الفرق بين المراجعتين لصفحة: «تاجر البندقية»

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة
تم حذف المحتوى تمت إضافة المحتوى
سطر 955: سطر 955:
برسيا: لا بد أن تكون في هذا الكتاب أنباء رائعات، فقد امتقع وجه باسانيو، وما يغير وجه الرجل الكريم مثل هذا التغيير السريع إلا أن يفقد صديقًا من أصفى أصفيائه تهون في جنب رزئه فوادح الأرزاء. عجبًا! أرى ازديادًا في أسفه — إيذن يا باسانيو: إني شطر منك الآن، وأطلب بقوة حصتي من مضمون هذه الرسالة كائنًا ما كانت.<br>
برسيا: لا بد أن تكون في هذا الكتاب أنباء رائعات، فقد امتقع وجه باسانيو، وما يغير وجه الرجل الكريم مثل هذا التغيير السريع إلا أن يفقد صديقًا من أصفى أصفيائه تهون في جنب رزئه فوادح الأرزاء. عجبًا! أرى ازديادًا في أسفه — إيذن يا باسانيو: إني شطر منك الآن، وأطلب بقوة حصتي من مضمون هذه الرسالة كائنًا ما كانت.<br>


باسانيو: يا حبيبتي برسيا! لم تسود الصحف في يوم من الأيام بمثل ما سودت به هذه الصحيفة من السطور المشئومة. عندما فاتحتك بغرامي لأول عهدنا، أقررت لك بأن ما بقي من ثروتي لم يكن إلا الدم الجاري في عروقي: دم ماجد شريف. على أنني أيتها الصفية الرقيقة، مع صدقي بإبلاغك أنني لم أكن شيئًا مذكورًا، قد غاليت فقومت نفسي، بما يفرق قيمتها كثيرًا، وكان الأجدر بي أن أصارحك بأنني أقل
باسانيو: يا حبيبتي برسيا! لم تسود الصحف في يوم من الأيام بمثل ما سودت به هذه الصحيفة من السطور المشئومة. عندما فاتحتك بغرامي لأول عهدنا، أقررت لك بأن ما بقي من ثروتي لم يكن إلا الدم الجاري في عروقي: دم ماجد شريف. على أنني أيتها الصفية الرقيقة، مع صدقي بإبلاغك أنني لم أكن شيئًا مذكورًا، قد غاليت فقومت نفسي، بما يفرق قيمتها كثيرًا، وكان الأجدر بي أن أصارحك بأنني أقل من لا شيء: ذلك لأنني استخدمت ضمان صديق عزيز للحصول على مال أقضي به حاجاتي، فعرضته بذلك لألد أعدائه وأشد مبغضيه. هذا كتاب يا سيدتي درجه جسم صاحبي، وكل كلمة في الدرج. جرح ثخين في الجسم يتدفق منه الدم وتندفع في أثره الحياة. ولكن أحق يا سالريو أن كل تلك المواسق نكبت؟ عجبًا! ألم ينج واحد منها؟ أَوَلَم تصل سفينة فذة من تلك السفائن العائدة من «طرابلس» أو «المكسيك» أو «إنجلترا» أو «لشبونة» أو «الهند» بلا استثناء؟ أكلها أبادته الصخور، وألقت به في أعماق البحور؟<br>

سالريو: كلها باد بلا استثناء. ومما يزيد الشجن أن اليهودي، فيما ظهر منه وتحقق، يأبى المال لو رد إليه الآن. ذاك مخلوق، على كونه في شكل إنسان، ما رأيت في غابر أيامي أشد منه تكالبًا للتنكيل بخصمه، فهو من الصباح إلى المساء لاحق بالدوق ملح أو ملحف يتقاضى شرطه مجاهر بأنه لا يبقى للعدل في الحكومة معنى إذا لم يعن على استيفاء حقه، وقد خاطبه عشرون من التجار كما خاطبه الدوق نفسه، والملأ الأكرمون من الأعيان ليعتدل في أربه، ويعدل عن طلبه فأبى مصرًّا، ولم يتمكنوا من تليين قلبه الجافي المليء بالضغن.<br>

جسيكا: عندما كنت معه سمعته بحضرة طوبال يهمس لمشايعيه في الدين يقول: إنه يؤثر البضعة من لحم أنطونيو على عشرين ضعفًا للقدر الذي أقرضه إياه، وأنا متحققة من أن أنطونيو المسكين إذا لم يؤازره القانون أو أولياء الحل والعقد لم يفلت من مخالب الخطر.<br>

برسيا: أذلك الرجل الواقع في هذه الأزمة الشديدة حبيب إليك، عزيز عليك.<br>

باسانيو: هو أصفى إخواني وأوفى أخداني، هو في الرجال الأشهم الأمجد، الأكرم الأعود، هو الإنسان الذي تتراءى فيه الروح الرومانية أصفى ما كانت، وأنقى ما هي كائنة في نفس إنسان من بني إيطاليا.<br>

برسيا: ما الذي عليه لليهودي؟<br>

باسانيو: عليه له ثلاثة آلاف دوقي أخذتها أنا.<br>

برسيا: أهذا كل المقدار؟ اردد







نسخة 13:38، 21 أغسطس 2018

​تاجر البندقية​ المؤلف وليم شكسبير
ترجمةخليل مطران


شخصيات المسرحية

  • دوق البندقية.
  • الأمير المراكشي.
  • أمير أراغون.
  • أنطونيو: تاجر البندقية.
  • باسانيو: صديقه.
  • سالانيو، سالارينو، جراتيانو: أحباب لأنطونيو ولباسانيو.
  • لورنزو: عاشق لجسيكا.
  • شيلوك: يهودي.
  • طوبال: يهودي صديق لشيلوك.
  • لنسلوجويو: مضحك في خدمة شيلوك.
  • جوبو الهرم: والد لنسلو.
  • سالريو: رسول من البندقية.
  • ليوناردو: خادم باسانيو.
  • بلتزار، ستفانو: أجيران لبورسيا.
  • “بورسيا: وارثة مثرية.
  • نريسا: تابعة لها.
  • جسيكا: بنت شيلوك.
  • أعيان من البندقية.
  • ضباط دار الحكم.
  • سجان.
  • خدم … إلخ.

الفصل الأول

المشهد الأول

منهج في البندقية (يدخل أنطونيو وسالارينو وسالانيو)

أنطونيو: حقًّا لا أعرف لماذا أنا حزين حزنًا يتعبني، ويشق عليكما فيما أرى. إني لأسائل ضميري من أين جلبت أنا هذه الكآبة، أو كيف وفدت هي علي، أو في أي مكان صادفتني، أو من أي غزل نسجت، أو تحت أية سماء ولدت، فما أكاد أحير جوابًا، بل أشعر أن بي بلاهة، وأوشك أن أتنكر علي نفسي.

سالارينو: لا غرو أن يكون عقلك ضاربًا في العباب متعقبًا بين النواهض والعواثر من الأمواج، آثار مراكبك الضخام التي تتخطر بسواريها البواسق فوق الغمر تخطر الغطاريف الذين لهم السيادة على البحر، أو تحلق من عل فوق جماهير الصغار المتضائلات من سوقة السفن وعامة المنشآت فيحيينها بإجلال حين مرورها بهن سابحة، وكأنها طائرة بأجنحتها الكتانية.

سالانيو: أيقن يا سيدي أنني لو خاطرت بمالي مثل مخاطرتك لدرجت أهوائي تتعقب آمالي في تلك الآفاق البعيدة، أو لما وجدني من نشدني إلا عاكفًا على فريعات الأعشاب أستخبرها عن مهاب الرياح، أو مكبًّا على صور الأرض أبحث عن المرافئ والأرصفة والموانئ، فأيما شيء تبينت منه أدنى بأس على أوساقي مت له جزعًا.

سالارينو: بل لكان من شأني في مثل هذه المجازفة أنني إذا نفخت في حسائي لتبريده طفقت أفطن للآفات التي قد تحدثها العواصف في البحر فأرتعد، وإذا نظرت إلى تناقص المزولة خطرت على بالي الجروف والأغوار الرملية، وبدت لوهمي تلك الجارية الكبرى المسماة «بسنت أندري» جانحة وقد انقلبت ساريتها الوسطى إلى ما تحت غاطسها كأنها تقبل رمسها. وإذا يممت الكنيسة فلاحت لي مبانيها الحجرية الممردة ذكرت من فوري تلك الصخور الصماء التي إن مست جانبًا من جوانب فلكي ارتطم بها، وألقى بما يحمله علي وجه المحيط فانبثت البقول فوق الحباب وانتشر الحرير علي مناكب الأمواج الهدارة، وانتقلت أنا في عقبها من ملابسة الثراء إلى ملابسة الثرى. أفي وسع إنسان أن يرى مني تلك الحالة فلا يفهم أن ما يشغل بالي إنما هو هذا الشاغل؟ قولوا ما تشاءون، أما أنا فلا أحمل هم أنطونيو إلا على محمل تفكيره في مشحوناته.

أنطونيو: لا وصدقاني. ليست لحسن طالعي كل بضائعي في موسق واحد ولا هي موجهة إلى مكان واحد فتكون عرضة للأخطار، بل أزيدكما أنني لم أقامر بكل ثروتي في مضاربات هذه السنة، فكآبتي ليست من جانب مشحوناتي.

سالانيو: إذن أنت عاشق.

أنطونيو: لا ولا.

سالانيو: فإن لم تكن عاشقًا لم يبق لنا أن نقول إلا أنك ترح لأنك غير فرح، كما أنك بالقياس على هذا لو كنت مبتهجًا لجاز لك أن تضحك، وترقص، وتجهر بأنك مسرور، لأنك لست بمحزون. حلفت بيانوس ذي الوجهين إن الطبيعة تخلق في بعض ما تخلق أناسًا مستغربين، فئة منهم لا تني عيونهم متيقظة على كونهم كالببغاوات، يضحكون لأول نافخ في مزمار يسمعهم لحنًا ما، وفئة آخرون لا يفتئون مقطبين جباههم. إذا طرقت آذانهم نكتة من المستظرفات التي تضحك الحليم — ولو أنه نستور الحكيم — لم تنفتق لها شفاههم المضمومة عن أدنى ابتسام.

(يدخل باسانيو ولورنزو وغراتيانو)

سالانيو: هذا باسانيو قريبك الشريف قادمًا يصحبه غراتيانو ولورنزو. نستودعك الله وندعك ترفقه أحسن محضرًا منا.

سالارينو: لو لم يجئ من هو خير مني، لأقمت حتى أزيل كآبتك.

أنطونيو: ما أشد اعتدادي بمودتك، لكن شئونك تدعوك وأنت تنتهز الفرصة للانصراف إليها.

سالارينو: نعمتم صباحًا يا سادة.

باسانيو: إيهًا يا سادة متى نستأنف مباسطتنا؟ قولوا متى؟ لقد أطلتم هجرنا فإلام هذا الجفاء؟

سالارينو: متى أذنت أشغالكم باللقاء، فنحن ممتثلو أمركم.

«ينصرف سالارينو وسالانيو»

لورنزو: أما وقد التقيت بأنطونيو يا سنيور باسانيو فنحن نتولى عنكما إلى أن يحين العشاء فعسى ألا تنسى المكان الذي سنجتمع فيه.

باسانيو: ثقا أنني آت.

غراتيانو: ليس في وجهك ما يدل علي الصحة يا سنيور أنطونيو. لشد ما تشغلك أمور الدنيا، ومخسر من اشترى النجاح بثقال الهموم. إنك لعلى غير من أعهد فيك من العافية.

أنطونيو: غراتيانو، إنما أنظر إلى الدنيا كما يجب أن ينظر إليها باعتبار أنها ملعب لكل فيه دور، أما دوري فكتبت عليه الكآبة.

غراتيانو: وأما الذي أوثره لنفسي فدور الضحكة. لئن علتني غضون الشيخوخة فلا علتني إلا بين السرور واللهو. وخير لي أن ترمض الخمرة كبدي من أن تبدد الأشجان أنفاسي تصويبًا وتصعيدًا. علام يرضى الإنسان — إذ الدم ما يزال حارًّا في عروقه — أن يتشبه بالمرمر المصنوع منه تمثال جده، فلا ينام إلا مستيقظًا، ولا يستفيد من تدفق الكآبة الصفراء علي قلبه سوى داء اليرقان. أصغ إلي أنطونيو. أنا أحبك، وعن حبي مصدر الكلام الذي أسوقه إليك: من الناس من وجهه كوجه الماء الراكد به انتفاخ ويغشاه ما يغشى المستنقعات من مر المراءات، يصمت عن تدبير ليذيع عنه أنه لبيب متبصر متبحر في الأمور، فإذا فتح فاه فكأنه قائل: «أنا صوت الوحي، حذار أن تنبح الكلاب» … أي صفيي أنطونيو، أعرف غير واحد لم يشتهروا بالعقل إلا لعدم نطقهم بشيء، مع أنهم لو نبسوا لآذوا أسماع مجالسيهم ولعوملوا معاملة المجانين. سنعود إلي هذا البحث فيما بعد. انتصح بنصحي، ولا تحاول أن تتصيد الشهوة بحبالة حزنك فهي صيد الحمقى — تعال أيها العزيز لورنزو — «لأنطونيو» وداعًا إلي هنيهة، سأتم عظتي بعد العشاء.

لورنزو: أجل سندعكم إلى ميقات العشاء، ولما كان غراتيانو لا يفسح لي في الكلام ألبتة فقد رضيت أن أكون واحدًا من أولئك الحكماء الصامتين.

غراتيانو: لا جرم أنك لو استمررت على معاشرتي سنتين آتيتين لتعذر عليك بعدهما أن تعرف صوتك.

أنطونيو: في رعاية الله. إذا ظلت الحال هكذا، لم تلبث أن تحولني إلى ثرثارة.

غراتيانو: أولى لك ثم أولى، فإن الصمت لا يحمد إلا في اللسان المدخن وفي فم العذراء التي لا تبيع عرضها.

(يخرج غراتيانو ولورنزو)

أنطونيو: أيوجد شيء من المعنى تحت هذا كله؟

باسانيو: أذلق أهل البندقية لسانًا، بمثل هذه التوافه — غراتيانو — والأسباب التي يبني عليها أقاويله، أشبه بحبتي قمح في مكيالين مفعمين بالتبن، فتش سراة النهار حتى تجدها، فإذا وجدتهما فما أقلهما من شيء في جانب هذا العناء!

أنطونيو: حسن. حدثني الآن عن تلك المرأة التي عزمت علي حج بيتها في الخفاء.

باسانيو: لا تجهل يا أنطونيو ما كان من تبديدي ثروتي بالتوسع في الإنفاق منها علي قلة مواردها، وما جرني إليه ذلك من الديون الباهظة، فهمي الآن — ولا يداخله شيء من خوف السقوط عن ذلك المقام الرفيع — هو أن أوفي تلك الديون كما يقتضي شرفي، ومعظمها لك سمحت به عن وداد فإلى ودادك اليوم ألجأ لتعينني على تحقيق آمالي، وتمدني بما يوصلني إلى أداء ما علي.

أنطونيو: عرفني آمالك يا صديقي باسانيو، فإذا كانت شريفة كما أعهدك شريفًا، فأنت واثق أن مالي وشخصي وكل ما في وسعي رهن خدمتك.

باسانيو: عندما كنت طالب علم اتفق لي غير مرة أن أرمي نبلًا فأفقد أثرها، فإذا أردت الاهتداء إليها رميت أخرى في ناحيتها، ورقبتها في منطلقها، ثم مضيت في ذلك المتجه فلم أرجع إلا وقد ظفرت بالنبلين جميعًا. ذلك لمخاطرتي بالثانية بعد الأولى. وقد قصصت عليك هذه السانحة الصبوية، لأن ما سأذكره لك لا يقل عنها تفاهة. أنا مدين لك بكثير، ويوشك ما أقرضتني أن يكون مفقودًا، لأن نزق الصبى حال دون تبصري في عقبى هذا التفريط، غير أنك إذا أسعدتني علي إرسال سهم ثان في مرمى السهم الأول رقبته بتفطن، وفزت يقينًا بوجدان السهمين كليهما، أو عدت علي الأقل بالأخير منهما. وبقيت لك عن الذي سلف ممتنًّا شكورًا.

أنطونيو: ما كان أغناك — على علمك بي — عن إضاعة الوقت في الاحتيال للاستعانة بمودتي. إنك بارتيابك في خلوصي لك لتسوءني أكثر مما لو أضعت علي ثروتي بأسرها. قل ما ترجوه مني فيما تعرفني قادرًا عليه فقد أجبت. تكلم.

باسانيو: في قصر بلمنت غانية غنية، وارثة لجاه كبير، جمالها فوق ما تصف الكلم، وخصالها لا نظائر لها. راسلتني عيونها في بعض الأوقات، ساكتة والهوى يتكلم. يسمونها برسيا ولا تقل شيئًا عن سميتها برسيا بنت كاتون قرينة بروتس، على أنها ليست بمغمورة الذكر، ولا مبخوسة المهر، فإن نبهاء الخطاب يتوافدون إليها من كل فج وشاطئ. تتساقط ضفائرها على صدغيها كأنها جدلت من ذهب. وما من خاطب مجد، وطالب سعد، إلا وقد طرق بابها، والتمس جوابها. فيا صديقي أنطونيو لو تيسر لي أن أتقدم بين المتقدمين في هذه المناظرة، فإن وحيًا نجيًّا يسر إلى قلبي أنني سأدرك قصب السبق.

أنطونيو: تعلم أن ثروتي جميعها تحت رحمة المحيط، وأنه لا يتسنى لي أن أجمع الآن من مالي مقدارًا جديرًا بالذكر، فاذهب إلى البندقية واسبر ما تقدر علي استدانته بضماني، فأيًّا كان الشيء يبلغك مرامك لم يعز علي بذله. ابحث في كل مظنة للنقود، وسأبحث أنا كذلك، ولعل ما للناس بي من الثقة أو ما لي عندهم من الكرامة يقضيان أربك.

(يخرجان)

المشهد الثاني

بلمنت — قسم من قصر برسيا

(تدخل برسيا ونريسا)

برسيا: حقًّا يا نريسا إن جسمي الصغير لتعب من هذا العالم الكبير.

نريسا: ما كان أحراك بهذا التعب لو أن ما عندك من اليسر أبدل بعسر، غير أنني قد تبينت أن الإنسان يشقيه فرط الغنى، كما يشقيه جهد الفقر، وإن السعد عين السعد في الحالة الوسطى، فإن مع الترف وشك المشيب ومع الشظف إمهال الأجل.

برسيا: نعمت الحكمة، وحبذا مجراها على لسانك.

“نريسا: لخير أن يعمل بها من أن تقال.

برسيا: لو كان العمل بالأصلح سهلًا كالعلم به لأغنت البيع الصغرى عن الكنائس الكبرى، ولكانت أكنان الفقراء هي القصور الآهلات … أفضل الواعظين هو ذلك الذي يتعظ بنفس أقواله، قد يهون علي تعليم عشرين سامعًا أكثر مما يهون علي — لو كنت أحدهم — أن أنتصح بنفس نصائحي. العقل يسن القوانين للحواس، ولكن حرارة الطباع تدوس تلك الروابط الباردة. ما أشبه جنون الشباب بالأرنب الوثاب، وما أشبه العقل بالشرك الضعيف، أفلت منه ذلك الأرنب فمضى لغير مآب. على أن هذا القياس لا ينفعني أدنى نفع في اختيار زوج لي، كيف أذكر الاختيار وما بوسعي انتقاء من يعجبني، ولا رد من لا أحب. جعلت إرادتي — وأنا فتاة في اقتبال الحياة — رهن إرادة تقدم بها إلي والد هو الآن ميت. أليس شاقًّا على النفس يا نريسا أن تكون الفتاة غير قادرة على قبول من تود أو رفض من لا تود؟!

نريسا: كان أبوك امرأ خير، والأبرار يلهمون الخير قبل وفاتهم، فاعتقدي أن الاقتراع الذي ناطه بهذه الصناديق الثلاثة: الذهبي، والفضي، والرصاصي، وجعلك حليلة لمن يجيء اختياره وفق مراده لن يجيئك منه إلا بعل جدير بحبك. على أن الخطاب الذين تقدموا إلى الآن كثير، أفما تقولين لي أيهم أكبر حظوة في عينك.

“برسيا: أعيدي علي إن شئت أسماءهم أصفهم، ومن الوصف تعلمين منازلهم من رأيي.

نريسا: أولهم الأمير النابلي.

برسيا: هذا حيوان لا شك فيه. يتكلم بلا انقطاع عن جواده، ويتباهى بأنه ينعل الدابة بيده، ويتقن. حتى لأخشى أن تكون أمه قد عثرت عثرة بين يدي أحد البياطرة.

نريسا: يليه الكنت البالاتي.

برسيا: هذا رجل سحنته متشبعة من حسن ظنه بنفسه، كأنه يخيرك: «أترتضين بي أم لا ترتضين؟ أبيني.» يسمع أظرف السير بلا تبسم، وأخاف لشدة كآبته في شبابه أنه إذا بلغ أخريات أيامه عاش عيشة الفيلسوف الباكي. لأوثر علي الواحد من هذين أن اقترن برأس ميت، في فمه قطعة من العظم.

نريسا: كيف تقولين في الشريف الفرنسوي المسيو ليبون؟

برسيا: هكذا خلقه الله، ولا اعتراض لي على وجود مثله بين الرجال. أعرف أن سخرية المرء من أخيه خطيئة، لكن ذلك الرجل أكرم حصانًا من النابلي، وأقبح عبوسة من الكنت البالاتي، هو كل شيء ولكن لا شيء. إذا تغنى الشحرور ترقص له، وإذا لقي ظله بارزه، فاقتراني به إنما هو اقتران بعشرين زوجًا. ولو احتقرني لغفرت له، إذ لو أحبني إلى الجنون لما أصاب مني سوى الاحتقار.

نريسا: إذن ما فكرك في فلكنبردج البارون الإنجليزي؟

برسيا: تعلمين أنني لم أخاطبه. إنه ناعم الأظفار لا يفهم كلامي، كما أنني لا أفهم كلامه. هو يجهل اللاتينية، والفرنسية، والإيطالية، وأنا أجهل الإنكليزية إلا كلمتين لا تقوم معهما الشهادة لدى القضاء بأنني أحسن هذه اللغة. به جمال ولكنه كجمال الصور، وأنى لي أن أتمتع بحديث مع صورة، ملبسه غير مألوف، وأظن أنه اشترى صداره من إيطاليا وسراويلاته القصيرة من فرنسا وقبعته من ألمانيا، واتخذ عاداته من مختلف الأقاليم.

نريسا: وما قولك في جاره النبيل الأسكتلندي؟

برسيا: إنه شديد الرغبة في الإحسان إلي أخيه الإنسان، بدليل أنه اقترض صفعة أخيه الإنكليزي، ثم أقسم إلا ما ردها إليه حين يستطيع، وفي زعمي أن الفرنسي ضمن له المعونة على هذا الرد، لكنه زور صك الضمان.

نريسا: ما حكمك في اليافع الألماني ابن أخي دوق سكس؟

برسيا: بغيض قبل الصبوح، وأبغض منه بعد الغبوق. يوشك في أحسن أوقاته أن يكون رجلًا، وفي أقبح أوقاته لا يفوق الحيوان الأعجم إلا بشيء يسير. والخيرة لي مع ترجيح السيئات على الحسنات أن أستغني عنه.

نريسا: لو أنه اقترع في المقترعين وأصاب الصندوق الرابح، أفتأبينه لك بعلًا فتخالفي إرادة والدك؟

برسيا: ضعي كأسًا كبيرة من خمر الرين على الصندوق المقابل لذاك يترام إليها لا محالة، ويؤخذ بهذه الحيلة، وإلا آثرت كل مصير أصير إليه في الدنيا على التزوج من إسفنجة!

نريسا: لا تخشي يا سيدتي أحدًا من هؤلاء، فقد علمت بعزمهم على العود إلي ديارهم، وعدولهم عن الطموح إليك، إلا إذا وجد موفق منهم وسيلة لاكتسابك غير القرعة التي أوصى أبوك بها.

برسيا: لو عشت أطعن في السن من السيبيل لمت أطهر في ملمس عفتي من ديانا، ولم أتزوج إلا على الطريقة التي اختارها أبي. أنا مسرورة بما عند هؤلاء الخطاب من سرعة الإدراك، ممتنة لغيابهم جميعًا، داعية ربي لتوفيقهم في السفر.

نريسا: ألا تذكرين يا سيدتي أنك رأيت في حياة أبيك رجلًا متأدبًا، شجاعًا من أهل البندقية، زاركم مع المركيز دي منفرات.

برسيا: بلى، بلى، وكأنني أتفطن لاسمه … باسانيو … فيما أظن.

نريسا: أجل يا سيدتي، وأحسبه أخلق من رأيت بأن تهواه امرأة جميلة.

برسيا: أذكره جيدًا، وهو جدير بمدحتك — «يدخل خادم» — إيهًا، ما وراءك؟!

الخادم: الأجانب الأربعة يلتمسون أن يروك للاستئذان بالرحيل وجاء رسول من أمير مراكش يقول إن سيده سيفد الليلة.

برسيا: إذا قدر لي أن أتلقى الخامس بسرور يعادل سروري بوداع الأربعة الآخرين ابتهجت بقدومه، على أنه لو اجتمعت فيه بيض شمائل الأولياء إلى سواد وجه الشيطان لحبذته كاهنًا، ونبذته قرينًا — هلمي نريسا — «الخادم» أنت تقدمنا. بينما نحن نقفل الباب في وجه خاطب، إذا خاطب غيره يقرع الباب.

(تخرجان)

المشهد الثالث

البندقية - ساحة عامة
شيلوك: ثلاثة آلاف دوقي، حسن بسن.

باسانيو: أجل يا سيدي لثلاثة أشهر.

شيلوك: لثلاثة أشهر. حسن بسن.

باسانيو: بصك على أنطونيو كما أنبأتك.

شيلوك: بصك علي أنطونيو، حسن بسن.

باسانيو: أأعتمد عليك؟ أتسعفني؟ ما جوابك؟

شيلوك: ثلاثة آلاف دوقي، لثلاثة أشهر، بصك علي أنطونيو!

باسانيو: ما قولك في هذا؟

شيلوك: أنطونيو كفء لهذا القدر.

باسانيو: أعندك ريب؟

شيلوك: لا، لا، إذا قلت إنه كفء، فالمعنى أنه قادر على الوفاء. سوى أن مملوكاته ليست بثابتة. له سفينة في طريق طرابلس، وثانية في طريق الهند، وسمعت عن ثالثة تيمم المكسيك، ورابعة تنحو نحو إنجلترا، وعن سفين أخر متوزعة في آفاق أخر. غير أن المراكب ليست إلا خشبًا، والملاحين ليسوا إلا أناسًا. دع أخطار الأمواج والأرياح والصخور. إلا أن الرجل كفء للوفاء. ثلاثة آلاف دوقي. أظن أنني أستطيع قبول صكه.

باسانيو: تستطيع ولا شك.

“شيلوك: سأنظر فيما إذا كنت قادرًا، وأفكر في الأمر قبل البت فيه، أيتسنى لي أن أكلم أنطونيو؟

باسانيو: إن أحببت تناول العشاء معنا.

شيلوك: نعم لتشتم مني ريح الخنزير، وليدخل في جوفي ذلك الحيوان الذي دعا عليه نبيكم الناصرى، فأسكن فيه الشيطان. حبًّا لكم إن تكن بيني وبينكم مبايعة أو مشاراة، أو محادثة، أو مماشاة إلخ. أما المؤاكلة، والمشاربة، والمشاركة في الصلاة فلا. ما أخبار التجارة في المصفق، من القادم؟

(يدخل أنطونيو)

باسانيو: السنيور أنطونيو.

شيلوك «منفرد»: ما أظهر الرفض علي وجهه المرائي بالتقوى. أبغضه لأنه نصراني، وخصوصًا لأنه جاهل أبله، يقرض المال بلا ربح، ويسقط قيمة النقد في البندقية. لئن أخذت بتلابيبه يومًا لقد شفيت حزازاتي القديمه منه. هو يبغض أمتنا المقدسة ويسخر — حتى في المصفق الذي يجتمع فيه التجار عادة — مني ومن معاملاتي ومن أرباحي المحللة التي ينعتها بالربوية. لعنت عشيرتي إن كنت غافرًا له هذه الذنوب.

باسانيو: أسمعت ما أقول؟

شيلوك: كنت أحسب ما بين يدي من النقود، ويخيل إلي — إن صدقت ذاكرتي — أنني لا أستطيع في الحال تجهيز ثلاثة آلاف دوقي كاملة. بل يخطر لي أن طوبال — وهو من أغنياء قومي — يجبيبني إلى ما أطلب. لكن مهلًا؛ إلى أي أجل … «مخاطبًا أنطونيو» عم صباحًا يا سيدي، كنا في ذكراك.

أنطونيو: شيلوك. إنني على كوني لا أقرض ولا أقترض بربح أجدني مضطرًّا إلى مخالفة مألوفي قضاء لحاجة صديقي. «إلى لنسلو» أيعلم المقدار الذي تطلبه؟

شيلوك: نعم، نعم، ثلاثة آلاف دوقي.

أنطونيو: لثلاثة أشهر.

شيلوك: كنت قد نسيت. لثلاثة أشهر كما قلت، بصك منك. حسن بسن. لننظر قليلًا. لكن أما سمعت أنك لا تأخذ ولا تعطي بالفائدة.

أنطونيو: بلى، والحق ما سمعت.

شيلوك: عندما كان يعقوب يرعى سائمة عمه لابان، ويعقوب هذا بفضل أمه الحكيمة هو الثالث من نسل سيدنا إبراهيم …

أنطونيو: علام تستشهد به؟ أفتزعم أنه كان يقرض بالربا؟

شيلوك: لا لم يكن مقرضًا بالربا. لم يكن ما يفعله بحصر المعنى، وإنما كان المتفق عليه بينه وبين لابان أن كل الخراف التي تنتج معلمة بلونين، تجعل أجرًا ليعقوب. فلما كان آخر الخريف وحالت النعاج، فالتمست ذكورها، خطر لراعيها الفطن أن يقتطع قضبانًا يعريها من قشورها، ويضعها تجاه النعاج وقت ضرابها، فنجم من رؤيتها أن النعاج نتجت حملانًا مخططة الجلود بلونين، وهذه الحملان حقت ليعقوب. فهذه وسيلة من وسائل الكسب بارك الله ليعقوب فيها. وكل ربح — ما لم يجئ من السرقة — فهو حلال.

أنطونيو: كان يعقوب يخدم على كراء لا يسعه استزادته، ولا الانتقاص منه إلا ما يشاء الله وما لا يستطيعه أحد سواه. أفتعد هذا مثلًا مبيحًا للربا؟ وهل ذهبك وفضتك نعاج وكباش؟ شليوخ: ما أدرى، ولكنني أستنتجها بمثل تلك السرعة. تنبه لهذا يا سيدي!

أنطونيو: وأنت يا باسانيو تفطن، إن الشيطان يستطيع الاستشهاد بالتوراة لتصويب أعماله! فما مثل النفس الشريرة التي تجيء بتلك الاستشهادات الصالحة إلا مثل المجرم الذي يبتسم، أو الثمرة الناضرة التي لبها متعفن. ما أكثر الظواهر الخادعة التي تشبه الرذيلة بالفضيلة!

شيلوك: ثلاثة آلاف دوقي، مقدار جسام. ثلاثة آلاف في اثني عشر؟ لننظر: ما تكون فائدتها؟

أنطونيو: مهما تكن أفتقضي حاجتنا؟

شيلوك: يا سنيور أنطونيو طالما صادفتني في مصفق الريالتو فسخرت من أعمالي المالية ومن مراباتي، فلم أقابل ذلك إلا برفع الكتفين وجميل الصبر، لأن الألم هو إحدى الآفات التي خصت بها أمتنا. وطالما نعتني بالكافر، أو الكلب الكلِب، وبصقت على عباءتي التي يعرف منها الناس يهوديتي، كأنك تعيبني لاستعمالي ما هو ملكي. أما الآن فيظهر أنك في حاجة إلي: «شيلوك نريد منك نقودًا» من يقول لي هذا؟ أنت يا من ينفث في لحيتي لعابه، ويطردني من حضرته ركلًا، كما الكلب الأجنبي من عتبة البيت. تطلب مني مالًا! فبم ينبغي أن أجيب؟ أيحرز الكلب نقودًا؟ أيعقل أن كلبًا يقرض ثلاثة آلاف دوقي؟ أم يتعين علي أن أخر إلى الذقن، وأن أرد عليك بصوت خافت، وقلب خاشع: «يامولاي الجميل! يوم الأربعاء المنصرم بصقت في وجهي، ويومًا قبله طردتني ضربًا برجليك، ويومًا قبله دعوتني بكلب، فقيامًا مني بحق تلك المكارم كلها سأقرضك نقودًا؟!

أنطونيو: من المحتمل أنك ستجدني مسميًا لك بتلك الأسماء، أو باصقًا في وجهك، أو طاردًا إياك برجلي؛ فإن كنت راغبًا في إقراضنا المال فلست دائنًا به أصدقاء، وأنَّى للصداقة أن تتولد من حيث لا رحم؟ أنت تقرض عدوًّا، فإذا أبطأ عن الإيفاء في الأجل كنت في حل من تخريط القانون عليه بكل قوته.

شيلوك: انظر كيف تستشاط. أريد أن أكون صديقًا لك، وأن أحصل على عطفك، وأن أنسى ازدراءك إياي، وأن أقضي حاجتك الراهنة، بلا تقاضي فائدة ما، وأنت تأبى سماع ما أعرضه عليك من جميل العرض.

أنطونيو: لو فعلت لبالغت في الإجمال.

شيلوك: سأثبت لك مجاملتي، لنذهب إلى محرر عقود فتخط الصك لديه، ومن باب المزاح سأستكتبك إقرارًا بأنك إذا لم تدفع زهاء ذلك الخط في يوم كذا بمكان كذا توجب لي عليك اقتطاع لبرة من لحمك في المكان الذي أختاره من جسمك.

أنطونيو: أوافق بارتياح علي هذا الاقتراح، وسأوقع على الصك محررًا بهذا النص، شاكرًا لك هذه المجاملة اليهودية.

باسانيو: لن تخط خطًّا كهذا لأجلي أبد الدهر!

أنطونيو: لا تخشَ بأسًا يا صفيي، سأقوم بعهدي، فبعد شهرين، أي قبل الأجل بشهر، تردُني أوساق بثلاثة أضعاف هذا القدر.

شيلوك: يا أبانا إبراهام! هؤلاء النصارى عجب أمرهم! ساءت فعالهم فقبحت بالناس ظنونهم. أنت مخبري ماذا أكسب من إنفاذ هذا الشرط إذا لم يف المدين بما عليه. للرطل من لحم رجل أقل قيمةً من رطل الضأن أو البقر أو الماعز. إنما أفعل هذا توسلًا به إلى مودته، فإن رضي فبها ونعمت، وإلا فأستودعكم الله راجيًا ألا تبتغوني بشرٍّ من حيث أردت لكم الخير!

أنطونيو: أجل شيلوك، سأوقع على هذا الصك.

شيلوك: فتفضل وانتظرني لدى محرر العقود، وقل له: أن يخط هذا الشرط المضحك، أما أنا فأمضي لجلب الدوقيات وإلقاء نظرة في بيتي الذي يحرسه ماهنٌ مكسال، لا ينبغي لرب البيت أن يستنيم لهمته، ثم أدرككم.

(يخرج)

الفصل الثاني

المشهد الأول

بلمنت — قسم في قصر برسيا

(يدخل أمير مراكش مع أتباعه وبرسيا مع أتباعها ونريسا)

(معازف)

الأمير: لا تنفري من سمرة أديمي، فإنها مسحة من جوار الشمس لي في مسقط رأسي. على أنك لو جئتني بأبهى رجل من أهل هذه الأقاليم الشمالية التي لا تكاد أشعة النهار تذيب صقيعها لواقفته موقف الفصاد، وأشهدتك من منا دمه أشد احمرارًا؟ ثم اعلمي يا سيدتي أن رؤيتي طالما أرعدت الشجعان، كما أنها — وحبك — طالما كانت قيد الأوابد من الحسان في أوانس بلادي، ولئن حداني شيء على التبدل بلون مشرقٍ من لوني القاتم لما كان إلا ابتغائي رضاك يا مليكتي!

برسيا: لن أجعل إيثاري قائمًا على ما تشهد به عيناي، وأنا في عهد طفولتي واغتراري، بل أنا تابعة لحكم القرعة دون اختياري، ولولا أني مقيدة بهذا القيد الذي إنما جعلت به زوجًا للموفق في فطنته، لما كان بين الخطاب الذين رأيتهم واحد أولى منك بعطفي.

الأمير: هذا كثير وأشكره لك … ثم أستزيدك جميلًا: أن تدليني على موضع تلك الصناديق، فأتبين بختي. حلفت بهذا الحسام الذي قتلت به صوفيًّا وصرعت أميرًا أعجميًّا، وأحرزت النصر العزيز في ثلاث وعكات، جرت بيني وبين السلطان سليمان، لو اقتضاني غرامي أن أرد كل سامي الطرف ناكس البصر، أو أن كافح كل قرم عنيد قهار شديد، بل لو سامني انتزاع رضيع الوحش الضاري عن ضرع أمه، أو مناوأة الضيغم الهصور وقد استفزه القوم، لفعلت طمعًا في الظفر بك، ولكنه — واحربا — أمر منوط بالمقادير، والمقادير ربما سددت سهم الضعيف وأطاشت سهم القدير، وربما أدنت حظ الآجر وأغلت حظ الأجير، فهاهنا مجال المكره، لا البطل، وإني لأخشى أن أخفق حيث يفوز من هو دوني فأموت بشجوني.

برسيا: أمامك اثنان لا ثالث لهما، إما أن تعدل وإما أن تصيب ما يقضي به لك الصندوق الذي تعينه، هذا بعد أن تقسم على أنك إن أخفقت لم تتخذ لك زوجًا بقية عمرك. تفكر ثم تخير.

الأمير: رضيت بهذين الشرطين، لنمض فأعلم ما يقضي به طالعي.

برسيا: بل نذهب أولًا إلي حيث تحلف يمين الموافقة، وبعد العشاء تشرع في الخيرة.

الأمير: أسأل الله إنجاح قصدي فإني بعد هذا الاقتراع، إما أسعد الخلق، وإما أتعسهم.

المشهد الثاني

البندقية - جادة

(يدخل لنسلو جوبو)

لنسلو: ضميري يحتم علي أن أترك خدمة اليهودي مولاي. والشيطان على مقربة مني، يخادعني بقوله: جوبو، لنسلو، ياصديقي لنسلو، أو يا صديقي جوبو، أو يا صفيي لنسلو جوبو، أعمل فخذيك، وانج بنفسك. ثم يقول لي ضميري: حذار يا لنسلو النزيه، حذار يا جوبو المستقيم، أو كما كنت أقول آنفًا: أيها النزيه لنسلو جوبو. لا تبرح، وترفع عن إجهاد فخذيك في الهزيمة. إلا أنه — أي الشيطان — لا يلبث أن يعيد علي نصيحته بالارتحال متشددًا فيها مهيبًا لي: «أقلع. تشجع. انج بنفسك.» عندئذ يعلق ضميري برقبة فؤادي، ويقول لي عن حكمة: «ياصديقي لنسلو القويم، ابن الرجل المستقيم وابن المرأة المستقيمة» ذلك أن والدي كان يذوق الثمرة التي بين يديه ولا يخلو من سلامة في الذوق، عندئذ يقول ضميري: «البث لنسلو»، فيقول الشيطان: «فرارًا» فيقول الضمير: «إياك»، فأقول لأحدهما: «ياضميري حسنت نصيحتك.» ثم أقول للآخر «أيها الشيطان أين الصواب في مشورتك.» لو جاريت الضمير لأقمت مع اليهودي الذي هو — أستغفر الله — ضرب من الشيطان، ولو فارقت اليهودي لأصبح زمامي في يد الشيطان الذي هو — ولا مؤاخذة — الشيطان بعينه، وهذا اليهودي بشخصه. وبذمتي إن ذمتي لتركب الشطط حين تنصح لي بالمكث عند اليهودي. وإنما الشيطان هو الذي ينصح لي نصيحة الصداقة. سأفر، سأفر. أمرك مطاع أيها الشيطان.

(يدخل جوبو العجوز حاملًا سلالًا)

جوبو: يا سيدي الفتى، أين الطريق التي توصل إلى بيت اليهودي؟

لنسلو «منفردًا»: يالله! هذا أبي، والدي بالحلال ولم يعرفني لشدة حسره! سأختبره اختبار مداعبة.

جوبو: يا سيدي الفتي، أين الطريق التي توصل إلى بيت اليهودي؟

لنسلو: عندما تصل إلى العطفة الأولى تحيد يمينًا، فإذا بلغت العطفة الثانية تحيد شمالًا، ثم تدرك العطفة الثالثة، فهناك لا تحيد إلى جهة من الجهات وتتجه بانحراف إلى بيت اليهودي.

جوبو: يافيض الله، هذه طريق لا تسهل معرفتها. أأنت مخبري إن كان الفتى المقيم معه — واسمه لنسلو — مقيمًا معه أم لا؟

لنسلو: أتسأل عن المسيو لنسلو الأصغر «منفردًا» تأملوا فيَّ الآن سأستدر المياه — أتسأل عن المسيو لنسلو الفتى؟

جوبو: لا يا سيدي، ولكن عن ابن رجل فقير أنا أبوه — وإن كنت أنا مدعي هذه الدعوى، رجل مستقيم معسر، مدقعٌ، لكنه — بحمد الله — حسن السيرة والأخلاق.

لنسلو: لا يهمنا أبوه كائنًا من كان، وإنما نتكلم على لنسلو الأصغر.

جوبو: أجل، بإذنك نتكلم على لنسلو.

لنسلو: لا تتكلم على لنسلو أيها الشيخ بعد الآن؛ فإن ذلك الشاب قد أذن به الدهر أو القدر أو أي مسمى آخر بأسماء الصروف الصارمة لحبال الآجال من علمية وغير علمية فمات موتًا، أو بعبارة أشيع في العامة ذهب إلى السماء.

جوبو: أعفاني الله من هذا المصاب، فالفتى هو سندي، وحيدي، عكاز شيخوختي.

لنسلو: أظاهر على أنني أشبه عصًا أو هراوة أو دعامة خيمة أتبينتني يا أبي؟

جوبو: لا يا سيدي الفتى، لكن أرجو أن تقول ولدي (رحمه الله) حي أم ميت.

لنسلو: ألم تعرفني يا أبت؟

جوبو: أسفًا يا سيدي إن نظري ضعيف ولم أتبينك.

لنسلو: لو كان بصرك سليمًا … ومن هو في الآباء ذلك الفطن الذي يعرف ابنه … أيها الشيخ. سأعلمك بأنباء نجلك. باركني «يجثو» ينبغي أن يبرح الخفاء. القتل لا يخفي دهرًا ولكن انتساب الولد لأبيه قد يستسر طويلًا ثم تنجلي الحقيقة.

جوبو: أرجو يا سيدي أن تنهض، فإني موقن أنك لست بلنسلو ولدي.

لنسلو: لا تتماد أكثر في هذا المزاح، باركني، أنا لنسلو غلامك سابقًا، ونجلك الآن، وابنك إلى الأبد.

جوبو: لا أصدق أنك ابني.

لنسلو: لا أدري ما الذي يحسن بي اعتقاده في هذا المعنى؛ لكنني أنا لنسلو الماهن لدى اليهودي، وعلى ثقة لا ريب فيها من أن امرأتك مرغريتا هي أمي.

جوبو: اسمها في الحقيقة مرغريتا، غير أني لم أكن لأقسم أنك لنسلو من لحمي ودمي. تبارك الله! ما هذه اللحية التي صار الشعر فيها أكثر منه في ذنب «دوبين» حصاننا الجرار.

لنسلو: إذن شعر دوبين ينمو خلافًا، لأنني في آخر ما رأيته كان الشعر في ذنبه أكثر منه في ذقني.

جوبو: لقد تغيرت. كيف حالك مع مولاك، أنا قادم إليك بهدية، أعلى وفاق أنتما؟

لنسلو: على المرام، على المرام. لكنني أنا قد عزمت على الهزيمة إلي أبعد ما أستطيع عن ذلك اليهودي القح. أتهاديه؟ أولى لك أن تضع حبلًا في عنقه وتشده. أماتني جوعًا، وهذه أضلاعي تقدر أن تعدها بأصابعك. يا أبت أنا مسرور بمجيئك. آثر بهديتك سيدًا يدعى باسانيو؛ فإنه يلبس خادمه خلعًا فاخرة نفيسة، فإن لم يتيسر لي أن يستخدمني هذا السيد، لبثت أفر ما دام في الأرض طول وعرض. يالسعد طالعي! ها هو ذا آت بنفسه. كلمه يا أبي وإلا فإني إذا استمررت تحت أمر اليهودي صرت يهوديًّا.

(يدخل باسانيو يليه ليوناردو وبعض خدم)

باسانيو «مخاطبًا خادمًا»: ليكن. قلبت. لكن ينبغى الإسراع ليتسنى تهيؤ الطعام الساعة الخامسة. احرص على إيصال هذه الرسائل. أوصِ بالخلع الجديدة. قل لغراتيانو أن يجيئني بعد حين.

لنسلو: كلمه يا أبي.

جوبو: ليبارك الله في سيادتك.

باسانيو: شكرًا جزيلًا. أتبغي مخاطبتي في شيء؟

جوبو: هذا غلامي يا سيدي، وهو غلام فقير.

لنسلو: لست فقيرًا يا سيدي، ولكنني ماهن لدى اليهودي الغني، وملتمسي هو ما سيعرضه والدي لسيادتك.

جوبو: هو مريض تشوقًا لخدمة …

لنسلو: بلا تطويل ولا تقصير، أنا في خدمة اليهودي، وأتمنى ما سيعرضه أبي …

جوبو: ولا يخفى على سيادتكم أن اليهودي وهذا الغلام ليسا بابني عم بمعنى أنه …

لنسلو: بعبارة موجزة: اليهودي أساء التصرف في حقي، وهذا هو السبب في الأمر الذي سيقترحه والدي الذي هو — كما أرجو — طاعن في السن!

جوبو: أنا حامل إلى سيادتك بضعة أزواج من الحمام، هل لك في قبولها؟ والتماسي هو …

لنسلو: الخلاصة أن هذا الطلب جائز القبول، كما سيذكره لسيادتك هذا الشيخ المستقيم، الذي هو فقير، وفوق ذلك هو والدي.

باسانيو: ليتكلم. أحدكما عن الآخر. ماذا تريدان؟

لنسلو: ألتمس الدخول في خدمتك ياسنيور.

جوبو: هذا كل ملتمسنا.

باسانيو «إلى لنسلو»: أعرفك جيدًا وأجيب طلبك. كان شيلوك يكلمني عنك في هذا اليوم، وسيكون له الفضل في رقيك إن كان من الرقي الانصراف عن خدمة يهودي موسر، إلى خدمة شريف معسر.

لنسلو: صدق المثل القديم: لقد تقاسمتما النعمتين أنت وشيلوك: له الأولى، ولك الأخرى.

باسانيو: صدقت «إلى جوبو» اتبع غلامك أيها الوالد الصالح «إلى لنسلو» اذهب فاستأذن مولاك السالف، ثم استفهم عن داري «إلى خدمه» ألبسوه خلعة أبهج زينة من خلع رفاقه …

(يناجي ليوناردو)

لنسلو: يا أبي أصبح الخَرج في الخُرج — أنا لا أعرف كيف تلتمس الخدمة، ولا كيف يستعمل اللسان «ناظرًا يده» أما يدي فأية يد ممتدة للقسم على التوراة في جميع إيطاليا تتشبه بها؟ سأكون سعيد الطالع … لا جرم. هذا الخط يدل علي طول البقاء كما أرجو. وهؤلاء، في جانب الزواج، نسوة شائقات، لكنهن لسن بكثيرات، وماذا تكون؟ خمس عشرة امرأة، وإحدى عشرة أيمًا وتسع بنات. هل هن زيادة عن الكفاء للرجل المستقيم. هذا عدا نجاتي ثلاث مرار من الغرق، ومرة من هلكة السقوط عن حافة فراش من الريش. على أن هذه النجاة الأخيرة ليست بعجيبة، ولكنها نجاة. ولئن كانت السعادة امرأة فلا شك أنها أحسنت عجن المادة التي فتلت لي منها هذه الخيوط. تعال يا أبي، سأستأذن اليهودي في طرفة عين.

(يخرج لنسلو وجوبو)

باسانيو «مخاطبا ليوناردو»: أتضرع إليك أيها العزيز ليوناردو. تنبه لهذا، ومتى اشتريت تلك الأشياء ورتبتها عُد وشيكًا، ليتم بك أنسنا الليلة، في مجلس شراب سيشهده عندي أكرم أصدقائي. اذهب. بادر.

ليوناردو: سآتي بأحسن ما أستطيع.

(يدخل غراتيانو)

غراتيانو «مخاطبًا ليوناردو»: أين مولاك؟

ليوناردو: ها هو ذا يتمشى هناك.

(يمضى ليوناردو)

غراتيانو «جهرًا»: سنيور باسانيو …

باسانيو «ملتفتًا»: غراتيانو.

غراتيانو: لي اقتراح عليك.

باسانيو: قد أجيب.

غراتيانو: ذلك ما ألح به: سأصحبك إلى بلمنت.

باسانيو: إذا أصررت لم أخالف، لكن سمعًا يا غراتيانو: من مألوفك أن تتكلم بلا احتراس، وتجهر بالصوت. فهذا ليس فيما بيننا، ولكن ربما لم يحسن حيث تكون مجهولًا — فتكرم ولطف حدة طبعك، بأن تضع فيها بعض نقط الاحتياط، والتواضع، وإلا فربما جلبت خطتك علي ما يضر بي في رأي الأناس الذين أقصدهم، بل ربما قوضت آمالي.

غراتيانو: أنصت يا سنيور باسانيو: إذا لم تجدني ثمة معتدلًا في سيري، متكلمًا بوادعة، ممتنعًا عن ألفاظ الهجر إلا أحيانًا، ممسكًا بكتب الأدعية والتلاوات الدينية، جادًّا في كل مقام، جاعلًا في أوان الصلاة قبعتي نصب عيني هكذا، فتنهدًا، فقائلًا: آمين، مراقبًا كل مصطلحات الأدب على نحو ما يفعل اليافع الذي يحاول إرضاء جدته … إذا لم تجدني فاعلًا كل ما ذكرت فلا كانت لك بي ثقة، ولا كان لك علي معول.

باسانيو: رضيت، وسأرى المنهج الذي تنهجه.

غراتيانو: لكنني أستثني مجلس الليلة وما سيجري فيه.

باسانيو: خسارةٌ في مثل هذه الليلة أن تفقد طلاقتك، بل ينبغي أن ترتدي أحسن أزياء الابتهاج فيكمل بك سرور الإخوان أفضل ما كانوا استعدادًا لذلك. سأتولى عنك الآن لقضاء بعض الشئون.

غراتيانو: وأنا أنتظر هنا لورنزو ورفقاءه ثم نجيئك جميعًا في ساعة العشاء.

المشهد الثالث

نفس المدينة — مزارة في بيت شيلوك

(تدخل جسيكا ولنسلو)

جسيكا: أنا متكدرة لتركك أبي، وستكون لك وحشة في هذا البيت الجهنمي، الذي كنت تؤنسه أحيانًا. امض مزودًا، وهذا دوقي هبة. لنسلو سترى لورنزو بين مدعوي سيدك الجديد للعشاء فأعطه هذه الرسالة، لكن سرًّا. اذهب. لا ينبغي أن يراني أبي أحدثك.

لنسلو: وداعًا، واليك هذه العبرات بدلًا من العبارات. يا لك من وثنية ساحرة، بل يهودية شائقة! لئن لم يكن واحد من هؤلاء النصارى ساعيًا مسعاة اللص للفوز بك، إني إذن لغر. لكن هذه الدموع قد استغرقت شجاعتي، وأذابت صلابتي. أستودعك السلامة.

(يخرج)

جسيكا «منفرة»: اذهب معافى يا لنسلو. ما أظلمني لأبي بخجلي من انتسابي إليه! لكنني مخالفة له في الطبع، وإن كان الدم واحدًا. أي لورنزو إذا صدقت بوعدك فررت إليك من هذا المعترك الأليم، فصبأت عن ديني، وبت على مذهب قريني.

(تخرج)

المشهد الرابع

المدينة عينها — جادة

(يدخل غراتيانو — لورنزو — سالارينو — سالانيو)

لورنزو: أجل سنتسلل في أثناء الوليمة فنغير أزياءنا في داري، وبعد ساعة نعود.

غراتيانو: لم نستوف أهبتنا.

سالارينو: لم نتكلم بعد عن موكب المشاعل.

سالانيو: بئس الاختراع، إلا إذا صفف بإبداع، وعندي أن الاستغناء عنه أفضل.

لورنزو: الساعة إنما هي الرابعة الآن ولدينا فسحة ساعتين لإعداد كل شيء.

(يقدم لنسلو بكتاب)

لورنزو «متممًا»: ما أخبارك يا صاحبي لنسلو؟

لنسلو: إن شئت أن تفتح هذا الكتاب علمت.

لورنزو: تبينت الخط، وهو جميل، حررته يد بيضاء أنصع من هذا الطرس.

غراتيانو: ألوكة غرام ولا ريب.

«لنسلو متأخرًا للانصراف»

لنسلو: بإذنكم يا مولاي.

لورنزو: إلى أين؟

لنسلو: إلى حيث اليهودي مولاي العتيق، أدعوه لتناول العشاء عند النصراني مولاي الجديد.

لورنزو «معطيًا إياه كيسًا»: مهلًا، خذ هذا. قل للعزيزة جسيكا أنني سآتي في الميقات. قل لها ذلك سرًّا. انصرف.

(يبتعد لنسلو)

لورنزو «متممًا»: أيها السادة: أتريدون أن نتأهب لمهرجان السخرية في هذا المساء؟ قد تيسر لي حامل مشعل.

سالارينو: سأمضي من فوري.

سلانيو: وأنا أحذو حذوك.

لورنزو: أدركاني وغراتيانو في دار اليهودي بعد ساعة.

سالارينو: لن نتخلف.

(يبتعد سالارينو وسالانيو)

غراتيانو: ألم يكن الكتاب من جسيكا الجميلة؟!

لورنزو: يجب أن أطلعك على كل سر. بعثت تسألني كيف أختطفها من بيت أبيها؟ وكيف تنجو بما ستحمله من الذهب والحجارة الكريمة؟ وتخبرني أنها استصنعت خلعة وصيف لتختفي بها على الرقباء. لو تقبل الله أباها يومًا في السماء، لتم له ذلك بشفاعة تلك الكريمة الحسناء، ولو استجاز مصاب أن يعترض سبيلها لما ترخص لذلك إلا من كونها ابنة يهودي بلا إيمان. هلم بنا واقرأ هذه في الطريق. ستكون جسيكا حاملة مشعلي.

(يخرجان)

المشهد الخامس

البندقية — أمام بيت شيلوك
(شيلوك ولنسلو)

شيلوك: سترى عما قليل بعينيك سعة الفرق بين شيلوك العجوز وباسانيو «يدعو» جسيكا — لن تأكل الحلوى بشراهة كما كنت تحلو لي عندي — جسيكا — لن تقضي معظم وقتك في النوم والغطيط وتمزيق ثيابك — جسيكا أتحضرين؟

لنسلو «مناديًا»: جسيكا.

شيلوك: من كلفك أن تدعوها؟

لنسلو: طالما وبختني لأنني لا أصنع شيئا إلا بأمر.

(تجيء جسيكا)

جسيكا: أتدعوني، ماذا تريد مني؟

شيلوك: سأتعشى اليوم خارجًا يا جسيكا. هذه مفاتيحي. لكن علام أذهب؟ لم يدعوني عن حب — مأرب لا حفاوة — بل أذهب انتقامًا منهم لآكل من نفقة ذلك النصراني المسرف. بنيتي جسيكا راقبي الدار. سأتغيب برغمي خائفًا من كيد يكاد لي، لأنني رأيت أكياس فضة في منامي أمس.

لنسلو: أضرع إليك يا سيدي أن تذهب، فإن مولاي الجديد قد عول على وعدك.

شيلوك: وأنا معول على وعده كذلك.

لنسلو: ولقد أضمروا شيئًا لهذه الليلة، وأسروا النجوى فيما بينهم. لن أبوح بما أخفوه لكنك إذا رأيت الليلة مهرجان أناس متنكرين لم يكن ذلك إلا مصداقًا لرعاف أنفي يوم الإثنين المنصرم المعروف في التاريخ باليوم الأسود في الساعة السادسة صباحًا، على حين أن الرعاف الذي جرى لي قبله إنما كان في يوم أربعاء الرماد نحو الأصيل.

شيلوك: سيتنكرون؟ اسمعي يا جسيكا. غلقي الأبواب بإحكام وإذا سمعت طبلًا وزمرًا نزاز النغم فحذار حذار أن تذهبي إلى الكوة، أو أن تطلي بوجهك على الجمهور لتري الوجوه المستعارة التي يطوف بها أولئك النصارى البلهاء. أقفلي آذان داري «النوافذ»، ولا تصل ضوضاء أولئك المجانين إلى بيتي الساكن الأمين. قسمًا بعصا يعقوب إنني ذاهبٌ في هذا المساء إلى تلك الوليمة بكرهي وبلا أدنى رغبة مني لكنني سأذهب «إلى لنسلو» اسبقني وقل إنني قادم.

لنسلو: سأسبق يا سيدي «بصوت منخفض لجسيكا» لا يمنعك هذا من التطلع فربما جاءك نصراني موعود، خليق بمودة كرائم اليهود.

(ينصرف)

شيلوك: ماذا يقول هذا الغر من نسل هاجر؟

جسيكا: قال وداعًا يا مخدومتي ولم يزد.

شيلوك: غلام لا بأس به. لكنه أكول نهم بطيء في العمل، نئوم، كالسنور البري، أنا لا أحب الزنابير في خليتي، ولهذا طبت عنه نفسًا لغيري، فليعن مولاه الجديد على إنفاق المال الذي أقرضته إياه بسرعة. عودي يا جسيكا، ولعلي لا ألبث أن أرجع. افعلي ما أوصيتك به. غلقي الأبواب: «من احتبس لم يحترس.» هذا مثل دائم الحضور في ذهن المقتصد.

(يبتعد)

جسيكا: أستودعك الله. ولئن تحقق ما نويت لقد فقدت أبي وفقدت أنت ابنتك.

(تبتعد)

المشهد السادس

عين المكان
(يدخل غراتيانو وسلارينو متنكرين)

غراتيانو: هذا هو الرواق الذي أوعز إلينا لورنزو أن نننتظره في فيئه.

سالارنيو: مضت الساعة أو كادت.

غراتيانو: عجيب أن يتباطأ وما هذا شأن العاشقين؟

سالارينو: من عادة حمائم الزهرة أن يطرن إلى عقد مودات جديدة بأسرع مرارًا مما يجثمن للبقاء علي مودة قديمة.

غراتيانو: ستكون الحال أبدًا هكذا: أي الضيوف وقد فارق المائدة تكون شهوته للطعام كما كانت حين جلوسه إليها؟ أي جواد إذا رد في الطريق الوعرة التي جازها من قبل، لا يتباطأ في الرجوع؟ في كل أمور هذه الدنيا نحن أنشط حين نسعى إلى المطلوب منا حين نتمتع به. انظر إلى الفلك إذ تفارق مرفؤها الأصلي فراق الولد الشاطر لبيت أبيه، فتنشر رايتها الزاهية الألوان، يداعبها الهواء دعاب الهوى، ثم انظر إليها تعود عود ذلك الولد الشاطر ملوية الأضلاع ممزقة الشراع مهدمة الجوانب بفعل النسيم الفاسق «يجيء لورنزو» هذا لورنزو، سنستأنف الكلام في هذا.

لورنزو: يا أصدقائي الأعزاء، اغفروا لي إبطائي الممل، فإنما أعمالي التي سببته. وإني لأعدكم، بأن أنتظركم ما شئتم حين يخطر لكم أن تختطفوا عرائس «يتقدم» هذا بيت اليهودي نسيبي، هيا، أأحد هنا؟

جسيكا «بملابس الوصيف تنظر من النافذة»: من أنت؟ تَسَمَّ لأزداد طمأنينة، وإن عرفت الصوت.

لورنزو: حبيبك لورنزو.

جسيكا: لورنزو محقق، حبيبي بلا ريب، ألي عندك من الهوى ما لك عندي؟

لورنزو: السماء وقلبك يشهدان بصدق غرامي.

جسيكا «ملقية صندوقًا»: تناول هذا الصندوق. فيه ما يستحق هذا العناء. أنا فرحة بأن الوقت ليل، وأنك لا تستطيع رؤيتي، لأنني خجلة من تنكري بهذا الملبس. إنما الغرام أعمى، وليس للمتحابين أن يروا هم آثار جنونهم، إذ لو قدروا على استجلاء الحقيقة لخجل الغرام نفسه من تشكلي بهذا الشكل.

لورنزو: انزلي فقد جعلتك حاملة مشعلي.

جسيكا: ما تقول؟ أبيدي أحمل النور الذي يكشف فضيحتي، على كونها أجدر بالإخفاء لشدة وضوحها. لا بد لي من الاستتار.

لورنزو: حسبك استتارًا يا حبيبتي في ثوب الوصيف، أسرعي لأن الليل يتقدم ونحن منتظرون في وليمة باسانيو.

جسيكا: سأقفل الأبواب وأجلب ما أستطيعه من الدوقيات.

(تتوارى من النافذة)

غراتيانو: حلفت بقبعتي إنها لطيفة وليست يهودية.

لورنزو: أقسم لكم إنني أحبها بكل جوارحي، لأنها حصيفة متبصرة — على ما أستخلص، ولأنها جميلة على ما أرى، ولأنها مخلصة — على ما تبينت، فبالنظر إلى كونها عاقلة حسناء طاهرة، قد أقررت منزلتها في قلبي مدى العمر «تحضر جسيكا» سرعان ما حضرت. لننصرف يا سادة. إن إخواننا المتنكرين ينتظروننا.

(يذهبون إلا غراتيانو ويحضر أنطونيو)

أنطونيو: من الشخص؟

غراتيانو: ألست السنيور أنطونيو؟

أنطونيو: أف يا غراتيانو! أين الآخرون. الساعة التاسعة. وأصدقاؤنا في الانتظار. ستتلف زينة الليلة لأن العواصف هبت وباسانيو مبحر بعد هنيهة، وقد أرسلت عشرين نفسًا في طلبكم.

غراتيانو: حبذا ما تبشرني به فلا شيء أحب إلي من الإقلاع، ولو في مثل هذا الليل.

(ينصرفان)

المشهد السابع

بلمنت — مزارة في قصر برسيا

(صوت معازف — تدخل برسيا وأمير مراكش وتبعهما)

برسيا: لترفع هذه الستارة، وليدلل هذا الأمير النبيل علي الصناديق الثلاثة «يرفع الحجاب وتظهر الصناديق، أحدهما ذهب، والثاني فضة، والثالث رصاص» الآن تخير. الأمير «متأملًا»: الأول من ذهب ومكتوب عليه:

من اصطفاني فقد مًا تمنت الناس وصلي

الثاني من فضة ومكتوب عليه:

من انتقاني فإني أهل له وهو أهلي

الثالث من رصاص ومكتوب عليه:

من ابتغاني فأعزز بما يهين لأجلي

كيف أعلم أنني أحسنت الانتقاء؟

برسيا: أيها الأمير في أحد هذه الصناديق رسمي، فإن اهتديت إلي الصندوق الذي هو فيه فإني لك.

الأمير: لينطقني الله بالصواب. سأعيد قراءة الأبيات المنقوشة بادئًا من أخيرها:

من ابتغاني فأعزز بما يهين لأجلي

علام المجازفة بكل شيء: أللحصول على رصاص؟ هذا الصندوق مشئوم الطالع. الرجل الذي يخاطر بكل شيء جدير بأن يتطلب من وراء ذلك فوائد وافية. النفس العالية لا تتدانى لالتماس مثل هذه المادة المستخسة. ماذا يقول صندوق الفضة؟

من انتقاني فإني أهل له وهو أهلي

قف قليلًا يا أمير مراكش. زن قيمتك وزن إنصاف. لو رجعت في الحكم إلى ما تقوم به نفسك لأغليت. ولكنك مهما تغال، وتكن على حق، فربما لم تكن بالغًا من القدر ما يؤهلك لهذه الغيداء، على أنني لو نظرت من جهة أخرى لما جاز الارتياب في قدري، ولا الإزراء على نفسي. ما أستحق؟ أنا كفء لهذه الحسناء بمحتدي وبجاهي، وبجمال ملامحي، وأدبي، وخصوصًا بحبي. لعل الهدى في وقوفي ههنا؟ بل لنقرأ ما على صندوق الذهب:

من اصطفاني فقد مًاتمنت الناس وصلي

معناه أن كل إنسان يتمنى ربة هذا القصر، وأن الخطاب من كل أطراف الدنيا يسعون لتقبيل الوعاء المشتمل على هذه الحوراء الدنيوية. فمن جهة قد تحولت فدافد أركانيا، وفيافي بلاد العرب إلي مسالك يسلكها الأمراء قادمين من كل صوب لمشاهدة جمال برسيا، ومن جهة ثانية قد أصبحت مملكة الماء التي تشمخ بأمواجها إلى السماء غير مانعة من توافد الأجانب يجوزونها كما تجاز الأنهار الصغرى، ليشاهدوا جمال برسيا. في أحد هذه الصناديق الثلاثة رسمها المعشوق، أيحتمل كونه في صندوق الرصاص؟ من الإثم هذا الظن. وذلك الجسم لا يليق أن يوضع، حتى بعد الوفاة، في مثل هذا المعدن الحقير. أفيكون الرسم إذن في الفضة، وقيمة الفضة أقل عشرة أضعاف من قيمة الذهب الخالص. وهل يعقل أن توضع لؤلؤة غالية هذا الغلاء في شيء أدنى من الذهب؟ توجد في إنجلترا سكة مصور عليها ملك، ولكن الملك على ظاهرها، أما هاهنا في ضمن مهد من الذهب. أعطوني المفتاح قد استخرت الله.

برسيا: هذا مفتاحه يا أمير، فإن كان رسمي فيه فإني جاريتك.

الأمير «بعد فتح صندوق الذهب»: يا للعنة! ماذا أرى؟ هيكل ميت! وفي عينه الفارغة قرطاس؟ لنقرأ ما في القرطاس:

قل كائنًا من كنت عن ثقة ما كل براق من الذهب

عظة هي الكنز النفيس فلا بدع إذا ثبتت على الحقب

لو كان رأيك غير مختلط في حين شعرك غير مختضب

ما عدت هذا العود في ندم وبمثل هذا الرد لم تجب

(بعد قراءة الأشعار يقول متمما)

لقد أضعت وقتي. وداعًا أيها الغرام المحرق! سلام عليك أيها القلب الذي لا يكترث! لقد أثخنت جراحي يا برسيا. ولكن لا أطيل العتاب، بل أنصرف كما يليق بمن قامر فخسر.

(يخرج)

برسيا: لقد نجونا منه والحمد لله. أسدلوا الأستار، ولا كان اختيار مشاكليه في اللون إلا كاختياره.

(تخرجان)

المشهد الثامن

البندقية - جادة

[يدخل سالارينو وسالانيو]

سالارينو: أيها الصفي سالانيو رأيت باسانيو مقلعًا، يصحبه غراتينو، وأنا موقن أن لورنزو لم يكن في سفينتهما.

سالانيو: ذلك اليهودي الفاجر أيقظ الدوق بصخبه وصراخه، فذهب إلى سفينة باسانيو وفتش فيها.

سالارينو: جاء بعد أن أقلع المركب، لكنه سمع أن لورنزو وعشيقته جسيكا شوهدا معًا في زورق، ووكد له أنطونيو توكيدًا لا يحتمل الريب أنهما لم يكونا في سفينة باسانيو.

سالانيو: لم أر قط سخطًا أشد التباسًا وغرابة وجنونًا من سخط ذلك اليهودي السافل، الذي كان يطوف الأسواق منتحبًا صائحًا: بنتي. دوقياتي. وا بنيتا. فرت مع مسيحي. وا دنانيري المتنصرة! الإنصاف باسم القانون. دوقياتي. بنتي. كيس. بل كيسان من الدوقيات، فرادى ومزدوقات اختلستهما سليلتي واحترست بجانبها مصوغات جمة وألماستين نادرتين ثمينتين. ذلك سرقته ابنتي وكل ذلك معها الآن.

سالارينو: الأدهى أن صبية البندقية يتعقبونه صائحين: ألماساتي. بنتي. دوقياتي.

سالانيو: أخشى أن يتأخر أنطونيو عن الوفاء في الأجل فيغرم قيم هذه المسروقات كلها.

سالارنيو: ذكرتني — حين ينفع التذكير — أمرًا سمعته أمس من أحد الفرنسيين وهو أن مركبًا من مراكب بلدنا مشحونًا شحنًا غاليًا قد ارتطم في المضيق الذي بين فرنسا وإنجلترا، فلما طرق أذني هذا الخبر فطنت لأنطونيو وتمنيت سرًّا ألا يكون ذلك الموسوق من مراكبه.

سالانيو: ما أجدرك أن تبلغ أنطونيو ما سمعته، ولكن مع المراعاة التي تلطف موقع الخبر من نفسه.

سالارنيو: ما من رجل في العالمين أصدق ودادًا من أنطونيو. حضرت وداعه لباسانيو وسمعته يقول له: «لا تعجل عودتك كما تقول، ولا تهمل شئونك من أجلي، بل امكث ما دعت الحال. أما صك اليهودي فلا تخطره على بالك، ولا يشغلك عن غرامك، كن فرحًا واقصر همك على إرضاء من تحب بأجمل ما تستطيع من الأساليب.» وبعد ذلك صافحه بقوة ممتنعًا من النظر إليه، لأن عينيه كانتا مغرورقتين بالدموع، ثم تفارقا.

سالانيو: أعتقد أنه إنما يعيش لخدمة صديقه. لنذهب إليه فنحاول بما في وسعنا من الوسائل أن نخفف من تلك الكآبة التي لا تفارقه.

سالانيو: هلم، هلم.

[يخرجان]

المشهد التاسع

بلمنت — مزارة في قصر برسيا

[تدخل نريسا يتبعها خادم]

نريسا: أرجو أن تسرع بإماطة الحجاب فقد حلف أمير أراغون يمين الموافقة على الشرط وسيحضر عما قليل للتخير.

[صوت أبواق]

[يدخل أمير أراغون وبرسيا وحشمهما]


برسيا: هذه هي الصناديق، أيها الأمير النابه، إذا اخترت منها ما فيه رسمي عقد لك علي فورًا، وإن أخطأته كان عليك يا مولاي أن تنصرف من هذه الديار دون أن تنبس ببنت شفة.

الأمير: القسم يقتضي ثلاثة شروط؛ أولها: ألا أخبر أحدًا بالصندوق الذي وقع عليه اختياري، وثانيها: إذا لم أضع يدي على الصندوق الرابح أن أمتنع من الزواج بتاتًا بعد ذلك، وثالثها: إن لم أوفق لما جئت في التماسه أن أعود أدراجي من ساعتي بلا اعتراض.

برسيا: هذه هي الشروط.

الأمير: أنا مستعد لها، فأسعدني أيها البخت، وحقق آمالي منعمًا. أمامي الذهب والفضة والرصاص، ماذا يقول الرصاص؟

من ابتغاني فأعزز بما يهين لأجلي

شكلك لا يعد بشيء يخاطر عليه. ماذا يقول صندوق الذهب؟ لنقرأ ما هو ذلك الشيء الذي يتمناه الأكثرون. لا نزاع في أنهم يعنون بالأكثرين جمهور العامة الذين تغرهم الظواهر، لاكتفائهم بشهادة النظر عن تبطن السرائر فهم كالخطاف الذي يبني أعشاشه فيما برز من أعالي الجدران، فيتعرض بذلك للطوارئ والآفات. لن أختار ما يشتهيه السواد كراهة مني لمماشاة السوقة، والاختلاط بالطغام الجاهلين، فإليك الالتفات أيها الكنز النقي. أعد علي عبارتك المنقوشة:

من انتقاني فإني أهل له وهو أهلي

ما أحسن هذا المقال! لا ينبغى لأحد أن يخادع القدر، ويصيب من العز أو الجاه أو القدر ما ليس به جديرًا. حبذا لو كانت الأموال والألقاب والرتب بالكفايات لا البراطيل، إذن لنزعت أعشاب سوء لا تحصى من محصول الكرامات الصحيحة ولأخرجت غلال قيمات من أكداس التبن الذي لا قيمة له. لنرجع إلى شأننا: أحسبني كفئًا لها. أعطوني مفتاح هذا الصندوق فأرى ما فيه.

[يفتح الصندوق]

برسيا: الذي وجدته لم يكن حقيقًا بالزمن الذي أضعته فيه.

الأمير: ماذا أرى؟ رسم أبله يقدم لي قرطاسًا. أي شيء في هذا القرطاس؟ ما أقل مشاكلة هذا الرسم لرسم برسيا! وما أبعد جوابه عما التمسته آمالي! ألم أكن جديرًا إلا برسم أبله؟! أهذا كل ثوابي؟! أو لم يلق لي غيره!

برسيا: الخصومة والحكومة نقيضان لا يجتمعان في واحد.

الأمير: لنقرأ ما في القرطاس:

من راضه ألم الخطوب فإنني بالنار قد مُحِّصْت سبع مرار

من عاش لم يأمن على طول المدى خطلًا يبادره وسوء خيار

في الناس مخدوع يقبل ظله فينال ظل سعادة وفخار

وفي خلي العقل مثلي بينهم في مظهر متألق غرار

أنى تكن ما أنت إلا مشبهي فاحمل حمولك وانج من ذي الدار

مهما أطل الإقامة هنا بعد ما كان فلا أزداد إلا ظهورًا بمظهر الحماقة. جئت برأس أبله وأعود برأسين. أستودعك الله أيتها الزهراء. سأبر بقسمي لأحسن تملك نفسي وكظم غيظي.

[يخرج الأمير مع حاشيته]


برسيا: كذا احتراق الفراشة بالنور. هؤلاء المجانين الذين جفت حواسهم لم يبلغوا من المهارة إلا إتقان الخسارة.

نريسا: صدق من قال إن المشنقة قضاء والزواج نصيب.

[يدخل خادم]

الخادم: أين السيدة؟

برسيا: ها هي ذى. ما تبتغي منها؟

الخادم: يا سيدتي بالباب رجل من البندقية جاء مبشرًا بقدوم مولاه مهديًا إليك مازجًا من التحيات، وما غلا من الحلي السنيات، حتى لخيل إلي أن شهر نيسان، وهو مزدان بزينات الربيع، لا يتقدم الصيف بأجمل وبأرق مما يتقدم هذا الخادم الأديب مولاه الآتي في إثره.

برسيا: كفى، لا تزد، فقد خشيت أن تضيف إلى هذا الإفراط في الثناء أنه من أقربائك. تعالي نرسيا ننقع غلة شوقنا برؤية ذلك الرسول الذي جاءنا بهذه المحامد كلها.

نرسيا: باسانيو. وفقه أيها الغرام.

[تخرجان]

الفصل الثالث

المشهد الأول

البندقية — جادة

[سالانيو وسالارينو]

سالانيو: ما أخبار الريلتو؟

سالارينو: ثبت ما شاع عن غرق مركب لأنطونيو ثمين الأوساق في ذلك المضيق الذي يسمونه على ما أظن جودونس، وهو مكان بعيد الغور، دفن فيه ما لا يحصى من الجواري المنشآت، إن صح ما تزعمه العجائز المنبئات.

سالانيو: معاذ الله أن يكون ما سمعته إلا بهتانًا من أسخف قعيدة أكلت فطير البرطمان، وأوهمت جاراتها أنها تبكي ثالث أزواجها. ولكن النبأ الصحيح الذي يبعث الأسى والأسف هو باختصار القول — منعًا للإسهاب وأخذًا بالمألوف من الكلام — أن أنطونيو النبيل، أنطونيو النزيه، أنطونيو الجدير بأشرف النعوت التي نعت بها إنسان …

سالارينو: هلم إلي الواقع.

سالانيو: ماذا تقول؟ الواقع … هو أن أنطونيو فقد مركبًا.

سالارينو: عسى أن تقف خسارته عند هذا الحد بإذن الله.

سالانيو: أبادر بالتأمين مخافة أن يعارض الشيطان هذا الدعاء، ولا سيما وها هو ذا الشيطان بنفسه قادم إلينا في زى يهودي.

[يدخل شيلوك]

سالانيو «متممًا»: شيلوك! ما أخبار التجارة في مصفق الريلتو؟

شيلوك: أنت أعلم من علم بفرار ابنتي.

سالارينو: لا جرم أنها فرت، وأنا أعرف الخياط الذي صنع لها ما طارت به من الأجنحة.

سالانيو: وشيلوك كان يعلم أيضًا أن للطائر ريشًا، وأن العصافير متى راهقت سنًّا معلومة، فارقت وكر أبويها.

شيلوك: لتهلك بما خطئت.

سالارينو: لا محالة أنها هالكة إذا كان الشيطان قاضيها.

“شيلوك: يثور بي دمي ولحمي.

سالارينو: أف لك من فاسق مزمن، أفي هذه السن تخطر لك الشهوات؟!

شيلوك: أعني ابنتي، وهي لحمي ودمي.

سالارينو: بين بدنك وبدنها من الفرق ما بين السبج والعاج، وبين دمك ودمها من البون مثل ما يختلف النبيذ الأحمر عن النبيذ الأبيض. لكن أنت مخبرنا: أعلمت أن أنطونيو أصيب بخسارة في مشحوناته بحرًا؟

شيلوك: وهذه مسألة لم تكن لي رابحة. مفلس مسرف لا يجرؤ أن يتراءى في الريلتو — بائس … كان يجيء المصفق متبخترًا حذار أن يتأخر عن الوفاء في صكه. كان يدعوني مرابيًا. إياه أن يغفل ميعاد خطه. كان يقرض النقود إقراض نصارى علي سبيل الإحسان. ليخشى أن يبطئ عن أداء ما عليه في حينه.

سالارينو: ما أظنك إن تأخر عن إعطائك المال تتقاضى بضعة من لحمه. أتفيدك في شيء؟

شيلوك: تفيدني في إعداد طعم للسمك! ألا يكفي أن أستخدمها في شفاء غليلي، والانتقام لنفسي. هو الذي جلب علي التحقير والإزراء، وحال دون اكتسابي نصف مليون فوق ما اختزنت. سخر من خساراتي، وهزئ من أرباحي وسب قومي، وعارض أعمالي، ونفر مني أصدقائي، وأهاج أعدائي. ولم كل هذا؟ لأنني يهودي. أليس لليهودي عينان؟ أليس لليهودي يدان وأعضاء وجسم وحواس ومودات وشهوات؟ أليس غذاؤه مما يتغذى به النصراني؟ أليست الآلة التي تجرح أحدهما تجرح الآخر؟ أليس العلاج الذي يشفي ذاك يشفي هذا؟ أليس الشتاء والصيف واحدًا لكليهما؟ ألسنا إذا وخزتمونا ننزف دمًا، وإذا دغدغتمونا نضحك، وإذا سقيتمونا السم نموت، وإذا آذيتمونا ننتقم؟ فنحن نشبهكم بهذا كما نشبهكم بكل ما سواه. أما جزاء اليهودي الذي يضر بمسيحي أن يثأر منه؟ إذن فاليهودي وقد ائتسى بأسوة النصارى أن يثأر منهم إن أضروا به. سأعاملكم بمثل الشدة التي تعاملوني بها أو أزيد.

[يدخل الخادم]

الخادم: أيها السيدان! مولاي أنطونيو يبتغي لقاءكما وهو الآن في داره.

سالارينو: نحن في البحث عنه منذ هنيهة.

[يدخل طوبال]

سالانيو: ما أشبه الليلة بالبارحة، ومن توخى ثالثًا لهذين اليهوديين الأخوين لم يجده إلا أن يتهود الشيطان.

[يخرج سالارينو وسالانيو والخادم]

شيلوك: ما وراءك يا طوبال؟ أوجدت ابنتي في جنوا؟

طوبال: خوطبت عنها في أماكن جمة، ولكنني لم أتوصل إلى عرفان موضعها.

شيلوك: يا للخسران! اختلست مني ألماسة بيعت علي في فرانكفورت بألفي دوقي، الآن قد طفقت اللعنة تحل على أمتنا حلولًا لم أشعر به من قبل. ألفا دوقي فقدتها عدا مصوغات أخر غالية، وأي غلاء. من لي بابنتي ميتة عند قدمي والألماستان في أذنيها؟ من لي بها ممدودة هنا أمامي على وشك أن تحمل في نعش وتحمل معها الدوقيات؟ عجبًا أما من نبأ عنها — هكذا — ويعلم الله كل ما سأنفقه حتى أجد تلك الضالة خسارة فوق خسارة: كذا للسارق وكذا للباحث عنه. ثم لا ترضية ولا انتقام، كل الرزايا تنصب على رأسي وحدي، فلا زفرة إلا ما تصعده أنفاسي ولا عبرة إلا ما تصوبه عيناي.

طوبال: لست فذًّا في تعرضك للنوائب، فقد علمت في جنوا أن أنطونيو.

شيلوك: ماذا تقول؟ ويل ويل …

طوبال: فقد سفينة من سفنه قادمة من طرابلس.

“شيلوك: حمدًا لله، حمدًا لله، أيقين؟ أيقين؟

طوبال: كلمت نواتية نجوا من الغرق.

شيلوك: وحمدًا لك يا صديقي طوبال. نعمت الأخبار، نعمت الأخبار. أين؟ في جنوا؟

طوبال: سمعت أن كريمتك أنفقت ثمانين دوقيًّا في ليلة واحدة بجنوا.

شيلوك: تطعنني بخنجر في قلبى. لن يعود إليّ ذهبي، ثمانون دوقيًّا صبرة واحدة، ثمانون دوقيًّا؟

طوبال: في رجوعي إلى البندقية تسقطت من أقوال بعض الذين يدينون أنطونيو أنه لا بد له من التفليس.

شيلوك: يا فرحًا بما قالوا! سأعذبه. سأنكل به … يا للسرور!

طوبال: أراني أحدهم خاتمًا نفحته كريمتك به لتحلية قرد أعجبها.

شيلوك: ويحها من تاعسة! تقتلني يا طوبال! تلك زبرجدتي التي اشتريتها من ليحا أيام عزوبتي، ولو أعطيت بها فرقة من القردة لما أعطيتها.

طوبال: لكنه ثابت أن أنطونيو قد خرب.

شيلوك: نعم. هذا يقين كل اليقين. اذهب يا طوبال، أوجد لي سجانًا تجعله تحت تصرفي، قبل حلول الأجل بأسبوعين. فإن لم يؤد ما عليه لم يكن لي بد من تمزيق قلبه، ومتى خلت منه البندقية ففي وسعي أن أفعل فيها ما أشاء. اذهب. اذهب طوبال. ثم الحق بي في الكنيس. بدار يا طوبال.

[يخرجان]

المشهد الثاني

بلمنت — مزارة في قصر برسيا — الصناديق مكشوفة

[يدخل باسانيو وبرسيا وأتباعهما وغراتيانو ونريسا]

برسيا: أبتهل إليك ألا تتعجل. تريث يومًا أو يومين قبل الاقتراع، فإذا ساءت خيرتك، لم يفتنا أنسك وعشرتك. رويدك رويدك. في قلبي شيء — وهذا الشيء ليس بالغرام — يوحي إلي أن فقدك مساءة لي. على أن مثل هذا الوحي لا يجيء من البغضاء. ولأزيدك مكاشفة بما في ضميري، دع أن الأجدر بالفتاة ألا يكون لها من اللسان إلا فكرها، أقول إنني أتمنى استبقاءك هاهنا شهرًا أو شهرين قبل المخاطرة بمستقبلك من أجلي. وقد يجيش بي أن أعلمك كيف تحسن الخيرة، لكنني إذن أكون حانثة، ومعاذ الله أن أكونها أبدًا. إلا أنني لو أرشدك وتعذر عليك الفوز بي، لاشتد أسفي، من كوني لم أحنث. ويحي! إن عينيك نظرتاني فقسمتاني إلي شطرين: شطر لك وشطر لك! كان ينبغى أن أقول — لي — في الثانية لكن سبق لساني، لأنني لك وما بقي لي فهو إذن لك. يا للقضاء الجائر أقام حاجزًا بين المالك وملكه فأنا لك، ولكنني ربما لا أكون لك. فإذا جرى الحكم على هذا فلا وقعت التبعة إلا على مصدر الحكم لا علي. أفرطت في الثرثرة، ولكن لا لإضاعة الوقت بل لإطالته بتأخير اقتراعك.

باسانيو: دعيني أختر فإني في أشد العذاب.

برسيا: في أشد العذاب يا باسانيو، فلا بد من خيانة تحت هواك، والأولى أن تقر بها.

باسانيو: لا خيانة، ولكن خشية فقدي من أهواه، وقد يكون أيسر أن تأتلف النار والثلج من تأتلف الخيانة وحبي.

برسيا: سوى أنني أخشى أن يكون كلامك إكراهيًّا أشبه بما يجريه الألم على الألسنة قسرًا.

باسانيو: عديني بالحياة أعترف لك بالحقيقة.

برسيا: اعترف وعش.

باسانيو: كان يجب أن تقولي؛ أقرر وأحبب، لأن إقراري لا يزيد عن معنى هاتين اللفظتين، ما أعذب ذلك العذاب الذي يعلمني مسببه كيف أنجو منه. لكن دعيني أعرف بختي بين هذه الصناديق.

برسيا: إليها، وأعانك الله. إني في أحدها، فإن كنت لي محبًّا اهتديت إليّ — «إلى الأتباع» أي نريسا، أي هؤلاء جميعًا، تنحوا قليلًا — لتعزف الموسيقى مدة خيرته، فإن خسر كانت نهاية هوانا في النغم، كنهاية ذلك الطائر العوام الذي لا يجيد في حياته إلا صوتًا يتغنى به قبيل وفاته. ولإتمام الشبه أجعل عندئذ عيوني الماء الصافي الذي يقضي فيه ذلك الهوى نحبه. أما إذا كسب فكيف يكون النغم إذن؟ ليكن نفخًا في الأصوار بعيد الصدى، كما يكون حين تجثو الرعية المخلصة لدى ملكها المتوج حديثًا، أو كذلك اللحن الشجي الذي يشدوه السعد في أذن الخطيب صباح اليوم الذي تتحقق فيه أحلامه، ويتأهب لعقد القران علي عتبة الهيكل. ها هو يتقدم بأقل جلالًا ولكن بأكثر غرامًا من الفتى الشجاع «السيد» حين أنقذ البتول التي قربتها قبيلة طروادة باكيةً منتحبةً للوحش البحري. على أنني أشبه بتلك الفتاة المقدمة للتضحية. أجد الذين حولي مستعدين كالطرواديين يتوقعون الختام وأقول: أمامًا يا هرقل، عش فأعيش — أنا شاهدة القتال سوى أنني أشد تأثرًا منك يا من يقدم عليه.

[تسمع الموسيقي خلال نظر باسانيو في الصناديق وتشاوره]

صوت ينشد:

أين مكان الهوى ومنبته في العقل أم في الفؤاد مولده

ومن مباهٍ به الجلال فقد دال من المالكين أيّده

آخر ينشد:

تلك العيون السواهي للحب هن مهود

إن يسقه اللحظ نارًا قضى وهن اللحود

الجمع ينشد:

ليهتف هتاف الأسى ويسمع نواح الأسف

يخف صريع المنى ويودى سريع الشغف

باسانيو: نعم يقرب من الاحتمال أن أبهج غلاف بظاهره يحتوي على أشنع شيء. هكذا تخدعنا زينات الناس في الغالب من الأمر. أتوجد في القضاء دعوى سيئة لا يتولى الدفاع فيها منطيق مقنعٌ يغطي معايبها بتأثير فصاحته؟ أيوجد في العقائد خطأ مهلك لا يجهد أحد المتنطسين العابسين أن يحلله بنصوص قاطعة ويخبئ ما به من السم تحت أزهار يزينه بها؟ هل في المثالب واحدة لا تلبس لدى الإبصار بعض ملابس المحامد؟ كم من جبان لا تختلف شجاعته عن مدرجة من الرمل ولكنه يغشى ذقنه بمثل لحية هرقل الصنديد أو لحية المريخ العنيد. لو استشفت بواطن هؤلاء الرعاديد لوجدت أكبادهم بيضاء كاللبن، سوى أنهم سرقوا تلك الإمارات المهيبة ليداجوا بالبطش والبأس. انظروا إلى الجمال تجدوا جواذبه مجلوبة من حانوت التاجر، ومن غريب ما تحدثه الطبيعة في هذا الباب أن أكثر النساء حمولة من المحاسن المستعارة، هن اللواتي لا يطول الزمن بزيناتهن! فإذا رأينا عند بعضهن ذلك الشعر الذهبي الذي تتلوى ضفائره تلوي الثعابين، وتتجارى بين غدائره لواعب النسمات لم يكن إلا زخرفًا باطلًا ورثه الرأس المتباهي به عن رأس أصبح باليًا في القبور. فالتبرج إذن ليس إلا زينة الشاطئ الذي ينزل منه إلى البحر الزاخر بالأخطار، أو هو الشف اللماع، الذي تحتجب وراءه هجنة هندية. أو هو ما ترتديه الحيلة من مشابهة الحقيقة لتأخذ الحكيم في أشراكها. لهذا أنبذك أيها الذهب البراق طعام ميداس، كما أنني أنبذك أيتها الفضة فإنما أنت ذلك المعدن الشاحب والأداة المبتذلة في التداول بين الناس. أما أنت أيها الرصاص المستخس الذي لا يغش العيون، والذي تغرير سذاجته الصامتة أشد من إغراء الفصاحة، فإياك أختار لعلك تكون مخبأ سعدي، ومبعث هنائي.

برسيا: أرى كل العوامل قد تبددت في الهواء من هم مقلق، وخوف مؤرق ويأس ليس بإحدي الراحتين، وغيرة مخضرة العين، حاشاك أيها الغرام الذي استباح قواها، واستبى حماها، فبحقك إلا ما ترفقت بي؟ وتلطفت لي، وخففت من غُلوائك، وهدأت من سورة سرائك، فقد خشيت أن ينوء بحملك قلبي، ويقضى بفضلك نحبي.

باسانيو [فاتحًا صندوق الرصاص]: ماذا أرى؟ أرسم برسيا؟ أي ملك تنزل من سمائه فتجلى في هذه الصورة الإنسية؟ يا عجبًا لهاتين الحدقتين؟ أهما تتحركان أم أنا واهم؟ يا عجبًا لهذا الثغر! لم تكد شفتاه الرقيقتان تفترقان على ما بينهما من الهوى إلا لتأذنا أرج الأنفاس بتعطير الهواء. يا عجبًا لذلك الشعر! كأن أمهر الرسامين عندما نظمه قد حاك من خيوطه الذهبية حبالة تؤخذ بها القلوب، كما تؤخذ دقاق الوام بنسج العنكبوت. ولكن البدع كل البدع في العينين، كيف استطاع ذلك المصور أن يحدق فيهما ليحسن تمثيلهما؟ أما الكمال فانظروه في الأصل لا في النقل. وما أبعد ربة الجمال عن أن يضارعها الخيال. فلأمتع الآن طرفي بما كتبه الخط في هذا القرطاس من آيات سعدي:

[يقرأ]

يا من رأى باطلًا فمر به ولم يزغ في طلائه نظره

يهنئك العقل لم يصل به مغويه والسعد رابحًا خطره

لئن تكن قد حظيت بعد جوى كما يصيب الجزاء منتظره

قبل محيا العروس مغتبطًا فالعمر قد طاب والمنى ثمره


حبذا هذه الأقوال الشائقة إذنًا أيتها السيدة [يقبلها] أتيت وهذه الورقة في يدي — لأقبل وأتقبل مشبهًا بذلك صاحب الفوز في الصراع المشهود. فهو إذا سمع تصفيق المتعجبين، وتهليل المعجبين، جمد مكانه ونظر حواليه مرتابًا فيما إذا كان ذلك التمداح موجهًا إليه. وما موقفي هذا إلا كموقفه ذاك، أكاد أرتاب فيما أرى وأرقب لتصديق ما جرى أن تجيبيني إلى ما قدمت وتثبتي وتحققي ما اغتنمت.

برسيا: أيها الهمام باسانيو ها أنا ذي لديك كما أنا، ولولا أمر جددته في نفسي لاجتزأت بالنعم التي منحتها ولم أستزد. لكنني غدوت متمنية من أجلك لو رجحت ستين مرة على ما أعادل اليوم، ولو كنت ألف مرة أجمل، وعشرة آلاف مرة أوسع جاهًا، فتكبر حظوتي في عينيك، ولو كان لي من الفضائل والمحاسن والأموال والأصحاب عدادٌ لا تنفد. إلا أنني ولا فخر غير خالية من شيء يقدر بقدر فإنما أمامك فتاة معصر نقية غرة، تعتد من لطف العناية بها كونها لم تزل لدنة صالحة للتقويم. ومن سعد طالعها أنها ليست من الجهل بحيث تستعصي على التعليم، ومن تمام نعمائها أن عقلها طيعٌ يدعوها إلى إلقاء زمامها عن رضى بين يديك، والإقرار عن خضوع بأنك سيدها، وأميرها، ومليكها. فأنا وكل ما لي قد أصبحنا لك اليوم، كان قبلًا هذا القصر المشيد قصري، وكنت مولاة خدمي وحشمي، وكان بيدي قياد نفسي. وأما الآن فالدار والتبع والمتبوعة في تصريف بنانك يا ولي أمري. وهبتك أولئك جميعًا. وأزيدك هذا الخاتم الذي أوصيك بحفظه٬ وبأن تحرص كل الحرص من إضاعته، أو فقده، أو مفارقته، فإن ذلك لينذرني بتحول قلبك، ويخولني حق الشكاية منك.

باسانيو: لقد أعجزتني يا سيدتي عن التفوه بلفظة واحدة، فما في من متكلم إلا دمي الذي يجيش في عروقي، وأشعر باضطراب في أفكاري أشبه بغوغاء الجمهور إذا ألقى عليهم أمير كريم، كلمات محبته، فاختلطت عواطفهم في إحساس واحد اجتمعت عليه كل تلك النفوس: إحساس الفرح بين صامت، أو صائت، فاعلمي أن حياتي تفارقني قبل أن يفارق هذا الخاتم أصبعي، وإذ ذاك لك أن تقولي: [مات باسانيو].

نريسا: إن سعدكما هذا لسعد طالما تمنيناه، فأجيزا لنا يا سيدي رفع تهنئتنا إليكما: صفاءً وهناءً.

غراتيانو: يا سيدي باسانيو ويا سيدتي! أدعو لكما بما تشتهيان من صنوف النعم، واثقًا من أن آمالكما لن تتمادى إلى الإضرار بتحقيق أمانيَّ، وعلى هذا أستأذنكما بأن يكون عقد قراني في نفس اليوم الذي ستعينانه لعقد قرانكما.

باسانيو: إذا وجدت الحليلة فإنا لنأذن بارتياح.

غراتيانو: لقد ظفرت، ولك الشكر يا سيدي، بالتي أرغب فيها، فإن عيني لا تقلان فراسة عن عينك، وقد لمحت التابعة، كلمحك المتبوعة، فأحببت كما أحببت وشببت كما شببت، وكما كان حظك منوطًا بهذه الصناديق كان حظي منوطًا بنجاحك، إذ إنني بعد تجشمي عرق القربة لاستمالة هذه الغالية، وإبحاحي صوتي في الإقسام لها على صدق غرامي لم أفز منها إلا بوعد: وهو أنها تقترن بي إذا أنت وفقت للاقتران بمولاتها.

برسيا: أكذا جرى يا نريسا؟

نريسا: نعم يا سيدتي، إن كان فيه رضاك.

باسانيو: أجد ما تقول با غراتيانو؟

غراتيانو: جد في النهاية يا سنيور.

باسانيو: نعد من متممات فرحنا أن يقام عرسنا وعرسكما في آن.

غراتيانو «لنريسا»: — لتراهن بعشرة آلاف. دوقي على مَن مِن فريقينا يجيء بأول ولد. أسمع قدوم أناس … هذا لورنزو وكافرته، وهذا صديقي القديم سالريو البندقي.

[يدخل لورنزو وجسيكا وسالريو]

باسانيو: لورنزو وسالريو! مرحبًا بكما، إن كان يسوغ لي على حداثة عهدي هنا أن أحتفي بمواطني وأصدقائي. أتأذنين لي يا برسيا الجميلة أن أرحب بهم؟

برسيا: لقد لقوا أهلًا، ونزلوا سهلًا.

لورنزو: حمدًا لك يا مولاتي. أما أنا يا سيدي فلم يكن مقصدي هذا القصر، لكنني صادفت سالريو في الطريق. فلج حتى أوجب مجيئي معه.

سالريو: هذا ما حدث يا سيدي، وكان لذلك عندي سبب. إليك كتابًا من السنيور أنطونيو. حملني إياه وأوصاني أن أذكره لديك.

[يعطيه الكتاب]

باسانيو [قبل فض الكتاب]: كيف صديقي الأعز؟!

سالريو: ليس بمريض ولا بمعافى، إلا أن تكون الصحة أو العلة في الروح لا في الجسم، ولكنك ستعلم من رسالته حقيقة حالته.

غراتيانو «مشيرًا إلى جسيكا»: نريسا، أكرمي وفادة هذه الأجنبية واحتفي بها. يدك يا سالريو. أي جديد في البندقية؟ كيف أنطونيو أمير التجار وكيف أعماله؟ أنا موقن أنه سيفرح لأفراحنا. نحن من آل جازون قد غنمنا الجـُزازة الذهبية.

سالريو: ليتكم كسبتم ما خسر.

برسيا: لا بد أن تكون في هذا الكتاب أنباء رائعات، فقد امتقع وجه باسانيو، وما يغير وجه الرجل الكريم مثل هذا التغيير السريع إلا أن يفقد صديقًا من أصفى أصفيائه تهون في جنب رزئه فوادح الأرزاء. عجبًا! أرى ازديادًا في أسفه — إيذن يا باسانيو: إني شطر منك الآن، وأطلب بقوة حصتي من مضمون هذه الرسالة كائنًا ما كانت.

باسانيو: يا حبيبتي برسيا! لم تسود الصحف في يوم من الأيام بمثل ما سودت به هذه الصحيفة من السطور المشئومة. عندما فاتحتك بغرامي لأول عهدنا، أقررت لك بأن ما بقي من ثروتي لم يكن إلا الدم الجاري في عروقي: دم ماجد شريف. على أنني أيتها الصفية الرقيقة، مع صدقي بإبلاغك أنني لم أكن شيئًا مذكورًا، قد غاليت فقومت نفسي، بما يفرق قيمتها كثيرًا، وكان الأجدر بي أن أصارحك بأنني أقل من لا شيء: ذلك لأنني استخدمت ضمان صديق عزيز للحصول على مال أقضي به حاجاتي، فعرضته بذلك لألد أعدائه وأشد مبغضيه. هذا كتاب يا سيدتي درجه جسم صاحبي، وكل كلمة في الدرج. جرح ثخين في الجسم يتدفق منه الدم وتندفع في أثره الحياة. ولكن أحق يا سالريو أن كل تلك المواسق نكبت؟ عجبًا! ألم ينج واحد منها؟ أَوَلَم تصل سفينة فذة من تلك السفائن العائدة من «طرابلس» أو «المكسيك» أو «إنجلترا» أو «لشبونة» أو «الهند» بلا استثناء؟ أكلها أبادته الصخور، وألقت به في أعماق البحور؟

سالريو: كلها باد بلا استثناء. ومما يزيد الشجن أن اليهودي، فيما ظهر منه وتحقق، يأبى المال لو رد إليه الآن. ذاك مخلوق، على كونه في شكل إنسان، ما رأيت في غابر أيامي أشد منه تكالبًا للتنكيل بخصمه، فهو من الصباح إلى المساء لاحق بالدوق ملح أو ملحف يتقاضى شرطه مجاهر بأنه لا يبقى للعدل في الحكومة معنى إذا لم يعن على استيفاء حقه، وقد خاطبه عشرون من التجار كما خاطبه الدوق نفسه، والملأ الأكرمون من الأعيان ليعتدل في أربه، ويعدل عن طلبه فأبى مصرًّا، ولم يتمكنوا من تليين قلبه الجافي المليء بالضغن.

جسيكا: عندما كنت معه سمعته بحضرة طوبال يهمس لمشايعيه في الدين يقول: إنه يؤثر البضعة من لحم أنطونيو على عشرين ضعفًا للقدر الذي أقرضه إياه، وأنا متحققة من أن أنطونيو المسكين إذا لم يؤازره القانون أو أولياء الحل والعقد لم يفلت من مخالب الخطر.

برسيا: أذلك الرجل الواقع في هذه الأزمة الشديدة حبيب إليك، عزيز عليك.

باسانيو: هو أصفى إخواني وأوفى أخداني، هو في الرجال الأشهم الأمجد، الأكرم الأعود، هو الإنسان الذي تتراءى فيه الروح الرومانية أصفى ما كانت، وأنقى ما هي كائنة في نفس إنسان من بني إيطاليا.

برسيا: ما الذي عليه لليهودي؟

باسانيو: عليه له ثلاثة آلاف دوقي أخذتها أنا.

برسيا: أهذا كل المقدار؟ اردد