجمع عند الثلاثة، ألا ترى أنه قال: التثليث أدنى العدد، يعني التثليث أو الأعداد لما حكم على الواو والنون، والألف والتاء.

والثاني: أنه قد صرح بأن الألف والتاء، والواو والنون للأدنى من الأعداد، لأنه وافق المثنى، ويعني بالموافقة أن المثنى في موضع النصب والجر، كما أن الجمع السالم في موضع النصب والجر بالياء. وكما أن الجمع بالألف والتاء في موضع النصب والجر بالكسرة، والكسرة أخت الياء، فلما توافقت هذه الأبنية فيما ذكرناه، وكان الجمع السالم على حد التثنية في سلامة لفظ الواحد فيه، صار كما ارتقى من الواحد إلى التثنية في الإفادة، ارتقى من التثنية إلى الثلاثة في الإفادة، ثم صار حكمه حكم الثلاثة في أنه من أدنى العدد متَّ إليه بماتَّة الثلاثة فصلح للكل.

فتقول: يقتضي مذهبه أن الجمع بالواو والنون، والألف والتاء الأولى فيما يفيده أدنى العدد، وهو من الثلاثة إلى العشرة، ويصلح للكثير من حيث لم يتناول هذا البناء بالجمع ثانياً. وليس نريد بقولنا: إنه يصلح له أنه إذا استعمل في الكثير كان مجازاً فيه، ولكن نريد أن الأولى به أدنى العدد ثم هو مستصلح للكثير أيضاً بالوضع. فمتى دلّ الدليل على أنه للكثير، صرف إليه.

ولا نقول: إنه مجاز فيه. والذي جعل حكم الأولى بأدنى العدد ما ذكره سيبويه من انبنائه على التثنية ومجيئه على حده، وموافقته له فيما ذكره. والذي سوغ أن يكون للكثير، ودل عليه، هو أن هذا البناء، أعني الجمع السالم لم يتناول بالجمع بناء كما تنوول الأبنية المصوغة لأدنى العدد، وهي أربعة: أفعال، وأفعلة، وأفعل، وفعلة، وكسرت تكسير الآحاد لمناسبتها لها في إفادتها القليل.

ألا ترى قولهم: أكرع وأكارع، وأبيات وأباييت وأنهم لا يفعلون ذلك بالجمع السالم، ومما يثبت ما ذكرناه ويؤيده أن الجمع السالم إذا صغِّر يصغر على لفظه، فنقول في مسلمين مسيلمون، وفي جعفرين جعيفرون، وفي مسلمات مسيلمات. كما أن ما وضع لأدنى العدد يصغر على لفظه وهي هذه الأبنية الأربعة.

وإنما صغرت على ألفاظها لأنها لما أفادت القليل أشبهت الواحد في إفادته لأدنى العدد على ألفاظها. والأبنية المفيدة للكثرة إذا صغرت ردت إلى أدنى عددها إن كان لها أدنى العدد، وإن لم يكن لها أدنى العدد ترد إلى واحدها فيصغر وتلحق فيه علامة الجمع. وإذا كان الأمر على هذا، تبين أن حكم مسلمات ومسلمون في أن الأولى به أدنى العدد، وحكم هذه الأبنية الأربعة سواء.

وإن كانت هذه الأبنية إذا استعملت في الكثير، كانت على طريق الاستعارة لأنهم كما يستعيرون الألفاظ يستعيرون البنى أيضاً.

وجمع السلامة، وإن كان الأولى به أدنى العدد فهو مستصلح للكثير أيضاً، مفيد له على الحقيقة إذا اقترنت به دلالة، فهذا حكم جمع السلامة. فإن قيل: إذا كان جمع السلامة وإن كان الأولى به أدنى العدد، قد وضع للكثير أيضاً، وينتهي به إليه إذا دلت الدلالة عليه، وذاك تغليب الأولى به لها، فلم أجري في التصغير على طريق ما وضع لأدنى العدد، وهو أنه يصغر على لفظه.

قيل له: إن الجمع الكثير متى لم يكن له أدنى العدد يرد إلى واحده، وإذا رد إلى واحده كان كجمع السلامة إذا صغر. ألا ترى أن مساجد إذا صغّرته قلت في تصغيره مسيجدات فهو على حد مسيلمات إذا صغرت مسلمات. وإذا كان كذلك فكأنهم في تصغيره على لفظه جمعوا له الحكمين جميعاً، أعني حكم أدنى العدد الذي يصغر على لفظه، وحكم الجمع الكثير إذا لم يكن له أدنى العدد فيرد إلى واحده من حيث كان موضوعاً لهما، أعني للقليل وللكثير. وإن كان متى تجرد كان الأولى به القليل للدلالة التي دلت، فقد حكي أن حسان بن ثابت لما أنشد النابغة كلمته التي فيها:

لنا الجفناتُ الغرُّ يلمعنَ بالضُّحى ... وأسيافنا يقطرنَ من نجدةٍ دما

عاب عليه قوله الجفنات، وقال له: لم قللت جفانك، فهذا يؤيد ما ذكرنا، فافهم.

وأما القسم الثاني وهو الجمع المكسر، فله بناءان: أحدهما للقليل، وقد تقدم ذكره.

والثاني للكثير، ويتفق في الأكثر أن يكون الشيء يحصل له البناءان جميعاً، ويتفق أيضاً أن يقصر على أحدهما ثم يستعمل إن كان للقليل في الكثير أيضاً، وإن كان للكثير في القليل أيضاً.

ولما كان العدد عددين: عدد قليل، وعدد كثير، خص اسم العدد من الثلاثة إلى العشرة بأن يبنى بناء القليل فيضاف إليه دون بناء الكثير، لئلا يخرجوا عن التشاكل إلى التباين، فقيل: بُرْد وبردان، وثلاثة أبراد، وفلس وفلسان، وثلاثة أفلس، وجبل وجبلان، وثلاثة أجبال، وغلام وغلامان، وثلاثة غلمة، وغراب وغرابان، وثلاثة أغربة.

ولا يؤثر فيما له بناء القليل إذا أرادوا تبين العدد القليل استعمال بناء الكثير إلاّ في النادر، وأبنية الكثير أكثر من أن يتناوله العدّ إلاّ بعد تكلف، ثم لا يؤمن أن يسقط منه الكثير أيضاً، فلذلك لم أطَّلب حصرها.

واعلم أن الأبنية التي تفيد الكثرة، كالفُجَّار، والفسَّاق، والزُّناة، والغزاة، والبيوت، والمساجد، والغرف، والشرف، والغلمان، والسُّودان، والبيضان، وما جرى مجراها متى لم يقترن لها ما يخصصها بعدد بعينه، فحكمها حكم أسماء الأجناس.

إلاّ أن أسماء الأجناس ترتقي من الواحد، وهذه الأبنية ترتقي من الثلاثة. واتفاقهما في أن كل واحد منهما وضع لأن يتناول ذلك الذي يفيده بالغاً ما بلغ، ومتى لم يقترن به ما يخصصه فيجب أن يكون مفيداً للكثرة، وكل ما استدل به في أسماء الأجناس يمكن أن يستدل بها في هذه الأبنية على أنها وضعت للكثرة والشمول.

ونقول أيضاً: إن جمع السلامة متى اقترن به ما يخرجه عما هو أولى به من إفادة القليل لحق بهذا أيضاً، لأنه وإن كان الأولى به إفادته القليل، فهو من حيث الوضع يتناول الكثير أيضاً، وقد مرت الدلالة على هذا. وإذا كان كذلك فقوله تعالى:) وهم في الغرفاتِ آمنون (بما اقترن به ما نبهنا على أنه يريد أدنى العدد، لحق في إفادته الكثرة باسم الجنس، وبما وضع للكثير وخص به.

وكذلك قوله تعالى:) إنَّ المسلمين والمسلمات (وكل ما يجري مجراه.

فإن قيل: لمَ زعمت أنه يجب تبين العدد القليل ببناء الجمع القليل وإضافته إليه، وهلا أضيف إلى بناء الكثير كما يضاف البعض إلى الكل.

قلت: إنما أضيف إلى بناء القليل لقلة العدد المعدود، ولو أضيف إلى بناء الكثير لم يحسن لسقوط الموافقة والمشاكلة من بينهما، ودخول التباعد والتباين في حدهما. ألا ترى أنك لو قلت: خمسة جمال أو سبعة بغال لكنت مقللاً بقولك: خمسة وسبعة ومكثراً بقولك: جمال وبغال، وبينهما من التدافع ما لا يخفى. فإذا قلت: خمسة أجمال وسبعة أبغل تشاكل العدد والمبين له، وتعاونا فيما يفيد أنه من القلة واستدل كل واحد من المضاف والمضاف إليه على حال صاحبه.

فإن قيل: فقد قال الله تعالى:) والمطلّقات يتربصنَ بأنفسهنَّ ثلاثة قروء (، فعدل عن أقراء وهو لأدنى العدد إلى قروء وهو الكثير، وأنت زعمت أن ذلك لا يؤثر ولا يحسن.

فالجواب: أن أقراء لم يروه سيبويه، وواحده قرْء بفتح القاف، وقياس فعْل أن يكون على أفعُل وإن أثبتناه لما ورد في الخبر من قوله: أيام أقراء، بل هو مما شذ عن القياس، وإن ورد في الاستعمال كاستحوذ. فكما لا يجوز القياس على استحوذ فكذلك لا يجوز للقياس على ثلاثة قروء. وقد رد أصحابنا هذا التأويل إلى ما عليه، ونظروا فقالوا: تقديره ثلاثة أقراء من القروء.

وطريقة أخرى: وهو أنه لما كان بناء الكثير أكثر في الاستعمال وأشهر من بناء القليل بدلالة أن مثل سيبويه لم يجعل في جمع قَرْء غير قروء وصار في حكم ما لم يجيء فيه غير بناء الكثير، فكما قيل: ثلاثة رجال، وأربعة مساجد قيل: ثلاثة قروء إذا كان أقراء في حكم ما لم يجيء لقلته. ومما يكشف قبح إضافة القليل إلى الكثير وخروجه عن الملاءة إلى التدافع أنهم لم يحقروا أبنية الكثرة على ألفاظها من حيث كان التحقير تقليلاً.

وهذه الأبنية للتكثير، فكما رفضوا ذلك لزوال التشاكل منهما وحصول التباين فيهما، فكذلك يجب أن نرفض ما أنكرناه، وهذا بيِّن.

ومن تأمل هذه المواضع اتضح له أغراضهم في هذه الأبنية، وصحة ما بيناه في جميعها إن شاء الله.

واعلم أن ما يفيد الشمول في النفي خاصة ولا يستعمل في الإثبات، إنما هو في عدة أبواب منه، كأنها خصصت به لكثرة البلوى بها إذا كانوا يضيعون ما يضيعون بحسب الحاجة إليه، ولم يستعمل في الإثبات، لأن ما يفيد الشمول مثله على حده لا يصح في الإثبات، إذا كانت هنا الحكاية لم تجر به، وقد بينا ذلك. فمنها ما يتكلم به في نفي الناس نحو: ما بها دُعْويّ، وما بها تامور، وما بها شفر. ومنها ما هو في نفي المال نحو: ما له سم ولا خم، وما له قُذَعْملة. ومنها ما ينفي به الطعام نحو: ما ذقت علوسا. ومنها ما ينفي به النوم نحو: ما ذقت غِماضاً ولا حثاثاً. ومنها ما ينفي به الأوجاع نحو: ما به وَذِيَّة. ومنها ما ينفي به الحلي نحو: ما عليها خضاض. وهذه على اختلافها وأمثالها لا يستعمل شيء منها في الإثبات، وهي تفيد نفي قليل ما وضع له وكثيره، فافهم ذلك واعلمه، إن شاء الله.

المنتخبات الشعرية

محمد بن يزيد بن مسلمة

يا صاحبيَّ قفا عليَّ سويعةٍ ... كيما نلمَّ بقصرِ عبدِ القادرِ

عوجا معي لله درُّ أبيكُما ... نشفِ القلوبَ من الجوى المتخامرِ

أمَّا النزولُ فيائسٌ أنْ تفعلا ... لا تبخَلا عنِّي بموقفِ ناظرِ

كفَّا الملامَ ولاتَ حينَ ملامةٍ ... هذا أوانُ ترافدٍ وتناصرِ

أو فاصرِما حبلَ المودةِ بيننا ... هذا الطريقُ لمنجدٍ أو غائرِ

فتواقفا متشتِّتينَ هواهُما ... من مسعديَّ بالوفاءِ وغادرِ

فانقادَ لي هذا فأبصرَ رشدهُ ... وانحازَ ذاكَ إلى الطريقِ الجائرِ

لمَّا بدا وادي النُّويرةَ دوننا ... نرمي الفجاجَ بعنتريسٍ ضامرِ

رفعَ العقيرَةَ بالغناءِ فشاقني ... رجعٌ كحدرِ اللؤلؤِ المتناثرِ

رهبانُ مدينَ لو رأوْكِ تنازلوا ... والعصمِ من شغفِ العقول الفادرِ

فاغرورقتْ عينُ الفتى فزجرتهُ ... نهنهْ دموعكَ فارعوى للزاجرِ

حتّى إذا أرخى الظلامُ ستورهُ ... وتزاورَ العيّوقُ أيَّ تزاورِ

وتصوّبتْ أيدي النجومِ فغوَّرتْ ... وغوائرٌ منها أمامَ غوائرِ

عجنا بقصرِ بني شعيبٍ بعدَما ... سئمَ الخليطُ ونامَ كلُّ مسامرِ

ورمى الكرَى في الحارسينِ فهوَّموا ... من بعد ما بقيا بليل ساهرِ

قالَ ابنُ عمِّي ما ترى قلتُ اتئدْ ... ليس الجهولُ بخطِّةٍ كالخابرِ

اعقلْ قلوصاً جانبا لا ترعَها ... واقرنْ وظيفَ ذراعِها بالآخرِ

أمَّا الجوادُ فلم يبرحْ مكانتهُ ... بتقدِّمٍ منه ولا بتأخّرِ

عوّذتهُ فيما أزورُ حبائِبي ... إهمالهُ وكذاكَ كلُّ مخاطرِ

وإذا احتبَى قربوسهُ بعنانهِ ... علكَ الشَّكيمُ إلى انصرافِ الزَّائرِ

وعلمتُ أنَّ الأمرَ ليسَ دواؤهُ ... إلاّ الجسورُ ليسَ حينَ تجاسرِ

فخرجتُ أقدمُ صاحبي متوشِّحاً ... بحمائل الغصبِ الحسامِ الباترِ

أكزُ النيامَ ميامنا ومياسرا ... والقومُ نصبُ ميامنِي ومياسِري

ما راعني إلاّ نبيذُ وصيفةٍ ... بالسُّورِ تنبذُ بالحصى المتواترِ

مأمورةٍ لم تعدُ ما أُمرتْ به ... سقياً لمأمورٍ هناكَ وآمرِ

وأبهنَ فاستشرفنَ لي ... من بينِ مسدلةِ النقابِ وحاسرِ

أشرفنَ إشرافَ الظِّباءِ تشايمتْ ... برقاً تبوَّجَ في حبِيٍّ ماطرِ

بملاحفٍ مصقولةٍ قد وصِّلتْ ... ومآزرٍ عقَّدْنها بمآزرِ

تسعٌ حُشدنَ لعاشرٍ يُصعدنهُ ... يا ربِّ سلّمْ شخصهُ من عاشرِ

فسدلنَ أسباباً إليَّ ضعيفةً ... إمَّا وهتْ لم يلقَ لي من عاذرِ

فشددتُها في رسغِ أروعَ ماجدٍ ... ماضٍ على الأهوالِ غير مؤامرِ

وطليحهنَّ وساوسٌ قد قطَّعتْ ... قلبي مخافةَ نبأةٍ من سائرِ

فمطوتُ منكبَ صاحبي فأنافَ بي ... وجذبنَ بالأسبابِ بعدَ تشاورِ

فصبرنَ للأمرِ الذي حاولنهُ ... حتَّى ظفرنَ وبتنَ غيرَ صوابرِ

فلئنْ دخلتُ القصرَ مدخلَ فاتكٍ ... ما كنتُ في سترِ الحجالِ بفاجرِ

أمَّا الإزارُ وحوزهُ فمحرَّمٌ ... وليَ الوشاحُ وما خلا من ماطرِ

والشَّمُّ والتقبيلُ كانَ محلَّلاً ... واللَّمسُ إلاّ عن كثيبٍ مائرِ

ما ذاكَ إلاّ أنَّني متكرِّمٌ ... حرُّ الأرومةِ بتُّ بينَ حرائرِ

بينَ الرَّبابِ وبينَ أترابٍ لها ... بيضٍ غذاهنَّ النعيمُ عباهرِ

فتقاصرَ الليلُ الطويلُ ولم يكنْ ... من قبلُ ذاكَ عليَّ بالمتقاصرِ

هطلتْ علينا بالسُّرورِ سماؤهُ ... وجرتْ كواكبهُ بأسعدَ طائرِ

لمَّا بدا ضوءُ الصباحِ مبشِّراً ... أولاهُ أردافَ الدُّجى بأواخرِ

قالتْ ودمعُ العينِ يغسلُ كحلَها ... نفسي الفداءُ دنا الصباحُ فبادرِ

فخرجتُ في خمسٍ كواعبَ زرنَها ... ذاتَ العشاءِ خروجَ قدحِ الياسرِ

ما إنْ نمرُّ بحارسٍ إلاّ زوى ... عنَّا عرامةَ طرفهِ المتخازرِ

فمضينَ بي وقلوبهنَّ رواجفٌ ... يخفقنَ بينَ حشا وبينَ حناجرِ

لمَّا وقفنَ بالثَّنيَّة لم يكنْ ... إلاّ وداعُ مسلِّمٍ أو سائرِ

وإذا البلادُ بلاقعٌ من صاحبي ... لمحَ الصَّباحُ له لضوءٍ ناصرِ

هزمتْ عساكرُهُ دجى ظلمائها ... والليلُ منهزمٌ بغيرِ عساكرِ

خلَّفتهُ وفؤادهُ حذرَ العدى ... في مثلِ خافيةِ العقابِ الطَّائرِ

وإذا الجوادُ بموقفٍ أحرزتهُ ... لمَّا تحقَّقَ فيه قولُ الشاعرِ

قد ملَّ من علكِ الشَّكيمِ كأنَّه ... ناجٍ بصحراءِ المَعَى فقُراقرِ

قرَّبتهُ ثم استحلْتُ بمتنهِ ... وانقضَّ يهوي كالعقابِ الكاسرِ

فناقضه عبد القادر فقال:

يا قصرَ مسلمةَ الذي أهدَى لنا ... حورَ الظِّباءِ سُقيتَ صوبَ الماطرِ

قد كانَ يبلغُني فصرتُ مكذِّباً ... عن حسنِ أهلكِ في الزَّمانِ الغابرِ

حتَّى رأيتُ الشمسَ أشرقَ نورُها ... في ريطةٍ مصقولةٍ وقراقرِ

ورأيتُ غزلانَ الخدورِ سوافراً ... يبسمنَ عن كالأقحوانِ الزَّاهرِ

في مجلسٍ هطلتْ سماءُ سرورهِ ... درراً تساقطُ من مِفنٍّ ماهرِ

فجنيتُ من ثمر الصَّبابةِ والهوى ... وخبطتُ من ورقِ النَّعيمِ النَّاضرِ

وظللنَ يرمينَ القلوبَ بأسهمٍ ... سمَّتُ مشاقصها بطرفٍ فاترِ

وأصبنَ منِّي مقتلاً فقتلنني ... يا من رأى ليثاً قتيل جآذرِ

دعْ ذا ولكن هل سمعتَ مقالها ... والعينُ تسعدها بدمعٍ ماطرِ

في غفلةٍ من أهلها لِفتاتها ... ويلي غداً إن سارَ عبدُ القادرِ

قال عمرو بن قعاس المرادي:

ألا يا بيتُ بالعلياء بيتُ ... ولولا حبُّ أهلكِ ما أتيتُ

ألا يا بيتُ أهلكِ أوعدوني ... كأنِّي كلَّ ذنبهمُ جنيتُ

ألا بكرَ العواذلُ واستميتُ ... وهل أنا خالدٌ إمَّا صحوتُ

إذا ما فاتني لحمٌ غريضٌ ... ضربتُ ذراعَ بكري فاشتويتُ

وكنتُ إذا أرى زقَّا مريضاً ... يناحُ على جنازتهِ بكيتُ

أرجِّلُ لمَّتي وأجرُّ ذيلي ... وتحمل بزَّتي أفقٌ كميتُ

أمشِّي في ديار بني غطيفٍ ... إذا ما سامني ضيمٌ أبيتُ

وسوداءِ المحاجرِ إلفَ صخرٍ ... تلاحظني التَّطلُّعَ قد رميت

وغصنٍ ليِّنٍ غضرٍ رطيبٍ ... هصرتُ إليَّ منه فاجتنيتُ

وماءٍ ليسَ من عدٍّ رواءٍ ... ولا ماءِ السَّماء قد استقيتُ

وتامورٍ هرقتُ وليس خمراً ... وحبَّةِ غيرِ طاحنةٍ فليتُ

ولحمٍ لم يذقهُ الناسُ قبلي ... أكلتُ على خلاءٍ وانتقيتُ

وبركٍ قد أثرتُ بمشرفيٍّ ... إذا ما زلَّ عن عقرٍ رميتُ

وصادرةٍ معاً والوِردُ شتَّى ... على أدبارها أُصلاً حدوتُ

وعاديةٍ لها ذنبٌ طويلٌ ... رددتُ بمضغةٍ مما اشتهيتُ

ونارٍ أوقدت من غيرِ زندٍ ... أثرتُ جحيمها ثم اصطليتُ

أثبِّتُ باطلي فيكونُ حقّاً ... وحقّاً غيرَ دي شبهٍ لويتُ

فلم أدبرْ على الأدنينِ إنّي ... نماني الأكرمونَ وما نميتُ

متى ما يأتني أجلي يجدني ... شبعتُ من اللَّذاذةِ واشتفيتُ

وقال عروة بن حزام العذري:

ألا يا غرابيْ دمنةِ الدارِ بيّنا ... أبا الصِّرمِ من أسماءَ تنتجيانِ

فإنْ كانَ حقّاً ما تقولانِ فانهضا ... بجسمي إلى وكريكما فكلاني

ولا يدرينَّ الناسُ ما كان ميتني ... ولا يأكلنَّ الطَّيرُ ما تذرانِ

فإن تكشفا عنِّي القميصَ تبيَّنا ... بيَ السُّقمَ من عفراءَ ما تذرانِ

إذاً تجدا لحماً قليلاً وأعظماً ... بلينَ وقلباً دائمَ الخفقانِ

فعفراءُ أصفى الناس عندي مودَّةً ... وعفراءُ عنِّي المعرضُ المتواني

على كبدي من حبِّ عفراءَ وقرةٌ ... وعينايَ من وجدٍ بها تكفانِ

سجوماً وتذرافاً وسحّاً وديمةً ... وسكباً وإخضالا وتبتدرانِ

كأنَّهما وهيانِ في مستشنَّةٍ ... تسدَّانِ أحياناً وتنفجرانِ

فأقسمُ لولا حبُّ عفراءَ ما التقى ... عليَّ رواقا بيتكِ الخلقانِ

ولا حملتْ عنسي بأغبرَ طامسٍ ... ولا وكلتْ عيناي بالهملانِ

فويلي على عفراءَ ويلاً كأنَّهُ ... على الصَّدرِ والأحشاءِ حدُّ سنانِ

أعفراءُ كمن من ميتةٍ قد أمتِّني ... وحزنٍ ألحَّ العينَ بالهملانِ

لقد تركتْ عفراءُ قلبي كأنَّهُ ... جناحُ عقابٍ دائمُ الطَّيرانِ

فيا ليتنا نحيا جميعاً وليتنا ... إذا نحنُ متنا ضمَّنا كفنانِ

ويا ليتنا عفراءُ منن غيرِ ريبةٍ ... بعيرانِ نرعى القفرَ مؤتلفانِ

هوى ناقتي خلفي وقدَّاميَ الهوى ... وإنِّي وإيَّاها لمختلفانِ

فإنْ تحملي شوقي وشوقكِ تظلعي ... وما ليَ بالحملِ الثقيلِ يدانِ

ألا ليتَ عمِّي يومَ فرَّقَ بيننا ... سقي السُّمَّ ممزوجاً بشثِّ يمانِ

فيا عمِّ لا بلَّتكَ من ذي قرابةٍ ... بلالٌ وزلَّتْ تحتكَ القدمانِ

وذاكَ بما فرَّقتَ بيني وبينها ... ونحن بنيَّا العمِّ مؤتلفانِ

يكلِّفني عفراءُ ستينَ بكرةً ... وما ليَ يا عفراءُ غيرُ ثمانِ

يكلِّفني عفراءُ ما ليسَ لي به ... ولا بالجبالِ الراسياتِ يدانِ

فواللهِ ما حدَّثتُ سرَّكِ صاحباً ... نصيحاً ولا فاهتْ به الشَّفتانِ

سوى أنَّني قد قلتُ يوماً لصاحبي ... ضحى وقلوصانا بنا تخدانِ

ألا حبَّذا من حبِّ عفراءَ ملتقى ... نعامٍ وبركٍ حيثُ يلتقيانِ

جعلتُ لعرَّافِ اليمامةِ حكمهُ ... وعرَّافِ نجدٍ إن هما شفياني

فقالا نعمْ نشفي من الدَّاء كلِّهِ ... وقاما مع العوَّادِ يبتدرانِ

وما تركا من رقيةٍ يعلمانها ... ولا سلوةٍ إلاّ بها رقياني

فقالا شفاكَ اللهُ واللهِ ما لنا ... بما ضمِّنتْ منكَ الضُّلوعِ يدانِ

كأنَّ قطاةً علِّقتْ بجناحها ... على كبدي من شدَّةِ الخفقانِ

وقال حسان بن ثابت:

أسألتَ رسمَ الدَّارِ أم لم تسألِ ... بينَ الجوابي فالبضيعِ فحوملِ

فالمرجِ مرجِ الصُّفَّرينِ فجاسمٍ ... فديارِ تبنى درَّساً لم تحللِ

دارٌ لقومٍ قد أراهم مرَّةً ... فوقَ الأعزَّةِ عزُّهم لم ينقلِ

للهِ درُّ عصابةٍ نادمتهمْ ... يوماً بجلَّقَ في الزَّمانِ الأولِ

أولادُ جفنةَ حولَ قبرِ أبيهمِ ... قبر ابن ماريةَ الكريمِ المفضلِ

يسقونَ من وردَ البريصَ عليهم ... بردى يصفِّقُ بالرّحيقِ السَّلسلِ

يسْقونَ درْياقَ المدامِ ولم تكنْ ... تعدو ولائدهمْ لنقفِ الحنظلِ

يغشونَ حتَّى ما تهرُّ كلابهمْ ... لا يسألونَ عن السَّوادِ المقبلِ

بيضُ الوجوهِ كريمةٌ أحسابهمْ ... شمُّ الأنوفِ من الطِّراز الأولِ

فلبثتُ أيَّاماً طوالا فيهمُ ... ثم ادَّكرتُ كأنني لم أفعلِ

إمَّا تريْ رأسي تغيَّر رأسي تغيَّر لونهُ ... شمطاً وأصبحَ كالثَّغامِ الممحلِ

فلقد يراني الموعديُّ كأنَّني ... في قصرِ دومةَ أو سواءِ الهيكلِ

ولقد شربتُ الخمرَ في حانوتها ... صهباءَ صافيةً كطعمِ الفلفلِ

يسعى عليَّ بكأسها متنطِّفٌ ... فيعلُّني منها ولو لم أنهلِ

إنَّ التي ناولتني فرددتها ... قُتلتْ قتلْتَ فهاتها لم تقتلِ

كلتاهما حلبُ العصير فعاطني ... بزجاجةٍ أرخاهما للمفصلِ

بزجاجةٍ وقصتْ بما في جوفها ... رقصَ القلوصِ براكبٍ مستعجلِ

نسبي أصيلٌ في الكرام ومذوَدي ... تكوي مواسمهُ جنوبَ المصطلي

وفتىً يحبُّ المجدَ يجعلُ مالهُ ... من دونِ والده وإن لم يسألِ

ولقد تعمِّمنا العشيرةُ أمرها ... ويصيبُ قائلنا سواءَ المفصلِ

فتزورُ أبوابَ الملوكِ ركابنا ... ومتى نحكَّمُ في العشيرةِ نعدلِ

وقال الحارثي:

ألممْ بزينبَ جازَ منكَ بكورُ ... وغداً يجدُّ بمن تحبُّ مسيرُ

كيفَ اللِّقاءُ ومنْ نحبُّ لقاءه ... متنجِّدٌ بكراً وأنتَ تغورُ

كم حرَّةٍ ركدتْ عليَّ وزفرةٍ ... إذ قيلَ من تهوى غداً سيسيرُ

سقياً لمن ودَّعتهُ فكأنَّهُ ... مما يجنُّ من الفراقِ يهيرُ

إنّي غداةَ فراقهمْ إذ لم أمتْ ... كمداً غداةَ فراقهمْ لصبورُ

فيا مرابيضَ حمَّ يومُ فراقكمْ ... فهلِ اللِّقاءُ لعاشقٍ مقدورُ

قالت وشخص دمعها من عينها ... وهوى يجيشُ به حشىً وضميرُ

إنَّ الذي قدرَ الفراقَ على الذي ... تهوى النفوسُ من اللقاءِ قديرُ

قد ينزحُ الألاَّفُ ثم تكرهمْ ... مررٌ ويعتقبُ الأمورَ أمورُ

فوجمتُ من أسفٍ وقلتُ لعلَّهُ ... وعلمتُ أنَّ مقالها تصبيرُ

ما ضرَّ أهلكِ لو ينوَّلُ عاشقٌ ... أولم يسهَّلْ أذنهُ فيزورُ

نفسوا القليلَ عليهِ منكِ وعندهُ ... لو نالهُ منكِ القليلُ كثيرُ

لا شيءَ أيسرُ من زيارةِ طارقٍ ... يهوى لقائكِ واللّقاءُ يسيرُ

نفسي معلَّقةٌ بذكركَ والحشا ... قلقٌ إليكِ إذا ذكرتِ يطيرُ

لا تنكري قلقي إليكِ وصبوتي ... إنَّ المحبَّ بما أتى معذورُ

لو شئتِ لانتعشَ المحبُّ بزورةٍ ... يحيى لهُ طرفٌ بها مسرورُ

ولقد بسطتُ يدي لبذلِ نوالكمْ ... إنَّ المحبَّ إلى الحبيبِ فقيرُ

ولقد ذكرتكِ والجحيمُ معرَّفٌ ... وجداً بوجهكِ والمحبُّ ذكورُ

لولا الحياءُ وأن يقالَ شكا الهوى ... . . إلى من بهواك يجيرُ

لكن سترتكِ أن يشادَ بذكرنا ... وسترتُ نفسي والكريمُ ستورُ

قال العواذلُ قد كبرتَ عن الصِّبا ... صدقَ العواذلُ إنَّني لكبيرُ

إنْ يمسِ شيبٌ قد تفرَّعَ لمَّتي ... فالحبُّ مقتبلُ الشبابِ غديرُ

أبلى ويعقبه التَّقادمُ جِدَّةً ... إنَّ الهوي لمعمِّرٌ موفورُ

وقال مالك بن الريب يذكر غربته ومرضه ويرثي نفسه:

ألا ليتَ شعري هل أبيتنَّ ليلةً ... بجنبِ الغضى أزجي القلاصَ النَّواجيا

فليتَ الغضى لم يقطعِ الرَّكبُ عرضهُ ... وليتَ الغضى ماشى الرِّكابَ لياليا

أقولُ لزيدٍ وهو مثلي به جوى ... أرى الرأيَ منَّا أن نزورَ المعاويا

وكيفَ زيارٌ للمعاويّ بعدما ... وجدنا طبيبا دون ذاك مداويا

فباتَ يعلّلني بمن يسكنُ الغضى ... وإن لم يكنْ يا زيدُ إلاّ الأمانيا

أراني من حبِّ الغضى لاحقاً بهِ ... فيمسكهُ أهلي وراعيه ماليا

لقد كانَ في أهل الغضى لو دنا الغضى ... مزارٌ ولكنَّ الغضى ليسَ دانيا

خليليَّ من عليا ربيعةَ مازنٍ ... بسمنانَ هل يغنيكما ما غنانيا

حسبتُ الغضى يشفي الهيامَ فلم أجدْ ... شميمَ الغضى يشفي الهيام هياميا

وكنتُ حسبتُ الحنَّ قد مات فانقضى ... فقضَّيتُ عن حنِّ النّساءِ لياليا

فلمَّا هبطنا أرضَ عمرٍو من الغضى ... دماثِ الروابي والحقوقِ المخابيا

إذاً في الغضى يا سقيَ من يسكنُ الغضى ... شبيهةُ سوداءَ التي لستُ ناسيا

ألمْ ترني بعتُ الضَّلالةَ بالهدى ... وأصبحتُ في جيشِ ابنِ عفَّانَ غازيا

وأصبحتُ في أرضِ الأعاجمِ بعدما ... أرانيَ عن أرضِ الأعاجم قاصيا

دعاني الهوى من أهلِ أوْدَ وصحبتي ... بذي الطِّبسينِ فالتفتُّ ورائيا

أجبتُ الهوى لما دعاني بعبرةٍ ... تقنَّعتُ منها أن ألامَ ردائيا

أقولُ وقد حالتْ قرى الكردِ دوننا ... جزى الله عمراً خيرَ ما كانَ جازيا

إنِ اللهُ يرجعني من الغزو لا أرى ... وإن قلَّ مالي طالباً ما ورائيا

لعمري لئنْ غالتْ خراسان هامتي ... لقد كنتُ عن بابيْ خراسانَ نائيا

فلله درِّي يومَ أتركُ طائعا ... بنيَّ بأعلى الرَّقمتينِ وماليا

ودرُّ الظِّباءِ السَّانحاتِ عشيَّةً ... يخبِّرنَ أنّي هالكٌ من أماميا

ودرُّ كبيريَّ اللَّذيْن كلاهما ... عليَّ شفيقٌ ناصحٌ لو نهانيا

ودرُّ الرِّجالِ الشَّاهدينَ تفتُّكي ... بأمريَ ألاَّ يقصروا من وثاقيا

ودرُّ الهوى من حيثُ يدعو صحابهُ ... ودرٌّ لحاجاتي ودرُّ انتهائيا

تذكرتُ من يبكي عليَّ فلم أجدْ ... سوى السيفِ والرُّمحِ الرُّدينيِّ باكيا

وأشقرَ محذوفٍ يجرُّ عنانهُ ... إلى الماءِ لم يتركْ لهُ الدَّهرَ ساقيا

يقوِّدهُ قومٌ وقد ماتَ ربُّهُ ... يباعُ بوكسٍ بعدَ ما كان غاليا

ولكن بأكنافِ السُّمينةِ نسوةٌ ... عزيزٌ عليهنَّ العشيَّةَ ما بيا

عجوزي وبنتايَ اللَّتانِ هما ليا ... وبنتٌ لأيوبٍ تبكِّي البواكيا

صريعٌ على أيدي الرِّجالِ بقفرةٍ ... يسوُّونَ خدِّي حيثُ حمَّ قضائيا

ولمَّا تراءتْ عندَ مروَ منيَّتي ... وخلَّ بها جسمي وحانتْ وفاتيا

أقولُ لأصحابي ارقبوني فإنَّني ... يقرُّ بعيني أنْ سهيلٌ بدا ليا

فيا صاحبيْ رحلي دنا الموتُ وانزلا ... برابيةٍ إنِّي مقيمٌ لياليا

أقيما عليَّ اليومَ أو بعضَ ليلةٍ ... ولا تُعجلاني قد تبيَّنَ شانيا

وقوما إذا ما استلَّ روحي وهيِّئا ... ليَ السِّدرَ والأكفانَ عند فنائيا

وخُطَّا بأطرافِ الرّماحِ مضجعي ... وردَّا على عينيَّ فضلَ ردائيا

ولا تحسداني باركَ اللهُ فيكُما ... من الأرضِ ذاتِ العرضِ أنْ توسعا ليا

خُذاني فجرَّاني ببُردي إليكما ... فقد كنتُ قبلَ اليومِ صعباً قياديا

وقد كنتُ عطَّافاً إذا الخيلُ أدبرتْ ... سريعاً لدى الهيجا إلى ما دعانيا

وقد كنتُ محموداً لذي الزَّادِ والقرى ... ثقيلاً على الأعداءِ عضبٌ لسانيا

وقد كنتُ صبَّاراً على القرنِ في الوغى ... وعن شتمي ابنَ الغمِّ والجارِ وانيا

فطوْراً تراني في ظلالٍ ونعمةٍ ... ويوماً تراني والعتاقُ ركابيا

ويوماً تراني في رحاً مستديرةٍ ... تخرِّقُ أطرافَ الرِّماحِ ثيابيا

وقوماً على بئرِ السُّمينةِ أسمِعا ... بها الغرَّ والبيضَ الحسانَ الرَّوانيا

بأنَّكما خلَّفتماني بقفرةٍ ... تهيلُ عليَّ الرِّيحُ فيها السَّواقيا

ولا تنسيا عهدي خليليَّ بعدما ... تقطَّعُ أوصالي وتبلى عظاميا

ولنْ يعدمَ الوالونَ بثَّاً يصيبهمْ ... ولنْ يعدمَ الميراثَ منِّي المواليا

يقولونَ لا تبعدْ وهم يدفنونني ... وأينَ مكانُ البعدِ إلاّ مكانيا

غداةَ غدٍ يا لهفَ نفسي على غدٍ ... إذا أدلجوا عنِّي وأصبحتُ ثاويا

وأصبحَ مالي من طريفٍ وتالدٍ ... لغيري وكانَ المالُ بالأمسِ ماليا

أرجِّي شباباً مُطرهمَّاً وصحةً ... وكيفَ رجاءُ الشَّيخِ ما ليسَ لاقيا

عينية لقيط بن يعمر الإيادي:

يا دارَ عمرةَ من محتلِّها الجرعا ... هاجتْ ليَ الهمَّ والأحزانَ والوجعا

تامتْ فؤادي بذاتِ الجزعِ خرعبةٌ ... مرَّت تريدُ بذاتِ العذبةِ البيعَا

بمقلَتي خاذلٍ أدماءَ طاعَ لها ... نبتُ الرِّياضِ تزجِّي وسطهُ ذرعَا

وواضحٍ أشنبِ الأنيابِ ذي أُشرٍ ... كالأقحوانِ إذا ما نورهُ لمعَا

جرَّتْ لما بيننا حبلَ الشُّموسِ فلا ... يأساً مُبينا أرى منها ولا طمعَا

فما أزالُ على شحطٍ يؤرِّقني ... طيفٌ تعمَّدَ رحلي حيثُما وضعَا

إنِّي بعينيَ إذ أمَّتْ حمولهمُ ... بطنَ السَّلوطحِ لا ينظرنَ منْ تبعَا

طوراً أراهمْ وطوراً لا أبيِّنهمْ ... إذا تواضعَ خدرٌ ساعةَ لمعَا

بل أيُّها الرَّاكبُ المُزجي على عجلٍ ... نحوَ الجزيرةِ مرتاداً ومنتجعَا

أبلغْ إياداً وخلِّلْ في سراتهمُ ... إنِّي أرى الرأيَ إنْ لم أُعصَ قد نصعَا

يا لهفَ نفسيَ إنْ كانتْ أموركمُ ... شتَّى وأُحكمَ أمرَ النَّاسِ فاجتمعَا

ألا تخافونَ قوماً لا أبالكمُ ... أمسَوا إليكم كأمثالِ الدَّبا سرعَا

أيناءُ قومٍ تآووكمْ على حنقٍ ... لا يشعرونَ أضرَّ اللهُ أمْ نفعَا

أحرارُ فارسَ أبناءُ الملوكِ لهمْ ... من الجموعِ جموع تزدهي القلعَا

فهم سراعٌ إليكم بينَ ملتقطٍ ... شوكاً وآخرَ يجني الصَّابَ والسَّلعَا

لو أنَّ جمعهمُ راموا بهدَّتهِ ... شمَّ الشَّماريخِ من ثهلانَ لانْصدعَا

في كلِّ يومٍ يسنَّونَ الحرابَ لكمْ ... لا يهجعونَ إذا ما غافلٌ هجعَا

خزرٌ عيونُهم كأنَّ لحضهمُ ... حريقُ نارٍ ترى منهُ السَّنا قطعَا

لا الحرثُ يشغلهمْ بل لا يرونَ لهم ... من دون بيضتكمْ ريَّا ولا شبعَا

وأنتمْ تحرثونَ الأرضَ عن عرضٍ ... في كلِّ معتملٍ تبغونَ مزدرعَا

وتُلحقونَ حيالَ الشَّولِ آونةَ ... وتنتجونَ بذاتِ القلعةِ الرُّبعَا

وتلبسونَ ثيابَ الأمنِ ضاحيةَ ... لا تفزعونَ وهذا اللَّيثُ قد جمعَا

أنتمْ فريقانِ هذا لا يقومُ لهُ ... هصرُ اللّيوثِ وهذا هالكٌ صقعَا

وقد أظلَّكمُ من شطرِ ثغرِكم ... هولٌ ظلمٌ تغشاكمُ قطعَا

مالي أراكمْ نياماً في بلهنيةٍ ... وقد ترونَ شهابَ الحربِ قد سطعَا

فاشفوا غليلي برأيٍ منكمُ حسنٍ ... يضحِ فؤادي له ريَّانَ قد نقعَا

ولا تكونوا كمنْ قد باتَ مكتنعاً ... إذ يقالُ له افرُجْ غمَّةً كنعَا

قوموا قياماً على أمشاطِ أرجلكمْ ... ثم افزعوا قد ينالُ الأمرَ من فزعَا

صونوا خيولَكم واجْلوا سيوفكمُ ... وجدِّدوا للقسيِّ النَّبعَ والشَّرعَا

واشروا تلادكمُ في حرزِ أنفسكمْ ... وحرزِ نسوتكمْ لا تهلكوا هلعَا

ولا يدعُ بعضكمْ بعضاً لنائبةٍ ... كما تركتمْ بأعلى بيشةَ النَّخعَا

اذكوا العيونَ وراءَ السَّرحِ واحترسوا ... حتَّى ترى الخيلَ من تعدائها وجعَا

فإنْ غلبتمْ على ضنٍّ بداركمُ ... فقد لقيتُم بأمرِ حازمٍ فزعَا

لا تلهكمْ إبلٌ ليستْ لكم إبلٌ ... إنَّ العدوَّ بعظمٍ منكمُ فزعَا

هيهاتَ لا مالَ من زرعٍ ولا إبلٍ ... يرجى لغابركمْ إنْ أنفكم جُدعَا

لا تثمروا المالَ للأعداءِ إنَّهمُ ... إنْ يظفروا يحتووكمْ والتلادَ معَا

واللهِ ما انفكَّتِ الأموالُ مذْ أبدٍ ... لأهلها إنْ أُصيبوا مرةً تبعَا

يا قومُ إنَّ لكمْ من أرثِ أوَّلكمْ ... عزّاً قد أشفقتُ أن يودي فينقطعَا

وما يردُّ عليكمْ عزُّ أوَّلكمْ ... إنْ ضاعَ آخرهُ أو ذلَّ واتَّضعَا

ولا يغرَّنكمْ دنيا ولا طمعٌ ... أنْ تنعشوا بزماعٍ ذلك الطَّمعَا

يا قومُ بيضتكمْ لا تفجعنَّ بها ... إنِّي أخافُ عليها الأزلمَ الجدعَا

يا قومْ لا تأمنوا إن كنتمُ غيُراً ... على نسائكمُ كسرى وما جمعَا

هو الجلاءُ الذي تبقى مذلَّتهُ ... إنْ طارَ طائركمْ يوماً وإنْ وقعَا

هو الفناءُ الذي يجتثُّ أصلكمُ ... فشمِّروا واستعدُّوا للحروبِ معَا

وقلِّدوا أمركُم لله درُّكمُ ... رحبَ الذِّراعِ بأمرِ الحربِ مضطلعَا

لا مترفاً إنْ رخاءُ العيشِ ساعدهُ ... ولا إذا عضَّ مكروهٌ به خشعَا

لا يطعمُ النَّومَ إلاَّ ريثَ يبعثهُ ... همٌّ يكادُ أذاهُ يحطمُ الضّلعَا

مسهَّدَ النَّوم تعنيه أموركمُ ... يؤمُّ منها إلى الأعداءِ مطَّلعَا

ما زالَ يجلبُ درَّ الدَّهرِ أشطرهُ ... يكونُ متَّبعاً يوماً ومتَّبعَا

وليسَ يشغلهُ مالٌ يثمِّرهُ ... عنكم ولا ولدٌ يبغي له الرِّفعَا

حتَّى استمرَّتْ على شزرٍ مريرتهُ ... مستحكم السِّنِّ لا قمحا ولا ضرعَا

كمالكِ بن قنانٍ أو كصاحبهِ ... زيدِ القنا يومَ لاقى الحارثينِ معَا

إذ عابهُ عائبٌ يوماً فقالَ لهُ ... دمِّثْ لنفسكَ قبلَ اليومِ مضطجعَا

فساورهُ فألفَوهُ أخا عللِ ... في الحربِ يختبلُ الرِّئبالَ والسَّبعَا

مستنجداً يتحدَّى النَّاسَ كلّهمُ ... لو قارعَ النَّاسَ عن أحسابهم قرعَا

هذا كتابي إليكم والنَّذيرُ لكمْ ... فمن رأى مثلَ ذا رأياً ومن سمعَا

لقد بذلتُ لكم نُصحي بلا دخلٍ ... فاستيقظوا إنَّ خيرَ القولِ ما نفعَا

وقالت الخنساء بنت عمرو ترثي أخاها صخراً

أقذى بعينكِ أمْ بالعينِ عوَّارُ ... لا بلْ بكيتَ لمن أقوتْ لهُ الدَّارُ

تبكي لصخرٍ هي العبرَى وقد عبرتْ ... ودونهُ من ترابِ الأرضِ أستارُ

كأنَّ عيني لذكراهُ إذا خطرتْ ... فيضٌ يسيلُ على الخدَّينِ مدرارُ

تبكي خناسُ على صخرٍ وحقَّ لها ... أودى بهِ الدَّهرُ إنَّ الدَّهرَ عثّارُ

في جوفِ رمسٍ مقيماً قد تضمَّنه ... في قبرهِ مقمطرَّاتٌ وأحجارُ

يا صخرُ ورَّادُ ماءٍ لقد تناذرهُ ... أهلُ المواردِ ما في وردهِ عارُ

مشيَ السَّبنتى إلى هيجاءَ معضلةٍ ... لهُ سلاحانِ أنيابٌ وأظفارُ

مثلَ الرُّدينيّ لم تدنسْ شبيبتهُ ... كأنَّهُ تحتَ طيِّ البُردِ أسوارُ

جهمُ المحيَّا تضيءُ اللَّيلَ صورتهُ ... آباؤهُ من طوالِ السَّمكِ أحرارُ

رحبُ اليدينِ بفعلِ الخيرِ ذو فجرٍ ... ضخمُ الدَّسيعةِ بالخيراتِ أمَّارُ

جلدٌ مخيلٌ وهوبٌ بارعٌ يسرٌ ... وفي الحروبِ إذا لاقيتَ مسعارُ

حامي الحقيقةَ مهديُّ الطريقة ... ممحوضُ الخليقة نفَّاعٌ وضرَّارُ

حوَّاطُ قاصيةٍ قوَّالُ عاصيةٍ ... جزَّارُ قاصيةٍ للجيشِ جرَّارُ

فلتبكِ ناعيةٌ بالفجعِ داعيةٌ ... في يومِ واعيةٍ ما فيهِ إسرارُ

فعَّالُ ساميةٍ ورَّادُ طاميةٍ ... للمجدِ ناميةٍ تعنيهِ أسفارُ

حلوٌ حلاوتهُ فصلٌ مقالتهُ ... ماضٍ مريرتهُ في الهيجِ مغوارُ

فليبكِه مقترٌ وافى حريبتهُ ... دهرٌ وحالفهُ بؤسٌ وإقتارُ

أو رفقةٌ حارَ حاديهمْ بمظلمةٍ ... كأنَّ ظلمتَها في الطِّخيةِ القارُ

لم ترهْ جارةٌ يمشي بساحتِها ... لريبةٍ حينَ يُخلي بيتهُ الجارُ

ولا تراهُ لما في البيتِ يأكلهُ ... لكنَّه بارزٌ في الصُّبحِ مهمارُ

وإنَّ صخراً لمولانا وسيِّدُنا ... وإنَّ صخراً إذا نشْتو لنحَّارُ

وإنَّ صخراً لتأتمُّ الهداةُ بهِ ... كأنَّهُ علمٌ في رأسهِ نارُ

فقلت لمَّا رأيتُ الدَّهرَ ليسَ له ... معاتبٌ دائبٌ يُسدي ونيّارُ

لقد نعى ابنُ نهيكٍ أخا ثقةٍ ... كانتْ ترجَّمُ عنهُ قبلُ أخبارُ

فبتُّ ساهرةً للنَّجمِ أرقبهُ ... حتَّى أتى دونَ غورِ النَّجمِ أستارُ

فما عجولٌ لذي بوٍّ تطيفُ به ... قد ساعدتَها على التَّحنانِ أظآرُ

أودى بهُ الدَّهرُ عنها فهيَ مزرمةٌ ... لها حنينانِ إصغارٌ وإكبارُ

ترتعُ ما غفلتْ حتَّى إذا ادَّكرتْ ... فإنَّما هي إقبالٌ وإدبارُ

يوماً بأوجعَ منِّي يومَ فارقَني ... صخرٌ وللدَّهرِ إحلاءٌ وإمرارُ

لا بدَّ من ميتةٍ في صرفِها غيرٌ ... والدَّهرُ في صرْفه حولٌ وأطوارُ

وقال قيس بن الخطيم:

أتعرفُ رسماً كاطِّرادِ المذاهبِ ... لعمرةَ وحشاً غيرَ موقفِ راكبِ

ديارُ التي كادتْ ونحنُ على مِنى ... تحلُّ بنا لولا نجاءُ الرَّكائبِ

تبدَّتْ لنا كالشَّمسِ تحتَ غمامةٍ ... بدا حاجبٌ منها وضنَّتْ بحاجبِ

ولم أرَها إلاَّ ثلاثاً على مِنى ... وعهدي بها عذراءَ ذاتَ ذوائبِ

ومثلكِ قد أصبيتُ ليستْ بكنَّةٍ ... ولا جارةٍ ولا حليلةِ صاحبِ

دعوتُ بني عوفٍ لحقْنِ دمائهمْ ... فلما أبَوا سامحتُ في حربِ حاطبِ

وكنتُ أمرأ لا أبعثُ الحربَ ظالماً ... فلمَّا أبَوا أشعلتُها كلَّ جانبِ

أربتُ بدفعِ الحربِ حتَّى رأيتُها ... عد الدفعِ لا تزدادُ غيرَ تقاربِ

فإذْ لم يكنْ من غايةِ الموتِ مدفعٌ ... فأهلاً بها إذا لم تزلْ في المراحبِ

فلمَّا رأيتُ الحربَ حرباً تجرَّدتْ ... لبستُ مع البردينِ ثوبَ المحاربِ

مضاعفةً يغشى الأناملَ فضلُها ... كأنَّ قتيريْها عيونُ الجنادبِ

أتتْ عصبٌ مِ الكاهنينِ ومالكٍ ... وثعلبةَ الأثرينَ رهطِ ابنِ غالبِ

رجالٌ متى يدعوا إلى الرَّوعِ يُرقلوا ... إليهِ كإرقالِ الجِمالِ المصاعبِ

إذا فزعوا مدُّوا إلى الرَّوعِ صارخاً ... كموجِ الآتيِّ المزبدِ المتراكبِ

ترى قصدَ المرَّانِ تهوي كأنَّها ... تذرُّعُ خرصانٍ بأيدي الشَّواطبِ

صحبْنا بها الآطامَ حولَ مزاحمٍ ... قوانسُ أُولى بيضِنا كالكوكبِ

لوَ انَّكَ تُلقي حنظلاً فوقَ بيضِنا ... تدحرجَ عن ذي سامهِ المتقاربِ

إذا ما فررْنا كانَ أسْوا فرارنا ... صدودُ الخدودِ وازورارَ المناكبِ

إذا قصرتْ أسيافَنا كانَ وصلُها ... خُطانا إلى أعدائنا بالتَّقاربِ

أُجالدهمْ يومَ الحديقةِ حاسراً ... كأنَّ يدِي بالسَّيفِ مخراقُ لاعبِ

ويومَ بعاثٍ أسلمتْنا سيوفُنا ... إلى نسبٍ في جذمِ غسَّانَ ثاقبِ

يعرِّينَ بيضاً حين نلقى عدوَّنا ... ويغمدنَ حمراً ناحلاتِ المضاربِ

أطاعتْ بنا بنو عوفٍ أميراً نهاهمُ ... عن السِّلمِ حتَّى كانَ أوَّلَ واجبِ

عجبتُ لعوفٍ إذ تقولُ نساؤهمْ ... ويرمينَ دفعاً ليتَنا لم نحاربِ

صحبناهمُ شهباءَ يبرقُ بيضُها ... تبينُ خلاخيلَ النِّساءِ الهواربِ

أصابتْ سراةً مِ الأغرِّ سيوفُنا ... وغودرَ أولادُ الإماءِ الحواطبِ

ومنَّا الذي آلى ثلاثينَ ليلةً ... عن الخمرِ حتَّى زاركمْ بالكتائبِ

رضيتُ لهم ألاّ يريمونَ قعرَها ... إلى عازبِ الأموالِ إلاَّ بصاحبِ

فلولا ذُرى الآطامِ قد تعلمونهُ ... وتركُ الفضا شوركتمُ في الكواعبِ

فلا تمنعوا منَّا مكاناً نريدهُ ... لكم محرزاً إلاَّ ظهورَ المشاربِ

فهلاَّ لدى الحربِ العوانِ صبرتمُ ... لوقعتِنا والبأسُ صعبُ المراكبِ

ظآرناكمُ بالبيضِ حتَّى لأنتمُ ... أذلُّ من السُّقبانِ بينَ الحلائبِ

ولمَّا هبطنا الحرثَ قالَ أميرُنا ... حرامٌ علينا الخمرُ ما لمْ نضاربِ

فسامحهُ منَّا رجالٌ أعزَّةٌ ... فما برحوا حتَّى أُحلَّت لشاربِ

فليتَ سويداً راءَ منْ خرَّ منكمُ ... ومنْ فرَّ إذ يحدونهمْ كالجلائبِ

فأبْنا إلى أبنائنا ونسائنا ... وما منْ تركنا في بعاثٍ بآئبِ

وغيِّبتْ عن يومٍ كفتْني عشيرتي ... ويوم بعاثٍ كانَ يومَ التَّغالبِ

وقال أيضاً:

ردَّ الخليطُ الجِمالَ وانصرفوا ... ماذا عليهم لو أنَّهم وقفوا

لو وقفوا ساعةً نسائلهمْ ... ريثَ يضحِّي جمالهُ السَّلفُ

فيهمْ لعوبُ العشاءِ آنسةُ ال ... دَّلِّ عروبٌ يسوؤها الخلفُ

بينَ شكولِ النِّساءِ خلقتُها ... قصدٌ فلا جبلةٌ ولا قضفُ

تغترقُ الطَّرفَ وهي لاهيةٌ ... كأنَّما شفَّ وجهها نزفُ

قضى لها اللهُ حينَ يخلقُها ال ... خالقُ ألاَّ يكنَّها سدفُ

تنامُ عن كبرِ شأنِها فإذا ... قامتْ رويداً تكادُ تنغرفُ

حوراءُ جيداءُ يستضاءُ بها ... كأنَّها خوطُ بانةٍ قصفُ

تمشي كمشيِ الزَّهراءِ في دمثِ ال ... رَّملِ إلى السَّهلِ دونهُ الجرفُ

ولا يغثُّ الحديثُ ما نطقتْ ... وهو بفيها ذو لذَّةٍ طرفُ

تحزنهُ وهو مشتهًى حسنٌ ... وهو إذا ما تكلَّمت أنفُ

كأنَّ لبَّاتها تبدَّدها ... هزلى جرادٍ أجوازهُ جلفُ

كأنَّها درَّةٌ أحاطَ بها ال ... غوَّاصُ يجلو عن وجهها الصَّدفُ

وللهِ ذي المسجدِ الحرامِ وما ... جلِّلَ من يمنةٍ لها خنفُ

إنِّي لأهواكِ غيرَ ذي كذبٍ ... قد شفَّ منِّي الأحشاءُ والشَّغفُ

بل ليتَ أهلي وأهلَ أثلةَ في ... دارِ قريبٍ من حيثُ يختلفُ

أيهاتَ من أهلهُ بيثربَ قد ... أمسى ومنْ دونَ أهلهِ سرفُ

يا ربِّ لا تبعدنْ ديارَ بني ... عذرةَ حيث انصرفتُ وانصرفوا

أبلغْ بني جحجبى وقومهمُ ... خطمةَ أنَّا وراءهم أُنفُ

وأنَّنا دونَ ما يسومهمُ الأع ... داءُ من ضيمِ خطَّةٍ نكفُ

إنَّا ولو قدَّموا التي علموا ... أكبادُنا من ورائهم تجفُ

نفلي بحدِّ الصَّفيحِ هامهمُ ... وفليُنا هامهمْ بنا عنفُ

لمَّا بدتْ غدوةً جباههمُ ... حنَّتْ إلينا الأرحامُ والصُّحفُ

فقولُنا للمقدَّمينَ قفوا ... عن شأوِكم والحروبُ تختلفُ

يتبعُ آثارَها إذا اختلجتْ ... سخنٌ عبيطٌ عروقهُ تكفُ

قالَ لنا النَّاسُ معشرٌ ظفروا ... قلنا فإنَّا لقومنا خافُ

إنَّ لنا حوزة وحومتها ... بين ذُراها مخارفٌ دلفُ

يذبُّ عنهنَّ سامرٌ مصعٌ ... سودَ الغاشي كأنَّها عرفُ

وقال حاتم بن عبد الله الطائي:

أتعرفُ أطلالاً ونؤياً مهدَّما ... كخطِّكَ في رقّ كتاباً منمنما

إذاعتْ بهِ الأرواحُ بعدَ أنيسِها ... شهوراً وأيَّاماً وحولاً وجرَّما

فأصبحنَ قدْ غيَّرنَ ظاهرَ تربهِ ... وبدَّلتِ الأنواءُ ما كانَ معلما

وغيَّرها طولُ التَّقادمِ والبلى ... فما أعرفُ الأطلالَ إلاَّ توهُّما

ديارُ التي قامتْ تريكَ وقد عفتْ ... وأقوتْ من الزُّوَّارِ كفّاً ومعصما

تهادى عليها حليُها ذاتَ بهجةٍ ... وكشحاً كطيِّ السَّابريةِ أهضما

ونحراً كفاثورِ اللُّجينِ يزينهُ ... توقُّدُ ياقوتٍ وشذراً منظَّما

كجمرِ الغضى هبَّتْ له بعدَ هجعةٍ ... من اللَّيلِ أرواحُ الصَّبا فتبسَّما

تضيءُ لنا البيتَ الكليلَ خصاصهُ ... إذا هي ليلاً حاولتْ أن تنسَّما

إذا انصرفتْ فوقَ الحشيَّةِ مرَّةً ... ترنَّمَ وسواسُ الحليّ ترنّما

فبانتْ لطيَّاتٍ لها وتبدَّلتْ ... به بدلاً مرَّتْ له الطَّيرُ أشأما

وعاذلتينِ هبَّتا بعدَ هجعةٍ ... تلومانِ مِتلافا مُفيدا ملوَّما

تلومانِ لمَّا غوَّرَ النَّجمُ ضلَّةً ... فتًى لا يرى الإنفاقَ في الحقِّ مغرما

ألا لا تلوماني على ما تقدَّما ... كفى بصروفِ الدَّهرِ للمرءِ محكما

فقلتُ وقد طالَ العتابُ عليهما ... وأوعدَتاني أن تبيتا وتصرما

فإنَّكما لا ما مضى تُدركانهِ ... ولستُ على ما فاتني متندِّما

فنفسكَ أكرمْها فإنَّكَ إنْ تهنْ ... عليكَ فلنْ تلقى لها الدَّهرَ مكرما

أهنْ في الذي تهوى التِّلادَ فإنَّه ... إذا متُّ كانَ المالُ نهباً مقسَّما

ولا تشقينْ فيهِ فيسعدَ وارثٌ ... به حينَ تُحشى أغبرَ الجوفِ مظلما

يقسِّمهُ غنماً ويشري كرامةً ... وقد صرتَ في خطٍّ من الأرضِ أعظما

تحلَّمْ عن الأذنينِ واستبقِ ودَّهمْ ... فلستَ مصيبَ الحلمِ حتَّى تحلَّما

متى تلقَ أضغانَ العشيرةِ بالأنى ... وكفِّ الأذى يحسمْ لكَ الدَّاءَ محسما

وما ابتعثتْني في هوايَ لجاجةٌ ... إذا لم أجدْ فيما أمامي مقدما

إذا شئتُ نازيتُ امرأَ السُّوءِ ما نزا ... إليك ولا طمتَ اللَّئيمَ الملطَّما

رأى اللَّيلَ قد غالتْ نجومٌ تقودهُ ... وقد يكرهُ السَّاري البخيلَ المذمَّما

وكنتُ امرأً من معشرٍ عادةٌ لهم ... منًى أن يبيتَ الضَّيفُ ريَّانَ مطعما

ويحمدُ جاديهم ويرضَى صديقُهم ... إذا أخطأ القطرُ الجنابَ فأقتما

وعوراءُ قد أعرضتُ عنها فلم تضرْ ... وذي أودٍ قوَّمتُه فتقوَّما

وأغفرُ عوراءَ الكريمِ ادِّخارهُ ... وأُعرضُ عن شتمِ اللَّئيمِ تكرُّما

ولا أخذلُ المولى وإن كانَ خاذلاً ... ولا أشتمُ ابنَ العمِّ إنْ كانَ مفحما

ولا زادني عنهُ غنايَ تباعداً ... وإنْ كانَ ذا نقصٍ من المالِ مصرما

وليلٍ بهيمٍ قد تسربلتُ هولهُ ... إذا اللَّيلُ بالنَّكسِ الضَّعيفِ تجهَّما

ولن يكسبَ الصُّعلوكُ حمداً ولا غنى ... إذا هو لم يركبْ من الأمرِ معظما

ولم يشهدِ الخيلَ المغيرةَ بالضُّحى ... يثرنَ عجاجاً بالسَّنابكِ أقتما

لحى اللهُ صعلوكاً مناهُ وهمُّهُ ... من العيشِ أنْ يلقى لبوساً ومطعما

يرى الخمصَ تعذيباً وإنْ يلقَ شبعةً ... يبتْ قلبهُ من قلَّةِ الهمِّ مبهما

مقيماً مع المثرينَ ليس ببارحٍ ... إذا نالَ جدوى من طعامٍ ومجثما

ينامُ الضُّحى حتَّى إذا نومهُ استوى ... تنبَّه مثلوجَ الفؤادِ مورَّما

ولكنَّ صعلوكاً يساورُ همَّمُ ... ويمضي على الأيَّامِ والدَّهرِ مُقدما

فتى طلباتٍ لا يرى الخمصَ ترحةً ... ولا أكلةً إنْ نالها عدَّ مغنما

إذا ما رأى يوماً مكارمَ أعرضتْ ... تيمَّمَ كبراهنَّ ثمَّتَ صمَّما

ترى رمحهُ ونبلهُ ومجنَّهُ ... وذا شطبٍ عضب الضريبةِ مخذما

وأحناءَ سرجٍ قاترٍ ولجامهُ ... عتادَ أخي هيجا وطرفاً مسوَّما

فذلكَ إنْ يهلكْ فحسنٌ ثناؤهُ ... وإنْ يحيى لا يقعدْ ضعيفاً مذمَّما

وقال أيضاً:

أماويَّ قد طالَ التَّجنُّبُ والهجرُ ... وقد عذرتني في طلابكمُ العذرُ

أماويَّ إنَّ المالَ غادٍ ورائحٌ ... ويبقى من المالِ الأحاديثُ والذِّكرُ

أماويَّ إنِّي لا أقولُ لسائلٍ ... إذا جاءَ يوماً حلَّ في مالنا نذرُ

أماويَّ إمَّا مانعٌ فممنَّعٌ ... وإمَّا عطاءٌ لا ينهنههُ الزَّجرُ

وقدْ علمَ الأقوامُ لو أنَّ حاتماً ... أرادَ ثراءَ المالِ كانَ لهُ وفرُ

إذا منَّ بالمالِ البخيلُ فإنَّني ... أجودُ فلا قلٌّ عطائي ولا نزرُ

أفكُّ بهِ العاني ويؤكلُ طيِّباً ... فما إنْ تعرِّيهِ القداحُ ولا الخمرُ

أماويَّ إنْ يصبحْ صدايَ بقفرةٍ ... من الأرضِ لا ماءٌ لديَّ ولا خمرُ

ترَي أنَّ ما أفنيتُ لم يكُ ضرَّني ... وأنَّ يدي ممَّا بخلتُ به صفرُ

أماويَّ إنِّي ربُّ واحدِ أمِّهِ ... أجرتُ فلا قتلٌ عليهِ ولا أسرُ

ولا ألطمُ ابنَ العمِّ إنْ كانَ إخوتي ... شهوداً وقد أودى بإخوتهِ الدَّهرُ

ولا أخذلُ المولى بسوءِ بلائهِ ... وإنْ كانَ محنوَّ الضُّلوعِ بها غمرُ

غُنينا زماناً بالتَّصعلكِ والغنى ... وكلاّ سقاناهُ بكأسيهما الدَّهرُ

فما زادَنا بغياً على ذي قرابةٍ ... غنانا ولا أزرى بإحساننا الفقرُ

إذا المرءُ أثرى ثم لم يكُ مالهُ ... نوالاً لدى البؤسى فحالفهُ العسرُ

فأعطِ ولا تمسكْ مخافةَ فاقةٍ ... وإنَّ وراءَ العسرِ إنْ خفتهُ اليسرُ

وما ضرَّ جاراً يا ابنةَ القومِ فاعلَمي ... يُجاورني ألاَّ يكونَ له سترُ

لجاريَ حقٌّ قدْ رأى ذاكَ واجباً ... وقبلي لهُ ماويَّ ما تنزلُ القدرُ

بعينيَّ عن عوراتِ جاريَ غفلةٌ ... وفي السَّمعِ منِّي من حديثهما وقرُ

متى ينأَ جاريَ لا يراني لعرسهِ ... بنفسي وصولاً ما أرى أنَّه سفرُ

سأرعاهُ جهدي إنَّ للجارِ حرمةٌ ... ويرجعُ لمْ يرسلْ عليَّ لها حذرُ

لعمركَ لا أخشى بقولِ مُجاوري ... إذا متُّ ماتَ الجبنُ والبخلُ والغدرُ

لحا اللهُ من يُبقي من المالِ بعدهُ ... لوارثهِ شيئاً ويتبعهُ الوزرُ

فلا تمنَعي راجي نوالكِ إنَّهُ ... الذِّكرُ في الدُّنيا ويلحقُك الأجرُ

أأتركُ مالي إن هلكتُ لوارثٍ ... تتبَّعهُ عيني إذا ضمَّني القبرُ

أماويَّ ما يُغني الثَّراءُ عن الفتى ... إذا حشرجتْ نفسي وضاقَ بها صدري

إذا أنا دلاّني الذينَ أحبُّهمْ ... بملحودةٍ زلجٍ جوانبُها غبرُ

وقاموا على أرجائِها يدفنونَني ... يقولونَ قد أودى السَّماحةُ والفخرُ

وأُسلمتُ فيها غيرَ بارحِ قعرِها ... فلا عجبٌ ممَّا ترينَ ولا سخرُ

وراحوا سراعاً ينفضونَ أكفَّهمْ ... يقولونَ قد دمَّى أظافيرنا الحفرُ

هنالكَ لا آلو لنفسي صنيعةً ... فأولُهُ زادٌ وآخرهُ ذخرُ

وقال أيضاً:

ألا أرقتْ عيني فبتُّ أديرُها ... حذارَ غدٍ أحجى بأنْ لا يضيرُها

إذا النَّجمُ مغربَ الشَّمسِ رانياً ... ولم يكُ في الآفاقِ برقٌ ينيرُها

إذا ما السَّماءُ لم تكنْ غيرَ حلبةٍ ... كجدَّةِ بيتِ العنكبوتِ ينيرُها

فقد علمتْ غوثٌ بأنَّا سراتَنا ... إذا أعلنتْ بعدَ النَّجيِّ أمورها

وإنَّا نهينُ المالَ في غيرِ ضنَّةٍ ... وما يشتكينا في السّنينَ ضريرُها

إذا ما بخيلُ النَّاسِ هرَّتْ كلابهُ ... واشتقَّ على الضَّيفِ الغريبِ عقورُها

فإنِّي جبانُ الكلبِ بيتي موطَّأٌ ... جوادٌ إذا ما النَّفسُ شحَّ ضميرُها

فإنَّ كلابي قد أُقرَّتْ وغودرتْ ... قليلٌ على من يعتريني هريرُها

وأُبرزُ قدري بالفناءِ قليلُها ... يُرى غيرَ مضنونٍ به وكثيرُها

وليسَ على ناري حجابٌ يكنّها ... لمستقْبسٍ ليلاً ولكنْ أشيرُها

ولا وأبيكَ ما يظلُّ ابنُ جارتي ... يطوفُ حواليْ قدرنا لا يطورُها

وما تشتكيني جارتي غيرَ أنَّني ... إذا غابَ عنها بعلُها لا أزورُها

سيبلغُها خيري ويرجعُ بعلُها ... إليه ولم يقصرْ عليَّ ستورُها

وخيلٍ تعادى بالطِّعانِ شهدتُها ... ولو لم أكنْ فيها لساءَ عذيرُها

وعرجلةٍ شعثِ الرّؤوسِ كأنَّهم ... بنو الجنِّ لم تطبخْ بقدرٍ جزورُها

شهدتُ ودعْوانا أُميمةَ إنَّنا ... بنو الحربِ نصلاها إذا شبَّ نورُها

على مُهرةٍ كبداءَ جرداءَ ضامرٍ ... أمينٍ شظاها مطمئنٍّ نسورُها

وغمرةِ موتٍ ليسَ فيها هوادةٌ ... حدادُ السّيوفِ المشرفيِّ جسورُها

صبرْنا لها في نهكِنا ومضائنا ... بأسيافنا حتَّى يبوخَ سعيرُها

وخوصٍ دقاقٍ قد حدوتُ بفتيةٍ ... عليهنَّ إحداهنَّ قد حلَّ كورُها

وتأبى اهتِضامي أسرةٌ ثعليَّةٌ ... كريمٌ غناها مستعفٌّ فقيرُها

وأقسمتُ لا أُعطي مليكاً ظلامةً ... وحولي عديٌّ كهلُها وغريرُها

وقال أبو بكر محمد بن الحسن بن دريد الأزدي:

إمَّا ترَي رأسي حاكَى لونهُ ... طرَّةَ صبحٍ تحتَ أذيالِ الدُّجى

واشتعلَ المبيضُّ في مسودّهِ ... مثلَ اشتعالِ النَّارِ في جزلِ الغضى

وغاضَ ماءَ شرَّتي دهرٌ رمَى ... خواطرَ القلبِ بتبريحِ الجوى

وآضَ روضُ اللَّهوِ يبساً ذاوياً ... منْ بعدِ ما قد كانَ مجَّاجَ الثَّرى

وضرَّمَ النَّأيُ المشتُّ جذوة ... ما تأتلي تسفعُ أثناءَ الحشا

واتَّخذَ التَّسهيدُ عيني مألفاً ... لمَّا جفا أجفانَها طيفُ الكرى

فكلُّ ما لاقيتهُ مغتفرٌ ... في جنبِ ما أسأرهُ شحطُ النَّوى

لو لابسَ الصَّخرَ الأصمَّ بعضُ ما ... يلقاهُ قلبي فضَّ أصلادَ الصَّفا

إذا ذوى الغصنُ الرَّطيبُ فاعلمنْ ... إن قصاراهُ نفاذٌ وتوى

شجيتُ لا بل أجرَضتني غصَّةٌ ... عنودُها أقتلُ لي من الشَّجى

إنْ يحمِ عن عيني البُكا تجلُّدي ... والقلبُ موقوفٌ على سبلِ البكا

لو كانت الأحلامُ ناجتْني بما ... ألقاهُ يقظانَ لأصماني الرَّدى

منزلةٌ ما خلتُها يرضى بها ... لنفسهِ ذو أزلٍ ولا حِجى

شيمُ سحابٍ خلَّبٍ بارقهُ ... وموقفٌ بينَ ارتجاءٍ ومنى

في كلِّ يومٍ منزلٌ مستوبلٌ ... يشتفُّ ماءَ مهجَتي ومُجتوى

ما خلتُ أنَّ الدَّهرَ يثنيني على ... ضرَّاءَ لا يرضى بها ضبُّ الكُدى

أُرمِّقُ العيشَ على برضٍ فإنْ ... رمتُ ارتشافاً رمتُ صعبَ المنتشى

أراجعٌ ليَ الدَّهرُ حولاً كاملاً ... إلى الذي عوَّدَ أم لا يرتجى

يا دهرُ إنْ لم تكُ عُتبى فاتَّئدْ ... فإنَّ أروادكَ والعُتبى سوا

رفِّهْ عليَّ طالما أنضيتَني ... واستبقِ بعضَ ماءِ غصنٍ ملتحى

لا تحسبنْ يا دهرُ أنِّي ضارعٌ ... لنكبةٍ تعرقُني عرقَ المُدى

مارستُ منْ لو هوتِ الأفلاكُ من ... جوانبِ الجوِّ عليهِ ما اشتكى

لكنَّها نفثةُ مصدورٍ إذا ... جاشَ لغامٌ من نواحيها عمَى

رضيتُ قسراً وعلى القسرِ رضى ... منْ كانَ ذا سخطٍ على صرفِ القضا

إنَّ الجديدينِ إذا ما اسْتوليا ... على جديدٍ أدنياهُ للبِلى

ما كنتُ أدري والزَّمانُ مولعٌ ... بشتِّ ملمومٍ وتنكيثِ قُوى

إنَّ القضاءَ قاذِفي في هوَّةٍ ... لا تستبلُّ نفسُ منْ فيها هوَى

فإنْ عثرتُ بعدَها إنْ وألتْ ... نفسي من هاتا فقولا لا لعا

وإنْ تكنْ مدَّتها موصولةً ... بالحتفِ سلَّطتُ الأُسا على الأسى

إنَّ امرأ القيسِ جرى إلى مدَى ... فاعْتاقهُ حِمامهُ دونَ المدى

وخامرتْ نفسُ أبي الجيرِ الهوى ... حتَّى حواهُ الحتفُ فيما قد حوى

وابنُ الأشجِّ القيلُ ساقَ نفسهُ ... إلى الرَّدى حذارَ إشماتِ العدى

واخْترم الوضَّاحَ من دونِ التي ... أمَّلها سيفُ الحِمامِ المنتضى

وقد سما قبْلي يزيدُ طالباً ... شأوَ العُلى فما وهي ولاونى

فاعْترضتْ دونَ التي رامَ وقدْ ... جدَّ بهِ الجدُّ اللُّهيمُ الأربى

هل أنا بدع من عرانين على ... جار عليهم صرف دهر واعتدى

وإنْ أنالتْني المقاديرُ الذي ... أكيدهُ لهم آلُ في رأبِ الثَّأى

وقد سمَا عمرٌو إلى أوتارهِ ... فاحتطَّ منها كلَّ عالي المستمى

فاستنزلَ الزَّباءَ قسراً وهي من ... عقابِ لوحِ الجوِّ أعلى منتمى

وسيفٌ استعْلتْ به همَّتهِ ... حتَّى رمى أبعدَ شأوِ المرتمى

فجرَّع الأُحبوشَ موتاً ناقعاً ... واحتلَّ من غُمدانَ محرابَ الدُّمى

ثم ابنُ هندٍ باشرتْ نيرانهُ ... يومَ أوراتَ تميماً بالصَّلى

ما اعتنَّ لي يأسٌ يُناجي همَّتي ... إلاَّ تحدَّاهُ رجاءٌ فاكْتمى

إليَّةً باليعملاتِ يرتَمي ... بها النَّجاءُ بينَ أجوازِ الفلا

خوصٍ كأشباحِ الحنايا ضمَّرٍ ... يرعفنَ بالأمشاجِ من جذبْ البُرى

يرسبنَ في بحرِ الدُّجى وبالضُّحى ... يطفونَ في الآلِ إذا الآلُ طفا

أخفافهنَّ من حفا ومن وجَى ... مرثومةٌ تخضبُ مبيضَّ الحصا

يحملنَ كلَّ شاحبٍ محقوقفٍ ... منْ طولِ تدآبِ الغدوِّ والسُّرى

برٍّ برى طولُ الطَّوى جثمانهُ ... فهو كقدحِ النَّبعِ محنيُّ القَرا

ينوي التي فضَّلها ربُّ العُلى ... لما دحَا تربتَها على البنى

حتَّى إذا قابلَها استعبرَ لا ... يملكُ دمعَ العينِ من حيثُ جرَى

ثمَّتَ طافَ وانثنى مُستلماً ... ثمَّتَ جاءَ المروتَينِ فسعى

وأوجبَ الحجَّ وثنَّى عمرةً ... من بعدِ ما عجَّ ولبَّى ودعَا

ثمَّتَ راحَ في الملبِّينَ إلى ... حيثُ تحجَّى المأزِمانِ ومنى

ثم أتى التَّعريفَ يقرُوا مُخبتاً ... موافقاً بينَ إلالٍ والنَّقا

واستأنفَ السَّبعَ وسبعاً بعدَها ... والسَّبعَ ما بينَ العقابِ والصُّوى

وراحَ للتَّوديعِ ممَّنْ راحَ قد ... أحرزَ أجراً وقلى هجرَ اللَّغا

بذاكَ أم بالخيلِ تعدُو المرطى ... ناشزةً أكتادُها قبَّ الكُلى

يحملنَ كلّ ذي شمَّريٍّ باسلٍ ... شهمِ الجنانِ خائضٍ غمرَ الوغى

يغشى صلى الموتِ بخدَّيهِ إذا ... كانَ لظى الموتِ كريهَ المصطلى

لو مثِّلَ الحتفُ لهِ قرناً لمَا ... صدَّتهِ عنهُ هيبةٌ ولا انثنى

ولو حمى المقدارُ عنهُ مهجةٌ ... لرامَها أو تستبيحَ ما حمَى

تغدُو المنايا طائعاتٍ أمرهُ ... ترضَى الذي يرضى وتأبى ما أبى

بلْ قسماً بالشُّمِّ من يعربَ هل ... لمقسمٍ من بعدِ هذا منتهى

همُ الأُلى إنْ فاخروا قالَ الأُلى ... بفي امرئٍ فاخركمْ عفرَ البرى

همُ الأُلى أجرَوا ينابيعَ النَّدى ... هاميةً لمنْ عرَا أو اعتفَى

همُ الذينَ دوَّخوا من انتحى ... وقوَّموا من صعرٍ ومن صغا

همُ الذينَ جرَّعوا منْ ماحَلوا ... أفاوقَ الضَّيمِ ممرَّاتِ الحُسا

أزالَ حشْو نثرةٍ موضونةٍ ... حتَّى أوارى بينَ أحشاءِ الجُثى

وصاحبايَ صارمٌ في متنهِ ... مثلُ مدبِّ النَّملِ يعلو في الرُّبى

كأنَّ بينَ عيرهِ وغربهِ ... مفتأداً تأكَّلتْ فيه الجُذى

يُري المنونَ حينَ يقفُو إثرهُ ... في ظلمِ الأكبادِ سبلاً لا تُرى

إذا هوَى في جثَّةٍ غادرَها ... من بعدِ ما كانتْ خسَا وهي زكَا

ومشرفُ الأقطارِ خاظٍ نحضهُ ... حابِي القُصيرى جرشعٌ عردُ النَّسى

قريبُ ما بينَ القطاةِ والقرا ... بعيدُ ما بينَ القذالِ والصَّلا

سامي التَّليلِ في دسيعٍ مفعمٍ ... رحبُ الذِّراعِ في أميناتِ العُجى

ركِّبنَ في حواشبٍ مكتنَّةٍ ... إلى نسورٍ مثلِ ملفوظ النَّوى

يديرُ إعليطَيْنِ في ملمومةٍ ... إلى لموحينِ بألحاظِ اللأى

مداخلُ الخلقِ رحيبٌ نحرهُ ... مخلولقُ الصَّهوةِ ممسودٌ وأى

لا صككٌ يشينهُ ولا فجَا ... ولا دخيسٌ واهنٌ ولا شظَا

يجري فتكبُو الرِّيحُ في غاياتهِ ... حسرى تلوذُ بجراثيم السَّحا

إذا اجتهدتَ نظراً في إثرهِ ... قلتَ سناً أومضَ أو برقٌ خفَا

كأنَّما الجوزاءُ في أرساغهِ ... والنَّجمُ في جبهتهِ إذا بدَا

هُما عتادي الكافيانِ فقدْ مَنْ ... أعددتهُ فلينْأَ عنِّي منْ نأى

فإنْ سمعتَ برحَى منصوبةً ... للحربِ فاعلمْ أنَّني قطبُ الرَّحى

وإنْ رأيتَ نارَ موتٍ تلتَظي ... فاعلمْ بأنِّي مسعرٌ ذاكَ اللَّظى

خيرُ النّفوسِ السّائلاتِ جهرةً ... على ظُباتِ المرهفاتِ والقنَا

إنَّ العراقَ لمْ أُفارقْ أهلهُ ... عن شنأٍ أصدَّني ولا قلَى

لا أطَّبي عينيَ مذْ فارقتهمْ ... شيءٌ يروقُ الطَّرفَ منْ هذا الورى

همُ الشَّناخيبُ المنيفاتُ الذُّرى ... والنَّاسُ أدحالٌ سواهمْ وهُوى

همُ البحورُ زاخرٌ آذيُّها ... والنَّاسُ ضحضاحٌ ثغابٌ وأضى

إنْ كنتُ أبصرتُ لهم من بعدِهمْ ... مثلاً وأغضيتُ على وخزِ السَّفا

حاشا الأميرينِ اللَّذينِ أوفدا ... عليَّ ظلاًّ من نعيمٍ قد ضفَا

هما اللَّذانِ ابتنيا لي أملاً ... قد وقفَ اليأسُ به على شفَى

تلافَيا العيشَ الذي رنَّقهُ ... صرفُ الزَّمانِ فاستساغَ وصفَا

وأجريَا ماءَ الحيا لي رغداً ... فاهتزَّ غُصني بعدَ ما كانَ ذوى

هُما اللَّذانِ سمَوا بناظري ... من بعدِ إغضائي على لذعِ القذى

هُما اللَّذانِ عمَرا لي جانباً ... من الرَّخاءِ كانَ قدماً قد عفَا

وقلَّداني منَّةً لو قُرنتْ ... بشكرِ أهلِ الأرضِ طرّاً ما وفى

بالعشرِ من معشارِها وكانَ كال ... حسوةِ في آذيِّ بحرٍ قد طمَا

إن ابنَ ميكالَ الأميرَ انتاشَني ... منْ بعدِ ما قد كنتُ كالشَّيءِ اللَّقى

ومدَّ ضبعيَّ أبو العبَّاسِ من ... بعدَ انقباضِ الذَّرعِ والباعِ الوزى

نفسي الفداءُ لأميريَّ ومنْ ... تحتَ السَّماءِ لأميريَّ الفدَا

لا زالَ شكري لهُما مواصلاً ... لفظي أو يعتاقَني صرفُ المنى

إنَّ الأُلى فارقتُ من غيرِ قِلى ... ما زاغَ قلبي عنهمُ ولا هفَا

لكنَّ لي عزماً إذا انتضيتهُ ... لمبهمِ الخطبِ فآهُ فانفأى

ولو أشاءُ ضمَّ قطريهِ الصِّبا ... عليَّ في ظلِّ نعيمٍ وغنى

ولاعبتْني غادةٌ وهنانةٌ ... تُضني وفي ترشافِها برءُ الضَّنى

أو ناجتِ الأعصَم لانحطَّ لها ... طوعَ القيادِ من شماريخِ الذُّرى

أو صِابًتِ القانِتَ في مُخْلولقٍ ... مستصعبِ المسلكِ وعْرِ المرتقَى

ألهاهُ عن تسبيحهِ ودينهِ ... تأنيسُها حتَّى تراهُ قد صبَا

كأنَّما الصَّهباءُ مقطوبٌ بها ... ماءُ جنى وردٍ إذا اللَّيلُ عسَا

يمتاحهُ راشفُ بردِ ريقِها ... بينَ بياضِ الظَّلمِ منها واللَّمى

سقى العقيقَ فالحُزيزُ فالملا ... إلى النُحيتِ فالقريَّاتِ الدُّنا

فالمربدِ الأعلى الذي تلقَى بهِ ... مصارعَ الأُسدِ بألحاظِ المهَا

محلُّ كلِّ مقرمٍ سمتْ بهِ ... مآثرُ الآباء في فرعِ العلى

من الأُلى جوهرهمْ إذا اعتزَوا ... من جوهرٍ منهُ النَّبيُّ المصطفى

جونٌ أعارتْهُ الجنوبُ جانباً ... منها وواصتْ صوبهُ يدُ الصَّبا

نأى يمانيّاً فلمَّا انتشرتْ ... أحضانهُ وامتدَّ كسراهُ غطَا

فجلَّلَ الأفقَ فكلّ جانبٍ ... منها كأنْ من قطرهِ المزنُ حيَا

إذا خبتْ بروقُه عنَّتْ لهُ ... ريحُ الصَّبا تشبُّ منه ما خبَا

وإنْ ونتْ رعودهُ حدَا بها ... راعي الجنوبِ فحدتْ كما حدَا

كأنَّ في أحضانهِ وبركهِ ... بركاً تداعى بين سجرٍ ووحى

لم ترَ كالمزنِ سواماً بُهَّلاً ... تحسبهُ مرعيَّةً وهي سدى

فطبَّقَ الأرضَ فكلُّ بقعةٍ ... منها تقولُ الغيثُ في هاتَا ثوى

تقولُ للأجرازِ لمَّا استوسقتْ ... بسوقهِ ثِقي بريٍّ وحيَا

فأوسعَ الأحدابَ سيباً مُحسبا ... وطبَّقَ البُطنان بالماءِ الرِّوى

كأنَّما البيداءُ غبَّ صوبهِ ... بحرٌ طما تيَّارهُ ثم سجَا

ذاكَ الجِدا لا زالَ مخصوصاً به ... قومٌ همُ للأرضِ غيثٌ وجدَا

لستُ إذا ما بهظتْني غمرةٌ ... ممَّنْ يقولُ بلغَ السَّيلُ الزُّبى

وإنْ ثوتْ بينَ ضُلوعي زفرةٌ ... تملأ ما بينَ الرَّجا إلى الرَّجا

نهنهتُها مكظومةً حتَّى يُرى ... مخضوضعاً منها الذي كانَ طغَا

ولا أقولُ إنْ عرتَني نكبةٌ ... قولَ القنوطِ انقدَّ في الجوفِ السَّلى

قدْ مارستْ من الخطوبِ مرِسا ... يساورُ الهولَ إذا الهولُ علا

لي التواءٌ إنْ معاديَّ التوى ... ولي استواءٌ إنْ مواليَّ استوى

طعمِي شريٌّ للعدوِّ تارةً ... والأري بالرَّاحِ لمن ودّي ابتغى

لدنٌ إذا لُوينتْ سهلٌ معطفي ... ألوى إذا خوشنتُ مرهوبَ الشَّذَا

يعتصمُ الحلمُ بجنبيْ حبوَتي ... إذا رياحُ الطَّيشِ طارتْ بالحُبى

لا يطَّبيني طمعٌ مدنِّسٌ ... إنْ استمالَ طمعٌ أو اطَّبى

وقد علتْ بي رتباً تجاربِي ... أشفينَ بي منها على سبلِ النُّهى

إذا امرؤٌ خيفَ لإفراطِ الأذى ... لم يخشَ منِّي نزقٌ ولا أذى

من غيرِ ما وهنٍ ولكنِّي امرؤٌ ... أصونُ عرضاً لم يدنِّسهُ الطَّخا

وصونُ عرضِ المرءِ أنْ يبذلَ ما ... ضنَّ بهِ ممَّا حواهُ وانتصى

والحمدُ خيرُ ما اتَّخذتَ جنَّةً ... وأنفسُ الأذخارِ من بعدِ التُّقى

وكلُّ قرنٍ ناجمٍ في زمنٍ ... فهو شبيهُ زمن فيهِ بدَا

والنَّاسُ كالنَّبتِ فمنهُ رائقٌ ... غضٌّ نضيرٌ عودهُ مرُّ الجنى

ومنهُ ما تقتحمُ العينُ وإنْ ... ذقتَ جناهُ انساغَ عذباً في اللَّها

يقوَّمُ الشَّارخُ من زيغانهِ ... فيستوي ما انعاجَ منه وانحنَى

والشَّيخُ إنْ قوَّمتهُ من زيغهِ ... لم يقفِ التثقيفُ منهُ ما التوى

كذلكَ الغصنُ يسيرٌ عطفهُ ... لدناً شديدٌ غمزهُ إذا عسَا

منْ ظلمَ النَّاسَ تحامَوا ظلمهُ ... وعزَّ عنهمْ جانباهُ واحتمى

وهمْ لمنْ لانَ لهمْ جانبهُ ... أظلمُ من حيَّاتِ أنباتِ السَّفا

عبيدُ ذي المالِ وإنْ لم يطعَموا ... من غمرهِ في جرعةٍ تشفي الصَّدى

وهمْ لمنْ أملقَ أعداءٌ وإنْ ... شاركهمْ فيما أفادَ وحوى

عاجمتُ أيَّامي وما الغرُّ كمنْ ... تأزَّرَ الدَّهرُ عليه وارتدى

لا يرفعُ اللُّبُّ بلا جدٍّ ولا ... يحطُّكَ الجهلُ إذا الجدُّ علا

منْ لم يعظْهُ الدَّهرُ لم ينفعهُ ما ... راحَ بهِ الواعظُ يوماً أو غدَا

منْ لم تفدْهُ عبراً أيَّامهُ ... كانَ العمى أولى بهِ من الهُدى

مَنْ قاسَ ما لم يرهُ بما رأى ... أراهُ ما يدنو إليه ما نأى

مَنْ ملَّكَ الحرصَ القيادَ لم يزلْ ... يكرعُ في ماءٍ من الذُّلِّ صرى

مَنْ عارضَ الأطماعَ باليأسِ رنتْ ... إليه عينُ العزِّ من حيثُ رنَا

مَنْ عطفَ النَّفسَ على مكروهِها ... كانَ الغنى قرينهُ حيثُ انتوى

مَنْ لم يقفْ عندَ انتهاءِ قدرهِ ... تقاصرتْ عنهُ فسيحاتُ الخُطا

مَنْ ضيَّعَ الحزمَ جنى لنفسهِ ... ندامةً ألذعَ من سفعِ الذَّكا

مَنْ ناطَ بالعجبِ عُرى أخلاقهِ ... نِيطتْ عُرى المقتِ إلى تلكَ العُرى

مَنْ طالَ فوقَ منتَهى بسطتهِ ... أعجزهُ نيلُ الدُّنا بلْهَ القُصا

مَنْ رامَ ما يعجزُ عنهُ طوقهُ ... مِ العبءِ يوماً آلَ مجزولَ المطَا

والنَّاسُ ألفٌ منهمُ كواحدٍ ... وواحدٌ كالألفِ إنْ أمرٌ عنَا

وللفتى منْ مالهِ ما قدَّمتْ ... يداهُ قبلَ موتهِ لا ما اقتنى

وإنَّما المرءُ حديثٌ حسنٌ ... فكنْ حديثاً حسناً لمنْ وعى

إنِّي جلبتُ الدَّهرَ شطرَيهِ فقد ... أمرَّ لي حيناً وأحياناً حلا

وفرَّ عن تجربةٍ نابي فقلْ ... في بازلٍ راضَ الخطوبَ وامتطى

والنَّاسُ للموتِ خلاً يلسُّهمْ ... وقلَّما يبقى على اللَّسِّ الخلا

عجبتُ من مستيقنٍ أنَّ الرَّدى ... إذا أتاهُ لا يُداوى بالرُّقى

وهوَ من الفغلةِ في أهويةٍ ... بخابطٍ بينَ ظلامٍ وعشَى

نحنُ ولا كفرانَ للهِ كما ... قد قيلَ في السَّاربِ أخلى فارتعى

إذا أحسَّ نبأةً ريعَ لها ... تطامنتْ عنهُ تمادى ولهَا

نهالُ للشَّيءِ الذي يروعُنا ... ونرتعي في غفلةٍ إذا انقضَى

إنَّ الشَّقاءَ بالشَّقيِّ موزعٌ ... لا يملكُ الرَّدَّ لهُ إذا أتى

واللَّومُ للحرِّ مقيمٌ رادعٌ ... والعبدُ لا يردعهُ إلاَّ العصَا

وآفةُ العقلِ الهوى فمنْ علا ... على هواهُ عقلهُ فقدْ نجَا

كم منْ أخٍ مسخوطةٍ أخلاقهُ ... أصفيتُهُ الودَّ بخلقٍ مرتضى

إذا بلوتَ السَّيفَ محموداً فلا ... تذممْهُ يوماً أنْ تراهُ قد نبَا

والطّرفُ يجتازُ المدى وربَّما ... عنَّ لمعداهُ عثارٌ فكبَا

من لكَ بالمهذَّبِ النَّدبِ الذي ... لا يجدُ العيبَ إليه مختطى

إذا تصفَّحتَ أمورَ النَّاسِ لم ... تلفِ امرءاً حازَ الكمالَ فاكتفى

إنَّ نجومَ المجدِ أمستْ أُفَّلاً ... وظلُّهُ القالصُ أضحى قدْ أزى

إلاَّ بقايا من أُناسٍ بهمُ ... إلى سبيلِ المكرماتِ يُقتدى

إذا الأحاديثُ انتضتْ أنباءهمْ ... كانتْ كنشرِ الرَّوضِ غاداهُ السَّدى

ما أنعمَ العيشةَ لو أنَّ الفتى ... يقبلُ منه الموتُ أسناءَ الرُّشَا

أو لوْ تحلَّى بالشَّبابِ دهرهُ ... لم يستلِبهُ الشَّيبُ هاتيكَ الحلى

هيهاتَ مهما يُستمرْ مسترجعٌ ... وفي خطوبِ الدَّهرِ للنَّاسِ أُسى

وفتيةٍ ساراهمُ طيفُ الكرى ... فسامروا النَّومَ وهمْ غيدُ الطُّلى

واللَّيلُ ملقٍ بالموامِي بركهُ ... والعيسُ ينبثنَ أفاحيصَ القطَا

بحيثُ لا يهدي لسمعٍ نبأةٌ ... إلاَّ نئيمَ البومِ أو صوتَ الصَّدى

شايعتُهمْ على السُّرى حتَّى إذا ... مالتْ أداةُ الرَّحلِ بالجبسِ الدَّوى

قلتُ لهمْ إنَّ الهُوينا غبُّها ... وهنٌ فجدُّوا تحمَدوا غبَّ السُّرى

وموحشُ الأرجاءِ طامٍ ماؤهُ ... مدعثرِ الأعضادِ مهدومِ الجبَا

كأنَّما الرِّيشُ على أرجائهِ ... زرقُ نصالٍ أُرهفتْ لتُمتهى

وردْتهُ والذِّئبُ يعوي حولهُ ... مستكَّ سمِّ السَّمعِ من طولِ الطَّوى

ومنتجٍ أمُّ أبيهِ أمُّهُ ... لم يتخوَّنْ جسمهُ مسُّ الضَّوى

أفرشتهُ بنتَ أخيهِ فانثنتْ ... عن ولدٍ يورى بهِ ويُشتوى

ومرقبٍ مخلولقٍ أرجاؤهُ ... مستصعبِ الأقذافِ وعرِ المُرتقى

أوفيتُ والشَّمسُ تمجُّ ريقَها ... والظِّلُّ من تحتِ الحذاءِ مُحتذى

وطارقٍ يؤنسهُ الذِّئبُ إذا ... تضوَّرَ الذِّئبُ عشاءً وعوى

آوى إلى نارِي وهيَ مألفٌ ... يدعو العفاةَ ضوؤها إلى القِرى

للهِ ما طيفُ خيالٍ زائرٍ ... تزفُّهُ للقلبِ أحلامُ الرؤى

يجوبُ أجوازَ الفلا محتقراً ... هولَ دُجى اللَّيلِ إذا اللَّيلُ انبرى

سائلهُ إنْ أفصحَ عنْ أنبائهِ ... أنَّى تسدَّى اللَّيلَ أمْ أنَّى اهتدى

لو كانَ يدري قبلَها ما فارسٌ ... وما مواميها القفارُ والقُرى

وسائلٍ بمُزعجي عن وطني ... ما ضاقَ بي جنابهُ ولا نبَا

قلتُ القضاءُ مالكٌ أمرَ الفتى ... من حيثُ لا يدري ومنْ حيثُ درى

لا تسألنِّي واسألِ المقدارَ هلْ ... يعصمُ منهُ وزرٌ ومذَّرى

لا بدَّ أنْ يلقى امرؤٌ ما خطَّهُ ... ذو العرشِ ممَّا هو لاقٍ ووحى

لا غروَ أنْ لجَّ زمانٌ جائرٌ ... فاعترقَ العظمَ الممخّ وانتقى

فقدْ ترى القاحلَ مخضرّاً وقدْ ... تلقى أخا الإقتارِ يوماً قد نمَى

يا هؤلَيَّا هل نشدتنَّ لنا ... ثاقبةَ البرقعِ عن عينيْ طلا

ما أنصفتْ أمُّ الصَّبيَّينِ التي ... أصبتْ أخا الحلمِ ولمَّا تُصطبى

إستحِ بِيضا بينَ أفوادكَ أنْ ... تقتادكَ البيضُ اقتيادَ المُهتدى

هيهاتَ ما أشنعَ هاتَا زلَّةٍ ... أطرَباً بعدَ المشيبِ والجلا

بلْ ربَّ ليلٍ جمعتْ قطريهِ لي ... بنتُ ثمانينَ عروساً تُجتلى

لمْ يملكُ الماءُ عليها أمرَها ... ولمْ يدنِّسها الضَّرامُ المُختضى

كأنَّ قرنَ الشَّمسِ في ذرورِها ... بفعلِها في الصَّحنِ والكأسِ اقْتدى

نازعتُها أروعَ لا تسطُوا على ... نديمةِ شرَّتهِ إذا انْتشى

كأنَّ نورَ الرَّوضِ نظمُ لفظهِ ... مُرتجلاً أو مُنشداً أو إنْ شدَا

من كلِّ ما نالَ الفتى قدْ نلتهُ ... والمرءُ يبقَى بعدهُ حسنُ الثَّنا

فإنْ أمتْ فقد تناهتْ لذَّتي ... وكلّ شيءٍ بلغَ الحدَّ انتهى

وإنْ أعشْ صاحبتُ دهرِي عالماً ... بما انْطوى من صرفهِ وما انْسرى

حاشَا لمنْ أسأرهُ في الحِجا ... والحلمُ أنْ أتبعَ روَّادَ الخنَا

أو أنْ أُرى مختضعاً لنكبةٍ ... أو لابتهاجٍ فرجاً أو مُزدهى

منْ أطعمَ اليتيمَ والمِسكينَ وال ... أسيرَ حبّاً للإلهِ ذي العُلى

ومنْ أقامَ خاشعاً لصلاتَهُ ... يُؤتى الزَّكاةَ راكعاً لمنْ أتى

ومنْ مشى جبريلُ معَ ميكالهِ ... عن جانبيهِ في الحروبِ إذا مشى

ومنْ يُنادي جبرئيلَ مُعلناً ... والحربُ قدْ قامتْ على ساقِ الردى

لا سيفَ إلاَّ ذو الفقارِ فاعْلموا ... ولا فتى إلاَّ عليٌّ في الوغى

منْ ذا لهُ حمدٌ تعالى ذكرهُ ... باللهِ مقرونٌ إذا قامَ البرى

لك النّبيُّ والوصيُّ والدٌ ... وزوجهُ وأبناءُ أصحابِ العبَا

يا أيُّها الدَّاعي إلى الحقِّ الذي ... أحيا لنا ميتَ الأمانِي باللُّها

في معدنِ الحكمةِ رُبِّيتَ وفي ... بيتِ السَّدادِ والرَّشادِ والتُّقى

محمَّداكَ أحرزا حمداً لكا ... والحسنانِ حسنُ مجدٍ وسنَا

وزادك الزيدانِ فخراً عاليا ... فوقَ الثُّريَّا والسّماك قد سمَا

ومجدُ إسماعيلَ بذاك قد ذرَا ... من المعالي قصَّرتْ عنها الذُّرا

أُبوَّةٌ لو لفَّها كواكبٌ ... لأظلمتْ من دونِها شمسُ الضُّحى

يا جبلَ اللهِ المنيفَ والذي ... يأوي إليه في الملمَّاتِ العُرى

يؤمُّ أبوابكَ طلاَّبَ الغِنى ... كما يؤمُّ البيتَ حجَّاجُ مِنى

فكلُّهم من طالبٍ وراغبٍ ... يؤوبُ عنكَ بالمرادِ والرِّضى

عشتَ رويداً وابنكَ المهديُّ في ... ظلِّ السُّرورِ والنَّعيمِ والرَّخا

يُجبى لك الأرض جميعاً حزنُها ... وسهلُها وأهلُها لك الفِدا

نعمَ النَّصورُ عمركم ونعمَ ما ... أنتَ له ذخرٌ ونعمَ المُقتقى

فاشْددْ به يداً فإنَّه لكمْ ... قصاقصٌ ضُبارمٌ عندَ الحِمى

عمَّا قليلٍ ستراهُ معلِنا ... في كلِّ منْ ناواكمْ سيفَ الفنَا

هاكَ عروساً جُليتْ شهيَّةً ... ذاتَ معانٍ نُظمتْ نظمَ الحُلى

غرَّاءَ كالماءِ الزُّلالِ رقَّةً ... وطعمُها طعمُ شهادٍ تُجتبى

عروضُ منْ أمسى يقولُ عاتباً ... أمَا صحا أمَا انتهى أمَا ارْعوى

وقال بعض بني أسد: ويقال: إنه النَّظَّار الفقعسي، وصف الحية والحمامة والصقر والقطا والفرس. أنشده الأصمعي:

نأتْ دارُ ليلى فشطَّ المزارُ ... فعيناكَ لا تطعمانِ الكرَى

ومرَّ بفرقتِها بارحٌ ... فصدَّقَ ذاكَ غرابُ النَّوى

وأضحتْ ببغدانَ في منزلٍ ... لهُ شرفاتٌ دُوينَ السَّما

وجيشٌ ورابطةٌ حولهُ ... غلاظُ الرِّقابِ كأُسدِ الشَّرى

بأيديهمُ مُحدثاتِ الصّقالِ ... سُريجيَّةٌ يختلينَ الطُّلى

ومن دونِها بلدٌ نازحٌ ... يُجيبُ به البومُ رجعُ الصَّدى

وكم دونَ بيتكَ من ضعَّفٌ ... ومن أسْودٍ حاجرٍ في مكَا

ومنْ منهلٍ آجنٍ ماؤهُ ... سدًى لا يُعاجُ به قدْ طمَا

ومن حنشٍ لا يجيبُ الرُّقا ... ةَ أسمرَ ذي حمَةٍ كالرّشا

أصمَّ صموتٍ طويلِ السُّبا ... تِ منهرتِ الشّدقِ عاري القرَى

لهُ في اليبيسِ نٌفاثٌ يطيرُ ... على جانبيهِ كجمرِ الغضَى

وعينانِ حمٌّ مآقيهما ... تبصَّانِ في هامةٍ كالرَّحا

إذا ما تثاءبَ أبدى لهُ ... مذرَّبةً عصلاً كالمُدى

كأنَّ حفيفَ الرَّحا جرسهُ ... إذا اصطكَّ أنيابهُ في الصَّفا

ولو عضَّ حرفيْ صفاةٍ إذاً ... لأنشبَ أنيابهُ في الصَّفا

كأنَّ مزاحفهُ أنسغٌ ... حُززنَ فُرادى ومنها ثُنى

وقد شاقَني نوحُ قمريَّةٍ ... طروبُ العشيِّ هتوفِ الضُّحى

من الورقِ نوَّاحةٍ باكرتْ ... عسيبَ أشاءٍ بذاتِ الغضَى

تغنَّتْ عليه بلحنٍ لها ... تهيِّجُ للصب ما قد مضَى

مطوَّقةٍ كُسيتْ زينةً ... بدعوةِ نوحٍ لها إذا دعَا

فلم أرَ باكيةً مثلَها ... تبكِّي ودمعتُها لا تُرى

أضلَّتْ فُريخاً فطافتْ لهُ ... وقد علِقتهُ حبالُ الرَّدى

فلمَّا بدا اليأسُ منهُ بكتْ ... عليهِ وماذا يردُّ البُكا

وقدْ صادهُ ضرمٌ مُلحمٌ ... خفوقُ الجناحِ حثيثُ النَّجا

حديدُ المخالبِ عاري الوظي ... فِ ضارٍ من الزُّرقِ فيهِ قنَا

ترى الوحشَ والطَّيرَ من خوفهِ ... جواحرَ منهُ إذا ما اغْتدى

فباتَ عذوباً على مرقبٍ ... بشاهقةٍ صعبةِ المُرتقى

فلمَّا أضاءَ لهُ صبحهُ ... ونكَّبَ عن منكبيهِ النَّدى

وحتَّ بمخلبهِ قارتاً ... على خطمهِ منْ دماءِ القطَا

فصعَّدَ في الجوِّ ثم اسْتدا ... رَ ضارٍ حثيثٌ إذا ما انْصمى

فآنسَ سربَ قطَا قاربٍ ... جبَا منهلٍ لم تمِحْه الدَّلا

غدونَ بأسقيةٍ يرتوينَ ... لزغبٍ مطرَّحةٍ بالفلا

يُبادرنَ ورداً فلمْ يرعوينَ ... على ما تخلَّفَ أو ما ونَى

تذكَّرنَ ذا عرمضٍ طامياً ... يجولُ على حافتيهِ الغُثا

بهِ رفقةٌ من قطاً واردٍ ... وأُخرى صوادرَ عنهُ رِوا

فملأنَ أسقيةً لم يُشنْ ... بخرزٍ وقد شدَّ منها العرَا

فأقعصَ منهنَّ كدريَّةً ... فمزَّقَ حيزومَها والحشَا

تخالُ حفيفَ جناحيهِ إذْ ... تدلَّى من الجوِّ برقاً سنَا

فولَّينَ مجتهداتِ النَّجا ... جوافلَ في طامساتِ الصّوى

فاُبنَ عطاشاً فسقَّينهنَّ ... مُجاجاتهنَّ كماءِ السَّلى

فبتنَ يُراطنَّ رقشَ الظُّهو ... رِ حمرَ الحواصلِ صفرَ اللَّها

فذاكَ وقد أغتدي في الصَّباحِ ... بأجردَ كالسِّيدِ عبلِ الشَّوى

له كفلٌ أيِّدٌ مشرفٌ ... وأعمدةٌ لا تشكَّى الوجَى

وأُذنٌ مؤلَّلةٌ حشرةٌ ... وشِقٌّ رحابٌ وجوفٌ هوَا

ولحيانُ شدَّا إلى منخرٍ ... رحيبٍ وعوجٌ طوالُ الخُطا

لهُ سبعةٌ طلنَ من بعدِ أنْ ... قصرنَ له سبعةٌ فاسْتوى

وسبعٌ عرينَ وسبعٌ كُسينَ ... وخمسٌ رواءٌ وخمسٌ ظمَا

وسبعٌ قربنَ وسبعٌ بعدْ ... نَ منهُ فما فيهِ عيبٌ يُرى

وسبعٌ غلاظٌ وسبعٌ رقاقٌ ... وصهوةُ عيرٍ ومتنُ خطَا

حديدُ الثّمانِ عريضُ الثّمانِ ... شديدُ الصِّفاقِ شديدُ المطَا

وفيهِ منَ الطَّيرُ خمسٌ فمنْ ... رأى فرساً مثلهُ يُقتنى

غُرابانِ فوقَ قطاةٍ لهُ ... ونسرٌ ويعسوبهُ قد بدَا

ويؤثرُ بالزَّادِ قبلَ العيالِ ... وفي كلِّ مشتاتهِ يُقتفى

قصرْنا لهُ منَ جيادِ اللَّقا ... حِ خمساً مجاليحَ كومَ الذُّرى

يُفادى بعضٍّ لهُ دائباً ... ونُقفيهِ من حلبٍ ما اشْتهى

فقاظَ صنيعاً فلمَّا شتَا ... أخذْناهُ بالقودِ حتَّى انْطوى

فهِجنا بهِ عانةً في الغطاطِ ... خماصَ البطونِ صحاحَ العُجى

فولَّينَ كالبرقِ في نفرهنَّ ... جوافلَ يكسرنَ صمَّ الصَّفا

فصوَّبهُ العبدُ في إثرِها ... فطوراً يغيبُ وطوراً يُرى

فجدَّلَ خمساً فمنْ مقعصٍ ... وشاصٍ كراعاهُ دامِي الكُلى

وثِنتانِ خضخضنَ قُصيبهُما ... وثالثةٌ نشجتْ بالدِّما

فرُحنا بصيدٍ إلى أهلِنا ... وقد جلَّلَ الأرضَ ثوبُ الدُّجى

وبتْنا نقسِّمُ أعضاءهُ ... لجارٍ ويأكلهُ منْ عفَا

ورحْنا مثلَ وقفِ العرُو ... سِ أهيفَ لا يتشكَّى الوجَى

وباتَ النِّساءُ يعوِّذنهُ ... ويأكلنَ من صيدهِ المُشتوى

عبد الله بن عباس

خبر عبد الله بن عباس ونافع بن الأزرق وقصيدة عمر بن أبي ربيعة

حدَّث الرواة: أن نافع بن الأرق الخارجي، أتى عبد الله بن عباس، رضي الله عنه يوماً فطفق، حتَّى تبرم وجعل يعرض عنه ضجراً، فطلع عمر بن عبد الله ابن أبي ربيعة بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم، وهو يومئذ غلام، فسلّم على عبد الله وجلس، فقال عبد الله: أنشدنا شيئاً، فأنشده: أمن آل نعم أنت غاد فمبكر، حتَّى انتهى إلى آخرها، وهي نحو من ثمانين بيتاً. فقال ابن الأزرق: لله أنت يا ابن عباس، أنضرب إليك أكباد الإبل نسألك عن الدين، فتعرض، ويأتيك غلام من قريش فينشدك سفهاً فتسمعه؟ تالله ما سمعت سفهاً، فقال: أما أنشدك:

رأتْ رجلاً أمَّا إذا الشَّمسُ عارضتْ ... فيخزى وأمَّا بالعشيِّ فيخسرُ

فقال ابن عباس: ما هكذا أنشدنا، إنما قال: فيضحى، وأما بالعشيِّ فيخصر. فقال ابن الأزرق: أو حفظت ما قال؟ فقال: والله ما سمعتها إلاَّ ساعتي، ولو شئت أن أروها أرددتها، قال: فارددها. فأنشده إياها، فقال ابن الأزرق: ما رأيت أروى منك قط. فقال عبد الله: ما رأيت أروى من عمر، ولا أعلم من عليّ، رضي الله عنهما.

والقصيدة:

أمنْ آلِ نعمٍ أنتَ غادٍ فمبكرُ ... غداةَ غدٍ أم رائحٌ فمهجِّرُ

لحاجةِ نفسٍ لم تقلْ في جوابِها ... فتبلغَ عذراً والمقالةُ تعذرُ

تهيمُ إلى نعمٍ فلا الشَّملُ جامعٌ ... ولا الحبلُ موصولٌ ولا القلبُ مقصرُ

ولا قربُ نعمٍ إنْ دنتْ لكَ نافعٌ ... ولا نأيُها يسلي ولا أنتَ تصبرُ

وأخرى أتتْ من دونِ نعمٍ ومثلُها ... نهى ذا النُّهى لو ترعوي أو تفكِّرُ

إذا زرتُ نعماً لم يزلْ ذو قرابةٍ ... لها كلَّما لاقيتُهُ يتنمَّرُ

عزيزٌ عليهُ أنْ ألمَّ ببيتها ... يسرُّ ليَ الشَّحناءَ للبغضِ مظهرُ

إلكْني إليها بالسَّلامِ فإنَّهُ ... ينكَّرُ إلمامي بها ويشهَّرُ

بآيةِ ما قالتْ غداةَ لقيتُها ... بمدفعِ ركبانٍ أهذا المشَّهرُ

قفي فانظُري يا اسمُ هل تعرفينهُ ... أهذا المغيريُّ الذي كانَ يذكرُ

أهذا الذي أطريتِ نعتاً فلم أكنْ ... وعيشكِ أنساهُ إلى يومِ أُقبرُ

فقالتْ نعم لا شكَّ غيَّر لونهُ ... سُرى اللَّيلِ يُحيي نصَّه والتَّهجُّرُ

لئنْ كانَ إيَّاهُ لقد حالَ بعدَنا ... عن العهدِ والإنسانُ قد يتغيَّرُ

تغيَّرَ جسمي والخليقةُ كالتي ... عهدتُ ولم يُخبرْ بسرِّكَ مخبرُ

رأتْ رجلاً أمَّا إذا الشَّمسُ عارضتْ ... فيضحى وأمَّا بالعشيِّ فيخصرُ

أخا سفرٍ جوَّابَ أرضٍ تقاذفتْ ... بهِ فلواتٌ فهو أشعثُ أغبرُ

قليلٌ على ظهرِ المطيَّةِ ظلُّهُ ... وريَّانُ ما نفى عنهُ الرِّداءُ المحبَّرُ

وأعجبَها من عيشِها ظلُّ غرفةٍ ... وريَّانُ ملتفُّ الحدائقِ أخضرُ

ووالٍ كفاها كلَّ شيءٍ يهمُّها ... فليستْ لشيءٍ أخرَ اللَّيلِ تسهرُ

وليلةِ ذي دوْرانَ جشَّمني السُّرى ... وقد يجشمُ الهولُ المحبُّ المغرّرُ

فبتُّ رقيباً للرِّفاقِ على شفا ... أُراقبُ منهمْ من يطوفُ وأنظرُ

إليهمْ متى يأخذُ النومُ منهمُ ... ولي مجلسٌ لولا اللُّبانةُ أوعرُ

وباتتْ قلوصِي بالعراءِ ورحلُها ... لطارقِ ليلٍ أو لمنْ جاءَ معورُ

وبتُّ أناجي النَّفسَ أينَ خباؤها ... وأنَّى لما آتي من الأمرِ مصدرُ

فدلَّ عليها القلبَ ريَّا عرفتُها ... لها وهوى النَّفسِ الذي كانَ يظهرُ

فلمَّا فقدتُ الصَّوتَ منهم وأُطفئتْ ... مصابيحُ شبَّتْ بالعشاءِ وأنورُ

وغابَ قُميرٌ كنتُ أرجو غيوبهُ ... وروَّحَ رعيانٌ ونوَّمَ سمَّرُ

وخفِّضَ عنِّي الصَّوتُ أقبلتُ مشيةَ ال ... حبابِ ورُكني خيفةَ القومِ أزورُ

فحيَّيتُ إذ فاجأتُها فتولَّهتْ ... وكادتْ بمرجوع التحيّةِ تجهرُ

فقالتْ وعضَّتْ بالبنانِ فضحتْني ... وأنتَ امرؤٌ ميسورُ أمركَ أعسرُ

أريتكَ إذ هنَّا عليكَ ألمْ تخفْ ... رقيباً وحولي من عدوِّكَ حضَّرُ

فواللهِ ما أدري أتعجيلٌ حاجةٍ ... سرتْ بكَ أم قد نامَ من كنتَ تحذرُ

فقلتُ لها بلْ قادني الحبُّ والهوى ... إليكِ وما نفسٌ من النَّاسِ تشعرُ

فقالت وقد لانتْ وأفرخ روعها ... كلاك بحفظ ربّك المتكبرُ

فأنتَ أبا الخطَّابِ غيرَ منازعٌ ... عليَّ أمينٌ ما مكثتَ مؤمَّرُ

فيالكَ من ليلٍ تقاصرَ طولهُ ... وما كانَ ليلي قبلَ ذلكَ يقصرُ

ويالكَ من ملهى هناكَ ومجلسٍ ... لنا لم يكدِّرهُ علينا مكدِّرُ

يرفُّ إذا تفترُّ عنهُ كأنَّهُ ... حصى بردٍ أو أقحوانٌ منوَّرُ

وترنو بعينيها إليَّ كما رنا ... إلى ظبيةٍ وسطَ الخميلةِ جؤذرُ

فلمَّا تقضَّى اللَّيلُ إلاّ أقلَّهُ ... وكادتْ توالي نجمهِ تتغوَّرُ

أشارتْ بأنَّ الحيَّ قد حانَ منهمُ ... هبوبٌ ولكنْ موعدٌ منك عزورُ

فما راعني إلاّ منادٍ ترحَّلوا ... وقد لاحَ معروفٌ من الصّبحِ أشقرُ

ولمَّا رأتْ من قد تثوَّرَ منهمُ ... وأيقاظهمُ قالتْ أشرْ كيفَ تأمرُ

فقلتُ أباديهمْ فإمَّا أفوتُهم ... وإمَّا ينالُ السَّيفُ ثأراً فأثأرُ

فقالتْ أتحقيقٌ لما قالَ كاشحٌ ... علينا وتصديقٌ لما كانَ يؤثرُ

فإنْ كانَ ما لا بدَّ منهُ فغيرهُ ... من الأمرِ أهدى للخفاءِ وأسترُ

أقصُّ على أُختيَّ بدءَ حديثِنا ... وما ليَ من أن تعلما متأخّرُ

لعلَّهما أنْ تجعلا لكَ مخرجاً ... وأنْ ترحُبا سرباً بما كنتُ أحصرُ

فقامتْ كئيباً ليس في وجهها دمٌ ... من الحزنِ تُذري دمعةً تتحدَّرُ

فقالتْ لأختيْها أعِينا على فتًى ... أتى زائراً والأمرُ للأمرِ يقدرُ

فقامتْ إليها حرَّتانِ عليهما ... كِساآنِ من خزٍّ بنفس وأخضرُ

فأقبلتا فارْتاعتا ثمَّ قالتا ... أقلِّي عليكِ اللَّومَ فالخطبُ أيسرُ

فقالتْ لها الصُّغرى سأُعطيهِ مطرَفي ... وبُردي وهذا الدِّرعُ إنْ كانَ يحذرُ

يقومُ فيمشي بيننا متنكِّراً ... فلا سرُّنا يفشو ولا نحنُ نذكرُ

ويروى:

ونخرجهُ من بيننا ساتراتهِ ... فلا سرُّنا يبدو ولا هو يظهرُ

فكانَ من مجَنِّي دونَ من كنتُ أتَّقي ... ثلاثُ شخوصٍ كاعبانِ ومعصرُ

فلما أجزْنا ساحةَ الحيِّ قلنَ لي ... ألمْ تتَّقي الأعداءَ واللَّيلُ مقمرُ

وقلنَ أهذا دأبكَ الدَّهرَ سادراً ... أما تستحي أو ترعوي أو تفكِّرُ

إذا جئتَ فامنحْ طرفَ عينكَ غيرَنا ... لكي يحسَبوا أنَّ الهوى حيثُ تنظرُ

فآخرُ عهدٍ لي بها حيثُ أعرضتْ ... ولاحَ لها خدٌّ نقيٌّ ومحجرُ

سوى أنَّني قد قلتُ يا نعمُ قولةً ... لها والرِّكابُ الأرحبيَّةُ تزجرُ

هنيئاً لبعلِ العامريَّةِ نشرُها ال ... لذيذُ وريَّاها الذي أتذكَّرُ

فقمتُ إلي حرفٍ تخوَّنَ نيّها ... سُرى اللَّيلِ حتَّى لحمُها متحسِّرُ

وحبسي على الحاجاتِ حتَّى كأنَّها ... بليَّةُ لوحٍ أو شجارٌ مؤسَّرُ

وماءٍ بموماةٍ قليلٌ أنيسهُ ... بسابسَ لم يحدثْ له الصيفُ محضرُ

بهِ مُبتنى للعنكبوتِ كأنَّهُ ... على طرفِ الأرجاءِ خامٌ منشَّرُ

وردتُ وما أدري أمَا بعدَ موردي ... من اللَّيلِ أم ما قد مضى منه أكثرُ

فطافتْ بهِ مغلاةُ أرضٍ كأنَّها ... إذا التفتتْ مجنونةً حينَ تنظرُ

تنازعُني حرصاً على الماءِ رأسَها ... ومن دونِ ما تهوى قليبٌ معوَّرُ

محاولةً للوردِ لولا زمامُها ... وجذبي بهِ كادتْ مراراً تكسَّرُ

فلمَّا رأيتُ الضُّرَّ منها وأنَّني ... ببلدةِ أرضٍ ليسَ فيها معصَّرُ

قطعتُ لها من جانبِ الحوضِ مشرباً ... صغيراً كقيدِ الشِّبرِ أو هو أصغرُ

إذا شرعتْ فيه فليسَ لملتقى ... مشافرِها منه قِدى الشَّبرِ مشبرُ

ولا دلوَ إلاّ العقبُ كانَ رشاءهُ ... إلى الماءِ نسعٌ والجديلُ المضفَّرُ

فسافتْ وما عافتْ وما صدَّ شربَها ... عن الرِّيِّ مطروقٌ من الماءِ أكدرُ

قصيدة كثير عزة

وحدث الرواة أن كثيِّر بن عبد الرحمن الخزاعي، دخل على عبد الملك بن مروان، وعنده الأخطل، فأنشده، فالتفت عبد الملك إلى الأخطل فقال: كيف ترى؟ فقال: حجازي مجدع مغرور، دعني أصفحه لك يا أمير المؤمنين، فقال كثيّر: من هذا يا أمير المؤمنين؟ فقال: هذا الأخطل، فقال له كثيّر: فهلا صفحت الذي يقول:

لا تطلبنَّ خؤولةً في تغلبٍ ... فالزّنجُ أكرمُ منهمُ أخوالا

والتغلبيُّ إذا تنحنحَ للقِرى ... حكَّ استَه وتمثَّل الأمثالا

فسكت الأخطل وما أجاب بحرف.

قالوا: إن عبد الملك ذكر الشعر يوماً، فقال: لو كان قول كثيّر بن عبد الرحمن:

فقلتُ لها يا عزُّ كلُّ مصيبةٍ ... إذا وُطِّنتْ يوماً لها النَّفسُ ذلَّتِ

في الحرب، لكان أشعر الناس، ولو أن بيت القطامي:

يمشينَ رهواً فلا الأعجازُ خاذلةٌ

في وصف النساء لكان أشعر الناس.

وقالوا: إن كثيراً سئل ذات يوم، أنت أشعر أم جميل؟ فقال: بل أنا، فقيل: أتقول هذا وأنت راويته؟ قال: أجل، لأنه يقول:

رمى اللهُ في عينَيْ بثينة بالقذى ... وفي الغرِّ من أنيابِها بالقوادحِ

وأنا أقول:

هنيئاً مريئاً غيرَ داءٍ مخامرٍ ... لعزَّةَ من أعراضِنا ما استحلَّتِ

وهذه قصيدة البيت:

خليليَّ هذا رسمُ عزَّةَ فاعقِلا ... قلوصيكُما ثمَّ ابكيا حيثُ حلَّتِ

ومسَّا تراباً كانَ قد مسَّ جلدَها ... وظلاَّ وبيتاً حيثُ باتتْ وظلَّتِ

ولا تيأسا أن يغفرَ اللهُ منكُما ... ذنوباً إذا صلَّيتُما حيثُ صلَّتِ

فقد حلفتْ جهداً بما نحرتْ لهُ ... قريشٌ غداةَ المأزمينِ ولبَّتِ

أُناديكَ ما حجَّ الحجيجُ وكبَّرتْ ... بفيفَا غزالٍ رفقةٌ وأهلَّتِ

وكانتْ لقطعِ الحبلِ بيني وبينَها ... كناذرةٍ نذراً وفتْ فأحلَّتِ

فقلتُ لها يا عزُّ كلُّ مصيبةٍ ... إذا وطِّنتْ يوماً لها النَّفسُ ذلَّتِ

ولم يلقَ إنسانٌ من الحبِّ ميعةً ... تعمُّ ولا عمياءَ إلاّ تجلَّتِ

كأنّي أُنادي صخرةً حين أعرضتْ ... من الصُّمِّ لو تمشي بها العصمُ زلَّتِ

ووجدي بكمْ يا عزُّ لو تعلمينهُ ... كما وجدِ ملواحٍ عن الماءِ ضلَّتِ

صفوحٌ فما تلقاكَ إلاّ بخيلةً ... فمنْ ملَّ ذلك الوصلَ ملَّتِ

أباحتْ حمًى لم يرعهُ النَّاسُ قبلَها ... وحلَّتْ تلاعاً لم تكنْ قبلُ حلَّتِ

فليتَ قلوصي عندَ عزَّةَ قيِّدتْ ... بحبلٍ ضعيفٍ غرَّ منها فندَّتِ

وغودرَ في الحيِّ المقيمينَ رحلُها ... وكانَ لها باغٍ سوايَ فبلَّتِ

فيا منْ لعينٍ لا ترى قللَ الحمى ... ولا جبلَ الأوشالِ إلاّ استهلَّتِ

لجوجٌ إذا همَت عصيٌّ إذا بكتْ ... سواءٌ أدقَّتْ في البكا أم أجلَّتِ

ولمَّا ارتقينا في صعودٍ من الصِّبا ... على رتبٍ منها شنئتُ وكلَّتِ

فكنتُ كذاتِ الدَّاءِ راجعَ داؤها ... على حينِ قالَ الداعيانِ أبلَّتِ

وكنتُ كذي رجلينِ رجلٍ صحيحةٍ ... ورجلٍ رمى فيها الزَّمانُ فشلَّتِ

وكنتُ كذاتِ الضَّلعِ لمَّا تحمَّلتْ ... على ضلعِها بعدَ العثارِ استقلَّتِ

أُريدُ الثَّواءَ عندها وأظنُّها ... إذا ما أطلْنا عندها المكثَ ملَّتِ

تمنَّيتها حتَّى إذا ما رأيتُها ... رأيتُ المنايا مترعاً قد أظلَّتِ

وما غرَّني إلاّ كتابٌ كتبتهُ ... فليتَ يميني قبلَ ذلكَ شلَّتِ

يكلِّفها الخنزيرُ شتمي وما بها ... هواني ولكنْ للمليكِ استذلَّتِ

هنيئاً مريئاً غيرَ داءٍ مخامرٍ ... لعزَّةَ من أعراضِنا ما استحلَّتِ

فواللهِ ما قاربتُ إلاّ تباعدتْ ... لصرمٍ ولا أكثرتُ إلاّ أقلَّتِ

فإنْ تكنِ العتبى فأهلاً ومرحباً ... وحقَّتْ لها العتبى لدينا وقلَّتِ

وإنْ تكنِ الأخرى فإنَّ وراءنا ... بلاداً إذا كلفتُها العيسَ كلَّتِ

خليليَّ إنَّ الحاجبيَّةَ طلَّحتْ ... قلوصيكُما وناقتي قد أكلَّتِ

فلا يبعدنَ وصلٌ لعزَّةَ أصبحتْ ... بعاقبةٍ أسبابهُ قد تولَّتِ

أسيئي بنا أو أحسني لا ملومةً ... لدينا ولا مقليَّةً إنْ تقلَّتِ

ولكنْ أنيلي واذكُري من مودَّةٍ ... لنا خلَّةٌ كانت لديكمْ فظلَّتِ

فإنِّي وإنْ صدَّتْ لمثنٍ وصادقٌ ... عليها بما كانتْ إلينا أزلَّتِ

وما أنا بالدَّاعي لعزَّةَ بالرَّدى ... ولا شامتٍ إنْ نعلُ عزَّةَ زلَّتِ

أصابَ الرَّدى من كانَ يهوى لكِ الرَّدى ... وجنَّ اللَّواتي قلنَ عزَّةُ جنَّتِ

فلا يحسبِ الواشونَ أنَّ صبابتي ... بعزَّةَ كانتْ غمرةً فتجلَّتِ

وأصبحتُ قد أبللتُ من دنفٍ بها ... كما أُدنفتْ هيماءُ ثمَّ استبلَّتِ

فواللهِ ثمَّ اللهِ لا حلَّ بعدَها ... ولا قبلَها من خلَّةٍ حيثُ حلَّتِ

وما مرَّ من يومٍ عليَّ كيومِها ... وإنْ عظمتْ أيَّامُ أخرى وجلَّتِ

فواعجبا للقلبِ كيفَ اعترافهُ ... وللنَّفسِ لمَّا وطِّنتْ كيفَ ذلَّتِ

وللعينِ أسرابٌ إذا ما ذكرتُها ... وللقلبِ بلبالٌ إذا العينُ ملَّتِ

وإنِّي وتهْيامي بعزَّةَ بعدما ... تخلَّيتُ ممَّا بيننا وتخلَّتِ

لكالمرتَجي ظلَّ الغمامةِ كلَّما ... تبوَّأ منها للمقيلِ اضمحلَّتِ

كأنّي وإيَّاها سحابةُ ممحلٍ ... رجاها فلمَّا جاوزتْها استهلَّتِ

قصيدة جميل بثينة

وذكروا أن كثير بن عبد الرحمن قال: قال لي جميل بن عبد الله بن معمر وهو أبو عمير: انطلق إلى بثينة وخذ لي وعدَّ منها، فقلت: فمتى عهدك بها، وهل بينك وبينها علامة؟ قال: آخر عهد لي بهم وهم بوادي الدَّوم يرحضون ثيابهم. قال: فأتيتهم فأجد أباها قاعداً بالفناء، فسلمت فرد، وحادثته ساعة حتَّى استنشدني، فأنشدته وقلت:

فقلتُ لها يا عزُّ أرسلَ صاحبي ... على نأي دارٍ والموكَّلُ يرسلُ

بأنْ تجعلي بيني وبينك موعداً ... وأنْ تأمريني بالذي فيه أفعلُ

وآخرُ عهدٍ منكِ يومَ لقيتني ... بأسفلَ وادي الدَّومِ والثوبُ يغسلُ

قال: فلما سمعت بثينة، وهي وراء أبيها في خدرها ذلك، ضربت كسير الخباء بكفها، وقالت: اخسأ، فقال لها أبوها: مهيم يا بثينة، مالك؟ قالت: كلب يأتينا إذا نوَّم الناس من وراء هذه الرابية. قال كثير: فانقلبت إلى جميل، فأخبرته أنها واعدته وراء الرابية إذا نوّم الناس. وإنما احتاج جميل إلى من يبلغ عنه، لما حكاه أبو عبيدة قال: شكا قوم بثينة جميلاً إلى معاوية، فأحماهم حمى وقال: إن ثقفتموه دونه، فقد أهدرت لكم دمه، فحذِّر جميل ولزم السلام، وجعل يبعث بالآية مع الأمة والراعي والراكي الذي يثق به، ولذلك يقول:

قالت بثينةُ لا تُبالي صرمَنا ... وبلى وجدِّكَ إنَّني لأُبالي

أوَ ما تراني من جريرةِ حبِّها ... أمشي الدِّلاصَ مقلِّصاً سربالي

والقصيدة

ما هاجَ شوقكَ من بِلى الأطلالِ ... بالبرقِ مرَّا صبا ومرَّا شمالِ

لعبتْ بجدَّتها الشَّمالُ وصابَها ... نوء السَّماكِ بمسبلٍ هطَّالِ

جرَّتْ بها هوجُ الرِّياحِ ذيولَها ... جرَّ النِّساءِ فواضل الأذيالِ

فحسرنَ عن دُهمٍ تقادمُ عهدُها ... وبقينَ في حقبٍ من الأحوالِ

وذكرتُ ربعاً حلَّ أهلونا بهِ ... إذ نحنُ في حلقٍ هناكَ حِلالِ

نقفُ الحديثَ إذا خشينا كاشحاً ... ونلطُّ حينَ نخافُ بالأمثالِ

حتَّى تفرَّقَ أهلُنا عن نيَّةٍ ... قذفٍ وآذنَ أهلُنا بزوالِ

بانوا فبانَ نواعمٌ مثلُ الدُّمى ... بيضُ الوجوهِ يمسنَ في الأغيالِ

حفدُ الولائدِ حولهنَّ وأسلمتْ ... بأكفِّهنَّ أزمَّةَ الأجمالِ

راحوا معَ البلقاءِ يشكو غيرهمْ ... عنفُ السِّياقِ مرفَّعَ الأذيالِ

جعلوا أقارحَ كلَّها بيمينهمْ ... وهضابَ برقةَ عسعسٍ بشمالِ

ولقد نظرتُ ففاضَ دمعي بعدَ منا ... مضتِ الظَّعائنُ واحتجبنَ بآلِ

عرضَ الجباجبِ من أُثالَ كما غدتْ ... رجحُ السَّفينِ دفعنَ بالأثقالِ

أفكلّ ذي شجوٍ علمتَ مكانهُ ... تسلو مودَّتهُ ولستُ بسالِ

من غيرِ إصقابٍ يكونُ في النَّوى ... إلاّ اللِّمامَ ولا كبيرَ وصالِ

قالتْ بثينةُ لا تبالي صرمَنا ... جهلتْ بثينةُ أنَّني لأبالي

والمجرمينَ مخافةً وتعبُّداً ... يحدونَ كلَّ نجيبةٍ شملالِ

غصباً كأنَّ عيونهنَّ من السّرى ... ومن الكلالِ مدافعُ الأوشالِ

إنِّي لأكتمُ حبَّها إذ بعضهمْ ... فيمنْ يحبُّ كناشدِ الأغفالِ

أبثينَ هل تدرينَ كمْ جشَّمتِني ... من عقرِ ناجيةٍ وحربِ موَالِ

وتعسُّف الموماةِ تعزفُ جنُّها ... بعدَ الهدوءِ بعرمسٍ مرقالِ

ولقد أشرت على ابنِ عمِّكِ لاقحاً ... من حربِنا جرباءَ ذاتَ غلالِ

حرباً يشمِّصُ بالضعيفِ مراسُها ... لقحتْ على عقرٍ وطولِ حيالِ

أوَ لا تراني من جريرةِ حبِّها ... أمشي الدِّلاصَ مقلِّصاً سربالي

صدأُ الحديدِ بمنكبيَّ كأنَّني ... جونٌ يغشِّيهِ العنيَّةَ طالِ

يا ليتَ لذَّةَ عيشنا رجعتْ لنا ... في مثلِ عصرٍ قد تجرَّمَ خالِ

فنبيعُ أياماً خلتْ فيما مضى ... قصرتْ بأيامٍ عقبنَ طوالِ

وإذا العدوُّ مكذَّبٌ أنباؤهُ ... وإذا النَّصيحُ مصدَّقُ الأقوالِ

من كلِّ آنسةٍ كأنَّ نيوبَها ... بردُ مسقطِ روضةٍ محلالِ

هطلٌ كغادي السّلمِ يجري صعده ... فوق الرّجاجةِ عن أجبَّ ثقالِ

من تؤتهِ أشفى على ما فاتهُ ... منها وإنْ لم تجزِه بنوالِ

ومعاكبٌ عرضتْ وكشحٌ مضمرٌ ... جالَ الوشاحُ عليهِ كلَّ مجالِ

وعجيزةٌ ريَّا وساقٌ خدلةٌ ... بيضاءُ تسكتُ منطقَ الخلخالِ

حتَّى إذا ملثَ الظَّلامُ وفِتنني ... غلبَ العزاءُ وهنَّ غيرُ أوالِ

خبر مجنون ليلى

ذكروا أن كثيّراً دخل على عبد الملك فقال له: أنشدني شيئاً قلته في عزة، فقال: بل أنشدك ما امتدحتك به، فقال: أسألك بحق أبي تراب، ألا أنشدتني شعرك في عزة، فقال: سألتني بحقٍ عليّ عظيم، فجعل ينشده وعيناه تهملان، فقال عبد الملك: ما أشد حبك لعزة، فهل رأيت قط أحداً كان أشد حباً منك؟ قال: أخبرك يا أمير المؤمنين: خرجت، وقد هاج بي الشوق، وذكر عزة، وكانوا قد انتجعوا نجعة قريباً من الحي، حيناً، فمررت برجل قد نصب شركاً له وهو منعزب عن الحي، فملت إليه، وقلت: هل من قِرى؟ فقال: أنا عازب عن الحي، وقد نصبت حبائلي، فاصبر قليلاً أحش عليك الظباء، فإن وقع في الحبال شيء أكلنا جميعاً، فإني لما أطعم شيئاً منذ ثلاث، فمضى يحوش، فوقعت في شركه أدماء عوهج فأسرع نحوها، وأنا منه حيث أرى وأسمع، فطفق يمسح التراب منها، ثمَّ أطلقها وأعاد الحبالة وأقبل إلي، فقلت: يا هذا، هل رأيت أحداً صنع صنيعك، إنا جميعاً نشكو الغرث، حتَّى إذا أتى الله بالفرج أرملتنا من زادنا؟ قال: ويحك، إني نظرت إليها وإلى عينيها فشبهتها بمن أهوى، فهل رأيت من يأكل شبه حبه، وأنشأ يقول:

أيا شبهَ ليلى لا تُراعي فإنَّني ... لكِ اليومَ من بين الوحوشِ صديقُ

أقولُ وقد أطلقتُها من وثاقِها ... لأنتِ لليلى إنْ شكرتِ طليقُ

ثمَّ قال: أقم، فإن وقع شيء أكلنا، فأقمت طمعاً في أن يمنعه الجوع من أن يعود لمثل فعله، فوقع في شركه ظبي، فسعى نحوه، وأطلقه فعدا، وأنشأ يقول:

أيا شبهَ ليلى لو تلبَّثْتَ ساعةً ... لعلَّ فؤادي من جواه يفيقُ

وما إنْ أشبهتَها ثمَّ لم تؤبْ ... سليما عليها في الحياةِ شفيقُ

فقلت: ويحك، أجهدنا الجوع، وتركته، علماً بأنه مجنون من الحب، ثمَّ مررت على ظباء ترعى فقلت: إن دللته عليها رجوت أن يحوشها، ويمنعه من إطلاق ما تقع في حبالته منها علمه بأنها طريدتي فيأكل ويطعمني، فرجعت إليه وقلت: ألا ترى إلى تلك الظباء ساكنة ترتعي؟ فقال: هيهات، إني رأيت ليلى ترتع في هذه الروضة وتلعب وإني قلت:

رأيتُ ظباءً ترتعي وسطَ روضةٍ ... وكنتُ أرى ليلى فلنتُ لها دهرا

فيا ظبيُ كلْ رغداً هنيئاً ولا تخفْ ... فإنِّي لكم جارٌ وإنْ خفتمُ دهرا

ثمَّ مضى وتركني، فهذا يا أمير المؤمنين أعشق عاشق رأيت. قال: فمن تراه؟ قال: المجنون قيس بن الملوح، وهو من بني عامر بن صعصعة، ومما قصد من شعره في التياث عقله كلمته.

قصيدة مجنون ليلى

تذكَّرتُ ليلى والسّنينُ الخوالِيا ... وأيامَ لا نعدَى على اللَّهوِ عادِيا

فقلتُ ولم أملكْ أكعبَ بنَ عامرٍ ... لحبٍّ بذاتِ الرَّقمتينِ بدالِيا

إذا نحنُ أدلجْنا وأنتِ أمامِنا ... كفى لمطايانا بذكراكِ هادِيا

ذكتْ نارُ شوقٍ في فؤادي فأصبحتْ ... لها لعبٌ مستضرمٌ في فؤادِيا

هي السِّحرُ إلاّ أنَّ للسِّحرِ رُقيةً ... ومثلي لا أُلفي لما بي راقِيا

وحدَّثتُماني أنَّ تيماءَ منزلٌ ... لليلى إذا ما الصَّيفُ ألقى المراسِيا

فهذي شهورُ الصَّيفِ أمستْ قدْ انقضتْ ... فما للنَّوى ترمي بليلى المرامِيا

يلومكَ فيها ابْنا كليبٍ سفاهةً ... فليتَ الهوى يابْنيْ كليبٍ مكانِيا

ولو كانَ واشٍ باليمامةِ دارهُ ... وداري بأعلى حضرموتَ اهتدى لِيا

وماذا لهمْ لا حسَّنَ اللهُ حفظهمْ ... من الحظِّ في تصريمِ ليلى حبالِيا

فلو كنتُ أعمى أخبطُ الأرضَ بالعصا ... أصمَّ فنادتْني أجبتُ المنادِيا

وأخرجُ من بين الجلوسِ لعلَّني ... أحدِّثُ عنكِ النَّفسَ يا ليلُ خالِيا

وأنتِ التي إنْ شئتِ أشقيتِ عيشتي ... وإنْ شئتِ بعدَ اللهِ أنعمتِ بالِيا

وإنِّي لأستغشي وما بيَ نعسةٌ ... لعلَّ خيالاً منكِ يلقى خيالِيا

إذا اكتحلتْ عيني بعينكِ لم أزلْ ... بخرٍ وجلَّتْ غمرةً عن فؤادِيا

إذا سرتُ بالأرضِ الفضاءِ رأيتني ... أُصانعُ رحلي أنْ يميلَ حيالِيا

سقى اللهُ جيراناً لليلى تقاذفتْ ... بهنَّ النَّوى حتَّى اختللنَ المطالِيا

تبدَّلتُ من جدواكِ يا أمَّ مالكٍ ... وساوسَ همٍّ يحتضرنَ وسادِيا

فإنَّ الذي أمَّلتُ يا أمَّ مالكٍ ... أشابَ قَذالي واستهامَ فؤادِيا

فيومانِ يومٌ في الأنيسِ مرنَّقٌ ... ويومٌ أجاري في الرِّياحِ الجوارِيا

أعدُّ اللَّيالي ليلةً بعد ليلةٍ ... وقد كنتُ دهراً لا أعدُّ اللَّيالِيا

إذا ما طواكِ الدَّهرُ يا أمَّ مالكٍ ... فشأنُ المنايا القاضياتِ وشانِيا

خليليَّ إنْ دارتْ على أمِّ مالكٍ ... صروفُ اللَّيالي فابغيا ليَ ناعِيا

ولا تترُكاني لا لحينٍ معجَّلٍ ... ولا لبقاءٍ تنظرانِ بقائِيا

خليليَّ لا واللهِ لا أملكُ البكا ... إذا علمٌ من آلِ ليلى بدالِيا

خليليَّ لا واللهِ لا أملكُ الذي ... قضى اللهُ في ليلى ولا ما قضى لِيا

قضاها لغيري وابْتلاني بحبِّها ... فهلاَّ بشيءٍ غيرِ ليلى ابْتلانِيا

خليليَّ إنْ بانوا بليلى فهيّئا ... ليَ النَّعشَ والأكفانَ واستغفرا لِيا

فأشهدُ عندَ اللهِ أنِّي أُحبُّها ... فهذا لها عندي فما عندها لِيا

أمضروبةٌ ليلى على أن أزورُها ... ومتَّخذٌ ذنباً لها أنْ ترانِيا

يميناً إذا كانتْ يميناً وإن تكنْ ... شمالاً ينازعُني الهوى عن شمالِيا

أراني إذا صلَّيتُ وجَّهتُ نحوَها ... بوجهي وإنْ كانَ المصلَّى ورائِيا

وما بيَ إشراكٌ ولكنَّ حبَّها ... مكانَ الشَّجى أعيا الطبيبَ المداوِيا

أُحبُّ من الأسماءِ ما وافقَ اسمها ... وأشبههُ أو كانَ منهُ مُدانِيا

وما ذكرتْ عندي لها من سميَّةٍ ... من النَّاسِ إلاّ بلَّ دمعي ردائِيا

خبر ليلى الأخيلية وتوبة بن الحميِّر

وذكروا أن توبة الحميِّر العامري وهو أحد المشهورين من عشاق العرب، وكان شجاعاً مغواراً، وصاحبته ليلى الأخيلية الشاعرة، وفي توبة تقول:

أقسمتُ أبكي بعدَ توبةَ هالكاً ... وأحفلُ من دارتْ عليهِ الدوائرُ

لعمركَ ما بالموتِ عارٌ على الفتى ... إذا لم تصبهُ في الحياةِ المعايرُ

ودخلت على عبد الملك بعد إسنانها، فقال لها: ما رأى توبة فيك حين عشقك؟ فقالت: ما رآه الناس فيك حين ولوك، فضحك عبد الملك حتَّى بدت له سن سوداء كان يخفيها.

ذكروا أن توبة رحل إلى الشام، فمر ببني عذرة فرأته بثينة، فجعلت تنظر إليه، فشق ذلك على جميل، فقال له: من أنت؟ فقال: أنا توبة بن الحميّر، فقال: هل لك في الصراع؟ فقال: ذلك إليك، فنبذت إليه بثينة ملحفة مورسة، فاتزر بها، ثمَّ صارعه فصرعه جميل، ثمَّ سابقه فسبقه جميل، فقال: يا هذا، إنما تفعل هذا بريح هذه، ولكن اهبط بنا الوادي، فهبطا فصرعه توبة وسبقه.

وكان توبة يرى ليلى متبرقعة، ثمّ إن أخوتها أمروها أن تعلمهم بمجيئه ليقتلوه، فسفرت لتنذره، فلما رآها سافراً علم أن ذلك من حدث، فانحاز، وفي ذلك يقول:

وكنتُ إذا ما جئتُ ليلى تبرقعتْ ... فقدْ رابَني منها الغداةَ سفورُها

والقصيدة التي لتوبة بن الحميّر

نأتكَ بليلى دارُها لا تزورُها ... وشطَّتْ نواها واستمرَّ مريرُها

وخفَّتْ نواها من جنوبِ عُنيزةٍ ... كما خفَّ من نبلِ المرامي جفيرُها

وقالَ رجالٌ لا يضيركَ نأيُها ... بلى كلُّ ما شفَّ النّفوسَ يضيرُها

أليسَ يضيرُ العينَ أن تردَ البُكى ... ويمنعَ منها نومُها وسرورُها

أرى اليومَ يأتي دونَ ليلى كأنَّما ... أتى دونَ ليلى حجَّةٌ وشهورُها

لكلِّ لقاءٍ نلتقيهِ بشاشةٌ ... وإنْ كانَ حولاً كلّ يوم أزورها

خليليَّ روحَا راشدينَ فقد أتتْ ... ضريَّةٌ من دونِ الحبيبِ ونيرُها

خليليَّ ما منْ ساعةٍ تربعانِها ... من الليلِ إلاّ مثلُ أُخرى نسيرُها

وقد تذهبُ الحاجاتُ يطلبُها الفتى ... شعاعاً وتخشى النَّفسُ ما لا يضيرُها

وكنتُ إذا ما زرتُ ليلى تبرقعتْ ... فقد رابَني منها الغداةَ سفورُها

وقد رابَني منها صدودٌ رأيتهُ ... وإعراضُها عن حاجتي وبسورُها

ولو أنَّ ليلى في ذُرى متمنّعٍ ... بنجرانَ لا التفَّتْ عليَّ قصورُها

يقرُّ بعيني أن أرى العيسَ تغتلي ... بنا نحو ليلى وهي تجري ضفورُها

أرتْنا حياضَ الموتِ ليلى وراقَنا ... عيونٌ نقيَّاتُ الحواشي تديرُها

ألا يا صفيَّ النَّفسِ كيفَ تقولُها ... لوَ انَّ طريداً خائفاً يستجيرُها

أظنُّ بها خيراً وأعلمُ أنَّها ... ستنعمُ يوماً أو يُفادى أسيرُها

وقالتْ أراكَ اليومَ أسودَ شاحبا ... وأنَّى بياضُ الوجهِ جرَّتْ حَرورُها

وغيَّرني إنْ كنتِ لمَّا تغيَّري ... هواجرُ لا أكتنُّها وأسيرُها

إذا كانَ يومٌ من سمومٍ أسيرهُ ... وتقصرُ من دونِ السَّمومِ ستورُها

حمامةَ بطنِ الواديينِ ترنَّمي ... سقاكِ من الغرِّ الغوادي مطيرُها

أبيني لنا لا أزالَ ريشكِ ناعماً ... ولا زلتِ في خضراءَ جمٍّ نضيرُها

وقد زعمتْ ليلى بأنِّيَ فاجرٌ ... لنفسي تُقاها أو عليَّ فجورُها

فقلْ لعقيلٍ ما حديثُ عصابةٍ ... تكنَّفها الأعداءُ ناءٍ نصيرُها

فإلاّ تناهَوا تركب الخيلُ بيننا ... وتُركضُ برجلٍ أو جناحٍ يطيرُها

لعلَّك يا تيساً نزَا في مريرةٍ ... معاقبُ ليلى أن تراني أزورُها

وأدماءَ من سرِّ المهارى كأنّها ... مهاةُ صوارٍ غيرَ ما مُسَّ كورُها

من النَّعباتِ المشي نعباً كأنَّما ... يناطُ بجذعٍ من أراكٍ جريرُها

من العركْركيَّاتِ حرفٌ كأنَّها ... مريرةُ ليفٍ شدَّ شزراً مغيرُها

قطعتُ بها أجوازَ كلِّ تنوفةٍ ... مخوفٍ رداها حينَ يستنُّ مورُها

يرى ضعفاءُ القومِ فيها كأنَّهمْ ... دعاميصُ ماءٍ نشَّ عنها غديرُها

وقَسورةُ اللَّيلِ التي بينَ نصفهِ ... وبينَ العشا قد ريبَ منها أسيرُها

أبتْ كثرةُ الأعداءِ أنْ يتجنَّبوا ... كلابي حتَّى يُستثارُ عقورُها

وما يشتكي جهلي ولكنَّ عدَّتي ... تراها بأعدائي بطيئاً طرورُها

أمُخترمي ريبُ المنونِ ولم أزرْ ... عذارى من همدانَ بيضاً نحورُها

ينؤنَ بأعجازٍ ثقالٍ وأسوقٍ ... خدالٍ وأقدامٍ لطافٍ خصورُها

خبر سحيم عبد بني الحسحاس

وحدثوا أن عبد الله بن أبي ربيعة المخزومي كتب إلى عثمان بن عفان رضي الله عنه: أني قد اشتريت لك غلاماً حبشياً شاعراً فانظر هل تريده، فعرض عليه، فقال: إنه عبد بني الحسحاس هو ابن نفاثة بن سعد بن أسد من أسد بن خزيمة بن مدركة، واسم العبد سحيم، فقالوا: نعم هو شاعر يرغب فيه، فقال: لا حاجة لي فيه، لأن الشاعر لا حريم له، حظ العبد الشاعر منه إذا شبع أن يشبب بنسائهم، وإذا جاع أن يهجوهم، ورده.

قالوا: فاشتراه رجل، فلما رحل به أنشأ يقول:

أشوقاً ولمَّا يمضِ في غيرِ ليلةٍ ... فكيفَ إذا سارَ المطيُّ بنا شهرا

وما كنتُ أخشى مالكاً أن يبيعني ... بشيءٍ وإن أضحتْ أناملهُ صفرا

أخوكم ومولى مالكمْ وحليفكم ... ومن قد قوى فيكم وعاشركم دهرا

فلما بلغهم هذا الشعر ردوه وأكرموه وبقي فيهم مدة، حتَّى وجدوه يشبِّب بنسائهم، فأجمعوا قتله، فأخذوه وهو شارب ثمل، فهزئت به امرأة منهم وهو على تلك الحال شماتة به، فقال:

فإنْ تهزئي منِّي فيا ربَّ ليلةٍ ... جعلتكِ فيها كالقباءِ المفرَّجِ

قالوا: ومرَّت التي اتهموه بها، فأهوى لها يده فضربوه، فقال:

فإنْ تقتلوني تقتلوني وقد جرى ... لها عرقٌ فوقَ الفراشِ وماءُ

فشدوا وثاق العبد للقتل، فقال:

شدُّوا وثاقَ العبدِ لا يفلتكمُ ... إنَّ الحياةَ من المماتِ قريبُ

ولقدْ تحدَّرَ من جبينِ فتاتكمْ ... عرقٌ على ظهرِ الفراشِ وطيبُ

فقتل.

قالوا: وقد كان أنشد عمر بن الخطاب رضي الله عنه:

عميرةَ ودِّع إن تجهَّزتَ غاديا ... كفى الشَّيبُ والإسلامُ للمرءِ ناهيا

فقال له عمر: لو قدَّمت الإسلام لأجزتك، فقال: والله ما سعرت. يريد: ما شعرت. وقال له أيضاً: لو كان شعرك كله هكذا لأحسنت جائزتك، فلما بلغ قوله:

وبتنا وسادانا إلى علجانةٍ ... وحقفٍ تهاداهُ الرِّياحُ تهاديا

قال: إنك مقتول، فقتل.

والقصيدة:

عميرةَ ودِّعْ إن تجهَّزتَ غاديا ... كفى الشَّيبُ والإسلامُ ناهيا

جنوناً بها فيما اعتشرْنا علاقةً ... علاقةَ حبٍّ مستسرّاً وباديا

لياليَ تصطادُ القلوبَ بفاحمٍ ... تراهُ أثيثاً ناعمَ النَّبتِ عافيا

وجيدٍ كجيدِ الرِّئم ليسَ بعاطلٍ ... من الدُّرِّ والياقوتِ والشَّذرِ حاليا

كأنّ الثُّريَّا علِّقتْ فوقَ نحرها ... وجمرَ غضًى هبَّت لهُ الرِّيحُ ذاكيا

إذا اندفعتْ في ريطةٍ وخميصةٍ ... ولاثتْ بأعلى الرأسِ برداً يمانيا

تريكَ غداةَ البينِ كفَّاً ومعصماً ... ووجهاً كدينارِ الأعزَّةِ صافيا

وما بيضةٌ باتَ الظَّليمِ يحفُّها ... ويرفعُ عنها جؤجؤاً متجافيا

ويجعلها بينَ الجناحِ ودفِّهِ ... وتفرشها وحفاً من الزَّفِّ وافيا

ويرفعُ عنها وهيَ بيضاءُ طلَّةٌ ... وقد واجهتْ قرناً من الشَّمسِ ضاحيا

بأحسنَ منها يومَ قالتْ أرائحٌ ... مع الرَّكبِ أم ثاوٍ لدينا لياليا

فإن تثوِ لا تملكْ وإنْ تضحِ غاديا ... تزوَّدْ وترحل عن عميرةَ راضيا

ومن يكُ لا يبقى على النأيِ ودُّهُ ... فقد زوَّدت ودَّاً عميرةُ باقيا

ألكني إليها عمركَ الله يا فتى ... بآيةِ ما جاءتْ إلينا تهاديا

تهاديَ سيلٍ في أباطحَ سهلةٍ ... إذا ما علا صمداً تفرَّعَ واديا

وبتنا وسادانا إلى علجانةٍ ... وحقفٍ تهاداهُ الرِّياحُ تهاديا

توسِّدني كفَّا وتثني بمعصمٍ ... عليَّ وتحنو رجلها من ورائيا

ففاءتْ ولم تقضِ الذي أقبلتْ لهُ ... ومن حاجةِ الإنسانِ ما ليس قاضيا

فما زالَ بردي طيِّبا من ثيابها ... إلى الحولِ حتَّى أنهجَ البردُ باليا

أقلِّبها للجانبينِ وأتَّقي ... بها الرِّيحَ والشَّفَّان من عن شماليا

وهبَّتْ لنا ريحُ الشَّمالِ بقرَّةٍ ... ولا ثوبَ إلاّ ردعها وردائيا

سقتني على لوحٍ من الماءِ شربةً ... سقاها بها الله الذِّهابَ الغواديا

ألا أيُّها الوادي الذي ضمَّ سيلهُ ... إلينا نوى الحسناءِ حيِّيتَ واديا

فيا ليتنا والعامريَّةَ نلتقي ... نرودُ لأهلينا الرِّياضَ الخواليا

وما برحتْ بالدَّيرِ منها أثارةٌ ... وبالجوِّ حتَّى دمَّنتهُ لياليا

فإنْ تقبلي بالودِّ أقبل بمثلهِ ... وإن تدبري أذهبْ إلى حالِ باليا

ألم تعلمي أنِّي قليلٌ لبانتي ... إذا لم يكنْ شيءٌ لشيءٍ مواقيا

وما جئتها أبغي الشِّفاءَ بنظرةٍ ... فأبصرتها إلاّ رجعتُ بدائيا

ولا طلعَ النَّجمُ الذي يهتدى به ... ولا الصُّبحُ حتَّى هيَّجا ذكرَ ماليا

إلاّ لسافي الرَّائحاتِ عشيةً ... إلى الحشرِ أستنجي الحسانَ الغوانيا

أخذنَ على المقراةِ أو عن يمينها ... إذا قلتُ قد ورَّعنَ أنزلنَ حاديا

أشوقاً ولمَّا يمضِ في غيرِ ليلةٍ ... رويدَ الهوى حتَّى يغبَّ لياليا

وما جئنَ حتَّى حلَّ من شاءَ وابتنى ... وقلنَ سرفناكمْ وكنَّ هواديا

وأقبلن من أقصى البيوتِ يعدنني ... ألا إنَّما بعضُ العوائدِ دائيا

تجمَّعنَ من شتَّى ثلاثاً وأربعاً ... وواحدةَ حتَّى كملنَ ثمانيا

وقلنَ ألا يا العبنَ ما لم يرنْ بنا ... نعاسٌ فإنَّا قد أطلنا التَّنائيا

لعبنَ بدكداكٍ خصيبٍ جنابهُ ... وألقينَ عن أعطافهنَّ المراديا

وقلنَ لمثلِ الرِّيمِ أنتِ أحقُّنا ... بنزعِ الخمارِ إذ أردنَ التَّجاليا

فقامتْ وألقتْ بالخمارِ مدلَّةً ... تفادي القصارُ السُّودُ منها تفاديا

تأطَّرنَ حتَّى قلتُ لسنَ بوارحاً ... وخفَّضنَ جأشي ثمَّ أصبحَ ثاويا

وما رمنَ حتَّى أرسلَ الحيُّ داعياً ... وحتى بدا الصُّبحُ الذي كان تاليا

وحتى استبانَ الفجرُ أبيضَ ساطعاً ... كأنَّ على أعلاهُ ريطاً شآميا

فأدبرنَ يخفضنَ الشُّخوصَ كأنَّما ... قتلنَ قتيلاً أو أتينَ دواهيا

وأصبحنَ صرعى في البيوتِ كأنَّما ... شربنَ مداما لا يجبنَ المناديا

ألا نادِ في آثارهنَّ الغوانيا ... سقينَ سماماً ما لهنَّ وما ليا

وراهنَّ ربِّي مثلَ ما قد ورَينني ... وأحمى على أكبادهنَّ المكاويا

وقائلةٍ والدَّمعُ يحدرُ كحلها ... أهذا الذي وجداً يبكِّي الغوانيا

أشارتْ بمدراها وقالت لتربها ... أعبد بني الحسحاسِ يزجي القوافيا

رأتْ قتباً رثَّاً وسحقَ عباءةٍ ... وأسودَ مما يملكُ النَّاسُ عانيا

يرجِّلنَ أقواماً ويتركنَ لمَّتي ... وذاكَ هوانٌ ظاهرٌ قد بدا ليا

فلو كنتُ ورداً لونهُ لعشقنني ... ولكنَّ ربّي شانني بسواديا

وما ضرَّني إن كانتْ أمِّي وليدةً ... تصرُّ وتبري للِّقاحِ التَّواديا

ذهبنَ بمسواكي وألقينَ مذهباً ... من الصَّوغِ في صغرى بنانِ شماليا

فعزَّيتُ نفسي واجتنبتُ غوايتي ... وقرَّبتُ حرْجوجاً من العيسِ ناجيا

مروحاً إذا صام النهارُ كأنَّما ... كسوتُ قتودي ناصعَ اللَّونِ طاويا

شبوباً تحاماهُ الكلابُ تحامياً ... هو اللَّيثُ معدوّاً عليه وعاديا

حمتهُ العشاءَ ليلةٌ ذاتُ قرَّةٍ ... بوعساءَ رملٍ أو بعرنانَ خاليا

يثيرُ ويبدي عن عروقٍ كأنَّها ... إعنَّةُ خرَّازٍ جديدا وباليا

ينحِّي ترابا عن مبيتٍ ومكنسٍ ... ركاماً كبيتِ الصَّيدناني دانيا

فصبَّحهُ الرَّامي من الغوثِ غدوةً ... بأكلبهِ يغري الكلابَ الضَّواريا

فجالَ على وحشيِّهِ وتخالهُ ... على متنهِ سبَّاً جديدا يمانيا

يذودُ ذيادَ الخامساتِ وقد بدتْ ... سوابقها من الكلابِ غواشيا

فدعْ ذا ولكن هل ترى ضوءَ بارقٍ ... يضيءُ حبيَّاً منجداً متعاليا

يضيءُ سناهُ الهضبَ هضبَ متالعٍ ... وحبَّ بذاكَ البرقِ لو كان دانيا

نعمتُ بهِ بالا وأيقنتُ أنَّهُ ... يحطُّ الوعولَ والصُّخورَ الرَّواسيا

فما حرَّكتهُ الرِّيحُ حتَّى حسبتهُ ... بحرَّةِ ليلى أو بنخلةَ ثاويا

فمرَّ على الأنهاءِ فالتجَّ مزنهُ ... فعقَّ طويلاً يسكبُ الماءَ ساجيا

ركاما يسحُّ الماءَ عن كلِّ فيقةٍ ... كما سقتَ منكوبَ الدَّوابرِ حافيا

فمرَّ على الأجبالِ أجبال طيِّءٍ ... فغادرَ بالقعيانِ رنقاً وصافيا

أجشَّ هزيماً سيلهُ متدافعٌ ... ترى خشبَ الغلاَّنِ فيه طوافيا

له فرَّقٌ يُنتَّجنَ حولهُ ... يُفقِّئنَ بالميثِ الدِّماثِ السَّوابيا

فلما تدلَّى للجبالِ وأهلها ... وأهلِ الفراتِ قاطعَ البحرَ ماضيا

شكا شجوهُ واغتاظَ حتَّى حسبته ... من البعدِ لمَّا جلجلَ الرَّعدُ حاديا

فأصبحتِ الثِّيرانُ غرقى وأصبحت ... نساءُ تميمٍ يلتقطنَ الصَّياصيا

غزلية جران العود النميري

قالوا: ومن الغزليات المختارة المقدمة قصيدة جران العود النميري، وإنما لقب بجران العود لقوله لامرأتيه:

خذا حذرا يا جارتيَّ فإنَّني ... رأيتُ جرانَ العودِ قد كادَ يصلحُ

يعني سوطاً قده من جران جمل مسن، وكان جران العود غزلا وصافا، يصف ويفرط في نسيبه، ومما كذب فيه قوله:

فأصبحَ من حيثُ التقينا غنيمةً ... سوارٌ وخلخالٌ ومرطٌ ومُطرفُ

ومنقطعاتٌ من عقودٍ تركنها ... كجمرِ الغضا في بعضِ ما يُتخطرفُ

والقصيدة

ذكرتُ الصِّبا فانهلَّتْ العينُ تذرفُ ... وراجعكَ الشَّوقُ الذي كنتَ تعرفُ

وكانَ فؤادي قد صحا ثمَّ حاجهُ ... حمائمُ ورقٌ بالمدينةِ هتَّفُ

كأنَّ الهديلَ الظالعَ الرِّجلِ وسطَها ... من البغي شرِّيبٌ يغرِّدُ منزفُ

يذكِّرننا أيامنا بسويقةٍ ... وهضبيْ قساسٍ والتَّذكُّرُ يشعفُ

وبيضاً يُصلصلنَ الحجولَ كأنَّها ... ربائبُ أبكارِ المها المتألِّفُ

فبتُّ كأنَّ العينَ أفنانُ سدْرةٍ ... عليها سقيطٌ من ندى اللَّيلِ ينطفُ

أراقبُ لمحاً من سهيلٍ كأنَّهُ ... إذا ما بدا من آخرِ اللَّيلِ يطرفُ

بدا لجرانِ العودِ والبحرُ دونهُ ... وذو حدبٍ من سروِ حميرَ مشرفُ

ولا مثلَ وجدٍ إلاّ مثلَ يومٍ تلاحقتْ ... بنا العيسُ والحادي يشلُّ ويعنفُ

لحقنَ وقد كانَ اللُّغامُ كأنَّهُ ... بأيدي المهارى والخراطيمِ كرسفُ

وما لحقتنا العيسُ حتَّى تناسلتْ ... بنا وتلانا الأخرُ المتخلِّفُ

وكانَ الهجانُ الأرحبيُّ كأنهُ ... براكبهِ جونٌ من الجهدِ أكلفُ

وفي الحيِّ ميلاءُ الخمارِ كأنَّها ... مهاةٌ بهجلٍ من أديمَ تعطَّفُ

شموسُ الصِّبا والأنسِ محطوطةُ الحشا ... قتولُ الهوى لو كانتِ الدَّارُ تسعفُ

كأنَّ ثناياها العذابَ وريقها ... ونشوةَ فيها خالطتْهنَّ قرْقفُ

تهيمُ جليدَ القومِ حتَّى كأنّهُ ... دوٍ يئستْ منهُ العوايلُ مدنفُ

وليستْ بأدنى من صبيرٍ غمامةٌ ... بنجدٍ عليها لامعٌ يتكشَّفُ

يشبِّهها الرَّائي المشبِّهُ بيضةً ... غدا في النَّدى عنها الظَّليمُ الهِجنَّفُ

بوعساءَ من ذاتِ السلاسلِ يلتقي ... عليها من العلقى نباتٌ مؤنَّفُ

وقالت لنا والعيسُ صغرٌ من البرى ... وأخفافها بالجندلِ الصُّمِّ تقذفُ

وهنَّ جنوحٌ مصغياتٍ كأنَّما ... براهنَّ من جذبِ الأزمَّةِ علَّفُ

حُمدتَ لنا حتَّى تمنَّاكَ بعضنا ... وأنتَ امرؤٌ يعروكَ حمدٌ وتُعرفُ

رفيعُ العلا في كلِّ شرقٍ ومغربٍ ... وقولكَ ذاكَ الآبدُ المتلقَّفُ

وفيكَ إذا لاقيتنا عجرفيَّةٌ ... مراراً ولا تسْتيعُ من يتعجرفُ

تميلُ بكَ الدنيا ويغلبكَ الهوى ... كما مالَ خوَّارُ النَّقا المتقصِّفُِ

ونُلقى كأنَّا مغنمٌ قد حويتهُ ... وترغبُ عن جزلِ العطاءِ فتُسرفُ

فموعدكَ الشَّطُّ الذي بينَ أهلنا ... وأهلك حتَّى تسمع الديك يهتف

وتكفيكَ آثاراً لنا حيثُ نلتقي ... ذيولٌ نُعفِّيها بهنَّ ومطرفُ

ومسحبُ ريطٍ فوقَ ذاكَ ويُمنةٍ ... يسوقُ الحصا منها حواشٍ ورفرفُ

فنصبحُ لم يُشعرْ بنا غيرَ أنَّهم ... على كلِّ ظنٍّ يحلفونَ ونحلفُ

وقالت لهم أمُّ التي أدلجتْ بنا ... لهنَّ على الإدلاجِ آنى وأضعفُ

ولو شهدتْنا أمُّنا ليلةَ النَّقا ... وليلةَ رمحٍ أرجفتْ حين نرجفُ

فلمَّا علانا اللَّيلُ أقبلتُ خفيةً ... لموعدها أعلو الأكامَ وأخلفُ

فجئتُ من الشِّقِّ الذي لم يخفنهُ ... وجانبيَ الأقصى من الخوفِ أجنفُ

وأقبلنَ يمشينَ الهُوينا تهادياً ... قصارَ الخطا منهنَّ رابٍ ومُزحفُ

فلمَّا التقينا قلنَ أمسى مسلَّطاً ... فلا يسرفنْ ذا الزائرُ المتلطِّفُ

وقلنَ تمتَّعْ ليلةَ الله هذه ... فإنَّك مرجومٌ غدا أو مسيَّفُ

وأحرزنَ منِّي كلُّ حجزةِ مئزرٍ ... لهنَّ وطاحَ النَّوفليُّ المزخرفُ

فبتنا قعوداً والقلوبُ كأنَّها ... قطا شُرَّع الأشراكِ مما تخوَّفُ

علينا النَّدى طوراً وطوراً يرشُّنا ... رذاذٌ سرى من آخرِ اللَّيلِ أوطفُ

وبتنا كأنَّا بيَّتتْنا لطيمةٌ ... من المسكِ أو خوَّارةُ الرِّيحِ قرقفُ

يُنازعننا لذَّاً رخيما كأنَّهُ ... عوائرُ من قطرٍ حداهنَّ صيِّفُ

رقيقُ النَّواحي لو تسمَّعَ راهبٌ ... ببُطنانَ قولاً مثلهُ ظلَّ يرجفُ

حديثاً لو أنَّ البقلَ يولى بمثلهِ ... ربا البقلُ واخضرَّ العضاهُ المنصِّفُ

هو الخلدُ في الدنيا لمنْ يستطيعهُ ... وقتلٌ لأصحابِ الصَّبابةِ مذعفُ

ولمَّا رأينَ الصُّبحَ بادرنَ ضوءهُ ... رسيمَ قطا البطحاءِ أو هنَّ أقطفُ

فأدركنَ أعجازاً من اللَّيلِ بعدما ... أقامَ الصَّلاةِ العابدُ المتحرِّفُ

وما ابنَ حتَّى قلنَ يا ليتَ أنَّنا ... ترابٌ وليتَ الأرضَ بالناسِ تخسفُ

فإن ننجُ من هذي ولم يشعروا بنا ... فقد كانَ بعضُ الخيرِ يدنو فيُصرفُ

فأصبحْنَ صرعى في الحجالِ وبيننا ... رماحُ العدا والجانبُ المتخوَّفُ

يبلِّغهنَّ الحاجَ كلُّ مكاتبٍ ... طويلُ العصا أو مُقعدٌ يتزحَّفُ

ومكنونةٌ رمداءُ لا يَحدرونها ... مكاتبةٌ ترمي الكلابَ وتحذفُ

رأتْ ورقاً بيضاً فشدَّتْ حزيمها ... لها فهي أمضى من سُليكٍ وألطفُ

ولن يستهيمَ الخُرَّدَ البيضَ كالدُّمى ... هدانٌ وهلْباجةُ الليلِ مقرفُ

ولا جَبلٌ ترعيَّةٌ أحبنُ النَّسا ... أغمُّ القفا ضخمُ الهِراوةِ أغضفُ

حليفٌ لوَطبيْ علبةٍ بقريَّةٍ ... عظيمُ سوادِ الشَّخصِ والعودُ أجوفُ

ولكن رفيقٌ بالصِّبا متبطرقٌ ... خفيفٌ ذفيفٌ سابغُ الذَّيلِ أهيفُ

فتى الحيِّ والأضيافِ إن نزلوا به ... حذورُ الضُّحى تِلْعابةٌ متغطرفُ

يرى الليلَ في حاجاتهنَّ غنيمةً ... إذا نامَ عنهنَّ الهِدانُ المزيَّفُ

يلمُّ كإلمامِ القُطاميِّ بالقطا ... وأسرعُ منه خطفةً حينَ يخطفُ

وأصبحَ في حيثُ التقينا غُديَّةً ... سوارٌ وخلخالٌ وبردٌ مفوَّفُ

ومنقطعاتٌ من عقودٍ تركنها ... كجمرِ الغضا في بعض ما يُتخطرفُ

وأصبحتُ غرِّيدَ الضُّحى قد ومقْنني ... بشوقٍ ولمَّاتُ المحبِّينَ تشعفُ

خبر الكميت بن زيد ونُصيب القرشي

وحدثوا أن الكميت بن زيد أنشد نصيباً القرشي يوماً وهو يستمع له، حتَّى أنشده:

وقد رأينا بها حوراً منعَّمةً ... بيضا تكامل فيها الدَّلُّ والشَّنبُ

فثنى نصيب خنصره، فقال له الكميت: ما تصنع؟ فقال: أحصي عليك خطأك، أما ترى كيف تباعدت في قولك: تكامل فيها الدل والشنب، هلا قلت كما قال ذو الرمة:

لمياءُ في شفتيها حوَّةٌ لَعسٌ ... وفي اللِّثاثِ وفي أنيابها شنبُ

ثمَّ أنشد في قصيدة أخرى:

كأنَّ الغطامطُ من جريها ... أراجيزُ أسلمَ تهجو غفارا

فقال نصيب: ما هجت أسلم غفارا قط، فاستحيا الكميت وسكت.

قصيدة ذي الرمة

وهو غيلان بن عقبة بن بهيش

ما بالُ عينك منها الماءُ ينسكبُ ... كأنَّهُ من كُلىً مفريَّةٍ سربُ

وفراءَ غرفيَّةٍ أثأى خوارزها ... مشلشلٌ ضيَّعتهُ بينها الكتبُ

أستحدث الركبُ عن أشياعهم خبراً ... أم راجعَ القلبَ من أطرابهِ طربُ

من دمنةٍ نسفتْ عنها الصَّبا سعفا ... كما تنشَّرُ بعد الطَّيَّةِ الكتبُ

سيلاً من الدِّعصِ أغشتهُ معارفها ... نكباءَ تسحبُ أعلاهُ فينسحبُ

لا بل هو الشَّوقُ من دارٍ تخوَّنها ... مرَّا سحابٌ ومرَّا بارحٍ تربُ

يبدو لعينيكَ منها وهي مزمنةٌ ... نُؤُيٌ ومستوقدٌ بالٍ ومحتطبُ

إلى لوائحَ من أطلالِ أحويةٍ ... كأنَّها خللٌ موشيَّةٌ قشبُ

بجانب الزُّرقِ لم يطمسْ معالمها ... دوارجُ المورِ والأمطارِ والحقبُ

ديارُ ميَّةَ إذ ميٌّ تساعفنا ... ولا يرى مثلها عجمٌ ولا عربُ

برَّاقةُ الجيدِ واللَّباتِ واضحةٌ ... كأنَّها ظبيةٌ أفضى بها لببُ

بينَ النهارِ وبينَ الليلِ من عقدٍ ... على جوانبهِ الأسباطُ والهدبُ

عجزاءُ ممكورةٌ خمْصانةٌ قلقٌ ... عنها الوشاحُ وتمَّ الحسنُ والقصبُ

زينُ الثيابِ وإن أثوابها استُلبتْ ... فوقَ الحشيةِ يوماً زانها السَّلبُ

تريكَ سنَّةَ وجهٍ غيرَ مقرفةٍ ... ملساءَ ليس بها خالٌ ولا ندبُ

إذا أخو لذَّةِ الدنيا تبطَّنها ... والبيتُ فوقهما باللَّيلِ محتجبُ

سافتْ بطيِّبةِ العرنينِ مارنُها ... بالمسلكِ والعنبر الهنديِّ مختضبُ

تزدادُ للعينِ إبهاجا إذا سفرتْ ... وتحرجُ العينُ فيها حينَ تنتقبُ

لمياءُ في شفتيْها حوَّةٌ لعسٌ ... وفي اللِّثاثِ وفي أنيابها شنبُ

كحلاءُ في برجٍ صفراءُ في نعجٍ ... كأنَّها فضَّةٌ قد مسَّها ذهبُ

والقرطُ في حرَّةِ الذِّفْرى معلَّقةٌ ... تباعدَ الحبلُ منه فهو يضطربُ

تلك الفتاة التي علِّقتها عرضا ... إنَّ الكريمَ وذا الإسلامِ يختلبُ

لياليَ اللَّهوُ يطبيني فأتبعهُ ... كأنَّني ضاربٌ في غمرةٍ لعبُ

لا أحسبُ الدَّهرَ يبلي جدَّةً أبداً ... ولا تقسِّمُ شعباً واحداً شُعبُ

زارَ الخيالُ لميٍّ هاجعا لعبتْ ... به التَّنائفُ والمُهريَّةُ النُّجبُ

معرِّساً في بياض الصُّبحِ وقعتهُ ... وسائرُ السَّيرِ إلاّ ذاكَ منجذبُ

أخا تنائفَ أغفى عندَ ساهمةٍ ... بأخلقِ الدَّفِّ من تصديرها جلبُ

تشكو الخشاشَ ومجرى النِّسعتينِ كما ... أنَّ المريضُ عوَّادهِ الوصبُ

كأنَّها جملٌ وهمٌ وما بقيتْ ... إلاّ النَّحيزةُ والألواحُ والعصبُ

لا تشتكي سقطةً منها وقد رقصتْ ... بها المفاوزُ حتَّى ظهرُها حدِبُ

تخدي بمُنخرقِ السِّربالِ منصلتٍ ... مثلِ الحسامِ إذا أصحابهُ شحبوا

والعيسُ من عاسجٍ أو واسجٍ خببا ... يُنحزنَ من جانبيها وهيَ تنسلبُ

تصغي إذا شدَّها بالكورِ جانحةً ... حتَّى إذا استوى في غرزها تثبُ

وثبَ المسحَّجِ من عاناتِ معلُقةٍ ... كأنَّهُ مستبانُ الشَّكِّ أو جنبُ

يحدو نحائصَ أشباهاً محملجةً ... ورْقَ السَّراويلِ في ألوانها خطبُ

لهُ عليهنَّ بالخلصاءِ مربعةٌ ... فالفودجاتِ فجنبيْ واحفٍ صخبُ

حتَّى إذا معمعانُ الصَّيفِ هبَّ له ... بأجَّةٍ نشَّ الماءُ والرُّطبُ

وصوَّحَ البقلَ نأَّاجٌ تجيء به ... هيفٌ يمانيةٌ في مرِّها نكبُ

وأدركَ المتبقَّى من ثميلتهِ ... ومن ثمائلها واستنشيء الغربُ

تنصَّبتْ حولهُ يوماً تراقبهُ ... صحرٌ سماحيجُ في أحشائها قببُ

حتَّى إذا اصفرَّ قرنُ الشَّمسِ أو كربت ... أمسى وقد جدَّ في حوبائه القربُ

فراحَ منصلتاً يحدو حلائلهُ ... أدنى تقاذفهِ التَّقريبُ والخببُ

يعلو الحزونَ بها طوراً ليتعبها ... شبهَ الضَّرارِ فما يزري به التَّعبُ

كأنَّهُ كلَّما ارفضَّتْ حزيقتها ... بالصُّلبِ من نهسه أكفالها كلبُ

كأنها إبلٌ ينجو بها نفرٌ ... من آخرينَ أغاروا غارةً جلبُ

والهمُّ عينُ أُثالٍ ما ينازعهُ ... من نفسهِ لسواها مورداً أربُ

فغلَّستْ وعمودُ الصبح منصدعٌ ... عنها وسائرهُ بالليلِ محتجبُ

عيناً مطحلبةَ الأرجاءِ طاميةً ... فيها الضَّفادعُ والحيتانُ تصطخبُ

يستهلُّها جدولٌ كالسَّيفِ منصلتٌ ... بين الأشاءِ تسامى حولهُ العسبُ

وبالشمائلِ من جلاَّنَ مُقتنصٌ ... رذلُ الثِّيابِ خفيُّ الشخصِ منزربُ

معدُّ زرقٍ هدتْ قضباً مصدَّرةً ... ملسَ المتونِ حداها الريشُ والعقبُ

كانتْ إذا وذقتْ أمثالهنّ له ... فبعضهنَّ عن الألاَّفِ مشتعبُ

حتَّى إذا الوحشُ في أهضامِ موردها ... تغيَّبتْ رابها من خيفةٍ ريبُ

فعرَّضتْ طلقا أعناقها فرقاً ... ثمَّ اطَّباها خريرُ الماء ينسكبُ

فأقبلَ الحقبُ والأكبادُ ناشزةً ... فوقَ الشَّراسيفِ من أحشائها تجبُ

حتَّى إذا أزلَجتْ عن كل حُنجرةٍ ... إلى الغليلِ ولم يقصعْنهُ نُغبُ

رمى فأخطأ والأقدارُ غالبةٌ ... فانصعنَ والويلُ هجِّيراهُ والحربُ

يقعنَ بالسَّفحِ مما قد رأينَ به ... وقعاً يكادُ حصى المعزاءِ يلتهبُ

كأنَّهنَّ خوافي أجدلٍ قرمٍ ... ولَّى ليسبقهُ بالأمعزِ الخربُ

أذاكَ أم نمشٌ بالوشي أكرعهُ ... مسفَّعُ الخدِّ غادٍ ناشطٍ شببُ

تقيَّظَ الرَّملَ حتَّى هزَّ خِلفتهُ ... تروُّحُ البرد ما في عيشهِ رتبُ

ربلاً وأرطى نفتْ عنهُ ذوائبهُ ... كواكبَ الحرِّ حتَّى ماتتِ الشُّهبُ

أمسى بوهبينِ مجتازاً لمرتعه ... من ذي الفوارسِ تدعو أنفهُ الرِّببُ

حتَّى إذا جعلتْهُ بينَ أظهُرها ... من عجمةِ الرَّملِ أثباجٌ لها حببُ

ضمَّ الظلامُ على الوحشيِّ شملتهُ ... ورائحٌ من نشاصِ الدَّلوِ منسكبُ

فباتَ ضيفاً إلى أرطاةِ مرتَكمٍ ... من الكثيبِ لها دفءٌ ومحتجبُ

ميلاءَ من معدنِ الصِّيرانِ قاصية ... أبعارهنَّ على أهدافها كثبُ

وحائلٌ من سفير الحولِ جائلهُ ... حولَ الجراثيمِ في ألوانهِ شهبُ

كأنَّما نفضَ الأحمال داويةً ... على جوانبهِ الفرْصادُ والعنبُ

كأنَّهُ بيت عطَّارٍ يُضمِّنهُ ... لطائمَ المسكِ يحويها وتنتهبُ

إذا استهلَّتْ عليه غبْيةٌ أرجتْ ... مرابضَ العينِ حتَّى يأرجَ الخشبُ

تجلو البوارقُ من مجرَنمزٍ لهقٍ ... كأنَّهُ متقبِّي يلمقٍ عزبُ

والودقُ يستنُّ عن أعلى طريقته ... جولَ الجمانِ جرى في سلكهِ الثُّقبُ

يغشى الكناسَ بروْقيْهِ ويهدمهُ ... من هائلِ الرَّملِ منقاضٌ ومنكثبُ

إذا أرادَ انكراساً فيه عنَّ له ... دون الأُرومةِ من أطنابها طنبُ

وقد توجَّسَ ركزاً مقفرٌ ندسٌ ... بنبأةِ الصوتِ ما في سمعه كذبُ

فباتَ يُشئزهُ ثأدٌ ويُسهرهُ ... تذؤبُ الرِّيحِ والوسواسُ والهضبُ

حتَّى إذا ما انجلى عن وجهه فلقٌ ... هاديهِ في أخرياتِ اللَّيلِ منتصبُ

أغباشَ ليلٍ تمامٍ كان طارقهُ ... تطخطخُ الغيمِ حتَّى مالهُ جوبُ

غدا كأنَّ به جِنَّاً تذأبهُ ... من كلِّ أقطارهِ يخشى ويرتقبُ

حتَّى إذا ما لها في الجدرِ واتَّخذت ... شمسُ النَّهارِ شعاعا بينهُ طِببُ

ولاحَ أزهرُ مشهورٌ بنقبته ... كأنه حين يعلو عاقراً لهبُ

هاجتْ له جوَّعٌ زرقٌ مخضرَّةٌ ... شوازبٌ لاحها التَّغريثُ والجنبُ

غضفٌ مُهرَّتهُ الأشداقِ ضاريةٌ ... مثلُ السَّراحينِ في أعناقها العذبُ

ومطعمُ الصَّيدِ هبَّالٌ لبغيته ... ألفى أباهُ بذاك الكسبِ يكتسبُ

مقزَّعٌ أطلسُ الأطمارِ ليس لهُ ... إلاّ الضِّراء وإلا صيدها نشبُ

فانصاعَ جانبهُ الوحشيَّ وانكدرتْ ... يلحبنَ لا يأتلي المطلوبُ والطَّلبُ

حتَّى إذا دوَّمتْ في الأرضُ راجعهُ ... كبرٌ ولو شاءَ نجَّى نفسهُ الهربُ

خزايةً أدركتهُ بعد جولتهِ ... من جانبِ الحبلِ مخلوطاً بها غضبُ

فكفَّ من غربهِ والغضفُ يسمعها ... خلفَ السَّبيبِ من الإجهادِ تنتحبُ

بلَّتْ به غيرَ طياشٍ ولا رعشٍ ... إذ جلنَ في معركٍ يُخشى به العطبُ

فكرَّ يمشقُ طعناً في جواشنها ... كأنه الأجرَ في الأقبالِ يحتسبُ

فتارةً يخضُ الأعناقَ عن عرضٍ ... وخضاً وتُتنظمُ الأسحارُ والحببُ

يُنحي لها حدَّ مدريٍّ يجوفُ به ... حالاً ويصردُ حالاً لهْذمٌ سلبُ

حتَّى إذا كنَّ محجوزاً بنافذةٍ ... وزاهقاً وكلا روقيهِ مختضبُ

ولَّى يهزُّ انهزاماً وسطها زعلاً ... جذلانَ قد أفرختْ عن روعهِ الكربُ

كأنه كوكبٌ في إثرِ عفريةٍ ... مسوَّمٌ في سوادِ الليل منقضبُ

وهنَّ من واطيء يثني حويَّته ... وناشجٍ وعواصي الجوفِ تنشخبُ

أذاكَ أم خاضبٌ بالسيِّ مرتعهُ ... أبو ثلاثينَ أمسى وهو منقلبُ

شختُ الجُزازةِ مثلُ البيتِ سائره ... من المسوح خدبٌّ شوْقبٌ خشبُ

كأنَّ رجليهِ مسماكانِ من عشرٍ ... صقبانِ لم يتقشَّرْ عنهما النَّجبُ

ألهاهُ آءٌ وتنُّومٌ وعقبتهُ ... من لائحِ المروِ والمرعى له عقبُ

فظلَّ مختضعاً يبدو فتنكرْهُ ... حالا ويسطعُ أحيانا فينتسبُ

كأنه حبشيُّ يبتغي أثراً ... أو من معاشرَ في آذانها الخُربُ

هجنَّعٌ راحَ في سوداءَ مُخملةٍ ... من القطائفِ أعلى ثوبهِ الهدبُ

أو مقحمٌ أضعفَ الأبطانِ حادجهُ ... بالأمسِ فاستأخرَ العدلانِ والقتبُ

أضلَّهُ راعيا كلبيَّةٍ صدرا ... من مُطلبٍ وطلى الأعناقِ تضطربُ

فأصبحَ البكرُ فرداً من صواحبه ... مرتادَ أحليةٍ أعجازها شذبُ

عليه زادٌ وأهدامٌ وأخفيةٌ ... قد كاد يجتزُّها عن ظهرهِ الحقبُ

كلٌّ من المنظر الأعلى له شبهٌ ... هذا وهذان قدُّ الجسمِ والنُّقبُ

حتَّى إذا الهيقُ أمسى شامَ أفرخهُ ... وهنَّ لا مؤيسٌ نأيا ولا كثبُ

يرقدُّ في ظلِّ عرَّاصٍ ويطردهُ ... حفيفُ نافجةٍ عثْنونها حصبُ

تبري له صلعةٌ خرُجاءُ خاضعةٌ ... فالخرقُ دونَ بناتِ البيضِ منتهبُ

كأنَّها دلو بئرٍ جدَّ ماتحها ... حتَّى إذا ما رآها خانها الكربُ

ويلمَّها روحةً والريحُ معصفةٌ ... والغيثُ مرتجزٌ والليلُ مقتربُ

لا يذخرانِ من الإيغالِ باقيةً ... حتَّى تكادُ تفرَّى عنهما الأهبُ

فكلما هبطا من شأوٍ شوطهما ... من الأماكنِ مفعولٌ به العجبُ

لا يأمنانِ سباعَ الأرضِ أو بردا ... إن أظلما دون أطفالِ لها لجبُ

جاءت من البيضِ زعراً لا لباسَ لها ... إلاّ الدَّهاسُ وأمٌّ برَّةٌ وأبُ

فكأنَّما فلقتْ عنها ببلقعةٍ ... جماجمٌ يبَّسٌ أو حنُظلٌ خربُ

مما تقيِّضَ عن عوجٍ معطَّفةٍ ... كأنَّها شاملٌ أبشارها جربُ

أشداقها كصدوعِ النَّبعِ في قللٍ ... مثل الدَّحاريج لم ينبتْ بها الزَّغبُ

كأنَّ أعناقها كرَّاثُ سائفةٍ ... طارتْ لفائفهُ أو هيشرٌ سلبُ

خبر الفرزدق والغلام الأنصاري

وحدثوا عن إبراهيم بن محمد بن سعد بن أبي وقاص، أنه قال: قدم الفرزدق بن غالب بن صعصعة المدينة، قال: فإني والفرزدق وكثيِّر عزة لجلوس في المسجد نتناشد الأشعار وتذكر أيام العرب، إذ طلع غلام شخت آدم في ثوبين ممصرين، ثمَّ قصد نحونا حتَّى انتهى إلينا، فلم يسلم وقال: أيكم الفرزدق؟ قال إبراهيم: فقلت له مخافة أن يكون من قريش، وهكذا تقول لسيد العرب وشاعرها، قال: لو كان كذلك لم أقل له هذا، قال له الفرزدق: من أنت لا أم لك؟ قال: رجل من الأنصار، ثمَّ من بني النجار، ثمَّ أنا ابن أبي بكر بن حزم. قال: أنا الفرزدق فما حاجتك لا أم لك؟ قال: بلغني أنك تزعم أنك أشعر العرب، وتزعمه مضر، وقد قال صاحبنا حسان بن ثابت شعراً فأردت أن أعرضه عليك، وأؤجلك فيه سنة، فإن قلت مثله فأنت أشعر العرب، وإلا فأنت كذاب متنحل. قال الفرزدق: هات ويلك، فأنشده قول حسان:

ألمْ تسألِ الرَّبعَ الجديدَ التكلُّما ... بمدفع أشداخِ فبرقةَ أظلما

لنا الجفناتُ الغرُّ يلمعنَ بالضُّحى ... وأسيافنا يقطرْنَ من نجدةٍ دما

متى ما تزنَّا من معدِّ بعصبةٍ ... وغسَّانَ نمنعْ حوضنا أن يهدَّما

أبى فعلنا المعروفَ أن ننطقَ الخنا ... وقائلنا بالعرفِ إلاّ تكرُّما

ولدنا بني العنقاءِ وابنيْ محرَّقٍ ... فأكرمْ بنا خالاً وأكرمْ بذا ابنما

حتَّى أتى على آخر القصيدة، وقال: إني أجلتك فيها حولاً، ثمَّ انصرف، وقام الفرزدق مغضباً يسحب رداءه لا يدري أين طرفه، حتَّى خرج من المسجد، وأقبل على كثير عزة فقال: قاتل الله الأنصاري، ما أفصح لهجته وأوضح حجته. قال: فلم نزل في حديثهما بقية يومنا، حتَّى إذا كان الغد خرجت من منزلي إلى المسجد، فجلست في المجلس الذي كنت فيه بالأمس، وأتاني كثير فجلس معي فإنا لنتذاكر الفرزدق ونقول: ليت شعري ما فعل الفرزدق، إذ طلع علينا في حلة أفواف، له غديرتان حتَّى جلس في مجلسه بالأمس، ثمَّ قال: ما فعل الأنصاري؟ فنلنا منه وشتمناه، فقال: قاتله الله، ما رميت بمثله، ولا سمعت بمثل شعره قط، فارقتكما فأتيت منزلي، وأقبلت أصعد وأصوب في كل فن من الشعر، فكأني مفحم لم أقل شعراً قط، حتَّى إذا نادى المؤذن بالفجر، رحلت ناقتي، ثمَّ أخذت بزمامها فقدتها حتَّى أتيت ذباباً، ثمَّ ناديت بأعلى صوتي: أجيبوا أخاكم أبا لبينى، فجاش صدري كما يجيش المرجل، فعقلت ناقتي، ثمَّ توسدت ذراعها، فلما قمت حتَّى قلت مائة وثلاثة عشر بيتاً، فبينا الفرزدق ينشد إذ طلع الأنصاري، فأقبل نحونا حتَّى إذا انتهى إلينا سلم ثمَّ قال: أما إني لم آتك لأعجلك عن العجل الذي وقت لك، ولكني أحببت ألا أراك إلاّ سألتك ما صنعت، فقال له الفرزدق: اجلس لا أم لك، ثمَّ أنشده:

عزفتَ بأعشاشٍ وما كدتَ تعزفُ

فلما فرغ منها قال له: قد سمعت، لا أم لك، فأنت وما سمعت، فقام الأنصاري كئيباً. فلما توارى طلع علينا أبوه، أبو بكر بن حزم في مشيخة من الأنصار، فسلموا علينا فقالوا: يا أبا فراس، إنك قد عرفت حالنا ومكاننا من رسول الله صلى الله عليه وسلّم، ووصيته بنا، وقد بلغنا أن سفيهاً من سفهائنا تعرض لك بما نحن والله له كارهون، وبك وعنه متنزهون، فنحن نسألك بالله لما حفظت وصية رسول الله صلى الله عليه وسلّم، فينا ووهبتنا له، ولم يكن منك مالا يجمل بك.

قال إبراهيم: فأقبلت أنا وكثير نكلمه، وتكلم الناس من نواحي المسجد: يا أبا فراس، فلما أكثرنا عليه قال: فإني وهبتكم لهذا القرشي، يعني إبراهيم بن محمد.

والقصيدة قصيدة الفرزدق

عزفتَ بأعشاشٍ وما كدتَ تعزفُ ... وأنكرتَ من حدراءَ ما كنتَ تعرفُ

ولجَّ بك الهجرانُ حتَّى كأنَّما ... ترى الموتَ في البيتِ الذي كنتَ تألفُ

لجاجةَ صرم ليس بالوصل إنَّما ... أخو الوصل من يدنو ومن يتلطَّفُ

إذا انتبهتْ حدراءُ من نومةِ الضُّحى ... دعتْ وعليها درعُ خزٍّ ومطرفُ

بأخضرَ من نعمانَ ثمَّ جلتْ به ... دعت الثنايا طيِّبا حينَ يرشفُ

ومستنفراتٍ للقلوبِ كأنَّها ... مهاً حولَ منتوجاته يتصرَّفُ

تراهنَّ من فرطِ الحياءِ كأنَّها ... مراضُ سلالٍ أو هوالكُ نزَّفُ

إذا هنَّ ساقطنَ الحديثَ كأنَّهُ ... جنى النَّحلِ أو أبكارُ كرمٍ يُقطَّفُ

موانعُ للأسرارِ إلاّ لأهلها ... ويُخلفنَ ما ظنَّ الغيورُ المشفشفُ

ويبذلنَ بعدَ اليأسِ من غير ريبةٍ ... أحاديثَ تشفي المدنفينَ وتشغفُ

إذا القُنبضاتُ السُّودُ طوَّفنَ بالضحى ... رقدنَ عليهنَّ الحجالُ المسجَّفُ

وإن نبَّهتهنَّ الولائدُ بعدما ... تصعَّدَ يومُ الصيفِ أو كاد ينصفُ

دعونَ بقضبانِ الأراكِ التي جنى ... لها الرَّكبُ من نعمانَ أيامَ عرَّفوا

فمحنَ به عذبَ الرضابِ غروبهُ ... رقاقٌ وأعلى حيثُ ركِّبَ أعجفُ

لبسنَ الفرنْدَ الخسروانيَّ تحتهُ ... مشاعرَ من خزِّ العراقِ المفوَّفُ

فكيفَ بمحبوسٍ دعاني ودونه ... دروبٌ وأبوابٌ وقصرٌ مشرَّفُ

وصهبٌ لِحاهمْ راكزون رماحهمْ ... لهم درقٌ تحت العوالي مصفَّفُ

وضاريةٌ ما مرَّ إلاّ اقتسمنهُ ... عليهنَّ خوَّاضٌ إلى الطِّنئ مخشفُ

يبلِّغنا عنها بغيرِ كلامها ... إلينا من القصر البنانُ المطرَّفُ

دعوتُ الذي سوَّى السماوات أيدهُ ... والله أدني من وريدي وألطفُ

ليشغلَ عنِّي بعلها بزمانةٍ ... تدلِّههُ عنِّي وعنها فتسعفُ

بما في فؤادينا من الهمِّ والهوى ... فيبرأُ منهاضُ الفؤادِ المسقَّفُ

فأرسلَ في عينيهِ ماءً علاهما ... وقد علموا أنِّي أطبُّ وأعرفُ

فداويتهُ عامينِ وهيَ قريبةٌ ... أراها وتدنو لي مراراً فأرشفُ

سلافةَ جفنٍ خالطتْها تريكةٌ ... على شفتيها والذَّكيُّ المسوَّفُ

ألا ليتنا كنَّا بعيرينِ لا نردُ ... على حاضرٍ إلاّ نُشلُّ ونقذفُ

كلانا به عرٌّ يخافُ قرافهُ ... على النَّاس مطليِّ المساعرِ أخشفُ

بأرضٍ خلاءٍ وحدنا وثيابنا ... من الرَّيطِ والدِّيباجِ درعٌ وملحفُ

ولا زادَ إلاّ فضلتانِ سلافةٌ ... وأبيضُ من ماءِ الغمامةِ قرقفُ

وأشلاءُ لحمٍ من حبارى يصيدها ... إذا نحنُ شئنا صاحبٌ متألِّفُ

لنا ما تمنَّينا من العيشِ ما دعتْ ... هديلاً حماماتٌ بنعمان هتَّفُ

إليكَ أميرَ المؤمنين رمى بنا ... همومُ المنى والهوجلُ المتعسَّفُ

وعضَّ زمانٌ يا ابن مروانَ لم يدعْ ... من المال إلاّ مسْحتٌ أو مجرَّفُ

ومائرةِ الأعضادِ صهبٍ كأنَّما ... عليها من الأينِ الجسادُ المدوَّفُ

نهضنَ بنا من سيفِ رملِ كُهيلةٍ ... وفيها بقايا من نشاطٍ وعجرفُ

فما بلغتْ حتَّى تقاربَ خطوُها ... وبادت ذراها والمناسمُ رعَّفُ

وحتى مشى الحادي البطيءُ يسوقها ... لها بخصٌ دامٍ ودأيٌ مجلَّفُ

وحتى قتلنا الجهلَ عنها وغوِّرتْ ... إذا ما أنيختْ والمدامعُ ذرَّفُ

وحتى بعثناها وما في يدٍ لها ... إذا حُلَّ عنها رمَّةٌ وهي رسَّفُ

إذا ما أريناها الأزمَّةَ أقبلتْ ... إلينا بحرَّاتِ الخدودِ تصدَّفُ

إذا حلَّ عنها قاتلت عن ظهورها ... حراجيجُ أمثالَ الأهلَّةِ شسَّفُ

ذرعنَ بنا ما بين يبريْنَ عرضهُ ... إلى الشامِ تلقاها رعانٌ وصفصفُ

فأفنى مراحَ الدَّاعريَّةِ خوضها ... بنا الليلَ إذ نامَ الدَّثورُ الملفَّفُ

إذا اغبرَّ آفاقُ السَّماءِ وهتَّكتْ ... كسورَ بيوتِ الحيِّ نكباءُ حرجفُ

وجاءَ قريعُ الشَّولِ قبلَ إفالها ... يزفُّ وراحت بعدهُ وهي زفَّفُ

وهتَّكتِ الأطنابَ كلُّ ذفرَّةٍ ... لها تامكٌ من عاتقِ النَّيِّ أعرفُ

وباشرَ راعيها الصَّلى بلبانه ... وكفَّيهِ حرُّ النَّارِ ما يتحرَّفُ

وقاتلَ كلبُ الحيِّ عن نارِ أهلهِ ... ليربضَ فيها والصّلا متكنّفُ

وأصبحَ مبيضُّ الصقيعِ كأنهُ ... على سرواتِ النِّيبِ قطنٌ مندّفُ

وأوقدتِ الشّعرى مع الليلِ نارها ... وأمستْ محولاً جلدها يتوسّفُ

وجدتُ الثّرى فينا إذا يبسَ الثّرى ... ومن هو يرجو فضلهُ المتضيّفُ

ترى جارنا فينا يجيرُ وإن جنى ... فلا هو مما ينطفُ الجارَ ينطفُ

ويمنع مولانا وإن كا نائياً ... بنا جارهُ مما يخافُ ويأنفُ

وكنا إذا نامتْ كليبٌ عن القِرى ... إلى الضّيفِ نمشي بالعبيطِ ونلحفُ

وقد علم الجيرانُ أنّ قدورنا ... ضوامنُ للأرزاقِ والرّيحُ زفزفُ

نعجّلُ للضيفانِ في المحلِ بالقرى ... قدورا بمعبوطٍ تمدُّ وتغرفُ

تفرِّغُ في شِيزى كأنَّ جفانَها ... حياضُ الجبى منها ملاءٌ ونصَّفُ

ترى حولهنَّ المعتفينَ كأنَّهم ... على صنمٍ في الجاهليةِ عكَّفُ

قعوداً وخلفَ القاعدينَ شطورهمْ ... قياماً وأيديهمْ جموسٌ ونطَّفُ

وما حلَّ من جهلٍ حُبى حلمائنا ... ولا قائلُ المعروفِ فينا يعنَّفُ

وما قامَ منَّا قائمٌ في نديِّنا ... فينطقُ إلاّ بالتي هي أعرفُ

وإنِّي لمنْ قومٍ بهمْ يتَّقى العِدى ... ورأبُ الثَّأى والجانبُ المتخوّفُ

وأضيافُ ليلٍ قدْ نقلنا قراهمُ ... إليهم فأتلفنا المنايا وأتلفوا

قريناهُم والمأثورةَ البيضَ قبلَها ... يثجُّ العروقَ الأيزَني والمثقَّفُ

ومسروحةً مثلَ الجرادِ يسوقُها ... ممرٌّ قواهُ السَّراءُ المعطَّفُ

فأصبحَ في حيثُ التقينا شريدهمْ ... قتيلٌ ومكتوفُ اليدينِ ومزعفُ

وكنَّا إذا ما استكرهَ الضيفُ بالقِرى ... أتتهُ العوالي وهي بالسمّ ترعفُ

ولا نستجمُّ الخيلَ حتَّى نعيدَها ... فيعرفها أعداؤُنا وهي عطَّفُ

كذلكَ كانتْ خيلُنا مرَّةً تُرى ... سماناً وأحياناً تقادُ فتعجفُ

عليهنَّ منَّا الناقضونَ ذحولُهمْ ... وهنَّ بأعباءِ المنيَّةِ كتَّفُ

مذاليقُ حتَّى تأتيَ الصَّارخَ الذي ... دعا وهو بالثَّغرِ الذي هو أخوفُ

وقدرٍ فثأنا غليَها بعد ما غلتْ ... وأُخرى حششنا بالعوالي تؤثَّفُ

وكلُّ قِرى الأضيافِ نقري من القنا ... ومغتبطٍ منه السَّنامُ المسدَّفُ

وجدْنا أعزَّ الناسِ أكثرهمْ حصى ... وأكرمهم منْ بالمكارمِ يعرفُ

وكلتاهُما فينا لنا حينَ نلتقي ... عصائبُ لاقى بينهنَّ المعرَّفُ

منازيلُ عن ظهرِ القليلِ كثيرُنا ... إذا ما دعا ذو الثروةِ المتردَّفُ

قلِفنا الحصى عنهُ الذي فوقَ ظهرهِ ... بأحلامِ جهَّالٍ إذا ما تغضَّفوا

على ثورةٍ حتَّى كأنَّ عزيزَها ... ترامى بهِ من بين نيقَينِ نفنفُ

وجهلٍ بحلم قد رفعْنا جنونهُ ... وما كانَ لولا عزّنا يتزحلفُ

رجحْنا بهم حتَّى استثابوا حلومهمْ ... بنا بعدَ ما كانَ القنا يتقصَّفُ

ومُّدتْ بأيديها النساءُ ولم يكنْ ... لذي حسبٍ عن قومهِ متخلَّفُ

كفيناهمُ ما نابهمْ بحلومِنا ... وأموالِنا والقومُ بالبيضِ دلَّفُ

وقد سدَّدَ الأوتارَ أفواقَ نبلهمْ ... وأنيابُ نُوكاهمْ من الحردِ تصرفُ

فما أحدٌ في النَّاسِ يعدلُ درأنا ... بعزٍّ ولا عزٌّ له حينَ نجنفُ

تثاقلُ أركانٌ عليهِ ثقيلةٌ ... كأركانِ سلمى أو أعزُّ وأكثفُ

لنا العزَّةُ القعساءُ والعددُ الذي ... عليهِ إذا عدَّ الحصى يتحلَّفُ

من الفائقِ المحجوبِ عنهُ لسانهُ ... يفوقُ وقوهُ المدنفُ المتكنَّفُ

ولو شربَ الكلبى المراضُ دماءَنا ... شفتها وذا الخبلِ الذي هو أدنفُ

سيعلمُ من سامى تميماً إذا هوتْ ... قوائمهُ في البحرِ من يتخلَّفُ

فسعدٌ جبالُ العزِّ والبحرُ مالكٌ ... فلا حضَنٌ يبلى ولا البحرُ يُنزفُ

لنا حيثُ آفاقُ البريةِ تلتقي ... عديدُ الحصى والقسوريُّ المخندفُ

ومنَّا الذي لا ينطقُ النَّاسُ عنده ... ولكن هو المستأذنُ المتنصَّفُ

تراهم قعوداً حوله وعيونهم ... مكسَّرةٌ أبصارها ما تصرَّفُ

وبيتانِ بيتُ الله نحنُ ولاتهُ ... وبيتٌ بأعلى إيلياءَ مشرَّفُ

إذا هبطَ الناسُ المحصَّبُ من منى ... عشيَّةَ يومِ النَّحرِ من حيثُ عرَّفوا

ترى الناسَ ما سرنا يسيرونَ خلفنا ... وإن نحنُ أومأنا إلى الناسِ وقَّفوا

ولا عزَّ إلاّ عزُّنا قاهرٌ لهُ ... ويسألنا النِّصفُ الذَّليلُ فينصفُ

ألوفُ ألوفٍ من رجالٍ ومن قناً ... وخيلٌ كريعانِ الجرادِ وحرشفُ

إذا ما احتبتْ لي دارمٌ عندَ غايةٍ ... جريتُ إليها جريَ من يتغطرفُ

وإن فتنوا يوماً ضربنا رؤوسهمْ ... على الدِّين حتَّى يُقبلَ المتألَّفُ

فإنَّكَ إذ تسعى لتدركَ دارماً ... لأنتَ المعنَّى يا جريرُ المكلَّفُ

أتطلبُ من عند السَّماءِ مكانهُ ... بريقٍ وعيرٍ ظهرهُ متقرِّفُ

وشيخينِ قد ناكا ثمانينَ حجَّةً ... أتانيهما هذا كبيرٌ وأعجفُ

أبى لجريرٍ رهطُ سوءٍ أذلَّةٌ ... وعرضٌ لئيمٌ للمخازي موقَّفُ

وأمٌّ أقَّرتْ من عطيَّةَ رِحمها ... بالأمر ما كانت له الرِّحمُ تنشفُ

عطفتُ عليكَ الحربَ إنِّي إذا ونى ... أخو الحربِ كرَّارٌ على القِرنِ معطفُ

إذا سلختْ عنها أمامةُ درعها ... وأعجبها رابٍ إلى البطنِ مهدفُ

قصيرٌ كأنَّ التُّركَ فيهِ وجوههم ... خنوقٌ لأعناقِ الجرادينِ أكشفُ

تقولُ وصكَّتْ حرَّ خدَّيْ مغيظةٍ ... على الزَّوجِ حرى ما تزالُ تلهَّفُ

أما من كُليبي إذا لم تكن لهُ ... أتانانِ يستغني ولا يتعفَّفُ

إذا ذهبتْ منِّي بزوجي حمارةٌ ... فليسَ على ريحِ الكُليْبيِّ مأسفُ

على ريحِ عبدٍ ما أتى مثلَ ما أتى ... مصلٍّ ولا من أهلِ ميسانَ أقلفُ

تبكِّي على سعدٍ وسعدٌ مقيمةٌ ... بيبْرينَ قد كادتْ على الناسِ تضعفُ

وسعدٌ كأهلِ الرَّدمِ لو فضَّ عنهم ... لماجوا كما ماجَ الجرادُ وطوَّفوا

فهم يعدلونَ الأرضَ لولاهمُ التقتْ ... على الناسِ أو كادتْ تسيرُ فتُنسفُ

ولو أنَّ سعداً أقبلتْ من بلادها ... لجاءتْ بيبرينَ اللَّياليَ تزحفُ

جواب جرير

فأجابه عنها جرير بن عطية بن الخطفى، ويقال إن جريراً هو البادئ، والأول أشبه، لما كان جرير يقوله من أنه لم يهج قط إلاّ مجيباً منتصراً.

ذكر الرواة أن جريراً قدم البصرة في إمرة الحكم بن أيوب بن الحكم بن أبي عقيل، خليفة الحجاج، فقال يمدح الحكم:

أقبلتَ من نجرانَ أو جنبَيْ خيمْ ... على قلاصٍ مثلِ خيطانِ السَّلمْ

قد طُويتْ بطونها طيَّ الأدمْ ... يبحثنَ بحثاً كمضلاَّتِ الخدمْ

إذا قطعنَ علماً بدا علمْ ... حتَّى تناهينا إلى بابِ الحكمْ

خليفةَ الحجَّاجِ غيرَ المتَّهمُ ... في معدنِ العزِّ وبحبوحِ الكرمْ

فأنشده إياها وتحدث عنه فأعجبه ظرفه وشعره، فكتب إلى الحجاج: أنه قدم علي أعرابي باقعة شيطان من الشياطين. فكتب أن أرسل به إليَّ، فقدم عليه فأكرمه وكساه وأنزله، فمكث أياماً ثمَّ أرسل إليه بعد نومه، فقال الرسول: أجب الأمير، فقال: ألبس ثيابي، فقالوا: أمرنا أن نأتيه بك على الحال التي نجدك عليها، فذهب عقله، وعليه قميص غليظ وملاءة مورسة. فلما رأى رجل من الرسل ما به قال: لا بأس عليك، إنما دعاك الأمير للحديث. قال جرير: فلما دخلت عليه قال: إيه يا عدو الله، تشتم أعراض الناس، فقلت: أصلح الله الأمير، إني والله ما أظلمهم، ولكنهم يظلمونني فأنتصر، ما لي، أصلح الله الأمير ولابن أم غسان، ومالي وللبعيث، ومالي وللفرزدق، ومالي وللأخطل، ومالي وللتيمي، قال: ما أدري مالك ولهم، وقلت: وأخبر الأمير، أما غسان بن ذهيل فإنه رجل من قومي، هجاني وعشيرتي، وكان شاعراً. قال: فما قال لك، قلت: قال لي:

لَعمري لئنْ كانتْ بجيلةُ زانها ... جريرٌ لقد أخزى كُليبا جريرها

قال: فما قلت له، قال: قلت:

ألا ليتَ شعري عن سُليطٍ ألمْ تجدْ ... سُليطٌ سوى غسَّانَ جارا يجيرها

قال: ثمَّ البعيث، مالك وله، قلت: اعترض دون غسان يفضله علي، قال: ثمَّ الفرزدق، مالك وله، قلت: أعان علي البعيث، قال: فما قلت له، فقال قلت:

تمنَّى رجالٌ من تميمٍ ليَ الرَّدى ... وما ذاد عن أحسابهم ذائدٌ مثلي

كأنَّهم لا يعلمونَ مواطني ... وقد جرَّبوا أنِّي أنا السَّابقُ المبلي

فلو شاءَ قومي كانَ حلمي فيهمُ ... وكانَ على جهَّالِ أعدائهم جهلي

وقد زعموا أنَّ الفرزدق حيَّةٌ ... وما قتلَ الحيَّاتِ من أحدٍ قتلي

قال: فما زال يقول: ثمَّ من، فأخبره وأنشده حتَّى بزغ الصبح، ونهضنا. فأخبرني من كان معه قاعداً. أنه قال: قاتله الله أعرابياً إنه لجرو حراش.

وقصيدته المناقضة

ألا أيُّها القلبُ الطَّروبُ المكلَّفُ ... أفقْ ربَّما ينأى هواكَ ويُسعفُ

ظللتُ وقد أخبرتَ أن لستُ جازعاً ... لربعٍ بسلْمانينِ عينكَ تذرفُ

بأهليَ أهلُ الدَّارِ إذ يسكنوها ... وجادكَ من دارٍ ربيعٌ وصيِّفُ

سمعتُ الحمامَ الوُرقَ في رونقِ الضُّحى ... بذي الرِّمثِ من وادي المراضينِ تهتفُ

فكنتُ كذاتِ البَو تعرفُ ريحهُ ... وتحنو عليهِ تارةً ثمَّ تصدفُ

أتزعمُ أنَّ البينَ لا يشعفُ الفتى ... بلى مثلَ بيني يومَ لُبنانَ يشعفُ

وطالَ حذاري غُربةَ البينِ في النَّوى ... وأحدوثةٌ من كاشحٍ يتقوَّفُ

ولو علمتْ علمي أمامةُ كذَّبتْ ... مقالةَ من يبغي عليَّ ويعنفُ

نظرتُ أمامي نظرةً قادها الهوى ... وألحى المهارى يومَ عُسفانَ ترجفُ

ترى العرمسَ الوجناءَ يدمى أظلُّها ... وتُحذى نعالاً والمناسمُ ترعفُ

مددنا لذاتِ البغيِ حتَّى تقطَّعتْ ... أزابيُّها والشَّدقميُّ المعلَّفُ

ضرحنَ حصى الموماةِ حتَّى عيونها ... مهجِّجةٌ أبصارهنَّ وذرَّفُ

كأنَّ دياراً بينَ أسنمةِ النَّقا ... وبينَ هذاليلِ النَّحيزةِ مصحفُ

ولستُ بناسٍ ما تغنَّتْ حمامةٌ ... ولا ما ثوى بينَ الجناحين زفزفُ

ديارا من الحيِّ الذين بحبِّهمْ ... زمانَ القرى والصَّارخُ المتلهَّفُ

عليهم من الماذيّ كلُّ مفاضةٍ ... دلاصٍ لها ذيلٌ حصينٌ ورفرفُ

وما شهدتْ يومَ الغبيطِ مجاشعٌ ... وذا نجبٍ يومَ الأسنَّةِ ترعفُ

ألمْ ترَ أنَّ الله أخزى مجاشعاً ... إذا ضمَّ أفواجَ الحجيجِ المعرَّفُ

تحدَّثَ ركبانُ الحجيجِ بجارهم ... إذا انحدروا من نخلتينِ وأوجفوا

فإنَّ الحواريَّ الذي غرَّ حبلكمْ ... له البدرُ كابٍ والكواكبُ كسَّفُ

ويومَ مِنى نادتْ قريشٌ بجاركمْ ... ويومَ الهدايا بالمشاعرِ عكَّفُ

وقائلةٍ ما للفرزدقِ لا يُرى ... على السِّنِّ يستغني ولا يتعفّفُ

وما زلتَ موقوفاً على كلِّ خزيةٍ ... وأنت بدارِ المخزياتِ موقَّفُ

ألم ترَ أنَّ النَّبعَ يصلبُ عودهُ ... ولا يستوي والخِروعُ المتقصِّفُ

ولا يستوي عقرُ الكزومِ بصوأرٍ ... وذو التَّاجِ تحتَ الرايةِ المتسيِّفُ

عرفتمْ لنا الغرَّ السَّوابقَ قبلكم ... وكان لقيْنَيكَ السُّكيْتُ المخلَّفُ

فوارسنا الحوَّاطُ والثَّغرُ دونهم ... وأردافنا المحبوُّ والمتنصَّفُ

أتعدلُ كهفاً لا ترامُ حصونهُ ... بهاري المراقي جوله يتقصَّفُ

عجبتُ لصهرٍ ساقكم آلَ درهم ... إلى صهر أقيانٍ يلامُ ويصلفُ

لئيمانِ هذي يدَّعيها ابن درهمٍ ... وهذا ابن قينٍ جلدهُ يتوسَّفُ

وخالفتهمُ للُّؤمِ يا آلَ درهمٍ ... خلافَ النَّصارى دينَ من يتحنَّفُ

يقولونَ كلاَّ ليسَ للقينِ غالبٍ ... بلى إنَّ ضربَ القينِ بالقينِ يعرفُ

ترفَّقتَ بالكيرينِ قينَ مجاشعٍ ... وأنتَ بهزِّ المشرفيَّةِ أعنفُ

ويذكرُ هزَّ السَّيفِ قينُ مجاشعٍ ... ويعرفُ كفَّيهِ الإناءُ المكتَّفُ

لحى الله من ينبو الحسامُ بكفِّهِ ... ومن يدخل الماخورَ في الحجلِ يرسفُ

فلو كنتَ منَّا يا فرزدقُ ما نبا ... ولكن مضى صافي الحديدةِ مرهفُ

فأنتمْ بنو الخوَّارِ يعرفُ ضربكمْ ... وأمَّاتكمْ فُتخُ القدامِ وخيضفُ

أخو اللُّؤمِ ما دامَ الغضا حولَ عجلزٍ ... وما دامَ يُسقى في رمادينِ أحقفُ

ألؤْماً وإسكاتاً على كلِّ خزيةٍ ... وما للمخازي عن قفيزةَ مصرفُ

لحى الله ليلى عرسَ صعصعةَ التي ... تحبُّ بشارَ القينِ والقينُ مغدفُ

أنا ابن بني عمروٍ وسعدٍ ومالكٍ ... أنا ابن صميمٍ لا وشيظٍ تحلَّفوا

إذا خطرتْ عمروٌ ورائيَ والتقتْ ... قرومُ بني زيدٍ تسامى وتصرفُ

تحوطُ تميمٌ من يحوطُ لها الحمى ... ويحمي تميماً من له ذاكَ يعرفُ

فمولى تميمٍ حين يأوي إليهمُ ... وإن كان فيهمْ ثروةُ العزِّ منصفُ

بني مالكٍ جاء القيونُ بمقرفٍ ... إلى سابقٍ يجري ولا يتكلَّفُ

ولم أنسَ من سعدٍ بقُصوانَ مشهداً ... ولا الأدمى ما دامتِ العينُ تطرفُ

ديار بني سعدٍ ولا سعدَ بعدهمْ ... عفتْ غيرَ أنقاءٍ بيبرينَ تعزفُ

وسعدٌ إذا صاحَ العدوُّ بسربهمْ ... أبَوا أن يهدُّوا للصياحِ فأزحفوا

أتمدحُ سعداً حينَ أخزتْ مجاشعاً ... عقيرةُ سعدٍ والخباءُ مكثَّفُ

إذا ركبتْ سلاَّفُ سعدٍ خيولهمْ ... وفرسانُ سعدٍ ظلَّتْ الأرضُ ترجفُ

إذا ذقتَ منَّا طعمَ حربٍ مريرةٍ ... عطفنا عليكَ الحربَ والحرب تعطفُ

تروغُ وقد أخزوكَ في كلِّ موطن ... كما راغَ قردُ الحرَّةِ المتحذَّفُ

وقد علمَ الأقيانُ أنَّ فتاتهمْ ... أُذلَّتْ ردافاً كلَّ حالٍ تصرَّفُ

فلست بموفٍ بالزُّبيرِ ورحلهِ ... ولا أنت بالسّيدانِ في الحيِّ منصفُ

ويبغضُ سترُ البيتِ قينَ مجاشعٍ ... وحجَّابهُ والطَّائفُ المتعكِّفُ

وقد مدَّ للقينِ الرَّهانُ فردَّهُ ... عن المجدِ كابٍ من قُفيرةَ مقرفُ

وما يحمدُ الأضيافُ رفدُ مجاشعِ ... إذا روَّحتْ حنَّانةُ اللَّيلِ حرجفُ

إذا الشَّولُ جاءتْ والقريعُ أمامها ... وهنَّ ضئيلاتُ العرائكِ شسَّفُ

نعضُّ الملوكَ الدَّارعينَ سيوفنا ... ودفُّكَ من نفَّاخةِ الكيرِ أجنفُ

أتمدحُ سعداً بعدما بتَّ عائذاً ... وجعْثنُ باتتْ بالنَّياطلِ تدلفُ

وباتت ردافى منقرٍ يركضونها ... فضيِّعَ فيهم عقرها المتردَّفُ

وهم كلَّفوها الرَّملَ رملَ معبِّرٍ ... تقولُ أهذا مشيُ حُردٍ تلقُّفُ

وهمْ رجعوها مسحرينَ كأنَّما ... بجعثنَ من حمَّى المدينةِ قرقفُ

وهمْ سلخوا بالدَّعْسِ جلدَ عجانها ... فما كادَ قرحٌ باسْتها يتقرَّفُ

وتشهدُ ما أدموا لجعثنَ مثبراً ... ويشهدُ حوقُ المنقريِّ المقرَّفُ

وقد كان فيما سالَ من عرقِ اسْتها ... بيانٌ ورضفُ الرُّكبتينِ المجلَّفُ

ألم ترَ تيمٌ كيفَ يرمي مجاشعاً ... شديدُ حبالِ المنجنيقينِ مقذفُ

نفاكَ حجيجُ البيتِ عن كلِّ مشعرٍ ... كما ردَّ ذو النُّمِّيتَينِ المزيَّفُ

ولمَّا رأوا عينيْ جبيرٍ لغالبٍ ... أبانَ جبيرُ الزَّنية المتعرِّفُ

لجعثنَ بالسّيدانِ قد يعرفونهُ ... مساحجُ منها لا تبيدُ ومزحفُ

ولو في بني سعدٍ يحلُّ لما عصتْ ... عواندُ من جوفِ الحواريِّ نزَّفُ

بنو منقرٍ جرُّوا فتاة مجاشعٍ ... وشدَّ ابنُ ذيَّالٍ وخيلكَ وقَّفُ

فهلاَّ زجرتمْ يا بني زبدِ اسْتها ... نسوراً رأتْ أوصالهُ فهي وقَّفُ

وهمْ تركوا بنتَ القيونِ كأنَّما ... بقيَّةُ ما أبقوا وجارٌ مجوَّفُ

وباتتْ تنادي غالباً وكأنَّها ... بذي الرَّضفِ من جمرِ الكوانينَ تُرضفُ

خبر الراعي النميري

وذكروا أن الراعي، وهو عبيد بن حصين بن جندلة بن قطن النميري، وفد على عبد الملك يشكو إليه عمال الصدقة، فأنشده:

فادفعْ مظالمَ عيَّلتْ أبناءنا ... عنَّا وأنقذْ شِلونا المأكولا

ولئنْ بقيتُ لأدعونَّ بطعنةٍ ... تدعُ الفرائضَ بالشُّرَيفِ قليلا

فقال عبد الملك: وأين من الله والسلطان لا أمَّ لك، فقال: يا أمير المؤمنين، من عامل إلى عاجل، ومصدِّق إلى مصدق. فلم يحظ منه بشيء، إذ كان عبد الملك ثقيل النفس عليه لما كان من تزبُّر قومه وكانت قيس كلها زبيرية، وكان يقال إن عند الراعي من إبل عثمان لإبلاً، فعاوده من قابل فأنشده:

أمَّا الفقيرُ الذي كانتْ حلوبتهُ ... وفقَ العيالِ فلم يتركْ له سبدُ

واختلَّ ذو المالِ والمثرونَ قد بقيتْ ... على التَّلاتلِ من أموالهمْ عقدُ

فإن رفعتَ بهم رأساً نعشتهمُ ... وإن لقوا مثلها من قابلٍ فسدوا

فقال عبد الملك: أنت العام أعقل منك عاماً أول.

والقصيدة الأولى

ما بالُ دفُّكِ بالفراشِ مذيلا ... أقذًى بعينكَ أمْ أردتَ رحيلا

لما رأتْ أرقي وطولَ تقلُّبي ... ذاتَ العشاءِ وليليَ الموصولا

قالتْ خليدةُ ما عراكَ ولم تكنْ ... بعد الرُّقادِ على الشُّؤونِ سؤولا

أخُليدَ إنَّ أباكِ ضافَ وسادهُ ... همَّانِ باتا جنبةً ودخيلا

طرقا فتلكَ هماهمي أقريهما ... قلصاً لواقحَ كالقسيِّ وحولا

شمُّ الحواركِ جنَّحاً أعضادها ... صهباً تناسبُ شدقماً وجديلا

حوزيَّةً طويتْ على زفراتها ... طيِّ القناطرِ قد بزلنَ بزولا

بُنيتْ مرافقهنَّ فوقَ مزلَّةٍ ... لا يستطيعُ بها القرادُ مقيلا

كانت نجائبَ منذرٍ ومحرِّقٍ ... أمَّاتهنَّ وطرقهنَّ فحيلا

فكأنَّ ريِّضها إذا ياسرتها ... كانت معاودةَ الرَّحيلِ ذلولا

وكأنَّما انتطحتْ على أثباجها ... فُدرٌ بشابةَ قد تممنَ وعولا

قذفَ الغدوِّ إذا غدونَ لحاجةً ... دلفَ الرَّواحِ إذا أردنَ قفولا

قوداً تذارعُ غولَ كلِّ تنوفةٍ ... ذرعَ النَّواسجِ مبرما وسحيلا

في مهمهٍ قلقتْ به هاماتها ... قلقَ الفؤوسِ إذا أردنَ نصولا

فإذا تعرَّضتْ المفازةُ غادرتْ ... ربداً يبغِّلُ خلفها تبغيلا

زجلَ الحداءِ كأنَّ في حيزومهِ ... قصباً ومقنعةَ الحنينِ عجولا

وإذا ترجَّلتِ الضُّحى قذفتْ به ... فشأونَ عقبتهُ فظلَّ ذميلا

يتبعنَ مائرةَ اليدينِ شملَّةً ... ألقتْ بمُخترقِ الرياحِ سليلا

جاءتْ بذي رمقٍ لستَّةِ أشهرٍ ... قد ماتَ أو جرضَ الحياةَ قليلا

نفضتْ بأسحمَ للرواحِ شليلها ... نفضَ النَّعامةِ زفَّها المبلولا

لا يتَّخذنَ إذا علونَ مفازةً ... إلاّ بياضَ الفرقدينِ دليلا

حتَّى وردنَ لتمِّ خمسٍ بائصٍ ... جُدّاً توارثهُ الرِّماحُ وبيلا

سدماً إذا التمسَ الدِّلاءُ نطافهُ ... صادفنَ مشرفةَ المثابِ دحولا

جمعوا قوًى مما تضمُّ رحالهمْ ... شتَّى النَّجارِ ترى بهنَّ وصولا

فسقوا صواديَ يسمعونَ عشيَّةً ... للماءِ في أجوافهنَّ صليلا

حتَّى إذا بردَ السِّجالُ لُهاثها ... وجعلنَ تحتَ غروضهنَّ ثميلا

وأفضن بعدَ كظومهنَّ بجرَّةٍ ... من ذي الأبارقِ إذ رعينَ حقيلا

جلسوا على أكوارها فترادفتْ ... صخبَ الصَّدى جدع الرِّعانِ رجيلا

ملسَ الحصى باتتْ توجَّسُ فوقهُ ... لغطَ القطا بالجلهتينِ نزولا

حتَّى إذا انجلتِ الدجى وتلفَّتتْ ... فرأتْ أوابدَ يرتعينَ هجولا

وجرى السَّرابُ وألحقتْ أعجازها ... مقطٌ يكونُ وقوعها تحليلا

وجرى على حدبِ الصُّوى فطردْنهُ ... طردَ الوسيقةِ بالسَّماوةِ طولا

أبلغ أميرَ المؤمنينَ رسالةً ... شكوى إليكَ مطلَّةً وعويلا

من نازحٍ كثرتْ عليه همومهُ ... لو يستطيعُ إلى اللِّقاءِ سبيلا

طالَ التقلُّبُ والزَّمانُ ورابهُ ... كسلٌ ويكرهُ أن يكونَ كسولا

ضافَ الهمومَ وسادهُ وتجنَّبتْ ... ريَّانَ يصبحُ في المنامِ ثقيلا

فطوى الفؤادَ على قضاءِ صريمةٍ ... حذَّاءَ واتَّخذَ الزَّماعَ خليلا

وعلا المشيبُ لداته ولقد مضتْ ... حقبٌ نقضنَ مريرهُ المجدولا

فكأنَّ أعظمهُ محاجنَ نبعةٍ ... عوجٌ قدُمنَ فقد أردنَ نحولا

كحديدةِ الهنديِّ أمسى جفنهُ ... خلقاً ولم يكُ في العظامِ نكولا

تُغلى حديدتهُ وتنكرُ لونه ... عينٌ رأتهُ في الشَّبابِ صقيلا

إنِّي حلفتُ على يمينٍ برَّةٍ ... لا أكذبُ اليومَ الخليفةَ قيلا

ما زرتُ آلَ أبي خُبيبٍ طائعاً ... يوماً أريد لبيعتي تبديلا

ولا أتيتُ نُجيدةَ بن عويمرٍ ... أرجو الهدى فيزيدني تضليلا

من نعمةِ الرَّحمنِ لا من حيلتي ... إنِّي أعدُّ له عليَّ فضولا

وشنئتُ كلَّ منافقٍ متقلِّبٍ ... وجدَ الزلازلَ دينهُ مدخولا

واهي الأمانةِ ما تزالُ قلوصهُ ... بينَ الخوارجِ هزَّةً وذميلا

من كلِّهم أمسى ألمَّ ببيعةٍ ... مسحَ الأُكفِّ تعاورُ المنديلا

أخليفةَ الرحمنِ إنَّا معشرٌ ... حنفاءُ نسجدُ بكرةً وأصيلا

عربٌ نرى لله في أموالنا ... حقَّ الزَّكاةِ منزَّلاً تنزيلا

إنَّ السُّعاةَ عصوْكَ حينَ بعثتهم ... وأتوا دواهيَ لو علمتَ وغولا

كتبوا الدُّهيمَ من العداءِ لمشرفٍ ... عادٍ يريد خيانةً وغلولا

ذخرَ الحقيبةِ لو أحطتِ بخُبرهِ ... لتركتَ منه طابقاً مفصولا

أخذوا العريفَ فقطَّعوا حيزومهُ ... بالأصبحيَّةِ قائماً مغلولا

حتَّى إذا لم يتركوا لعظامهِ ... لحماً ولا لفؤاده معقولا

جاؤوا بصكِّهمُ وأحدبَ أسأرتْ ... منه السِّياطُ يراعةً إجفيلا

نسيَ الأمانةَ من مخافةِ لقَّحٍ ... شُمسٍ تركنَ بضيعهُ مجزولا

أخذوا حمولتهُ فأصبحَ قاعداً ... لا يستطيعُ عن الدِّيارِ حويلا

يدعو أميرَ المؤمنينَ ودونهُ ... خرقٌ تجرُّ به الرِّياحُ ذيولا

كهداهدٍ كسرَ الرُّماةُ جناحهُ ... يدعو بقارعةِ الطَّريقِ هديلا

وقعَ الرَّبيعُ وقد تقاربَ خطوهُ ... ورأى بعقوته أزلَّ نسولا

كدخانِ مرتجلٍ بأعلى تلعةٍ ... غرثانَ ضرَّمَ عرفجا مبلولا

متوضِّحَ الأقرابِ فيه شبهةٌ ... نهشَ اللَّبانِ تخاله مشكولا

أخليفة الرحمن إنَّ عشيرتي ... أمسى سوامهمُ عزينَ فلولا

قومُ على الإسلامِ لما يمنعوا ... ما عونهم ويضيِّعوا التَّهليلا

وردوا اليمامةَ يطردونَ كأنَّهمْ ... قومٌ أصابوا ظالمينَ قتيلا

يحدون حدْباً ميَّلاً أشرافها ... في كلِّ مقربةٍ يدعنَ رعيلا

حتَّى إذا حبستْ تُنقِّي طِرقها ... وثنى الرِّعاءُ شكيرها المنخولا

شهريْ ربيع لا تذوقُ حلوبهم ... إلاّ حموضاً وخمةً ودويلا

وأتاهمُ يحيى فشدَّ عليهمُ ... عهدا يراهُ المسلمونَ ثقيلا

كتباً تركنَ غنيَّهمْ ذا خلَّةٍ ... بعد الغنى وفقيرهم مهزولا

فتركتُ قومي يقسمونَ أمورهمْ ... أإليكَ أم يتربَّصونَ قليلا

أنتَ الخليفةُ عدلهُ وقضاؤهُ ... وإذا أردتَ بظالمٍ تنكيلا

فادفع مظالمَ عيَّلتْ أبناءنا ... عنَّا وأنقذ شلونا المأكولا

فترى عطيَّةَ ذاكَ إن أعطيتهُ ... من ربِّنا فضلاً ومنكَ جزيلا

إنَّ الذينَ أمرتهمْ أن يعدلوا ... لم يأخذوا مما أمرتَ فتيلا

أخذوا المخاضَ من القلاصِ غلبّةً ... ظلما وتُكتبْ للأميرِ أفيلا

ولئنْ سلمتُ لأدعونَّ بطعنةٍ ... تدعُ الفرائضَ بالشُّريفِ قليلا

وإذا قريشٌ أوقدتْ نيرانها ... وثنتْ ضغائنَ بينها وذحولا

فأبوكَ سيِّدها وأنتَ أشدُّها ... زمنَ الزَّلازلِ في الزلازلِ جولا

وأبوكَ ضاربَ بالمدينةِ وحدهُ ... قوماً همُ تركوا الجميعَ شكولا

قتلوا ابنَ عفَّانَ الخليفةَ محرماً ... ودعا فلم أرَ مثلهُ مخذولا

فتصدَّعتْ من يوم ذاكَ عصاهمُ ... شققاً وأصبح سيفهمْ مسلولا

حتَّى إذا نزلتْ عجاجةُ فتنةٍ ... عمياءَ كان كتابها مفعولا

وزنت أميَّةُ أمرها فدعتْ لهُ ... من لم يكن غمراً ولا مجهولا

مروانُ أحزمهم إذا حلَّتْ به ... حدبُ الأمورِ وخيرهمْ مسؤولا

أيَّامَ رفَّعَ بالمدينةِ ذيلهُ ... ولقد يرى زرعاً بها ونخيلا

وديارَ ملكٍ خرِّبتْها فتنةٌ ... ومشيَّداً فيه الحمامُ ظليلا

أزمانَ قومي والجماعةَ كالذي ... لزمَ الرَّحالةَ أن تميلَ مميلا

خبر كعب بن زهير

وحدثوا أن كعب بن زهير بن أبي سلمى المزنيّ، كتب إلى أخيه بجير، وكان بالمدينة مع رسول الله صلى الله عليه وسلّم، سابقاً بإسلامه ورشده كعباً بهذه الأبيات:

من مبلغٌ عنِّي بُجيراً رسالةً ... فهل لك فيما قلتُ ويحكَ هل لكا

شربتَ بكأسٍ عند آلِ محمدٍ ... فأنهلكَ المأمونُ منها وعلَّكا

فخالفتَ أسبابَ الهدى وتركتهُ ... على أيِّ شيءٍ ويبَ غيركَ دلَّكا

على خلقٍ لم تُلفِ أمّاً ولا أبا ... عليه ولم يوجد عليه أبٌ لكا

قالوا: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: أجل لم يلف عليه أباه ولا أمه. وأجابه بجير فقال:

من مبلغٌ كعباً فهل لك في التي ... تلومُ عليها باطلاً وهي أحزمُ

إلى الله لا العزَّى ولا اللاتِ وحدهُ ... فتنجو إذا كان النَّجاءُ وتسلم

لدى يومِ لا ينجو وليسَ بمفلتٍ ... من النَّارِ إلاّ طاهرُ القلبُ مسلمُ

فدين زهيرٍ وهو لا شيءَ غيرهُ ... ودينُ أبي سلمى عليَّ محرَّمُ

وكان كعب قد نال من رسول الله صلى الله عليه وسلّم في بعض شعره، فلما انصرف صلى الله عليه وسلّم من فتح الطائف. همَّ بقتل من كان يؤذيه من شعراء المشركين: أمية بن خلف، وابن الزبعري، وكعب بن زهير، فبعث بجير إليه أن خذ حذرك وانج إلى نجائك من الأرض، فإنه قد همَّ بقتل من كان يؤذيه من شعره، إلاّ أن تأتيه مسلماً تائباً، فأتى كعب مزينة فأبت أن تؤويه، وأقبل حتَّى أتى المدينة، فنزل على رجل كانت بينه وبينه معرفة، فمرَّ رسول الله صلى الله عليه وسلّم فقال الرجل: هذا رسول الله، فقم إليه واستأمنه، فقام إليه حتَّى جلس بين يديه، ووضع يده في يده، وكان صلى الله عليه وسلّم لا يعرفه، فقال: يا رسول الله: إنَّ كعب بن زهير قد جاء يستأمنك مسلماً تائباً فهل أنت قابل منه إن أنا جئتك به؟ قال: نعم، قال: فأنا يا رسول الله كعب بن زهير وأنشده.

قصيدة كعب بن زهير

بانتْ سعادُ فقلبي اليومَ متبولُ ... متيَّمٌ إثرها لم يُفدَ مكبولُ

وما سعادُ غداةَ البينِ إذ رحلوا ... إلاّ أغنَّ غضيضُ الطَّرفِ مكحولُ

تجلو عوارضَ ذي ظلمٍ إذا ابتسمتْ ... كأنَّهُ منهلٌ بالرَّاحِ معلولُ

شُجَّتْ بذي شبمٍ من ماءِ محنيةٍ ... صافٍ بأبطحَ أضحى وهو مشمولُ

تنفي الرِّياحُ القذى عنه وأفرطه ... من صوبِ ساريةٍ بيضٌ يعاليلُ

فيا لها خلَّةً لو أنَّها صدقتْ ... ميعادها أو لو أنَّ النُّصحَ مقبولُ

لكنَّها خلَّةٌ قد سيطَ من دمها ... فجعٌ وولعٌ وإخلافٌ وتبديلُ

فما تدومُ على حالٍ تكونُ بها ... كما تلوُّنُ في أثوابها الغولُ

وما تمسَّكُ بالعهدِ الذي زعمتْ ... إلاّ كما يمسكُ الماءَ الغرابيلُ

فلا يغرَّنكَ ما منَّتْ وما وعدتْ ... إنَّ الأمانيَّ والأحلامَ تضليلُ

كانتْ عواقبُ عرقوبٍ لها مثلاً ... وما مواعيدهُ إلاّ الأباطيلُ

أرجو وآملُ أن تدنو مودَّتها ... وما لهنَّ طوالَ الدَّهرِ تنويلُ

أمستْ سعادُ بأرضٍ لا يبلِّغها ... إلاّ العتاقُ النجيباتُ المراسيلُ

ولن يبلِّغها إلاّ عذافرةٌ ... منها على الأينِ إرقالٌ وتبغيلُ

من كلِّ نضَّاخةِ الذِّفرى إذا عرقتْ ... عرضتها طامسُ الأعلامِ مجهولُ

يرمي الغيوبَ بعينيْ مفردٍ لهقٍ ... إذا توقَّدتِ الحزَّانُ والميلُ

ضخمٌ مقلَّدها فعمٌ مقيَّدها ... في خلقها عن بناتِ الفحلِ تفضيلُ

حرفٌ أخوها أبوها من مهجَّنةٍ ... وعمُّها خالها قوداءُ شمليلُ

يمشي القرادُ عليها ثمَّ يزلقهُ ... عنها لبانٌ وأقرابٌ زهاليلُ

عيرانةٌ قذفتْ باللَّحمِ عن عُرضٍ ... مرفقها عن بناتِ الزَّورِ مفتولُ

كأنَّ ما فاتَ عينيها ومذبحها ... من خطمها ومن اللَّحيينِ برطيلُ

تمرُّ مثل عسيبِ النَّخلِ ذا خصلٍ ... في غارزٍ لم تخوَّنهُ الأحاليلُ

قنواءُ في حرَّتيها للبصيرِ بها ... عتقٌ مبينٌ وفي الخدَّينِ تسهيلُ

تخدي على يسراتٍ وهي لاحقةٌ ... ذوابلٍ مسَّهنَّ الأرضَ تحليلُ

سمرُ العُجاياتِ يتركنَ الحصى زيماً ... بأربعٍ لا تعيها الأكمُ تنعيلُ

يوماً يظلُّ به الحرباءُ مصطخما ... كأنَّ ضاحيةُ بالنارِ مملولُ

كأنَّ أوبَ ذراعيها إذا عرقتْ ... وقد تلفَّعَ بالقورِ العساقيلُ

وقال للقومِ حاديهم وقد جعلتْ ... ورقُ الجنادبِ يركضنَ الحصى قيلوا

أوبُ يديْ فاقدٍ شمطاءَ معولةٍ ... قامتْ فجاوبها نكدٌ مثاكيلُ

نوَّاحةٌ رخوة الضَّبعينِ ليس لها ... لما نعى بكرها النَّاعونَ معقولُ

تفري اللَّبانَ بكفَّيها ومدرعها ... مشقَّقٌ عن تراقيها رعابيلُ

يسعى الوشاةُ بجنبيها وقولهمُ ... إنَّكَ يا ابنَ أبي سلمى لمقتولُ

وقالَ كلُّ خليلٍ كنتُ آملهُ ... لا ألهينَّك إني عنك مشغولُ

فقلتُ خلُّوا سبيلي لا أبا لكمُ ... فكلُّ ما قدَّرَ الرحمنُ مفعولُ

كلُّ ابن أنثى وإن طالتْ سلامتهُ ... يوماً على آلةٍ حدباءَ محمولُ

أُنبئتُ أنَّ رسول الله أوعدني ... والعفوُ عند رسول الله مأمولُ

مهلاً هداكَ الذي أعطاكَ نافلةَ ال ... قرآنِ فيها مواعيظٌ وتفصيلُ

لا تأخذنِّي بأقوالِ الوشاةِ ولم ... أذنبْ ولو كثرتْ عنِّي الأقاويلُ

لقد أقومُ مقاماً لو يقومُ به ... أرى وأسمعُ ما لو يسمعُ الفيلُ

لظلَّ يرعدُ إلاّ أن يكونَ له ... من الرسولِ بإذن الله تنويلُ

حتَّى وضعتُ يميني لا أنازعهُ ... في كفِّ ذي نقماتٍ قيلهُ القيلُ

لذاكَ أهيبُ عندي إذ أكلِّمهُ ... وقيلَ إنَّك مسبورٌ ومسؤولُ

من ضيغمٍ من ضراءِ الأُسدِ مخدرهُ ... ببطنِ عثَّرَ غيلٌ دونهُ غيلُ

يغدو فيلحمُ ضرغامينِ عيشُهما ... لحمٌ من القومِ معفورٌ خراذيلُ

إذا يساورُ قرناً لا يحلُّ لهُ ... أن يتركَ القرنَ إلاّ وهو مفلولُ

منه تظلُّ حميرُ الوحشِ ضامزةً ... ولا تمشِّي بواديه الأراجيلُ

ولا يزالُ بواديهِ أخو ثقةٍ ... مطرَّحِ البزِّ والدِّرسانِ مأكولُ

إنَّ الرسولَ لسيفٌ يُستضاءُ بهِ ... مهنَّدٌ من سيوفِ الله مسلولُ

في عصبةٍ من قريشٍ قال قائلهمْ ... ببطنِ مكَّةَ لما أسلموا زولوا

زالوا فما زال أنكاسٌ ولا كشفٌ ... عندَ اللِّقاءِ ولا ميلٌ معازيلُ

شمُّ العرانينَ أبطالٌ لبوسهمُ ... من نسجِ داودَ في الهيجا سرابيلُ

بيضٌ سوابغُ قد شكَّتْ لها حلقٌ ... كأنَّها حلقُ القفعاءِ مجدولُ

يمشونَ مشيَ الجِمالِ الزُّهرِ يعصمهمْ ... ضربٌ إذا عرَّدَ السُّودُ التَّنابيلُ

لا يفرحونَ إذا نالتْ رماحهمُ ... قوماً وليسو مجازيعاً إذا نيلوا

لا يقعُ الطَّعنُ إلاّ في نحورهمُ ... ما إنْ لهمْ عن حياضِ الموتِ تهليلُ