الفرق بين المراجعتين لصفحة: «مجموع الفتاوى/المجلد الثاني عشر/سئل عن رجل قال إن الله لم يكلم موسى تكليما»

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة
تم حذف المحتوى تمت إضافة المحتوى
Obaydb (نقاش | مساهمات)
استيراد تلقائي للمقالات
 
Obaydb (نقاش | مساهمات)
استيراد تلقائي للمقالات - كتابة على الأعلى
سطر 1: سطر 1:
{{رأسية
|عنوان=[[مجموع فتاوى ابن تيمية]] – [[مجموع الفتاوى/التفسير|التفسير]]
|مؤلف=ابن تيمية
|باب= سئل عن رجل قال إن الله لم يكلم موسى تكليما
|سابق= → [[../فصل في مسألة تكفير أهل البدع والأهواء|فصل في مسألة تكفير أهل البدع والأهواء]]
|لاحق= [[../سئل عن رجل قال إن الله لم يكلم موسى تكليما فقال له آخر بل كلمه تكليما|سئل عن رجل قال إن الله لم يكلم موسى تكليما فقال له آخر بل كلمه تكليما]] ←
|ملاحظات=
}}
====سئل عن رجل قال إن الله لم يكلم موسى تكليما====

وسئل شيخ الإسلام رحمه الله في رجل قال: إن الله لم يكلم موسى تكليما وإنما خلق الكلام والصوت في الشجرة، وموسى عليه السلام سمع من الشجرة لا من الله، وإن الله عز وجل لم يكلم جبريل بالقرآن وإنما أخذه من اللوح المحفوظ، فهل هو على الصواب أم لا؟
وسئل شيخ الإسلام رحمه الله في رجل قال: إن الله لم يكلم موسى تكليما وإنما خلق الكلام والصوت في الشجرة، وموسى عليه السلام سمع من الشجرة لا من الله، وإن الله عز وجل لم يكلم جبريل بالقرآن وإنما أخذه من اللوح المحفوظ، فهل هو على الصواب أم لا؟



نسخة 01:06، 1 مارس 2009


سئل عن رجل قال إن الله لم يكلم موسى تكليما

وسئل شيخ الإسلام رحمه الله في رجل قال: إن الله لم يكلم موسى تكليما وإنما خلق الكلام والصوت في الشجرة، وموسى عليه السلام سمع من الشجرة لا من الله، وإن الله عز وجل لم يكلم جبريل بالقرآن وإنما أخذه من اللوح المحفوظ، فهل هو على الصواب أم لا؟

فأجاب:

الحمد لله، ليس هذا على الصواب، بل هذا ضال مفتر كاذب باتفاق سلف الأمة وأئمتها، بل هو كافر يجب أن يستتاب، فإن تاب وإلا قتل، وإذا قال: لا أكذب بلفظ القرآن وهو قوله: { وَكَلَّمَ اللهُ مُوسَى تَكْلِيمًا } 1 بل أقر بأن هذا اللفظ حق، لكن أنفي معناه وحقيقته، فإن هؤلاء هم الجهمية الذين اتفق السلف والأئمة على أنهم من شر أهل الأهواء والبدع، حتى أخرجهم كثير من الأئمة عن الثنتين والسبعين فرقة.

وأول من قال هذه المقالة في الإسلام كان يقال له: الجعد بن درهم، فضَحَّى به خالد بن عبد الله القسرى يوم أضحى؛ فإنه خطب الناس فقال في خطبته: ضَحُّوا أيها الناس، تقبل الله ضحاياكم، فإنى مُضَحٍّ بالجعد بن درهم، إنه زعم أن الله لم يتخذ إبراهيم خليلا، ولم يكلم موسى تكليما، تعالى الله عما يقول الجعد علوًا كبيرًا، ثم نزل فذبحه. وكان ذلك في زمن التابعين فشكروا ذلك، وأخذ هذه المقالة عنه جَهْم بن صفوان، وقتله بخراسان سلمة بن أحوز، وإليه نسبت هذه المقالة التي تسمى مقالة الجهمية، وهى نفي صفات الله تعالى فإنهم يقولون: إن الله لا يرى في الآخرة، ولا يكلم عباده، وأنه ليس له علم ولا حياة ولا قدرة ونحو ذلك من الصفات، ويقولون: القرآن مخلوق.

ووافق الجهمَ على ذلك المعتزلة أصحاب عمرو بن عبيد وضموا إليها بدعا أخرى في القَدَر وغيره، لكن المعتزلة يقولون: إن الله كلم موسى حقيقة وتكلم حقيقة، لكن حقيقة ذلك عندهم أنه خلق كلاما في غيره، إما في شجرة وإما في هواء، وإما في غير ذلك، من غير أن يقوم بذات الله عندهم كلام ولا علم، ولا قدرة ولا رحمة، ولا مشيئة ولا حياة، ولا شيء من الصفات.

والجهمية تارة يبوحون بحقيقة القول، فيقولون: إن الله لم يكلم موسى تكليمًا، ولا يتكلم، وتارة لا يظهرون هذا اللفظ؛ لما فيه من الشناعة المخالفة لدين الإسلام واليهود والنصارى، فيقرون باللفظ، ولكن يقرنونه بأنه خلق في غيره كلاما.

وأئمة الدين كلهم متفقون على ما جاء به الكتاب والسنة، واتفق عليه سلف الأمة، من أن الله كلم موسى تكليما، وأن القرآن كلام الله غير مخلوق، وأن المؤمنين يرون ربهم في الآخرة، كما تواترت به الأحاديث عن النبي ، وأن لله علمًا وقدرة ونحو ذلك.

ونصوص الأئمة في ذلك مشهورة متواترة، حتى إن أبا القاسم الطبرى الحافظ لما ذكر في كتابه في شرح أصول السنة مقالات السلف والأئمة في الأصول، ذكر من قال: القرآن كلام الله غير مخلوق. وقال: فهؤلاء خمسمائة وخمسون نفسًا أو أكثر من التابعين والأئمة المرضيين سوى الصحابة، على اختلاف الأعصار ومضى السنين والأعوام، وفيهم نحو من مائة إمام ممن أخذ الناس بقولهم، وتدينوا بمذاهبهم، ولو اشتغلت بنقل قول أهل الحديث لبلغت أسماؤهم ألوفًا، لكنى اختصرت فنقلت عن هؤلاء عصرًا بعد عصر، لا ينكر عليهم منكر، ومن أنكر قولهم استتابوه أو أمروا بقله أو نفيه أو صلبه. قال: ولا خلاف بين الأمة أن أول من قال: القرآن مخلوق جعد بن درهم، في سنى نيف وعشرين ومائة، ثم جهم بن صفوان، فأما جعد فقتله خالد بن عبد الله القسرى، وأما جهم فقتل بمرو في خلافه هشام بن عبد الملك.

وروى بإسناده عن على بن أبي طالب رضى الله عنه من وجهين أنهم قالوا له يوم صفين: حكَّمت رجلين؟ فقال: ما حكمت مخلوقًا ما حكمت إلا القرآن. وعن عكرمة قال: كان ابن عباس في جنازة، فلما وضع الميت في لحده قام رجل وقال: اللهم رب القرآن اغفر له، فوثب إليه ابن عباس فقال: مه؟! القرآن منه. وعن عبد الله بن مسعود قال: من حلف بالقرآن فعليه بكل آية يمين، وهذا ثابت عن ابن مسعود. وعن سفيان بن عيينة قال: سمعت عمرو بن دينار يقول: أدركت مشايخنا والناس منذ سبعين سنة يقولون: القرآن كلام الله، منه بدأ وإليه يعود، وفي لفظ يقولون: القرآن كلام الله غير مخلوق وقال حرب الكرماني 2: ثنا إسحاق بن إبراهيم يعنى ابن راهويه عن سفيان بن عيينة عن عمرو بن دينار، قال: أدركت الناس منذ سبعين سنة، أدركت أصحاب النبي فمن دونهم يقولون: الله الخالق وما سواه مخلوق، إلا القرآن فإنه كلام الله، منه خرج وإليه يعود.

وهذا قد رواه عن ابن عيينة إسحاق، وإسحاق إما أن يكون سمعه منه أو من بعض أصحابه عنه، وعن جعفر بن محمد الصادق وهو مشهور عنه أنهم سألوه عن القرآن: أخالق هو أم مخلوق؟ فقال: ليس بخالق ولا مخلوق، ولكنه كلام الله.

وهكذا روي عن الحسن البصري، وأيوب السختياني، وسليمان التيمي، وخلق من التابعين. وعن مالك بن أنس، والليث بن سعد وسفيان الثوري، وابن أبي ليلى، وأبي حنيفة، والشافعي، وأحمد بن حنبل، وإسحاق بن راهويه، وأمثال هؤلاء من الأئمة. وكلام هؤلاء الأئمة وأتباعهم في ذلك كثير مشهور، بل اشتهر عن أئمة السلف تكفير من قال: القرآن مخلوق، وأنه يستتاب، فإن تاب وإلا قتل، كما ذكروا ذلك عن مالك بن أنس وغيره.

ولذلك قال الشافعي لحفص الفرد وكان من أصحاب ضرار بن عمرو ممن يقول: القرآن مخلوق، فلما ناظر الشافعي، وقال له: القرآن مخلوق قال له الشافعي: كفرت بالله العظيم، ذكره ابن أبي حاتم في الرد على الجهمية، قال: كان في كتابي عن الربيع بن سليمان قال: حضرت الشافعي، أو حدثني أبو شعيب، إلا أني أعلم أنه حضر عبد الله ابن عبد الحكم، ويوسف بن عمرو بن يزيد، فسأل حفص عبد الله قال: ما تقول في القرآن؟ فأبي أن يجيبه، فسأل يوسف بن عمرو فلم يجبه، وكلاهما أشار إلى الشافعي، فسأل الشافعي فاحتج عليه وطالت فيه المناظرة، فقام الشافعي بالحجة بأن القرآن كلام الله غير مخلوق، وكفر حفصًا الفرد، قال الربيع: فلقيت حفصًا في المسجد بعد هذا فقال: أراد الشافعي قتلى.

وأما مالك بن أنس، فنقل عنه من غير وجه الرد على من يقول: القرآن مخلوق، واستتابته، وهذا المشهور عنه متفق عليه بين أصحابه.

وأما أبو حنيفة وأصحابه، فقد ذكر أبو جعفر الطحاوي في الاعتقاد الذي قال في أوله: ذكر بيان اعتقاد أهل السنة والجماعة على مذهب فقهاء الملة - أبي حنيفة النعمان ابن ثابت الكوفي، وأبي يوسف يعقوب بن إبراهيم الأنصاري، وأبي عبد الله محمد بن الحسن الشيباني قال فيه: «وإن القرآن كلام الله، منه بدأ بلا كيفية قولا، وأنزله على نبيه وحيا، وصدقه المؤمنون على ذلك حقا، وأثبتوا أنه كلام الله تعالى بالحقيقة، ليس بمخلوق ككلام البرية، فمن سمعه فزعم أنه كلام البشر فقد كفر، وقد ذمه الله وعابه وأوعده عذابه وتوعده، حيث قال: { سَأُصْلِيهِ سَقَرَ } 3، فلما أوعد الله سقر لمن قال: { إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ } 4، علمنا أنه قول خالق البشر، ولا يشبه قول البشر».

وأما أحمد بن حنبل، فكلامه في مثل هذا مشهور متواتر، وهو الذي اشتهر بمحنة هؤلاء الجهمية؛ فإنهم أظهروا القول بإنكار صفات الله - تعالى - وحقائق أسمائه، وأن القرآن مخلوق، حتى صار حقيقة قولهم تعطيل الخالق - سبحانه وتعالى - ودعوا الناس إلى ذلك، وعاقبوا من لم يجبهم، إما بالقتل، وإما بقطع الرزق، وإما بالعزل عن الولاية، وإما بالحبس أو بالضرب، وكفروا من خالفهم، فثبت الله - تعالى - الإمام أحمد حتى أخمد الله به باطلهم، ونصر أهل الإيمان والسنة عليهم، وأذلهم بعد العز، وأخملهم بعد الشهرة، واشتهر عند خواص الأمة وعوامها أن القرآن كلام الله غير مخلوق، وإطلاق القول أن من قال: إنه مخلوق، فقد كفر.

وأما إطلاق القول بأن الله لم يكلم موسى، فهذه مناقضة لنص القرآن، فهو أعظم من القول بأن القرآن مخلوق، وهذا بلا ريب يستتاب، فإن تاب وإلا قتل، فإنه أنكر نص القرآن، وبذلك أفتى الأئمة والسلف في مثله، والذي يقول: القرآن مخلوق هو في المعنى موافق له، فلذلك كفره السلف.

قال البخاري في كتاب خلق الأفعال: قال سفيان الثوري: من قال: القرآن مخلوق، فهو كافر. قال: وقال عبد الله بن المبارك: من قال: { إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي } 5 مخلوق، فهو كافر، ولا ينبغي لمخلوق أن يقول ذلك، قال: وقال ابن المبارك: لا نقول كما قالت الجهمية: إنه في الأرض هاهنا، بل على العرش استوى. وقيل له: كيف نعرف ربنا؟ قال: فوق سمواته على عرشه، بائن من خلقه.

وقال: من قال: لا إله إلا الله مخلوق، فهو كافر، وإنا نحكي كلام اليهود والنصارى ولا نستطيع أن نحكي كلام الجهمية. قال: وقال على بن عاصم: ما الذين قالوا: إن لله ولدًا أكفر من الذين قالوا: إن الله لا يتكلم.

قال البخاري: وكان إسماعيل بن أبي إدريس يسميهم زنادقة العراق. وقيل له: سمعت: أحدًا يقول: القرآن مخلوق فقال: هؤلاء الزنادقة. قال: وقال أبو الوليد سمعت يحيى بن سعيد -وذكر له أن قومًا يقولون: القرآن مخلوق فقال: كيف يصنعون ب { قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ } 6 كيف يصنعون بقوله: { إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا } ؟ قال: وقال أبو عبيد القاسم بن سلام: نظرت في كلام اليهود والمجوس فما رأيت قومًا أضل في كفرهم منهم، وإني لأستجهل من لا يكفرهم إلا من لا يعرف كفرهم. قال: وقال سليمان بن داود الهاشمي: من قال: القرآن مخلوق، فهو كافر، وإن كان القرآن مخلوقًا كما زعموا فلم صار فرعون أولى بأن يخلد في النار إذ قال: { فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى } 7؟ وزعموا أن هذا مخلوق، والذي قال: { إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي } 8 هذا أيضا قد ادعى ما ادعى فرعون، فلم صار فرعون أولى بأن يخلد في النار من هذا؟ وكلاهما عنده مخلوق، فأخبر بذلك أبو عبيد، فاستحسنه وأعجبه.

ومعنى كلام هؤلاء السلف رضي الله عنهم: أن من قال: إن كلام الله مخلوق خلقه في الشجرة أو غيرها كما قال هذا الجهمي المعتزلي المسؤول عنه كان حقيقة قوله: إن الشجرة هي التي قالت لموسى: { إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي } ومن قال: هذا مخلوق، قال ذلك. فهذا المخلوق عنده كفرعون الذي قال: { أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى } كلاهما مخلوق، وكلاهما قال ذلك. فإن كان قول فرعون كفرًا فقول هؤلاء أيضا كفر.

ولا ريب أن قول هؤلاء يؤول إلى قول فرعون، وإن كانوا لا يفهمون ذلك؛ فإن فرعون كذب موسى فيما أخبر به؛ من أن ربه هو الأعلى، وأنه كلمه، كما قال تعالى: { وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَّعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِبًا } 9 وهو قد كذب موسى في أن الله كلمه.

ولكن هؤلاء يقولون: إذا خلق كلاما في غيره صار هو المتكلم به، وذلك باطل وضلال من وجوه كثيرة:

أحدها: أن الله سبحانه أنطق الأشياء كلها نطقًا معتادًا ونطقًا خارجًا عن المعتاد، قال تعالى: { الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ } 10، وقال تعالى: { حَتَّى إِذَا مَا جَاؤُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدتُّمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ } 11، وقال تعالى: { يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ } 12، وقد قال تعالى: { إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْرَاقِ } 13، وقد ثبت أن الحصي كان يسبح في يد النبي ، وأن الحجر كان يسلم عليه، وأمثال ذلك من إنطاق الجمادات، فلو كان إذا خلق كلاما في غيره كان هو المتكلم به، كان هذا كله كلام الله تعالى ويكون قد كلم من سمع هذا الكلام كما كلم موسى ابن عمران، بل قد ثبت أن الله خالق أفعال العباد. فكل ناطق فالله خالق نطقه وكلامه، فلو كان متكلما بما خلقه من الكلام لكان كل كلام في الوجود كلامه حتى كلام إبليس والكفار وغيرهم. وهذا تقوله غلاة الجهمية كابن عربي وأمثاله يقولون:

وكل كلام في الوجود كلامه**سواء علينا نثره ونظامه

وهكذا أشباه هؤلاء من غلاة المشبهة الذين يقولون: إن كلام الآدميين غير مخلوق، فإن كل واحدة من الطائفتين يجعلون كلام المخلوق بمنزلة كلام الخالق، فأولئك يجعلون الجميع مخلوقا، وأن الجميع كلام الله، وهؤلاء يجعلون الجميع كلام الله وهو غير مخلوق؛ ولهذا كان قد حصل اتصال بين شيخ الجهمية الحلولية وشيخ المشبهة الحلولية.

وبسبب هذه البدع وأمثالها من المنكرات المخالفة لدين الإسلام، سلط الله أعداء الدين، فإن الله يقول: { وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ } 14، وأي معروف أعظم من الإيمان بالله وأسمائه وآياته؟ وأي منكر أعظم من الإلحاد في أسماء الله وآياته؟

الوجه الثاني: أن يقال لهؤلاء الضالين: ما خلقه الله في غيره من الكلام وسائر الصفات فإنما يعود حكمه على ذلك المحل لا على غيره فإذا خلق الله في بعض الأجسام حركة أو طعما أو لونًا أو ريحًا، كان ذلك الجسم هو المتحرك المتلون المتروح المطعوم، وإذا خلق بمحل حياة أو علمًا أو قدرة أو إرادة أو كلاما، كان ذلك المحل هو الحي العالم القادر المريد المتكلم، فإذا خلق كلاما في الشجرة أو في غيرها من الأجسام، كان ذلك الجسم هو المتكلم بذلك الكلام، كما لو خلق فيه إرادة أو حياة أو علما، ولا يكون الله هو المتكلم به، كما إذا خلق فيه حياة أو قدرة أو سمعًا أو بصرًا، كان ذلك المحل هو الحي به والقادر به والسميع به والبصير به. فكما أنه -سبحانه - لا يجوز أن يكون متصفًا بما خلقه من الصفات المشروطة بالحياة وغير المشروطة بالحياة، فلا يكون هو المتحرك بما خلقه في غيره من الحركات، ولا المصوت بما خلقه في غيره من الأصوات، ولا سمعه ولا بصره وقدرته ما خلقه في غيره من السمع والبصر والقدرة، فكذلك لا يكون كلامه ما خلقه في غيره من الكلام ولا يكون متكلمًا بذلك الكلام.

الوجه الثالث: أن الاسم المشتق من معنى لا يتحقق بدون ذلك المعنى، فاسم الفاعل واسم المفعول والصفة المشبهة وأفعال التفضيل يمتنع ثبوت معناها دون معنى المصدر التي هي مشتقة منه، والناس متفقون على أنه لا يكون متحرك ولا متكلم إلا بحركة وكلام، فلا يكون مريد إلا بإرادة، وكذلك لا يكون عالم إلا بعلم ولا قادر إلا بقدرة ونحو ذلك.

ثم هذه الأسماء المشتقة من المصدر إنما يسمى بها من قام به مسمى المصدر، فإنما يسمى بالحي من قامت به الحياة، وبالمتحرك من قامت به الحركة، وبالعالم من قام به العلم، وبالقادر من قامت به القدرة، فأما من لم يقم به مسمى المصدر فيمتنع أن يسمى باسم الفاعل ونحوه من الصفات. وهذا معلوم بالاعتبار في جميع النظائر.

وذلك لأن اسم الفاعل ونحوه من المشتقات هو مركب يدل على الذات وعلى الصفة، والمركب يمتنع تحققه بدون تحقق مفرداته، وهذا كما أنه ثابت في الأسماء المشتقة فكذلك في الأفعال: مثل تكلم وكلم ويتكلم ويكلم وعلم ويعلم وسمع ويسمع ورأى ويرى ونحو ذلك سواء قيل: إن الفعل المشتق من المصدر، أو المصدر مشتق من الفعل، لا نزاع بين الناس أن فاعل الفعل هو فاعل المصدر. فإذا قيل: كلم أو علم أو تكلم أو تعلم، ففاعل التكليم والتعليم هو المكلم والمعلم، وكذلك التعلم والتكلم، والفاعل هو الذي قام به المصدر الذي هو التكليم والتعليم والتكلم والتعلم، فإذا قيل: تكلم فلان أو كلم فلان فلانًا، ففلان هو المتكلم والمكلم، فقوله تعالى: { وَكَلَّمَ اللهُ مُوسَى تَكْلِيمًا } 15، وقوله: { تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِّنْهُم مَّن كَلَّمَ اللهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ } 16، وقوله: { وَلَمَّا جَاء مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ } 17، يقتضى أن الله هو المكلم، فكما يمتنع أن يقال: هو متكلم بكلام قائم بغيره، يمتنع أن يقال: كلم بكلام قائم بغيره. فهذه خمسة أوجه:

أحدها: أنه يلزم الجهمية على قولهم أن يكون كل كلام خلقه الله كلامًا له؛ إذ لا معنى لكون القرآن كلام الله إلا كونه خلقه، وكل من فعل كلاما ولو في غيره كان متكلمًا به عندهم، وليس للكلام عندهم مدلول يقوم بذات الرب تعالى لو كان مدلول قائمًا يدل لكونه خلق صوتًا في محل والدليل يجب طرده، فيجب أن يكون كل صوت يخلقه له كذلك، وهم يجوزون أن يكون الصوت المخلوق على جميع الصفات، فلا يبقى فرق بين الصوت الذي هو كلام الله تعالى على قولهم والصوت الذي هو ليس بكلام.

الثاني: أن الصفة إذا قامت بمحل كالعلم والقدرة والكلام والحركة عاد حكمها إلى ذلك المحل ولا يعود حكمها إلى غيره.

الثالث: أن يشتق منه المصدر واسم الفاعل والصفة المشبهة به ونحو ذلك ولا يشتق ذلك لغيره، وهذا كله بين ظاهر وهو ما يبين قول السلف والأئمة أن من قال: إن الله خلق كلامًا في غيره لزمه أن يكون حكم التكلم عائدًا إلى ذلك المحل لا إلى الله.

الرابع: أن الله أكد تكليم موسى بالمصدر فقال: { تَكْلِيمًا }. قال غير واحد من العلماء: التوكيد بالمصدر ينفي المجاز، لئلا يظن أنه أرسل إليه رسولا أو كتب إليه كتابًا، بل كلمه منه إليه.

والخامس: أن الله فضل موسى بتكليمه إياه على غيره ممن لم يكلمه وقال: { وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِن وَرَاء حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا } الآية 18، فكان تكليم موسى من وراء الحجاب، وقال: { قَالَ يَا مُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالاَتِي وَبِكَلاَمِي فَخُذْ مَا آتَيْتُكَ وَكُن مِّنَ الشَّاكِرِينَ } 19، وقال: { إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِن بَعْدِهِ } إلى قوله: { وَكَلَّمَ اللهُ مُوسَى تَكْلِيمًا } 20، والوحي هو ما نزله الله على قلوب الأنبياء بلا واسطة، فلو كان تكليمه لموسى إنما هو صوت خلقه في الهواء لكان وحى الأنبياء أفضل منه؛ لأن أولئك عرفوا المعنى المقصود بلا واسطة. وموسى إنما عرفه بواسطة؛ ولهذا كان غلاة الجهمية من الاتحادية ونحوهم يدعون أن ما يحصل لهم من الإلهام أفضل مما حصل لموسى بن عمران، وهذا من أعظم الكفر باتفاق المسلمين.

ولما فهم السلف حقيقة مذهب هؤلاء، وأنه يقتضي تعطيل الرسالة، فإن الرسل إنما بعثوا ليبلغوا كلام الله، بل يقتضى تعطيل التوحيد، فإن من لا يتكلم ولا يقوم به علم ولا حياة هو كالموات، بل من لا تقوم به الصفات فهو عدم محض؛ إذ ذات لا صفة لها إنما يمكن تقديرها في الذهن لا في الخارج، كتقدير وجود مطلق لا يتعين ولا يتخصص.

فكان قول هؤلاء مضاهيًا لقول: المتفلسفة الدهرية، الذين يجعلون وجود الرب وجودًا مطلقًا بشرط الإطلاق لا صفة له. وقد علم أن المطلق بشرط الإطلاق لا يوجد إلا في الذهن. وهؤلاء الدهرية ينكرون: أيضا حقيقة تكليمه لموسى ويقولون: إنما هو فيض فاض عليه من العقل الفعال، وهكذا يقولون في الوحي إلى جميع الأنبياء، وحقيقة قولهم: إن القرآن قول البشر، لكنه صدر عن نفس صافية شريفة. وإذا كانت المعتزلة خيرًا من هؤلاء، وقد كفر السلف من يقول بقولهم، فكيف هؤلاء؟.

وكلام السلف والأئمة في مثل هؤلاء لا يحصى. قال حرب بن إسماعيل الكرماني: سمعت إسحاق بن راهويه يقول: ليس بين أهل العلم اختلاف أن القرآن كلام الله وليس بمخلوق، وكيف يكون شيء من الرب عز ذكره مخلوقا، ولو كان كما قالوا لزمهم أن يقولوا: علم الله وقدرته ومشيئته مخلوقة، فإن قالوا ذلك لزمهم أن يقولوا: كان الله تبارك اسمه ولا علم ولا قدرة ولا مشيئة، وهو الكفر المحض الواضح، لم يزل الله عالمًا متكلمًا له المشيئة والقدرة في خلقه، والقرآن كلام الله وليس بمخلوق، فمن زعم أنه مخلوق فهو كافر.

وقال وَكِيع بن الجراح: من زعم أن القرآن مخلوق فقد زعم أن شيئًا من الله مخلوق. فقيل له: من أين قلت هذا؟ قال: لأن الله يقول: { وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ } 21، ولا يكون من الله شيء مخلوق. وهذا القول قاله غير واحد من السلف.

وقال أحمد بن حنبل: كلام الله من الله ليس ببائن منه، وهذا معنى قول السلف: القرآن كلام الله، منه بدأ، ومنه خرج، وإليه يعود كما في الحديث الذي رواه أحمد وغيره عن جبير بن نفير قال: قال رسول الله : «إنكم لن ترجعوا إلى الله بشيء أفضل مما خرج منه» يعني: القرآن، وقد روى أيضا عن أبي أمامة مرفوعًا. وقال أبوبكر الصديق لأصحاب مسيلمة الكذاب لما سمع قرآن مسيلمة: ويحكم! أين يذهب بعقولكم؟ إن هذا كلامًا لم يخرج من إل. أي: من رب.

وليس معنى قول السلف والأئمة: إنه منه خرج ومنه بدأ: أنه فارق ذاته وحل بغيره، فإن كلام المخلوق إذا تكلم به لا يفارق ذاته ويحل بغيره، فكيف يكون كلام الله؟ قال تعالى: { مَّا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلَا لِآبَائِهِمْ كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِن يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبًا } 22، فقد أخبر أن الكلمة تخرج من أفواههم، ومع هذا فلم تفارق ذاتهم.

وأيضا، فالصفة لا تفارق الموصوف وتحل بغيره، لا صفة الخالق ولا صفة المخلوق، والناس إذا سمعوا كلام النبي ثم بلغوه عنه كان الكلام الذي بلغوه كلام رسول الله وقد بلغوه بحركاتهم وأصواتهم. فالقرآن أولى بذلك، فالكلام كلام الباري والصوت صوت القارئ، قال تعالى: { وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلاَمَ اللهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَعْلَمُونَ } 23، وقال : «زينوا القرآن بأصواتكم».

ولكن مقصود السلف الرد على هؤلاء الجهمية؛ فإنهم زعموا أن القرآن خلقه الله في غيره، فيكون قد ابتدأ وخرج من ذلك المحل الذي خلق فيه لا من الله، كما يقولون: كلامه لموسى خرج من الشجرة، فبين السلف والأئمة أن القرآن من الله بدأ وخرج، وذكروا قوله: { وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ } 24 فأخبر أن القول منه لا من غيره من المخلوقات.

و"من" هي لابتداء الغاية، فإن كان المجرور بها عينا يقوم بنفسه لم يكن صفة لله، كقوله: { وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِّنْهُ } 25، وقوله في المسيح: { وَرُوحٌ مِّنْهُ } 26، وكذلك ما يقوم بالأعيان كقوله: { وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ اللهِ } 27.

وأما إذا كان المجرور بها صفة ولم يذكر لها محل كان صفة الله، كقوله: { وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ } 28، وكذلك قد أخبر في غير موضع من القرآن أن القرآن نزل منه، وأنه نزل به جبريل منه، ردًا على هذا المبتدع المفترى وأمثاله ممن يقول: إنه لم ينزل منه، قال تعالى: { أَفَغَيْرَ اللهِ أَبْتَغِي حَكَمًا وَهُوَ الَّذِي أَنَزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلا وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِّن رَّبِّكَ بِالْحَقِّ } 29، وقال تعالى: { قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِن رَّبِّكَ بِالْحَقِّ } 30، وروح القدس هو جبريل، كما قال في الآية الأخرى: { نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنذِرِينَ بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُّبِينٍ } 31، وقال: { قُلْ مَن كَانَ عَدُوًّا لِّجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللهِ } 32، وقال هنا: { نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِن رَّبِّكَ بِالْحَقِّ } 33، فبين أن جبريل نزله من الله، لا من هواء، ولا من لوح، ولا غير ذلك، وكذلك سائر آيات القرآن كقوله: { تَنزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ } 34، وقوله: { حم تَنزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ } 35، وقوله: { حم تَنزِيلٌ مِّنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ } 36، وقوله: { الم تَنزِيلُ الْكِتَابِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِن رَّبِّ الْعَالَمِينَ } 37، وقوله: { يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ } 38.

فقد بين في غير موضع أنه منزل من الله، فمن قال: إنه منزل من بعض المخلوقات كاللوح والهواء فهو مفتر على الله، مكذب لكتاب الله. متبع لغير سبيل المؤمنين. ألا ترى أن الله فرق بين ما نزل منه وما نزله من بعض المخلوقات كالمطر بأن قال: { أَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء } 39؟ فذكر المطر في غير موضع، وأخبر أنه نزله من السماء، والقرآن أخبر أنه منزل منه، وأخبر بتنزيل مطلق في مثل قوله: { وَأَنزَلْنَا الْحَدِيدَ } 40 لأن الحديد ينزل من رؤوس الجبال لا ينزل من السماء، وكذلك الحيوان؛ فإن الذكر ينزل الماء في الإناث، فلم يقل فيه من السماء، ولو كان جبريل أخذ القرآن من اللوح المحفوظ لكان اليهود أكرم على الله من أمة محمد؛ لأنه قد ثبت بالنقل الصحيح: أن الله كتب لموسى التوراة بيده وأنزلها مكتوبة، فيكون بنو إسرائيل قد قرؤوا الألواح التي كتبها الله، وأما المسلمون فأخذوه عن محمد ، ومحمد أخذه عن جبريل، وجبريل عن اللوح، فيكون بنو إسرائيل بمنزلة جبريل، وتكون منزلة بني إسرائيل أرفع من منزلة محمد على قول هؤلاء الجهمية، والله سبحانه جعل من فضائل أمة محمد : أنه أنزل عليهم كتابا لا يغسله الماء، وأنه أنزله عليهم تلاوة لا كتابة، وفرقه عليهم لأجل ذلك. فقال: { وَقُرْآنا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنزِيلا } 41، وقال تعالى: { وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا } 42.

ثم إن كان جبريل لم يسمعه من الله وإنما وجده مكتوبًا، كانت العبارة عبارة جبريل، وكان القرآن كلام جبريل، ترجم به عن الله، كما يترجم عن الأخرس الذي كتب كلامًا ولم يقدر أن يتكلم به، وهذا خلاف دين المسلمين.

وإن احتج محتج بقوله: { إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ ذِي قُوَّةٍ عِندَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ } 43، قيل له: فقد قال في الآية الأخرى: { إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلًا مَا تُؤْمِنُونَ وَلَا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ } 44، فالرسول في هذه الآية محمد ، والرسول في الأخرى جبريل، فلو أريد به أن الرسول أحدث عبارته لتناقض الخبران. فعلم أنه أضافه إليه إضافة تبليغ لا إضافة إحداث؛ ولهذا قال: { لَقَوْلُ رَسُولٍ } ولم يقل: ملك ولا نبي، ولا ريب أن الرسول بلغه، كما قال تعالى: { يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ } 45، فكان النبي يعرض نفسه على الناس في الموسم ويقول: «ألا رجل يحملني إلى قومه لأبلغ كلام ربي؛ فإن قريشًا قد منعوني أن أبلغ كلام ربي؟ »، ولما أنزل الله: { الم غُلِبَتِ الرُّومُ } 46، خرج أبو بكر الصديق فقرأها على الناس، فقالوا: هذا كلامك أم كلام صاحبك؟ فقال: ليس بكلامي ولا كلام صاحبي، ولكنه كلام الله.

وإن احتج بقوله: { مَا يَأْتِيهِم مِّن ذِكْرٍ مَّن رَّبِّهِم مُّحْدَثٍ } 47، قيل له: هذه الآية حجة عليك، فإنه لما قال: { مَا يَأْتِيهِم مِّن ذِكْرٍ مَّن رَّبِّهِم مُّحْدَثٍ } علم أن الذكر منه محدث ومنه ما ليس بمحدث؛ لأن النكرة إذا وصفت ميز بها بين الموصوف وغيره، كما لو قال: ما يأتيني من رجل مسلم إلا أكرمته، وما آكل إلا طعامًا حلالا ونحو ذلك، ويعلم أن المحدث في الآية ليس هو المخلوق الذي يقوله الجهمي، ولكنه الذي أنزل جديدًا؛ فإن الله كان ينزل القرآن شيئًا بعد شيء، فالمنزل أولا هو قديم بالنسبة إلى المنزل آخرًا، وكل ما تقدم على غيره فهو قديم في لغة العرب، كما قال: { وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ } 48، وقال: { قَالُواْ تَاللهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلاَلِكَ الْقَدِيمِ } 49 وقال: { وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كَانَ خَيْرًا مَّا سَبَقُونَا إِلَيْهِ وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ هَذَا إِفْكٌ قَدِيمٌ } 50 وقال: { قَالَ أَفَرَأَيْتُم مَّا كُنتُمْ تَعْبُدُونَ أَنتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ } 51، وكذلك قوله: { جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا } 52 لم يقل: جعلناه فقط، حتى يظن أنه بمعنى خلقناه، ولكن قال: { جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا } أي: صيرناه عربيًا؛ لأنه قد كان قادرًا على أن ينزله عجميًا، فلما أنزله عربيا كان قد جعله عربيًا دون عجمي. وهذه المسألة من أصول أهل الإيمان والسنة التي فارقوا بها الجهمية من المعتزلة والفلاسفة ونحوهم، والكلام عليها مبسوط في غير هذا الموضع، والله أعلم.


هامش

  1. [النساء: 164]
  2. [حرب بن إسماعيل الكرماني، أبو محمد، الفقيه، تلميذ أحمد بن حنبل، رحل وطلب العلم، قال الخلال: كان رجلا جليلا، وقال الذهبي: ما علمت به بأسا، توفي سنة 280 ه عن عمر يقارب التسعين]
  3. [المدثر: 26]
  4. [المدثر: 25]
  5. [طه: 14]
  6. [الإخلاص: 1]
  7. [النازعات: 24]
  8. [طه: 14]
  9. [غافر: 36، 37]
  10. [يس: 65]
  11. [فصلت: 20، 21]
  12. [النور: 24]
  13. [ص: 18]
  14. [الحج: 40، 41]
  15. [النساء: 164]
  16. [البقرة: 253]
  17. [الأعراف: 143]
  18. [الشورى: 51]
  19. [الأعراف: 144]
  20. [النساء: 163، 164]
  21. [السجدة: 13]
  22. [الكهف: 5]
  23. [التوبة: 6]
  24. [السجدة: 13]
  25. [الجاثية: 13]
  26. [النساء: 171]
  27. [النحل: 53]
  28. [السجدة: 13]
  29. [الأنعام: 114]
  30. [النحل: 102]
  31. [الشعراء: 193، 194]
  32. [البقرة: 97]
  33. [النحل: 102]
  34. [الزمر: 1]
  35. [غافر: 1، 2]
  36. [فصلت: 1، 2]
  37. [السجدة: 1، 2]
  38. [المائدة: 67]
  39. [الرعد: 17]
  40. [الحديد: 25]
  41. [الإسراء: 106]
  42. [الفرقان: 32]
  43. [التكوير: 19، 20]
  44. [الحاقة: 4042]
  45. [المائدة: 67]
  46. [الروم: 1، 2]
  47. [الأنبياء: 2]
  48. [يس: 39]
  49. [يوسف: 95]
  50. [الأحقاف: 11]
  51. [الشعراء: 75، 76]
  52. [الزخرف: 3]


مجموع الفتاوى لابن تيمية: المجلد الثاني عشر
فصل التنازع في الحروف الموجودة في كلام الآدميين | فصل في التنازع في قدم الأحرف وشكلها | تابع فصل في التنازع في قدم الأحرف وشكلها | فصل في المراد بلفظ الحروف | فصل في بيان أن القرآن العظيم كلام الله | فصل في منشأ النزاع والاشتباه | فصل في معرفة الأصل الذي تفرع منه النزاع | سئل عمن قال اختلاف المسلمين في كلام الله على ثلاثة أنحاء | تابع مسألة أختلاف الناس على ثلاثة أنحاء | سئل عن ما يجب على الإنسان أن يعتقده | فصل في نزول القرآن | سئل عن قوله تعالى فأجره حتى يسمع كلام الله وقوله إنه لقول رسول كريم | فصل عن قوله تعالى إنه لقول رسول كريم | فصل وأما قول القائل أنتم تعتقدون أن موسى سمع كلام الله منه | فصل قول القائل تقولون إن القرآن صفة الله | فصل في قوله تعالى وإن أحد من المشركين استجارك فأجره | سئل عمن يقول كلام الناس قديم | فصل مسألة اللفظ بالقرآن | فصل فيما قاله الكفار في القرآن والنبي صلى الله عليه وسلم | فصل في الذين يقولون بأن حروف القرآن ليست من كلام الله | فصل في الذين غلطوا مذهب اللفظية | فصل في ذكر بعض جهالات اللفظية | فصل رد الإمام أحمد على اللفظية | فصل فيمن أدرك من درجات الكلام بعض الحق | فصل في ذكر نصوص الإمام أحمد في الرد على اللفظية | فصل في العلة من ذكر ابن تيمية لنصوص الإمام أحمد | فصل في ذكر المواضع التي نص فيها الإمام أحمد على هذه المسألة | فصل في ذكر من قال إن الإمام أحمد قال ذلك خوفا من الناس | فصل في ذكر شبهة هؤلاء | فصل في سؤال السائل هل يجب على ولي الأمر زجرهم وردعهم | فصل في تكفير قائل هذا القول | فصل مسألة التكفير والتفسيق من مسائل الأسماء والأحكام | فصل في معرفة مسألة الأحكام | فصل في مسألة تكفير أهل البدع والأهواء | سئل عن رجل قال إن الله لم يكلم موسى تكليما | سئل عن رجل قال إن الله لم يكلم موسى تكليما فقال له آخر بل كلمه تكليما | سئل عن هذا القرآن الذي نتلوه هو كلام الله الذي تكلم به | فصل في أن القرآن الذي نقرأه هو كلام الله | سئل عن رجلين قال أحدهما القرآن كلام الله وقال الآخر هو كلام جبريل | سئل عمن يقول الكلام غير المتكلم | سئل عن المصحف هل هو نفس القرآن | فصل في أن القرآن الذي بين دفتي المصحف متواتر | هل الحروف مخلوقة أو غير مخلوقة | سئل عمن يقول إن الشكل والنقط من كلام الله تعالى | فصل في الكلام في القرآن هل هو حرف وصوت | سئل عن رجلين تباحثا في موضوع الحروف والصوت | سئل عن المصحف العتيق إذا تمزق ما يصنع به