نهج السلامة إلى مباحث الإمامة/المقصد/الباب الثاني في تحقيق ما وقع في هذا المبحث من خلاف الشيعة

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة



الباب الثاني في تحقيق ما وقع في هذا المبحث من خلاف الشيعة


وهذا أهم من الباب الأول، نظرا لغرضنا من هذه الرسالة.

اعلم أن أول ما اختلف فيه من مسائل الإمامة نصب الإمام، هل هو واجب على العباد أو على الله تعالى؟ فأهل السنة على الأول والشيعة على الثاني والفطرة شاهدة بالأول، إذ كل فرقة تقرر لأنفسهم رئيسا من بينهم، وكذا الشرع أيضا، إذ الشارع قد أوضح شرائط الإمام وأوصافه ولوازمه بوجه كلي كما هو شأنه في الأمور الجبلية كالنكاح ولوازمه مثلا، وأيضا لا معنى للوجوب عليه تعالى، بل هو مناف للألوهية والربوبية كما هو مقرر في محله.

وأيضا كل ما يتعلق بوجود الرئيس العام من أمور المكلفين من إقامة الحدود والجهاد، وتجهيز الجيوش إلى غير ذلك واجب عليهم، فلا بد أن يكون النصب واجبا عليهم لأن مقدمة ما يجب على أحد واجب عليه، ألا ترى الوضوء وتطهير الثوب وستر العورة واجبة على المصلي كالصلاة، لا عليه تعالى وهذا ظاهر

وأيضا إن تأملنا علمنا أن نصب الإمام من قبل الباري يتضمن مفاسد كثيرة، لأن آراء العالم مختلفة، وأهواء نفوسهم متفاوتة، ففي تعيين رجل لتمام العالم في جميع الأزمنة إلى منتهى بقاء الدنيا إيجاب لتهييج الفتن، وجر لأمر الإمامة على التعطيل، ودوام الخوف والمرام الإختفاء، كما وقع للجماعة الذين تعتقد الشيعة إمامتهم، فمع هذا قولهم نصب الإمام لطف في غاية السفاهة يضحك عليه، إذ لو كان لطفا لكان بالتأييد والإظهار لا بغلبة المخالفين والانتصار، فإذا لم يكن التأييد في البين، لم يكن النصب لطفا كما يظهر لذي عينين.

وما أجاب عنه بعض الإمامية بأن وجود الإمام لطف، ونصرته وتمكينه لطف آخر، وعدم تصرف الأئمة إنما هو من فساد العباد وكثرة الفساد، فإنهم خوفوهم ومنعوهم بحيث تركوا من خوفهم على أنفسهم إظهار الإمامة، وإذا ترك الناس نصرتهم لسوء اختيارهم، فلا يلزم قباحة في كونه واجبا عليه تعالى.

والاستتار والخوف من سنن الأنبياء، فقد اختفى في الغار خوفا من الكفار، ففيه غفلة عن المقدمات المأخوذة في الاعتراض، إذ المعترض يقول الوجود بشرط التصرف، والنصرة لطف وبدونه متضمن لمفاسد، فالواجب في الجواب التعرض لدفع لزوم المفاسد، ولم يتعرض له كما لا يخفى، وأيضا يرد على القائل بكونه لطفا آخر ترك الواجب عليه تعالى، وترك هذا أقبح من ترك النصب، وأيضا يقال عليه هذا اللطف الآخر.

أمّا من لوازم النصب أولا: فعلى الأول لزم من تركه ترك النصب، لأن ترك اللازم يستلزم ترك الملزوم، وعلى الثاني لم يبق النصب لطفا للزوم المفاسد الكثيرة، بل يكون سفها وعبثا تعالى الله عن ذلك، وأيضا ما ذكره من تخويف الناس للأئمة غير مسلم، وهذه كتب التواريخ المعتبرة في البين، وأيضا التخويف الموجب للاستتار إنما هو إذا كان بالقتل، وهذا لا يتصور في حق الأئمة لأنهم يموتون باختيارهم، كما أثبت ذلك الكليني في الكافي وبوب له، وأيضا لا يفعل الأئمة أمر إلا بإذن، فلو كان الاختفاء بأمره تعالى، وقد مضت مدة، والخفاء هو الخفاء، فلا لطف بلا امتراء.

وأيضا إن كان واجبا للتخويف لزم ترك الواجب في حق الذين لم يكونوا كذلك، كزكريا ويحيى والحسين، وإن لم يكن واجبا بأن كان مندوبا لزم على من اختفى ترك الواجب، الذي هو التبليغ لأجل مندوب وهو فحش، وإن كان أمر الله تعالى مختلفا بأن كان في حق التاركين بالندب مثلا، وفي حق المستترين بالفرض لزم ترك الأصلح الواجب بزعم الشيعة في أحد الفريقين وهو باطل، ولا يمكن أن يقال الاصلح في حق كل ما فعل، لأنا نقول إن الإمام بوصف الإمامة لا يصح اختلاف وصفه كالعصمة، لأن اختلاف اللوازم يستلزم اختلاف الملزومات فيلزم أن لا يكون أحد الفريقين إماما فلا يكون الأصلح في حقهم إلا أحد الحالين، وإلا لزم اجتماع النقيضين.

كما أن الموضوع إذا كان مأخوذا بالوصف العنواني، فثبوت المحمول له بالضرورة بشرط الوصف يكون لازما، ويمتنع حمل نقيضه عليه كما لا يخفى وأيضا نقول الإختفاء من القتل نفسه محال، لأن موتهم باختيارهم، وإن كان من خوف الإيذاء البدني يلزم أن الأئمة فروا من عبادة المجاهدة وتحمل المشاق في سبيل الله تعالى، وهذا بعيد عنهم، ومع هذا لا معنى لاختفاء صاحب الزمان بخصوصه، فإنه يعلم باليقين أنه يعيش إلى نزول عيسى، ولا يقدر أحد على قتله وانه سيملك الأرض بحذافيرها، فبأي وجه يتخوف ويختفي ولم يظهر الدعوة، ويتحمل المشقة كما فعله سيد الشهداء؟.

وما قاله المرتضى في كتابه ( تنزيه الأنبياء والأئمة ) من أنه فرّق بين صاحب الزمان وبين آبائه الكرام، فإنه مشار إليه بأنه مهدي قائم صاحب السيف قاهر للأعداء، منتقم منهم مزيل للدولة والملك عنهم فله مخافة لا تكون لغيره، فكلام لا لب فيه، لأن خوف القتل نفسه قد علمته، ومع هذا معلوم له باليقين أن أحدا لن يقتله أبدا؛ [ لأن الإمام عندهم عالم بما كان ويكون، كما هو مسطور عندهم ].

وأيضا ألا يعلم أن المخالفين لا يقبلون من أحد دعوى المهدوية قبل ألف سنة؟، وأن المهدي يظله السحاب، لا سقف السرداب، وانه يظهر في مكة لا في سر من رأى، ويدعو الناس بعد الأربعين من عمره لا في زمن الطفولية ولا الشيخوخة.

على أن السيد محمد الجونفوري في الهند ادعى المهدوية، ولم يقتل ولم يخوف، وأيضا قد كثر محبوه وناصروه في زمن الدولة الصفوية، أكثر من رمل الصحارى والحصى فالاختفاء منافٍ لمنصب الإمامة، الذي مبناه على الشجاعة والجرأة فهلاّ خرج وصبر، واستقام إلى أن ظفر، وهلاّ كان كالقوم الذين قال الله تعالى فيهم: { وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ }.

ثم ما حكى أولا من قصة الغار، واستتار سيد الأبرار من خوف الكفار، فكلام وقع في غير موقعه، لأن استتاره عليه الصلاة والسلام لم يكن لاخفاء دعوى النبوة، بل كان من جنس التورية في الحرب حتى إن الكفار لن يطلعوا على مقصده، ولن يسدوا الطريق عليه، وهذا أيضا كان ثلاثة أيام، فقياس ما نحن فيه عليه غاية حماقة ووقاحة، ففرق واضح لا يخفى على من له أدنى عقل بين الاختفاء، الذي هو مقدمة لظهور الدين، والغلبة على الكافرين وبين الاختفاء الذي لازمه الخذلان، وترك الدعوى وانتشار الطغيان، فالأول تقطر مياه الهمة من أسرته، وتبتلج أقمار النصرة من تحت طرّته، بخلاف الثاني فغبار الجبن على خده، والفرار عن الدعوى مرسوم على حدّه.

فأي فرقة سخرها الإمام لنفسه في هذه الغيبة؟، وأي ملك ملكه؟، ولو ابتغى صاحب الزمان فرصة ثلاثمائة سنة، مكان ثلاث ليال، وعوض الغار سرداب سر من رأى، وبدل مدينته المنورة دار المؤمنين قم، ودار الإيمان كاشان، وبدل الأنصار شيعة فارس والعراق، قائلا بأني في هذه الصورة أجمع الأسباب، وأتخذ الأصحاب، ثم أخرج لكشف الغمة وإصلاح حال الأمة، لتحمل أهل السنة وغيرهم هذه الشرائط وأنى ذلك، فليست هذه إمامة، بل هي لعمرك قيامة.

وقد ترك الشيخ مقداد صاحب ( كنز العرفان ) من المتأخرين طريق القدماء، وقال كان الاختفاء لحكمة استأثرها الله تعالى في علم الغيب عنده، ويرد عليه أن هذا إدعاء مجرد يمكن أن يقال بمثله في كل أمر يكون مناقضا للطف، فلا يثبت اللطف في شيء، وبه يفسد كلام الشيعة كله لأن مبنى أدلتهم عليه يقولون ان أمر كذا لطف واللطف واجب عليه تعالى فليتأمل، والله يحق الحق وهو يهدي السبيل.

تتمة: قوله تعالى: { ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ }، وقوله تعالى: { الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوْا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنْ الْمُنْكَرِ }، وقوله تعالى: { وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا }.. إلى غير ذلك من الآيات.

يدل على ان هداية الناس والصبر على مشقة مخالطتهم من لوازم الإمامة، وكذا الجهاد في سبيل الله والعقل يحكم بذلك، وقد قال أمير المؤمنين كرم الله تعالى وجهه: « لابد للناس من أمير بر أو فاجر، يعمل في أمرته المؤمن ويستمتع فيها الكافر ويبلغ فيها الأجل ويأمن فيها السبل، ويؤخذ به للضعيف من القوي حتى يستريح بر ويستراح من فاجر »، كذا في ( نهج البلاغة )، من انه رضي الله تعالى عنه قاله لما سمع قول الخوارج: لا إمارة فلا محل للتقية في مقابلتهم فتأمل في هذا الكلام، وتفكر في هذا المقام، تر الفلاح، أوضح من الصباح وان الحق عند أصحاب الجنة وأهل السنة، والله تعالى أعلم.

فصل [ الإمامة والعصمة ]

العدالة شرط الإمامة لا العصمة، بمعنى عدم تصور الذنب كما في الأنبياء، خلافا للشيعة سيما الإمامية والإسماعيلية، قالوا لا بد منها علما وعملا وهو مخالف للكتاب والعترة.

أمّا الكتاب فقوله تعالى: { إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا }، فكان واجب الطاعة بالوحي، ولم يكن معصوما بالإجماع، وقوله تعالى: { إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً } فكان قبل النبوة، إماما وخليفة وصدر منه ما صدر، ويدل على ذلك قوله تعالى: { وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى } وقوله: { ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى } والاجتباء في قوله تعالى في حق يونس فاجتباه ربه فجعله من الصالحين، والاصطفاء للدعاء، وعذره ورده إليه لا الاستنباء إذ قد ثبت قبل بقوله تعالى: { وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنْ الْمُرْسَلِينَ، إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ } بخلاف ما نحن فيه كذا قيل، فليتأمل.

وأمّا أقوال العترة، فقد أسلفنا قول الأمير لا بد للناس... الخ، وأيضا روى في الكافي ما قال الأمير لأصحابه: « لا تكفوا عن مقالة بحق أو مشورة بعدل، فإني لست آمن أن أخطئ »، والحمل على المشورة الدنيوية يأباه الصدر كما لا يخفى، وأيضا روى صاحب ( الفصول ) عن أبي محنف أنه قال: كان الحسين يبدي الكراهة من صلح أخيه الحسن مع معاوية ويقول: لو جر أنفي كان أحب إلي مما فعله أخي، وإذا خطأ أحد المعصومين الآخر، ثبت خطأ أحدهما بالضرورة لامتناع اجتماع النقيضين.

وأيضا في الصحيفة الكاملة للسجاد: « قد ملك الشيطان عناني في سوء الظن وضعف اليقين، وإني أشكو سوء محاورته لي طاعة نفسي له »، فظاهر أنه على الصدق والكذب مناف للعصمة، ومن أدلتهم على العصمة ان الإمام لو لم يكن معصوما لزم التسلسل، بيان الملازمة أن المحوج للنصب، هو جواز الخطأ للأمة، فلو جازالخطأ عليه أيضا لأفتقر إلى آخر وهكذا فيتسلسل.

ويجاب بمنع أن المحوج ما ذكر، بل المحوج تنفيذا لأحكام ودرء المفاسد وحفظ بيضة الإسلام مثلا، ولا حاجة في ذلك إلى العصمة، بل الاجتهاد والعدالة كافيان، ولمّا لم يكن إثم على التابع إذ ذاك استوى جواز الخطأ وعدمه، سلمنا لكن التسلسل ممنوع بل تنتهي السلسة إلى النبي، سلمنا لكنه منقوص بالمجتهد النائب عن الإمام في الغيبة عند الإمامية، وليس بمعصوم إجماعا فيلزم ما لزم والجواب هو الجواب.

ومن الأدلة أيضا أنه حافظ للشريعة، فكيف الخطأ، ويجاب بالمنع بل هو مرّوج والحفظ بالعلماء لقوله تعالى: { وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ }، وقوله تعالى: { كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ }.

وأيضا إذا كان الحفظ بالعلماء زمن الفترة وفي الغيبة على ما في ( كشكول الكرامة ) للحلي، ففي الحضور كذلك سلمنا، لكن الحفظ بالكتاب والسنة والإجماع، لا بنفسه ويمتنع الخطأ في الثلاثة، والأداء لا دخل له في صلب الشريعة فلا ضرورة في حفظه، سلمنا لكن ذلك منقوض بالنائب، وقد يقال بأن وجود المعصوم لو كان ضروريا للأمن من الخطأ، لوجب أن يكون في كل قطر بل في كل بلدة، إذ الواحد لا يكفي في الجميع، بل هو مستحيل بداهةً؛ لانتشار المكلفين في الأقطار والحضور مستحيل عادة، ونصب نائب لا يفيد لجواز الخطأ وعدم إمكان التدارك، سيما في الغيبة والوقائع اليومية، إذ الاطلاع ممنوع، وعلى تسليمه الإعلام أمّا برسول ولا عصمة أو بكتاب والتلبيس جائز.

على أن الفهم إنما هو باستعمال قواعد الرأي وضوابط القياس، والكل مظنة الخطأ فلا يحصل المقصود إلا بنصب معصوم في كل قطر وهو محال.

فصل [ النص على الإمام ]

الإمام لا يلزم أن يكون منصوصا من الباري تعالى، لأن نصبه واجب على العباد كما تقدم، فتعيين الرئيس مفوض إليهم وهو الأصلح لهم، وقالت الإمامية لا بد أن يكون منصوصا من قبله تعالى كما ان نصبه واجب عليه تعالى، وهذا مخالف للعقل والنقل، أمّا الأول فمر، وأما الثاني فلأن الله تعالى يقول: { وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً }، ] وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً }، ] وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الأَرْضِ } إلى غير ذلك، ولم يكن في أحد من تلك الفرق نص، بل كان برأي أهل الحل والعقد، فمعنى الجعل إلقاء اختياره في قلوب مسموعي القول فينصبوه، فان عدل فعامل وإلا فجائر.

وقد قيس طالوت بعصاة الملوك فساومها، فملك كما لا يخفى على المتتبع فافهم وتدبر.

فصل [ هل الإمام أفضل أهل العصر ]

لا يلزم أن يكون الإمام أفضل أهل العصر عنده تعالى، إذ قد خلّف طالوت وداود واشمويل موجودان، نعم لا بد لأهل الحل والعقد نصب الأفضل رئاسة وسياسة لا عبادة ودراسة، والشيعة على خلاف هذا، وقد علمت ردهم إجمالا، واشترطوا ما اشترطوا لنفي الخلافة عن الثلاثة لعدم العصمة والنص، وفي الأفضلية مجال بحث، وهذه نبذة يسيرة في الرد، وسيأتي التفصيل في إثبات الخلافة ان شاء الله تعالى، فلينظره.

فصل مهم [ في الإمامة بعد وفاة النبي ]

اعلم أن الإمام بعد الرسول أبو بكر الصديق رضي الله تعالى عنه بإجماع [ أهل ] الإسلام، وقد تفردت الشيعة بإنكار ذلك، وقالوا الإمامة كذلك لعلي رضي الله تعالى عنه، وعند أهل السنة له بعد الثلاثة، ثم لابنه الحسن رضي الله تعالى عنه، والصلح لمصالح رآها وهو اللائق بذاته الكريمة، لا لخوف من كما افترى.

إذ قد ورد في كتب الشيعة خطبة له يقول فيها: « إنما فعلت ما فعلت إشفاقا عليكم »، وقد ثبت في أخرى أورده المرتضى وصاحب الفصول أنه قال: لما انبرم الصلح بينه وبين ومعاوية: « إن معاوية قد نازعني حقا لي دونه فنظرت الصلاح للأمة وقطع الفتنة، وقد كنتم بايعتموني على أن تسالموا من سالمني وتحاربوا من حاربني، ورأيت أن حقن دماء المسلمين خير من سفكها، ولم أرد بذلك إلا صلاحكم ».

فهاتان الخطبتان يدلان على أن الصلح للمصلحة لا للعجز وعدم النصرة، والثانية أيضا تدل بالصراحة على إسلام الفريق الثاني لأن المصالحة لأهل الكفر والردة لمخالفة الفتنة لا تجوز بل ترك قتالهم وغلبتهم هو الفتنة، لقوله تعالى: { وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ }.

وأيضا قد سبق ما كان يقوله الحسين في صلح الحسن افنسى أن الضرورات تبيح المحظورات، ثم إظهار الكراهة لخلاف المصلحة المعقولة للكاره، لا تكون قبيحة، وأيضا الاختلاف بين أكابر الدين في المصالح المنجر إلى عدم الرضاء لا يقدح في أحد الجانبين فليحفظ وليفهم.

ثم لا يغتر بما تقوّله أهل الزور على أهل السنة من أنهم يقولون بخلافة معاوية بعد الشهيد، حاشا وكلا، بل هم يقولون بصحة خلافته بعد صلح الحسن رضي الله تعالى عنه، إلا انه غير راشد والراشدون هم الخمسة، بل قالوا إنه باغ، فإن قلت: فإذا ثبت بغيه لِمَ لا يجوز لعنه؟.

جوابه: أن أهل السنة لا يجوّزون لعن مرتكب الكبيرة مطلقا، فعلى هذا لا تخصيص بالباغي لأنه مرتكب كبيرة أيضا، على أنه إذا كان باغيا بلا دليل، أما به بالاجتهاد ولو فاسدا، فلا إثم فضلا عن الكبيرة، ويشهد لهم قوله تعالى: { وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ }، والأمر بالشيء نهي عن ضده عند الإمامية، فالنهي عن اللعن واضح.

نعم ورد اللعن في الوصف في حق أهل الكبائر مثل قوله تعالى: { أَلا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ }، وقوله تعالى ] فَنَجْعَلْ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ }، لكن هذا اللعن بالحقيقة على الوصف لا على صحابه، ولو فرض عليه يكون وجود الإيمان مانعا، والمانع مقدم كما هو عند الشيعة، وأيضا وجود العلة مع المانع لا يكون مقتضيا فاللعن لا يكون مترتبا على وجود الصفة حتى يرتفع الإيمان المانع، وقوله تعالى: { وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ }، نص في طلب المغفرة وترك العداوة؛ بحيث جعل مترتبا على الإيمان من غير تقييد، ويشهد لهم أيضا ما تواتر عن الأمير كرم الله تعالى وجهه من نهي لعن أهل الشام، قالت الشيعة النهي لتهذيب الأخلاق، وتحسين الكلام، كما يدل قوله في هذا المقام: « إني أكره لكم أن تكونوا سبابين ».

وأهل السنة يقولون هو مكروه للإمام فينبغي كراهته لنا وعد محبوبيته، وجعله قربة وإن لم نعلم وجه الكراهة، وأيضا روى في نهج البلاغة عنه رضي الله تعالى عنه ما يدل صراحة على المقصور، وهو أنه لما سمع لعن أهل الشام خطب، وقال: « أصبحنا نقاتل إخواننا في الإسلام على ما دخل فيه من الزيغ والاعوجاج والشبهة والتأويل ».

فإذا صحت الروايتان في كتب الإمامية حملنا ان الأولى في حق من كان يلعنهم بالوصف، وهو جائز لا مطلقا، بل لمن لم يبلغ الشريعة كالأنبياء، إذ قد يستعمل لبيان قباحة تلك الصفات، وأما الغير فهو في حقه مكروه، لأنه لو اعتاده لخشي في حق من ليس أهلا، وأن الثانية في حق من كان يلعن أهل الشام بتعيين الأشخاص غافلا عن منع الإيمان فأعملنا الروايتين لأن الأصل في الدلائل الإعمال دون الإهمال.

وقال بعض علماء الشيعة البغي غير موجب للعن على قاعدتنا، لأن الباغي آثم لكن هذا الحكم مخصوص بغير المحارب، وأما هو فكافر عندنا، بدليل حديث متفق عليه عند الفريقين أنه قال للأمير: « حربك حربي »، وانه قال لأهل العباءة: « أنا سلم لمن سالمتم، حرب لمن حاربتم »، وحرب الرسول كفر بلا شبهة، فكذا حرب الأئمة.

قال أهل السنة هذا مجاز للتهديد والتغليظ بدليل ما حكم به الأمير من بقاء إيمان أهل الشام، وأخوتهم في الإسلام، على ان قوله حرب الرسول كفر ممنوع، إذ قد حكم على آكل الربا بحرب الله ورسوله معا، قال تعالى: { فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ }، وعلى قطّاع الطريق كذلك قال تعالى: { إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ...} الآية ؛ فلم لم تحكم الشيعة بكفر هؤلاء.

هذا ولنرجع إلى ما كنا فيه، ولنورد عدّة آيات قرآنية، وأخبار عترية تدل على المرام، وتوضح المقام، وتفسد أصل الشيعة، وتبطل هذه القاعدة الشنيعة، وبالله تعالى التوفيق، ومنه يرجى الوصول إلى سواء الطريق.

فمن الآيات قوله تعالى: { وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمْ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْفَاسِقُونَ }، الحاصل ان الله تعالى وعد المؤمنين الصالحين الحاضرين وقت النزول بالاستخلاف والتصرف، كما جعل بني إسرائيل متصرفين في مصر والشام كداود u الوارد في حقه: { يَادَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأْرْضِ } وغيره من أنبياء بني إسرائيل، وبإزالة الخوف من الأعداء الكفار والمشركين بأن يجعلهم في غاية الأمن حتى يخشاهم الكفار، ولا يخشون أحدا إلا الله وبتقوية الدين المرتضى بأن يروجه ويشيعه كما ينبغي.

ولم يقع هذا المجموع إلا زمن الخلفاء الثلاثة؛ لأن المهدي ما كان موجودا وقت النزول، والأمير وإن كان حاضرا لكن لم يحصل له رواج الدين كما هو حقه بزعم الشيعة، بل صاروا أسوء وأقبح من عند الكفار، كما صرح به المرتضى في تنزيه الأنبياء والأئمة، مع أن الأمير كرم الله تعالى وجهه وشيعته كانوا يخفون دينهم خائفين هائبين من أفواج أهل البغي دائما.

وأيضا الأمير كرم الله تعالى وجهه فرد من الجماعة ولفظ الجمع حقيقة في ثلاثة أفراد ففوق، والأئمة الآخرون لم يوجد فيهم مع عدم حضورهم تلك الأمور كما لا يخفى، وخلف الوعد مختلف اتفاقا فلزم أن الخلفاء الثلاثة كانوا هم الموعودين من قبله تعالى بالاستخلاف وأخويه وهو معنى الخلافة الراشدة المرادفة للإمامة.

وقال الملاّ عبد الله المشهدي في ( إظهار الحق ): بعد الفحص الشديد يحتمل أن يكون الخليفة بالمعنى اللغوي والاستخلاف الإتيان بأحد بعد آخر كما ورد في حق بني إسرائيل: { عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ }، والمعنى الخاص مستحدث بعد الرحلة، جوابه أنا متى قلنا أن الاستخلاف غير مستعمل في الكلام بالمعنى اللغوي، ولكن القاعدة الأصولية للشيعة أن الألفاظ القرآنية ينبغي ان تحمل على المعاني الاصطلاحية الشرعية، حتى الإمكان لا على المعاني اللغوية، وإلا فالشرعية كلها تفسد ولا يثبت حكم كما لا يخفى.

وأيضا كيف يصح تمسكهم بحديث: « أنت مني... الخ »، المنضم إليه: { اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي }، وكيف التمسك بحديث: « يا علي أنت خليفتي من بعدي »، ولقد سعى المدققون من الشيعة في الجواب عن هذه الآية وتوجيهها وأحسن الأجوبة عندهم اثنان، الأول: أن من للبيان لا للتبعيض والاستخلاف الاستيطان، قلنا حمل من الداخلة على الضمير على البيان، مخالف للاستعمال وبعيد عن المعنى في الآية الكريمة، وإن قال به البعض، سلمنا بناء على قول البيضاوي، [ وورود البيان في آخر سورة الفتح، تدبر ].

لكن لا يضرنا لأن المخاطبين هم الموعودون بتلك المواعيد وقد حصلت لهم، إلا أن الاستخلاف غير معقول للكل حقيقة، فالحصول للبعض حصول للكل باعتبار المنافع، وأيضا قيد وعملوا الصالحات وكذا الإيمان يكون عبثا إذ الاستيطان يحصل للفاسق وكذا الكافر أيضا وحاشا القران من العبث، الثاني أن المراد الأمير فقط وصيغة الجمع للتعظيم أو مع أولاده، قلنا يلزم تخلف الوعد كما لا يخفى، إذ لم يحصل لأحد منهم تمكين دين وزوال خوف والناس شهود على ذلك.

وانظر أيها المنصف العرّيف، واللوذعي الشريف إلى ما قاله الإمام، مما ينحسم فيه الإشكال في هذا المقام ذكر في نهج البلاغة للمرتضى الذي هو أصح الكتب عندهم أن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه لماّ استشار الأمير كرم الله تعالى وجهه عند انطلاقه لقتال فارس، وقد جمعوا للقتال، أجابه: « إنّ هذا الأمر لم يكن نصره ولا خذلانه بكثرة ولا بقلة، وهو دين الله تعالى الذي أظهره، وجنده الذي أعزه وأيده حتى بلغ ما بلغ، وطلع حيث طلع، ونحن على وعد من الله تعالى حيث قال عز أسمه: وعد الله الذين آمنوا وتلا الآية، والله تعالى منجز وعده، وناصر جنده ومكان القيّم في الإسلام، مكان النظم من الخرز، فان انقطع النظام تفرّق، ورب متفرق لم يجتمع.

والعرب اليوم وإن كانوا قليلا فهم كثيرون بالإسلام، وغزيرون بالاجتماع، فكن قطبا واستدر الرحى بالعرب، وصلهم دونك نار الحرب، فإنك إن شخصت من هذه الأرض انتفضت عليك العرب من أطرافها وأقطارها، حتى يكون ما تدع ورائك من العورات، أهم إليك مما بين يديك، وكان قد آن للأعاجم أن ينظروا إليك غدا يقولون هذا أصل العرب فإذا قطعتموه استرحتم، فيكون ذلك أشد لِكَلَبهم عليك، وطمعهم فيك.

فأما ما ذكرت من سير القوم إلى قتال المسلمين فإن الله سبحانه وتعالى هو أكره لمسيرهم منك وهو أقدر على تغيير ما يكرهه، وأما ما ذكرت من عدوهم فإنا لم نكن نقاتل فيما مضى بالكثرة، وإنما كنا نقاتل بالنصرة والمعونة »، انتهى بلفظه المقدس، فتدبر منصفا، فارتفع الإشكال، واتضح الحال، والحمد لله رب العالمين.

ومنها قوله تعالى: { قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنْ الأَعْرَابِ سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُوْلِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ فَإِنْ تُطِيعُوا يُؤْتِكُمْ اللَّهُ أَجْرًا حَسَنًا وَإِنْ تَتَوَلَّوْا كَمَا تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا }، المخاطب بعض القبائل ممن تخلف عن الرسول في غزوة الحديبية، لعذر بارد وشغل كاسد.

وقد أجمع الفريقان أنه لم يقع بعد نزول هذه الآية إلا غزوة تبوك، ولم يقع فيها لا القتال ولا الإسلام فتعين الغير، والداعي ليس جناب الرسول عليه الصلاة والسلام لا محالة، فلا بد أن يكون خليفة من الخلفاء الثلاثة الذين وقعت الدعوة في عهدهم، كما في عهد الخليفة الأول لمانعي الزكاة أولا، وأهل الروم آخرا، وفي عهد الخليفة الثاني والثالث كما لا يخفى على المتتبع، فقد صحت خلافة الصديق لأن الله تعالى وعد وأوعد، ورتب كلا على الإطاعة والمعصية، فهلاّ يكون ذلك المطاع المنقاد له بالوجوب إماما، المنصف يعرف ذلك.

وقد خبط ابن المطهر الحلي وقال: يجوز أن يكون الداعي الرسول عليه الصلاة والسلام في تلك الغزوات التي وقع فيها القتال ولم ينقل لنا، وإذ فتح الباب يقال يجوز عزل الأمير كرم الله تعالى وجهه بعد الغدير ونصب أبي بكر وتحريض الناس على اتباعه ولم ينقل لنا فانظر وتعجب؛ وقال بعض الداعي هو الأمير كرم الله وجهه، فقد دعى إلى قتال الناكثين والقاسطين والمارقين، وفيه ان قتل الأمير كرم الله تعالى وجهه لم يكن لطب الإسلام، بل لانتظام أحوال الإمام، ولم ينقل في العرف القديم والجديد أن يقال لا طاعة الإمام الإسلام ولمخالفته الكفر.

ومع هذا نقل الشيعة بروايات صحيحة عن النبي في حق الأمير كرم الله تعالى وجهه أنه قال: « إنك يا علي تقاتل على تأويل القران كما قاتلت على تنزيله »، وظاهر أن المقاتلة على تأويل القران لا تكون إلا بعد قبول تنزيله، وذلك لا يعقل بدون الإسلام، بل هو عينه فلا يمكن المقاتلة على التأويل مع المقاتلة على الإسلام بالضرورة وهو ظاهر.

ومنها قوله تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ }، مدح الله تعالى في هذه الآية الكريمة الذين قاتلوا المرتدين بأكمل الصفات، وأعلى المبرات، وقد وقع ذلك من الصديق وأنصاره بالإجماع، لأن ثلاث فرق قد ارتدوا في آخر عهده عليه الصلاة والسلام.

الأولى بنو مدلج قوم أسود العنسي ذي الخمار الذي ادعى النبوة في اليمن، وقتل على يد فيروز الديلمي، الثانية بنو حنيفة أصحاب مسيلمة الكذاب المقتول في أيام خلافة الصديق على يد وحشي، الثالثة بنو أسد قوم طليحة بن خويلد المتنبئ، ولكنه آمن بعد أن أرسل النبي خالدا وهرب منه إلى الشام، وقد ارتد في خلافة الصديق سبع فرق:

بنو فزارة قوم عيينة بن حصين، وبنو غطفان قوم قرة بن مسلمة، وبنو سليم قوم ابن عبد ياليل، وبنو يربوع قوم مالك بن نويرة، وبعض بني تميم قوم سجاح بنت المنذر، وبنو كندة قوم أشعث بن قيس الكندي، وبنو بكر في البحرين، وارتدت فرقة في زمن عمر رضي الله تعالى عنه، والتحقت بالنصارى إلى الروم.

وقد استأصل الصديق كل فرقة وازعجهم واستردهم إلى الإسلام، كما أجمع عليه المؤرخون كافة، ولم يقع للأمير كرم الله تعالى وجهه ذلك بل كان متحسرا وكم قال: ابتليت بقتال أهل القبلة، كما رواه الإمامية، وتسمية منكري الإمامة مرتدين مخالفة للعرف القديم والحديث، على انّ المنكر للنص غير كافر كما قاله الكاشي وصاحب الكافي.

وانظر إلى ما قاله الملاّ عبد الله صاحب إظهار الحق ما نصه: فإن قيل إن لم يكن النص الصريح ثابتا كما في باب خلافة الأمير، فالإمامية كاذبون، وإن كان لزم أن جماعة الصحابة مرتين العياذ بالله تعالى؛ أجيب ان إنكار النص الذي هو موجب للكفر إنما هو اعتقاد ان الأمر المنصوص باطل، وان كذّبوا في ذلك التنصيص رسول الله حاشا، أما لو تركوا الحق مع علمهم بوجوبه للأغراض الدنيوية وحب الجاه، فيكون ذلك من الفسوق والعصيان لا غير.

ثم قال فالذين اتفقوا على خلافة الخليفة الأول لم يقولوا إن النبي نص عليها لأحد أو قال بما لا يطابق الواقع فيها معاذ الله بل منهم من أنكر بعض الأحيان تحقق النص، وأوّل بعضهم كلام الرسول عليه الصلاة والسلام تأويلا بعيدا انتهى كلامه.

وأيضا قال الأمير كرم الله وجهه في بعض خطبه المروية عنه عندهم: « أصبحنا نقاتل أخواننا في الإسلام على ما دخل فيه من الزيغ والاعوجاج والشبهة والتأويل »، وأيضا قد منع السبّ كما تقدم وسب المرتد غير منهي عنه، قطعنا النظر وسلّمنا ان الأمير كرم الله تعالى وجهه قاتل المرتدين، فالمقاتل لهم زمن الخليفة الأول شريك في المدح أيضا، وإلاّ لزم الخلف لعموم مَنْ في الشرط والجزاء كما هو مقرر في الأصول، والمقاتل هو وأنصاره الأمير كرم الله تعالى وجهه، إذ لم يدافع أحدا منهم ولا عساكره، إذ هم غير موصوفين بما ذكر، فلكم شكى الإمام منهم، وأعلن بعدم الرضاء عنهم، ودونك ما في نهج البلاغة من خطابه لهم:

« أنبئت أن بسرا [ هو ابن أرطاة أمير اليمن من قبل معاوية ]، قد طلع اليمن، وإني والله لأظن هؤلاء القوم سينالون منكم باجتماعهم على باطلهم وتفرقكم عن حقكم، وبمعصيتكم إمامكم في الحق وطاعتهم إمامهم في الباطل، وبإبدائهم الأمانة إلى صاحبهم وخيانتكم، وبصلاحهم في بلادهم وفسادكم، فلو ائتمنت أحدكم على قعب لخشيت أن يذهب بعلاقته، اللهم إني قد مللتهم وملوني، وسئمتهم وسئموني، فابدلني بهم خيرا منهم، وأبدلهم بي شرا مني، اللهم أمت قلوبهم كما يمات الملح بالماء، لوددت والله لو أن لي بكم ألف فارس من بني فراس بن غنم، لو دعوت أتاك منهم فوارس مثل أزمية الحميم ».

والنهج مملوّ من أمثال هذه الكلمات، ومحشوّ من مثل هذه الشكايات، فانظر هل يمكن تطبيق الأوصاف القرآنية على هؤلاء الأقوام، وهل يجتمع النقيضان، أو كلام الله تعالى كاذب أو كلام الإمام.

وأيضا يستفاد من سياق الآية وسباقها إن فتنة المرتدين، تدفع بسعي القوم الموصوفين، ويتحقق إصلاح الدين، إذ الآية سيقت لتسلية قلوب المؤمنين وتقويتهم ولإزالة خوفهم من المرتدين وفتنتهم، ولم تنته مقاتلات الأمير إلا إلى الضد كما لا يخفى.

هذا وبقيت آيات كثيرة، وأدلة غزيرة، تركناها اكتفاء بما ذكرناه واعتمادا على أن المنصف يكفيه ما سطرناه.

[ أقوال العترة في الإمامة ]

أما أقوال العترة فمنها:

ما أورده المرتضى في ( نهج البلاغة ) عن أمير المؤمنين من كتابه الذي كتبه إلى معاوية وهو: « أما بعد فان بيعتي يا معاوية لزمتك وأنت بالشام فإنه بايعني القوم الذين بايعوا أبا بكر وعمر وعثمان على ما بايعوهم عليه، فلم يكن للشاهد أن يختار ولا للغائب أن يرد، وإنما الشورى للمهاجرين والأنصار، فإن اجتمعوا على رجل وسمّوه إماما كان لله رضى، فإن خرج منهم خارج لطعن أو بدعة، ردوه إلى ما خرج منه، فإن أبى قاتلوه على اتباعه غير سبيل المؤمنين، وولاه ما تولى واصلاه جهنم وساءت مصيرا ».

ومنتهى ما أجاب الشيعة عن أمثال هذا بأنه من مجارات الخصم، ودليل إلزامي، وهو تحريف لا ينبغي لعاقل، ولا يليق بفاضل، إذ فيه غفلة وإغماض عن أطراف الكلام الزائدة على قدر الإلزام، إذ يكفي فيه بيعة أهل العقد والحل، كما لا يخفى على ذي عقل.

وأيضا الدليل الإلزامي مسلّم عند الخصم ومعاوية لا يسلم ما ذكر يرشدك إلى ذلك كتبه إلى الأمير كرم الله تعالى وجهه، كما هو مذكور عند الإمامية وغيرهم، فمذهبه كما يظهر منها أن كل مسلم قرشي مطلقا إذا كان قادرا على تنفيذ الأحكام، وإمضاء الجهاد، وحماية حوزة الإسلام، وحفظ الثغور، ودفع الشرور، وبايعه جماعة من المسلمين من أهل العراق أو من أهل الشام، أو من المدينة المنورة، فهو الإمام.

وإنما لم يتبع الأمير لاتهامه له بقتلة عثمان، وحفظه أهل الجور والعصيان، وما كان يعتقده قادرا على تنفيذ الأحكام، وأخذ القصاص الذي هو من عمدة أمور شريعة سيد الأنام، وذاك بزعمه، ومقتضى فهمه، ومن أجلى البديهيات أن بيعة المهاجرين والأنصار، التي لم تكن خافية على معاوية قط، لو حسبها معتدّا بها لم يذكر في مجالسه ومكاتيبه قوادح الأمير، بل خطأ تلك البيعة أيضا بالصراحة، كما هو معروف من مذهبه على ما لا يخفى على الخبير. فما ذكر في مقابلته من بيعة المهاجرين والأنصار دليل تحقيقي مركب من المقدمات الحقه فيثبت المطلوب.

ومنها ما في النهج أيضا عن الأمير كرم الله تعالى وجهه: « لله بلاد أبي بكر، لقد قوم الأود وداوى العلل، وأقام السنة خلف البدعة ذهب نقي الثوب، قليل العيب، أصاب خيرها، وأبقى شرها، أدى لله طاعة واتقاه بحقه، رحل وتركهم في طرق متشعبة لا يهتدي فيها الضال، ولا يستيقن المتهدي ».

وقد حذف صاحب النهج حفظا لمذهبه أبا بكر، واثبت بدله فلان، وتأبى الأوصاف إلا أبا بكر، ولهذا الإبهام اختلف الشراح فقال البعض هو أبو بكر وبعض هو عمر، ورجح الأكثر الأول وهو الأظهر فقد وصفه المعصوم من الصفات بأعلى مراتبها فناهيك به وناهيك بها، وغاية ما أجابوا أن مثل هذا المدح كان من الإمام لاستجلاب قلوب الناس لاعتقادهم بالشيخين أشد الاعتقاد.

ولا يخفى على منصف ان فيه نسبة الكذب إلى المعصوم لغرض دنيوي مظنون الحصول، بل كان اليأس حاصلا له قطعا، وفيه تضييع غرض الدين بالمرة فحاشا لمثل الإمام أن يمدح مثل هؤلاء، وفي الحديث الصحيح: « إذا مدح الفاسق غضب الرب »، وأيضا أيّة ضرورة تلجئه إلى هذه التأكيدات والمبالغات؟ وكان يكفيه أن يقول: لله بلاد فلان قد جاهد الكفرة والمرتدين، وشاع بسعيه الإسلام، وقام عماد المسلمين، ووضع الجزية وبنى المساجد، ولم تقع في خلافته فتنة ولا بقى معاند ونحو ذلك وفرق بين هذا والسلوك في هاتيك المسالك.

وأيضا في هذا المدح العظيم الكامل، تضليل الأمة وترويج للباطل، وذاك محال من المعصوم، بل كان الواجب عليه بيان الحال لمن بين يديه، بموجب الحديث الصحيح: اذكروا الفاسق بما فيه يحذره الناس، فانظر وانصف، وأجاب بعض الإمامية ان المراد من فلان رجل من الصحابة مات في عهد النبي ، وأختار هذا القول الرواندي.

وانظر هل يمكن لغيره في زمنه الشريف تقويم الأود، ومداوات العلل وإقامة السنة وغيرها، وهل يعقل أن رجلا مات وترك الناس فيما ترك، والنبي موجود بنفسه النفيسة، وذاته الأنيسة، سبحانك هذا بهتان عظيم وزور جسيم.

وقال البعض غرض الإمام من هذه العبارة توبيخ عثمان والتعريض به، فانه لم يذهب على سيرة الشيخين، وفيه أما أولا فالتوبيخ يحصل بدون هذه الكذبات فما الحاجة إليها؟ وأما ثانيا فسيرة الشيخين إن كانت محمودة فقد ثبت إمامتهما، وإلا فالتوبيخ على عثمان بتركها لا ينبغي، وأما ثالثا فهذه من خطبات الكوفة، فما الموجب لعدم الصراحة بالتوبيخ: أنا الغريق فلا أخشى من البلل.

ومنها ما نقله علي بن عيسى الأردبيلي الاثنا عشري في كتابه ( كشف الغمة عن معرفة الأئمة ): « انه سئل الإمام أبو جعفر عن حلية السيف: هل يجوز؟ فقال: نعم، قد حلى أبو بكر الصديق سيفه بالفضة، فقال الراوي: أتقول هكذا؟ فوثب الإمام عن مكانه فقال: نعم الصديق، نعم الصديق، نعم الصديق، فمن لم يقل الصديق فلا صدق الله قوله في الدنيا والآخرة ».

ومن الثابت أن مرتبة الصدّيقية بعد النبوة، ويشهد لها القران والآيات كثيرة، ولا أقل من كونها صفة مدح فوق الصالح، وإذا قال المعصوم في رجل صالحٌ، ارتفع عنه احتمال الجور والفسق والظلم والغصب، وإلا لزم الكذب وهو محال فكيف يعتقد فيه غصب الإمامة وتضييع حق الأمة، ولعمرك المعتقد داخل في عموم هذا الدعاء، ويكفيه جزاء.

وغاية ما أجابوا عن ذلك أنه تقيّة، وأنت تعلم أن وضع السؤال يعلم منه أن السائل شيعي، فلِمَ التقيّة منه؟ وهذا التأكيد، وبعضهم أنكر هذا الكلام، والنسخ شاهدة لنا، وإن لم يوجد في البعض فالبعض الآخر كاف، والنسخ كثيرة والروايات في هذا الباب أكثر، والله تعالى أعلم وأبصر.

تتمة في ذكر بعض الأدلة المأخوذة من الكتاب وأقوال العترة الأنجاب

مما يوصل إلى المطلوب بأدنى تأمل

الأول: أن الله تعالى ذكر جماعة الصحابة الذين كانوا حاضرين حين انعقاد خلافة أبي بكر الصديق وممدين وناصرين له في أمور الخلافة ملقبا لهم بعدة ألقاب في مواضع تنزيله، قال في موضع: { وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْفَائِزُونَ }، وفي آخر: { رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ }، وفي آخر: { حَبَّبَ إِلَيْكُمْ الإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمْ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ }، فإجماع مثل هؤلاء الأقوام على منشأ الجور والآثام محال، والإلزام الكذب هو كما ترى.

الثاني: أن قوما جاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله، وقتلوا آبائهم وأبنائهم وإخوانهم وأقاربهم، ولم يراعوا حقهم نصرة لله تعالى ورسوله ، وقد حضروا هذه البيعة ولم يخالفوا، أفيليق بهم ما نسب إليهم؟ العاقل لا يقول به.

الثالث: أن جماعة كثيرين من الصحابة قد وقع اتفاقهم على خلافة أبي بكر رضي الله تعالى عنه، وكل ما يكون متفقا عليه لجماعة الأمة فهو حق، وخلافه باطل بما ذكره في النهج مرويا عن الأمير في كلام له كرم الله تعالى وجهه: « ألزموا السواد الأعظم، فان يد الله تعالى على الجماعة، وإياكم والفرقة، فان الشاذ من الناس للشيطان، كما ان الشاذ من الغنم للذئب ».

الرابع: أن أمير المؤمنين كرم الله تعالى وجهه لما سئل عن أحوال الصحابة الماضين، وصفهم بلوازم الولاية، وقال كما في النهج: « كانوا إذا ذكروا الله همت أعينهم حتى تبل جباههم، ومادوا كما يميد الشجر يوم الريح العاصف خوفا من العقاب، ورجاء للثواب »، فالإنكار من هؤلاء والإصرار على مخالفة الرسول من المحالات.

الخامس: ما ذكر في الصحيفة الكاملة للسجاد من الدعاء لهم ومدح متابعيهم، ولا احتمال للتقية في الخلوات، وبين يدي رب البريات، ونصه: « اللهم وأوصل إلى التابعين لهم بإحسان، الذين يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان، خير جزائك الذين قصدوا سمتهم، وتحروا وجهتهم، ومضوا في قفوا أثرهم، والاهتمام بهداية منارهم، يدينون بدينهم على شاكلتهم، لم يأتهم ريب في قصدهم، ولم يختلج شك في صدورهم... » إلى آخر ما قال.

فالإصرار من هؤلاء الأخيار على كتمان أحق، وتجويز الظلم والجور على عترة سيد الخلق ، لا يقول به عاقل، ولا يفوه به كامل، والكتب ملئ من أمثال هذه الكلمات، والأدلة القطعيات، وفيما ذكر كفاية، لمن حلت في قلبه الهداية، والسلام على من اتبع الهدى، وخشي عواقب الردى.

نهج السلامة إلى مباحث الإمامة
مقدمة المؤلف | المبحث الأول في بيان فرق الشيعة | المبحث الثاني في حكم أهل القبلة | المقصد: الباب الأول في مباحث الإمامة | الباب الثاني في تحقيق ما وقع في هذا المبحث من خلاف الشيعة | الباب الثالث في ذكر قول فاصل وكلام يميز بين الحق والباطل | خاتمة