نهج السلامة إلى مباحث الإمامة/خاتمة

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة



خاتمة نسأل الله حسنها


في دفع مطاعن أهل الأهواء [ عن ] الكرام من الصحابة والخلفاء

وليعلم أولا انه لم يسلم أحد من الكلام عليه، وإلقاء التهمة بين يديه، ولله تعالى در من قال:

قيل إن الإله ذو ولد ** قيل ان الرسول قد كهنا

ما نجا الله والرسول معا ** من لسان الورى فكيف أنا؟

ومه هذا لا يخفى على ذوي الألباب، إن مطاعنهم من عواء الكلاب، بل لعمري انه لصرير باب أو طنين ذباب

وإذا أتَتْكَ مَذَمّتي من نَاقِصٍ ** فَهيَ الشّهادَةُ لي بأنّي كامِلُ

فدونك فأنظر فيها وتأمل بظواهرها وخوافيها:

المطاعن الأولى في حق الصديق الأجل

فمنها انه صعد يوما على منبر رسول الله ليخطب فقال له السبطان أنزل عن منبر جدنا، فعلم الناس أن ليس له لياقة الإمامة، والجواب بعد التسليم أن السبطين إذ ذاك صغيرين، فإن الحسن ولد في الثالثة من الهجرة في رمضان والحسين في الرابعة منها في شعبان، والخلافة في أول الحادية عشر منها فأفعلهما ان اعتبرت بحيث يترتب عليها الأحكام لزم ترك التقية الواجبة وإلا فلا نقص ولا عيب، فمن دأب الأطفال انهم أن رأوا احدا في مقام محبوبهم، ولو برضائه يزاحمونه ويقولون له قم عن هذا المقام، فلا يعتبر العقلاء هذا الكلام، وهم وان ميزوا عن غيرهم لكن للصبي أحكام، ولهذا اشترط في الاقتداء البلوغ إلى حد كمال العقل، ألا ترى ان الأنبياء لم يبعثوا إلا على رأس الأربعين إلا نادرا كعيسى، والنادر كالمعدوم.

ومنها أنه درأ الحد عن خالد بن الوليد أمير الأمراء عنده، ولم يقتص منه أيضا، ولهذا أنكر عليه عمر رضي الله تعالى عنه لأنه قتل مالك بن نويرة مع إسلامه، ونكح امرأته في تلك الليلة ولم تمضِ عدة الوفاة.

وجوابه أن في قتله شبهة، إذ قد شهد عنده أن مالك وأهله أظهروا السرور فضربوا بالدف وشتموا أهل الإسلام عند وفاة النبي ، بل وقد قال في حضور خالد في حق النبي قال: « رجلكم أو صاحبكم كذا »، وهذا التعبير إذ ذاك من شعار الكفار والمرتدين، وثبت عنده أيضا انه قال لما سمع بالوفاة فردّ صدقات قومه عليهم، [ وقال ]: قد نجوتم من مؤنة هذا الرجل، فلما حكى هذا للصديق لم يوجب عليه القصاص ولا الحد إذ لا موجب لهما فتدبر.

وعدم الاستبراء بحيضة لا يضر أبا بكر وخالد غير معصوم، على أنه لم يثبت انه جامعها في تلك الليلة في كتاب معتبر، على أنه قد أجيب عنه بأن مالكا كان قد طلقها وحبسها عن الزواج على عادة الجاهلية مدة مضى العدة فالنكاح حلال هنا، ثم ان الصديق قد حكم في درء القصاص حكم رسول الله ، إذ قد ثبت في التواريخ ان خالدا هذا غار على قوم من المسلمين فجرى على لسانهم: صبأنا صبأنا، أي صرنا بلا دين، وكان مرادهم أنّا تبنا عن ديننا القديم، ودخلنا الصراط المستقيم، فقتلهم خالد حتى غضب عبد الله بن عمر فاخبر النبي فأسف وقال: اللهم إني ابرأ إليك مما صنع خالد، ولم يقتص منه ولم يؤدهم فالفعل هو الفعل.

على أن الصديق أودى، ويجاب أيضا أنه لو كان توقف الصديق في القصاص طعنا لكان توقف الأمير في قتله عثمان اطعن وليس فليس، وأيضا استيفاء القصاص إنما يكون واجبا لو طلبه الورثة وليس فليس، بل ثبت أن أخاه متمم بن نويرة اعترف بارتداده في حضور عمر مع عشقه ومحبته فيه محبة تضرب بها الأمثال:

وكنا كندماني جذيمة حقبة ** من الدهر حتى قيل لن يتصدعا

فلما تفرقنا كأني مالكا ** لطول اجتماع لم نبت ليلة معا

ثم ان عمر ندم على ما كان من إنكاره زمن الصديق، والله ولي التوفيق.

ومنها انه تخلف عن جيش إسامة المجهز للروم مع انه أكد التأكيد الشديد حتى قال جهزوا جيش إسامة لعن الله من تخلف، وجوابه ان كان الطعن من جهة عدم التجهيز فهذا افتراء صريح لأنه جهز وهيأ وان كان من جهة التخلف فله عدة أجوبة: الأول ان الرئيس إذا عين رجلا مع جيش ثم أمر بخدمة من خدمات حضوره، فقد استثناه وعزله والصديق لأمره بالصلاة كذلك، فالذهاب أما ترك الأمر أو ترك الأهم وهو محافظة المدينة المنورة من الأعراب.

الثاني إن الصديق قد انقلب له المنصب لأنه كان آحاد المؤمنين فصار خليفة النبي ، فانقلبت الأحكام، ألا ترى كيف انقلبت أحكام الصبي إذا بلغ والمجنون إذا فاق والمسافر إذا اقام والمقيم إذا سافر إلى غير ذلك، والنبي لو عاش لما ذهب فالخليفة لكونه قائما مقامه يكون كذلك.

الثالث إن الأمر عند الشيعة ليس مختصا بالوجوب كما نص عليه المرتضى في الدرر والغرر فلا ضرر في المخالفة، وجملة لعن الله من تخلف مكذوبة لم تثبت في كتب السنة.

الرابع إن مخالفة آدم ويونس لحكم الله تعالى بلا واسطة قد ثبت عند كتب الشيعة، فالإمام لو خالف أمرا واحدا لا ضير فتدبر.

ومنها إن النبي لم يأمر أبا بكر قط على أمر مما يتعلق بالدين، فلم يكن حريا بالإمامة، الجواب إن هذا كذب محض يشهد على ذلك السير والتاريخ، فقد ثبت تأميره لمقاتلة أبي سفيان بعد أحد، وتأميره أيضا في غزوة بني فزارة كما رواه الحاكم عن سلمة بن الأكوع، وتأميره في العام التاسع ليحج بالناس أيضا ويعلمهم الأحكام من الحلال والحرام، وتأميره أيضا بالصلاة قبل الوفاة إلى غير ذلك مما يطول.

ويجاب أيضا على تقدير التسليم بأن عدم الجعل ليس لعدم اللياقة، بل لكونه وزيرا ومشيرا على ما هو العادة، روى الحاكم عن حذيفة بن اليمان انه قال: سمعت رسول الله يقول: « اني أريد أن أرسل الناس إلى الأقطار البعيدة الممتدة لتعليم الدين والفرائض كما كان عيسى أرسل الحواريين، قال من الحضار يا رسول الله مثل هؤلاء الناس موجودون فينا كأبي بكر وعمر، وقال انه لا غنى لي عنهما إنهما من الدين كالسمع والبصر ».

وأيضا قال : « أعطاني الله تعالى أربعة وزراء وزيرين من أهل السماء ووزيرين من أهل الأرض، فأما وزيراي من أهل السماء فجبريل وميكائيل، وأما وزيراي من أهل الأرض فأبو بكر وعمر »، وأيضا لو كان عدم الإرسال موجبا لسلب للياقة يلزم عدم لياقة الحسنين معاذ الله تعالى من ذلك.

ومنها ان أبا بكر ولى عمر أمور المسلمين مع أن النبي ولاه على أخذ الصدقات سنة ثم عزله، فالتولية مخالفة ويجاب بأن هذا محض جهالة، فيقال لانقطاع العمل عزل، وعلى تقدير العزل فأين النهي عن توليته كي تلزم المخالفة بالتولية فافهم.

ومنها أن النبي جعله وعمر تابعين لعمرو بن العاص وإسامة أيضا، ولو كانا لائقين لأمّرهما، ويجاب بأن ذلك لا يدل على الأفضلية ونفي اللياقة إذ المصلحة ربما اقتضت ذلك فإن عمرا ذا خديعة ومكر وحيل عارفا بمكائد الأعداء ولم يكن غيره فيها كذلك كما يولي مثل هذا لأخذ السارقين وعسس الليل ونحوهما مما لا يولي عليه إلا الأكابر، وإسامة استشهد أبوه على يد كفار الشام والروم فكان ذلك تسلية له وتشفية. وأيضا مقصود النبي من ذلك أطلاعهما على حال التابع والمتبوع كما هو شأن تربية الحكيم خادمة فلا تغفل.

ومنها أن أبا بكر استخلف والنبي لم يستخلف فقد خالف، ويجاب بأنه أشار بالاستخلاف والإشارة إذ ذاك كالعبارة، وفي زمن الصديق كثر المسلمون من العرب والعجم وهم حديثوا عهد بالإسلام وأهله، فلا معرفة لهم بالرموز والإشارات، فلا بد من التنصيص والعبارة حتى لا تقع المنازعات والمشاجرات، وفي كل زمان رجال، ولكل مقام مقال.

وأيضا عدم استخلاف النبي إنما كان لعلمه بالوحي، بخلاف الصديق كما ثبت في صحيح مسلم ولا كذلك الصديق إذ لا يوحى إليه ولم تساعده قرائن فعمل بالاصلح للأمة ونعم ما عمل فقد فتح البلاد ورفع قدر ذوي الرشاد، وباد الكفار واعاذ الأبرار.

ومنها ان أبا بكر كان يقول: « إن لي شيطانا يعتريني فإن استقمت فأعينوني وإن زغت فقوموني »، ومن هذا حاله لا يليق بالإمامة، ويجاب بأن هذا غير ثابت عندنا فلا إلزام، بل الثابت انه أوصى عمر قبل الوفاة قال: « والله ما نمت فحلمت، وما شبهت فتوهمت، وأني لعلى السبيل ما زغت ولم آل جهدا، واني أوصيك بتقوى الله تعالى ».. الخ.

نعم أول خطبة خطبها على ما في مسند الإمام أحمد: « يا أصحاب الرسول أنا خليفة الرسول فلا تطلبوا مني الأمرين الخاصين بالنبي الوحي والعصمة من الشيطان... وفي آخرها لست معصوما فاطاعتي فرض عليكم، فما وافق سنة الرسول وشريعة الله تعالى من أمور الدين، ولو أمرتكم فرضا بخلافها لا تقبلوه مني ونبهوني »، وهذا عين الأنصاف.

ولما كان الناس معتادين عند المشكلات الرجوع إلى وحي ألهي، وإطاعة النبي كان لازما على الخليفة التنبيه على الاختصاص بالجناب الكريم، وأيضا روى في الكافي للكليني رواية صحيحة عن جعفر الصادق: « ان لكل مؤمن شيطانا يقصد إغوائه ».

وفي الحديث المشهور ما يؤيد هذا أيضا، ومن جملته: « حتى أنت يا رسول الله؟ قال: نعم ولكن الله غلبني عليه فاسلم »، فأين الطعن فيما ذكروه؟ والمؤمن من يعتريه الشيطان بالوسوسة فيتبينه قال تعالى: { إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنْ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ } نعم النقصان الاتباع وهو بمعزل عنه، إلى غير ذلك من مطاعنهم المدفوعة بأول النظر ولمح البصر.

المطاعن الثانية في حق الفاروق رضي الله تعالى عنه

منها، وهو عمدة مطاعنهم، ما روى البخاري عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: « انه طلب في مرض موته دواةً وقرطاسا ليكتب كتابا لن يضلوا بعده، فاختلف الحضار في الإتيان بها وعدمه، وقال عمر حسبنا كتاب الله الذي عندنا وكثر اللغط فقال أحدهم: اهجر، عرض له فاسألوه عما يريد بهذا القول، فسألوا النبي عن ذلك فقال: قوموا عني »، إذ لا ينبغي التنازع ورفع الصوت عند الأنبياء فترك تحرير الكتاب بسبب ما وقع من النزاع.

فرد عمر قوله عليه الصلاة والسلام وهي وحي لقوله تعالى: { وَمَا يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى، إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى } ورد الوحي كفر لقوله تعالى: { وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْكَافِرُونَ }، وانه قال: أهجر عرض له مع ان الأنبياء معصومون عن مثل ذلك، وأقوالهم وأفعالهم في جميع الأحوال معتبرة، وانه رفع الصوت وتنازع في حضرته عليه الصلاة والسلام، وقد قال تعالى: { يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ }، وانه اتلف حق الأمة إذ لو كتب ذلك الكتاب لحفظت الأمة من الضلال، ولم ترهم في كل وادٍ يهيمون ووبال جميع ذلك على عمر.

والجواب عن الأول، على فرض تسليم ان هذا القول صدر من الفاروق فقط، ان الأمر منه عليه الصلاة والسلام لم يكن إلا من باب الاستحباب، وهو أمر إرشاد وإصلاح ولم يكن لأمر ضروري، وأن عمر قصد راحته عليه الصلاة والسلام في حال شدة المرض، ومثل هذه المخالفة لا تعد فسقا، وقد وقع للأمير كرم الله تعالى وجهه بخصوصه مثل هذه المخالفة عام الحديبية، فإنه كتب في كتاب الصلح: « هذا ما عاهد عليه محمد رسول الله... »، فلم يرض المشركون بهذا العنوان، وقالوا: « لو كنا نعلم أنه رسول الله ما حاربناه »، فأمره عليه الصلاة والسلام أن يمحو ذلك، وبالغ فيه، فلم يفعل حتى محاه عليه الصلاة والسلام بيده الشريفة.

بل وقع منه كرم الله تعالى وجهه ما يرى أشد من ذلك، فقد صح من طرق متعددة أن النبي ذهب إلى بيت البتول رضي الله تعالى عنهما ليلة، وأيقضهما لصلاة التهجد، وأمرهما بها فقال الأمير: « والله لا نصلي إلا ما كتب الله لنا، وإنما أنفسنا بيد الله لو وفقنا لصلينا فرجع عليه الصلاة والسلام وهو يضرب فخذيه ويقول: وكان الإنسان أكثر شيء جدلا ». ومع ذلك فأهل السنة لا يطعنون على الأمير بمثل هذه المخالفات، فكيف يطعنون على بما هو أخف منها؟

ثم ان قولهم أقوال الرسول كلها وحي مردود؛ لأنها لو كانت كذلك فلِمَ قال الله تعالى: { عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ }، وقال تعالى: { وَلا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا }، وقال تعالى: { وَلا تُجَادِلْ عَنْ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنفُسَهُمْ }، وقال تعالى في المعاتبة عن أخذ الفدية من أسارى بدر: { لَوْلا كِتَابٌ مِنْ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ }.

وأيضا يلزم ان الأمير أيضا قد رد الوحي حين أمره النبي بالتهجد ومحو اللفظ مع انهم لا يقولون بذلك، والجواب عن الثاني ان قائل هذا القول ليس عمر، وقد ورد في أكثر الروايات قالوا: بصيغة الجمع استفهموا على طريق الإنكار، فإن النبي عليه الصلاة والسلام لا يتكلم بالهذيان البتة، وكانوا يعلمون انه عليه الصلاة والسلام ما خط قط، بل كان يمتنع صدور هذه الصنعة منه لقوله تعالى: { وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ } ولذا قالوا: فأسلوه.

وتحقيق ذلك إن الهجر في اللغة هو اختلاط الكلام بوحه غير مفهم، وهو على قسمين لا نزاع لأحد في عروضه للأنبياء عليهم السلام وهو عدم تبين الكلام لجة الصوت وغلبة اليبس بالحرارة على اللسان، كما في الحميات الحارة وقد ثبت بإجماع أهل السير ان النبي عليه الصلاة والسلام، قد عرضت له بحة الصوت في مرض موته ، وقسم هو جريان الكلام الغير المنتظم المخالف للمقصود على اللسان بسبب الغشي العارض بسبب الحميّات المحرقة في الأكثر وهذا القسم وأن كان ناشئا من العوارض البدنية، ولكن قد اختلف العلماء في جواز عروضه على الأنبياء فجوزه بعضهم قياسا على النوم، ومنعه آخرون قياسا على الجنون فلعل القائل بذلك القول أراد القسم الأول.

والجواب عن الثالث على فرض التسليم ان رفع صوته إنما كان صوت غيره من الحاضرين لا على صوت النبي ، وقوله عليه السلام: « قوموا عني » من قبيل قلة الصبر للمريض فانه يضيق صدره إذا وقعت منازعة في حضوره، وما يصدر من المريض في حق أحد لا يكون محلا للطعن عليه، مع ان هذا الخطاب كان لجميع الحاضرين ومنهم الأمير كرم الله تعالى وجهه.

والجواب عن الرابع ان الإتلاف إنما يتحقق لو حدث حكم من الله تعالى نافع للأمة، وقد منعه عمر وقوله تعالى: { الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ }.. الآية يدل على عدم الحدوث، بل لم يكن الكتاب إلا لمصالح الملك وتأكيد ما بلغه، وإلا فلا يتصور منه عليه الصلاة والسلام أن يقول أو يكتب في هذا الوقت الضيق ما لم يقله مع ان زمن نبوته عليه الصلاة والسلام أمتد ثلاثا وعشرين سنة، وكيف يمتنع عن ذلك بمجرد منع عمر، ولم يقله لأحد بعد ذلك من خاصة أهل بيته كالأمير كرم الله تعالى وجهه، فانه عليه الصلاة والسلام [ بقي ] بعد هذه الوقعة حيّا خمسة أيام بالاتفاق، فإن قيل لو لم يكن ما يكتب أمرا دينيا فلِمَ قال: لن تضلوا بعدي.. الخ.

قلنا للضلال معانٍ والمراد هاهنا الخطأ أي في سلوك طريق تدبير الملك، كما في قوله تعالى: { وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى } لا الضلالة والغواية عن الدين لما سبق، فقد تبين بطلان ما طعنوا به، وظهر فساده وقبيح كذبه.

ومنها انه أنكر موت الرسول ، وحلف على موته حتى قرأ أبو بكر قوله تعالى: { إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ }، والجواب إن ذلك من شدة دهشته بموت قرة عينه وعيون المؤمنين أبي القاسم عليه أفضل الصلاة وأكمل السلام، حتى لم يبق له في ذلك الحين شعور بشيء، إذ كثيرا ما يحصل الذهول وتدهش العقول بتفاقم الأحزان والمصائب، وتراكم الشدائد والنوائب وذلك من لوازم البشرية والأمور الطبيعية، ألا ترى ان يوشع عليه السلام مع كونه نبيا معصوما عن الآثام، نسى أن يخبر موسى بما حصل من فقد الحوت عن المكتل، بل موسى عليه السلام مع كونه من أولي العزم الهداة، قد نسى معاهدته مع الخضر على السؤال ثلاث مرات.

وقال تعالى في حق آدم عليه السلام: { فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا }، وقد روى أبو جعفر الطوسي عن أبي عبد الله الجلي ان الإمام أبا عبد الله عليه السلام كان يسهو في صلاته ويقول في سجدتي السهو: « باسم الله وبالله وصلى الله على محمد وآله وسلم »، فأي ذنب لابن الخطاب في دهشته من هذا الخطاب العظيم لدى أولي الألباب؟ وأي طعن عليه بسبب ما حصل له في هذا الأمر الوخيم من فقد محبوبه عليه أفضل الصلاة وأكمل التسليم؟. فتبا لكم أيها الفرقة الضالة فقد بال الشيطان في نفوسكم الخبيثة حتى صرتم شياطين أمثاله.

ومنها ان عمر درأ حد الزنا عن المغيرة بن شعبة مع ثبوته بالبينة وهي أربعة رجال ولقّن الرابع كلمة تدرأ الحد، فقال له لما جاء للشهادة: « أرى وجه رجل لا يفضح الله به رجلا من المسلمين »، والجواب ان درأ الحد إنما يكون بعد ثبوته، ولم يثبت لعدم شهادة الرابع كما ينبغي وتليقنه الشاهد كذب وبهتان من أولئك البهتان من أولئك العدوان.

إذ قد ثبت في التواريخ المعتبرة كتاريخ البخاري وابن الأثير وغيرهما انه لما جاء الرابع وهو زياد بن أبيه قالوا له أتشهد كأصحابك قال: « أعلم هذا القدر اني رأيت مجلسا ونفسا حثيثا وانتهازا، ورأيته مستبطنها أي مخفيها تحت بطنه، ورجلين كأنهما أذني حمار، فقال عمر هل رأيت كالميل في المكحلة، قال: لا ». وقد وقع ذلك بمحضر الأمير وغيره من الصحابة فأين التلقين يا أرباب الزور المفترين.

ولفظ أرى وجه.. الخ، إنما قال المغيرة بن شعبة في ذلك الحين كما هو حال الخصم مع الشهود، ولا سيما إذا كان يترتب عليه حكم موجب لهلاكه، على ان عمر لو درأ الحد لكان فعله موافقا لفعل المعصوم، فقد روى محمد بن بابويه: « ان رجلا جاء إلى أمير المؤمنين عليه السلام وأقر بالسرقة إقرارا موجبا للقطع فلم يقطع يده ». والله تعالى سبحانه وتعالى الهادي وعليه اعتمادي.

ومنها ان عمر لم يعط أهل البيت سهمهم من الخمس الثابت بقوله تعالى: { وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ } فقد خالف حكم الله تعالى.

والجواب ان فعل عمر موافق لفعل النبي ، وتحقيقه ان أبا بكر وعمر كانا يخرجان سهم ذوي القربى من الخمس ويعطيانه لفقرائهم ومساكينهم، كما كان ذلك في زمن النبي ، وعليه الحنفية وجمع كثير من الإمامية، وذهب الشافعية ان لهم خمس الخمس يستوي فيه غنيهم وفقيرهم ويقسم بينهم للذكر مثل حظ الأنثيين، ويكون بين بني هاشم والمطلب دون غيرهم.

والأمير أيضا عمل كعمر عمر فقد روى الطحاوي والدارقطني عن محمد بن إسحاق انه قال: « سألت أبا جعفر محمد بن الحسن ان أمير المؤمنين علي بن أبي طالب لما ولي أمر الناس كيف يصنع في سهم ذوي القربى؟ فقال: سلك به والله مسلك أبي بكر وعمر ». إلى غير ذلك من رواياتهم، فإذا كان فعل عمر موافقا لفعل النبي والأمير كيف يكون محلاّ للطعن؟!.

ومنها ان عمر أحدث في الدين ما لم يكن منه كصلاة التراويح وإقامتها بالجماعة، فإنها بدعة كما اعترف هو بذلك وكل بدعة ضلالة، وقد روى عن النبي : « من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد عليه ».

والجواب انه قد ثبت عند أهل السنة بأحاديث مشهورة متواترة انه عليه الصلاة والسلام صلى التراويح بالجماعة مع الصحابة ثلاث ليالي من رمضان جماعة ولم يخرج في الليلة الرابعة وقال: « إني خشيت أن تفرض عليكم »، فلما زال هذا المحذور وبعد وفاته عليه الصلاة والسلام أحيى عمر السنة السنيّة، وقد ثبت في أصول الفريقين ان الحكم إذا كان معللا بعلة في نص الشارع يرتفع ذلك الحكم إذا زالت العلة.

واعترافه بكونها بدعة حيث قال: نعمت البدعة هي، فمراده أن المواظبة عليها بالجماعة شيء حديث لم يكن في عهده عليه الصلاة والسلام، وما ثبت في زمن الخلفاء الراشدين والأئمة المطهرين مما لم يكن في زمنه عليه الصلاة والسلام لا يسمى بدعة، ولو سمي فمحمول على البدعة الحسنة، والحديث مخصوص بإحداث ما لم يكن له أصل في الشرع.

وأيضا كما أن الشيعة لم يعتقدوا بدعية صلاة الشكر يوم قتل عمر رضي الله تعالى عنه وهو يوم التاسع من ربيع الأول وتعظيم النيروز، وتحليل فروج الجواري، وحرمان بعض الأولاد من بعض التركة إلى غير ذلك من الأمور التي لم تكن في زمنه عليه الصلاة والسلام بناء على زعمهم ان الأئمة أحدثوها.

كذلك لا يعتقد أهل السنة بدعية ما أحدثه عمر إذ هو عندهم كالأئمة عند الشيعة لقوله عليه الصلاة والسلام: « ومن يعش منكم بعدي فسيرى اختلافا كثيرا فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي عضوا عليها بالنواجذ »، والله سبحانه وتعالى الهادي.

ومنها ان عمر منع الناس من متعة النساء ومتعة الحج، مع ان كلتا المتعتين كانتا في زمن النبي ، فنسخ حكم الله وحرم ما أحل الله حيث قال: « متعتان كانتا على عهد رسول الله وأنا أنهى عنهما ».

والجواب عن تحريم متعة النساء ان أصح الكتب عند أهل السنة الصحاح الست المشهورة، وأصحها البخاري ومسلم، وقد روى مسلم في صحيحه عن سلمة بن الأكوع وسبرة بن معبد الجهني انه عليه الصلاة والسلام حرم هو المتعة بعد ما كان احلّها ورخصها لهم ثلاثة أيام وجعل تحريمها إذ حرمها مؤبدا إلى يوم القيامة، ومثل هذه الرواية في الصحاح الأخر، وقد ثبت في الصحيحين وغيرهما من كتب أهل السنة رواية الأئمة عن الأمير بتحريمها.

فان ادعت الشيعة ان ذلك كان في غزوة خيبر ثم أحلت في غزوة الاوطاس، فمردود لأن غزوة خيبر كانت مبدأ تحريم لحوم الحمر الأهلية لا متعة النساء، فقد روى جمع من أهل السنة عن عبد الله والحسن ابني محمد بن الحنفية عن أبيهما عن الأمير كرم الله تعالى وجهه انه قال: أمرني رسول الله أن أنادي بتحريم المتعة، فقد علم ان تحريم المتعة كان في عهد رسول الله مرة أو مرتين، فالذي بلغه النهي امتنع عنها ومن لا فلا.

لما شاع في عهد عمر ارتكابها أظهر حرمتها وأشاعتها وهدد من كان يرتكبها، وآيات الكتاب شاهدة على حرمتها، وقد سبق في ذلك في المسائل الفقهية، فتذكر فما في العهد من قدم.

والجواب عن متعة الحج، أعني تأدية أركان العمرة مع الحج في سفر واحد في اشهر الحج قبل الرجوع إلى بيته، ان عمر لم يمنعها قط، ورواية التحريم عنه افتراء صريح، نعم انه كان يرى أفراد الحج والعمرة أولى من جمعهما في إحرام واحد وهو القران، أو في سفر واحد وهو التمتع، وعليه الإمام الشافعي وسفيان الثوري وإسحاق بن راهوية وغيرهم، لقوله تعالى: { وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنْ الْهَدْيِ } الآية، فأوجب سبحانه الهدي على المتمتع لا على المفرد جبرا لما فيه من النقصان، كما أوجبه تعالى في الحج إذا حصل فيه فصور ونقص؛ ولأنه حج في حجة الوداع مفِردا، واعتمر في عمرة القضاء وعمرة جِعِرانة كذلك، ولم يحج فيهما بل رجع إلى المدينة مع وجود المهلة.

وأما ما رووا من قول عمر رضي الله تعالى عنه وأنا انهى عنهما، فمعناه ان الفسقة وعوام الناس لا يبالون بنهي الكتاب، وهو قوله تعالى: { فَمَنْ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْعَادُونَ }، وقوله تعالى: { وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ } إلا ان يحكم عليهم الحاكم والسلطان ويجبرهم على مراعاة ما أمروا به وما نهوا عنه؛ فلذلك أضاف النهي إلى نفسه.

فقد تبين لك ولله تعالى الحمد زيف أقوالهم وظهر لك تجاوزهم الحد في ضلالهم، والحق يعلو، وكلمة الحق تسمو.

المطاعن الثالثة في حق ذي النورين رضي الله تعالى عنه

منها إن عثمان ولّى وأمّر من صدر منه الظلم والخيانة وارتكاب الأمور الشنيعة كوليد بن عقبة، الذي شرب الخمر وأمّ الناس في الصلاة وهو سكران، وصلى الصبح أربع ركعات ثم قال وأزيدكم، وولّى معاوية الشام التي هي عبارة عن أربع ممالك، فتقوى حتى انه نازع الأمير وبغى عليه في أيام خلافته، وولى عبد الله بن سعد مصر فظلم أهلها ظلما شديدا حتى اضطرهم للمهاجرة إلى المدينة وخرجوا عليه، وجعل مروان وزيره وكاتبه، فمكر في محمد بن أبي بكر، وكتب مكان اقبلوه اقتلوه، ولم يعزلهم بعد الاطلاع على أحوالهم حتى تضجرت الناس منه فآل أمره إلى أن قتل، ومن كان هذا حاله كيف يليق بالإمامة.

والجواب ان الإمام لا بد له أن يفوض بعض الأمور إلى من يراه لائقا لما هنالك بحسب الظاهر، إذ ليس له علم الغيب فإنه ليس بشرط في الإمامة عند أهل الحق، وقد كان عماله مطيعين له ومنقادين لأوامره ظاهرا، وقد ثبت في التواريخ إنهم خدموا الإسلام وشيدوا الدين فقد فتحوا بلادا كثيرة حتى وصلوا غربا إلى أندلس وشرقا إلى بلخ وكابل، وقاتلوا برا وبحرا، واستأصلوا أرباب الفتن والفساد من أعراق العجم وخراسانها. وقد عزل بعض من تحقق لديه بعد ذلك سوء حاله كما عزل الوليد ومعاوية لم يبغِ في زمنه، حتى يستحق العزل بل قد أجرى خدمات كثيرة فقد غزا الروم وفتح منها بلادا كثيرة.

وأما الشكايات التي وقعت على عبد الله بن سعد فمن تزوير عبد الله بن سبأ وتسويلاته وبالجملة لم يكن لعثمان قصور مما هنالك، وحاله مع عماله كحال الأمير مع عماله واتباعه، لكن عمال عثمان كانوا منقادين لأوامره ومطيعين له، بخلاف عمال الأمير كرم الله تعالى وجهه ومن راجع ما سلف من خطب الأمير في حق اتباعه وجنده وأشياعه، تبين لديه صدق ذلك الكلام، وأن لا عتب على عثمان في ذلك ولا ملام.

وقد كتب الأمير كرم الله تعالى وجهه إلى منذر بن جارود العبدي: « أما بعد فصلاح أبيك غرني وظننت انك تتبع هداه وتسلك سبيله، فإذا أنت فيما نمى إلي عنك لا تدع لهواك انقيادا، ولا تبقي لآخرتك عتادا، تعمر دنياك بخراب آخرتك، وتصل عشيرتك بقطيعة... » إلى آخر ما قال رضي عنه المتعال، ومثل هذا كثير في النهج والله سبحانه الموفق للهداية، وبه نستعيذ من الضلال والغواية.

ومنها ان عثمان ادخل أبو مروان الحكم بن العاص المدينة، وقد أخرجه رسول الله منها، والجواب ان الرسول عليه الصلاة والسلام إنما أخرجه لحبه المنافقين، وتهييجه الفتن بين المسلمين ومعاونته الكفار، وميله إلى الفجار، ولما زال الكفر والنفاق بعد وفاته عليه الصلاة والسلام، وقوى الدين في خلافة الشيخين، لم يبق محذور من إرجاعه إليها.

وقد سبق مما هو مقرر عند الفريقين ان الحكم إذا علل بعلة، ثم زالت زال، وعدم إرجاع الشيخين إياه لما حصل عندهما من ظن بقائه على ما كان عليه في زمن الرسول عليه الصلاة والسلام، وقد ارتفع ذلك عن عثمان زمن خلافته؛ لأن الحكم كان ابن أخيه، على ان عثمان قال لما اعترضوا عليه بذلك: اني كنت أخذت الأذن من رسول الله في مرض موته على دخول الحكم المدينة، وعدم قبول أبي بكر ذلك مني لطلبه شاهدا آخر على أذنه عليه الصلاة والسلام له بدخول المدينة، وكذلك عمر ولما رجعت الخلافة إلى عملت بما علمت. وأيضا قد ثبت ان الحكم قد تاب في آخر عمره من النفاق، وما كان يفعله من التزوير والاختلاق، والله تعالى الهادي إلى طريق السداد، وبيده التوفيق والسداد.

ومنها ان عثمان درأ القصاص عن عبيد الله بن عمر وقد قتل هرمزان ملك الأهواز، الذي أسلم في زمن عمر بعد أن اتهمه في مشاركة من قتل عمر مع ان القاتل كان أبو لؤلؤة فقط، وقد قتل ابنته وقتل أيضا جفينة النصراني لاتهامه بذلك، وقد اجتمعت الصحابة عليه ليقتصَّ من عبيد الله، فلم يوافق وأدى ديتهم، فخالف حكم الله، فكيف يليق بالإمامة؟.

الجواب أن القصاص لم يثبت في تلك الصور؛ لأن ورثة هرمزان لم يكونوا في المدينة، بل كانوا في فارس ولما أرسل عليهم عثمان لم يحضروا المدينة خوفا كما ذكر المرتضى في بعض كتبه، وشرط القصاص حضور جميع ورثة المقتول كما ذهب إليه الحنفية، فلم يبق إلا الدية وقد أعطاها من بيت المال لا من القاتل، ولأن بنت أبي لؤلؤة كانت مجوسية وجفنة كان نصرانيا وقد قال عليه الصلاة والسلام: « لا يقتل مسلم بكافر » وهذا ثابت عندهم، على انه لو اقتص عثمان من عبيد الله لوقعت فتنة عظيمة؛ لأن بني تيم وبني عدي كانوا مانعين من القتل، وكانوا يقولون لو اقتص عثمان من عبيد الله لحاربناه، ونادى عمرو بن العاص رئيس بني سهم وقال: « أيقتل أمير المؤمنين أمس ويقتل ابنه اليوم، لا والله لا يكون هذا أبدا ». وهذا كما ثبت عندهم ان الأمير لم يقتص من قتلة عثمان خوفا من الفتنة.

ومنها ان عثمان غيّر سنة رسول الله لأنه صلى أربع ركعات في مِنى، مع انه عليه الصلاة والسلام كان يقصر صلواته الرباعية في سفره دائما، وقد أنكر عليه جماعة من الصحابة ذلك الفعل. والجواب ان عثمان ما كان إذ ذاك مسافرا؛ لأنه تزوج في مكة وتبوّأ منزلا فيها، وأقام في تلك البقعة المباركة، ولما اطلع الأصحاب على حقيقة الحال، زال عنهم الإنكار والإشكال.

ومنها ان عثمان وهب لأصحابه ورفقائه كثيرا من أراضي بيت المال وأتلف حقوق المسلمين.

والجواب انه كان يأذن لهم بإحياء أرض الموات ومن أحياها فهي له لقوله عليه الصلاة والسلام: « موتان الأرض لله ورسوله فمن أحيا شيئا منها فهو له »، ولم يهب لأحد أرضا معمورة مزروعة، كما لا يخفى على من راجع التواريخ.

ومنها ان الصحابة كلهم كانوا راضين بقتله متبرئين منه حتى تركوه بعد قتله ثلاثة أيام بلا دفن.

والجواب ان هذا كله كذب صريح، وبهتان فضيح لا يخفى على الصبيان، فضلا عن ذوي العرفان، ألا ترى ان طلحة والزبير وعائشة الصديقة ومعاوية وعمرو بن العاص رضي الله تعالى عنهم قد تحاربوا لأجل قصاص قتلة عثمان، وقد ثبت عند الفريقين ان الصحابة كلهم لم يألوا جهدا في دفع البلوى عنه حتى استأذنوا منه على قتال المحاصرين، فلم يجوز لهم وكانوا مهما تمكنوا يوصلون إليه الماء ويفرجون عنه.

وجاء زيد بن ثابت مع الأنصار وقال شبابهم له: « ان شئت كنا أنصار الله مرتين »، وجاء عبد الله بن عمر مع المهاجرين وقال: « ان الذين خرجوا عليك قد أمنوا سيوفنا، واستأذنه لقتالهم فلم يؤذن له »، وكان السبطان وعبد الله بن عمر وعبد الله بن الزبير وعبد الله بن عامر ابن ربيعة وأبو هريرة وغيرهم من الصحابة معه في داره، وكانوا يدافعون عنه كلما هجم عليه أهل البغي والعدوان، ولم يأذن لهم ولا لأحد بقتالهم.

وقد ثبت في نهج البلاغة من كلام الأمير انه قال: « والله قد دفعت عنه... » إلى غير ذلك، وقد شيع جنازته جماعة من الصحابة والتابعين ودفنوه بثيابه الملطخة بالدم ليلا، ولم يؤخروه، وقد حضرت الملائكة جنازته لما روى الحافظ الدمشقي مرفوعا عن النبي أنه قال: « يوم يموت عثمان يصلي عليه ملائكة السماء، قال الراوي قلت: يا رسول الله عثمان خاصة أو الناس عامة، قال: عثمان خاصة ».

ونسبة هجره وبغضه إلى الصحابة كذب وزور، وذلك في غاية الظهور، فقد روى الديلمي وهو من المعتبرين عند الشيعة في المنتقى عن الحسن بن علي قال: « ما كنت لاقاتل بعد رؤيا رأيتها، رأيت رسول الله واضعا يده على العرش، ورأيت أبا بكر واضعا يده على منكب رسول الله ورأيت عمر واضعا يده على منكب أبي بكر ورأيت عثمان واضعا يده على منكب عمر ورأيت دما دونه، فقلت: ما هذا؟ فقالوا: دم عثمان يطلبه الله تعالى به ».

وروى ابن السمان عن قيس بن عباد قال: سمعت عليا يوم الجمل يقول: « اللهم اني أبرأ إليك من دم عثمان ولقد طاش عقلي يوم قتل عثمان، وأنكرت نفسي وجاؤني للبيعة فقلت: ألا أستحي من الله أن أبايع قوما قتلوا رجلا قال له رسول الله : ألا أستحي من رجل تستحي منه الملائكة، واني لاستحي من الله أن أبايع وعثمان قتيل في الأرض ولم يدفن بعد فانصرفوا، فلما دفن رجع الناس يسألون البيعة، فقلت: اللهم إني مشفق مما اقدم عليه , ثم جاءت عزيمة فبايعت، قال فقالوا: يا أمير المؤمنين فكأنما صدع قلبي ».

وروى ابن السمان أيضا عن محمد بن الحنفية ان عليا قال يوم الجمل: لعن قتلة عثمان في السهل والجبل، وعنه أيضا ان عليا بلغه ان عائشة تلعن قتلة عثمان، فرفع يديه حتى بلغ بهما وجهه فقال: « وأنا ألعن قتلة عثمان، لعنهم الله في السهل والجبل مرتين أو ثلاثا إلى غير ذلك من أقوال أهل البيت وسائر الصحابة التي تدل على مزيد حبهم له وتأسفهم على مصيبته ».

وهذا الكتاب لا يسع ذكره على التفصيل، وان ما ذكرناه هو النزر القليل، وتأخير دفنه إلى ثلاثة أيام زور وبهتان على ما سبق من البيان كيف وقد اجمع المؤرخون على أن شهادته رضي الله تعالى عنه يوم الجمعة بعد العصر لعشر خلون من ذي الحجة، ودفن في البقيع ليلة السبت رضي الله تعالى عنه وأرضاه، وجعل الغرف العالية مستقره ومثواه، فقد ظهر انه كسائر الصحابة الكرام مبرأ عن كل ما يتقوله أهل الرفض الطغام، فإن ديدنهم الكذب والزور، ودينهم الفسق والفجور، وفضل الصحابة رضوان الله تعالى عليهم أشهر من أن ينبه عليه، وأظهر من أن يشار إليه، فقد انكشف لكل ذي عين وثبت في كتب الفريقين.

وهذا فخر العبّاد وزين العابدين السجاد يقول في صحيفته داعيا لأتباع الرسول عليه السلام وصحابته: « اللهم وأصحاب محمد خاصة الذين أحنوا الصحبة وأبلوا البلاء الحسن وأسرعوا في نصرته وسابقوا إلى دعوته، واستجابوا لهم حيث أسمعهم حجة رسالاته وفارقوا الأزواج والأولاد في إظهار كلمته وقاتلوا الأباء في تثبيت نبوته وانتصروا به، ومن كانوا منوطين على محبته يرجون تجارة لن تبور في مودته.. إلى أن قال فلا تنس لهم اللهم ما تركوا لك وفيك وأرضهم من رضوانك وبما حاشوا الخلق عليك وكانوا مع رسولك دعاة لك وإليك واشكرهم على هجرهم فيك ديار قومهم وخروجهم من سعة المعاش إلى ضيقه، وقال وأوصل إلى التابعين لهم بإحسان الذين يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان خير جزائك الذين قصدوا سمتهم وتحروا وجهتهم ومضوا على شاكلتهم.. إلى آخر ما قال، مما يغيظ أهل الضلال وهكذا كلام سائر الأئمة الأطهار، في حق أصحاب النبي المختار، اللهم احشرنا في زمرتهم وأمتنا على محبتهم ».

والحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيد المرسلين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وآله وصحبه وأزواجه وذرياته أجمعين، اللهم اشرف منازلنا عند مواقف الأشهاد يوم تجزي كل نفسٍ بما كسبت وهم لا يظلمون، يوم لا يغني مولى عن مولى شيئا ولا هم ينصرون.

وقد وقع الفراغ من تحرير هذا الكتاب المفيد المشتمل على القول السديد على يد حفيد المؤلف السيد محمود شكري بن السيد عبد الله بهاء الدين غفر لهم سنة 1301هـ.

نهج السلامة إلى مباحث الإمامة
مقدمة المؤلف | المبحث الأول في بيان فرق الشيعة | المبحث الثاني في حكم أهل القبلة | المقصد: الباب الأول في مباحث الإمامة | الباب الثاني في تحقيق ما وقع في هذا المبحث من خلاف الشيعة | الباب الثالث في ذكر قول فاصل وكلام يميز بين الحق والباطل | خاتمة