منهاج السنة النبوية/8

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة


أما قوله: لما عمت البلية على كافة المسلمين بموت النبي واختلف الناس بعده وتعددت آراؤهم بحسب أهوائهم فبعضهم طلب الأمر لنفسه بغير حق وبايعه أكثر الناس طلبا للدنيا كما اختار عمر بن سعد ملك الرى أياما يسيرة لما خير بينه وبين قتل الحسين مع علمه بأن في قتله النار وإخباره بذلك في شعره

فيقال: في هذا الكلام من الكذب والباطل وذم خيار الأمة بغير حق مالا يخفى وذلك من وجوه

أحدها قوله تعددت آراؤهم بحسب تعدد أهوائهم فيكونون كلهم متبعين أهواءهم ليس فيهم طالب حق ولا مريد لوجه الله تعالى والدار الآخرة ولا من كان قوله عن اجتهاد واستدلال وعموم لفظه يشمل عليا وغيره

وهؤلاء الذين وصفهم بهذا هم الذين أثنى الله عليهم هو ورسوله ورضي عنهم ووعدهم الحسنى كما قال تعالى والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان رضي الله عنهم ورضوا عنه وأعد لهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا ذلك الفوز العظيم سورة التوبة 100 وقال تعالى محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم تراهم ركعا سجدا يبتغون فضلا من الله ورضوانا سيماهم في وجوههم من أثر السجود ذلك مثلهم في التوراة ومثلهم في الإنجيل كزرع أخرج شطئه فئآزره فاستغلظ فاستوى على سوقه يعجب الزراع ليغيظ بهم الكفار وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات منهم مغفرة وأجرا عظيما سورة الفتح 29 وقال تعالى إن الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله والذين آووا ونصروا أولئك بعضهم أولياء بعض إلى قوله أولئك هم المؤمنون حقا لهم مغفرة ورزق كريم والذين آمنوا من بعد وهاجروا وجاهدوا معكم فأولئك منكم سورة الأنفال 72 75 وقال لايستوي منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل أولئك أعظم درجة من الذين أنفقوا من بعد وقاتلوا وكلا وعد الله الحسنى سورة الحديد 10 وقال تعالى للفقراء المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم يبتغون فضلا من الله ورضوانا وينصرون الله ورسوله أولئك هم الصادقون والذين تبوءوا الدار والإيمان من قبلهم يحبون من هاجر إليهم ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون والذين جاءوا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا ربنا إنك رءوف رحيم سورة الحشر 8 1وهذه الآيات تتضمن الثناء على المهاجرين والأنصار وعلى الذين جاءوا من بعدهم يستغفرون لهم ويسألون الله أن لا يجعل في قلوبهم غلا لهم وتتضمن أن هؤلاء الأصناف هم المستحقون للفئ

ولا ريب أن هؤلاء الرافضة خارجون من الأصناف الثلاثة فإنهم لم يستغفروا للسابقين الأولين وفي قلوبهم غل عليهم ففي الآيات الثناء على الصحابة وعلى أهل السنة الذين يتولونهم وإخراج الرافضة من ذلك وهذا نقيض مذهب الرافضة

وقد روى ابن بطة وغيره من حديث أبي بدر قال حدثنا عبدالله بن زيد عن طلحة بن مصرف عن مصعب بن سعد عن سعد بن أبي وقاص قال الناس على ثلاث منازل فمضت منزلتان وبقيت واحدة فأحسن ما أنتم عليه كائنون أن تكونوا بهذه المنزلة التي بقيت ثم قرأ للفقراء المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم يبتغون فضلا من الله ورضوانا هؤلاء المهاجرون وهذه منزلة قد مضت ثم قرأ والذين تبوءوا الدار والإيمان من قبلهم يحبون من هاجر إليهم ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة ثم قال هؤلاء الأنصار وهذه منزلة قد مضت

ثم قرأ والذين جاءوا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا ربنا إنك رءوف رحيم فقد مضت هاتان وبقيت هذه المنزلة فأحسن ما أنتم عليه كائنون أن تكونوا بهذه المنزلة التي بقيت أن تستغفروا الله لهم

وروى أيضا بإسناده عن مالك بن أنس أنه قال من سب السلف فليس له في الفئ نصيب لأن الله تعالى يقول والذين جاءوا من بعدهم الآية

وهذا معروف من مالك وغير مالك من أهل العلم كأبي عبيد القاسم ابن سلام وكذلك ذكره أو حكيم النهرواني من أصحاب أحمد وغيره من الفقهاء

وروى أيضا عن الحسن بن عمارة عن الحكم عن مقسم عن ابن عباس رضي الله عنهما قال أمر الله بالإستعفار لأصحاب النبي وهو يعلم أنهم يقتتلون

وقال عروة قالت لي عائشة رضي الله عنها يا ابن أختي أمروا أن يستغفروا لأصحاب محمد فسبوهم

وفي الصحيحين عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال قال رسول الله لا تسبوا أصحابي فلو أن أحدكم أنفق مثل أحد ذهبا ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه

وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي قال لا تسبوا أصحابي فوالذي نفسي بيده لو أن أحدكم أنفق مثل أحد ذهبا ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه

وفي صحيح مسلم أيضا عن جابر بن عبدالله قال قيل لعائشة إن ناسا يتناولون أصحاب رسول الله حتى أبا بكر وعمر فقالت وما تعجبون من هذا انقطع عنهم العمل فأحب الله أن لا يقطع عنهم الأجر

وروى ابن بطة بالإسناد الصحيح عن عبدالله بن أحمد قال حدثني أبي حدثنا معاوية حدثنا رجاء عن مجاهد عن ابن عباس رضي الله عنهما قال لا تسبوا أصحاب محمد فإن الله قد أمر بالاستغفار لهم وهو يعلم أنهم سيقتتلون

ومن طريق أحمد عن عبدالرحمن بن مهدي وطريق غيره عن وكيع وأبي نعيم ثلاثتهم عن الثوري عن نسير بن ذعلوق سمعت عبدالله بن عمر يقول لا تسبوا أصحاب محمد فلمقام أحدهم ساعة يعنى مع رسول الله خير من عمل أحدكم أربعين سنة

وفي رواية وكيع خير من عبادة أحدكم عمره

وقال تعالى لقد رضي الله عنها المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة

فعلم ما في قلوبهم فأنزل السكينة عليهم وأثابهم فتحا قريبا ومغانم كثيرة يأخذونها وكان الله عزيزا حكيما وعدكم الله مغانم كثيرة تأخذونها فعجل لكم هذه وكف أيدي الناس عنكم ولتكون ءاية للمؤمنين ويهديكم صراطا مستقيما وأخرى لم تقدروا عليها قد أحاط الله بها وكان الله على كل شيء قديرا سورة الفتح 18 2والذين بايعوه تحت الشجرة بالحديبية عند جبل التنعيم كانوا أكثر من ألف وأربعمائة بايعوه لما صده المشركون عن العمرة ثم صالح المشركين صلح الحديبية المعروف وذلك سنة ست من الهجرة في ذي القعدة ثم رجع بهم إلى المدينة وغزا بهم خيبر ففتحها الله عليهم في أول سنة سبع وقسمها بينهم ومنع الأعراب المتخلفين عن الحديبية من ذلك

كما قال الله تعالى سيقول المخلفون إذا انطلقتم إلى مغانم لتأخذوها ذرونا نتبعكم يريدون أن يبدلوا كلام الله قل لن تتبعونا كذلكم قال الله من قبل فسيقولون بل تحسدوننا بل كانوا لا يفقهون إلا قليلا سورة الفتح 1وقد أخبر سبحانه أنه رضي عنهم وأنه علم ما في قلوبهم وأنه أثابهم فتحا قريبا

وهؤلاء هم أعيان من بايع أبا بكر وعمر وعثمان بعد موت النبي لم يكن في المسلمين من يتقدم عليهم بل كان المسلمون كلهم يعرفون فضلهم عليهم لأن الله تعالى بين فضلهم في القرآن بقوله تعالى لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل أولئك أعظم درجة من الذين أنفقوا من بعد وقاتلوا وكلا وعد الله الحسنى سورة الحديد 10 ففضل المنفقين المقاتلين قبل الفتح والمراد بالفتح هنا صلح الحديبية ولهذا سئل النبي أو فتح هو فقال نعم

وأهل العلم يعملون أن فيه أنزل الله تعالى إنا فتحنا لك فتحا مبينا ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر ويتم نعمته عليك ويهديك صراطا مستقيما وينصرك الله نصرا عزيزا سورة الفتح 1 3 فقال بعض المسلمين يا رسول الله هذا لك فما لنا يا رسول الله فأنزل الله تعالى هو الذي أنزل السكينة في قلوب المؤمنين ليزداداو إيمانا مع إيمانهم سورة الفتح وهذه الآية نص في تفضيل المنفقين المقاتلين قبل الفتح على المنفقين المقاتلين بعده ولهذا ذهب جمهور العلماء إلى أن السابقين في قوله تعالى والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار سورة التوبة 100 هم هؤلاء الذين أنفقوا من قبل الفتح وقاتلوا وأهل بيعة الرضوان كلهم منهم وكانوا أكثر من ألف وأربعمائة

وقد ذهب بعضهم إلى أن السابقين الأولين هم من صلى إلى

القبلتين وهذا ضعيف فإن الصلاة إلى القبلة المنسوخة ليس بمجرده فضيلة ولأن النسخ ليس من فعلهم الذي يفضلون به ولأن التفضيل بالصلاة إلى القبلتين لم يدل عليه دليل شرعي كما دل على التفضيل بالسبق إلى الإنفاق والجهاد والمبايعة تحت الشجرة ولكن فيه سبق الذين أدركوا ذلك على من لم يدركه كما أن الذين أسلموا قبل أن تفرض الصلوات الخمس هم سابقون على من تأخر إسلامه عنهم والذين أسلموا قبل أن تجعل صلاة الحضر أربع ركعات هم سابقون على من تأخر إسلامه عنهم والذين أسلموا قبل أن يؤذن في الجهاد أو قبل أن يفرض هم سابقون على من أسلم بعدهم والذين أسلموا قبل أن يفرض صيام شهر رمضان هم سابقون على من أسلم بعدهم والذين أسلموا قبل أن يفرض الحج هم سابقون على من تأخر عنهم والذين أسلموا قبل تحريم الخمر هم سابقون على من أسلم بعدهم والذين أسلموا قبل تحريم الربا كذلك فشرائع الإسلام من الإيجاب والتحريم كانت تنزل شيئا فشيئا وكل من أسلم قبل أن تشرع شريعة فهو سابق على من تأخر عنه وله بذلك فضيلة ففضيلة من أسلم قبل نسخ القبلة على من أسلم بعده هي من هذا الباب

وليس مثل هذا مما يتميز به السابقون الأولون عن التابعين إذ ليس بعض هذه الشرائع بأولى بجعله خيرا من بعض ولأن القرآن والسنة قد دلا على تقديم أهل الحديبية فوجب أن تفسر هذه الآية بما يوافق سائر النصوص

وقد علم بالاضطرار أنه كان في هؤلاء السابقين الأولين أبو بكر وعمر وعلي وطلحة والزبير وبايع النبي بيده عن عثمان لأنه كان غائبا قد أرسله إلى أهل مكة ليبلغهم رسالته وبسببه بايع النبي الناس لما بلغه أنهم قتلوه

وقد ثبت في صحيح مسلم عن جابر بن عبدالله رضي الله عنه أن النبي قال لا يدخل النار أحد بايع تحت الشجرة

وقال تعالى لقد تاب الله على النبي والمهاجرين والأنصار الذين اتبعوه في ساعة العسرة من بعد ما كاد يزيغ قلوب فريق منهم ثم تاب عليهم إنه بهم رءوف رحيم سورة التوبة 117 فجمع بينهم وبين الرسول في التوبة

وقال تعالى إن الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله والذين آووا ونصروا أولئك بعضهم أولياء بعض والذين آمنوا ولم يهاجروا سورة الأنفال 72 إلى قوله والذين آمنوا من بعد وهاجروا وجاهدوا معكم فأولئك منكم سورة الأنفال 75 فأثبت الموالاة بينهم

وقال للمؤمنين يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض ومن يتولهم منكم فإنه منهم إن الله لا يهدي القوم الظالمين سورة المائدة 51 إلى قوله إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون ومن يتول الله ورسوله والذين آمنوا فإن حزب الله هم الغالبون المائدة 55 56 وقال والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض سورة التوبة 71 فأثبت الموالاة بينهم وأمر بموالاتهم والرافضة تتبرأ منهم ولا تتولاهم وأصل الموالاة المحبة وأصل المعاداة البغض وهم يبغضونهم ولا يحبونهم

وقد وضع بعض الكذابين حديثا مفترى أن هذه الآية نزلت في علي لما تصدق بخاتمه في الصلاة وهذا كذب بإجماع أهل العلم بالنقل وكذبه بين من وجوه كثيرة

منها أن قوله الذين صيغة جمع وعلى واحد

ومنها أن الواو ليست واو الحال إذ لو كان كذلك لكان لا يسوغ أن يتولى إلا من أعطى الزكاة في حال الركوع فلا يتولى سائر الصحابة والقرابة

ومنها أن المدح إنما يكون بعمل واجب أو مستحب وإيتاء الزكاة في نفس الصلاة ليس واجبا ولا مستحبا باتفاق علماء الملة فإن في الصلاة شغلا

ومنها أنه لو كان إيتاؤها في الصلاة حسنا لم يكن فرق بين حال الركوع وغير حال الركوع بل إيتاؤها في القيام والقعود أمكن

ومنها أن عليا لم يكن عليه زكاة على عهد النبي

ومنها أنه لم يكن له أيضا خاتم ولا كانوا يلبسون الخواتم حتى كتب النبي كتابا إلى كسرى فقيل له إنهم لا يقبلون كتابا إلا مختوما فاتخذ خاتما من ورق ونقش فيها محمد رسول الله

ومنها أن إيتاء غير الخاتم في الزكاة خير من إيتاء الخاتم فإن أكثر الفقهاء يقولون لا يجزئ إخراج الخاتم في الزكاة

ومنها أن هذا الحديث فيه أنه أعطاه السائل والمدح في الزكاة أن يخرجها ابتداء ويخرجها على الفور لا ينتظر أن يسأله سائل

ومنها أن الكلام في سياق النهى عن موالاة الكفار والأمر بموالاة المؤمنين كما يدل عليه سياق الكلام

وسيجئ إن شاء الله تمام الكلام على هذه الآية فإن الرافضة لا يكادون يحتجون بحجة إلا كانت حجة عليهم لا لهم كاحتجاجهم بهذه الآية على الولاية التي هي الإمارة وإنما هي في الولاية التي هي ضد العداوة والرافضة مخالفون لها

والإسماعيلية والنصيرية ونحوهم يوالون الكفار من اليهود والنصارى والمشركين والمنافقين ويعادون المؤمنين من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان إلى يوم الدين وهذا أمر مشهور فيهم يعادون خيار عباد الله المؤمنين ويوالون اليهود والنصارى والمشركين من الترك وغيرهم

وقال تعالى يا أيها النبي حسبك الله ومن اتبعك من المؤمنين سورة الأنفال 64 أي الله كافيك وكافي من اتبعك من المؤمنين والصحابة أفضل من اتبعه من المؤمنين وأولهم

وقال تعالى إذا جاء نصر الله والفتح ورأيت الناس يدخلون في دين الله أفواجا فسبح بحمد ربك واستغفره إنه كان توابا والذين رآهم النبي يدخلون في دين الله أفواجا هم الذين كانوا على عصره

وقال تعالى هو الذي أيدك بنصره وبالمؤمنين وألف بين قلوبهم سورة الأنفال 62 63 وإنما أيده في حياته بالصحابة

وقال تعالى والذي جاء بالصدق وصدق به أولئك هم المتقون لهم ما يشاءون عند ربهم ذلك جزاء المحسنين ليكفر الله عنهم أسوأ الذي عملوا ويجزيهم أجرهم بأحسن الذي كانوا يعملون سورة الزمر 33 35 وهذا الصنف الذي يقول الصدق ويصدق به خلاف الصنف الذي يفتري الكذب أو يكذب بالحق لما جاءه كما سنبسط القول فيهما إن شاء الله

والصحابة الذين كانوا يشهدون أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله وأن القرآن حق هم أفضل من جاء بالصدق وصدق به بعد الأنبياء

وليس في الطوائف المنتسبة إلى القبلة أعظم افتراء للكذب على الله وتكذيبا بالحق من المنتسبين إلى التشيع ولهذا لا يوجد الغلو في طائفة أكثر مما يوجد فيهم ومنهم من ادعى إلهية البشر وادعى النبوة في غير النبي وادعى العصمة في الأئمة ونحو ذلك مما هو أعظم مما يوجد في سائر الطوائف واتفق أهل العلم على أن الكذب ليس في طائفة من الطوائف المنتسبين إلى القبلة أكثر منه فيهم

قال تعالى قل الحمد لله وسلام على عباده الذين اصطفى سورة النمل 59 قال طائفة من السلف هم أصحاب محمد ولا ريب أنهم أفضل المصطفين من هذه الأمة التي قال الله فيها ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق الخيرات بإذن الله ذلك هو الفضل الكبير جنات عدن يدخلونها يحلون فيها من أساور من ذهب ولؤلؤا ولباسهم فيها حرير وقالوا الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن إن ربنا لغفور شكور الذي أحلنا دار المقامة من فضله لا يمسنا فيها نصب ولا يمسنا فيها لغوب سورة فاطر 32 35 فأمه محمد هم الذين أورثوا الكتاب بعد الأمتين قبلهم اليهود والنصارى وقد أخبر الله أنهم الذين اصطفى

وتواتر عن النبي أنه قال خير القرون القرن الذي بعثت فيهم ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم ومحمد وأصحابه هم المصطفون من المصطفين من عباد الله

قال تعالى محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم تراهم ركعا سجدا يبتغون فضلا من الله ورضوانا سيماهم في وجوههم من أثر السجود ذلك مثلهم في التوراة ومثلهم في الإنجيل كزرع أخرج شطأه فأزره فاستغلظ فاستوى على سوقه يعجب الزراع ليغيظ بهم الكفار وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات منهم مغفرة وأجرا عظيما سورة الفتح 2وقال تعالى وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا يعبدونني لا يشركون بي شيئا ومن كفر بعد ذلك فأولئك هم الفاسقون سورة النور 55 فقد وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات بالاستخلاف كما وعدهم في تلك الآية مغفرة وأجرا عظيما والله لا يخلف الميعاد فدل ذلك على أن الذين استخلفهم كما استخلف الذين من قبلهم ومكن لهم دين الإسلام وهو الدين الذي ارتضاه لهم كما قال تعالى ورضيت لكم الإسلام دينا

سورة المائدة 3 وبدلهم من بعد خوفهم أمنا لهم منه المغفرة والأجر العظيم

وهذا يستدل به من وجهين يستدل به على أن المستخلفين مؤمنون عملوا الصالحات لأن الوعد لهم لا لغيرهم ويستدل به على أن هؤلاء مغفور لهم ولهم مغفرة وأجر عظيم لأنهم آمنوا وعملوا الصالحات فتناولتهم الآيتان آية النور وآية الفتح

ومن المعلوم أن هذه النعوت منطبقة على الصحابة على زمن أبي بكر وعمر وعثمان فإنه إذ ذاك حصل الاستخلاف وتمكن الدين والأمن بعد الخوف لما قهروا فارس والروم وفتحوا الشام والعراق ومصر وخراسان وإفريقية ولما قتل عثمان وحصلت الفتنة لم يفتحوا شيئا من بلاد الكفار بل طمع فيهم الكفار بالشام وخراسان وكان بعضهم يخاف بعضا

وحينئذ فقد دل القرآن على إيمان أبي بكر وعمر وعثمان ومن كان معهم في زمن الاستخلاف والتمكين والأمن والذين كانوا في زمن الاستخلاف والتمكين والأمن وأدركوا زمن الفتنة كعلي وطلحة والزبير وأبي موسى الأشعري ومعاوية وعمرو بن العاص دخلوا في الآية لأنهم استخلفوا ومكنوا وأمنوا

وأما من حدث في زمن الفتنة كالرافضة الذين حدثوا في الإسلام في زمن الفتنة والإفتراق وكالخوارج المارقين فهؤلاء لم يتناولهم النص فلم يدخلو فيمن وصف بالإيمان والعمل الصالح المذكورين في هذه الآية لأنهم أولا ليسو من الصحابة المخاطبين بهذا ولم يحصل لهم من الاستخلاف والتمكين والأمن بعد الخوف ما حصل للصحابة بل لا يزالون خائفين مقلقلين غير ممكنين

فإن قيل: لم قال وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات منهم سورة الفتح 29 ولم يقل وعدهم كلهم

قيل:

كما قال وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات سورة النور 55 ولم يقل وعدكم

ومن تكون لبيان الجنس فلا يقتضي أن يكون قد بقى من المجرور بها شيء خارج عن ذلك الجنس كما في قوله تعالى فاجتنبوا الرجس من الأوثان سورة الحج 30 فإنه لا يقتضى أن يكون من الأوثان ما ليس برجس

وإذا قلت ثوب من حرير فهو كقولك ثوب حرير وكذلك قولك باب من حديد كقولك باب حديد وذلك لا يقتضى أن يكون هناك حرير وحديد غير المضاف إليه وإن كان الذي يتصوره كليا

فإن الجنس الكلي هو ما لا يمنع تصوره من وقوع الشركة فيه وإن لم يكن مشتركا فيه في الوجود فإذا كانت من لبيان الجنس كان التقدير وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات من هذا الجنس وإن كان الجنس كلهم مؤمنين مصلحين

وكذلك إذا قال وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات من هذا الجنس والصنف مغفرة وأجرا عظيما لم يمنع ذلك أن يكون جميع هذا الجنس مؤمنين صالحين

ولما قال لأزواج النبي ومن يقنت منكن لله ورسوله وتعمل صالحا نوتها أجرها مرتين وأعتدنا لها رزقا كريما سورة الأحزاب 31 لم يمنع أن يكون كل منهن تقنت لله ورسوله وتعمل صالحا

ولما قال تعالى وإذا جاءك الذين يؤمنون بآياتنا فقل سلام عليكم كتب ربكم على نفسه الرحمة أنه من عمل منكم سوءا بجهالة ثم تاب من بعده وأصلح فأنه غفور رحيم سورة الأنعام 54 لم يمنع هذا أن يكون كل منهم متصفا بهذه الصفة ويجوز أن يقال إنهم لو عملوا سوءا بجهالة ثم تابوا من بعده وأصلحوا لم يغفر إلا لبعضهم

ولهذا تدخل من هذه في النفي لتحقيق نفي الجنس كما في قوله تعالى وما ألتناهم من عملهم من شيء سورة الطور 21 وقوله وما من إله إلا الله سورة آل عمران 62 وقوله فما منكم من أحد عن حاجزين سورة الحاقة 4ولهذا إذا دخلت في النفي تحقيقا أو تقديرا أفادت نفى الجنس قطعا فالتحقيق ما ذكر والتقدير كقوله تعالى لا إله إلا الله سورة آل عمران 62 وقوله لا ريب فيه سورة البقرة 2 ونحو ذلك بخلاف ما إذا لم تكن من موجودة كقولك ما رأيت رجلا فإنها ظاهرة لنفى الجنس ولكن قد يجوز أن ينفى بها الواحد من الجنس كما قال سيبويه يجوز أن يقال ما رأيت رجلا بل رجلين فتبين أنه يجوز إرادة الواحد وإن كان الظاهر نفى الجنس بخلاف ما إذا دخلت من فإنها تنفى نفي الجنس قطعا

ولهذا لو قال لعبيده من أعطاني منكم ألفا فهو حر فأعطاه كل واحد ألفا عتقوا كلهم وكذلك لو قال لنسائه من أبرأتني منكن من صداقها فهي طالق فأبرأنه كلهن طلقن كلهن فإن المقصود بقوله منكم بيان جنس المعطى والمبرئ لا إثبات هذا الحكم لبعض العبيد والأزواج

فإن قيل: فهذا كما لا يمنع أن يكون كل المذكور متصفا بهذه الصفة فلا يوجب ذلك أيضا فليس في قوله وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ما يقتضي أن يكونوا كلهم كذلك

قيل: نعم ونحن لا ندعى أن مجرد هذا اللفظ دل على أن جميعهم موصوفون بالإيمان والعمل الصالح ولكن مقصودنا أن من لا ينافي شمول هذا الوصف لهم فلا يقول قائل إن الخطاب دل على أن المدح شملهم وعمهم بقوله محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم إلى آخر الكلام

ولا ريب أن هذا مدح لهم مدح بما ذكر من الصفات وهو الشدة على الكفار والرحمة بينهم والركوع والسجود يبتغون فضلا من الله ورضوانا والسيما في وجوههم من أثر السجود وأنهم يبتدئون من ضعف إلى كمال القوة والإعتدال كالزرع والوعد بالمغفرة والأجر العظيم ليس على مجرد هذه الصفات بل على الإيمان والعمل الصالح فذكر ما به يستحقون الوعد وإن كانوا كلهم بهذه الصفة ولولا ذكر ذلك لكان يظن أنهم بمجرد ما ذكر يستحقون المغفرة والأجر العظيم ولم يكن فيه بيان سبب الجزاء بخلاف ما إذا ذكر الإيمان

والعمل الصالح فإن الحكم إذا علق باسم مشتق مناسب كان ما منه الاشتقاق سبب الحكم

فإن قيل: فالمنافقون كانوا في الظاهر مسلمين

قيل: المنافقون لم يكونوا متصفين بهذه الصفات ولم يكونوا مع الرسول والمؤمنين ولم يكونوا منهم كما قال تعالى فعسى الله أن يأتي بالفتح أو أمر من عنده فيصبحوا على ما أسروا في أنفسهم نادمين ويقول الذين آمنوا أهؤلاء الذين أقسموا بالله جهد أيمانهم إنهم لمعكم حبطت أعمالهم فأصبحوا خاسرين سورة المائدة 52 53

وقوله تعالى ومن الناس من يقول آمنا بالله فإذا أوذي في الله جعل فتنة الناس كعذاب الله ولئن جاء نصر من ربك ليقولن إنا كنا معكم أو ليس الله بأعلم بما في صدور العالمين وليعلمن الله الذين آمنوا وليعلمن المنافقين سورة العنكبوت 10 1وقال إن الله جامع المنافقين والكافرين في جهنم جميعا الذين يتربصون بكم فإن كان لكم فتح من الله قالوا ألم نكن معكم وإن كان للكافرين نصيب قالوا ألم نستحوذ عليكم ونمنعكم من المؤمنين فالله يحكم بينكم يوم القيامة سورة النساء 140 141 إلى قوله إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار ولن تجد لهم نصيرا إلا الذين تابوا وأصلحوا واعتصموا بالله وأخلصوا دينهم لله فأولئك مع المؤمنين وسوف يؤت الله المؤمنين أجرا عظيما سورة النساء 145 144

وقال تعالى ويحلفون بالله إنهم لمنكم وما هم منكم ولكنهم قوم يفرقون سورة التوبة 5وقال تعالى ألم تر إلى الذين تولوا قوما غضب الله عليهم ما هم منكم ولا منهم ويحلفون على الكذب وهم يعلمون سورة المجادلة 14 فأخبر أن المنافقين ليسوا من المؤمنين ولا من أهل الكتاب وهؤلاء لا يوجدون في طائفة من المتظاهرين بالإسلام أكثر منهم في الرافضة ومن انضوى إليهم

وقد قال تعالى يوم لا يخزى الله النبي والذين آمنوا معه نورهم يسعى بين أيديهم وبأيمانهم يقولون ربنا أتمم لنا نورنا واغفر لنا إنك على كل شيء قدير سورة التحريم وقال تعالى يوم يقول المنافقون والمنافقات للذين آمنوا انظرونا نقتبس من نوركم قيل ارجعوا وراءكم فالتمسوا نورا سورة الحديد 13 فدل هذا على أن المنافقين لم يكونوا داخلين في الذين آمنوا معه والذين كانوا منافقين منهم من تاب عن نفاقه وانتهى عنه وهم الغالب بدليل قوله تعالى لئن لم ينته المنافقون والذين في قلوبهم مرض والمرجفون في المدينة لنغرينك بهم ثم لا يجاورونك فيها إلا قليلا ملعونين أينما ثقفوا أخذوا وقتلوا تقتيلا سورة الأحزاب 061 - فلما لم يغره الله بهم ولم يقتلهم تقتيلا بل كانوا يجاورونه بالمدينة دل ذلك على أنهم انتهوا

والذين كانوا معه بالحديبية كلهم بايعه تحت الشجرة إلا الجد بن قيس فإنه اختبأ تحت جمل أحمر، وكذا جاء في الحديث كلهم يدخل الجنة إلا صاحب الجمل الأحمر

وبالجملة فلا ريب أن المنافقين كانوا مغمورين أذلاء مقهورين لا سيما في آخر أيام النبي وفي غزوة تبوك لأن الله تعالى قال يقولون لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين ولكن المنافقين لا يعلمون سورة المنافقين 8 فأخبر أن العزة للمؤمنين لا للمنافقين فعلم أن العزة والقوة كانت في المؤمنين وأن المنافقين كانوا أذلاء بينهم

فيمتنع أن يكون الصحابة الذين كانوا أعز المسلمين من المنافقين بل ذلك يقتضى أن من كان أعز كان أعظم إيمانا ومن المعلوم أن السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار الخلفاء الراشدين وغيرهم كانوا أعز الناس وهذا كله مما يبين أن المنافقين كانوا ذليلين في المؤمنين فلا يجوز أن يكون الأعزاء من الصحابة منهم ولكن هذا الوصف مطابق للمتصفين به من الرافضة وغيرهم

والنفاق والزندقة في الرافضة أكثر منه في سائر الطوائف بل لا بد لكل منهم من شعبة نفاق فإن أساس النفاق الذي بنى عليه الكذب وأن يقول الرجل بلسانه ما ليس في قلبه كما أخبر الله تعالى عن المنافقين أنهم يقولون بألسنتهم ما ليس في قلوبهم

والرافضة تجعل هذا من أصول دينها وتسميه التقية وتحكى هذا عن أئمة أهل البيت الذين برأهم الله عن ذلك حتى يحكوا عن جعفر الصادق أنه قال التقية دينى ودين آبائي

وقد نزه الله المؤمنين من أهل البيت وغيرهم عن ذلك بل كانوا من أعظم الناس صدقا وتحقيقا للإيمان وكان دينهم التقوى لا التقية

وقول الله تعالى لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين ومن يفعل ذلك فليس من الله في شيء إلا أن تتقوا منهم تقاة

سورة آل عمران 28 إنما هو الأمر بالإتقاء من الكفار لا الأمر بالنفاق والكذب

والله تعالى قد أباح لمن أكره على كلمة الكفر أن يتكلم بها إذا كان قلبه مطمئنا بالإيمان لكن لم يكره أحد من أهل البيت على شيء من ذلك حتى أن أبا بكر رضي الله عنه لم يكره أحدا لا منهم ولا من غيرهم على مبايعته فضلا أن يكرههم على مدحه والثناء عليه بل كان علي وغيره من أهل البيت يظهرون ذكر فضائل الصحابة والثناء عليهم والترحم عليهم والدعاء لهم ولم يكن أحد يكرههم على شيء منه باتفاق الناس

وقد كان في زمن بنى أمية وبنى العباس خلق عظيم دون علي وغيره في الإيمان والتقوى يكرهون منهم أشياء ولا يمدحونهم ولا يثنون عليهم ولا يقربونهم ومع هذا لم يكن هؤلاء يخافونهم ولم يكن أؤلئك يكرهونهم مع أن الخلفاء الراشدين كانوا باتفاق الخلق أبعد عن قهر الناس وعقوبتهم على طاعتهم من هؤلاء فإذا لم يكن الناس مع هؤلاء مكرهين على أن يقولوا بألسنتهم خلاف ما في قلوبهم فكيف يكونون مكرهين مع الخلفاء على ذلك بل على الكذب وشهادة الزور وإظهار الكفر كما تقوله الرافضة من غير أن يكرههم أحد على ذلك

فعلم أن ما تتظاهر به الرافضة هو من باب الكذب والنفاق وأن يقولوا بألسنتهم ما ليس في قلوبهم لا من باب ما يكره المؤمن عليه من التكلم بالكفر

وهؤلاء أسرى المسلمين في بلاد الكفار غالبهم يظهرون دينهم والخوارج مع تظاهرهم بتكفير الجمهور وتكفير عثمان وعلي ومن والاهما يتظاهرون بدينهم وإذا سكنوا بين الجماعة سكنوا على الموافقة والمخالفة والذي يسكن في مدائن الرافضة فلا يظهر الرفض وغايته إذا ضعف أن يسكت عن ذكر مذهبه لا يحتاج أن يتظاهر بسبب الخلفاء والصحابة إلا أن يكونوا قليلا

فكيف يظن بعلي رضي الله عنه وغيره من أهل البيت أنهم كانوا أضعف دينا وقلوبا من الأسرى في بلاد الكفر ومن عوام أهل السنة ومن النواصب مع أنا قد علمنا بالتواتر أن أحدا لم يكره عليا ولا أولاده على ذكر فضائل الخلفاء والترحم عليهم بل كانوا يقولون ذلك من غير إكراه ويقوله أحدهم لخاصته كما ثبت ذلك بالنقل المتواتر

وأيضا فقد يقال في قوله تعالى وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات سورة النور 55 إن ذلك وصف للجملة بوصف يتضمن حالهم عند الإجتماع كقوله تعالى ومثلهم في الإنجيل كزرع أخرج شطأه فآزره فاستغلظ فاستوى على سوقه يعجب الزراع ليغيظ بهم الكفار سورة الفتح 29 والمغفرة والأجر في الآخرة يحصل لكل واحد واحد فلا بد أن يتصف بسبب ذلك وهو الإيمان والعمل الصالح إذ قد يكون في الجملة منافق

وفي الجملة كل ما في القرآن من خطاب المؤمنين والمتقين والمحسنين ومدحهم والثناء عليهم فهم أول من دخل في ذلك من هذه الأمة وافضل من دخل في ذلك من هذه الأمة كما استفاض عن النبي من غير وجه أنه قال خير القرون القرن الذي بعثت فيهم ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم

الوجه الثاني

في بيان كذبه وتحريفه فيما نقله عن حال الصحابة بعد موت النبي

قوله

فبعضهم طلب الأمر لنفسه بغير حق وبايعه أكثر الناس طلبا للدنيا

وهذا إشارة إلى أبي بكر فإنه هو الذي بايعه أكثر الناس ومن المعلوم أن أبا بكر لم يطلب الأمر لنفسه لا بحق ولا بغير حق بل قال قد رضيت لكم أحد هذين الرجلين إما عمر بن الخطاب وإما أبا عبيدة قال عمر فوالله لأن أقدم فتضرب عنقي لا يقربني ذلك إلى إثم أحب إلي من أن أتأمر على قوم فيهم أبو بكر وهذا اللفظ في الصحيحين

وقد روى عنه أيضا أنه قال أقيلوني أقيلوني فالمسلمون أختاروه وبايعوه لعلمهم بأنه خيرهم كما قال له عمر يوم السقيفة بمحضر المهاجرين والأنصار أنت سيدنا وخيرنا وأحبنا إلى رسول الله ولم ينكر ذلك أحد وهذا أيضا في الصحيحين والمسلمون اختاروه كما قال النبي في الحديث الصحيح لعائشة ادعى لي أباك وأخاك حتى أكتب لأبي بكر كتابا لا يختلف عليه الناس من بعدي ثم قال يأبى الله والمؤمنون إلا أبا بكر فأبى الله وعباده المؤمنون أن يتولى غير أبي بكر فالله هو ولاه قدرا وشرعا وأمر المؤمنين بولايته وهداهم إلى أن ولوه من غير أن يكون طلب ذلك لنفسه

الوجه الثالث

أن يقال فهب أنه طلبها وبايعه أكثر الناس فقولكم إن ذلك طلب للدنيا كذب ظاهر فإن أبا بكر رضي الله عنه لم يعطهم دنيا وكان قد أنفق ماله في حياة النبي ولما رغب النبي في الصدقة جاء بماله كله فقال له ما تركت لأهلك قال تركت لهم الله ورسوله

والذين بايعوه هم أزهد الناس في الدنيا وهو الذين أثنى الله عليهم وقد علم الخاص والعام زهد عمر وأبي عبيدة وأمثالهما وإنفاق الأنصار أموالهم كأسيد بن حضير وأبي طلحة وأبي أيوب وأمثالهم ولم يكن عند موت النبي لهم بيت مال يعطيهم ما فيه ولا كان هناك ديوان للعطاء يفرض لهم فيه فالأنصار كانوا في أملاكهم وكذلك المهاجرون من كان له شيء من مغنم أو غيره فقد كان له

وكانت سيرة أبي بكر في قسم الأموال التسوية وكذلك سيرة علي رضي الله عنه فلو بايعو عليا أعطاهم أبو بكر مع كون قبيلته أشرف القبائل وكون بني عبد مناف وهم أشرف قريش الذين هم أقرب العرب من بني أمية وغيرهم إذ ذاك كأبي سفيان بن حرب وغيره وبني هاشم كالعباس وغيره كانوا معه

وقد أراد أبو سفيان أن تكون الإمارة في بني عبد مناف على عادة الجاهلية فلم يجبه إلى ذلك علي ولا عثمان ولا غيرهما لعلمهم ودينهم

فأي رياسة وأي مال كان لجمهور المسلمين بمبايعة أبي بكر لا سيما وهو يسوي بين السابقين الأولين وبين آحاد المسلمين في العطاء ويقول إنما أسلموا لله وأجورهم على الله وإنما هذا المتاع بلاغ وقال لعمر لما أشار عليه بالتفضيل في العطاء أفأشتري منهم إيمانهم

فالسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار الذين بايعوه أولا كعمر وأبي عبيدة وأسيد بن حضير وغيرهم سوى بينهم وبين الطلقاء الذين أسلموا عام الفتح بل وبين من أسلم بعد موت النبي فهل حصل لهؤلاء من الدنيا بولايته شيء

الوجه الرابع

أن يقال أهل السنة مع الرافضة كالمسلمين مع النصارى فإن المسلمين يؤمنون بأن المسيح عبدالله ورسوله ولا يغلون فيه غلو النصارى ولا يجفون جفاء اليهود والنصارى تدعي فيه الإلهية وتريد أن تفضله على محمد وإبراهيم وموسى بل تفضل الحواريين على هؤلاء الرسل كما تريد الروافض أن تفضل من قاتل مع علي كمحمد ابن أبي بكر والأشتر النخعي على أبي بكر وعمر وعثمان وجمهور الصحابة من المهاجرين والأنصار فالمسلم إذا ناظر النصراني لا يمكنه أن يقول في عيسى إلا الحق لكن إذا أردت أن تعرف جهل النصراني وأنه لا حجة له فقدر المناظرة بينه وبين اليهودي فإن النصراني لا يمكنه أن يجيب عن شبهة اليهودي إلا بما يجيب به المسلم فإن لم يدخل في دين الإسلام وإلا كان منقطعا مع اليهودي فإنه إذا أمر بالإيمان بمحمد فإن قدح في نبوته بشيء من الأشياء لم يمكنه أن يقول شيئا إلا قال له اليهودي في المسيح ما هو أعظم من ذلك فإن البينات لمحمد أعظم من البينات للمسيح وبعد أمر محمد عن الشبهة أعظم من بعد المسيح عن الشبهة فإن جاز القدح فيما دليله أعظم وشبهته أبعد عن الحق فالقدح فيما دونه أولى وإن كان القدح في المسيح باطلا فالقدح في محمد أولى بالبطلان فإنه إذا بطلت الشبهة القوية فالضعيفة أولى بالبطلان وإذا ثبتت الحجة التي غيرها أقوى منها فالقوية أولى بالثبات

ولهذا كان مناظرة كثيرة من المسلمين للنصارى من هذا الباب كالحكاية المعروفة عن القاضي أبي بكر بن الطيب لما أرسله المسلمون إلى ملك النصارى بالقسطنطينية فإنهم عظموه وعرف النصارى قدره فخافوا أن لا يسجد للملك إذا دخل فأدخلوه من باب صغير ليدخل منحنيا ففطن لمكرهم فدخل مستدبرا متلقيا لهم بعجزه ففعل نقيض ما قصدوه ولما جلس وكلموه أراد بعضهم القدح في المسلمين فقال له ما قيل في عائشة امرأة نبيكم يريد إظهار قول الإفك الذي يقوله من يقوله من الرافضة أيضا فقال القاضي ثنتان قدح فيهما ورميتا بالزنا إفكا وكذبا مريم وعائشة فأما مريم فجاءت بالولد تحمله من غير زوج وأما عائشة فلم تأت بولد مع أنه كان لها زوج فأبهت النصارى

وكان مضمون كلامه أن ظهور براءة عائشة أعظم من ظهور براءة مريم وأن الشبهة إلى مريم أقرب منها إلى عائشة فإذا كان مع هذا قد ثبت كذب القادحين في مريم فثبوت كذب القادحين في عائشة أولى

ومثل هذه المناظرة أن يقع التفضيل بين طائفتين ومحاسن إحداهما أكثر وأعظم ومساويها أقل وأصغر فإذا ذكر ما فيها من ذلك عورض بأن مساوئ تلك أعظم كقوله تعالى يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه قل قتال فيه كبير ثم قال وصد عن سبيل الله وكفر به والمسجد الحرام وإخراج أهله منه أكبر عند الله والفتنة أكبر من القتل سورة البقرة 217 فإن الكفار عيروا سرية من سرايا المسلمين بأنهم قتلوا ابن الحضرمي في الشهر الحرام فقال تعالى هذا كبير وما عليه المشركون من الكفر بالله والصد عن سبيله وعن المسجد الحرام وإخراج أهله منه أكبر عند الله فإن هذا صد عما لا تحصل النجاة والسعادة إلا به وفيه من انتهاك المسجد الحرام ما هو أعظم من انتهاك الشهر الحرام

لكن هذا النوع قد اشتملت كل من الطائفتين فيه على ما يذم وأما النوع الأول فيكون كل من الطائفتين لا يستحق الذم بل هناك شبه في الموضعين وأدلة في الموضعين وأدلة أحد الصنفين أقوى وأظهر وشبهته أضعف وأخفى فيكون أولى بثبوت الحق ممن تكون أدلته أضعف وشبهته أقوى

وهذا حال النصارى واليهود مع المسلمين وهو حال أهل البدع مع أهل السنة لا سيما الرافضة

وهكذا أمر أهل السنة مع الرافضة في أبي بكر وعلي فإن الرافضي لا يمكنه أن يثبت إيمان على وعدالته وأنه من أهل الجنة فضلا عن إمامته إن لم يثبت ذلك لأبي بكر وعمر وعثمان وإلا فمتى أراد إثبات ذلك لعلي وحده لم تساعده الأدلة كما أن النصراني إذا أراد إثبات نبوة المسيح دون محمد لم تساعده الأدلة فإذا قالت له الخوارج الذين يكفرون عليا أو النواصب الذين يفسقونه إنه كان ظالما طالبا للدنيا وإنه طلب الخلافة لنفسه وقاتل عليها بالسيف وقتل على ذلك ألوفا من المسلمين حتى عجز عن انفراده بالأمر وتفرق عليه أصحابه وظهروا عليه فقاتلوه فهذا الكلام إن كان فاسدا ففساد كلام الرافضي في أبي بكر وعمر أعظم وإن كان ما قاله في أبي بكر وعمر متوجها مقبولا فهذا أولى بالتوجه والقبول لأنه من المعلوم للخاصة والعامة أن من ولاه الناس باختيارهم ورضاهم من غير أن يضرب أحدا لا بسيف ولا عصا ولا أعطى أحدا ممن ولاه مالا واجتمعوا عليه فلم يول أحدا من أقاربه وعترته ولا خلف لورثته مالا من مال المسلمين وكان له مال قد أنفقه في سبيل الله فلم يأخذ بدله وأوصى أن يرد إلى بيت مالهم ماكان عنده لهم وهو جرد قطيفة وبكر وأمة سوداء ونحو ذلك حتى قال عبدالرحمن بن عوف لعمر أتسلب هذا آل أبي بكر قال كلا والله لا يتحنث فيها أبو بكر وأتحملها أنا وقال يرحمك الله يا أبا بكر لقد أتعبت الأمراء بعدك

ثم مع هذا لم يقتل مسلما على ولايته ولا قاتل مسلما بمسلم بل قاتل بهم المرتدين عن دينهم والكفار حتى شرع بهم في فتح الأمصار واستخلف القوي الأمين العبقري الذي فتح الأمصار ونصب الديوان وعمر بالعدل والإحسان

فإن جاز للرافضي أن يقول إن هذا كان طالبا للمال والرياسة أمكن الناصبي أن يقول كان علي ظالما طالبا للمال والرياسة قاتل على الولاية حتى قتل المسلمين بعضهم بعضا ولم يقاتل كافرا ولم يحصل للمسلمين في مدة ولايته إلا شر وفتنة في دينهم ودنياهم

فإن جاز أن يقال علي كان مريدا لوجه الله والتقصير من غيره من الصحابة أو يقال كان مجتهدا مصيبا وغيره مخطئا مع هذه الحال فأن يقال كان أبو بكر وعمر مريدين وجه الله مصيبين والرافضة مقصرون في معرفة حقهم مخطئون في ذمهم بطريق الأولى والأحرى فإن أبا بكر وعمر كان بعدهما عن شبهة طلب الرياسة والمال أشد من بعد علي عن ذلك وشبهة الخوارج الذين ذموا عليا وعثمان وكفروهما أقرب من شبهة الرافضة الذين ذموا أبا بكر وعمر وعثمان وكفروهم فكيف بحال الصحابة والتابعين الذين تخلفوا عن بيعته أو قاتلوه فشبهتهم أقوى من شبهة من قدح في أبي بكر وعمر وعثمان فإن أولئك قالوا ما يمكننا أن نبايع إلا من يعدل علينا ويمنعنا ممن يظلمنا ويأخذ حقنا ممن ظلمنا فإذا لم يفعل هذا كان عاجزا أو ظالما وليس علينا أن نبايع عاجزا أو ظالما

وهذا الكلام إذا كان باطلا فبطلان قول من يقول إن أبا بكر وعمر كانا ظالمين طالبين للمال والرياسة أبطل وأبطل وهذا الأمر لا يستريب فيه من له بصر ومعرفة وأين شبهة مثل أبي موسى الأشعري الذي وافق عمرا على عزل علي ومعاوية وأن يجعل الأمر شورى في المسلمين من شبهة عبدالله بن سبأ وأمثاله الذين يدعون أنه إمام معصوم أو أنه إله أو نبي بل أين شبهة الذين رأوا أن يولوا معاوية من شبهة الذين يدعون أنه إله أو نبي فإن هؤلاء كفار باتفاق المسلمين بخلاف أولئك

ومما يبين هذا أن الرافضة تعجز عن إثبات إيمان علي وعدالته مع كونهم على مذهب الرافضة ولا يمكنهم ذلك إلا إذا صاروا من أهل السنة فإذا قالت لهم الخوارج وغيرهم ممن تكفره أو تفسقه لا نسلم أنه كان مؤمنا بل كان كافرا أو ظالما كما يقولون هم في أبي بكر وعمر لم يكن لهم دليل على إيمانه وعدله إلا وذلك الدليل على إيمان أبي بكر وعمر وعثمان أدل

فإن احتجوا بما تواتر من إسلامه وهجرته وجهاده فقد تواتر ذلك عن هؤلاء بل تواتر إسلام معاوية ويزيد وخلفاء بني أمية وبني العباس وصلاتهم وصيامهم وجهادهم للكفار فإن ادعوا في واحد من هؤلاء النفاق أمكن الخارجي أن يدعى النفاق وإذا ذكروا شبهة ذكر ما هو أعظم منها

وإذا قالوا ما تقوله أهل الفرية من أن أبا بكر وعمر كانا منافقين في الباطن عدوين للنبي أفسدا دينه بحسب الإمكان أمكن الخارجي أن يقول ذلك في علي ويوجه ذلك بأن يقول كان يحسد ابن عمه والعداوة في الأهل وأنه كان يريد فساد دينه فلم يتمكن من ذلك في حياته وحياة الخلفاء الثلاثة حتى سعى في قتل الخليفة الثالث وأوقد الفتنة حتى تمكن من قتل أصحاب محمد وأمته بغضا له وعداوة وأنه كان مباطنا للمنافقين الذين ادعوا فيه الإلهية والنبوة وكان يظهر خلاف ما يبطن لأن دينه التقية فلما أحرقهم بالنار أظهر إنكار ذلك وإلا فكان في الباطن معهم ولهذا كانت الباطنية من أتباعه وعندهم سره وهم ينقلون عنه الباطن الذين ينتحلونه

ويقول الخارجي مثل هذا الكلام الذي يروج على كثير من الناس أعظم مما يروج كلام الرافضة في الخلفاء الثلاثة لأن شبه الرافضة أظهر فسادا من شبه الخوارج والنواصب والخوارج أصح منهم عقلا وقصدا والرافضة أكذب وأفسد دينا

وإن أرادوا إثبات إيمانه وعدالته بنص القرآن عليه، قيل لهم القرآن عام وتناوله له ليس بأعظم من تناوله لغيره وما من آية يدعون اختصاصها به إلا أمكن أن يدعى اختصاصها أو اختصاص مثلها أو أعظم منها بأبي بكر وعمر فباب الدعوى بلا حجة ممكنة والدعوى في فضل الشيخين أمكن منها في فضل غيرهما

وإن قالوا ثبت ذلك بالنقل والرواية فالنقل والرواية في أولئك أشهر وأكثر فإن ادعوا تواترا فالتواتر هناك أصح وإن اعتمدوا على نقل الصحابة فنقلهم لفضائل أبي بكر وعمر أكثر

ثم هم يقولون إن الصحابة ارتدوا إلا نفرا قليلا فكيف تقبل رواية هؤلاء في فضيلة أحد ولم يكن في الصحابة رافضة كثيرون يتواتر نقلهم فطريق النقل مقطوع عليهم إن لم يسلكوا طريق أهل السنة كما هو مقطوع على النصارى في إثبات نبوة المسيح إن لم يسلكوا طريق المسلمين

وهذا كمن أراد أن يثبت فقه ابن عباس دون علي أو فقه ابن عمر دون أبيه أوفقه علقمة والأسود دون ابن مسعود ونحو ذلك من الأمور التي يثبت فيها للشيء حكم دون ما هو أولى بذلك الحكم منه فإن هذا تناقض ممتنع عند من سلك طريق العلم والعدل

ولهذا كانت الرافضة من أجهل الناس وأضلهم كما أن النصارى من أجهل الناس والرافضة من أخبث الناس كما أن اليهود من أخبث الناس ففيهم نوع من ضلال النصارى ونوع من خبث اليهود

الوجه الخامس

أن يقال تمثيل هذا بقصة عمر بن سعد لما خيره عبيدالله بن زياد بين الخروج في السرية التي أرسلها إلى الحسين وبين عزله عن الرى من أقبح القياس فإذا كان عمر بن سعد طالبا للرياسة والمال مقدما على المحرم لأجل ذلك أفيلزم أن يكون السابقون الأولون بهذه الحال

وهذا أبوه سعد بن أبي وقاص كان من أزهد الناس في الإمارة والولاية ولما وقعت الفتنة اعتزل الناس في قصره بالعقيق وجاءه عمر ابنه هذا فلامه على ذلك وقال له الناس في المدينة يتنازعون الملك وأنت ههنا فقال اذهب فإني سمعت رسول الله يقول إن الله يحب العبد التقي الغني الخفي

وهذا ولم يكن قد بقى أحد من أهل الشورى غيره وغير علي رضي الله عنهما وهو الذي فتح العراق وأذل جنود كسرى وهو آخر العشرة موتا فإذا لم يحسن أن يشبه بابنه عمر أيشبه به أبو بكر وعمر وعثمان

هذا وهم لا يجعلون محمد بن أبي بكر بمنزلة أبيه بل يفضلون محمدا ويعظمونه ويتولونه لكونه آذى عثمان وكان من خواص أصحاب علي لأنه كان ربيبه ويسبون أباه أبا بكر ويلعنونه

فلو أن النواصب فعلوا بعمر بن سعد مثل ذلك فمدحوه على قتل الحسين لكونه كان من شيعة عثمان ومن المنتصرين له وسبوا أباه سعدا لكونه تخلف عن القتال مع معاوية والانتصار لعثمان هل كانت النواصب لو فعلت ذلك إلا من جنس الرافضة بل الرافضة شر منهم فإن أبا بكر أفضل من سعد وعثمان كان أبعد عن استحقاق القتل من الحسين وكلاهما مظلوم شهيد رضي الله عنهما

ولهذا كان الفساد الذي حصل في الأمة بقتل عثمان أعظم من الفساد الذي حصل في الأمة بقتل الحسين وعثمان من السابقين الأولين وهو خليفة مظلوم طلب منه أن ينعزل بغير حق فلم ينعزل ولم يدفع عن نفسه حتى قتل والحسين رضي الله عنه لم يكن متوليا وإنما كان طالبا للولاية حتى رأى أنها متعذرة وطلب منه أن يستأسر نفسه ليحمل إلى يزيد مأسورا فلم يجب إلى ذلك وقاتل حتى قتل شهيدا مظلوما فظلم عثمان كان أعظم وصبره وحلمه كان أكمل وكلاهما مظلوم شهيد

ولو مثل ممثل طلب علي والحسين للأمر بطلب الإسماعيلية كالحاكم وأمثاله وقال إن عليا والحسين كانا ظالمين طالبين للرياسة بغير حق بمنزلة الحاكم وأمثاله من ملوك بني عبيد أما كان يكون كاذبا مفتريا في ذلك لصحة إيمان علي والحسين ودينهما وفضلهما ولنفاق هؤلاء وإلحادهم

وكذلك من شبه عليا والحسين ببعض من قام من الطالبيين أو غيرهم بالحجاز أو الشرق أو الغرب يطلب الولاية بغير حق ويظلم الناس في أموالهم وأنفسهم أما كان يكون ظالما كاذبا

فالمشبه لأبي بكر وعمر بعمر بن سعد أولى بالكذب والظلم ثم غاية عمر بن سعد وأمثاله أن يعترف بأنه طلب الدنيا بمعصية يعترف أنها معصية وهذا ذنب كثير وقوعه من المسلمين

وأما الشيعة فكثير منهم يعترفون بأنهم إنما قصدوا بالملك إفساد دين الإسلام ومعاداة النبي كما يعرف ذلك من خطاب الباطنية وأمثالهم من الداخلين في الشيعة فإنهم يعترفون بأنهم في الحقيقة لا يعتقدون دين الإسلام وإنما يتظاهرون بالتشيع لقلة عقل الشيعة وجهلهم ليتوسلوا بهم إلى أغراضهم

وأول هؤلاء بل خيارهم هو المختار بن أبي عبيد الكذاب فإنه كان أمير الشيعة وقتل عبيدالله بن زياد وأظهر الانتصار للحسين حتى قتل قاتله وتقرب بذلك إلى محمد بن الحنفية وأهل البيت ثم ادعى النبوة وأن جبريل يأتيه

وقد ثبت في صحيح مسلم عن النبي أنه قال سيكون في ثقيف كذاب ومبير فكان الكذاب هو المختار بن أبي عبيد وكان المبير هو الحجاج بن يوسف الثقفي

ومن المعلوم أن عمر بن سعد أمير السرية التي قتلت الحسين مع ظلمه وتقديمه الدنيا على الدين لم يصل في المعصية إلى فعل المختار بن أبي عبيد الذي أظهر الانتصار للحسين وقتل قاتله بل كان هذا أكذب وأعظم ذنبا من عمر بن سعد فهذا الشيعي شر من ذلك الناصبي بل والحجاج بن يوسف خير من المختار بن أبي عبيد فإن الحجاج كان مبيرا كما سماه النبي يسفك الدماء بغير حق والمختار كان كذابا يدعى النبوة وإتيان جبريل إليه وهذا الذنب أعظم من قتل النفوس فإن هذا كفر وإن كان لم يتب منه كان مرتدا والفتنة أعظم من القتل

وهذا باب مطرد لا تجد أحدا ممن تذمه الشيعة بحق أو باطل إلا وفيهم من هو شر منه ولا تجد أحدا ممن تمدحه الشيعة إلا وفيمن تمدحه الخوارج من هو خير منه فإن الروافض شر من النواصب والذين تكفرهم أو تفسقهم الروافض هم أفضل من الذين تكفرهم أو تفسقهم النواصب

وأما أهل السنة فيتولون جميع المؤمنين ويتكلمون بعلم وعدل ليسو من أهل الجهل ولا من أهل الأهواء ويتبرءون من طريقة الروافض والنوصب جميعا ويتولون السابقين والأولين كلهم ويعرفون قدر الصحابة وفضلهم ومناقبهم ويرعون حقوق أهل البيت التي شرعها الله لهم ولا يرضون بما فعله المختار ونحوه من الكذابين ولا ما فعله الحجاج ونحوه من الظالمين ويعلمون مع هذا مراتب السابقين الأولين فيعلمون أن لأبي بكر وعمر من التقدم والفضائل ما لم يشاركهما فيها أحد من الصحابة لا عثمان ولا علي ولا غيرهما

وهذا كان متفقا عليه في الصدر الأول إلا أن يكون خلاف شاذ لا يعبأ به حتى أن الشيعة الأولى أصحاب علي لم يكونوا يرتابون في تقديم أبي بكر وعمر عليه

كيف وقد ثبت عن علي من وجوه متواترة أنه كان يقول خير هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر وعمر ولكن كان طائفة من شيعة علي تقدمه على عثمان وهذه المسألة أخفى من تلك

ولهذا كان أئمة أهل السنة كلهم متفقين على تقديم أبي بكر وعمر من وجوه متواترة كما هو مذهب أبي حنيفة والشافعي ومالك وأحمد بن حنبل والثوري والأوزاعي والليث بن سعد وسائر أئمة المسلمين من أهل الفقه والحديث والزهد والتفسير من المتقدمين والمتأخرين

وأما عثمان وعلي فكان طائفة من أهل المدينة يتوقفون فيهما وهي إحدى الروايتين عن مالك وكان طائفة من الكوفيين يقدمون عليا وهي أحدى الروايتين عن سفيان الثوري ثم قيل إنه رجع عن ذلك لما اجتمع به أيوب السختياني وقال من قدم عليا على عثمان فقد أزرى بالمهاجرين والأنصار وسائر أئمة السنة على تقديم عثمان وهو مذهب جماهير أهل الحديث وعليه يدل النص والإجماع والاعتبار

وأما ما يحكى عن بعض المتقدمين من تقديم جعفر أو تقديم طلحة أو نحو ذلك فذلك في أمور مخصوصة لا تقديما عاما وكذلك ما ينقل عن بعضهم في على

وأما قوله

وبعضهم اشتبه الأمر عليه ورأى لطالب الدنيا متابعا فقلده وبايعه وقصر في نظره فخفي عليه الحق فاستحق المؤاخذة من الله بإعطاء الحق لغير مستحقه

قال

وبعضهم قلد لقصور فطنته ورأى الجم الغفير فتابعهم وتوهم أن الكثرة تستلزم الصواب وغفل عن قوله تعالى وقليل ماهم سورة ص 24 وقليل من عبادي الشكور سورة سبأ 13

فيقال لهذا المفتري الذي جعل الصحابة الذين بايعوا أبا بكر ثلاثة أصناف أكثرهم طلبوا الدنيا وصنف قصروا في النظر وصنف عجزوا عنه لأن الشر إما أن يكون لفساد القصد وإما أن يكون للجهل والجهل إما أن يكون لتفريط في النظر وإما أن يكون لعجز عنه وذكر أنه كان في الصحابة وغيرهم من قصر في النظر حين بايع أبا بكر ولو نظر لعرف الحق وهذا يؤاخذ على تفريطه بترك النظر الواجب وفيهم من عجز عن النظر فقلد الجم الغفير يشير بذلك إلى سبب مبايعة أبي بكر

فيقال له

وهذا من الكذب الذي لا يعحجز عنه أحد والرافضة قوم بهت فلو طلب من هذا المفتري دليل على ذلك لم يكن له على ذلك دليل

والله تعالى قد حرم القول بغير علم فكيف إذا كان المعروف ضد ما قاله فلو لم نكن نحن عالمين بأحوال الصحابة لم يجز أن نشهد عليهم بما لا نعلم من فساد القصد والجهل بالمستحق

قال تعالى ولا تقف ما ليس لك به علم إن السمع والبصر والفؤاد كل أؤلئك كان عنه مسئولا سورة الإسراء 36 وقال تعالى ها أنتم هؤلاء حاججتم فيما لكم به علم فلم تحاجون فيما ليس لكم به علم سورة آل عمران 6فكيف إذا كنا نعلم أنهم كانوا أكمل هذه الأمة عقلا وعلما ودينا كما قال فيهم عبدالله بن مسعود من كان منكم مستنا فليستن بمن قد مات فإن الحي لا تؤمن عليه الفتنة أولئك أصحاب محمد كانوا والله أفضل هذه الأمة وأبرها قلوبا وأعمقها علما وأقلها تكلفا قوم اختارهم الله لصحبة نبيه وإقامة دينه فاعرفوا لهم فضلهم واتبعوهم في آثارهم وتمسكوا بما استطعتم من أخلاقهم ودينهم فإنهم كانوا على الهدى المستقيم رواه غير واحد منهم ابن بطة عن قتادة

وروى هو غيره بالأسانيد المعروفة إلى زر بن حبيش قال قال عبدالله بن مسعود إن الله تبارك وتعالى نظر في قلوب العباد فوجد قلب محمد خير قلوب العباد فاصطفاه لنفسه وابتعثه برسالته ثم نظر في قلوب العباد بعد قلب محمد فوجد قلوب أصحابه خير قلوب العباد فجعلهم وزراء نبيه يقاتلون على دينه فما رآه المسلمون حسنا فهو عند الله حسن وما رآه المسلمون سيئا فهو عند الله سيئ

وفي رواية قال أبو بكر بن عياش الراوي لهذا الأثر عن عاصم بن أبي النجود عن زر بن حبيش عن عبدالله بن مسعود رضي الله عنه وقد رأى أصحاب رسول الله جميعا أن يستخلفوا أبا بكر

وقول عبدالله بن مسعود كانوا أبر هذه الأمة قلوبا وأعمقها علما وأقلها تكلفا كلام جامع بين فيه حسن قصدهم ونياتهم ببر القلوب وبين فيه كمال المعرفة ودقتها بعمق العلم وبين فيه تيسر ذلك عليهم وامتناعهم من القول بلا علم بقلة التكلف

وهذا خلاف ما قاله هذا المفترى الذي وصف أكثرهم بطلب الدنيا وبعضهم بالجهل إما عجزا وإما تفريطا

والذي قاله عبدالله حق فإنهم خير هذه الأمة كما تواترت بذلك الأحاديث عن النبي حيث قال خير القرون القرن الذي بعثت فيهم ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم وهم أفضل الأمة الوسط الشهداء على الناس الذين هداهم الله لما اختلف فيه من الحق بإذنه والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم فليسوا من المغضوب عليهم الذين يتبعون أهواءهم ولا من الضالين الجاهلين كما قسمهم هؤلاء المفترون إلى ضلال وغواة بل لهم كمال العلم وكمال القصد إذا لو لم يكن كذلك للزم أن لا تكون هذه الأمة خير الأمم وأن لا يكونوا خير الأمة وكلاهما خلاف الكتاب والسنة

وأيضا فالاعتبار العقلي يدل على ذلك فإن من تأمل أمة محمد وتأمل أحوال اليهود والنصارى والصابئين والمجوس والمشركين تبين له من فضيلة هذه الأمة على سائر الأمم في العلم النافع والعمل الصالح ما يضيق هذا الموضع عن بسطه

والصحابة أكمل الأمة في ذلك بدلالة الكتاب والسنة والإجماع والاعتبار ولهذا لا تجد أحدا من أعيان الأمة إلا وهو معترف بفضل الصحابة عليه وعلى أمثاله وتجد من ينازع في ذلك كالرافضة من أجهل الناس

ولهذا لا يوجد في أئمة الفقه الذين يرجع إليهم رافضي ولا في أئمة الحديث ولا في أئمة الزهد والعبادة ولا في الجيوش المؤيدة المنصورة جيش رافضي ولا في الملوك الذين نصروا الإسلام وأقاموه وجاهدوا عدوه من هو رافضي ولا في الوزراء الذين لهم سيرة محمودة من هو رافضي

وأكثر ما تجد الرافضة إما في الزنادقة المنافقين الملحدين وإما في جهال ليس لهم علم لا بالمنقولات ولا بالمعقولات قد نشأوا بالبوادي والجبال أو تحيزوا عن المسلمين فلم يجالسوا أهل العلم والدين وإما في ذوي الأهواء ممن قد حصل له بذلك رياسة ومال أو له نسب يتعصب له كفعل أهل الجاهلية

وأما من هو عند المسلمين من أهل العلم والدين فليس في هؤلاء رافضي لظهور الجهل والظلم في قولهم وتجد ظهور الرفض في شر الطوائف كالنصيرية والإسماعيلية والملاحدة الطرقية وفيهم من الكذب والخيانة وإخلاف الوعد ما يدل على نفاقهم كما في الصحيحين عن النبي أنه قال آية المنافق ثلاث إذا حدث كذب وأذا وعد أخلف وإذا اؤتمن خان زاد مسلم وإن صام وصلى وزعم أنه مسلم

وأكثر ما توجد هذه الثلاث في طوائف أهل القبلة في الرافضة

وأيضا فيقال لهذا المفتري: هب أن الذين بايعوا الصديق كانوا كما ذكرت إما طالب دنيا وإما جاهل فقد جاء بعد أولئك في قرون الأمة من يعرف كل أحد ذكاءهم وزكاءهم مثل

سعيد بن المسيب والحسن البصري وعطاء بن أبي رباح وإبراهيم النخعي وعلقمة والأسود وعبيدة السلماني وطاووس ومجاهد وسعيد بن جبير وأبي الشعثاء جابر بن زيد وعلي بن زيد وعلي بن الحسين وعبيدالله بن عبدالله بن عتبة وعروة بن الزبير والقاسم بن محمد بن أبي بكر وأبي بكر بن عبدالرحمن بن الحارث بن هشام ومطرف بن الشخير ومحمد بن واسع وحبيب العجمي ومالك بن دينار ومكحول والحكم بن عتيبة ويزيد بن أبي حبيب ومن لا يحصى عددهم إلا الله

ثم بعدهم مثل أيوب السختياني وعبدالله بن عون ويونس بن عبيد وجعفر بن محمد والزهري وعمرو بن دينار ويحيى بن سعيد الأنصاري وربيعة بن أبي عبدالرحمن وأبي الزناد ويحيى بن أبي كثير وقتادة ومنصور ابن المعتمر والأعمش وحماد بن أبي سليمان وهشام الدستوائي وسعيد ابن أبي عروبة

ومن بعد هؤلاء مثل مالك بن أنس وحماد بن زيد وحماد بن سلمة والليث بن سعد والأوزاعي وأبي حنيفة وابن أبي ليلى وشريك وابن أبي ذئب وابن الماجشون

ومن بعدهم مثل يحيى بن سعيد القطان وعبدالرحمن بن مهدي ووكيع بن الجراح وعبدالرحمن بن القاسم وأشهب بن عبدالعزيز وأبي يوسف ومحمد بن الحسن والشافعي وأحمد بن حنبل وإسحاق ابن راهويه وأبي عبيد وأبي ثور ومن لا يحصى عدده إلا الله ممن ليس لهم غرض في تقديم غير الفاضل لا لأجل رياسة ولا مال وممن هم من أعظم الناس نظرا في العلم وكشفا لحقائقه وهم كلهم متفقون على تفضيل أبي بكر وعمر

بل الشيعة الأولى الذين كانوا على عهد علي كانوا يفضلون أبا بكر وعمر وقال ابن القاسم سألت مالكا عن أبي بكر وعمر فقال ما رأيت أحدا ممن أقتدى به يشك في تقديمهما يعنى على علي وعثمان فحكى إجماع أهل المدينة على تقديمهما

وأهل المدينة لم يكونوا مائلين إلى بني أمية كما كان أهل الشام بل قد خلعوا بيعة يزيد وحاربهم عام الحرة وجرى بالمدينة ما جرى ولم يكن أيضا قتل علي منهم أحدا كما قتل من أهل البصرة ومن أهل الشام بل كانوا يعدونه من علماء المدينة إلى أن خرج منها وهم متفقون على تقديم أبي بكر وعمر فهؤلاء الذين هم أعلم الناس وأدين الناس يرون تفضيله فضلا عن خلافته

وروى البيهقي بإسناده عن الشافعي قال لم يختلف الصحابة والتابعون في تقديم أبي بكر وعمر

وقال شريك بن عبدالله بن أبي نمر وقال له قائل أيما أفضل أبو بكر أو علي فقال له أبو بكر فقال له السائل أتقول هذا وأنت من الشيعة فقال نعم إنما الشيعي من يقول هذا والله لقد رقى علي هذه الأعواد فقال ألا إن خير هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر وعمر أفكنا نرد قوله أفكنا نكذبه والله ما كان كذابا وذكر هذا القاضي عبد الجبار في كتاب تثبيت النبوة له وعزاه إلى كتاب أبي القاسم البلخي الذي صنفه في النقض على ابن الراوندي إعتراضه على الجاحظ

فهؤلاء الذين هم أعلم الناس وأدين الناس يرون تفضيله فضلا عن خلافته فكيف يقال مع هذا إن الذين بايعوه كانوا طلاب الدنيا أو جهالا ولكن هذا وصف الطاعن فيهم فإنك لا تجد في طوائف أهل القبلة أعظم جهلا من الرافضة ولا أكثر حرصا على الدنيا

وقد تدبرتهم فوجدتهم لا يضيفون إلى الصحابة عيبا إلا وهم أعظم الناس اتصافا به والصحابة أبعد الناس عنه فهم أكذب الناس بلا ريب كمسيلمة الكذاب إذ قال أنا نبي صادق ومحمد كذاب ولهذا يصفون أنفسهم بالإيمان ويصفون الصحابة بالنفاق وهم أعظم الطوائف نفاقا والصحابة أعظم الخلق إيمانا

وأما قوله

وبعضهم طلب الأمر لنفسه بحق له وبايعه الأقلون الذين أعرضوا عن الدنيا وزينتهما ولم تأخذهم في الله لومة لائم بل أخلصوا لله واتبعوا ما أمروا به من طاعة من يستحق التقديم وحيث حصل للمسلمين هذه البلية وجب على كل أحد النظر في الحق واعتماد الإنصاف وأن يقر الحق مقره ولا يظلم مستحقه فقد قال تعالى ألا لعنة الله على الظالمين سورة هود 1فيقال له

أولا قد كان الواجب أن يقال لما ذهب طائفة إلى كذا وطائفة إلى كذا وجب أن ينظر أي القولين أصح فأما إذا رضيت إحدى الطائفتين باتباع الحق والأخرى باتباع الباطل فإن كان هذا قد تبين فلا حاجة إلى النظر وإن لم يتبين بعد لم يذكر حتى يتبين

ويقال له

ثانيا قولك إنه طلب الأمر لنفسه بحق له وبايعه الأقلون كذب على علي رضي الله عنه فإنه لم يطلب الأمر لنفسه في خلافة أبي بكر وعمر وعثمان وإنما طلبه لما قتل عثمان وبويع وحينئذ فأكثر الناس كانوا معه لم يكن معه الأقلون

وقد اتفق أهل السنة والشيعة على أن عليا لم يدع إلى مبايعته في خلافة أبي بكر وعمر وعثمان ولا بايعه على ذلك أحد ولكن الرافضة تدعى أنه كان يريد ذلك وتعتقد أنه الإمام المستحق للإمامة دون غيره

لكن كان عاجزا عنه وهذا لو كان حقا لم يفدهم فإنه لم يطلب الأمر لنفسه ولا بايعه أحد على ذلك فكيف إذا كان باطلا

وكذلك قوله بايعه الأقلون كذب على الصحابة فإنه لم يبايع منهم أحد لعلي في عهد الخلفاء الثلاثة ولا يمكن أحد أن يدعي هذا ولكن غاية ما يقول القائل إنه كان فيهم من يختار مبايعته

ونحن نعلم أن عليا لما تولى كان كثير من الناس يختار ولاية معاوية وولاية غيرهما ولما بويع عثمان كان في نفوس بعض الناس ميل إلى غيره فمثل هذا لا يخلو من الوجود وقد كان رسول الله بالمدينة وبها وما حولها منافقون كما قال تعالى وممن حولكم من الأعراب منافقون ومن أهل المدينة مردوا على النفاق لا تعلمهم نحن نعلمهم سورة التوبة 101 وقد قال تعالى عن المشركين وقالوا لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم سورة الزخرف 31 فأحبوا أن ينزل القرآن على من يعظمونه من أهل مكة والطائف قال تعالى أهم يقسمون رحمة ربك نحن قسمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا ورفعنا بعضهم فوق بعض درجات ليتخذ بعضهم بعضا سخريا سورة الزخرف 3وأما وصفه لهؤلاء بأنهم الذين أعرضوا عن الدنيا وزينتها وأنهم لا تأخذهم في الله لومة لائم فهذا من أبين الكذب فإنه لم ير الزهد والجهاد في طائفة أقل منه في الشيعة والخوارج المارقون كانوا أزهد منهم وأعظم قتالا حتى يقال في المثل حملة خارجية وحروبهم مع جيوش بني أمية وبني العباس وغيرهما بالعراق والجزيرة وخراسان والمغرب وغيرها معروفة وكانت لهم ديار يتحيزون فيها لا يقدر عليهم أحد

وأما الشيعة فهم دائما مغلوبون مقهورون منهزمون وحبهم للدنيا وحرصهم عليها ظاهر ولهذا كاتبوا الحسين رضي الله عنه فلما أرسل إليهم ابن عمه ثم قدم بنفسه غدروا به وباعوا الآخرة بالدنيا وأسلموه إلى عدوه وقاتلوه مع عدوه فأي زهد عند هؤلاء وأي جهاد عندهم

وقد ذاق منهم على بن أبي طالب رضي الله عنه من الكاسات المرة ما لا يعلمه إلا الله حتى دعا عليهم فقال اللهم قد سئمتهم وسئموني فأبدلني بهم خيرا منهم وأبدلهم بي شرا مني وقد كانوا يغشونه ويكاتبون من يحاربه ويخونونه في الولايات والأموال

هذا ولم يكونوا بعد صاروا رافضة إنما سموا شيعة علي لما افترق الناس فرقتين فرقة شايعت أولياء عثمان وفرقة شايعت عليا رضي الله عنهما

فأولئك خيار الشيعة وهم من شر الناس معاملة لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه وابنيه سبطى رسول الله وريحانتيه في الدنيا الحسن والحسين وأعظم الناس قبولا للوم اللائم في الحق وأسرع الناس إلى فتنة وأعجزهم عنها يغرون من يظهرون نصره من أهل البيت حتى إذا اطمأن إليهم ولامهم عليه اللائم خذلوه وأسلموه وآثروا عليه الدنيا

ولهذا أشار عقلاء المسلمين ونصحاؤهم على الحسين أن لا يذهب إليهم مثل عبدالله بن عباس وعبدالله بن عمر وأبي بكر بن عبدالرحمن بن الحارث بن هشام وغيرهم لعلمهم بأنهم يخذلونه ولا ينصرونه ولا يوفون له بما كتبوا له إليه وكان الأمر كما رأى هؤلاء ونفذ فيهم دعاء عمر بن الخطاب رضي الله عنه ثم دعاء علي بن أبي طالب حتى سلط الله عليهم الحجاج بن يوسف فكان لا يقبل من محسنهم ولا يتجاوز عن مسيئهم ودب شرهم إلى من لم يكن منهم حتى عم الشر

وهذه كتب المسلمين التي ذكر فها زهاد الأمة ليس فيهم رافضي وهؤلاء المعروفون في الأمة بقول الحق وأنهم لا تأخذهم في الله لومة لائم ليس فيهم رافضي كيف والرافضي من جنس المنافقين مذهبه التقية فهل هذا حال من لا تأخذه في الله لومة لائم

إنما هذه حال من نعته الله في كتابه بقوله يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله واسع عليم سورة المائدة 5وهذا حال من قاتل المرتدين وأولهم الصديق ومن اتبعه إلى يوم القيامة فهم الذين جاهدوا المرتدين كأصحاب مسيلمة الكذاب ومانعي الزكاة وغيرهما وهم الذين فتحوا الأمصار وغلبوا فارس والروم وكانوا أزهد الناس كما قال عبدالله بن مسعود لأصحابه أنتم أكثر صلاة وصياما من أصحاب محمد وهم كانوا خيرا منكم قالوا ولم يا أبا عبدالرحمن قال لأنهم كانوا أزهد في الدنيا وأرغب في الآخرة

فهؤلاء هم الذين لا تأخذهم في الله لومة لائم بخلاف الرافضة فإنهم أشد الناس خوفا من لوم اللائم ومن عدوهم وهم كما قال تعالى يحسبون كل صيحة عليهم هم العدو فاحذرهم قاتلهم الله أنى يؤفكون سورة المنافقون 4 ولا يعيشون في أهل القبلة إلا من جنس اليهود في أهل الملل

ثم يقال من هؤلاء الذين زهدوا في الدنيا ولم تأخذهم في الله لومة لائم ممن لم يبايع أبا بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم وبايع عليا فإنه من المعلوم أن في زمن الثلاثة لم يكن أحد منحازا عن الثلاثة مظهرا لمخالفتهم ومبايعة علي بل كل الناس كانوا مبايعين لهم فغاية ما يقال إنهم كانوا يكتمون تقديم علي وليست هذه حال من لا تأخذه في الله لومة لائم

وأما في حال ولاية علي فقد كان رضي الله عنه من أكثر الناس لوما لمن معه قلة جهادهم ونكولهم عن القتال فأين هؤلاء الذين لا تأخذهم في الله لومة لائم من هؤلاء الشيعة

وإن كذبوا على أبي ذر من الصحابة وسلمان وعمار وغيرهم فمن المتواتر أن هؤلاء كانوا من أعظم الناس تعظيما لأبي بكر وعمر واتباعا لهما وإنما ينقل عن بعضهم التعنت على عثمان لا على أبي بكر وعمر وسيأتي الكلام على ما جرى لعثمان رضي الله عنه ففي خلافة أبي بكر وعمر وعثمان لم يكن أحد يسمى من الشيعة ولا تضاف الشيعة إلى أحد لا عثمان ولا علي ولا غيرهما فلما قتل عثمان تفرق المسلمون فمال قوم إلى عثمان ومال قوم إلى علي واقتتلت الطائفتان وقتل حينئذ شيعة عثمان شيعة علي

وفي صحيح مسلم عن سعد بن هشام أنه أراد أن يغزو في سبيل الله وقدم المدينة فأراد أن يبيع عقارا له بها فيجعله في السلاح والكراع ويجاهد الروم حتى يموت فلما قدم المدينة لقي أناسا من أهل المدينة فنهوه عن ذلك وأخبروه أن رهطا ستة أرادوا ذلك في حياة النبي فنهاهم نبي الله وقال أليس لكم بي أسوة فلما حدثوه بذلك راجع امرأته وقد كان طلقها وأشهد على رجعتها فأتى ابن عباس وسأله عن وتر رسول الله فقال له ابن عباس ألا أدلك على أعلم أهل الأرض بوتر رسول الله قال من قال عائشة رضي الله عنها فأتها فاسألها ثم ائتني فأخبرني بردها عليك قال فانطلقت إليها فأتيت على حكيم بن أفلح فاستلحقته إليها فقال ما أنا بقاربها لأني نهيتها أن تقول في هاتين الشيعتين شيئا فأبت فيهما إلا مضيا قال فأقسمت عليه فجاء فانطلقنا إلى عائشة رضي الله عنها وذكر الحديث

وقال معاوية لابن عباس أنت على ملة علي فقال لا على ملة علي ولا على ملة عثمان أنا على ملة رسول الله

وكانت الشيعة أصحاب علي يقدمون عليه أبا بكر وعمر وإنما كان النزاع في تقدمه على عثمان ولم يكن حينئذ يسمى أحد لا إماميا ولا رافضيا وإنما سموا رافضة وصاروا رافضة لما خرج زيد بن علي بن الحسين بالكوفة في خلافة هشام فسألته الشيعة عن أبي بكر وعمر فترحم عليهما فرفضه قوم فقال رفضتموني رفضتموني فسموا رافضة وتولاه قوم زيدية لانتسابهم إليه ومن حينئذ انقسمت الشيعة إلى رافضة إمامية وزيدية وكلما زادوا في البدعة زادوا في الشر فالزيدية خير من الرافضة أعلم وأصدق وأزهد وأشجع

ثم بعد أبي بكر عمر بن الخطاب وهو الذي لم تكن تأخذه في الله لومة لائم وكان أزهد الناس باتفاق الخلق كما قيل فيه رحم الله عمر لقد تركه الحق ما له من صديق - فصل

قال الرافضي

وإنما كان مذهب الإمامية واجب الإتباع لوجوه

الأول لما نظرنا في المذاهب وجدنا أحقها وأصدقها وأخلصها عن شوائب الباطل وأعظمها تنزيها لله تعالى ولرسله ولأوصيائه وأحسن المسائل الأصولية والفروعية مذهب الإمامية لأنهم اعتقدوا أن الله هو المخصوص بالأزلية والقدم وأن كل ما سواه محدث لأنه واحد وأنه ليس بجسم ولا جوهر وأنه ليس بمركب لأن كل مركب محتاج إلى جزئه لأن جزأه غيره ولا عرض ولا في مكان وإلا لكان محدثا بل نزهوه عن مشابهة المخلوقات

وأنه تعالى قادر على جميع المقدورات عدل حكيم لا يظلم أحدا ولا يفعل القبيح وإلا يلزم الجهل أو الحاجة تعالى الله عنهما ويثبت المطيع لئلا يكون ظالما ويعفو عن العاصي أو يعذبه بجرمه من غير ظلم له

وأن أفعاله محكمة متقنة واقعة لغرض ومصلحة وإلا لكان عابثا وقد قال سبحانه وتعالى وما خلقنا السموات والأرض وما بينهما لاعبين سورة الدخان 38 وأنه أرسل الأنبياء لإرشاد العالم

وأنه تعالى غير مرئي ولا مدرك بشيء من الحواس لقوله تعالى لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار سورة الأنعام 103 وأنه ليس في جهة

وأن أمره ونهيه وإخباره حادث لاستحالة أمر المعدوم ونهيه وإخباره

وأن الأنبياء معصومون عن الخطأ والسهو والمعصية صغيرها وكبيرها من أول العمر إلى آخره وإلا لم يبق وثوق بما يبلغونه فانتفت فائدة البعثة ولزم التنفير عنهم

وأن الأئمة معصومون كالأنبياء في ذلك كما تقدم

وأخذوا أحكامهم الفروعية عن الأئمة المعصومين الناقلين عن جدهم رسول الله الآخذ ذلك من الله تعلى بوحي جبريل إليه يتناقلون ذلك عن الثقات خلفا عن سلف إلى أن تتصل الرواية بأحد المعصومين ولم يلتفتوا إلى القول بالرأي والاجتهاد وحرموا الأخذ بالقياس والاستحسان إلى آخره

فيقال

الكلام على هذا من وجوه

أحدهما أن يقال ما ذكره من الصفات والقدر لا يتعلق بمسألة الإمامة أصلا بل يقول بمذهب الإمامية من لا يقول بهذا ويقول بهذا من لا يقول بمذهب الإمامية ولا أحدهما مبنى على الآخر فإن الطريق إلى ذلك عند القائلين به هو العقل وأما تعيين الإمام فهو عندهم من السمع فإدخال هذا في مسألة الإمامة مثل إدخال سائر مسائل النزاع وهذا خروج عن المقصود

الوجه الثاني

أن يقال هذا قول المعتزلة في التوحيد والقدر والشيعة المنتسبون إلى أهل البيت الموافقون لهؤلاء المعتزلة أبعد الناس عن مذاهب أهل البيت في التوحيد والقدر فإن أئمة أهل البيت كعلي وابن عباس ومن بعدهم كلهم متفقون على ما اتفق عليه سائر الصحابة والتابعين لهم بإحسان من إثبات الصفات والقدر. والكتب المشتملة على المنقولات الصحيحة مملوءة بذلك ونحن نذكر بعض ما في ذلك عن علي رضي الله عنه وأهل بيته ليتبين أن هؤلاء الشيعة مخالفون لهم في أصول دينهم

الوجه الثالث

أن ما ذكره من الصفات والقدر ليس من خصائص الشيعة ولاهم أئمة القول به ولا هو شامل لجميعهم بل أئمة بل أئمة ذلك هم المعتزلة وعنهم أخذ ذلك متأخرو الشيعة وكتب الشيعة مملوءة بالإعتماد في ذلك على طرق المعتزلة وهذا كان من أواخر المائة الثالثة وكثر في المائة الرابعة لما صنف لهم المفيد وأتباعه كالموسوي والطوسى

وأما قدماء الشيعة فالغالب عليهم ضد هذا القول كما هو قول الهشامين وأمثالهما فإن كان هذا القول حقا أمكن القول به وموافقة المعتزلة مع إثبات خلافة الثلاثة وإن كان باطلا فلا حاجة إليه وإنما ينبغي أن يذكر ما يختص بالإمامة كمسألة إثبات الإثنى عشر وعصمتهم

الوجه الرابع

أن يقال ما في هذا الكلام من حق فأهل السنة قائلون به أو جمهورهم وما كان فيه من باطل فهو رد فليس اعتقاد ما في هذا القول من الحق خارجا عن أقوال أهل السنة ونحن نذكر ذلك مفصلا

الوجه الخامس

قوله إنهم اعتقدوا أن الله هو المخصوص بالأزلية والقدم وأن كل ما سواه محدث لأنه واحد وأنه لي بجسم ولا في مكان وإلا لكان محدثا بل نزهوه عن مشابهة الخلوقات

فيقال له

هذا إشارة إلى مذهب الجهمية والمعتزلة ومضمونه أنه ليس لله علم ولا قدرة ولا حياة وأن أسماءه الحسنى كالعليم والقدير والسميع والبصير والرءوف والرحيم ونحو ذلك لا تدل على صفات له قائمة به وأنه لا يتكلم ولا يرضى ولا يسخط ولا يحب ولا يبغض ولا يريد إلا ما يخلقه منفصلا عنه من الكلام والإرادة وأنه لم يقم به كلام


منهاج السنة النبوية
1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | 11 | 12 | 13 | 14 | 15 | 16 | 17 | 18 | 19 | 20 | 21 | 22 | 23 | 24 | 25 | 26 | 27 | 28 | 29 | 30 | 31 | 32 | 33 | 34 | 35 | 36 | 37 | 38 | 39 | 40 | 41 | 42 | 43 | 44 | 45 | 46 | 47 | 48 | 50 | 51 | 52 | 53 | 54 | 55 | 56 | 57