مستخدم:OsamaK/فتح المجيد

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة
ملاحظات: كتاب فتح المجيد، شرح كتاب التوحيد. الإمام عبد الرحمن بن حسن آل الشيخ المتوفى عام 1285 هـ.



مقدمة الشارح بسم الله الرحمن الرحيم وبه نستعين وعليه التكلان .


الحمد لله رب العالمين ، والعاقبة للمتقين ، ولا عدوان إلا على الظالمين ، كالمبتدعة والمشركين ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده ولا شريك له ، إله الأولين والآخرين ، وقيوم السماوات والأرضين . وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله ، وخيرته من خلقه أجمعين . اللهم صل على محمد وعلى آل محمد وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين ، وسلم تسليمًا كثيرًا . أما بعد : فإن كتاب التوحيد الذى ألفه الإمام شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب أجزل الله له الأجر والثواب ، وغفر له ولمن أجاب دعوته إلى يوم يقوم الحساب - قد جاء بديعًا فى معناه من بيان التوحيد ببراهينه ، وجمع جملا من أدلته لإيضاحه وتبيينه . فصار علمًا للموحدين ، وحجة على الملحدين . فانتفع به الخلق الكثير ، والجم الغفير . فإن هذا الإمام رحمه الله فى مبدأ منشئه قد شرح الله صدره للحق المبين ، الذى بعث الله به المرسلين : من إخلاص العبادة بجميع أنواعها لله رب العالمين ، وإنكار ما كان عليه الكثير من شرك المشركين ، فأعلى الله همته ، وقوى عزيمته ، وتصدى لدعوة أهل نجد إلى التوحيد ، الذى هو أساس الإسلام والإيمان ، ونهاهم عن عبادة الأشجار والأحجار والقبور ، والطواغيت والأوثان ، وعن الإيمان بالسحرة والمنجمين والكهان . فأبطل الله بدعوته كل بدعة وضلالة يدعو إليها كل شيطان ، وأقام الله به علم الجهاد ، وأدحض به شبه المعارضين من أهل الشرك والعناد ، ودان بالإسلام أكثر أهل تلك البلاد ، الحاضر منهم والباد وانتشرت دعوته ومؤلفاته فى الآفاق ، حتى أقر الله له بالفضل من كان من أهل الشقاق . إلا من استحوذ عليه الشيطان . وكره إليه الإيمان ، فأصر على العناد والطغيان . وقد أصبح أهل جزيرة العرب بدعوته ، كما قال قتادة رحمه الله عن حال أول هذه الأمة إن المسلمين لما قالوا ( لا إله إلا الله) أنكر ذلك المشركون وكبرت عليهم ، وضاق بها إبليس ، وجنوده . فأبى الله إلا أن يمضيها ويظهرها ، ويفلجها وينصرها على من ناوأها ، إنها كلمة من خاصم بها فلج ، ومن قاتل بها نصر ، إنما يعرفها أهل هذه الجزيرة التى يقطعها الراكب فى ليال قلائل ، ويسير من الدهر ، في فئام من الناس ، لا يعرفونها ولا يقرون بها . وقد شرح الله صدور كثير من العلماء لدعوته ، وسروا واستبشروا بطلعته ، وأثنوا عليه نثرًا ونظمًا . فمن ذلك ما قاله عالم صنعاء : محمد بن إسماعيل الأمير فى هذا الشيخ رحمه الله تعالى :

وقد جاءت الأخبار عنه بأنه
يعد لنا الشرع الشـريف بما يبدى
وينشر جهرًا ما طوى كل جاهـل
ومبتدع منه ، فوافق ما عندى
ويعمر أركان الشريعة هادمًا
مشاهد ، ضل الناس فيها عن الرشد
أعادوا بها معنى سـواع ومثله
يغوث وود ، بئس ذلك من ود
وقد هتفوا عند الشدائد باسمها
كما يهتـف المضطر بالصمد الفرد
وكم عقروا فى سوحها من عقيرة
أهلت لغير الله جهرًا على عمد
وكم طائف حول القبور مقبل
ومستلم الأركان منهن بالأيدى

وقال شيخنا عالم الإحساء أبو بكر حسين بن غنام رحمه الله تعالى فيه :

لقد رفع المولى به رتبة الهدى
بوقت به يعلى الضلال ويرفع
سقاه نمير الفهم مولاه فارتوى
وعام بتيار المعارف يقطـع
فأحيا به التوحيد بعد اندراسه
وأوهى به من مطلع الشرك مهيع
سما ذروة المجد التى ما ارتقى لها
سواه ولا حاذى فناها سميذع
وشمرفى منهاج سنة أحمد
يشيد ويحيى ما تعفى ، ويرفع
يناظر بالآيات والسنة التى
أمرنا إليها فى التنازع نرجع
فأضحت به السمحاء يبسم ثغرها
وأمسى محياها يضىء ويلمع
وعاد به نهج الغواية طامسًا
وقد كان مسلوكًا به الناس ترتع
وجرت به نجد ذبول افتخارها
وحق لها بالألمعى ترفع
فأثاره فيها سوام سوافر
وأنواره فيها تضىء وتلمع

وأما كتابه المذكور فموضوعه فى بيان ما بعث به الله رسله : من توحيد العبادة ، وبيانه بالأدلة من الكتاب والسنة ، وذكر ما ينافيه من الشرك الأكبر أو ينافى كماله الواجب ، من الشرك الأصغر ونحوه ، وما يقرب من ذلك أو يوصل إليه . وقد تصدى لشرحه حفيد المصنف ، وهو الشيخ سليمان بن عبد الله رحمه الله تعالى فوضع عليه شرحًا أجاد فيه وأفاد ، وأبرز فيه من البيان ما يجب أن يطلب منه ويراد ، وسماه تيسير العزيز الحميد ، فى شرح كتاب التوحيد . وحيث أطلق شيخ الإسلام فالمراد به أبو العباس أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن تيمية ، و الحافظ فالمراد به أحمد بن حجر العسقلانى . ولما قرأت شرحه رأيته أطنب فى مواضع ، وفى بعضها تكرار يستغنى بالبعض منه عن الكل ، ولم يكمله . فأخذت فى تهذيبه وتقريبه وتكميله ، وربما أدخلت فيه بعض النقول المستحسنة تتميمًا للفائدة وسميته فتح المجيد بشرح كتاب التوحيد . وأسأل الله أن ينفع به كل طالب للعلم ومستفيد ، وأن يجعله خالصًا لوجهه الكريم وموصلًا من سعى فيه إلى جنات النعيم ، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلى العظيم .

قال المصنف رحمه الله تعالى : بسم الله الرحمن الرحيم . ابتدأ كتابه بالبسملة اقتداء بالكتاب العزيز وعملًا بحديث " كل أمر ذى بال لا يبدأ فيه ببسم الله الرحمن الرحيم فهو أقطع" أخرجه ابن حبان من طريقين . قال ابن صلاح : والحديث حسن . ولأبى دواد وابن ماجه " كل أمر ذى بال لا يبدأ فيه بالحمد لله أو بالحمد فهو أقطع " ولأحمد " كل أمر ذى بال لا يفتتح بذكر الله فهو أبتر أو أقطع " وللدارقطني عن أبى هريرة مرفوعًا " كل أمر ذى بال لا يبدأ فيه بذكر الله فهو أقطع " . والمصنف قد اقتصر فى بعض نسخه على البسملة ، لأنها من أبلغ الثناء والذكر للحديث المتقدم . وكان النبى يقتصر عليها فى مراسلاته ، كما فى كتابه لهرقل عظيم الروم ووقع لى نسخة بخطه رحمه الله تعالى بدأ فيها بالبسملة ، وثنى بالحمد والصلاة على النبى وآله . وعلى هذا فالابتداء بالبسملة حقيقى ، وبالحمدلة نسبى إضافى ، أى بالنسبة إلى ما بعد الحمد يكون مبدوءًا به . والباء فى بسم الله متعلقة بمحذوف ، واختار كثير من المتأخرين كونه فعلًا خاصًا متأخرًا . أما كونه فعلا ، فلأن الأصل فى العمل للأفعال . وأما كونه خاصًا ، فلأن كل مبتدىء بالبسملة فى أمر يضمر ما جعل البسملة مبدأ له . وأما كونه متأخرًا ، فلدلالته على الاختصاص ، وأدخل فى التعظيم ، وأوفق للوجود ، ولأن أهم ما يبدأ به ذكر الله تعالى . وذكر العلامة ابن القيم رحمه الله تعالى لحذف العامل فوائد ، منها أنه موطن لا ينبغى أن يتقدم فيه غير ذكر الله . ومنها : أن الفعل إذا حذف صح الابتداء بالبسملة في كل عمل وقول حركة . فكان الحذف أعم . إنتهى ملخصًا . وباء بسم الله للمصاحبة . وقيل : للاستعانة . فيكون التقدير : بسم الله أؤلف حال كونى مستعينًا بذكره ، متبركًا به . وأما ظهوره فى " اقرأ باسم ربك " وفي " بسم الله مجريها " فلأن المقام يقتضى ذلك كما لا يخفى . والاسم مشتق من السمو وهو العلو . وقيل : من الوسم وهو العلامة ، لأن كل ما سمى فقد نوه باسمه ووسم . قوله ( الله ) قال الكسائي والفراء : أصله الإله ، حذفوا الهمزة ، وأدغموا اللام فى اللام ، فصارتا لامًا واحدة مشددة مفخمة . قال العلامة ابن القيم رحمه الله : الصحيح : أنه مشتق ، وأن أصله الإله ، كما هو قول سيبويه وجمهور أصحابه إلا من شذ . وهو الجامع لمعانى الأسماء الحسنى والصفات العلى . والذين قالوا بالاشتقاق إنما أرادوا أنه دال على صفة له تعالى . وهى الإلهية كسائر أسمائه الحسنى ، كالعليم والقدير ، والسميع ، والبصير ، ونحو ذلك . فإن هذه الأسماء مشتقة من مصادرها بلا ريب ، وهى قديمة ، ونحن لا نعني بالاشتقاق إلا أنها ملاقية لمصادرها فى اللفظ والمعنى ، لا أنها متولدة منه تولد الفرع من أصله . وتسمية النحاة للمصدر والمشتقق منه : أصلًا وفرعًا . ليس معناه أن أحدهما متولد من الآخر . وإنما هو باعتبار أن أحدهما يتضمن الأخر وزيادة . قال أبو جعفر بن جرير الله أصله الإله أسقطت الهمزة التى هى فاء الاسم . فالتقت اللام التى هى عين الاسم واللام الزائدة وهى ساكنة فأدغمت فى الأخرى ، فصارتا فى اللفظ لامًا واحدة مشددة . وأما تأويلالله فإنه على معنى ما روى لنا عن عبد الله بن عباس قال : هو الذى يألهه كل شئ ويعبده كل خلق وساق بسنده عن الضحاك عن عبد الله بن عباس قال : الله ذو الألوهية والعبودية على خلقه أجمعين فإن قال لنا قائل : وما دل على أن الألوهية هى العبادة وأن الإله هو المعبود ، وأن له أصلًا فى فعل ويفعل ، وذكر بيت رؤية بن العجاج . لله در الغانيات المدة سبحن واسترجعن من تألهى يعنى من تعبدى وطلبى الله بعملى . ولا شك أن التأله التفعل ، من أله يأله وأن معنى أله إذا نطق به : عبد الله . وقد جاء منه مصدر يدل على أن العرب قد نطقت منه بفعل يفعل بغير زيادة . وذلك ما حدثنا به سفيان بن وكيع - وساق السند إلى ابن عباس أنه قرأ " ويذرك وآلهتك " قال : عبادتك . ويقول : إنه كان يعبد ولا يعبد وساق بسند آخر عن ابن عباس ويذرك وإلاهتك . قال : إنما كان فرعون يعبد ولا يعبد وذكر مثله عن مجاهد ، ثم قال : فقد بين قول ابن عباس ومجاهد هذا : أن أله عبد وأن الإلهة مصدره وساق حديثًا عن أبى سعيد مرفوعًا أن عيسى أسلمته أمه إلى الكتاب ليعلمه . فقال له المعلم : اكتب بسم الله . فقال عيسى : أتدرى ما الله ؟ الله إله الآلهة . قال العلامة ابن القيم رحمه الله : لهذا الاسم الثسريف عشر خصائص لفظية وساقها . ثم قال : وأما خصائصه المعنوية فقد قال أعلم الخلق  : " لا أحصى ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك " وكيف نحصى خصائص اسم لمسماه كل كمال على الإطلاق ، وكل مدح وحمد ، وكل ثناء وكل مجد ، وكل جلال وكل كمال ، وكل عز وكل جمال ، وكل خير وإحسان ، وجود وفضل وبر فله ومنه ، فما ذكر هذا الاسم فى قليل إلا كثره ، ولا عند خوف إلا أزاله ، ولا عند كرب إلا كشفه ، ولا عند هم وغم إلا فرجه ، ولا عند ضيق إلا وسعه ، ولا تعلق به ضعيف إلا أفاده القوة ، ولا ذليل إلا أناله العز ، ولا فقير إلا أصاره غنيًا ، ولا مستوحشًا إلا آنسه ، ولا مغلوب إلا أيده ونصره ، ولا مضطر إلا كشف ضره ، ولا شريد إلا آواه . فهو الاسم الذى تكشف به الكربات ، وتستنزل به البركات ، وتجاب به الدعوات ، وتقال به العثرات ، وتستدفع به السيئات ، وتستجلب به الحسنات . وهو الاسم الذى قامت به الأرض والسماوات ، وبه أنزلت الكتب ، وبه أرسلت الرسل ، وبه شرعت الشرائع . وبه قامت الحدود ، وبه شرع الجهاد ، وبه انقسمت الخليقة إلى السعداء والأشقياء ، وبه حقت الحاقة . ووقعت الواقعة . وبه وضعت الموازين القسط ونصب الصراط ، وقام سوق الجنة والنار . وبه عبد رب العالمين وحمد ، وبحقه بعثت الرسل ، وعنه السؤال في القبر ويوم البعث والنشور وبه الخصام وإليه المحاكمة ، وفيه الموالاة والمعاداة ، وبه سعد من عرفه وقام بحقه ، وبه شقى من جهله وترك حقه ، فهو سر الخلق والأمر . وبه قاما وثبتا ، وإليه انتهيا ، فالخلق به وإليه ولأجله . فما وجد خلق ولا أمر ولا ثواب ولا عقاب إلا مبتدئًا منه ومنتهيًا إليه ، وذلك موجبه ومقتضاه '3 : 191' " ربنا ما خلقت هذا باطلًا سبحانك فقنا عذاب النار " إلى آخر كلامه رحمه الله . قوله (الرحمن الرحيم) قال ابن جرير : حدثنى السري بن يحيى حدثنا عثمان بن زفر سمعت العزرمى يقول : الرحمن بجميع الخلق ، والرحيم بالمؤمنين . وساق بسنده عن أبى سعيد - يعنى الخدرى - "قال : قال رسول الله  : إن عيسى ابن مريم قال : الرحمن : رحمن الآخرة والدنيا . والرحيم : رحيم الآخرة" . قال ابن القيم رحمه الله تعالى : فاسمه الله دل على كونه مألوهًا معبودًا . يألهه الخلائق : محبة وتعظيمًا وخضوعًا ، ومفزعًا إليه فى الحوائج والنوائب . وذلك مستلزم لكمال ربوبيته ورحمته ، المتضمنين لكمال الملك والحمد ، وإلهيته وربوبيته ورحمانيته وملكه ، مستلزم لجميع صفات كماله . إذ يستحيل ثبوت ذلك لمن ليس بحى ، ولا سميع ، ولا بصير ، ولا قادر ، ولا متكلم ، ولافعال لما يريد ، ولا حكيم فى أقواله وأفعاله . فصفات الجلال والجمال أخص باسم الله ، وصفات الفعل والقدرة والتفرد بالضر والنفع (العطاء والمنع ونفوذ المشيئة وكمال القوة وتدبر أمر الخليقة : أخص باسم الرب) ، وصفات الإحسان والجود والبر والحنان والمنة والرأفة والعطف أخص باسم الرحمن . وقال رحمه الله أيضًا : الرحمن دال على الصفة القائمة به سبحانه والرحيم دال على تعلقها بالمرحوم . واذا أردت فهم هذا فتأمل قوله تعالى : '33 : 44' "وكان بالمؤمنين رحيمًا " '9 : 117' "إنه بهم رؤوف رحيم" ولم يجيء قط رحمان بهم . وقال : إن أسماء الرب تعالى هي أسماء ونعوت ، فإنها دالة على صفات كماله . فلا تنافي فيها بين العلمية والوصفية ، فالرحمن اسمه تعالى ووصفه ، فمن حيث هو صفة جرى تابعًا لاسم الله ، ومن حيث هو اسم ورد في القرآن غير تابع ، بل ورد الاسم العلم ، كقوله تعالى "الرحمن على العرش استوى " انتهى ملخصًا .

قال المصنف رحمه الله تعالى : الحمد لله . ش : ومعناه الثناء بالكلام على الجميل الاختياري على وجه التعظيم ، فمورده : اللسان والقلب ، والشكر يكون باللسان والجنان والأركان ، فهو أعم من الحمد متعلقًا ، وأخص منه سببًا ، لأنه يكون في مقابلة النعمة ، والحمد أعم سببًا وأخص متعلقًا، لأنه يكون فى مقابلة النعمة وغيرها . فبينهما عموم وخصوص وجهى ، يجتمعان فى مادة وينفرد كل واحد عن الآخر فى مادة .

قال المصنف رحمه الله : وصلى الله على محمد وعلى آله وسلم . ش : أصح ما قيل فى معنى صلاة الله على عبده : ما ذكره البخارى رحمه الله تعالى عن أبى العالية قال : "صلاة الله على عبده ثناؤه عليه عند الملائكة" وقرره ابن القيم رحمه الله ونصره فى كتابيه جلاء الأفهام وبدائع الفوائد . قلت : وقد يراد بها الدعاء ، كما فى المسند عن على مرفوعًا " الملائكة تصلى على أحدكم ما دام فى مصلاه : اللهم اغفر له اللهم ارحمه " . قوله (وعلى آله) أى أتباعه على دينه ، نص عليه الإمام أحمد هنا . وعليه أكثر الأصحاب . وعلى هذا فيشمل الصحابة وغيرهم من المؤمنين .

قال المصنف رحمه الله تعالى : كتاب التوحيد ش : كتاب : مصدر كتب يكتب كتابًا وكتابة وكتبًا ، ومدار المادة على الجمع . ومنه : تكتب بنو فلان ، إذا اجتمعوا . والكتيبة لجماعة الخيل ، والكتابة بالقلم لاجتماع الكلمات والحروف . وسمى الكتاب كتابًا : لجمعه ما وضع له . والتوحيد نوعان : توحيد فى المعرفة والإثبات . وهو توحيد الربوبية والأسماء والصفات . وتوحيد فى الطلب والقصد . وهو توحيد الإلهية والعبادة . قال العلامة ابن القيم رحمه الله : وأما التوحيد الذى دعت إليه الرسل ونزلت به الكتب فهو نوعان : توحيد فى المعرفة والإثبات ، وتوحيد فى الطلب والقصد . فالأول هو : إثبات حقيقة ذات الرب تعالى وصفاته وأفعاله وأسمائه وتكلمه بكتبه وتكليمه لمن شاء من عباده ، وإثبات عموم قضائه وقدره وحكمته ، وقد أفصح القرآن عن هذا النوع جد الإفصاح ، كما فى أول سورة الحديد ، وسورة طه ، وآخر الحشر ، وأول تنزيل السجدة ، وأول آل عمران ، وسورة الإخلاص بكمالها ، وغير ذلك . النوع الثانى : ما تضمنته سورة " قل يا أيها الكافرون " وقوله تعالى : '3 : 64' " قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم أن لا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون " وأول سورة تنزيل الكتاب وآخرها . وأول سورة المؤمن : ووسطها وآخرها ، وأول سورة الأعراف وآخرها . وجملة سورة الأنعام ، وغالب سور القرآن . بل كل سورة في القرآن فهي متضمنة لنوعى التوحيد ، شاهدة به داعية إليه . فإن القران إما خبر عن الله وأسمائه وصفاته وأفعاله وأقواله ، فهو التوحيد العلمى الخبرى وإما دعوة إلى عبادته وحده لا شريك له وخلع ما يعبد من دونه ، فهو التوحيد الإرادي الطلبي . وإما أمر ونهى ، وإلزام بطاعته وأمره ونهيه ، فهو حقوق التوحيد ومكملاته وإما خبر عن إكرام أهل التوحيد وما فعل به فى الدنيا وما يكرمهم به فى الآخرة ، فهو جزاء توحيده ، وإما خبر عن أهل الشرك وما فعل بهم فى الدنيا من النكال وما يحل بهم في العقبى من العذاب . فهو جزاء من خرج عن حكم التوحيد . فالقرآن كله فى التوحيد ، وحقوقه وجزائه ، وفى شأن الشرك وأهله وجزائهم . انتهى . قال شيخ الإسلام : التوحيد الذى جاءت به الرسل إنما يتضمن إثبات الإلهية لله وحده بأن يشهد أن لا إله إلا الله : لا يعبد إلا إياه ، ولا يتوكل إلا عليه ، ولا يوالى إلا له ، ولا يعادى إلا فيه ، ولا يعمل إلا لأجله . وذلك يتضمن إثبات ما أثبته لنفسه من الأسماء والصفات . قال تعالى : '2 : 163' "وإلهكم إله واحد لا إله إلا هو الرحمن الرحيم" قال تعالى : '16 : 51' " وقال الله لا تتخذوا إلهين اثنين إنما هو إله واحد فإياي فارهبون " وقال تعالى : '23 : 117' "ومن يدع مع الله إلها آخر لا برهان له به فإنما حسابه عند ربه إنه لا يفلح الكافرون" وقال تعالى : '43: 45' "واسأل من أرسلنا من قبلك من رسلنا أجعلنا من دون الرحمن آلهة يعبدون" وأخبر عن كل نبى من الأنبياء أنهم دعوا الناس إلى عبادة الله وحده لا شريك له . وقال : '60 : 4' " قد كانت لكم أسوة حسنة في إبراهيم والذين معه إذ قالوا لقومهم إنا برآء منكم ومما تعبدون من دون الله كفرنا بكم وبدا بيننا وبينكم العداوة والبغضاء أبدا حتى تؤمنوا بالله وحده " وقال عن المشركين : '37 :35 ،36' " إنهم كانوا إذا قيل لهم لا إله إلا الله يستكبرون * ويقولون أإنا لتاركوا آلهتنا لشاعر مجنون " وهذا فى القرآن كثير . وليس المراد بالتوحيد : مجرد توحيد الربوبية . وهو اعتقاد أن الله وحده خلق العالم ، كما يظن ذلك من يظنه من أهل الكلام والتصوف . ويظن هؤلاء أنهم إذا أثبتوا ذلك بالدليل فقد أثبتوا غاية التوحيد . وأنهم إذا شهدوا هذا وفنوا فيه فقد فنوا فى غاية التوحيد فإن الرجل لو أقر بما يستحقه الرب تعالى من الصفات ونزهه عن كل ما ينزه عنه . وأقر بأنه وحده خالق كل شئ ، لم يكن موحدًا حتى يشهد بأن لا إله إلا الله وحده . فيقر بأن الله وحده هو الإله المستحق للعبادة . ويلتزم بعبادة الله وحده لا شريك له . و الإله هو المألوه المعبود الذى يستحق العبادة . وليس هو الإله بمعنى القادر على الاختراع . فإذا فسر المفسر الإله بمعنى القادر على الاختراع واعتقد أن هذا المعنى هو أخص وصف الإله . وجعل إثبات هذا هو الغاية فى التوحيد - كما يفعل ذلك من يفعله من متكلمة الصفاتية . وهو الذى يقولونه عن أبى الحسن وأتباعه لم يعرفوا حقيقة التوحيد الذى بعث الله به رسوله . فإن مشركى العرب كانوا مقرين بأن الله وحده خالق كل شئ . وكانوا مع هذا مشركين . قال تعالى : '12 : 106' "وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون" قالت طائفة من السلف تسألهم : من خلق السموات والأرض ؟ فيقولون : الله وهم مع هذا يعبدون غيره قال تعالى : '23 : 84 - 89' " قل لمن الأرض ومن فيها إن كنتم تعلمون * سيقولون لله قل أفلا تذكرون * قل من رب السماوات السبع ورب العرش العظيم * سيقولون لله قل أفلا تتقون * قل من بيده ملكوت كل شيء وهو يجير ولا يجار عليه إن كنتم تعلمون * سيقولون لله قل فأنى تسحرون " فليس كل من أقر بأن الله تعالى رب كل شئ وخالقه يكون عابدًا له ، دون ما سواه . داعيا له دون ما سواه راجيًا له خائفًا منه دون ما سواه . يوالى فيه ويعادى فيه . ويطيع رسله ويأمر بما أمر به . وينهى عما نهى عنه . وعامة المشركين أقروا بأن الله خالق كل شئ . وأثبتوا الشفعاء الذين يشركونهم به وجعلوا له أندادًا . قال تعالى : '39 : 43، 44 '" أم اتخذوا من دون الله شفعاء قل أو لو كانوا لا يملكون شيئا ولا يعقلون * قل لله الشفاعة جميعا له ملك السماوات والأرض " وقال تعالى : '10 : 18' " ويعبدون من دون الله ما لا يضرهم ولا ينفعهم ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله قل أتنبئون الله بما لا يعلم في السماوات ولا في الأرض سبحانه وتعالى عما يشركون " وقال تعالى : '6 : 14' "ولقد جئتمونا فرادى كما خلقناكم أول مرة وتركتم ما خولناكم وراء ظهوركم وما نرى معكم شفعاءكم الذين زعمتم أنهم فيكم شركاء لقد تقطع بينكم وضل عنكم ما كنتم تزعمون" وقال تعالى : '2 : 165' "ومن الناس من يتخذ من دون الله أندادًا يحبونهم كحب الله" ولهذا كان أتباع هؤلاء من يسجد للشمس والقمر والكواكب ويدعوها . ويصوم وينسك لها ويتقرأ إليها . ثم يقول : إن هذا ليس بشرك . إنما الشرك إذا اعتقدت أنها المدبرة لى . فإذا جعلتها سببًا وواسطة لم أكن مشركًا. ومن المعلوم بالاضطرار من دين الإسلام أن هذا شرك . انتهى كلامه رحمه الله تعالى .

قال المصنف رحمه الله تعالى  : وقول الله تعالى : ' 51: 56 ' "وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون" ش : بالجر عطف على التوحيد . ويجوز الرفع على الابتداء . قال شيخ الإسلام : العبادة هى طاعة الله بامتثال ما أمر الله به على ألسنة الرسل . وقال أيضًا : العبادة اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الظاهرة والباطنة . قال ابن القيم : ومدارها على خمس عشرة قاعدة . من كملها كمل مراتب العبودية . وبيان ذلك : أن العبادة منقسمة على القلب واللسان والجوارح . والأحكام التى للعبودية خمسة : واجب ومستحب وحرام ومكروه ومباح . وهن لكل واحد من القلب واللسان والجوارح . وقال القرطبى : أصل العبادة التذلل والخضوع . وسميت وظائف الشرع على المكلفين عبادات . لأنهم يلتزمونها ويفعلونها خاضعين متذللين لله تعالى . ومعنى الآية : أن الله تعالى أخبر أنه ما خلق الجن والإنس إلا لعبادته . فهذا هو الحكمة في خلقهم . قلت : وهي الحكمة الشرعية الدينية . قال العماد ابن كثير : وعبادته هى طاعته بفعل المأمور وترك المحظور . وذلك هو حقيقة دين الاسلام . لأن معنى الإسلام : الاستسلام لله تعالى ، المتضمن غاية الانقياد والذل والخضوع . انتهى . وقال أيضا فى تفسير هذه الاية : ومعنى الآية أن الله خلق الخلق ليعبدوه وحده لا شريك له . فمن أطاعه جازاه أتم الجزاء . ومن عصاه عذبه أشد العذاب . وأخبر أنه غير محتاج إليهم . بل هم الفقراء فى جميع أحوالهم وهو خالقهم ورازقهم . وقال علي بن أبى طالب رضى الله عنه فى الآية إلا لآمرهم أن يعبدونى وأدعوهم إلى عبادتى وقال مجاهد : إلا لآمرهم وأنهاهم اختاره الزجاج وشيخ الإسلام . قال : ويدل على هذا قوله ' 75 : 36 ' "أيحسب الإنسان أن يترك سدى" قال الشافعى : لا يؤمر ولا ينهى وقال فى القرآن فى غير موضع "اعبدوا ربكم" "اتقوا ربكم" فقد أمرهم بما خلقوا له . وأرسل الرسل بذلك . وهذا المعنى هو الذى قصد بالآية قطعًا ، وهو الذى يفهمه جماهير المسلمين ويحتجون بالآية عليه . قال وهذه الآية تشبه قوله تعالى : ' 4 : 64 ' "وما أرسلنا من رسول إلا ليطاع بإذن الله" ثم قد يطاع وقد يعصى . وكذلك ما خلقهم إلا لعبادته . ثم قد يعبدون وقد لا يعبدون . وهو سبحانه لم يقل : إنه فعل الأول . وهو خلقهم ليفعل بهم كلهم . الثانى : وهو عبادته ولكن ذكر أنه فعل الأول ليفعلوا هم الثانى . فيكونوا هم الفاعلين له . فيحصل لهم بفعله سعادتهم ويحصل ما يحبه ويرضاه منه ولهم . انتهى . ويشهد لهذا المعنى : ما تواترت به الأحاديث . فمنها ما أخرجه مسلم فى صحيحه عن أنس بن مالك رضي الله عنه عن النبي قال : "يقول الله تعالى لأهون أهل النار عذابًا : لو كانت لك الدنيا وما فيها ومثلها معها أكنت مفتديًا بها ؟ فيقول : نعم . فيقول : قد أردت منك أهون من هذا وأنت فى صلب آدم . أن لا تشرك - أحسبه قال : ولا أدخلك النار - فأبيت إلا الشرك" فهذا المشرك قد خالف ما أراده الله تعالى منه : من توحيده وأن لا يشرك به شيئًا . فخالف ما أراده الله منه فأشرك به غيره . وهذه هى الإرادة الشرعية الدينية كما تقدم . فبين الإرادة الشرعية الدينية والإرادة الكونية القدرية عموم وخصوص مطلق . يجتمعان فى حق المخلص المطيع . وتنفرد الإرادة الكونية القدرية فى حق العاصى . فافهم ذلك تنج من جهالات أرباب الكلام وتابعيهم .

قال المصنف رحمه الله تعالى : وقوله ' 16 : 36 ' " ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت " . ش : الطاغوت : مشتق من الطغيان ، وهو مجاوزة الحد . قال عمر بن الخطاب رضى الله عنه : الطاغوت الشيطان . وقال جابر رضى الله عنه الطاغوت كهان كانت تنزل عليهم الشياطين رواهما ابن أبى حاتم . وقال مالك : الطاغوت كل ما عبد من دون الله . قلت : وذلك المذكور بعض أفراده ، وقد حده العلامة ابن القيم حدًا جامعًا فقال الطاغوت كل ما تجاوز به العبد حده : من معبود أو متبوع أو مطاع . فطاغوت كل قوم : من يتحاكمون إليه غير الله ورسوله ، أو يعبدونه من دون الله أو يتبعونه على غير بصيرة من الله أو يطيعونه فيما لا يعلمون أنه طاعة لله . فهذه طواغيت العالم . إذا تأملتها وتأملت أحوال الناس معها . رأيت أكثرههم أعرض عن عبادة الله تعالى إلى عبادة الطاغوت وعن طاعة رسول الله إلى طاعة الطاغوت ومتابعته . وأما معنى الآية : فأخبر تعالى أنه بعث فى كل طائفة من الناس رسولًا بهذه الكلمة "أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت" أي اعبدوا الله وحده واتركوا عبادة ما سواه ، كما قال تعالى : '2 : 256' "فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها" وهذا معنى لا إله إلا الله فإنها هي العروة الوثقى . قال العماد ابن كثير فى هذه الآية : كلهم - أى الرسل - يدعو إلى عبادة الله ، وينهى عن عبادة ما سواه ، فلم يزل سبحانه يرسل إلى الناس الرسل بذلك منذ حدث الشرك فى بنى آدم فى قوم نوح الذين أرسل إليهم ، وكان أول رسول بعثه الله تعالى إلى أهل الأرض إلى أن ختمهم بمحمد ، الذى طبق دعوته الإنس والجن فى المشارق والمغارب ، وكلهم كما قال الله تعالى : '21 : 25' "وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون" وقال تعالى فى هذه الآية الكريمة : " ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت " فكيف يسوغ لأحد من المشركين بعد هذا أن يقول : " لو شاء الله ما عبدنا من دونه من شيء " ، فمشيئة الله تعالى الشرعية عنهم منفية ، لأنه نهاههم عن ذلك على ألسن رسله ، وأما مشيئته الكونية - وهى تمكينهم من ذلك قدرًا - فلا حجة لهم فيها ، لأنه تعالى خلق النار وأهلها من الشياطين والكفرة ، وهو لا يرضى لعبادة الكفر ، وله فى ذلك الحجة البالغة والحكمة القاطعة ، ثم إنه تعالى قد أخبر أنه أنكر عليهم بالعقوبة فى الدنيا بعد إنذار الرسل ، فلهذا قال : '16 : 36' "فمنهم من هدى الله ومنهم من حقت عليه الضلالة" انتهى . قلت : وهذه الآية تفسير الآية التي قبلها . وذلك قوله : "فمنهم من هدى الله ومنهم من حقت عليه الضلالة" فتدبر . ودلت هذه الآية على أن الحكمة في ارسال الرسل ، دعوتهم أممهم إلى عبادة الله وحده ، والنهي عن عبادة ما سواه ، وأن هذا هو دين الأنبياء والمرسلين ، وإن اختلفت شريعتهم كما قال تعالى "لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجًا" وأنه لا بد في الإيمان من عمل القلب والجوارح .

قال المصنف رحمه الله تعالى : قوله تعالى : '17 : 23' " وقضى ربك أن لا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحسانا " . ش : قال مجاهد قضى يعني وصى ، وكذا قرأ أبي بن كعب وابن مسعود وغيرهم ولابن جرير عن ابن عباس وقضى ربك يعني أمر . وقوله تعالى : " أن لا تعبدوا إلا إياه " المعنى ، أن تعبدوه وحده دون ما سواه ، وهذا معنى لا إله إلا الله . قال ابن القيم رحمه الله تعالى ، والنفي المحض ليس توحيدًا ، وكذلك الاثبات بدون النفي ، فلا يكون التوحيد إلا متضمنًا للنفي والإثبات ، وهذا هو حقيقة التوحيد . وقوله :" وبالوالدين إحسانا "أي وقضى أن تحسنوا بالوالدين إحسانًا ، كما قضى بعبادته وحده لا شريك له . كما قال تعالى في الآية الأخرى '13 : 14'"أن اشكر لي ولوالديك إلي المصير" وقوله : "إما يبلغن عندك الكبر أحدهما أو كلاهما فلا تقل لهما أف ولا تنهرهما" أى ألا تسمعهما قولًا سيئًا ، حتى ولا التأفيف الذي هو أدنى مراتب القول السيء "ولا تنهرهما" أي : لا يصدر منك إليهما فعل قبيح ، كما قال عطاء بن أبي رباح لا تنفض يديك عليهما . ولما نهاه عن الفعل القبيح والقول القبيح أمره بالفعل الحسن والقول الحسن فقال : "وقل لهما قولًا كريمًا" أي لينًا طيبًا بأدب وتوقير وقوله "واخفض لهما جناح الذل من الرحمة" أى تواضع لهما "وقل رب ارحمهما" أي في كبرهما وعند وفاتهما " كما ربياني صغيرا " وقد ورد في بر الوالدين أحاديث كثيرة ، منها : الحديث المروي من طرق عن أنس وغيره "أن رسول الله لما صعد المنبر قال : آمين ، آمين ، آمين ، فقالوا يا رسول الله ، على ما أمنت ؟ قال أتاني جبريل فقال : يا محمد رغم أنف امرىء ذكرت عنده فلم يصل عليك قل : آمين ، فقلت : آمين ثم قال : رغم أنف امرىء دخل عليه شهر رمضان ثم خرج ولم يغفر له ، قل آمين : فقلت آمين ، ثم قال : رغم أنف امرىء أدرك أبويه أو أحدهما فلم يدخلاه الجنة قل : آمين ، فقلت آمين" وروى الامام أحمد من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي "رغم أنف ، ثم رغم أنف ، ثم رغم أنف رجل أدرك والديه ، أحدهما أو كلاهما لم يدخل الجنة " قال العماد ابن كثير : صحيح من هذا الوجه عن أبى بكرة رضى الله عنه قال : قال رسول الله  : " ألا أنبئكم بأكبر الكبائر قلنا : بلى يا رسول الله ، قال : الإشراك بالله ، وعقوق الوالدين . وكان متكئًا فجلس ، فقال ألا وقول الزور ، ألا وشهادة الزور ، فما زال يكررها حتى قلنا : ليته سكت" رواه البخارى ومسلم . وعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال : قال رسول الله  : "رضى الرب فى رضى الوالدين ، وسخطه فى سخط الوالدين " ، عن أسيد الساعدى رضى الله عنه قال : "بينا نحن جلوس عند النبى إذ جاءه رجل من بنى سلمة فقال : يا رسول الله ، هل بقى من بر أبوي شئ أبرهما به بعد موتهما ؟ فقال : نعم ، الصلاة عليهما والاستغفار لهما ، وإنفاذ عهدهما من بعدهما ، وصلة الرحم التى لا توصل إلا بهما ، وإكرام صديقهما " رواه أبو داود وابن ماجة . والأحاديث فى هذا المعنى كثيرة جدًا .

قال المصنف رحمه الله تعالى : وقوله : '4 : 36' "واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئًا" . ش : قال العماد ابن كثير رحمه الله فى هذه الآية : يأمر الله تعالى عباده بعبادته وحده لا شريك له ، فإنه الخالق الرازق المتفضل على خلقه فى جميع الحالات ، وهو المستحق منهم أن يوحدوه ولا يشركوا به شيئًا من مخلوقاته . انتهى . وهذه الاية هى التى تسمى آية الحقوق العشرة ، وفى بعض النسخ المعتمدة من نسخ هذا الكتاب تقديم هذه الآية على آية الأنعام ، ولهذا قدمتها لمناسبة كلام ابن مسعود الآتي لآية الأنعام ، ليكون ذكره بعدها أنسب .

قال المصنف رحمه الله تعالى : وقوله تعالى :'6 : 151-153' " قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم أن لا تشركوا به شيئا وبالوالدين إحسانا " الآيات . ش : قال العماد ابن كثير رحمه الله : يقول تعالى لنبيه ورسوله محمد (قل) لهؤلاء المشركين الذين عبدوا غير الله ، وحرموا ما رزقهم الله (تعالوا) أي هلموا وأقبلوا (أتل) أقص عليكم (ماحرم ربكم عليكم) حقًا ، لا تخرصًا ولا ظنًا ، بل وحيًا منه وأمرًا من عنده (ألا تشركوا به شيئًا) وكأن في الكلام محذوفًا دل عليه السياق تقديره : وصاكم ألا تشركوا به شيئًا ، ولهذا قال في آخر الآية (ذلكم وصاكم به) ا هـ . قلت : فيكون المعنى : حرم عليكم ما وصاكم بتركه من الإشراك به ، وفي المغني لابن هشام فى قوله تعالى " أن لا تشركوا به شيئا " سبعة أقوال ، أحسنها : هذا الذى ذكره ابن كثير ، ويليه : بين لكم ذلك لئلا تشركوا ، فحذفت الجملة من أحدهما ، وهى (وصاكم) وحرف الجر وما قبله من الأخرى . ولهذا إذا سئلوا عما يقول لهم رسول الله قالوا : يقول اعبدوا الله ولا تشركوا به شيئًا ، واتركوا ما يقول آباؤكم كما قال أبو سفيان ، لهرقل وهذا هو الذى فهمه أبو سفيان وغيره من قول رسول الله لهم قولوا لا اله إلا الله تفلحوا . وقوله تعالى : "وبالوالدين إحسانًا" قال القرطبى : الإحسان إلى الوالدين برهما وحفظهما وصيانتهما وامتثال أمرهما ، وإزالة الرق عنهما ، وترك السلطنة عليهما ، و(إحسانًا) نصب على المصدرية ، وناصبه فعل من لفظه تقديره : وأحسنوا بالوالدين إحسانًا . وقوله "ولا تقتلوا أولادكم من إملاق نحن نرزقكم وإياهم" إلاملاق : الفقر ، أى لا تئدوا بناتكم خشية العيلة والفقر ، فإنى رازقكم وإياهم ، وكان منهم من يفعل ذلك بالذكور خشية الفقر ، ذكره القرطبى . وفى الصحيحين "عن ابن مسعود رضى الله عنه (قلت : يا رسول الله ، أى الذنب أعظم عند الله ؟ قال : أن تجعل لله ندًا وهو خلقك . قلت : ثم أى ؟ قال : أن تقتل ولدك خشية أن يطعم معك . قلت : ثم أي ؟ قال : أن تزاني بحليلة جارك . ثم تلا رسول الله '25 : 68 - 70' " والذين لا يدعون مع الله إلها آخر ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق ولا يزنون ومن يفعل ذلك يلق أثاما * يضاعف له العذاب يوم القيامة ويخلد فيه مهانا * إلا من تاب وآمن وعمل عملا صالحا فأولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات وكان الله غفورا رحيما " " . وقوله : "ولا تقربوا الفواحش ما ظهر منها وما بطن" قال ابن عطية : نهي عام عن جميع أنواع الفواحش ، وهى المعاصى . و(ظهر) و (بطن) حالتان تستوفيان أقسام ما جلتا له من الأشياء . انتهى . وقوله : " ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق " فى الصحيحين : "عن ابن عباس رضى الله عنه مرفوعًا : لا يحل دم امرىء مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله إلا بإحدى ثلاث : الثيب الزانى ، والنفس بالنفس ، والتارك لدينه المفارق للجماعة" . وقوله : "ذلكم وصاكم به لعلكم تعقلون" قال ابن عطية : (ذلكم) إشارة إلى هذه المحرمات والوصية الأمر المؤكد المقرر . وقوله (لعلكم تعقلون) (لعل) للتعليل أى إن الله تعالى وصانا بهذه الوصايا لنعقلها عنه ونعمل بها ، وفى تفسير الطبرى الحنفى : ذكر أو لا (تعقلون) في (تذكرون) ثم (تتقون) لأنهم إذا عقلوا تذكروا وخافوا واتقوا . وقوله : " ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن حتى يبلغ أشده " قال ابن عطية : هذا نهى عام عن القرب الذى يعم وجوه التصرف وفيه سد الذريعة ، ثم استثنى ما يحسن وهو السعى فى نمائه ، قال مجاهد : التي هي أحسن ، إشارة فيه ، وفي قوله : (حتى يبلغ أشده) قال مالك وغيره : هو الرشد وزوال السفه مع البلوغ ، روى نحو هذا عن زيد بن أسلم والشعبى وربيعة وغيرهم . وقوله : "وأوفوا الكيل والميزان بالقسط " قال ابن كثير : يأمر تعالى بإقامة العدل فى الأخذ والإعطاء " لا نكلف نفسًا إلا وسعها " أي من اجتهاد بأداء الحق وأخذه ، فإن أخطأ بعد استفراغ الوسع وبذل جهده فلا حرج عليه . وقوله : "وإذا قلتم فاعدلوا ولو كان ذا قربى" هذا أمر بالعدل فى القول والفعل على القريب والبعيد . قال الحنفي : العدل فى القول فى حق الولى والعدو لا يتغير فى الرضى والغضب بل يكون على الحق وإن كان ذا قربى فلا يميل إلى الحبيب والقريب '5: 8' " ولا يجرمنكم شنآن قوم على أن لا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى " . وقوله "وبعهد الله أوفوا" قال ابن جرير : وبوصية الله تعالى التي وصاكم بها فأوفوا . وإيفاء ذلك بأن يطيعوه بما أمرهم به ونهاهم عنه . وأن يعملوا بكتابه وسنة رسوله ذلك هو الوفاء بعهد الله . وكذا قال غيره ، وقوله "ذلكم وصاكم به لعلكم تذكرون" تتعظون وتنتهون عما كنتم فيه . وقوله : "وأن هذا صراطي مستقيمًا فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله" قال القرطبي : هذه آية عظيمة عطفها على ما تقدم . فإنه نهي وأمر وحذر عن اتباع غير سبيله على ما بينته الأحاديث الصحيحة وأقاويل السلف . و (أن) فى موضع نصب . أي أتلو أن هذا صراطي ، عن الفراء و الكسائي . ويجوز أن يكون خفضًا . أي وصاكم به وبأن هذا صراطي . قال: والصراط الطريق الذي هو دين الإسلام . (مستقيمًا) نصب على الحال ومعناه مستويًا قيمًا لا اعوجاج فيه . فأمر باتباع طريقه الذي طرقه على لسان محمد وشرعه ونهايته الجنة وتشعبت منه طرق ، فمن سلك الجادة نجا ، ومن خرج إلى تلك الطرق أفضت به إلى النار . قال الله تعالى : "ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله ذلكم وصاكم به لعلكم تتقون" أي يميل . انتهى . وروى الإمام أحمد والنسائي و الدارمي و ابن أبي حاتم و الحاكم - وصححه - "عن ابن مسعود رضي الله عنه قال : خط رسول الله خطًا بيده ، ثم قال هذا سبيل الله مستقيمًا ، ثم خط خطوطًا عن يمين ذلك الخط وعن شماله ثم قال : وهذه سبل ليس منها سبيل إلا وعليه شيطان يدعو إليه ، ثم قرأ "وأن هذا صراطي مستقيمًا فاتبعوه ولا تتبعوا السبل " الآية " . وعن مجاهد : ولا تتبعوا السبل ، قال : البدع والشهوات . قال ابن القيم رحمه الله : ولنذكر في الصراط المستقيم قولًا وجيزًا فإن الناس قد تنوعت عباراتهم عنه بحسب صفاته ومتعلقاته ، وحقيقته شئ واحد ، وهو طريق الله الذي نصبه لعباده موصلًا لهم إليه ولا طريق إليه سواه ، بل الطرق كلها مسدودة على الخلق إلا طريقه الذي نصبه على ألسن رسله ، وجعله موصلًا لعبادة الله وهو إفراده بالعبادات ، وإفراد رسله بالطاعة ، فلا يشرك به أحدًا في عبادته ولا يشرك برسوله أحدًا في طاعته . فيجرد التوحيد ، ويجرد متابعة الرسول ، وهذا كله مضمون شهادة أن لا إله إلا الله ، وأن محمدًا رسول الله فأي شئ فسر به الصراط المستقيم فهو داخل في هذين الأصلين . ونكتة ذلك ، أن تحبه بقلبك وترضيه بجهدك كله ، فلا يكون في قلبك موضع إلا معمورًا بحبه ، ولا يكون لك إرادة متعلقة بمرضاته . فالأول يحصل بتحقيق شهادة أن لا إله إلا الله ، والثاني يحصل بتحقيق شهادة أن محمدًا رسول الله . وهذا هو الهدى ودين الحق ، وهو معرفة الحق والعمل به ، وهو معرفة ما بعث الله به رسوله والقيام به ، وقل ما شئت من العبارات التى هذا آخيتها وقطب رحاها . قال : وقال سهل بن عبد الله : عليكم بالأثر والسنة ، فإنى أخاف ، إنه سيأتي عن قليل زمان إذا ذكر إنسان النبى والاقتداء به فى جميع أحواله ذموه ونفروا عنه وتبرأوا منه ، وأذلوه وأهانوه . ا هـ .

قال المصنف رحمه الله تعالى : قال ابن مسعود : من أراد أن ينظر إلى وصية محمد التى عليها خاتمه فليقرأ : "قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم "- إلى قوله - " وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه " الآية . ش : قوله : ابن مسعود هو عبد الله بن مسعود بن غافل - بمعجمة وفاء - ابن حبيب الهذلى أبو عبد الرحمن ، صحابى جليل من السابقين الأولين ، وأهل بدر وأحد والخندق وبيعة الرضوان من كبار علماء الصحابة ، أمر عمر على الكوفة ، ومات سنة اثنتين وثلاثين رضى الله عنه . وهذا الأثر رواه الترمذي وحسنه ، وابن المنذر وابن أبى حاتم والطبرانى بنحوه . وقال بعضهم : معناه من أراد أن ينظر إلى الوصية التى كأنها كتب وختم عليها فلم تغير ولم تبدل فليقرأ : (قل تعالوا -إلى آخر الآيات) شبهها بالكتاب الذى كتب ثم ختم فلم يزد فيه ولم ينقص . فإن النبى لم يوص إلا بكتاب الله ، كما قال فيما رواه مسلم : "وإنى تارك فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا : كتاب الله" وقد روى عبادة بن الصامت قال : "قال رسول الله  : أيكم يبايعنى على هؤلاء الآيات الثلاث ؟ ثم تلا قوله تعالى : "قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم" حتى فرغ من الثلاث الآيات . ثم قال من وفى بهن فأجره على الله ، ومن انتقص منهن شيئًا فأدركه الله به فى الدنيا كانت عقوبته ، ومن أخره إلى الآخرة كان أمره إلى الله إن شاء آخذه وإن شاء عفا عنه " رواه ابن أبي حاتم و الحاكم وصححه و محمد بن نصر فى الاعتصام . قلت : ولأن النبى لم يوص أمته إلا بما وصاهم الله تعالى به على لسانه . وفى كتابه الذى أنزله '16 : 89' " تبيانا لكل شيء وهدى ورحمة وبشرى للمسلمين " وهذه الآيات وصية الله تعالى ووصية رسوله .

قال المصنف رحمه الله تعالى : وعن معاذ بن جبل قال : كنت رديف النبى على حمار فقال لى : يا معاذ أتدري ما حق الله على العباد ، وما حق العباد على الله ؟ . قلت : الله ورسوله أعلم . قال : حق الله على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئًا وحق العباد على الله أن لا يعذب من لا يشرك به شيئًا ، قلت : يا رسول الله أفلا أبشر الناس ؟ قال : لا تبشرهم فيتكلوا " . أخرجاه فى الصحيحين . ش : هذا الحديث فى الصحيحين من طرق . وفى بعض رواياته نحو مما ذكره المصنف . و معاذ بن جبل رضى الله عنه هو ابن عمرو بن أوس الأنصارى الخزرجى أبو عبد الرحمن صحابى مشهور من أعيان الصحابة ، شهد بدرًا وما بعدها . وكان إليه المنتهى فى العلم والأحكام والقرآن رضي الله عنه . وقال النبى معاذ يحشر يوم القيامة أمام العلماء برتوة أي بخطوة ، قال فى القاموس والرتوة الخطوة وشرف من الأرض ، وسويعة من الزمان ، والدعوة ، والفطرة ، ورمية بسهم أو نحو ميل أو مدى البصر . والراتي العالم الربانى . انتهى وقال فى النهاية أنه يتقدم العلماء برتوة أي برمية سهم . وقيل : بميل ، وقيل : مد البصر . وهذه الثلاثة أشبه بمعنى الحديث. مات معاذ سنة ثمانى عشرة بالشام فى طاعون عمواس . وقد استخلفه على أهل مكة يوم الفتح يعلمهم دينهم. قوله : (كنت رديف النبى ) فيه جواز الإرداف على الدابة ، وفضيلة معاذ رضى الله عنه . قوله : (على حمار) فى رواية اسمه عفير ، قلت : أهداه إليه المقوقس صاحب مصر . وفيه : تواضعه لركوب الحمار والإرادف عليه ، خلافًا لما عليه أهل الكبر . قوله : (أتدرى ما حق الله على العباد) أخرج السؤال بصيغة الاستفهام ليكون أوقع في النفس وأبلغ في فهم المتعلم وحق الله على العباد وهو ما يستحقه عليهم وحق العباد على الله معناه أنه متحقق لا محالة ، لأنه وعدهم ذلك جزاء لهم على توحيده '30 : 6' "وعد الله لا يخلف الله وعده" . قال شيخ الإسلام : كون المطيع يستحق الجزاء هو استحقاق إنعام وفضل ، ليس هو استحقاق مقابلة ، كما يستحق المخلوق على المخلوق ، فمن الناس من يقول : لا معنى للاستحقاق ، إلا أنه أخبر بذلك ووعده صدق ، ولكن أكثر الناس يثبتون استحقاقًا زائدًا على هذا ، كما دل عليه الكتاب والسنة قال تعالى '30 : 47' "وكان حقًا علينا نصر المؤمنين" لكن أهل السنة يقولون : هو الذي كتب على نفسه الرحمة وأوجب على نفسه الحق ، ولم يوجبه عليه مخلوق ، والمعتزلة يدعون أنه واجب عليه بالقياس على المخلوق وأن العباد هم الذين أطاعوه بدون أن يجعلهم مطيعين له ، وأنهم يستحقون الجزاء بدون أن يكون هو الموجب ، وغلطوا في ذلك ، وهذا الباب غلطت فيه الجبرية والقدرية أتباع جهم والقدرية النافية . قوله (قلت الله ورسوله أعلم) فيه حسن الأدب من المتعلم ، وأنه ينبغي لمن سئل عما لا يعلم أن يقول ذلك ، بخلاف أكثر المتكلفين . قوله : (أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئًا) أي يوحدوه بالعبادة . ولقد أحسن العلامة ابن القيم رحمه الله حيث عرف العبادة بتعريف جامع فقال : وعبادة الرحمن غاية حبه مع ذل عابده هما قطبان ومداره بالأمر - أمر رسوله- لا بالهوى والنفس والشيطان قوله : (ولا يشركوا به شيئًا) أى يوحدوه بالعبادة ، فلابد من التجرد من الشرك فى العبادة ، ومن لم يتجرد من الشرك لم يكن آتيًا بعبادة الله وحده ، بل هو مشرك قد جعل لله ندًا . وهذا معنى قول المصنف رحمه الله : (وفيه أن العبادة هى التوحيد ، لأن الخصومة فيه ، وفى بعض الآثار الإلهية : إنى والجن والانس فى نبأ عظيم ، أخلق ويعبد غيرى ، وأرزق ويشكر سواى ، خيري إنى العباد نازل ، وشرهم إلى صاعد ، أتحبب إليهم بالنعم ، ويتبغضون إلى بالمعاصى) . قوله : (وحق العباد على الله ألا يعذب من لا يشرك به شيئًا) قال الحافظ : اقتصر على نفي الإشراك لأنه يستدعي التوحيد بالاقتضاء ، ويستدعى إثبات الرسالة باللزوم ، إذ من كذب رسول الله فقد كذب الله ، ومن كذب الله فهو مشرك وهو مثل قول القائل : ومن توضأ صحت صلاته ، أى مع سائر الشروط . ا هـ . قوله : (أفلا أبشر الناس) فيه استحباب بشارة المسلم بما يسره ، وفيه ما كان عليه الصحابة من الاستبشار بمثل هذا . قال المصنف رحمه الله . قوله (لا تبشرهم فيتكلوا) أى يعتمدوا على ذلك فيتركوا التنافس فى الأعمال . وفى رواية : فأخبر بها معاذ عند موته تأثمًا أى تحرجًا من الإثم . قال الوزير أبو المظفر : لم يكن يكتمها إلا عن جاهل يحمله جهله على سوء الأدب بترك الخدمة فى الطاعة ، فأما الأكياس الذين إذا سمعوا بمثل هذا زادوا فى الطاعة ، ورأوا أن زيادة النعم تستدعى زيادة الطاعة ، فلا وجه لكتمانها عنهم. وفى الباب من الفوائد غير ما تقدم ، الحث على إخلاص العبادة لله وأنها لا تنفع مع الشرك ، بل لا تسمى عبادة . والتنبيه على عظمة حق الوالدين . وتحريم عقوقهما . والتنبيه على عظمة الآيات المحكمات فى سورة الأنعام . وجواز كتمان العلم للمصلحة . قوله : (أخرجاه) أى البخارى ومسلم. و البخارى رحمه الله هو الإمام محمد ابن إسماعيل بن إبراهيم بن بردزبه الجعفي مولاهم، الحافظ الكبير صاحب الصحيح والتاريخ والأدب المفرد وغير ذلك من مصنفاته . روى عن الإمام أحمد بن حنبل والحميدى وابن المدينى وطبقتهم . وروى عنه مسلم والنسائي والترمذي والفربرى رواى الصحيح . ولد سنة أربع وتسعين ومائة ومات سنة ست وخمسين ومائتين . و مسلم رحمه الله هو ابن حجاج بن مسلم أبو الحسين القشيرى النيسابورى صاحب الصحيح والعلل والوجدان وغير ذلك روى عن أحمد بن حنبل ويحيى بن معين وأبى خيثمة وابن أبى شيبة وطبقتهم . وروى عن البخاري . وروى عنهالترمذي وإبراهيم بن محمد بن سفيان راوى الصحيح وغيرهما . ولد سنة أربع ومائتين . ومات سنة إحدى وستين ومائتين بنيسابور رحمهما الله .

فضل التوحيد قوله : (باب بيان فضل التوحيد وما يكفر من الذنوب) باب خبر مبتدأ محذوف تقديره هذا (قلت) ويجوز أن يكون مبتدأ خبره محذوف تقديره هذا . و ما يجوز أن تكون موصولة والعائد محذوف ، أي وبيان الذي يكفره من الذنوب ، ويجوز أن تكون مصدرية ، أي وتكفيره الذنوب ، وهذا الثانى أظهر . قوله : وقول الله تعالى : '6 : 82' "الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الأمن وهم مهتدون" قال ابن جرير : حدثنى المثنى - وساق بسنده - عن الربيع ابن أنس قال : الإيمان الإخلاص لله وحده ) . وقال ابن كثير فى الآية : أى هؤلاء الذين أخلصوا العبادة لله وحده ولم يشركوا به شيئًا هم الآمنون يوم القيامة ، المهتدون فى الدنيا والاخرة . وقال زيد بن أسلم وابن إسحاق : هذا من الله على فصل القضاء بين إبراهيم وقومه . وعن ابن مسعود : (لما نزلت هذه الآية قالوا : فأينا لم يظلم نفسه ؟ فقال رسول الله : ليس بذلكم ، ألم تسمعوا إلى قول لقمان : "إن الشرك لظلم عظيم" ) . وساقه البخارى بسنده فقال "حدثنا عمر بن حفص بن غياث حدثنا أبي حدثنا الأعمش حدثنى إبراهيم عن علقمة عن عبد الله رضي الله عنه قال : لما نزلت : "الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم" قلنا : يا رسول الله ، أينا لا يظلم نفسه ؟ قال : ليس كما تقولون ، لم يلبسوا إيمانهم بظلم ، بشرك . أو لم تسمعوا إلى قول لقمان لابنه : " يا بني لا تشرك بالله إن الشرك لظلم عظيم " " . ولأحمد بنحوه عن "عبد الله قال : ( لما نزلت "الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم" شق ذلك على أصحاب رسول الله فقالوا يا رسول الله : فأينا لا يظلم نفسه ؟ قال : إنه ليس الذى تعنون . ألم تسمعوا ما قال العبد الصالح : " يا بني لا تشرك بالله إن الشرك لظلم عظيم " إنما هو الشرك) " . وعن عمر أنه فسره بالذنب . فيكون المعنى : الأمن من كل عذاب . وقال الحسن والكلبي : أولئك لهم الأمن ، فى الآخرة ، وهم مهتدون فى الدنيا . قال شيخ الإسلام : والذى شق عليهم أنهم ظنوا أن الظالم المشروط عدمه هو ظلم العبد نفسه ، وأنه لا أمن ولا اهتداء إلا لمن لم يظلم نفسه ، فبين لهم النبى ما دلهم على أن الشرك ظلم فى كتاب الله ، فلا يحصل الأمن وإلاهتداء إلا لمن يلبس إيمانه بهذا الظلم ، فإن من لم يلبس إيمانه بهذا الظلم كان من أهل الأمن والاهتداء ، كما كان من أهل الاصطفاء فى قوله : '35 : 32' "ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات بإذن الله ذلك هو الفضل الكبير" وهذا لا ينفى أن يؤاخذ أحدهم بظلمه لنفسه بذنب إذا لم يتب كما قال تعالى : '99 : 7 ، 8' " فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره * ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره " وقد " سأل أبو بكر الصديق رضى الله عنه النبى فقال : يا رسول الله ، أينا لم يعمل سوءًا ؟ فقال : يا أبا بكر ألست تنصب ؟ ألست تحزن ؟ أليس يصيبك اللأواء ؟ فذلك ما تجزون به" فبين أن المؤمن إذا مات دخل الجنة قد يجزى بسيئاته فى الدنيا بالمصائب . فمن سلم من أجناس الظلم الثلاثة : الشرك ، وظلم العباد . وظلمه لنفسه بما دون الشرك . كان له الأمن التام والاهتداء التام . ومن لم يسلم من ظلمه لنفسه كان له الأمن والاهتداء المطلق . بمعنى أنه لابد أن يدخل الجنة كما وعد بذلك فى الآية الأخرى : وقد هداه الله إلى الصراط المستقيم الذى تكون عاقبته فيه إلى الجنة . ويحصل له من نقص الأمن والاهتداء بحسب ما نقص من إيمانه بظلمه لنفسه وليس مراد النبى بقوله إنما هو الشرك أن من لم يشرك الشرك الأكبر يكون له الأمن التام والاهتداء التام . فإن أحاديثه الكثيرة مع نصوص القرآن تبين أن أهل الكبائر معرضون للخوف ، لم يحصل لهم الأمن التام والاهتداء التام اللذين يكونون بهما مهتدين إلى الصراط المستقيم ، صراط الذين أنعم الله عليهم ، من غير عذاب يحصل لهم . بل معهم أصل الاهتداء إلى هذا الصراط ، ومعهم أصل نعمة الله عليهم ولابد لهم من دخول الجنة . وقوله إنما هو الشرك إن أراد الأكبر ، فمقصوده أن من لم يكن من أهله فهو آمن مما وعد به المشركون من عذاب الدنيا والآخرة . وإن كان مراده جنس الشرك . يقال ظلم العبد نفسه، كبخله لحب المال ببعض الواجب - هو شرك أصغر . وحبه ما يبغضه الله تعالى حتى يقدم هواه على محبة الله الشرك أصغر ونحو ذلك . فهذا فاته من الأمن والاهتداء بحسبه . ولهذا كان السلف يدخلون الذنوب فى هذا الشرك بهذا الاعتبار ملخصًا . وقال ابن القيم رحمه الله : قوله : "الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الأمن وهم مهتدون" قال الصحابة : وأينا يا رسول الله لم يلبس إيمانه بظلم ؟ قال : ذلك الشرك . ألم تسمعوا قول العبد الصالح "إن الشرك لظلم عظيم" لما أشكل عليهم المراد بالظلم فظنوا أن ظلم النفس داخل فيه . وأن من ظلم نفسه أى ظلم كان لم يكن آمنًا ولا مهتديًا . أجابهم صلوات الله وسلامه عليه بأن الظلم الرافع للأمن والهداية على الإطلاق هو الشرك . وهذا والله هو الجواب ، الذى يشفي العليل ويروي الغليل. فإن الظلم المطلق التام هو الشرك . الذى هو وضع العبادة فى غير موضعها . والأمن والهدى المطلق : هما الأمن فى الدنيا والآخرة. والهدى إلى الصراط المستقيم . فالظلم المطلق التام رافع للأمن والاهتداء المطلق التام . ولا يمنع أن يكون الظلم مانعًا من مطلق الأمن ومطلق الهدى . فتأمله . فالمطلق للمطلق ، والحصة للحصة ا هـ ملخصًا .

حديث عبادة من شهد أن لا إله إلا الله إلخ وقوله ("عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال : قال رسول الله  : من شهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأن محمدًا عبده ورسوله ، وأن عيسى عبد الله ورسوله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه . والجنة حق ، أدخله الله الجنة على ما كان من العمل " . أخرجاه) . عبادة بن الصامت بن قيس الأنصارى الخزرجى ، أبو الوليد ، أحد النقباء بدرى مشهور مات بالرملة سنة أربع وثلاثين وله اثنتان وسبعون سنة ، وقيل : عاش إلى خلافة معاوية رضى الله عنه . قوله (من شهد أن لا إله إلا الله) أى من تكلم بها عارفًا لمعناها ، عاملًا بمقتضاها ، باطنًا وظاهرًا ، فلابد فى الشهادتين من العلم واليقين والعمل بمدلولها ، كما قال الله تعالى : '7 4 : 19'"فاعلم أنه لا إله إلا الله" وقوله '43 : 86' "إلا من شهد بالحق وهم يعلمون" أما النطق بها من غير معرفة لمعناها ولا يقين ولا عمل بما تقتضيه : من البراءة من الشرك ، وإخلاص القول والعمل : قول القلب واللسان وعمل القلب والجوارح - فغير نافع بالإجماع . قال القرطبى فى المفهم على صحيح مسلم : باب لا يكفى مجرد التلفظ بالشهادتين بل لابد من استيقان القلب - هذه الترجمة تنبيه على فساد مذهب غلاة المرجئة ، القائلين بأن التلفظ بالشهادتين كاف فى الإيمان . وأحاديث هذا الباب تدل على فساده . بل هو مذهب معلوم الفساد من الشريعة لمن وقف عليها . ولأنه يلزم منه تسويغ النفاق ، والحكم للمنافق بالإيمان الصحيح . وهو باطل قطعًا ا هـ . وفى هذا الحديث ما يدل على هذا . وهو قوله : من شهد فإن الشهادة لا تصح إلا إذا كانت عن علم ويقين وإخلاص وصدق . قال النووي : هذا حديث عظيم جليل الموقع ، وهو أجمع - أو من أجمع - الأحاديث المشتملة على العقائد . فإنه جمع فيه ما يخرج من ملل الكفر على اختلاف عقائدههم وتباعدها . فاقتصر فى هذه الأحرف على ما يباين جميعهم ا هـ .

معنى لا إله إلا الله ومعنى لا إله إلا الله لا معبود بحق إلا الله . وهو فى غير موضع من القرآن ، ويأتيك فى قول البقاعى صريحا قوله (وحده) تأكيد للإثبات (لا شريك له) تأكيد للنفى . قال الحافظ : كما قال تعالى : '2 : 163'"وإلهكم إله واحد لا إله إلا هو الرحمن الرحيم" وقال : '21 : 25' " وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون " وقال : '7 : 65' "وإلى عاد أخاهم هودًا قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره" فأجابوه ردًا عليه بقولهم : " أجئتنا لنعبد الله وحده ونذر ما كان يعبد آباؤنا " وقال تعالى : '22 : 62' " ذلك بأن الله هو الحق وأن ما يدعون من دونه هو الباطل وأن الله هو العلي الكبير " . فتضمن ذلك نفى الإلهية عما سوى الله ، وهي العبادة . وإثباتها لله وحده لا شريك له ، والقرآن من أوله إلى آخره يبين هذا ويقرره ويرشد إليه . فالعبادة بجميع أنواعها إنما تصدر عن تأله القلب بالحب والخضوع والتذلل رغبًا ورهبًا ، وهذا كله لا يستحقه إلا الله تعالى ، كما تقدم فى أدلة هذا الباب وما قبله . فمن صرف من ذلك شيئًا لغير الله فقد جعله لله ندًا ، فلا ينفعه مع ذلك قول ولا عمل . (ذكر كلام العلماء ، فى معنى لا إله إلا الله) قد تقدم كلام ابن عباس ، وقال الوزير أبو المظفر فى الإفصاح : قوله : شهادة أن لا إله إلا الله يقتضى أن يكون الشاهد عالمًا بأنه لا إله إلا الله ، كما قال تعالى : "فاعلم أنه لا إله إلا الله" قال: واسم (الله) بعد (إلا) من حيث أنه الواجب له الإلهية ، فلا يستحقها غيره سبحانه . قال : وجملة الفائدة فى ذلك : أن تعلم أن هذه الكلمة مشتملة على الكفر بالطاغوت والإيمان بالله ، فإنك لما نفيت الإلهية وأثبت الإيجاب لله سبحانه كنت ممن كفر بالطاغوت وآمن بالله . وقال ابن القيم فى البدائع ردًا لقول من قال : إن المستثنى مخرج من المستثنى منه . قال ابن القيم : بل هو مخرج من المستثنى منه وحكمه ، فلا يكون داخلًا فى المستثنى ، إذ لو كان كذلك لم يدخل الرجل فى الإسلام بقوله : لا إله إلا الله لأنه لم يثبت الإلهية لله تعالى . وهذه أعظم كلمة تضمنت بالوضع نفى الإلهية عما سوى الله وإثباتها له بوصف الاختصاص . فدلالتها على إثبات إلهيته أعظم من دلالة قولنا : (الله إله) ولا يستريب أحد فى هذا البتة . انتهى بمعناه . وقال أبو عبد الله القرطبي فى تفسيره (لا إله إلا الله) أى لا معبود إلا هو . وقال الزمخشرى : الإله من أسماء الأجناس . كالرجل والفرس ، يقع على كل معبود بحق أو باطل ، ثم غلب على المعبود بحق . وقال شيخ الإسلام : الإله هو المعبود المطاع ، فإن الإله هو المألوه ، والمألوه هو الذى يستحق أن يعبد . وكونه يستحق أن يعبد هو بما اتصف به من الصفات التى تستلزم أن يكون هو المحبوب غاية الحب ، المخضوع له غاية الخضوع ، قال : فإن الإله هو المحبوب المعبود الذى تألهه القلوب بحبها ، وتخضع له وتذل له ، وتخافه وترجوه ، وتنيب إليه فى شدائدها ، وتدعوه فى مهماتها ، وتتوكل عليه فى مصالحها ، وتلجأ إليه وتطمئن بذكره ، وتسكن إلى حبه ، وليس ذلك إلا لله وحده ، ولهذا كانت (لا إله إلا الله) أصدق الكلام ، وكان أهلها أهل الله وحزبه ، والمنكرون لها أعداءه وأهل غضبه ونقمته ، فإذا صحت صح بها كل مسألة وحال وذوق ، وإذا لم يصححها العبد فالفساد لازم له فى علومه وأعماله . وقال ابن القيم : (الإله) هو الذى تألهه القلوب محبة وإجلالًا وإنابة ، وإكرامًا وتعظيمًا وذلًا وخضوعًا وخوفًا ورجاء وتوكلًا . وقال ابن رجب : (الإله) هو الذى يطاع فلا يعصى ، هيبة له وإجلالًا ، ومحبة وخوفًا ورجاء ، وتوكلًا عليه ، وسؤالًا منه ودعاء له ، ولا يصلح هذا كله إلا الله عز وجل ، فمن أشرك مخلوقًا فى شئ من هذه الأمور التي هي من خصائص الإلهية كان ذلك قدحًا في إخلاصه فى قول (لا إله إلا الله) وكان فيه من عبودية المخلوق بحسب مافيه من ذلك . وقال البقاعي : لا إله إلا الله ، أى انتفاء عظيمًا أن يكون معبود بحق غير الملك الأعظم ، فإن هذا العلم هو أعظم الذكرى المنجية من أهوال الساعة ، وإنما يكون علمًا إذا كان نافعًا ، وإنما يكون نافعًا إذا كان مع الإذعان والعمل بما تقتضيه ، وإلا فهو جهل صرف . وقال الطيبي : (الإله) فعال بمعنى مفعول ، كالكتاب بمعنى المكتوب ، من أله إلهة أى عبد عبادة . قال الشارح : وهذا كثير فى كلام العلماء وإجماع منهم . فدلت (لا إله إلا الله) على نفي الإلهية عن كل ما سوى الله تعالى كائنًا ما كان ، وإثبات الإلهية لله وحده دون كل ما سواه ، و هذا هو التوحيد الذى دعت إليه الرسل ودل عليه القرآن من أوله إلى آخره ، كما قال تعالى عن الجن : '72 : 1' " قل أوحي إلي أنه استمع نفر من الجن فقالوا إنا سمعنا قرآنا عجبا * يهدي إلى الرشد فآمنا به ولن نشرك بربنا أحدا " فلا إله إلا الله لا تنفع إلا من عرف مدلولها نفيًا وإثباتًا ، واعتقد ذلك وقبله وعمل به . وأما من قالها من غير علم واعتقاد وعمل ، فقد تقدم فى كلام العلماء أن هذا جهل صرف ، فهى حجة عليه بلا ريب . فقوله فى الحديث وحده لا شريك له تأكيد وبيان لمضمون معناها . وقد أوضح الله ذلك وبينه فى قصص الأنبياء والمرسلين في كتابه المبين ، فما أجهل عباد القبور بحالهم ! وما أعظم ما وقعوا فيه من الشرك المنافى لكلمة الاخلاص لا إله إلا الله ! فإن مشركي العرب ونحوهم جحدوا لا إله إلا الله لفظًا ومعنى . وهؤلاء المشركون أقروا بها لفظًا وجحدوها معنى ، فتجد أحدهم يقولها وهو يأله غير الله بأنواع العبادة ، كالحب والتعظيم ، والخوف والرجاء والتوكل والدعاء ، وغير ذلك من أنواع العبادة . بل زاد شركهم على شرك العرب بمراتب ، فإن أحدهم إذا وقع فى شدة أخلص الدعاء لغير الله تعالى ، ويعتقدون أنه أسرع فرجًا من الله ، بخلاف حال المشركين الأولين ، فإنهم يشركون في الرخاء ، وأما في الشدائد فإنما يخلصون لله وحده ، كما قال تعالى '29 : 65' " فإذا ركبوا في الفلك دعوا الله مخلصين له الدين فلما نجاهم إلى البر إذا هم يشركون " الآية . فبهذا يتبين أن مشركي أهل هذه الأزمان أجهل بالله وبتوحيده من مشركي العرب ومن قبلهم .

معنى محمد رسول الله وقوله : (وأن محمدًا عبده ورسوله) أي وشهد بذلك ، وهو معطوف على ما قبله على نية تكرار العامل ، ومعنى العبد هنا المملوك العابد ، أي أنه مملوك لله تعالى . والعبودية الخاصة وصفه ، كما قال تعالى : '39 : 26' "أليس الله بكاف عبده" فأعلى مراتب العبد العبودية الخاصة والرسالة فالنبى أكمل الخلق فى هاتين الصفتين الشريفتين . وأما الربوبية والإلهية فهما حق الله تعالى ، لا يشركه فى شئ منهما ملك مقرب ولا نبى مرسل . وقوله : عبده ورسوله أتى بهاتين الصفتين وجمعهما دفعًا للإفراط والتفريط ، فإن كثيرًا ممن يدعى أنه من أمته أفرط بالغلو قولًا وعملًا ، وفرط بترك متابعته ، واعتمد على الآراء المخالفة لما جاء به ، وتعسف فى تأويل أخباره وأحكامه ، بصرفها عن مدلولها والصدوف عن الانقياد لها مع إطراحها فإن شهادة أن محمدًا رسول الله تقتضى الإيمان به وتصديقه فيما أخبر ، وطاعته فيما أمر ، والانتهاء عما عنه نهى وزجر ، وأن يعظم أمره ونهيه ، ولا يقدم عليه قول أحد كائنًا من كان . والواقع اليوم وقبله - ممن يتنسب إلى العلم من القضاة والمفتين - خلاف ذلك ، والله المستعان . وروى الدارمى فى مسنده عن "عبد الله بن سلام رضى الله عنه أنه كان يقول : إنا لنجد صفة رسول الله  : إنا أرسلناك شاهدًا ومبشرًا ونذيرًا وحرزًا للأميين ، أنت عبدي ورسولي ، سميته المتوكل ، ليس بفظ ولا غليظ ، ولا صخاب بالأسواق ، ولا يجزى بالسيئة مثلها ، ولكن يعفو ويتجاوز ، ولن أقبضه حتى يقيم الملة المتعوجة بأن يشهد أن لا إله إلا الله ، يفتح به أعينًا عميًا وآذانًا صمًا وقلوبًا غلفًا " قال عطاء بن يسار : وأخبرنى أبو واقد الليثى أنه سمع كعبًا يقول مثل ما قال ابن سلام .

معنى أن عيسى عبد الله ورسوله وكلمته قوله : (وأن عيسى عبد الله ورسوله) أى خلافًا لما يعتقده النصارى أنه الله أو ابن الله ، أو ثالث ثلاثة . تعالى الله عما يقولون علوًا كبيرًا '23 : 91'"ما اتخذ الله من ولد وما كان معه من إله" فلا بد أن يشهد أن عيسى عبد الله ورسوله على علم ويقين بأنه مملوك لله ، خلقه من أنثى بلا ذكر ، كما قال تعالى : '3 : 59'"إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون" فليس ربًا ولا إلهًا . سبحان الله عما يشركون . قال تعالى '19 : 29 - 36'" فأشارت إليه قالوا كيف نكلم من كان في المهد صبيا * قال إني عبد الله آتاني الكتاب وجعلني نبيا * وجعلني مباركا أين ما كنت وأوصاني بالصلاة والزكاة ما دمت حيا * وبرا بوالدتي ولم يجعلني جبارا شقيا * والسلام علي يوم ولدت ويوم أموت ويوم أبعث حيا * ذلك عيسى ابن مريم قول الحق الذي فيه يمترون * ما كان لله أن يتخذ من ولد سبحانه إذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون * وإن الله ربي وربكم فاعبدوه هذا صراط مستقيم " وقال : '4 : 172'"لن يستنكف المسيح أن يكون عبدًا لله ولا الملائكة المقربون ومن يستنكف عن عبادته ويستكبر فسيحشرهم إليه جميعًا " ويشهد المؤمن أيضًا ببطلان قول أعدائه اليهود : أنه ولد بغى ، لعنهم الله تعالى . فلا يصح إسلام أحد علم ما كانوا يقولونه حتى يبرأ من قول الطائفتين جميعًا في عيسى عليه السلام ، ويعتقد ما قاله الله تعالى فيه : أنه عبد الله ورسوله . قوله : (وكلمته) إنما سمى عيسى عليه السلام كلمة لوجوده بقوله تعالى : كن كما قاله السلف من المفسرين . قال الإمام أحمد فى الرد على الجهمية بالكلمة التى ألقاها إلى مريم حين قال له كن فكان عيسى بكن وليس عيسى هو كن ولكن بكن كان . فكن من الله تعالى قول ، وليس كن مخلوقًا ، وكذب النصارى والجهمية على الله فى أمر عيسى انتهى . قوله : (ألقاها إلى مريم) قال ابن كثير : خلقه بالكلمة التى أرسل بها جبريل إلى مريم فنفخ فيها من روحه بأمر ربه عز وجل : فكان عيسى بإذن الله عز وجل ، فهو ناشىء عن الكلمة التي قال له كن فكان والروح التى أرسل بها : هو جبريل عليه السلام . وقوله : (وروح منه) قال أبى بن كعب : عيسى روح من الأرواح التى خلقها الله تعالى واستنطقها بقوله : '7 : 271' "ألست بربكم قالوا بلى" بعثه الله إلى مريم فدخل فيها رواه عبد بن حميد وعبد الله بن أحمد فى زوائد المسند ، وابن جرير وابن أبى حاتم وغيرهم . قال الحافظ : ووصفه بأنه منه ، فالمعنى أنه كائن منه ، كما فى قوله تعالى'45 : 12'" وسخر لكم ما في السماوات وما في الأرض جميعا منه " فالمعنى أنه كائن منه ، كما أن معنى الأية الأخرى أنه سخر هذه الأشياء كائنة منه أي أنه مكون ذلك وموجده بقدرته وحكمته . قال شيخ الإسلام : المضاف إلى الله تعالى إذا كان معنى لا يقوم بنفسه ولا بغيره من المخلوقات وجب أن يكون صفة لله تعالى قائمة به ، وامتنع أن تكون إضافته إضافة مخلوق مربوب . وإذا كان المضاف عينًا قائمة بنفسها كعيسى وجبريل عليهما السلام وأرواح بني آدم امتنع أن تكون صفة لله تعالى ، لأن ما قام بنفسه لا يكون صفة لغيره . لكن الأعيان المضافة إلى الله تعالى على وجهين : أحدهما : أن تضاف إليه لكونه خلقها وأبدعها ، فهذا شامل لجميع المخلوقات ، كقولهم : سماء الله ، وأرض الله . فجميع المخلوقين عبيد الله ، وجميع المال مال الله . الوجه الثانى : أن يضاف إليه لما خصه به من معنى يحبه ويأمر به ويرضاه ، كما خص البيت العتيق بعبادة فيه لا تكون فى غيره. وكما يقال فى مال الخمس والفىء : هو مال الله ورسوله . ومن هذا الوجه : فعباد الله هم الذين عبدوه وأطاعوا أمره . فهذه إضافة تتضمن ألوهيته وشرعه ودينه ، وتلك إضافة تتضمن ربوبيته وخلقه . ا . هـ ملخصًا . قوله : (والجنة حق والنار حق) أى وشهد أن الجنة التى أخبر بها الله تعالى فى كتابه أنه أعدها للمتقين حق ، أى ثابتة لا شك فيها ، وشهد أن النار التى أخبر بها تعالى فى كتابه أنه أعدها للكافرين حق كذلك ثابتة ، كما قال تعالى : '57 :1' " سابقوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها كعرض السماء والأرض أعدت للذين آمنوا بالله ورسله ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم " وقال تعالى : '2 : 24'" فاتقوا النار التي وقودها الناس والحجارة أعدت للكافرين " وفى الآيتين ونظائرهما دليل على أن الجنة والنار مخلوقتان الآن ، خلافا للمبتدعة . وفيهما الإيمان بالمعاد . وقوله : (أدخله الله الجنة على ما كان من العمل) هذه الجملة جواب الشرط وفى رواية : أدخله الله من أى أبواب الجنة الثمانية شاء . قال الحافظ : معنى قوله : على ما كان من العمل أى من صلاح أو فساد ، لأن أهل التوحيد لابد لهم من دخول الجنة ، ويحتمل أن يكون معنى قوله : على ما كان من العمل أن يدخله الجنه على حسب أعمال كل منهم فى الدرجات . قال القاضى عياض : ما ورد فى حديث عبادة يكون مخصوصًا لمن قال ما ذكره وقرن بالشهادتين حقيقة الإيمان والتوحيد الذي ورد في حديثه فيكون له من الأجر ما يرجح على سيئاته ويوجب له المغفرة والرحمة ودخول الجنة لأول وهلة .

حديث عتبان بن مالك : أن الله حرم على النار (قال : ولهما في حديث عتبان فإن الله حرم على النار من قال لا إله إلا الله يبتغي بذلك وجه الله) . قوله : (ولهما) أي البخاري ومسلم في صحيحيهما بكماله . وهذا طرف من حديث طويل أخرجه الشيخان . وعتبان بكسر المهملة بعدها مثناة فوقية ثم موحدة ، ابن مالك بن عمرو بن العجلان الأنصاري ، من بنى سالم بن عوف ، صحابي مشهور ، مات فى خلافة معاوية . وأخرج البخاري فى صحيحه بسنده "عن قتادة قال : حدثنا أنس بن مالك أن النبي ومعاذ رديفه على الرحل قال : يا معاذ ، قال : لبيك يا رسول الله وسعديك . قال : يا معاذ ، قال لبيك يا رسول الله وسعديك . قال : يا معاذ ، قال : لبيك يا رسول الله وسعديك - ثلاثًا - قال : ما من أحد يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله صدقًا من قلبه إلا حرمه الله تعالى على النار ، قال : يا رسول الله أفلا أخبر به الناس فيستبشروا ؟ قال : إذًا يتكلوا ، فأخبر بها معاذ عند موته تأثمًا " . وساق بسند آخر : "حدثنا معتمر قال : سمعت أبي ، قال : سمعت أنسًا قال : ذكر لي أن النبى قال لمعاذ ابن جبل : من لقى الله لا يشرك به شيئا دخل الجنة . قال : ألا أبشر الناس ؟ قال : لا ، إنى أخاف أن يتكلوا " . قلت : فتبين بهذا السياق معنى شهادة أن لا إله إلا الله ، وأنها تتضمن ترك الشرك لمن قالها بصدق ويقين وإخلاص . قال شيخ الإسلام وغيره : فى هذا الحديث ونحوه أنها فيمن قالها ومات عليها ، كما جاءت مقيدة بقوله : خالصًا من قلبه غير شاك فيها بصدق ويقين فإن حقيقة التوحيد انجذاب الروح إلى الله تعالى جملة ، فمن شهد أن لا إله إلا الله خالصًا من قلبه دخل الجنة ، لأن الإخلاص هو انجذاب القلب إلى الله تعالى بأن يتوب من الذنوب توبة نصوحًا ، فإذا مات على تلك الحال نال ذلك فإنه قد تواترت الأحاديث بأنه "يخرج من النار من قال لا إله إلا الله ، وكان فى قلبه من الخير ما يزن شعيرة ، وما يزن خردلة ، وما يزن ذرة" وتواترت بأن كثيرًا ممن يقول لا إله إلا الله يدخل النار ثم يخرج منها ، وتواترت بأن الله حرم على النار أن تأكل أثر السجود من ابن آدم ، فهؤلاء كانوا يصلون ويسجدون لله ، وتواترت بأنه يحرم على النار من قال لا إله إلا الله ، ومن شهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله ، لكن جاءت مقيدة بالقيود الثقال ، وأكثر من يقولها لا يعرف الإخلاص ، وأكثر من يقولها إنما يقولها تقليدًا أو عادة ، ولم تخالط حلاوة الإيمان بشاشة قلبه . وغالب من يفتن عند الموت وفي القبور أمثال هؤلاء ، كما فى الحديث "سمعت الناس يقولون شيئًا فقلته" وغالب أعمال هؤلاء إنما هى تقليد واقتداء بأمثالهم ، وهم من أقرب الناس من قوله تعالى : '43 : 23' "إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون" . وحينئذ فلا منافاة بين الأحاديث ، فإنه إذا قالها بإخلاص ويقين تام لم يكن فى هذه الحال مصرًا على ذنب أصلًا ، فإن كمال إخلاصه ويقينه يوجب أن يكون الله أحب إليه من كل شئ ، فإذًا لا يبقى فى قلبه إرادة لما حرم الله ، ولا كراهة لما أمر الله . وهذا هو الذي يحرم على النار وإن كانت له ذنوب قبل ذلك ، فإن هذا الإيمان وهذا الإخلاص ، وهذه التوبة وهذه المحبة وهذا اليقين ، لا تترك له ذنبًا إلا محي عنه كما يمحو الليل النهار ، فإذا قالها على وجه الكمال المانع من الشرك الأكبر والأصغر ، فهذا غير مصر على ذنب أصلًا ، فيغفر له ويحرم على النار ، وإن قالها على وجه خلص به من الشرك الأكبر دون الأصغر ، ولم يأت بعدها بما يناقض ذلك ، فهذه الحسنة لا يقاومها شئ من السيئات فيرجح بها ميزان الحسنات ، كما فى حديث البطاقة فيحرم على النار ، ولكن تنقص درجته فى الجنة بقدر ذنوبه ، وهذا بخلاف من رجحت سيئاته بحسناته ومات مصرًا على ذلك ، فإنه يستوجب النار . وإن قال لا إله إلا الله وخلص بها من الشرك الأكبر ولكنه لم يمت على ذلك ، بل أتى بعدها بسيئات رجحت على حسنة توحيده ، فإنه فى حال قولها كان مخلصًا لكنه أتى بذنوب أوهنت ذلك التوحيد والإخلاص فأضعفته ، وقويت نار الذنوب حتى أحرقت ذلك بخلاف المخلص المستيقن ، فإن حسناته لا تكون إلا راجحة على سيئاته ولا يكون مصرًا على سيئات ، فإن مات على ذلك دخل الجنة . وإنما يخاف على المخلص أن يأتى بسيئة راجحة فيضعف إيمانه فلا يقولها بإخلاص ويقين مانع من جميع السيئات ، ويخشى عليه من الشرك الأكبر والأصغر ، فإن سلم من الأكبر بقي معه من الأصغر فيضيف إلى ذلك سيئات تنضم إلى هذا الشرك فيرجح جانب السيئات فإن السيئات تضعف الإيمان واليقين ، فيضعف قول لا إله إلا الله ، فيمتنع الإخلاص بالقلب ، فيصير المتكلم بها كالهاذى أو النائم ، أو من يحسن صوته بالآية من القرآن من غير ذوق طعم وحلاوة ، فهؤلاء لم يقولوها بكمال الصدق واليقين ، بل يأتون بعدها بسيئات تنقض ذلك بل يقولونها من غير يقين وصدق ويحيون على ذلك ، ويموتون على ذلك ، ولهم سيئات كثيرة تمنعهم من دخول الجنة . فإذا كثرت الذنوب ثقل على اللسان قولها وقسا القلب عن قولها ، وكره العمل الصالح وثقل عليه سماع القرآن ، واستبشر بذكر غير الله ، واطمأن إلى الباطل ، واستحلى الرفث ، ومخالطة أهل الغفلة ، وكره مخالطة أهل الحق ، فمثل هذا إذا قالها قال بلسانه ما ليس فى قلبه ، وبفيه ما لا يصدقه عمله . قال الحسن : ليس الإيمان بالتحلي ولا بالتمني ، ولكن ما وقر فى القلوب وصدقته الأعمال . فمن قال خيرًا وعمل خيرًا قبل منه ، ومن قال خيرًا وعمل شرًا لم يقبل منه . وقال بكر بن عبد الله المزنى : ما سبقهم أبو بكر بكثرة صيام ولا صلاة ولكن بشئ وقر في قلبه . فمن قال : لا إله إلا الله ولم يقم بموجبها بل اكتسب مع ذلك ذنوبًا ، وكان صادقًا فى قولها موقنًا بها ، لكن له ذنوب أضعفت صدقه ويقينه ، وانضاف إلى ذلك الشرك الأصغر العملي ، فرجحت هذه السيئات على هذه الحسنة ، ومات مصرًا على الذنوب ، بخلاف من يقولها بيقين وصدق ، فإنه إما أن لا يكون مصرًا على سيئة أصلًا ، ويكون توحيده المتضمن لصدقه ويقينه رجح حسناته. والذين يدخلون النار ممن يقولها : إما أنهم لم يقولوها بالصدق واليقين التام المنافيين للسيئات أو لرجحانها ، أو قالوها واكتسبوا بعد ذلك سيئات رجحت على حسناتهم ، ثم ضعف لذلك صدقهم ويقينهم ، ثم لم يقولوها بعد ذلك بصدق ويقين تام ، لأن الذنوب قد أضعفت ذلك الصدق واليقين من قلوبهم ، فقولها من مثل هؤلاء لا يقوي على محو السيئات فترجح سيئاتهم على حسناتهم . انتهى ملخصًا . وقد ذكر هذا كثير من العلماء كابن القيم و ابن رجب وغيرهم . قلت : وبما قرره شيخ الاسلام تجتمع الأحاديث . قال : وفي الحديث دليل على أنه لا يكفي في الإيمان النطق من غير اعتقاد وبالعكس، وفي تحريم النار على أهل التوحيد الكامل وفيه إن العمل لا ينفع إلا إذا كان خالصًا لوجه الله تعالى على ما شرعه على لسان رسوله . (تنبيه) قال القرطبي في تذكرته : قوله في الحديث من إيمان أي من أعمال الإيمان التي هي من أعمال الجوارح ، فيكون فيه دلالة على أن الأعمال الصالحة من الإيمان ، والدليل على أنه أراد بالإيمان ما قلناه ، ولم يرد مجرد الإيمان الذي هو التوحيد ونفي الشركاء والإخلاص بقول لا إله إلا الله ما في الحديث نفسه من قوله أخرجوا - ثم بعد ذلك يقبض سبحانه قبضة فيخرج قومًا لم يعملوا خيرًا قط يريد بذلك التوحيد المجرد من الأعمال ا هـ ملخصًا من شرح سنن ابن ماجة . قال المصنف رحمه الله ("وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن رسول الله قال : قال موسى عليه السلام : يا رب علمني شيئًا أذكرك وأدعوك به ، قال : قل يا موسى لا إله إلا الله . قال : كل عبادك يقولون هذا ، قال : يا موسى لو أن السموات السبع وعامرهن غيري والأرضين السبع في كفة ، ولا إله إلا الله في كفة ، مالت بهن لا إله إلا الله رواه ابن حبان والحاكم وصححه") . أبو سعيد : اسمه سعد بن مالك بن سنان بن عبيد الأنصاري الخزرجي ، صحابي جليل وأبوه كذلك ، استصغر أبو سعيد بأحد وشهد ما بعدها ، مات بالمدينة سنة ثلاث أو أربع أو خمس وستين وقيل سنة أربع وستين . قوله (أذكرك) أي أثني عليك به (وأدعوك) أي اسألك به . قوله (قل يا موسى لا إله إلا الله) فيه أن الذاكر بها يقولها كلها ، ولا يقتصر على لفظ الجلالة ، ولا على هو كما يفعله غلاة جهال المتصوفة ، فإن ذلك بدعة وضلال . قوله : (كل عبادك يقولون هذا) ثبت بخط المصنف بالجمع ، والذى فى الأصول يقول بالإفراد مراعاة للفظة كل وهو فى المسند من حديث عبد الله بن عمر بلفظ الجمع كما ذكره المصنف على معنى كل ومعنى قوله كل عبادك يقولون هذا أي إنما أريد شيئًا تخصني به من بين عموم عبادك ، وفى رواية بعد قوله كل عبادك يقولون هذا - قل لا إله إلا الله ، قال لا إله إلا أنت يارب، إنما أريد شيئًا تخصنى به . ولما كان بالناس - بل بالعالم كله - من الضرورة إلى لا إله إلا الله ما لا نهاية له ، كانت من أكثر الأذكار وجودًا ، وأيسرها حصولًا ، وأعظمها معنى . والعوام والجهال يعدلون عنها إلى الدعوات المبتدعة التى ليست في الكتاب ولا في السنة . قوله (وعامرهن غيري) هو بالنصب عطف على السموات ، أي لو أن السموات السبع ومن فيهن من العمار غير الله تعالى ، والأرضين السبع ومن فيهن ، وضعوا فى كفة الميزان ولا إله إلا الله في الكفة الأخرى ، مالت بهن لا إله إلا الله . وروى الإمام أحمد عن "عبد الله بن عمرو عن النبى أن نوحًا عليه السلام قال لابنه عند موته : آمرك بلا إله إلا الله ، فإن السموات السبع والأرضين السبع لو وضعت في كفة ، ولا إله إلا الله فى كفة رجحت بهن لا إله إلا الله ، ولو أن السموات السبع والأرضين السبع كن حلقة مبهمة لقصمتهن لا إله إلا الله " . قوله : (في كفة) هو بكسر الكاف وتشديد الفاء ، أي كفة الميزان . قوله : (مالت بهن) أي رجحت . وذلك لما اشتملت عليه من نفي الشرك ، وتوحيد الله الذي هو أفضل الأعمال . وأساس الملة والدين ، فمن قالها بإخلاص ويقين ، وعمل بمقتضاها ولوازمها وحقوقها ، واستقام على ذلك ، فهذه الحسنة لا يوازنها شئ ، كما قال الله تعالى : '46 : 13' "إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون" . ودل الحديث على أن لا إله إلا الله أفضل الذكر . كحديث عبد الله بن عمرو مرفوعًا : خير الدعاء دعاء يوم عرفة وخير ما قلت أنا والنبيون من قبلى : لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، له الملك وله الحمد وهو على كل شئ قدير رواه أحمد والترمذي ، وعنه أيضا مرفوعًا يصاح برجل من أمتى على رؤوس الخلائق يوم القيامة فينشر له تسعة وتسعون سجلًا ، كل سجل منها مد البصر ثم يقال : أتنكر من هذا شيئا ؟ أظلمك كتبتى الحافظون فيقول : لا يارب . فيقال : أفلك عذر أو حسنة ؟ فيهاب الرجل فيقول : لا ، فيقال : بلى إن لك عندنا حسنة وإنه لا ظلم عليك اليوم ، فيخرج له بطاقة فيها : أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا عبده ورسوله . فيقول يا رب ما هذه البطاقة مع هذه السجلات ؟ فيقال : إنك لا تظلم ، فتوضع السجلات في كفة ، والبطاقة في كفة فطاشت السجلات وثقلت البطاقة رواه الترمذي وحسنه . والنسائى وابن حبان والحاكم . وقال : صحيح على شرط مسلم ، وقال الذهبي في تلخيصه : صحيح . قال ابن القيم رحمه الله : فالأعمال لا تتفاضل بصورها وعددها ، وإنما تتفاضل بتفاضل ما في القلوب ، فتكون صورة العملين واحدة وبينهما من التفاضل كما بين السماء والأرض . قال : وتأمل حديث البطاقة التى توضع فى كفة ويقابلها تسعة وتسعون سجلًا كل سجل منها مدى البصر ، فتثقل البطاقة وتطيش السجلات ، فلا يعذب . ومعلوم أن كل موحد له هذه البطاقة وكثير منهم يدخل النار بذنوبه . قوله : (رواه ابن حبان والحاكم) ابن حبان اسمه محمد بن حبان - بكسر المهملة وتشديد الموحدة - ابن أحمد بن حبان بن معاذ ، أبو حاتم التميمي البستي الحافظ صاحب التصانيف : كالصحيح ، والتاريخ ، والضعفاء ، والثقات وغير ذلك . قال الحاكم : كان من أوعية العلم في الفقه واللغة والحديث والوعظ ، ومن عقلاء الرجال . مات سنة أربع وخمسين وثلاثمائة بمدينة بست - بضم الموحدة وسكون المهملة . وأما الحاكم فاسمه محمد بن عبد الله بن محمد النيسابورى أبوعبد الله الحافظ ويعرف بابن البيع ولد سنة إحدى وعشرين وثلثمائة، وصنف التصانيف ، كالمستدرك وتاريخ نيسابور وغيرهما ، ومات سنة خمس وأربعمائة .

علو الله على عرشه

حديث : لو أتيتني بقراب الأرض خطايا قال المصنف رحمه الله (وللترمذي - وحسنه - "عن أنس : سمعت رسول الله يقول : قال الله تعالى يا بن آدم لو أتيتني بقراب الأرض خطايا ثم لقيتني لا تشرك بي شيئًا لأتيتك بقرابها مغفرة") . ذكر المصنف رحمه الله الجملة الأخيرة من الحديث ، وقد رواه الترمذي بتمامه فقال : "عن أنس قال سمعت رسول الله يقول : قال الله تبارك وتعالى : يا بن آدم إنك ما دعوتني ورجوتني غفرت لك على ما كان منك ولا أبالي ، يا بن آدم لو بلغت ذنوبك عنان السماء ثم استغفرتني غفرت لك ولا أبالى يا بن آدم ، إنك لو أتيتني - الحديث ". الترمذي : اسمه محمد بن عيسى بن سورة - بفتح المهملة - بن موسى بن الضحاك السلمي أبو عيسى ، صاحب الجامع وأحد الحفاظ ، كان ضرير البصر ، روى عن قتيبة وهناد والبخاري وخلق . مات سنة تسع وسبعين ومائتين . وأنس : هو ابن مالك بن النضر الأنصاري الخزرج] ، خادم رسول الله خدمه عشر سنين ، وقال له : اللهم أكثر ماله وولده وأدخله الجنة مات سنة اثنتين وقيل : ثلاث وتسعين ، وقد جاوز المائة . والحديث قد رواه الإمام أحمد من حديث أبي ذر بمعناه ، وهذا لفظه "ومن عمل قراب الأرض خطيئة ثم لقيني لا يشرك بي جعلت له مثلها مغفرة" ورواه مسلم ، وأخرجه الطبرانى من حديث ابن عباس عن النبى . قوله : (لو أتيتني بقراب الأرض) بضم القاف : وقيل بكسرها والضم أشهر وهو ملؤها أو ما يقارب ملئها . قوله : (ثم لقيتني لا تشرك بي شيئًا) شرط ثقيل فى الوعد بحصول المغفرة ، وهو السلامة من الشرك : كثيره وقليله ، صغيره وكبيره . ولا يسلم من ذلك إلا من سلم الله تعالى ، وذلك هو القلب السليم كما قال تعالى : '26 : 89' " يوم لا ينفع مال ولا بنون * إلا من أتى الله بقلب سليم " . قال ابن رجب : من جاء مع التوحيد بقراب الأرض خطايا لقيه الله بقرابها مغفرة -إلى أن قال - فإن كمل توحيد العبد وإخلاصه لله تعالى فيه ، وقام بشروطه بقلبه ولسانه وجوارحه ، أو بقلبه ولسانه عند الموت ، أعقب ذلك مغفرة ما قد سلف من الذنوب كلها ومنعه من دخول النار بالكلية . فمن تحقق بكلمة التوحيد قلبه أخرجت منه كل ما سوى الله : محبة وتعظيمًا ، وإجلالًا ومهابة وخشية وتوكلًا ، وحينئذ تحرق ذنوبه وخطاياه كلها ، وإن كانت مثل زبد البحر ا هـ ملخصًا . قال العلامة ابن القيم رحمه الله تعالى فى معنى الحديث : ويعفى لأهل التوحيد المحض الذي لم يشوبوه بالشرك ما لا يعفى لمن ليس كذلك . فلو لقى الموحد الذي لم يشرك بالله شيئًا ألبته ربه بقراب الأرض خطايا أتاه بقرابها مغفرة ، ولا يحصل هذا لمن نقص توحيده . فإن التوحيد الخالص الذى لا يشوبه شرك لا يبقى معه ذنب ، لأنه يتضمن من محبة الله وإجلاله وتعظيمه ، وخوفه ورجائه وحده ما يوجب غسل الذنوب ولو كانت قراب الأرض ، فالنجاسة عارضة والدافع لها قوى . ا هـ . وفى هذا الحديث : كثرة ثواب التوحيد ، وسعة كرم الله وجوده ورحمته والرد على الخوارج الذين يكفرون المسلم بالذنوب ، وعلى المعتزلة القائلين بالمنزلة بين المنزلتين ، وهي الفسوق ، ويقولون ليس بمؤمن ولا كافر ، ويخلد في النار . والصواب قول أهل السنه : أنه لا يسلب عنه اسم الإيمان ، و لا يعطاه على الإطلاق ، بل يقال هو مؤمن عاص ، أو مؤمن بإيمانه ، فاسق بكبيرته . وعلى هذا يدل الكتاب والسنة وإجماع سلف الأمة . و "عن عبد الله بن مسعود رضى الله عنه قال : لما أسرى برسول الله انتهي به إلى سدرة المنتهى ، فأعطي ثلاثًا : أعطى الصلوات الخمس ، وخواتيم سورة البقرة ، وغفر لمن لا يشرك بالله من أمته شيئًا : المقحمات " رواه مسلم . قال ابن كثير فى تفسيره : وأخرج الإمام أحمد والترمذي وابن ماجه والنسائى "عن أنس ابن مالك قال : قرأ رسول الله صلى الله عليبه وسلم هذه الآية '74 : 56' "هو أهل التقوى وأهل المغفرة" وقال : قال ربكم : أنا أهل أن أتقى فلا يجعل معي إله ، فمن اتقى أن يجعل معي إلهًا كان أهلًا أن أغفر له " . قال المصنف رحمه الله : (تأمل الخمس اللواتي فى حديث عبادة فإنك إذا جمعت بينه وبين حديث عتبان تبين لك معنى قوله : لا إله إلا الله وتبين لك خطأ المغرورين . وفيه أن الأنبياء يحتاجون للتنبيه على فضل لا إله إلا الله والتنبيه لرجحانها بجميع المخلوقات ، مع أن كثيرًا ممن يقولها يخف ميزانه . وفيه إثبات الصفات خلافًا للمعطلة . وفيه أنك إذا عرفت حديث أنس وقوله فى "حديث عتبان إن الله حرم على النار من قال لا إله إلا الله يبتغى بذلك وجه الله " تبينت لك أن ترك الشرك في قولها باللسان فقط .

من حقق التوحيد دخل الجنة قوله : (باب من حقق التوحيد دخل الجنة بغير حساب) أي ولا عذاب . (قلت) تحقيقه تخليصه وتصفيته من شوائب الشرك والبدع والمعاصى .

معنى أن إبراهيم كان أمة قال الله تعالى : '16 : 120' "إن إبراهيم كان أمة قانتًا لله حنيفًا ولم يك من المشركين" وصف إبراهيم عليه السلام بهذه الصفات التي هي الغاية فى تحقيق التوحيد . الأولى : أنه كان أمة ، أي قدوة وإمامًا معلمًا للخير . وما ذاك إلا لتكميله مقام الصبر واليقين الذين تنال بهما الإمامة فى الدين . الثانية : قوله قانتًا قال شيخ الإسلام : القنوت دوام الطاعة ، والمصلي إذا أطال قيامه أو ركوعه أو سجوده فهو قانت . قال تعالى : '39 : 9' "أمن هو قانت آناء الليل ساجدًا وقائمًا يحذر الآخرة ويرجو رحمة ربه" ا هـ . ملخصًا . الثالثة : أنه كان حنيفًا (قلت) قال العلامة ابن القيم الحنيف المقبل على الله ، المعرض عن كل ما سواه ا . هـ . الرابعة : أنه كان من المشركين ، أي لصحة إخلاصه وكمال صدقه ، وبعده عن الشرك . قلت : يوضح هذا قوله تعالى : '60 : 4' "قد كانت لكم أسوة حسنة في إبراهيم والذين معه" أي على دينه من إخوانه المرسلين ، قاله ابن جرير رحمه الله تعالى : " إذ قالوا لقومهم إنا برآء منكم ومما تعبدون من دون الله كفرنا بكم وبدا بيننا وبينكم العداوة والبغضاء أبدا حتى تؤمنوا بالله وحده إلا قول إبراهيم لأبيه لأستغفرن لك وما أملك لك من الله من شيء " وذكر تعالى عن خليله عليه السلام أنه قال لأبيه آزر : '19 : 48 ، 49' " وأعتزلكم وما تدعون من دون الله وأدعو ربي عسى أن لا أكون بدعاء ربي شقيا * فلما اعتزلهم وما يعبدون من دون الله وهبنا له إسحاق ويعقوب وكلا جعلنا نبيا " فهذا هو تحقيق التوحيد . وهو البراءة من الشرك وأهله واعتزالهم ، والكفر بهم وعداوتهم وبغضهم . فالله المستعان . قال المصنف رحمه الله في هذه الآية : "إن إبراهيم كان أمة" لئلا يستوحش سالك الطريق من قلة السالكين (قانتًا لله) لا للملوك ولا للتجار المترفين (حنيفًا) لا يميل يمينًا ولا شمالًا ، كفعل العلماء المفتونين (ولم يك من المشركين) خلافا لمن كثر سوادهم وزعم أنه من المسلمين . أ هـ . وقد روى ابن أبى حاتم عن ابن عباس فى قوله : "إن إبراهيم كان أمة" على الإسلام . ولم يك فى زمانه أحد على الإسلام غيره. قلت : ولا منافاة بين هذا وبين ما تقدم : من أنه كان إمامًا يقتدى به فى الخير . قال : (وقوله تعالى : '23 : 57 - 59' " إن الذين هم من خشية ربهم مشفقون * والذين هم بآيات ربهم يؤمنون * والذين هم بربهم لا يشركون " . وصف المؤمنين السابقين إلى الجنة فأثنى عليهم بالصفات التى أعظمها : أنهم بربهم لا يشركون . ولما كان المرء قد يعرض له ما يقدح فى إسلامه : من شرك جلي أو خفي ، نفى ذلك عنهم ، وهذا هو تحقيق التوحيد ، الذي حسنت بهم أعمالهم وكملت ونفعتهم . قلت : قوله حسنت وكملت هذا باعتبار سلامتهم من الشرك الأصغر ، وأما الشرك الأكبر فلا يقال فى تركه ذلك ، فتدبر . ولو قال الشارح : صحت لكان أقوم . قال ابن كثير : "والذين هم بربهم لا يشركون" أي لا يعبدون مع الله غيره ، بل يوحدونه ويعلمون أنه لا إله إلا الله أحد صمد ، لم يتخذ صاحبة ولا ولدًا وأنه لا نظير له .

من يدخل الجنة بغير حساب قال المصنف : ("عن حصين بن عبد الله بن عبد الرحمن قال : كنت عند سعيد بن جبير فقال : أيكم رأى الكوكب الذي انقض البارحة ؟ فقلت : أنا ، ثم قلت : أما إني لم أكن فى صلاتي ولكني لدغت ، قال : فما صنعت ؟ قلت : ارتقيت . قال : فما حملك على ذلك ؟ قلت : حديث حدثناه الشعبي ، قال : وما حدثكم ؟ قلت : حدثنا عن بريدة بن الحصيب أنه قال : لا رقية إلا من عين أو حمة . قال : قد أحسن من انتهى إلى ما سمع ، ، ولكن حدثنا ابن عباس عن النبي أنه قال : عرضت على الأمم ، فرأيت النبى ومعه الرهط ، والنبى ومعه الرجل والرجلان ، والنبى وليس معه أحد . إذ رفع لى سواد عظيم ، فظننت أنهم أمتي ، فقيل : هذا موسى وقومه ، فنظرت فإذا سواد عظيم ، فقيل لي : هذه أمتك ومعهم سبعون ألفًا يدخلون الجنة بغير حساب ولا عذاب . ثم نهض فدخل منزله ، فخاض الناس فى أولئك ، فقال بعضهم : فلعلهم اللذين صحبوا رسول الله صلى اله عليه وسلم وقال بعضهم : فلعلهم الذين ولدوا فى الإسلام ، فلم يشركوا بالله شيئًا ، وذكروا أشياء ، فخرج عليهم رسول الله فأخبروه ، فقال : هم الذين لا يسترقون ، ولا يكتوون ، ولا يتطيرون ، وعلى ربهم يتوكلون . فقام عكاشة بن محصن فقال : يا رسول الله ادع الله أن يجعلنى منهم . قال : أنت منهم ثم قام رجل آخر فقال : ادع الله أن يجعلني منهم . فقال : سبقك بها عكاشة ") . هكذا أورده المصنف غير معزو ، وقد رواه البخارى مختصرًا ومطولًا ، ومسلم ، واللفظ له ، والترمذي والنسائي . قوله : عن (حصين بن عبد الرحمن) هو السلمي ، أبو الهذيل الكوفى . ثقة ، مات سنة ست وثلاثين ومائة ، وله ثلاث وتسعون سنة . وسعيد بن جبير : هو الإمام الفقيه من جلة أصحاب ابن عباس ، روايته عن عائشة وأبى موسى مرسلة . وهو كوفى مولى لبني أسد ، قتل بين يدى الحجاج سنة خمس وتسعين ولم يكمل الخمسين . قوله : (انقض) هو بالقاف والضاد المعجمة أى سقط . والبارحة هى أقرب ليله مضت . قال أبو العباس ثعلب : يقال قبل الزوال : رأيت الليلة ، وبعد الزوال : رأيت البارحة ، وكذا قال غيره ، وهى مشتقة من برح إذا زال . قال : (أما إني لم أكن فى صلاة) قال فى مغنى اللبيب : أما بالفتح والتخفيف على وجهين : أحدهما أن تكون حرف استفتاح بمنزلة ألا فإذا وقعت أن بعدها كسرت . الثانى أن تكون بمعنى حقًا أو أحق . وقال آخرون : هى كلمتان الهمزة للاستفهام ، ما اسم بمعنى شئ ، أى أذلك الشئ حق ، فالمعنى أحق هذا ؟ وهو الصواب و ما نصب على الظرفية ، وهذه تفتح أن بعدها . انتهى . والأنسب هنا هو الوجه الأول والقائل هو حصين ، خاف أن يظن الحاضرون أنه رآه وهو يصلي ، فنفى عن نفسه إبهام العبادة ، وهذا يدل على فضل السلف وحرصهم على الإخلاص وبعدهم على الرياء والتزين بما ليس فيهم . وقوله (ولكني لدغت) بضم أوله وكسر ثانيه ، قال أهل اللغة : يقال لدغته العقرب وذوات السموم ، إذا أصابته بسمها ، وذلك بأن تأبره بشوكتها . قوله : (قلت وارتقيت) لفظ مسلم استرتقيت أي طلبت من يرقيني . قوله (فما حملك على ذلك) فيه طلب الحجة على صحة المذهب . وقوله (حديث حدثناه الشعبي) اسمه : عامر بن شراحيل الهمداني ولد في خلافة عمر ، وهو من ثقات التابعين وفقهائهم مات سنة ثلاث ومائة . قوله : (عن بريدة) بضم أوله وفتح ثانيه تصغير بردة . ابن الحصيب - بضم الحاء وفتح الصاد المهملتين - ابن الحارث الأسلمى ، صحابى شهير . مات سنة ثلاث وستين . قاله ابن سعد . قوله : (لا رقية إلا من عين أو حمة) وقد رواه أحمد وابن ماجة عنه مرفوعًا . ورواه أحمد وأبو داود والترمذى عن عمران بن حصين به مرفوعًا قال الهيثمى : رجال أحمد ثقات . والعين هى إصابة العائن غيره بعينه . والحمة - بضم المهملة وتخفيف الميم - سم العقرب وشبهها . قال الخطابى : ومعنى الحديث: لا رقية أشفى وأولى من رقية العين والحمة . وقد رقى النبى ورقي . قوله : (قد أحسن من انتهى إلى ما سمع) أى من أخذ بما بلغه من العلم وعمل به فقد أحسن بخلاف من يعمل بجهل ، أو لا يعمل بما يعلم فإنه مسىء آثم . وفيه فضيلة علم السلف وحسن أدبهم . قوله : (ولكن حدثنا ابن عباس) هو عبد الله بن عباس بن عبد المطلب ، ابن عم النبي . دعا له فقال : "اللهم فقهه فى الدين ، وعلمه التأويل " فكان كذلك . مات بالطائف سنة ثمان وستين . قال المصنف رحمه الله : (وفيه عمق علم السلف لقوله : قد أحسن من انتهى إلى ما سمع ولكن كذا وكذا . فعلم أن الحديث الأول لا يخالف الثانى) . قوله : (عرضت على الأمم) وفى الترمذي والنسائي من رواية عبثر بن القاسم عن حصين بن عبد الرحمن أن ذلك كان ليلة الإسراء قال الحافظ : فإن كان ذلك محفوظًا كان فيه قوة لمن ذهب إلى تعدد الإسراء ، وأنه وقع بالمدينة أيضًا (قلت) وفي هذا نظر . قوله : (فرأيت النبي ومعه الرهط) والذي فى صحيح مسلم الرهيط بالتصغير لا غير ، وهم الجماعة دون العشرة ، قاله النووي. قوله : (والنبى ومعه الرجل والرجلان ، والنبى وليس معه أحد) فيه الرد على من احتج بالكثرة . قوله : (إذ رفع لي سواد عظيم) المراد هنا الشخص الذى يرى من بعيد . قوله : (فظننت أنهم أمتى) لأن الأشخاص التى ترى فى الأفق لا يدرك منها إلا الصورة وفى صحيح مسلم ولكن انظر إلى الأفق ولم يذكره المصنف ، فلعله سقط فى الأصل الذى نقل الحديث منه . والله أعلم . قوله : (فقيل له : هذا موسى وقومه) أي موسى بن عمران كليم الرحمن ، وقومه : أتباعه على دينه من بنى إسرائيل . قوله : (فنظرت فإذا سواد عظيم فقيل لى هذه أمتك ومعهم سبعين ألفا يدخلون الجنة بغير حساب ولا عذاب) أي لتحقيقهم التوحيد، وفى رواية ابن فضيل ويدخل الجنة من هؤلاء من أمتك سبعون ألفًا و"فى حديث أبي هريرة فى الصحيحين أنهم تضيء وجوههم إضاءة القمر ليلة البدر " وروى الإمام أحمد والبيهقي فى "حديث أبى هريرةفاستزدت ربى فزادنى مع كل ألف سبعين ألفًا" قال الحافظ : وسنده جيد . قوله : (ثم نهض) أي قام ، قوله : (فخاض الناس فى أولئك) خاض بالخاء والضاد المعجمتين وفى هذا إباحة المناظرة والمباحثة في نصوص الشرع على وجه الاستفادة وبيان الحق ، وفيه عمق علم السلف لمعرفتهم أنهم لم ينالوا ذلك إلا بعمل ، وفيه حرصهم على الخير ، ذكره المصنف . قوله : (فقال هم الذين لا يسترقون) هكذا ثبت فى الصحيحين وهو كذلك فى حديث ابن مسعود فى مسند أحمد . وفى رواية لمسلم ولا يرقون قال شيخ الإسلام ابن تيمية : هذه الزيادة وهم من الراوي ، لم يقل النبى و لا يرقون وقد "قال النبي وقد سئل على الرقى : من استطاع منكم أن ينفع أخاه فلينفعه" . و"قال : لا بأس بالرقى ما لم تكن شركًا" قال : وأيضًا فقد "رقى جبريل النبي " و "رقى النبي أصحابه" قال والفرق بين الراقي والمسترقي : أن المسترقى سائل مستعط ملتفت إلى غير الله بقلب ، والراقى محسن . قال : وإنما المراد وصف السبعين ألفًا بتمام التوكل ، فلا يسألون غيرهم أن يرقيهم ولا يكويهم . وكذا قال ابن القيم . قوله : (ولا يكتوون) أي لا يسألون غيرهم أن يكويهم كما لا يسألون غيرهم أن يرقيهم ، استسلامًا للقضاء ، وتلذذًا بالبلاء . قلت : والظاهر أن قوله لا يكتوون أعم من أن يسألوا ذلك أو يفعل ذلك باختيارهم . أما الكي فى نفسه فجائز ، كما فى الصحيح "عن جابر بن عبد الله أن النبى بعث إلى أبى بن كعب طبيبًا فقطع له عرقًا وكواه" . وفى صحيح البخارى "عن أنس أنه كوى من ذات الجنب والنبى حى" وروى الترمذى وغيره "عن أنس أن النبى كوى أسعد بن زرارة من الشوكة" . وفي صحيح البخارى "عن ابن عباس مرفوعًا الشفاء فى ثلاث : شربة عسل ، وشرطة محجم ، وكية نار ، وأنا أنهى أمتى عن الكى وفى لفظ :وما أحب أن أكتوى" . قال ابن القيم رحمه الله : قد تضمنت أحاديث الكى أربعة أنواع (أحدها) فعله . (والثانى) عدم محبته . (والثالث) الثناء على من تركه . (والرابع) النهي عنه . ولا تعارض بينها بحمد الله ، فإن فعله يدل على جوازه ، وعدم محبته له لا يدل على المنع منه ، وأما الثناء على تاركه فيدل على أن تركه أولى وأفضل ، وأما النهي عنه فعلى سبيل الاختيار والكراهة . قوله : (ولا يتطيرون) أي لا يتشاءمون بالطيور ونحوها . وسيأتي إن شاء الله تعالى بيان الطيرة وما يتعلق بها فى بابها . قوله : (وعلى ربهم يتوكلون) ذكر الأصل الجامع الذى تنوعت عنه هذه الأفعال والخصال وهو التوكل على الله ، وصدق الالتجاء إليه ، والاعتماد بالقلب عليه ، الذي هو نهاية تحقيق التوحيد الذي يثمر كل مقام شريف : من المحبة والرجاء والخوف ، والرضا به ربًا وإلهًا ، والرضا بقضائه . واعلم أن الحديث لا يدل على أنهم لا يباشرون الأسباب أصلًا ، فإن مباشرة الأسباب فى الجملة أمر فطري ضروري ، لا انفكاك لأحد عنه ، بل نفس التوكل : مباشرة لأعظم الأسباب كما قال تعالى : '65 : 3' "ومن يتوكل على الله فهو حسبه" أي كافيه وإنما المراد أنهم يتركون الأمور المكروهة مع حاجتهم إليها ، توكلًا على الله تعالى ، كالاكتواء والاسترقاء ، فتركهم له لكونه سببًا مكروهًا ، لا سيما والمريض يتشبث -فيما يظنه سببًا لشفائه - بخيط العنكبوت . وأما مباشرة الأسباب والتداوي على وجه لا كراهة فيه ، فغير قادح فى التوكل ، فلا يكون تركه مشروعًا ، لما فى الصحيحين "عن أبي هريرة مرفوعًا ما أنزل الله من داء إلا أنزل له شفاء ، علمه من علمه ، وجهله من جهله" . "وعن أسامة بن شريك قال : كنت عند النبى وجاءت الأعراب ، فقالوا يا رسول الله أنتداوى ؟ قال : نعم . يا عباد الله تداووا ، فإن الله عز وجل لم يضع داء إلا وضع له شفاء ، غير داء واحد . قالوا : وما هو ؟ قال : الهرم" رواه أحمد . وقال ابن القيم رحمه الله تعالى : وقد تضمنت هذه الأحاديث إثبات الأسباب والمسببات ، وإبطال قول من أنكرها ، والأمر بالتداوى ، وأنه لا ينافى التوكل ، كما لا ينافيه دفع ألم الجوع والعطش ، والحر والبرد : بأضدادها بل لا تتم حقيقة التوحيد إلا بمباشرة الأسباب التى نصبها الله تعالى مقتضية لمسبباتها قدرًا وشرعًا ، وأن تعطيلها يقدح فى نفس التوكل ، كما يقدح فى الأمر والحكمة . ويضعفه من حيث يظن معطلها أن تركها أقوى فى التوكل ، فإن تركها عجز ينافى التوكل الذى حقيقته اعتماد القلب على الله تعالى في حصول ما ينفع العبد فى دينه ودنياه ، ودفع ما يضره فى دينه ودنياه . ولا بد مع هذا الاعتماد من مباشرة الأسباب ، وإلا كان معطلًا للحكمة والشرع ، فلا يجعل العبد عجزه توكلًا ولا توكله عجزًا . وقد اختلف العلماء فى التداوى هل هو مباح ، وتركه أفضل ، أو مستحب أو واجب ؟ فالمشهور عند أحمد : الأول لهذا الحديث وما في معناه ، والمشهور عند الشافعية الثاني ، حتى ذكر النووى فى شرح مسلم : أنه مذهبهم ومذهب جمهور السلف وعامة الخلف ، واختاره الوزير أبو الظفر . قال : ومذهب أبي حنيفة أنه مؤكد حتى يدانى به الوجوب . قال : ومذهب مالك أنه يستوي فعله وتركه فإنه قال : لا بأس بالتداوي ولا بأس بتركه . وقان شيخ الاسلام : ليس بواجب عند جماهير الأئمة وإنما أوجبه طائفة قليلة من أصحاب الشافعي وأحمد . فقوله : (فقام عكاشة بن محصن) هو بضم العين وتشديد الكاف ، ومحصن بكسر الميم وسكون الحاء وفتح الصاد المهملتين ابن حرثان - بضبم المهملة وسكون الراء بعدها مثلثة - الأسدي : من بني أسد بن خزيمة . كان من السابقين إلى الإسلام ومن أجمل الرجال ، هاجر وشهد بدرًا وقاتل فيها ، واستشهد فى قتال الردة مع خالد بن الوليد بيد طليحة الأسدي سنة اثنتى عشرة ، ثم أسلم طليحة بعد ذلك وجاهد الفرس يوم القادسية مع سعيد بن أبي وقاص ، واستشهد في وقعة الجسر المشهورة . قوله : (فقال يا رسول الله ادع الله أن يجعلني منهم ، فقال أنت منهم) وللبخاري فى رواية : فقال اللهم اجعله منهم وفيه : طلب الدعاء من الفاضل . قوله : (ثم قام رجل آخر) ذكر مبهمًا ولا حاجة بنا إلى البحث عن اسمه . قوله : (فقال سبقك بها عكاشة) قال القرطبي : لم يكن عند الثانى من الأحوال ما كان عند عكاشة ، فلذلك لم يجبه ، إذ لو أجابه لجاز أن يقلب ذلك كل من كان حاضرًا فيتسلسل الأمر ، فسد الباب بقوله ذلك ا هـ .

باب الخوف من الشرك قال المصنف رحمه الله تعالى : وفيه استعمال المعاريض وحسن خلقه . قوله : باب (الخوف من الشرك) وقول الله عز وجل : '4: 48 و 116' "إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء" قال ابن كثير : أخبر تعالى أنه (لا يغفر أن يشرك به) أي لا يغفر لعبد لقيه وهو مشرك (ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء) أي من الذنوب لمن يشاء من عباده . انتهى . فتبين بهذه الآية أن الشرك أعظم الذنوب ، لأن الله تعالى أخبر أنه لا يغفره لمن لم يتب منه ، وما دونه من الذنوب فهو داخل تحت المشيئة إن شاء غفره لمن لقيه به ، وإن شاء عذبه به ، وذلك يوجب للعبد شدة الخوف من الشرك الذي هذا شأنه عند الله ، لأنه أقبح القبيح وأظلم الظلم ، وتنقص لرب العالمين ، وصرف خالص حقه لغيره وعدل غيره به ، كما قال تعالى : '6 : 1' "ثم الذين كفروا بربهم يعدلون" ولأنه مناقض للمقصود بالخلق والأمر مناف له من كل وجه ، وذلك غاية المعاندة لرب العالمين ، والاستكبار عن طاعته ، والذل له ، والانقياد لأوامره الذي لا صلاح للعالم إلا بذلك ، فمتى خلا منه خرب وقامت القيامة ، كما "قال لا تقوم الساعة حتى لا يقال فى الأرض الله الله "رواه مسلم . ولأن الشرك تشبيه للمخلوق بالخالق تعالى ومشاركة فى خصائص الإلهية : من ملك الضر والنفع ، والعطاء والمنع ، الذى يوجب تعلق الدعاء والخوف والرجاء ، والتوكل وأنواع العبادة كلها بالله وحده ، فمن علق ذلك بمخلوق فقد شبهه بالخالق وجعل من لا يملك لنفسه ضرًا ولا موتًا ولا حياة ولا نشورًا ، شبيهًا بمن له الحمد كله ، وله الخلق كله ، وله الملك كله ، وإليه يرجع الأمر كله ، وبيده الخير كله ، فأزمة الأمور كلها بيده سبحانه ومرجعها إليه ، فما شاء كان وما لم يشأ لم يكن . لا مانع لما أعطى ولا معطي لما منع ، الذي إذا فتح للناس رحمة فلا ممسك لها ، وما يمسك فلا مرسل له من بعده وهو العزيز الحكيم . فأقبح التشبيه تشبيه العاجز الفقير بالذات : بالقادر الغني بالذات . ومن خصائص الإلهية : الكمال المطلق من جميع الوجوه ، الذى لا نقص فيه بوجه من الوجوه . وذلك يوجب أن تكون العبادة كلها له وحده ، والتعظيم والإجلال ، والخشية والدعاء ، والرجاء والإنابة والتوكل والتوبة والاستعانة ، وغاية الحب مع غاية الذل : كل ذلك يجب عقلًا وشرعًا وفطرة أن يكون لله وحده ، ويمتنع عقلًا وشرعًا وفطرة أن يكون لغيره . فمن فعل شيئًا من ذلك لغيره فقد شبه ذلك الغير بمن لا شبيه له ولا مثيل له ، ولا ند له ، وذلك أقبح التشبيه وأبطله. فلهذه الأمور وغيرها أخبر سبحانه وتعالى أنه لا يغفره، مع أنه كتب على نفسه الرحمة . هذا معنى كلام ابن القيم رحمه الله . وفى الاية رد على الخوارج المكفرين بالذنوب . وعلى المعتزلة القائلين بأن أصحاب الكبائر يخلدون فى النار ، وليسوا عندهم بمؤمنين ولا كفار . ولا يجوز أن يحمل قوله : "ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء" على التائب ، فإن التائب من الشرك مغفور له كما قال تعالى : '39 : 53' " قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا " فهنا عمم وأطلق ، لأن المراد به التائب ، وهناك خص وعلق ، لأن المراد به من لم يتب . هذا ملخص قول شيخ الإسلام .

واجنبني وبني أن نعبد الأصنام قوله : (وقال الخليل عليه السلام) '14 : 35' "واجنبني وبني أن نعبد الأصنام" الصنم ما كان منحوتًا على صورة ، والوثن ما كان موضوعًا على غير ذلك . ذكره الطبري عن مجاهد . قلت : وقد يسمى الصنم وثنًا كما قال الخليل عليه السلام '29 : 17' " إنما تعبدون من دون الله أوثانا وتخلقون إفكا " الآية ويقال : إن الوثن أعم ، وهو قوى ، فالأصنام أوثان ، كما أن القبور أوثان . قوله : "واجنبني وبني أن نعبد الأصنام" أي اجعلني وبني فى جانب عن عبادة الأصنام ، وباعد بيننا وبينها . وقد استجاب الله تعالى دعاءه ، وجعل بنيه أنبياء ، وجنبهم عبادة الأصنام . وقد بين ما يوجب الخوف من ذلك بقوله : "رب إنهن أضللن كثيرًا من الناس" فإنه هو الواقع فى كل زمان . فإذا عرف الإنسان أن كثيرًا وقعوا فى الشرك الأكبر وضلوا بعبادة الأصنام : أوجب ذلك خوفه من أن يقع فيما وقع فيه الكثير من الشرك الذي لا يغفره الله . قال إبراهيم التيمي : من يأمن البلاء بعد إبراهيم ؟ رواه إبن جرير وابن أبي حاتم . فلا يأمن الوقوع فى الشرك إلا من هو جاهل به وبما يخلصه منه: من العلم بالله وبما بعث به رسوله من توحيده ، والنهي عن الشرك به .

خوف النبي على أمته من الشرك قال المصنف : (وفى الحديث : "أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر ، فسئل عنه فقال : الرياء") أورد المصنف هذا الحديث مختصرًا غير معزو . وقد رواه الإمام أحمد والطبراني والبيهقي ، وهذا لفظ أحمد : حدثنا يونس حدثنا ليث عن يزيد - يعنى ابن الهاد - عن عمرو عن محمود بن لبيد أن رسول الله قال : " إن أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر . قالوا وما الشرك الأصغر يا رسول الله ؟ قال : الرياء . يقول الله تعالى يوم القيامة ، إذا جازى الناس بأعمالهم : اذهبوا إلى الذين كنتم تراءوا فى الدنيا فانظروا هل تجدون عندهم جزاء " . قال المنذري : ومحمود بن لبيد رأى النبى ولم يصح له منه سماع فيما أرى . وذكر ابن أبى حاتم أن البخارى قال : له صحبة ، ورجحه ابن عبد البر والحافظ . وقد رواه الطبرانى بأسانيد جيدة عن محمود بن لبيد عن رافع بن خديج. مات محمود سنة ست وتسعين . وقيل سنة سبع وتسعين وله تسع وتسعون سنة . قول : (إن أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر) هذا من شفقته بأمته ورحمته ورأفته بهم ، فلا خير إلا دلهم عليهم وأمرهم به ، ولا شر إلا بينه لهم وأخبرهم به ونهاهم عنه ، كما قال فيما صح عنه : " ما بعث الله من نبي إلا كان حقًا عليه أن يدل أمته على خير ما يعلمه لهم . . . " الحديث ، فإذا كان الشرك الأصغر مخوفًا على أصحاب رسول الله مع كمال علمهم وقوة إيمانهم ، فكيف لا يخافه وما فوقه من هو دونهم فى العلم والإيمان بمراتب ؟ خصوصًا إذا عرف أن أكثر علماء الأمصار اليوم لا يعرفون من التوحيد إلا ما أقر به المشركون ، وما عرفوا معنى الإلهية التى نفتها كلمة الإخلاص عن كل ما سوى الله . وأخرج أبو يعلى وابن المنذر عن حذيفة بن اليمان عن أبي بكر عن النبي قال : " الشرك أخفى من دبيب النمل . قال أبو بكر : يا رسول الله ، وهل الشرك إلا ما عبد من دون الله أو ما دعى مع الله ؟ قال : ثكلتك أمك ، الشرك فيكم أخفى من دبيب النمل" الحديث . وفيه : أن تقول أعطاني الله وفلان ، والند أن يقول الإنسان : لولا فلان قتلنى فلان ا هـ . من الدر . قال المصنف : (وعن ابن مسعود رضى الله عنه : أن رسول الله قال : "من مات وهو يدعو لله ندًا دخل النار" رواه البخارى) . قال ابن القيم رحمه الله : الند الشبيه ، يقال : فلان ند فلان ، وند يده ، أى مثله وشبيهه ا هـ . قال تعالى : '2 : 22' "فلا تجعلوا لله أندادًا وأنتم تعلمون" . قوله : (من مات وهو يدعو لله ندًا) أي يجعل لله ندًا فى العبادة يدعوه ويسأله ويستغيث به دخل النار . قال العلامة ابن القيم رحمه الله : والشرك فاحذره ، فشرك ظاهر ذا القسم يقابل الغفران وهو اتخاذ الند للرحمن أيًا كان من حجر ومن إنسان يدعوه أو يرجوه ثم يخافه ويحبه كمحبة الديان واعلم أن اتخاذ الند على قسمين : الأول : أن يجعله لله شريكًا فى أنواع العبادة أو بعضها كما تقدم ، وهو شرك أكبر . والثانى : ما كان من نوع الشرك الأصغر كقول الرجل : ما شاء الله وشئت ، ولولا الله وأنت . وكيسير الرياء ، فقد ثبت أن النبى لما قال له رجل: "ما شاء الله وشئت ، قال : أجعلتنى لله ندًا ؟ بل ما شاء الله وحده" رواه أحمد وابن أبي شيبة والبخارى في الأدب المفرد والنسائي وابن ماجه . وقد تقدم حكمه فى باب فضل التوحيد . وفيه : بيان أن دعوة غير الله فيما لا يقدر عليه إلا الله شرك جلي ، كطلب الشفاعة من الأموات ، فإنها ملك لله تعالى وبيده ، ليس بيد غيره منها شئ ، وهو الذي يأذن للشفيع أن يشفع فيمن لاقى لله بالإخلاص والتوحيد من أهل الكبائر ، كما يأتي تقريره فى باب الشفاعة إن شاء الله تعالى . قال المصنف رحمه الله تعالى : (ولمسلم عن جابر أن رسول الله قال : "من لقي الله لا يشرك به شيئًا دخل الجنة . ومن لقيه يشرك به شيئًا دخل النار" ) . جابر : هو ابن عبد الله بن عمرو بن حرام - بمهملتين - الأنصاري ثم السلمي - بفتحتين - صحابي جليل هو وأبوه ، ولأبيه مناقب مشهورة رضى الله عنهما مات بالمدينة بعد السبعين ، وقد كف بصره ، وله أربع وتسعون سنة . قوله : (من لقي الله لا يشرك به شيئًا) قال القرطبي : أى لم يتخذ معه شريكًا فى الإلهية ، ولا فى الخلق ، ولا فى العبادة ، ومن المعلوم من الشرع المجمع عليه عند أهل السنة : أن من مات على ذلك فلا بد له من دخول الجنة ، وإن جرت عليه قبل ذلك أنواع من العذاب والمحنة . وأن من مات على الشرك لا يدخل الجنة ولا يناله من الله رحمة ، ويخلد فى النار أبد الآباد ، من غير انقطاع عذاب ولا تصرم آماد . وقال النووي : أما دخول المشرك النار فهو على عمومه ، فيدخلها ويخلد فيها، ولا فرق فيه بين الكتابي اليهودي والنصراني، وبين عبدة الأوثان وسائر الكفرة ، ولا فرق عند أهل الحق بين الكافر عنادًا وغيره ، ولا بين من خالف ملة الإسلام وبين من انتسب إليها ثم حكم بكفره بجحده وغير ذلك . وأما دخول من مات غير مشرك الجنة فهو مقطوع له به . لكن إن لم يكن صاحب كبيرة مات مصرًا عليها دخل الجنة أولا ، وإن كان صاحب كبيرة مات مصرًا عليها فهو تحت المشيئة . فإن عفا الله عنه دخل الجنة أولًا ، وإلا عذب فى النار ثم أخرج من النار وأدخل الجنة . وقال غيره : اقتصر على نفي الشرك لاستدعائه التوحيد بالاقتضاء واستدعائه إثبات الرسالة باللزوم . إذ من كذب رسل الله فقد كذب الله ، ومن كذب الله فهو مشرك ، وهو كقولك : من توضأ صحت صلاته . أي مع سائر الشروط ، فالمراد : من مات حال كونه مؤمنًا بجميع ما يجب الإيمان به إجمالًا فى الإجمالي وتفصيلًا فى التفصيلي . انتهى .

باب الدعاء إلى شهادة أن لا إله إلا الله بعث معاذ إلى اليمين يدعوهم إلى قوله : (باب الدعاء إلى شهادة أن لا إله إلا الله) لما ذكر المصنف رحمه الله التوحيد وفضله ، وما يوجب الخوف من ضده ، نبه بهذه الترجمة على أنه لا ينبغى لمن عرف ذلك أن يقتصر على نفسه ، بل يجب عليه أن يدعو إلى الله تعالى بالحكمة والموعظة الحسنة . كما هو سبيل المرسلين وأتباعهم كما قال الحسن البصري لما تلا قوله تعالى : '41 : 33' " ومن أحسن قولا ممن دعا إلى الله وعمل صالحا وقال إنني من المسلمين " فقال : هذا حبيب الله ، هذا ولي الله ، هذا صفوة الله ، هذا خيرة الله ، هذا أحب أهل الأرض إلى الله ، أجاب الله فى دعوته . ودعا الناس إلى ما أجاب الله فيه من دعوته ، وعمل صالحًا فى إجابته : إنني من المسلمين . هذا خليفة الله . قال رحمه الله : (وقوله '12 : 108' "قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني وسبحان الله وما أنا من المشركين". قال أبو جعفر ابن جرير : يقول تعالى ذكره لنبيه محمد (قل) يا محمد (هذه) الدعوة التى أدعو إليها ، والطريقة التي أنا عليها ، من الدعاء إلى توحيد الله ، وإخلاص العبادة له دون الآلهة والأوثان . والإنتهاء إلى طاعته وترك معصيته (سبيلي) طريقتي ، ودعوتي (أدعو إلى الله) تعالى وحده لا شريك له (على بصيرة) بذلك ، ويقين علم مني به (أنا) ويدعو إليه على بصيرة أيضًا من اتبعني وصدقني وآمن بي (وسبحان الله) يقول له تعالى ذكره : وقل. تنزيهًا لله تعالى وتعظيمًا له من أن يكون له شريك فى ملكه أو معبود سواه فى سلطانه (وما أنا من المشركين) يقول : وأنا برىء من أهل الشرك به . لست منهم ولاهم منى انتهى . قال فى شرح المنازل : يريد أن تصل باستدلالك إلى أعلى درجات العلم وهى البصيرة التى تكون نسبة المعلوم فيها إلى القلب كنسبة المائي إلى البصر ، وهذه هي الخصيصة التى اختص بها الصحابة عن سائر الأمة وهي أعلى درجات العلماء . قال تعالى : "قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني" أي أنا وأتباعي على بصيرة . وقيل (من اتبعنى) عطف على المرفوع فى (أدعو) أى أنا أدعو إلى الله على بصيرة ، ومن اتبعنى كذلك يدعو إلى الله تعالى على بصيرة ، وعلى القولين : فالآية تدل على أن أتباعه هم أهل البصائر الداعون إلى الله تعالى ، ومن ليس منهم فليس من أتباعه على الحقيقة والموافقة ، وإن كان من أتباعه على الانتساب والدعوى . قال المصنف رحمه الله : فيه مسائل (منها التنبيه على الإخلاص لأن كثيرًا ولو دعا إلى الحق فهو يدعو إلى نفسه ، ومنها : أن البصيرة من الفرائض . ومنها : أن من دلائل حسن التوحيد أنه تنزيه لله تعالى عن المسبة . ومنها أن من قبح الشرك كونه مسبة لله تعالى . ومنها إبعاد المسلم عن المشركين لا يصير منهم ولو لم يشرك) ا هـ . وقال العلامة ابن القيم رحمه الله تعالى فى معنى قوله تعالى : '16 :125' " ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة " الآية . ذكر سبحانه مراتب الدعوة وجعلها ثلاثة أقسام بحسب حال المدعو ، فإنه إما أن يكون طالبًا للحق محبًا له . مؤثرًا له على غيره إذا عرفه . فهذا يدعى بالحكمة . ولا يحتاج إلى موعظة وجدال . وإما أن يكون مشتغلًا بضد الحق . لكن لو عرفه آثره واتبعه . فهذا يحتاج إلى الموعظة بالترغيب والترهيب . وإما أن يكون معاندًا معارضًا ، فهذا يجادل بالتي هى أحسن . فإن رجع وإلا انتقل معه إلى الجلاد إن أمكن . انتهى .

بعث معاذ الى اليمن يدعوهم الى التوحيد قال : (وعن ابن عباس رضى الله عنهما أن رسول الله لما بعث معاذًا إلى اليمن قال : "إنك تأتي قومًا من أهل الكتاب . فليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة أن لا إله الا الله - وفى رواية : إلى أن يوحدوا الله - فإن هم أطاعوك لذلك فأعلمهم أن الله افترض عليهم خمس صلوات فى كل يوم وليلة . فإن هم أطاعوك لذلك فأعلمهم أن الله افترض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم وترد على فقرائهم . فإن هم أطاعوك لذلك فإياك وكرائم أموالهم . واتق دعوة المظلوم . فإنه ليس بينها وبين الله حجاب" أخرجاه) . قال الحافظ : كان بعث معاذ إلى اليمن سنة عشر . قبل حج النبى كما ذكره المصنف - يعنى البخارى فى أواخر المغازي - وقيل : كان ذلك فى آخر سنة تسع عند منصرفه من تبوك . رواه الواقدي بإسناد إلى كعب بن مالك . وأخرجه ابن سعد في لطبقات عنه واتفقوا على أنه لم يزل على اليمن إلى أن قدم فى خلافة أبى بكر رضى الله عنه ثم توجه إلى الشام فمات بها . قال شيخ الإسلام : ومن فضائل معاذ رضى الله عنه أنه بعثه إلى اليمن مبلغًا عنه . ومفقهًا ومعلمًا وحاكمًا . قوله (إنك تأتي قومًا من أهل الكتاب) قال القرطبي : يعني اليهود والنصارى ، لأنهم كانوا في اليمن أكثر من مشركي العرب أو أغلب ، وإنما نبه على ذلك ليتهيأ لمناظرتهم . وقال الحافظ : هو كالتوطئة للوصية لجمع همته عليها . قوله (فليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة أن لا إله إلا الله شهادة رفع على أنه اسم يكن مؤخر . و أول خبرها مقدم . ويجوز العكس . قوله : (وفى رواية إلى أن يوحدوا الله) هذه الرواية ثابتة فى كتاب التوحيد من صحيح البخارى . وأشار المصنف بذكر هذه الرواية إلى التنبية على معنى شهادة أن لا إله إلا الله فإن معناها توحيد الله بالعبادة ونفي عبادة ما سواه . وفى رواية فليكن أول ما تدعوهم إليه عبادة الله وذلك هو الكفر بالطاغوت والإيمان بالله ، كما قال تعالى : '2 : 256' " فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها " والعروة الوثقى هى (لا إله إلا الله) وفى رواية للبخارى فقال: ادعهم إلى شهادة أن لا إله إلا الله وأني رسول الله . قلت : لا بد فى شهادة أن لا إله إلا الله من سبعة شروط ، لا تنفع قائلها إلا باجتماعها ، أحدها : العلم المنافي للجهل . الثانى : اليقين المنافي للشك . الثالث : القبول المنافي للرد . الرابع : الانقياد المنافي للترك . الخامس : الإخلاص المنافي للشرك. السادس: الصدق المنافي للكذب . السابع : المحبة المنافية لضدها . وفيه دليل على أن التوحيد - الذي هو إخلاص العبادة لله وحده لا شريك له وترك عبادة ما سواه - هو أول واجب . ولهذا كان أول ما دعت إليه الرسل عليهم السلام : "أن اعبدوا الله ما لكم من إله غيره" وقال نوح : "أن لا تعبدوا إلا الله" وفيه معنى (لا إله إلا الله) مطابقة . قال شيخ الإسلام : وقد علم بالاضطرار من دين الرسول واتفقت عليه الأمة أن أصل الإسلام وأول ما يؤمر به الخلق : شهادة أن لا إله إلا الله ، وأن محمدًا رسول الله ، فبذلك يصير الكافر مسلمًا ، والعدو وليًا ، والمباح دمه وماله : معصوم الدم والمال . ثم إن كان ذلك من قلبه فقد دخل فى الإيمان وإن قاله بلسانه دون قلبه فهو فى ظاهر الإسلام دون باطن الإيمان . قال : وأما إذا لم يتكلم بها مع القدرة فهو كافر باتفاق المسلمين باطنًا وظاهرًا ، عند سلف الأمة وأئمتها وجماهير العلماء ا هـ . قال المصنف رحمه الله تعالى : (وفيه أن الإنسان قد يكون عالمًا وهو لا يعرف معنى لا إله إلا الله أو يعرفه ولا يعمل به) . قلت : فما أكثر هؤلاء - لا كثرهم الله تعالى . قوله : (فإن هم أطاعوك لذلك) أي شهدوا وانقادوا لذلك (فأعلمهم أن الله افترض عليهم خمس صلوات) فيه : أن الصلاة أعظم واجب بعد الشهادتين . قال النووى ما معناه : أنه يدل على أن المطالبة بالفرائض فى الدنيا لا تكون إلا بعد الإسلام . ولا يلزم من ذلك أن لا يكونا مخاطبين بها ، ويزاد فى عذابهم بسببها فى الآخرة . والصحيح أن الكفار مخاطبون بفروع الشريعة المأمور به والمنهى عنه . وهذا قول الأكثرين ا هـ . قوله : (فأعلمهم أن الله افترض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم) . فيه دليل على أن الزكاة أوجب الأركان بعد الصلوات ، وأنها تؤخذ من الأغنياء وتصرف إلى الفقراء ، وإنما خص النبى الفقراء لأن حقهم في الزكاة آكد من حق بقية الأصناف الثمانية . وفيه : أن الإمام هو الذى يتولى قبض الزكاة وصرفها : إما بنفسه أو نائبه ، فمن امتنع عن آدائها إليه أخذت منه قهرًا . في الحديث دليل على أنه يكفي إخراج الزكاة فى صنف واحد ، كما هو مذهب مالك وأحمد . وفيه : أنه لا يجوز دفعها إلى غني ولا إلى كافر غير المؤلف ، وإن الزكاة واجبة فى مال الصبى والمجنون ، كما هو قول الجمهور ، لعموم الحديث . قلت : والفقير إذا أفرد فى اللفظ تناول المسكين وبالعكس ، كنظائره . كما قرره شيخ الإسلام . قوله (إياك وكرائم أموالهم) بنصب كرائم على التحذير ، وجمع كريمة قال صاحب المطالع هي الجامعة للكمال الممكن في حقها ، من غزارة لبن ، وجمال صورة ، وكثرة لحم وصوف . ذكر النووي (قلت) وهي خيار المال وأنفسه وأكثره ثمنًا . وفيه : أنه يحرم على العامل فى الزكاة أخذ كرائم المال ، ويحرم على صاحب المال إخراج شرار المال . بل يخرج الوسط ، فإن طابت نفسه بالكريمة جاز . قوله : (واتق دعوة المظلوم) أي اجعل بينك وبينها وقاية بالعدل وترك الظلم ، وهذان الأمران يقيان من رزقهما من جميع الشرور دنيا وأخرى . وفيه تنبيه على التحذير من جميع أنواع الظلم . قوله : (فإنه) أي الشأن (ليس بينها وبين الله حجاب) هذه الجملة مفسرة لضمير الشأن ، أي فإنها لا تحجب عن الله فيقبلها . وفى الحديث أيضًا قبول خبر الواحد العدل ، ووجوب العمل به . وبعث الإمام العمال لجباية الزكاة . وأنه يعظ عماله وولاته ، ويأمرهم بتقوى الله تعالى ، ويعلمهم ، وينهاهم عن الظلم ويعرفهم سوء عاقبته . والتنبيه على التعليم بالتدريج . قاله المصنف . قلت : ويبدأ بالأهم فالأهم . واعلم أنه لم يذكر فى الحديث الصوم والحج ، فأشكل ذلك على كثير من العلماء . قال شيخ الإسلام : أجاب بعض الناس : أن بعض الرواة اختصر الحديث وليس كذلك . فإن هذا طعن فى الرواة . لأن ذلك إنما يقع فى الحديث الواحد ، مثل حديث وفد عبد القيس حيث ذكر بعضهم الصيام وبعضهم لم يذكره ، فأما الحديثان المنفصلان فليس الأمر فيها كذلك ، ولكن عن هذا جوابان : أحدهما : أن ذلك بحسب نزول الفرائض ، وأول ما فرض الله الشهادتين ثم الصلاة . فإنه أمر بالصلاة فى أول أوقات الوحي ، ولهذا لم يذكر وجوب الحج ، كعامة الأحاديث ، إنما جاء فى الأحاديث المتأخرة . الجواب الثانى : أنه كان يذكر فى كل مقام ما يناسبه . فيذكر تارة الفرائض التى يقاتل عليها : كالصلاة والزكاة . ويذكر تارة الصلاة والصيام لمن لم يكن عليه زكاة ، ويذكر تارة الصلاة والزكاة والصوم . فإما أن يكون قبل فرض الحج ، وإما أن يكون المخاطب بذلك لا حج عليه ، وأما الصلاة والزكاة فلهما شأن ليس لسائر الفرائض ولهذا ذكر الله تعالى فى كتابه القتال عليهما ، لأنهما عبادتان ظاهرتان ، بخلاف الصوم بأنه أمر باطن من جنس الوضوء والاغتسال من الجنابة ، ونحو ذلك مما يؤتمن عليه العبد فإن الإنسان يمكنه أن لا ينوي الصوم وأن يأكل سرًا ، كما يمكنه أن يكتم حدثه وجنابته ، وهو يذاكر فى الأعمال الظاهرة التى يقاتل الناس عليها ويصيرون مسلمين بفعلها . فلهذا علق ذلك بالصلاة والزكاة دون الصوم ، وإن كان واجبًا كما في آيتي براءة نزلت بعد فرض الصيام باتفاق الناس . وكذلك لما بعث معاذًا إلى اليمن لم يذكر فى حديث الصوم ، لأنه تبع وهو باطن ، ولا ذكر الحج لأن وجوبه خاص ليس بعام ، و لا يجب فى العمر إلا مرة . انتهى بمعناه . قوله (أخرجاه) أي البخارى ومسلم ، وأخرجه أيضًا أحمد وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجة .

إعطاء على الراية يوم خيبر وأمره أن يدعوهم إلى الإسلام قال : (ولهما عن سهل بن سعد رضي الله عنه أن رسول الله قال يوم خيبر : " لأعطين الراية غدًا رجلًا يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله ، يفتح الله على يديه فبات الناس يدوكون ليلتهم ، أيهم يعطاها . فلما أصبحوا غدوا على رسول الله كلهم يرجو أن يعطاها ، فقال : أين علي بن أبي طالب ؟ فقيل : هو يشتكي عينيه قال فأرسلوا إليه ، فأتي به ، فبصق فى عينيه ودعا له ، فبرأ كأن لم يكن به وجع ، فأعطاه الراية ، قال انفذ على رسلك حتى تنزل بساحتهم ، ثم ادعهم إلى الإسلام ، وأخبرهم بما يجب عليهم من حق الله تعالى فيه، فو الله لأن يهدي الله بك رجلًا واحدًا خير لك من حمر النعم") . يدوكون أي يخوضون . قوله : (عن سهل بن سعد) أي ابن مالك بن خالد الأنصارى الخزرجى الساعدى ، أبي العباس صحابي شهير ، وأبوه صحابي أيضًا ، مات سنة ثمان وثمانين وقد جاوز المائة . قوله : (قال يوم خيبر) وفى الصحيحين عن سلمة بن الأكوع قال : "كان علي رضي الله عنه قد تخلف عن النبي فى خيبر ، وكان أرمد ، فقال : أنا أتخلف عن رسول الله فخرج علي رضى الله عنه فلحق بالنبى فلما كان مساء الليلة التى فتحها الله عز وجل فى صباحها قال  : لأعطين الراية - أو ليأخذن الراية - غدًا رجل يحبه الله ورسوله ، أو قال : يحب الله ورسوله ، يفتح الله على يديه . فإذا نحن بعلي وما نرجوه ، فقالوا : هذا علي ، فأعطاه رسول الله الراية ففتح الله عليه" . قوله : (لأعطين الراية) قال الحافظ : فى رواية بريدة : "إنى دافع اللواء إلى رجل يحبه الله ورسوله" وقد صرح جماعة من أهل اللغة بترادفها ، ولكن روى أحمد والترمذي من حديث ابن عباس "كانت راية رسول الله سوداء ، ولواؤه أبيض" ومثله عند الطبرانى عن بريدة . وعن ابن عدي عن أبى هريرة وزاد مكتوب فيه : لا إله إلا الله محمد رسول الله . قوله : (يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله) فيه فضيلة عظيمة لعلي رضى الله عنه . قال شيخ الإسلام : ليس هذا الوصف مختصًا بعلي ولا بالأئمة ، فإن الله ورسوله يحب كل مؤمن تقي ، يحب الله ورسوله ، لكن هذا الحديث من أحسن ما يحتج به على النواصب الذين لا يتولونه ، أو يكفرونه أو يفسقونه ، كالخوارج . لكن هذا الاحتجاج لا يتم على قول الرافضة الذين يجعلون النصوص الدالة على فضائل الصحابة كانت قبل ردتهم ، فإن الخوارج تقول في علي مثل ذلك ، ولكن هذا باطل ، فإن الله تعالى ورسوله لا يطلق مثل هذا المدح على من يعلم الله أنه يموت كافرًا . وفيه إثبات صفة المحبة خلافًا للجهمية ومن أخذ عنهم . قوله : (يفتح الله على يديه) صريح فى البشارة بحصول الفتح ، فهو علم من أعلام النبوة . قوله : (فبات الناس يدوكون ليلتهم) بنصب (ليلتهم) و يدوكون قال المصنف : يخوضون . أي فيمن يدفعها إليه . وفيه حرص الصحابة على الخير واهتمامهم به ، وعلو مرتبتهم فى العلم والإيمان . قوله : (أيهم) هو برفع أي على البناء لإضافتها وحذف صدر صلتها . قوله : (فلما أصبحوا غدوا على رسول الله كلهم يرجو أن يعطاها) وفى رواية أبي هريرة عند مسلم أن عمر قال : "ما أحببت الإمارة إلا يومئذ" . قال شيخ إلإسلام : إن فى ذلك شهادة النبى لعلي بإيمانه باطنًا وظاهرًا وإثباتًا لموالاته لله تعالى ورسوله ووجوب موالاة المؤمنين له ، وإذا شهد النبى لمعين بشهادة ، أو دعا له أحب كثير من الناس أن يكون له مثل تلك الشهادة ومثل ذلك الدعاء ، وإن كان النبى يشهد بذلك لخلق كثير ويدعو لخلق كثير ، وهذا كالشهادة بالجنة لثابت بن قيس . وعبد الله بن سلام وإن كان شهد بالجنة لآخرين ، والشهادة بمحبة الله ورسوله للذي ضرب فى الخمر . قوله : (فقال أين علي بن أبى طالب) فيه سؤال الإمام عن رعيته ، وتفقد أحوالهم . قوله : (فقيل هو يشتكي عينيه) أي من الرمد ، كما فى صحيح مسلم عن سعد بن أبي وقاص فقال : ادعوا لي عليًا فأتي به أرمد الحديث ، وفى نسخة صحيحة بخط المصنف : فقيل هو يشتكي عينيه ، فأرسل إليه مبني للفاعل ، وهو ضمير مستتر في الفعل راجع إلى النبى ويحتمل أن يكون مبنيًا لما لم يسم فاعله . ولمسلم من طريق إياس بن سلمة بن الأكوع عن أبيه قال : فأرسلنى إلى علي فجئت به أقوده أرمد . قوله : (فبصق) بفتح الصاد ، أي تفل . وقوله (ودعا له فبرأ) هو بفتح الراء والهمزة ، أي عوفي في الحال ، عافية كاملة كأن لم يكن به وجع من رمد ولا ضعف بصر . وعند الطبراني من حديث علي فما رمدت ولا صدعت منذ دفع النبي إلي الراية وفيه دليل على الشهادتين . قوله (فأعطاه الراية) قال المصنف : فيه الإيمان بالقدر لحصولها لمن لم يسع ومنعها عمن سعى . وفيه إن فعل الأسباب المباحة أو الواجبة أو المستحبة لا ينافي التوكل . قوله (وقال انفذ على رسلك) بضم الفاء ، اي امض ورسلك بكسر الراء وسكون السين ، أي على رفقك من غير عجلة . وساحتهم فناء أرضهم وهو ما حولها . وفيه : الأدب عند القتال وترك العجلة والطيش ، والأصوات التى لا حاجة إليها . وفيه : أمر الإمام عماله بالرفق من غير ضعف ولا انتقاض عزيمة ، كما يشير إليه قوله ثم ادعهم إلى الإسلام أي الذي هو معنى شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله ، وإن شئت قلت الإسلام : شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدًا عبده ورسوله ، وما اقتضته الشهادتان من إخلاص العبادة لله وحده ، وإخلاص الطاعة لرسوله . ومن هنا طابق الحديث الترجمة كما قال تعالى لنبيه ورسوله : '3 : 64' " قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم أن لا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون " . قال شيخ الإسلام رحمه الله : والإسلام هو الاستسلام لله ، وهو الخضوع له والعبودية له . كذا قال أهل اللغة . وقال رحمه الله تعالى : ودين الإسلام الذي ارتضاه الله وبعث به رسله  : هو الاستسلام له وحده ، فأصله فى القلب . والخضوع له وحده بعبادته وحده دون ما سواه . فمن عبده وعبد معه إلهًا آخر لم يكن مسلمًا . ومن استكبر عن عبادته لم يكن مسلمًا ، وفى الأصل : هو من باب العمل ، عمل القلب والجوارح . وأما الإيمان فأصله تصديق القلب ، وإقراره ومعرفته ، فهو من باب قول القلب المتضمن عمل القلب . انتهى . فتبين أن أصل الإسلام هو التوحيد ونفي الشرك فى العبادة وهو دعوة جميع المرسلين ، وهو الاستسلام لله تعالى بالتوحيد ، والانقياد له بالطاعة فيما أمرهم به على ألسن رسله ، كما قال تعالى عن نوح أول رسول أرسله : '71 : 3' "أن اعبدوا الله واتقوه وأطيعون" . وفيه : مشروعية الدعوة قبل القتال ، لكن إن كانوا قد بلغتهم الدعوة جاز قتالهم ابتداء لأن النبى أغار على بنى المصطلق وهم غارون وإن كانوا لم تبلغهم الدعوة وجبت دعوتهم . قوله وأخبرهم بما يجب عليهم من حق الله تعالى فيه أي في الإسلام إذا أجابوك إليه فأخبرهم بما يجب من حقوقه التى لابد لهم من فعلها : كالصلاة والزكاة ، كما فى حديث أبى هريرة : "فإذا فعلوا ذلك فقد منعوا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها " ولما قال عمر لأبي بكر فى قتاله مانعي الزكاة :" كيف تقاتل النساء وقد قال رسول الله صلى اله عليه وسلم : أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا : لا إله إلا الله . فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها . قال أبو بكر : فإن الزكاة حق المال ، والله لو منعوني عناقًا كانوا يؤدونها إلى رسول الله ، لقاتلتهم على منعها " . وفيه : بعث إلإمام الدعاة إلى الله تعالى ، كما كان النبي وخلفائه الراشدون يفعلون ، كما فى المسند عن عمر بن الخطاب رضى الله عنه أنه قال فى خطبته : " ألا إني والله ما أرسل عمالي إليكم ليضربوا أبشاركم ولا ليأخذوا أموالكم. ولكن أرسلهم إليكم ليعلموكم دينكم وسننكم " .

لأن يهدي الله بك رجلًا واحدًا خير لك إلخ قوله : (فو الله لأن يهدى الله بك رجلًا واحدًا خير لك من حمر النعم) أن مصدرية واللام قبلها مفتوحة لأنها لام القسم . وأن والفعل بعدها فى تأويل مصدر ، رفع على الابتداء والخبر خير و حمر بضم المهملة وسكون الميم ، جمع أحمر . و النعم بفتح النون والعين المهملة ، أي خير لك من الإبل الحمر . وهي أنفس أموال العرب . قال النووي : وتشبيه أمور الآخرة بأمور الدنيا إنما هو للتقريب إلى الأفهام ، وإلا فذرة من الآخرة خير من الأرض بأسرها وأمثالها معها . وفيه : فضيلة من اهتدى على يديه رجل واحد ، وجواز الحلف على الخبر والفتيا ولو لم يستحلف .

باب تفسير التوحيد وشهادة أن لا إله إلا الله قوله : (باب - تفسير التوحيد وشهادة أن لا إله إلا الله) قلت : هذا من عطف الدال على المدلول . فإن قيل : قد تقدم في أول الكتاب من الآيات ما يبين معنى لا إله الا الله وما تضمنته من التوحيد كقوله تعالى '17 : 23' " وقضى ربك أن لا تعبدوا إلا إياه " وسابقها ولاحقها ، وكذلك ما ذكره في الأبواب بعدها ، فما فائدة هذه الترجمة ؟ قيل : هذه الآيات المذكورات في هذا الباب فيها مزيد بيان بخصوصها لمعنى كلمة الإخلاص وما دلت عليه : من توحيد العبادة . فيها : الحجة على من تعلق من الأنبياء والصالحين يدعوهم ويسألهم . لأن ذلك هو سبب نزول بعض هذه الايات ، كالآية الأولى : '17 : 56' "قل ادعوا الذين زعمتم من دونه" أكثر المفسرين على أنها نزلت فيمن يعبد المسيح وأمه ، والعزير والملائكة ، وقد نهى الله عن ذلك أشد النهى ، كما فى هذه الآية من التهديد والوعيد على ذلك. وهذا يدل على أن دعاءهم من دون الله شرك بالله ، ينافي التوحيد وينافي شهادة أن لا إله إلا الله ، فإن التوحيد أن لا يدعى إلا الله وحده . وكلمة الإخلاص نفت هذا الشرك ، لأن دعوة غير الله تأليه وعبادة له . و الدعاء مخ العبادة . وفى هذه الآية : أن المدعو لا يملك لداعيه كشف ضرر ولا تحويله من مكان إلى مكان ، ولا من صفة إلى صفة . ولو كان المدعو نبيًا أو ملكًا . وهذا يقرر بطلان دعوة كل مدعو من دون الله كائنًا من كان ، لأن دعوته تخون داعيه أحوج ما كان إليها ، لأنه أشرك مع الله من لا ينفعه ولا يضره . وهذه الآية تقرر التوحيد ، ومعنى لا إله إلا الله .

الذين يبتغون إلى ربهم الوسيلة وقوله تعالى : "أولئك الذين يدعون يبتغون إلى ربهم الوسيلة" يبين أن هذا سبيل الأنبياء والمرسلين ومن تبعهم من المؤمنين . قال قتادة : تقربوا إليه بطاعته والعمل فيما يرضيه وقرأ ابن زيد :" أولئك الذين يدعون يبتغون إلى ربهم الوسيلة أيهم أقرب " قال العماد ابن كثير : وهذا لا خلاف فيه بين المفسرين . وذكره عن عدة من أئمة التفسير . قال العلامة ابن القيم رحمه الله تعالى : في هذه الآية ذكر المقامات الثلاث : الحب ، وهو ابتغاء التقرب إليه . والتوسل إليه بالأعمال الصالحة . والرجاء والخوف . وهذا هو حقيقة التوحيد وحقيقة دين الإسلام كما في المسند عن بهز بن حكيم عن أبيه عن جده أنه قال للنبى " والله يا رسول الله ما أتيتك إلا بعد ما حلقت عدد أصابعي هذه : أن لا آتيك . فبالذي بعثك بالحق ، ما بعثك به ؟ قال : الإسلام . قال : وما الإسلام ؟ قال : أن تسلم قلبك وأن توجه وجهك إلى الله ، وأن تصلي الصلوات المكتوبة ، وتؤدي الزكاة المفروضة" وأخرج محمد بن نصر المروزى من حديث خالد بن معدان عن أبي هريرة قال : قال رسول الله " إن للإسلام صوى ومنارًا كمنار الطريق . من ذلك أن تعبد الله ولا تشرك به شيئًا وتقيم الصلاة وتؤتي الزكاة وتصوم رمضان ، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر" وهذا معنى قوله تعالى : '31 : 22' "ومن يسلم وجهه إلى الله وهو محسن فقد استمسك بالعروة الوثقى وإلى الله عاقبة الأمور" . وقوله تعالى : '43 : 26 - 28' " وإذ قال إبراهيم لأبيه وقومه إنني براء مما تعبدون * إلا الذي فطرني فإنه سيهدين * وجعلها كلمة باقية في عقبه " أي لا إله إلا الله . فتدبر كيف عبر الخليل عليه السلام عن هذه الكلمة العظيمة بمعناها الذي دلت عليه . ووضعت له من البراءة من كل ما يعبد من دون الله من المعبودات الموجودة في الخارج : كالكواكب والهياكل والأصنام التى صورها قوم نوح على صور الصالحين : ود وسواع ويغوث ويعوق ونسر ، وغيرها من الأوثان والأنداد التى كان يعبدها المشركون بأعيانها . ولم يستثن من جميع المعبودات إلا الذي فطره ، وهو الله وحده لا شريك له ، فهذا هو الذي دلت عليه كلمة الإخلاص . كما قال تعالى : '22 : 62' "ذلك بأن الله هو الحق وأن ما يدعون من دونه هو الباطل" فكل عبادة يقصد بها غير الله : من دعاء وغيره فهي باطلة ، وهي الشرك الذي لا يغفره الله ، قال تعالى : '40 : 73،74' " ثم قيل لهم أين ما كنتم تشركون * من دون الله قالوا ضلوا عنا بل لم نكن ندعوا من قبل شيئا كذلك يضل الله الكافرين " . وقوله تعالى : ' 9 : 31 ' "اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابًا من دون الله والمسيح ابن مريم" . وفي الحديث الصحيح أن النبي تلا هذه الآية على عدي بن حاتم الطائي فقال : "يارسول الله ، لسنا نعبدهم. قال : أليس يحلون لكم ما حرم الله فتحلونه ، ويحرمون ما أحل الله فتحرمونه ؟ قال : بلى . قال النبي  : فتلك عبادتهم " . فصارت طاعتهم في المعصية عبادة لغير الله وبها اتخذوهم أربابًا ، كما هو الواقع في هذه الأمة ، وهذا من الشرك الأكبر المنافي للتوحيد الذي هو مدلول شهادة لا إله إلا الله . فتبين بهذه الآية أن كلمة الإخلاص نفت هذا كله لمنافاته لمدلول هذه الكلمة . فأثبتوا ما نفته من الشرك وتركوا ما أثبتته من التوحيد . وقوله تعالى : '2 : 165' "ومن الناس من يتخذ من دون الله أندادًا يحبونهم كحب الله" فكل من اتخذ ندًا لله يدعوه من دون الله ويرغب إليه ويرجوه لما يؤمله منه من قضاء حاجاته وتفريج كرباته - كحال عباد القبور والطواغيت والأصنام - فلا بد أن يعظموهم ويحبوهم لذلك ، فإنهم أحبوهم مع الله وإن كانوا يحبون الله تعالى . ويقولون لا إله إلا الله ويصلون ويصومون ، فقد أشركوا بالله فى المحبة بمحبة غيره وعبادة غيره فاتخاذهم الأنداد يحبونهم كحب الله يبطل كل قول يقولونه وكل عمل يعملونه . لأن المشرك لا يقبل منه عمل ، ولا يصح منه . وهؤلاء وإن قالوا لا إله إلا الله فقد تركوا كل قيد قيدت به هذه الكلمة العظيمة : من العلم بمدلولها . لأن المشرك جاهل بمعناها ، ومن جهله بمعناها جعل الله شريكًا في المحبة وغيرها ، وهذا هو الجهل المنافي للعلم بما دلت عليه من الإخلاص : ولم يكن صادقًا في قولها : لأنه لم ينف ما نفته من الشرك ، ولم يثبت ما أثبتته من الإخلاص وترك اليقين أيضًا ، لأنه لو عرف معناها وما دلت عليه لأنكره أو شك فيه ، ولم يقبله وهو الحق ، ولم يكفر بما يعبد من دون الله ، كما في الحديث ، بل آمن بما يعبد من دون الله باتخاذه الند ومحبته له وعبادته إياه من دون الله كما قال تعالى "والذين آمنوا أشد حبًا لله" لأنهم اخلصوا له الحب فلم يحبوا إلا إياه، ويحبون من أحب ويخلصون أعمالهم جميعًا لله ، ويكفرون بما عبد من دون الله . فبهذا يتبين لمن وفقه الله تعالى لمعرفة الحق وقبوله دلالة هذه الآيات العظيمة على معنى شهادة أن لا إله إلا الله ، وعلى التوحيد الذي هو معناها الذي دعا إليه جميع المرسلين . فتدبر . قال : وقوله تعالى '17 : 57' " أولئك الذين يدعون يبتغون إلى ربهم الوسيلة أيهم أقرب " الآية، يتبين معنى هذه الآية بذكر ما قبلها ، وهو قوله تعالى "قل ادعوا الذين زعمتم من دونه فلا يملكون كشف الضر عنكم ولا تحويلًا" . قال ابن كثير رحمه الله : يقول تعالى (قل) يا محمد للمشركين الذين عبدوا غير الله "ادعوا الذين زعمتم من دونه" من الأصنام والأنداد وارغبوا إليهم ، فإنهم لا يملكون كشف الضر عنكم أي بالكلية (ولا تحويلا) أي ولا يحولوه إلى غيركم . والمعنى : أن الذي يقدر على ذلك هو الله وحده لا شريك له ، الذي له الخلق والأمر . قال العوفي عن ابن عباس فى الآية : كان أهل الشرك يقولون : نعبد الملائكة والمسيح وعزيرًا ، وهم الذين يدعون . يعنى الملائكة والمسيح وعزيرًا . وروى البخاري فى الآية عن ابن مسعود رضى الله عنه قال : "ناس من الجن كانوا يعبدون فأسلموا " وفى رواية : "كان ناس من الإنس يعبدون ناسًا من الجن فأسلم الجن وتمسك هؤلاء بدينهم" . وقول ابن مسعود هذا يدل على أن الوسيلة هى الإسلام ، وهو كذلك على كلا القولين . وقال السدي عن أبي صالح عن ابن عباس فى الآية قال : عيسى وأمه وعزير وقال مغيرة عن إبراهيم : كان ابن عباس يقول فى هذه الآية : هم عيسى وعزير والشمس والقمر وقال مجاهد : عيسى وعزير والملائكة . وقوله : "يرجون رحمته ويخافون عذابه "لا تتم العبادة إلا بالخوف والرجاء ، فكل داع دعا دعاء عبادة أو استغاثة لا بد له من ذلك ، فإما أن يكون خائفًا وإما أن يكون راجيًا ، وإما أن يجتمع فيه الوصفان . قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى ، في هذه الآية الكريمة ، لما ذكر أقوال المفسرين : وهذه الأقوال كلها حق ، فإن الآية تعم من كان معبوده عابدًا لله ، سواء كان من الملائكة أو من الجن أو من البشر ، والسلف في تفسيرهم يذكرون تفسير جنس المراد بالآية على نوع التمثيل ، كما يقول الترجمان لمن سأله : ما معنى الخبز ؟ فيريه رغيفًا ، فيقول هذا ، فالإشارة إلى نوعه لا إلى عينه ، وليس مرادهم من هذا تخصيص نوع من شمول الآية ، فالآية خطاب لكل من دعا من دون الله مدعوًا ، وذلك المدعو يبتغي الى الله الوسيلة ويرجو رحمته ويخاف عذابه ، فكل من دعا ميتًا أو غائبًا من الأولياء والصالحين سواء كان بلفظ الاستغاثة أو غيرها فقد تناولته هذه الآية الكريمة ، كما تتناول من دعا الملائكة والجن ، فقد نهى الله تعالى من دعائهم ، وبين أنهم لا يملكون كشف الضر عن الداعين ولا تحويله ، ولا يرفعونه بالكلية ولا يحولونه من موضع إلى موضع ، كتغيير صفته أو قدره ، ولهذا قال : (ولا تحويلا) فذكر نكرة تعم أنواع التحويل ، فكل من دعا ميتًا أو غائبًا من الأولياء والصالحين أو دعا الملائكة فقد دعا من لا يغيثه ولا يملك كشف الضر عنه ولا تحويله اهـ . وفى هذه الآية رد على من يدعو صالحًا ويقول : أنا لا أشرك بالله شيئًا ، الشرك عبادة الأصنام .

براءة إبراهيم مما يعبد قومه إلا الله قال: (وقوله " وإذ قال إبراهيم لأبيه وقومه إنني براء مما تعبدون * إلا الذي فطرني " الآية) قال ابن كثير : يقول تعالى مخبرًا عن عبده ورسوله وخليله إمام الحنفاء ، ووالد من بعث بعده من الأنبياء ، الذي تنتسب إليه قريش فى نسبها ومذهبها : أنه تبرأ من أبيه وقومه فى عبادتهم الأوثان فقال : " إنني براء مما تعبدون * إلا الذي فطرني فإنه سيهدين * وجعلها كلمة باقية في عقبه لعلهم يرجعون " أي هذه الكلمة وهي عبادة الله وحده لا شريك له . وخلع ما سواه من الأوثان ، وهي لا إله إلا الله جعلها فى ذريته يقتدى به فيها من هداه الله من ذرية إبراهيم عليه السلام (لعلهم يرجعون) أي إليها . قال عكرمة ومجاهد والضحاك وقتادة والسدي وغيرهم فى قوله : " وجعلها كلمة باقية في عقبه لعلهم يرجعون " يعنى لا إله إلا لله لا يزال في ذريته من يقولها . وروى ابن جرير عن قتادة " إنني براء مما تعبدون * إلا الذي فطرني " قال : كانوا يقولون : الله ربنا '53 : 87' "ولئن سألتهم من خلقهم ليقولن الله" فلم يبرأ من ربه رواه عبد بن حميد . وروى ابن جرير وابن المنذر عن قتادة " وجعلها كلمة باقية في عقبه " قال : الإخلاص والتوحيد لا يزال في ذريته من يعبد الله ويوحده . قلت : فتبين أن معنى لا إله إلا الله توحيد العبادة بإخلاص العبادة له والبراءة من كل ما سواه . قال المصنف رحمه الله (وذكر سبحانه أن هذه البراءة وهذه الموالاة ، هي شهادة أن لا إله إلا الله) . وفى هذا المعنى يقول العلامة الحافظ ابن القيم رحمه الله فى الكلمة الشافية : وإذا تولاه امرؤ دون الورى طرا تولاه العظيم الشان

معنى واتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابًا قال : (وقوله تعالى "اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابًا من دون الله" . . . الآية) . الأحبار : هم العلماء والرهبان هم العباد . وهذه الاية قد فسرها رسول الله لعدي بن حاتم ، وذلك أنه لما جاء مسلمًا دخل على رسول الله فقرأ عليه هذه الآية . قال : فقلت : إنهم لم يعبدوهم . فقال : بلى : إنهم حرموا عليهم الحلال وحللوا لهم الحرام فاتبعوهم ، فذلك عبادتهم إياهم رواه أحمد والترمذي وحسنه ، وعبد بن حميد وابن أبي حاتم والطبراني من طرق . قال السدي : استنصحوا الرجال ونبذوا كتاب الله وراء ظهورهم . ولهذا قال تعالى : "وما أمروا إلا ليعبدوا إلهًا واحدًا لا إله إلا هو سبحانه عما يشركون" فإن الحلال ما أحله الله ، والحرام ما حرمه الله ، والدين ما شرعه الله . فظهر بهذا أن الآية دلت على أن من أطاع غير الله ورسوله ، وأعرض عن الأخذ بالكتاب والسنة فى تحليل ما حرم الله ، أو تحريم ما أحله الله ، وأطاعه فى معصية الله ، واتبعه فيما لم يأذن به الله ، فقد اتخذه ربًا ومعبودًا وجعله لله شريكًا ، وذلك ينافي التوحيد الذي هو دين الله الذي دلت عليه كلمة الإخلاص (لا إله إلا الله) فإن الإله هو المعبود ، وقد سمى الله تعالى طاعتهم عبادة لهم ، وسماهم أربابًا كما قال تعالى '3 : 80' "ولا يأمركم أن تتخذوا الملائكة والنبيين أربابًا " أي شركاء لله تعالى في العبادة " أيأمركم بالكفر بعد إذ أنتم مسلمون " وهذا هو الشرك . فكل معبود رب ، وكل مطاع ومتبع على غير ما شرعه الله ورسوله فقد اتخذا المطيع المتبع ربًا ومعبودًا ، كما قال تعالى في آية الأنعام : '6 : 121' "وإن أطعتموهم إنكم لمشركون" وهذا هو وجه مطابقة الآية للترجمة ، ويشبه هذه الآية في المعنى قوله تعالى '42 : 21' "أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله" والله أعلم . قال شيخ الإسلام في معنىقوله "اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابًا من دون الله" وهؤلاء الذين اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابًا حيث أطاعوهم في تحليل ما حرم الله وتحريم ما أحل الله يكونون على وجهين : أحدهما : أن يعلموا أنهم بدلوا دين الله فيتبعونهم على هذا التبديل ، فيعتقدون تحليل ما حرم الله أو تحريم ما أحل الله ، اتباعًا لرؤسائهم ، مع علمهم أنهم خالفوا دين الرسل . فهذا كفر ، وقد جعله الله ورسوله شركًا ، وإن لم يكونوا يصلون لهم ويسجدون لهم . فكان من اتبع غيره في خلاف الدين مع علمه أنه خلاف للدين ، واعتقد ما قاله ذلك دون ما قاله الله ورسوله ، مشركًا مثل هؤلاء . الثاني : أن يكون اعتقادهم وإيمانهم بتحريم الحرام وتحليل الحلال ثابتًا ، لكنهم أطاعوهم في معصية الله ، كما يفعل المسلم ما يفعله من المعاصي التي يعتقد أنها معاص ، فهؤلاء لهم حكم أمثالهم من أهل الذنوب ، كما قد ثبت "عن النبي أنه قال : إنما الطاعة في المعروف" . ثم ذلك المحرم للحلال والمحلل للحرام إن كان مجتهدًا قصده اتباع الرسل لكن خفى عليه الحق في نفس الأمر وقد اتقى الله ما استطاع ، فهذا لا يؤاخذه الله بخطئه بل يثيبه على اجتهاده الذي أطاع به ربه . ولكن من علم أن هذا أخطأ فيما جاء به الرسول ثم اتبعه على خطئه وعدل عن قول الرسول . فهذا له نصيب من هذا الشرك الذي ذمه الله ، لا سيما إن اتبع ذلك هواه ونصره باليد واللسان مع علمه أنه مخالف للرسول . فهذا شرك يستحق صاحبه العقوبة عليه ، ولهذا اتفق العلماء على أنه إذا عرف الحق لا يجوز له تقليد أحد في خلافه ، وإنما تنازعوا في جواز التقليد للقادر على الاستدلال . وإن كان عاجز عن إظهار الحق الذي يعلمه . فهذا يكون كمن عرف أن الدين الإسلام حق وهو بين النصارى ، فإذا فعل ما يقدر عليه من الحق لا يؤاخذ بما عجز عنه ، وهؤلاء كالنجاشي وغيره . وقد أنزل الله في هؤلاء الآيات من كتابه كقوله تعالى : '3 : 199 ' "وإن من أهل الكتاب لمن يؤمن بالله وما أنزل إليكم وما أنزل إليهم" وقوله : '5 : 83 ' "وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع مما عرفوا من الحق " الآية وقوله '7 : 159 ' "ومن قوم موسى أمة يهدون بالحق وبه يعدلون " . وأما إن كان المتبع للمجتهد عاجزًا عن معرفة الحق على التفضيل وقد فعل ما يقدر عليه مثله : من الاجتهاد في التقليد فهذا لا يؤاخذ إن أخطأ كما في القبلة . وأما من قلد شخصًا دون نظيره بمجرد هواه ، ونصره بيده ولسانه من غير علم أن معه الحق ، فهذا من أهل الجاهلية ، وإن كان متبوعه مصيبًا لم يكن عمله صالحًا ، وإن كان متبوعه مخطئًا كان آثمًا . كمن قال فى القرآن برأيه ، فإن أصاب فقد أخطأ ، وإن أخطأ فليتبوأ مقعده من النار ، وهؤلاء من جنس مانع الزكاة الذي تقدم فيه الوعيد ، ومن جنس عبد الدينار والدرهم والقطيفة والخميصة ، فإن ذلك لما أحب المال منعه من عبادة الله وطاعته وصار عبدًا له، وكذلك هؤلاء فيكون فيهم شرك أصغر ، ولهم من الوعيد بحسب ذلك ، وفي الحديث : "إن يسير الرياء شرك" وهذا مبسوط عند النصوص التى فيها إطلاق الكفر والشرك على كثير الذنوب . انتهى.

معنى اتخاذ الأنداد من دون الله وقال أبو جعفر بن جرير فى معنى قول الله تعالى "وتجعلون له أندادًا" أي وتجعلون لمن خلق ذلك أندادًا وهم الأكفاء من الرجال تطيعونهم فى معاصى الله . انتهى . قلت : كما هو الواقع من كثير ومن عباد القبور . قال : (وقوله '2 : 165' "ومن الناس من يتخذ من دون الله أندادًا يحبونهم كحب الله ". . . .) الآية . قال العماد ابن كثير رحمه الله : يذكر الله حال المشركين به فى الدنيا ومآلهم فى الدار الآخرة ، حيث جعلوا لله أندادًا ، أي أمثالًا ونظراء يعبدونهم معه ويحبونهم كحبه ، وهو الله لا إله إلا هو ، ولا ضد له ولا ند له ، ولا شريك معه . وفى لصحيحين عن "عبد الله بن مسعود رضى الله عنه قال : قلت : يا رسول الله ؟ أي الذنب أعظم ؟ قال : أن تجعل لله ندًا وهو خلقك" . وقوله : "والذين آمنوا أشد حبًا لله" ولحبهم لله تعالى وتمام معرفتهم به وتوقيرهم وتوحيدهم لا يشركون به شيئًا . بل يعبدونه وحده ويتوكلون عليه ، ويلجأون فى جميع أمورهم إليه . ثم توعد تعالى المشركين به ، الظالمين لأنفسهم بذلك . فقال تعالى : "ولو يرى الذين ظلموا إذ يرون العذاب أن القوة لله جميعًا" قال بعضهم تقدير الكلام ، لو عاينوا العذاب لعلموا حينئذ أن القوة لله جميعًا ، أي أن الحكم له وحده لا شريك له ، فإن جميع الأشياء تحت قهره وغلبته وسلطانه " وأن الله شديد العذاب " كما قال تعالى : '89 : 25 ، 26' " فيومئذ لا يعذب عذابه أحد * ولا يوثق وثاقه أحد " يقول : لو علموا ما يعانون هناك وما يحل بهم من الأمر الفظيع المنكر الهائل على شركهم وكفرهم لانتهوا عما هم فيه من الضلال . ثم أخبر عن كفرهم بأعوانهم وتبرؤ المتبوعين من التابعين . فقال تعالى : "إذ تبرأ الذين اتبعوا من الذين اتبعوا" ترأت منهم الملائكة الذين كانوا يزعمون أنهم يعبدونهم فى الدار الدنيا ، فتقول الملائكة '28 : 63' "تبرأنا إليك ما كانوا إيانا يعبدون" ويقولون '34 : 41' "سبحانك أنت ولينا من دونهم بل كانوا يعبدون الجن أكثرهم بهم مؤمنون" الجن أيضًا يتبرأون منهم ويتنصلون من عبادتهم لهم ، كما قال تعالى : '46 : 5 ، 6' " ومن أضل ممن يدعو من دون الله من لا يستجيب له إلى يوم القيامة وهم عن دعائهم غافلون * وإذا حشر الناس كانوا لهم أعداء وكانوا بعبادتهم كافرين " . انتهى كلامه . روى ابن جرير عن كلامه في قوله تعالى "يحبونهم كحب الله" مباهاة ومضاهاة للحق سبحانه بالأنداد "والذين آمنوا أشد حبًا لله" من الكفار لأوثانهم . قال المصنف رحمه الله تعالى (ومن الأمور المبينة لتفسير التوحيد وشهادة أن لا إله إلا الله : آية البقرة في الكفار الذين قال تعالى فيهم "وما هم بخارجين من النار" ذكر أنهم يحبون أندادهم كحب الله ، فدل على أنهم يحبون الله حبًا عظيمًا ، فلم يدخلوا في الإسلام ، فكيف بمن أحب الند أكبر من حب الله ؟ فكيف بمن لم يحب إلا الند وحده ؟) ا هـ . ففى الآية بيان أن من أشرك مع الله تعالى غيره فى المحبة فقد جعله شريكًا لله فى العبادة واتخذه ندًا من دون الله ، وأن ذلك هو الشرك الذى لا يغفره الله ، كما قال تعالى فى أولئك "وما هم بخارجين من النار" وقوله : "ولو يرى الذين ظلموا إذ يرون العذاب" المراد بالظلم هنا الشرك . كقوله : '7 : 82 ' "ولم يلبسوا إيمانهم بظلم" كما تقدم . فمن أحب الله وحده ، وأحب فيه وله فهو مخلص ، ومن أحبه وأحب معه غيره ، فهو مشرك ، كما قال تعالى : '2 : 21 ، 22' " يا أيها الناس اعبدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم لعلكم تتقون * الذي جعل لكم الأرض فراشا والسماء بناء وأنزل من السماء ماء فأخرج به من الثمرات رزقا لكم فلا تجعلوا لله أندادا وأنتم تعلمون ". قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله ما معناه : فمن رغب إلى غير الله فى قضاء حاجة أو تفريج كربة : لزم أن يكون محبًا له ومحبته هى الأصل فى ذلك . انتهى . فكلمة الإخلاص لا إله إلا الله تنفى كل شرك . فى أى نوع كان من أنواع العبادة ، وتثبت العبادة بجميع أفرادها لله تعالى . وقد تقدم بيان أن الإله هو المألوه الذى تألهه القلوب بالمحبة وغيرها من أنواع العبادة فلا إله إلا الله ، نفت ذلك كله عن غير الله ، وأثبتته لله وحده . فهذا هو ما دلت عليه كلمة الإخلاص مطابقة ، فلابد من معرفة معناها واعتقاده ، وقبوله ، والعمل به باطنًا وظاهرًا . والله أعلم . قال العلامة ابن القيم رحمه الله تعالى : فتوحيد المحبوب أن لا يتعدد محبوبه ، أى مع الله تعالى بعبادته له ، وتوحيد الحب : أن لا يبقى فى قلبه بقية حب حتى يبذلها له ، فهذا الحب - وإن سمى عشقًا - فهو غاية صلاح العبد ونعيمه وقرة عينه ، وليس لقلبه صلاح ولا نعيم إلا بأن يكون الله ورسوله أحب إليه من كل ما سواهما ، وأن تكون محبته لغير الله تابعة لمحبة الله تعالى ، فلا يحب إلا الله ، ولا يحب إلا الله ، كما فى الحديث الصحيح ثلاث من كن فيه الحديث ومحبة رسول الله هى من محبة الله ، ومحبة المرء إن كانت لله فهى من محبته ، وإن كانت لغير الله فهى منقصة لمحبة الله مضعفة لها ، ويصدق هذه المحبة بأن تكون كراهيته لأبغض الأشياء إلى الله محبوبه وهو الكفر - بمنزلة كراهيته لإلقائه فى النار أو أشد ، ولا ريب أن هذا من أعظم المحبة ، فإك الإنسان لا يقدم على محبة نفسه وحياته شيئًا ، فإذا قدم محبة الإيمان بالله على نفسه بحيث لو خير بين الكفر وبين إلقائه فى النار لاختار أن يلقى فى النار ولا يكفر ، كان أحب إليه من نفسه ، وهذه المحبة هى فوق ما يجده العشاق المحبون من محبة محبوبيهم ، بل لا نظير لهذه المحبة . كما لا مثل لمن تعلقت به ، وهى محبة تقتضى تقديم المحبوب فيها على النفس والمال والولد . وتقتضى كمال الذل والخضوع والتعظيم والإجلال والطاعة والانقياد ظاهرًا وباطنًا . وهذا لا نظير له فى محبة المخلوق ، ولو كان المخلوق من كان . ولهذا من أشرك بين الله وبين غيره فى هذه المحبة الخاصة كان مشركًا شركًا لا يغفره الله . كما قال تعالى : "ومن الناس من يتخذ من دون الله أندادًا يحبونهم كحب الله والذين آمنوا أشد حبًا لله" والصحيح : أن معنى الاية : أن الذين آمنوا أشد حبًا من الله أهل الأنداد لأندادهم . كما تقدم أن محبة المؤمنين لربهم لا يماثلها محبة مخلوق أصلًا ، كما لا يماثل محبوبهم غيره ، وكل أذى فى محبة غيره فهو نعيم فى محبته . وكل مكروه فى محبة غيره فهو قرة عين محبته . ومن ضرب لمحبته الأمثال التى فى محبة المخلوق للمخلوق : كالوصل ، والهجر والتجنى بلا سبب من المحب ، وأمثال ذلك مما يتعالى الله عنه علوًا كبيرًا . فهو مخطىء أقبح الخطأ وأفحشه ، وهو حقيق بالإبعاد والمقت . انتهى .

من هو الذي يحرم ماله ودمه (وفى "الصحيح عن النبى أنه قال : من قال لا إله إلا الله وكفر بما يعبد من دون الله حرم ماله ودمه وحسابه على الله )" قوله فى الصحيح : أى صحيح مسلم عن أبى مالك الأشجعى عن أبيه عن النبى فذكره . وأبو مالك اسمه سعد بن طارق ، كوفى ثقة مات فى حدود الأربعين ومائة . وأبوه طارق بن أشيم - بالمعجمة والمثناة التحتية وزن أحمر - ابن مسعود الأشجعى ، صحابى له أحاديث . قال مسلم : لم يرو عنه غير ابنه . وفى مسند الامام أحمد عن أبى مالك قال : وسمعته يقول للقوم :"من وحد الله وكفر بما يعبد من دون الله حرم ماله ودمه وحسابه على الله عز وجل" ورواه الامام أحمد من طريق يزيد بن هارون قال أخبرنا أبو مالك الأشجعى عن أبيه . ورواه أحمد عن عبد الله بن إدريس قال : سمعت أبا مالك قال : قلت لأبى - الحديث . ورواية الحديث بهذا اللفظ تفسر : لا إله إلا الله . قوله : (من قال لا إله إلا الله وكفر يما يعبد من دون الله) اعلم أن النبى علق عصمة المال والدم فى هذا الحديث بأمرين . الأول : قول لا إله إلا الله عن علم ويقين ، كما هو قيد فى قولها فى غير ما حديث كما تقدم . والثانى : الكفر بما يعبد من دون الله ، فلم يكتف باللفظ المجرد عن المعنى ، بل لابد من قولها والعمل بها . قلت : وفيه معنى '2 : 256' "فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها" . قال المصنف رحمه الله تعالى : (وهذا من أعظم ما يبين معنى لا إله إلا الله ، فإنه لم يجعل اللفظ بها عاصمًا للدم والمال ، بل ولا معرفة معناها مع لفظها ، بل ولا الإقرار بذلك ، بل ولا كونه لا يدعو إلا الله وحده لا شريك له ، بل لا يحرم ماله ودمه حتى يضيف إلى ذلك الكفر بما يعبد من دون الله ، فإن شك أو تردد لم يحرم ماله ودمه . فيا لها من مسألة ما أجلها ويا له من بيان ما أوضحه ، وحجة ما أقطعها للمنازع) انتهى . قلت : وهذا هو الشرط المصحح لقوله : لا إله إلا الله فلا يصح قولها بدون هذا الخمس التى ذكرها المصنف رحمه الله أصلًا . قال تعالى : '8 : 39' "وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله" وقال : " فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم وخذوهم واحصروهم واقعدوا لهم كل مرصد فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم " أمر بقتالهم حتى يتوبوا من الشرك ويخلصوا أعمالهم لله تعالى، ويقيموا الصلاة ، ويؤتوا الزكاة ، فإن أبوا عن ذلك أو بعضه قوتلوا إجماعًا . وفى صحيح مسلم عن "أبى هريرة مرفوعًا أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله ، ويؤمنوا بى وبما جئت به، فإذا فعلوا ذلك عصموا منى دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله" وفى "الصحيحين عن ابن عمر قال :قال رسول الله أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة . فإذا فعلوا ذلك عصموا منى دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله" وهذان الحديثان تفسير الآيتين : آية الأنفال ، وآية براءة . وقد أجمع العلماء على أن من قال : لا إله إلا الله ولم يعتقد معناها ولم يعمل بمقتضاها . أنه يقاتل حتى يعمل بما دلت عليه من النفى والإثبات . قال أبو سليمان الخطابى رحمه الله فى قوله : أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا : لا إله إلا الله معلوم أن المراد بهذا أهل عبادة الأوثان ، دون أهل الكتاب ، لأنهم يقولون : لا إله إلا الله ثم يقاتلون ولا يرفع عنهم السيف . وقال القاضى عياض : اختصاص عصمة المال والنفس بمن قال لا إله إلا الله تعبير عن الإجابة إلى الإيمان ، وأن المراد بذلك مشركو العرب وأهل الأوثان ، فأما غيرهم ممن يقر بالتوحيد ، فلا يكتفى فى عصمته بقول لا إله إلا الله إذ كان يقولها فى كفره. انتهى ملخصًا . وقال النووى : لابد مع هذا من الإيمان بجميع ما جاء به الرسول كما جاء فى الرواية ويؤمنوا بى وبما جئت به . وقال شيخ الإسلام ، لما سئل عن قتال التتار فقال : كل طائفة ممتنعة عن التزام شرائع الإسلام الظاهرة من هؤلاء القوم أو غيرهم فإنه يجب قتالهم حتى يلتزموا شرائعه ، وإن كانوا مع ذلك ناطقين بالشهادتين وملتزمين بعض شرائعه . كما قاتل أبو بكر والصحابة رضى الله عنهم مانعى الزكاة . وعلى هذا اتفق الفقهاء بعدهم . قال : فأيما طائفة امتنعت عن بعض الصلوات المفروضات أو الصيام ، أو الحج أو عن التزام تحريم الدماء ، أو الأموال أو الخمر ، أو الميسر أو نكاح ذوات المحارم ، أو عن التزام جهاد الكفار . أو غير ذلك من التزام واجبات الدين ومحرماته التى لا عذر لأحد فى جحودها أو تركها ، التى يكفر الواحد بجحودها . فإن الطائفة الممتنعة تقاتل عليها وإن كانت مقرة بها ، وهذا مما لا أعلم فيه خلافًا بين العلماء . قال : وهؤلاء عند المحققين ليسوا بمنزلة البغاة ، بل هم خارجون عن الإسلام . انتهى . قوله : (وحسابه على الله) أي الله تبارك وتعالى هو الذى يتولى حساب الذي يشهد بلسانه بهذه الشهادة ، فإن كان صادقًا جازاه بجنات النعيم ، وإن كان منافقًا عذبه العذاب الأليم . وأما فى الدنيا فالحكم على الظاهر ، فمن أتى بالتوحيد ولم يأت بما ينافيه ظاهرًا والتزم شرائع الإسلام وجب الكف عنه . قلت : وأفاد الحديث أن الإنسان قد يقول لا إله إلا الله ولا يكفر بما يعبدون من دون الله فلم يأت بما يعصم دمه وماله كما دل على ذلك الآيات المحكمات والأحاديث . قوله : (وشرح هذه الترجمة ما بعدها من الأبواب) قلت : وأن ما بعدها من الأبواب فيه ما يبين التوحيد ويوضح معنى لا إله إلا الله وفيه أيضًا : بيان أشياء كثيرة من الشرك الأصغر والأكبر وما يوصل إلى ذلك من الغلو والبدع ، مما تركه من مضمون لا إله إلا الله فمن عرف ذلك وتحققه تبين له معنى لا إله إلا الله وما دلت عليه من الإخلاص ونفى الشرك ، وبضدها تتبين الأشياء ، فبمعرفة الأصغر من الشرك يعرف ما هو أعظم منه من الشرك الأكبر المنافى للتوحيد ، وأما الأصغر فإنما ينافى كماله ، فمن اجتنبه فهو الموحد حقًا ، وبمعرفة وسائل الشرك والنهى عنها لتجتنب تعرف الغايات التى نهى عن الوسائل لأجلها ، فإن اجتناب ذلك كله يستلزم التوحيد والإخلاص بل يقتضيه . وفيه أيضًا من أدلة التوحيد إثبات الصفات وتنزيه الرب تعالى عما لا يليق بجلاله وكل ما يعرف بالله من صفات كماله وأدلة ربوبيته يدل على أنه هو المعبود وحده ، وأن العبادة لا تصلح إلا له ، وهذا هو التوحيد ، ومعنى شهادة أن لا إله إلا الله .

من الشرك اتخاذ الحلقة والخيط ونحوهما قوله : (باب من الشرك لبس الحلقة والخيط ونحوهما ، لرفع البلاء أو دفعه) رفعه : إزالته بعد نزوله . دفعه : منعه قبل نزوله . قال : (وقول الله تعالى : '36 : 38' " قل أفرأيتم ما تدعون من دون الله إن أرادني الله بضر هل هن كاشفات ضره أو أرادني برحمة هل هن ممسكات رحمته ") . قال ابن كثير : أي لا تستطيع شيئًا من الأمر (قل حسبى الله) أي الله كافى من توكل عليه (عليه يتوكل المتوكلون) كما قال هود عليه السلام حين قال قومه '11 : 54 - 56' " إن نقول إلا اعتراك بعض آلهتنا بسوء قال إني أشهد الله واشهدوا أني بريء مما تشركون * من دونه فكيدوني جميعا ثم لا تنظرون * إني توكلت على الله ربي وربكم ما من دابة إلا هو آخذ بناصيتها إن ربي على صراط مستقيم " قال مقاتل فى معنى الآية : فسألهم النبى صلى اله عليه وسلم فسكتوا . أي لأنهم لا يعتقدون ذلك فيها. وإنما كانوا يدعونها على معنى أنها وسائط وشفعاء عند الله ، لا على أنهم يكشفون الضر ، ويجيبون دعاء المضطر، فهم يعلمون أن ذلك لله وحده . كما قال تعالى : '16 : 53 ، 54' " ثم إذا مسكم الضر فإليه تجأرون * ثم إذا كشف الضر عنكم إذا فريق منكم بربهم يشركون " . قلت : فهذه الآية وأمثالها تبطل تعلق القلب بغير الله فى جلب أو دفع ضر ، وأن ذلك شرك بالله . وفى الآية بيان أن الله تعالى وسم أهل الشرك بدعوة غير الله والرغبة إليه من دون الله . والتوحيد ضد ذلك . وهو أن لا يدعو إلا الله ، ولا يرغب إلا إليه ، ولا يتوكل إلا عليه ، وكذا جميع أنواع العبادة لا يصلح منها شئ لغير الله . كما دل على ذلك الكتاب والسنة وإجماع سلف الأمة وأئمتها كما تقدم .

حديث عمران بن حصين في تعليق الحلقة وأنها لا تزيد صاحبها إلا وهناص قال : ("وعن عمران بن حصين أن النبى رأى رجلًا فى يده حلقة من صفر فقال : ما هذه ؟ قال: من الواهنة. قال : انزعها فإنها لا تزيدك إلا وهنًا ، فإنك لو مت وهى عليك ما أفلحت أبدًا " رواه أحمد بسند لا بأس به) . قال الإمام أحمد : حدثنا خلف بن الوليد حدثنا المبارك عن "الحسن قال : أخبرنى عمران بن حصين أن النبى أبصر على عضد رجل حلقة - قال أراها من صفر - فقال : ويحك ما هذه ؟ قال : من الواهنة . قال : أما إنها لا تزيدك إلا وهنًا . انبذها عنك فإنك لو مت وهي عليك ما أفلحت أبدًا " رواه ابن حبان في صحيحه فقال : فإنك لو مت وكلت إليها والحاكم وقال: صحيح الإسناد ، وأقره الذهبي ، وقال الحاكم : أكثر مشايخنا على أن الحسن سمع من عمران ، وقوله في الإسناد : أخبرني عمران يدل على ذلك . قوله (عن عمران بن حصين) أي ابن عبيد خلف الخذاعي ، أبو نجيد -بنون وجيم- مصغر ، صحابي عن صحابي ، أسلم عام خيبر، ومات سنة اثنتين وخمسين بالبصرة . قوله (رأى رجلًا) في رواية الحاكم دخلت على رسول الله وفي عضدي حلقة صفر ، فقال : ما هذه الحديث فالمبهم في رواية أحمد هو عمران راوي الحديث . قوله (ما هذه) يحتمل أن الاستفهام للاستفسار عن سبب لبسها ، ويحتمل أن يكون للإنكار وهو أشهر . قوله : (من الواهنة) قال أبو السعادات : الواهنة عرق يأخذ في المنكب واليد كلها ، فيرقى منها ، وقيل هو مرض يأخذ في العضد ، وهي تأخذ الرجال دون النساء وإنما نهى عنها لأنه إنما اتخذها على أنها تعصمه من الألم ، وفيه اعتبار المقاصد . قوله(انزعها فإنها لا تزيدك إلا وهنًا) النزع هو الجذب بقوة ، أخبر أنها لا تنفعه بل تضره وتزيده ضعفًا ، وكذلك كل أمر نهى عنه فإنه لا ينفع غالبًا وإن نفع بعضه فضره أكبر من نفعه . قوله (فإنك لو مت وهو عليك ما أفلحت أبدًا) لأنه شرك ، والفلاح هو الفوز والظفر والسعادة . قال المصنف رحمه الله تعالى : ( فيه شاهد لكلام الصحابة : إن الشرك الأصغر أكبر الكبائر ، وأنه لم يعذر بالجهالة . وفيه الإنكار بالتغليظ على من فعل مثل ذلك ) . قوله : ( رواه أحمد بسند لا بأس به ) هو الإمام أحمد بن حنبل بن هلال ابن أسد بن إدريس بن عبد الله بن حسان بن عبد الله بن أنس بن عوف بن قاسط بن مازن ابن شيبان بن ذهل بن ثعلبة بن عكابة بن صعب بن علي بن بكر بن وائل بن قاسط بن هنب بن أفصى بن دعمى بن جديلة بن أسعد بن ربيعة بن نزار بن معد بن عدنان _ الإمام العالم أبو عبد الله الذهلي ثم الشيباني المروزي ثم البغدادي ، إمام أهل عصره وأعلمهم بالفقه والحديث ، وأشدهم ورعًا ومتابعة للسنة ، وهو الذي يقول فيه بعض أهل السنة : عن الدنيا ما كان أصبره ، وبالماضين ما كان أشبهه ، أتته الدنيا فأباها ، والشبه فنفاها ، خرج به من مرو وهو حمل فولد ببغداد سنة أربع وستين ومائة في شهر ربيع الأول . وطلب أحمد العلم سنة وفاة مالك ، وهي سنة تسع وسبعين فسمع من هشيم وجرير بن عبد الحميد وسفيان بن عيينة ومعتمر بن سليمان ويحيى بن سعيد القطان ومحمد بن إدريس الشافعي ويزيد بن هرون وعبد الرزاق وعبد الرحمن بن مهدي وخلق لا يحصون بمكة والبصرة والكوفة وبغداد واليمن وغيرها من البلاد . روى عنه ابناه صالح وعبد الله ، والبخاري ومسلم وأبو داود وإبراهيم الحربي وأبو زرعة الرازي وأبو زرعة الدمشقي وعبد الله بن أبي الدنيا وأبو بكر الأثرم وعثمان بن سعيد الدارمي وأبو القاسم البغوى ، وهو آخر من حدث عنه ، وروى عنه من شيوخه عبد الرحمن بن مهدي والأسود بن عامر ، ومن أقرانه علي المديني ويحيى بن معين . قال البخاري : مرض أحمد لليلتين خلتا من ربيع الأول ومات يوم الجمعة لاثنتي عشرة خلت منه ، وقال حنبل : مات يوم الجمعة في ربيع الأول سنة إحدى وأربعين ومائتين وله سبع وسبعون سنة . وقال ابنه عبد الله والفضل بن زياد : مات في ثاني عشر ربيع الآخر رحمه الله تعالى .

حديث من تعلق تميمة فلا أتم الله له إلخ قوله : ( وله عن عقبة بن عامر مرفوعًا من تعلق تميمة فلا أتم الله له ، ومن تعلق ودعة فلا ودع الله له وفي رواية : من تعلق تميمة فقد أشرك ) الحديث الأول رواه الإمام أحمد كما قال المصنف ، ورواه أيضًا أبو يعلى والحاكم وقال : صحيح الإسناد وأقره الذهبى . قوله : (وفى رواية) أي من حديث آخر رواه أحمد فقال : حدثنا عبد الصمد بن عبد الوارث حدثنا عبد العزيز بن مسلم حدثنا يزيد بن أبي منصور عن دجين الحجرى عن عقبة بن عامر الجهنى "أن رسول الله أقبل إليه رهط فبايع تسعة وأمسك عن واحد ، فقالوا يا رسول الله ، بايعت تسعة وأمسكت عن هذا ؟ فقال : إن عليه تميمة فأدخل يده فقطعها ، فبايعه وقال : من تعلق تميمة فقد أشرك" ورواه الحاكم ونحوه . ورواته ثقات . قوله : (عن عقبة بن عامر) صحابى مشهور فقيه فاضل ، ولى إمارة مصر لمعاوية ثلاث سنين ومات قريبًا من الستين . قوله : (من تعلق تميمة) أي علقها متعلقًا بها قلبه فى طلب خير أو دفع شر ، قال المنذري : خرزة كانوا يعلقونها يرون أنها تدفع عنهم الآفات ، وهذا جهل وضلالة ، إذ لا مانع ولا دافع غير الله تعالى . وقال أبو السعادات : التمائم جمع تميمة وهى خرزات كانت العرب تعلقها على أولادهم يتقون بها العين ، فى زعمهم ، فأبطلها الإسلام . قوله : (فلا أتم الله له) دعاء عليه . قوله : (ومن تعلق ودعة) بفتح الواو وسكون المهملة . قال فى مسند الفردوس : شئ يخرج من البحر يشبه الصدف يتقون به العين . قوله : (فلا ودع الله له) بتخفيف الدال ، أي لا جعله في دعة وسكون ، قال أبو السعادات وهذا دعاء عليه . قوله : ( وفي رواية : من تعلق تميمة فعد أشرك ) قال أبو السعادات : إنما جعلها شركًا لأنهم أرادوا دفع المقادير المكتوبة عليهم ، وطلبوا دفع الأذى من غير الله الذي هو دافعه . قال المصنف رحمه الله (ولابن أبي حاتم عن حذيفة ) أنه رأى رجلًا في يده خيط من الحمى ، فقطعه ، وتلا قوله تعالى : [ 12 : 106 ] " وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون " . قال ابن أبي حاتم : حدثنا محمد بن الحسين بن إبراهيم بن أشكاب حدثنا يونس بن محمد حدثنا حماد بن سلمة عن عاصم الأحول عن عروة قال : دخل حذيفة على مريض ، فرأى في عضده سيرًا فقطعه أو انتزعه . ثم قال : " وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون " . وابن أبي حاتم هو الإمام أبو محمد عبد الرحمن بن أبي حاتم محمد بن إدريس الرازي التميمي الحنظلي الحافظ ، صاحب الجرح والتعديل والتفسير وغيرهما مات سنة سبع وعشرين وثلاثمائة . وحذيفة هو ابن اليمان . واسم اليمان : حسيل بمهملتين مصغرًا ، ويقال حسل - بكسر ثم سكون - العبسي بالموحدة ، حليف الأنصار ، صحابي جليل من السابقين ويقال له صاحب السر وأبوه أيضًا صحابي ، مات حذيفة في أول خلافة علي رضي الله عنه سنة ست وثلاثين . قوله : ( رأى رجلًا في يده خيط من الحمى ) أي عن الحمى . وكان الجهال يعلقون التمائم والخيوط ونحوها لدفع الحمى وروى وكيع عن حذيفة : أنه دخل على مريض يعوده فلمس عضده ، فإذا فيه خيط ، فقال : ما هذا ؟ قال : شئ رقى لي فيه ، فقطعه وقال : لو مت وهو عليك ما صليت عليك وفيه إنكار مثل هذا ، وإن كان يعتقد أنه سبب ، فالأسباب لا يجوز منها إلا ما أباحه الله تعالى ورسوله مع عدم الاعتماد عليها . وأما التمائم والخيوط والحروز والطلاسم ونحو ذلك مما يعلقه الجهال فهو شرك يجب إنكاره وازالته بالقول والفعل ، وإن لم يأذن فيه صاحبه . قوله : (وتلا قوله : "وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون" استدل حذيفة رضي الله عنه بالآية على أن هذا شرك . ففيه صحة الاستدلال على الشرك الأصغر بما أنزله الله فى الشرك الأكبر ، لشمول الآية ودخوله فى مسمى الشرك ، وتقدم معنى هذه الآية عن ابن عباس وغيره فى كلام شيخ الإسلام وغيره . والله أعلم . وفى هذه الآثار عن الصحابة : ما يبين كمال علمهم بالتوحيد وما ينافيه أو ينافى كماله .

باب ما جاء في الرقي والتمائم قوله : (باب ما جاء فى الرقى والتمائم) أي من النهي وما ورد عن السلف في ذلك . قوله : (وفي الصحيح عن أبي بشير الأنصاري أنه كان مع النبي في بعض أسفاره فأرسل رسولًا : أن لا يبقين فى رقبة بعير قلادة من وتر أو قلادة إلا قطعت) هذا الحديث فى الصحيحين . قوله : (عن أبى بشير) بفتح أوله وكسر المعجمة ، قيل اسمه قيس بن عبيد قاله ابن سعد . وقال ابن عبد البر : لا يوقف له على اسم صحيح ، هو صحابى شهد الخندق ومات بعد الستين . ويقال : إنه جاوز المائة . قوله : (فى بعض أسفاره) قال الحافظ : لم أقف على تعيينه . قوله : (فأرسل رسولًا) هو زيد بن حارثة . روى ذلك الحارث بن أبى أسامة فى مسنده قاله الحافظ . قوله : (أن لا يبقين) بالمثناة التحتية والقاف المفتوحتين وقلادة مرفوع على أنه فاعل و الوتر بفتحتين ، وأحد أوتار القوس . وكان أهل الجاهلية إذا اخلولق الوتر أبدلوه بغيره وقلدوا به الدواب إعتقادًا منهم أنه يدفع عن الدابة العين . قوله : (أو قلادة إلا قطعت) معناه : أن الراوى شك هل قال شيخه : قلادة من وتر أو قال : قلادة وأطلق ولم يقيده ؟ ويؤيد الأول ما روى عن مالك أنه سئل عن القلادة ؟ فقال : ما سمعت بكراهتها إلا فى الوتر . ولأبى داود ولا قلادة بغير شك . قال البغوى فى شرح السنة : تأول مالك أمره عليه الصلاة والسلام بقطع القلائد على أنه من أجل العين وذلك أنهم كانوا يشدون الأوتار والتمائم ويعلقون عليها العوذ ، يظنون أنها تعصمهم من الآفات . فنهاهم النبى عنها وأعلمهم أنها لا ترد من أمر الله شيئًا . قال أبو عبيد : كانوا يقلدون الإبل الأوتار ، لئلا تصيبها العين ، فأمرهم النبى بإزالتها إعلامًا لهم بأن الأوتار لا ترد شيئًا . وكذا قال إبن الجوزى وغيره . قال الحافظ : ويؤيده حديث عقبة بن عامر ، رفعه من تعلق تميمة فلا أتم الله له رواه أبو داود . وهى ما علق من القلائد خشية العين ونحو ذلك . انتهى .

حديث ابن مسعود : الرقي والتمائم والتولة شرك قال المصنف : "(وعن ابن مسعود : سمعت رسول الله يقول : إن الرقى والتمائم والتولة شرك رواه أحمد وأبو داود) ". وفيه قصة ، ولفظ أبى داود : عن "زينب امرأة عبد الله بن مسعود قالت : إن عبد الله رأى فى عنقى خيطًا فقال : ما هذا ؟ قلت : خيط رقى لى فيه . قالت : فأخذه ثم قطعه ، ثم قال : أنتم آل عبد الله لأغنياء عن الشرك سمعت رسول الله يقول : إن الرقى والتمائم والتولة شرك . فقلت : لقد كانت عينى تقذف ، وكنت أختلف إلىفلان اليهودي ، فاذا رقى في سكنت. فقال عبد الله : إنما ذلك عمل الشيطان ، كان ينخسها بيده ، فإذا كف عنها . إنما كان يكفيك أن تقولي كما كان رسول الله يقول : أذهب البأس ، رب البأس ، واشف أنت الشافى ، لا شفاء إلا شفاؤك شفاء لا يغادر سقمًا" ورواه ابن ماجه وابن حبان والحاكم وقال : صحيح ، وأقره الذهبى . قوله : (إن الرقى) قال المصنف : (هى التى تسمى العزائم ، وخص منه الدليل ما خلا من الشرك ، ففد رخص فيه رسول الله من العين والحمة) يشير إلى أن الرقى الموصوفة بكونها شركًا هى التى يستعان فيها بغير الله ، وأما إذا لم يذكر فيها إلا بأسماء الله وصفاته وآياته ، والمأثور عن النبى ، فهذا حسن جائز أو مستحب . قوله (فقد رخص فيه رسول الله من العين والحمة) كما تقدم ذلك فى باب من حقق التوحيد . وكذا رخص فى الرقى من غيرها ، كما فى صحيح مسلم عن "عوف بن مالك : كنا نرقى فى الجاهلية ، فقلنا يا رسول الله كيف ترى فى ذلك ؟ فقال : اعرضوا علي رقاكم . لا بأس بالرقى ما لم تكن شركًا" وفى الباب أحاديث كثيرة . قال الخطابى: وكان عليه السلام قد رقى ورقى ، وأمر بها وأجازها ، فإذا كانت بالقرآن وبأسماء الله فهى مباحة أو مأمور بها ، وإنما جاءت الكراهة والمنع فيما كان منها بغير لسان العرب ، فإنه ربما كان كفرًا أو قولًا يدخله شرك . قلت : من ذلك ما كان على مذاهب الجاهلية التى يتعاطونها ، وأنها تدفع عنهم الآفات ويعتقدون أن ذلك من قبل الجن ومعونتهم . وبنحو هذا ذكر الخطابى . وقال شيخ الإسلام : كل اسم مجهول فليس لأحد أن يرقى به فضلًا أن يدعو به ، ولو عرف معناه : لأنه يكره الدعاء بغير العربية، وإنما يرخص لمن لا يحسن العربية ، فأما جعل الألفاظ الأعجمية شعارًا فليس من دين الإسلام . وقال السيوطى : قد أجمع العلماء على جواز الرقى عند اجتماع ثلاث شروط : أن تكون بكلام الله أو بأسمائه وصفاته ، وباللسان العربى : ما يعرف معناه ، وأن يعتقد أن الرقية لا تؤثر بذاتها بل بتقدير الله تعالى . قوله : (والتمائم) قال المصنف : (شئ يعلق على الأولاد من العين) وقال الخلخالى : التمائم جمع تميمة وهى ما يعلق بأعناق الصبيان من خرزات وعظام لدفع العين ، وهذا منهى عنه . لأنه لا دافع إلا الله ، ولا يطلب دفع المؤذيات الا بالله وبأسمائه وصفاته . قال المصنف : (لكن إذا كان المعلق من القرآن فرخص فيه بعض السلف . وبعضهم لم يرخص فيه ويجعله من المنهى عنه . منهم ابن مسعود) . اعلم أن العلماء من الصحابة والتابعين فمن بعدهم اختلفوا فى جواز تعليق التمائم التى من القرآن أسماء الله وصفاته ، فقالت طائفة يجوز ذلك ، وهو قول عبد الله بن عمرو بن العاص وهو ظاهر ما روى عن عائشة . وبه قال أبو جعفر الباقر وأحمد فى رواية . وحملوا الحديث على التمائم التى فيها شرك . وقالت طائفة لا يجوز ذلك . وبه قال ابن مسعود وابن عباس . وهو ظاهر قول حذيفة وعقبة بن عامر وابن عكيم ، وبه قال جماعة من التابعين ، منهم أصحاب ابن مسعود وأحمد فى رواية اختارها كثير من أصحابه ، وحزم بها المتأخرون ، واحتجوا بهذا الحديث وما فى معناه . قلت : هذا هو الصحيح لوجوه ثلاثة تظهر للمتأمل : الأول : عموم النهى ولا مخصص للعموم . الثانى : سد الذريعة ، فإنه يفضى إلى تعليق ما ليس كذلك . الثالث : أنه إذا علق فلابد أن يمتهنه المتعلق بحمله معه فى حال قضاء الحاجة والاستنجاء ونحو ذلك .

وتأمل هذه الأحاديث وما كان عليه السلف رضى الله تعالى عنهم يتبين لك بذلك غربة الإسلام ، خصوصًا إن عرفت عظيم ما وقع فيه الكثير بعد القرون المفضلة من تعظيم القبور واتخاذ المساجد عليها والإقبال إليها بالقلب والوجه ، وصرف جل الدعوات والرغبات والرهبات وأنواع العبادات التى هى حق الله تعالى إليها من دونه ، كما قال تعالى '10 : 106 ، 107' " ولا تدع من دون الله ما لا ينفعك ولا يضرك فإن فعلت فإنك إذا من الظالمين * وإن يمسسك الله بضر فلا كاشف له إلا هو وإن يردك بخير فلا راد لفضله يصيب به من يشاء من عباده وهو الغفور الرحيم " ونظائرها فى القرآن أكثر من أن تحصر .

قوله : (التولة) ، قال المصنف : (هى شئ يصنعونه يزعمون أنه يحبب المرأة إلى زوجها والرجل إلى امرأته وبهذا فسرها ابن مسعود راوي الحديث : كما فى صحيح ابن حبان والحاكم قالوا : يا أبا عبد الرحمن، هذه الرقى والتمائم قد عرفناها فما التولة؟ قال : شئ نصنعه للنساء يتحببن به إلى أزواجهن . قال الحافظ : التولة : بكسر المثناة وفتح الواو واللام مخففًا - شيئًا كانت المرأة تجلب به محبة زوجها ، وهو ضرب من السحر ، والله أعلم . وكان من الشرك لما يراد به من دفع المضار وجلب المنافع من غير الله تعالى .

حديث : من تعلق شيئًا وكل إليه قال المصنف : (وعن عبد الله بن عكيم مرفوعًا من تعلق شيئًا وكل إليه رواه أحمد والترمذي) ورواه ابو داود والحاكم ، وعبد الله بن عكيم هو بضم المهملة مصغرًا ، ويكنى أبا معبد ، الجهني الكوفي . قال البخاري : أدرك زمن النبي ولا يعرف له سماع صحيح وكذا قال أبو حاتم . قال الخطيب سكن الكوفة وقدم المدائن في حياة حذيفة وكان ثقة ، وذكر ابن سعد من غيره أنه مات في ولاية الحجاج . قوله : (ومن تعلق شيئًا وكل إليه) التعلق يكون بالقلب ، ويكون بالفعل ، ويكون بهما وكل إليه أي وكله الله إلى ذلك الشئ الذي تعلقه فمن تعلق بالله وأنزل حوائجه إليه والتجأ إليه ، وفوض أمره إليه ، وكفاه وقرب إليه كل بعيد ويسر له كل عسير ، ومن تعلق بغيره أو سكن إلى رأيه وعقله ودوائه وتمائمه ونحو ذلك ، وكله الله إلى ذلك وخذله ، وهذا معروف بالنصوص والتجارب . قال تعالى '65 : 3' "ومن يتوكل على الله فهو حسبه" . قال الإمام أحمد : حدثنا هشام بن القاسم حدثنا أبو سعيد المؤدب حدثنا من سمع عطاء الخرساني قال : لقيت وهب بن منبه وهو يطوف بالبيت فقلت : حدثني حديثًا أحفظه عنك في مقامي هذا وأوجز . قال : نعم ، اوحى الله تبارك وتعالى إلى داود : يا داود، وأما عزتي وعظمتي لا يعتصم بي عبد من عبادي دون خلقي أعرف ذلك من نيته ، فتكيده السموات السبع ومن فيهن والأرضون السبع ومن فيهن إلا جعلت له بينهن مخرجًا وأما عزتي وعصمتي لا يعتصم عبد من عبادي بمخلوق دوني أعرف ذلك من نيته ، إلا قطعت أسباب السماء من يده وأسخت الأرض من تحت قدميه ثم لا أبالى بأي أوديتها هلك.

حديث رويفع من تقلد وترًا فإن محمدًا منه بريء قال المصنف : وروى الإمام أحمد عن رويفع قال : قال رسول الله " يا رويفع ، لعل الحياة ستطول بك ، فأخبر الناس أن من عقد لحيته أو تقلد وترًا أو استنجى برجيع دابة أو عظم ، فإن محمدًا بريء منه " . الحديث رواه الإمام أحمد عن يحيى بن إسحاق والحسن بن موسى الأشيب كلاهما عن ابن لهيعة . وفيه قصة اختصرها المصنف . وهذا لفظ حسن : حدثنا ابن لهيعة حدثنا عياش بن عباس عن شييم بن بيتان قال : حدثنا رويفع بن ثابت قال : كان رسول الله يأخذ جمل أخيه على أن يعطيه النصف مما غنم وله النصف ، حتى إن أحدنا ليصير له النصل والريش وللآخر القدح . ثم قال لي رسول الله ... الحديث . ثم رواه أحمد بن يحيى بن غبلان حدثنى الفضل عياش بن عباس أن شييم بن بيتان أخبره أنه سمع شييان القتباني - الحديث . ابن لهيعة فيه مقال . وفي الإسناد الثاني شيبان القتبانى ، قيل فيه مجهول . وبقية رجالهما ثقات . قوله : (فأخبر الناس) دليل على وجوب إخبار الناس ، وليس هذا مختصًا برويفع ، بل كل من كان عنده علم ليس عند غيره مما يحتاج إليه الناس وجب إعلامهم به ، فإن إشترك هو وغيره في علم ذلك فالتبليغ فرض كفاية . قاله أبو زرعة في شرح سنن أبي داود . قوله : (لعل الحياة ستطول بك) فيه علم من أعلام النبوة ، فإن رويفعًا طالت حيا ته إلى سنة ست وخمسين فمات ببرقة من أعمال مصر أميرًا عليها ، وهو من الأنصار . وقيل مات سنة ثلاث وخمسين . قوله : (إن من عقد لحيته) بكسر اللام لا غير ، والجمع لحى بالكسر والضم قاله الجوهري . قال الخطابي : أما نهيه عن عقد اللحية فيفسر على وجهين . أهدهما : ما كانوا يفعلونه في الحرب ، كانوا يعقدون لحاهم ، وذلك من زى بعض الأعاجم يفتلونها ويعقدونها. قال أبو السعادات: تكبرًا وعجبًا . ثانيهما : أن معناه معالجة الشعر ليتعقد ويتجعد ، وذلك من فعل أهل التأنيث وقال أبو زرعة بن العراقى : والأولى حمله على عقد اللحية في الصلاة ، كما دلت عليه رواية محمد بن الربيع . وفيه أن من عقد لحيته في الصلاة . قوله : أو تقلد وترًا أي جعله قلادة في عنقه أو عنق دابته . وفي رواية محمد بن الربيع أو تقلد وترًا ـ يريد تميمة . فإذا كان هذا فيمن تقلد وترًا فكيف بمن تعلق بالأموات وسألهم قضاء الحاجات ، وتفريج الكربات ، الذي جاء النهى عنه وتغليظه في الآيات المحكمات ؟ قوله : أو استنجى برجيع دابة أو عظم فإن محمدًا بريء منه قال لنووي: أي بريء من فعله ، وهذا خلاف الظاهر . والنووي كثيرًا ما يتأول الأحاديث بصرفها عن ظاهرها فيغفر الله تعالى له . وفي صحيح مسلم عن ابن مسعود رضي الله عنه مرفوعًا : " لا تستنجوا بالروث ولا العظام فإنه زاد إخوانكم من الجن " وعليه لا يجزى الاستنجاء بهما كما هو ظاهر مذهب أحمد ، لما روى ابن خزيمة والدارقطني عن أبي هريرة : " أن النبي نهى أن يستنجي بعظم أو روث ، وقال : إنهما لا يطهران " . قوله : (وعن سعيد بن جبير قال : " من قطع تميمة من إنسان كان كعدل رقبة " رواه وكيع) هذا عند أهل العلم له حكم الرفع ، لأن مثل ذلك لا يقال بالرأي ويكون هذا مرسلًا لأن سعيدًا تابعى . وفيه فضل قطع التمائم لأنها شرك . ووكيع هو ابن الجراح ابن وكيع الكوفى ، ثقة إمام ، صاحب تصانيف منها الجامع وغيره . روى عنه الإمام أحمد وطبقته . مات سنة سبع وتسعين ومائة . قوله : وله عن إبراهيم قال : كانوا يكرهون التمائم كلها من القرآن وغير القرآن وإبراهيم هو الإمام بن يزيد النخعى الكوفي ، يكنى أبا عمران ثقة من كبار الفقهاء . قال المزى : دخل على عائشة ، ولم يثبت له سماع منها . مات سنة ست وتسعين ، وله خمسون سنة أو نحوها . قوله : كانوا يكرهون التمائم إلى آخره ، مراده بذلك أصحاب عبد الله بن مسعود ، كعلقمة والأسود وأبي وائل والحارث بن سويد ، وعبيد السلمانى ومسروق والربيع بن خثيم ، وسويد بن غفلة وغيرهم ، وهو من سادات التابعين وهذه الصيغة يستعملها إبراهيم من حكاية أقوالهم كما بين ذلك الحفاظ العراقى وغيره .

باب من تبرك بشجرة ونحوهها قوله : ( باب من تبرك بشجر أو حجر ونحوهما) كبقعة وقبر ونحو ذلك ، أي فهو مشرك . قوله : وقوله الله تعالى : '53 : 19 -23 ' " أفرأيتم اللات والعزى * ومناة الثالثة الأخرى " (الآيات) وكانت اللات لثقيف ، والعزى لقريش وبنى كنانة ، ومناة لبنى هلال . وقال ابن هشام : كانت لهذيل وخزاعة . فأما اللات فقرأ الجمهور بتخفيف التاء ، وقرأ ابن عباس وابن الزبير ومجاهد وحمدي وأبو صالح ورويس بتشديد التاء . فعلى الأولى قال الأعمش : سموا اللات من الإله ، والعزى من العزيز . قال ابن جرير : وكانوا قد اشتقوا اسمها من الله تعالى ، قالوا : اللات مؤنثة منه ، تعالى الله عن قولهم علوًا كبيرًا قال : وكذا العزى من العزيز . وقال ابن كثير : اللات كانت صخرة بيضاء منقوشة عليها بيت الطائف له أستار وسدنة وحوله فناء معظم عند أهل الطائف ، وهم ثقيف ومن تبعها يفتخرون به على من عداهم من أحياء العرب بعد قريش ، قال ابن هشام : فبعث رسول الله المغيرة بن شعبة فهدمها وحرقها بالنار . وعلى الثانية قال ابن عباس : كان رجلًا يلت السويق للحاج ، فما مات عكفوا على قبره ذكره البخاري قال ابن عباس : كان يبيع السويق والسمن عند صخرة ويسلؤه عليها ، فلما مات ذلك الرجل عبدت ثقيف تلك الصخرة إعظامًا لصاحب السويق وعن مجاهد نحوه وقال : فلما مات عبدوه رواه سعيد بن منصور . وكذا روى ابن أبي حاتم عن ابن عباس أنهم عبدوه وبنحو هذا قال جماعة من أهل العلم . قلت : لا منافاة بين القولين . فإنهم عبدوا الصخرة والقبر تأليهًا وتظيمًا . ولمثل هذا بنيت المشاهد والقباب على القبور واتخذت أوثانًا . وفيه بيان أن أهل الجاهلية كانوا يعبدون الصالحين والأصنام . وأما العزى فقال ابن جرير : كانت شجرة عليها بناء وأستار بنخلة ـ بين مكة والطائف ـ كانت قريش يعظمونها ... كما قال أبو سفيان يوم أحذ : لنا العزى ولاعزى لكم فقال رسول الله " قولوا : الله مولانا ولا مولى لكم " وروى النسائي وابن مردوية عن أبي الطفيل قال : لما فتح رسول الله مكة بعث خالد بن الوليد إلى نخلة ـ وكانت بها العزى ، وكانت على ثلاث سمرات ـ فقطع السمرات ، وهدم البيت الذي كان عليها. ثم أتى النبي فأخبره. فقال ارجع فإنك لم تصنع شيئًا ، فرجع خالد ، فلما أبصرته السدنة أمعنوا في الجبل وهم يقولون : يا عزى يا عزى ، فأتاها خالد فإذا امرأة عريانة ناشرة شعرها تحفن التراب على رأسها فعمها بالسيف فقتلها ثم رجع إلى رسول الله فأخبره . فقال : تلك العزى قلت : وكل هذا وما هو أعظم منه يقع في هذه الأزمنة عند ضرائح الأموات وفي المشاهد . وأما مناة فكانت بالمشلل عند قديد ، بين مكة والمدينة ، وكانت خزاعة والأوس والخزرج يعظمونها ويهلون منها للحج ، وأصل اشتقاقها : من إسم الله المنان ، وقيل : لكثرة ما يمنى ـ أي يراق ـ عندها من الدماء للتبرك بها . قال البخاري رحمه الله ، في حديث عروة عن عائشة رضي الله عنها : إنها صنم بين مكة والمدينة قال ابن هشام : فبعث رسول الله عليًا فهدمها عام الفتح فمعنى الآية كما قال القرطبي : أن فيها حذفًا تقديره : أفرأيتم هذه الآلهة ، أنفعت أو ضرت ، حتى تكون شركاء لله تعالى ؟ وقوله : " ألكم الذكر وله الأنثى " قال ابن كثير : تجعلون له ولدًا وتجعلون ولده أنثى وتختارون لكم الذكور ؟ قوله : " تلك إذا قسمة ضيزى " أي جور وباطلة . فكيف تقاسمون ربكم هذه القسمة التي لو كانت بين مخلوقين كانت جورًا وسفهًا فتنزهون أنفسكم عن الإناث وتجعلونهن لله تعالى . وقوله : " إن هي إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم " أي من تلقاء أنفسكم " ما أنزل الله بها من سلطان " أي من حجة " إن يتبعون إلا الظن " أي ليس لهم مستند إلا حسن ظنهم بآبائهم الذين سلكوا هذا المسلك الباطل قبلهم " وما تهوى الأنفس " وإلا حظ أنفسهم في رياستهم وتعظيم آبائهم الأقدمين . قوله : " ولقد جاءهم من ربهم الهدى " قال ابن كثير : ولقد أرسل الله تعالى إليهم الرسل بالحق المنير والحجة القاطعة ، ومع هذا ما اتبعوا ما جاءوهم به ولا انقادوا له ا هـ . ومطابقة الآيات للترجمة من جهة أن عباد هذه الأوثان إنهم كانوا يعتقدون حصول البركة منها بتعظيمها ودعائها والاستعانة بها والاعتماد عليها في حصول ما يرجونه منها ويؤملونه ببركتها وشفاعتها وغير ذلك ، فالتبرك بقبور الصالحين كاللات ، وبالأشجار كالعزى ومناة من ضمن فعل أولئك المشركين مع تلك الأوثان ، فمن فعل مثل ذلك واعتقد في قبر أو حجر أو شجر فقد ضاهى عباد هذه الأوثان فيما كانوا يفعلونه معها من هذا الشرك ، على أن الواقع من هؤلاء المشركين مع معبوديهم أعظم مما وقع من أولئك . فالله المستعان .

حديث أبي واقد الليثي في ذات أنواط قوله : عن أبي واقد الليثي قال : " خرجنا مع رسول الله إلى حنين ، ونحن حدثاء عهد بكفر ، وللمشركين سدرة يعكفون عندها وينوطون بها أسلحتهم ، يقال لها ذات أنواط فمررنا بسدرة ، فقلنا يا رسول الله ، اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط ، فقال رسول الله  : الله أكبر إنها السنن قلتم والذي نفسي بيده كما قالت بنو إسرائيل لموسى " اجعل لنا إلهًا كما لهم آلهة قال إنكم قوم تجهلون " لتركبن سنن من كان قبلكم " رواه الترمذي وصححه . أبو واقد إسمه الحارث بن عوف ، وفي الباب عن أبي سعيد وأبي هريرة قاله الترمذي وقد رواه أحمد وأبو يعلى وابن أبي شيبة والنسائي وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني بنحوه . قوله : عن أبي واقد قد تقدم ذكر إسمه في قول الترمذي وهو صحابي مشهور مات سنة ثمان وستين وثمانون سنة . قوله : خرجنا مع رسول الله إلى حنين وفي حديث عمرو بن عوف وهو عند ابن أبي حاتم وابن مردويه والطبراني . قال غزونا مع رسول الله يوم الفتح ، ونحن ألف ونيف حتى إذا كنا بين حنين والطائف ـ الحديث. قوله : ونحن حدثاء عهد بكفر أي قريب عهدنا بالكفر ، ففيه دليل على أن غيرهم ممن تقدم إسلامه من الصحابة لا يجهل هذا وأن المنتقل من الباطل الذي اعتاده قبله لا يأمن أن يكون في قلبه بقية من تلك العادة . ذكره المصنف رحمه الله . قول : وللمشركين سدرة يعكفون عندها العكوف هو الإقامة على الشئ في المكان ، ومنه قول الخليل عليه السلام : '21 : 52' " ما هذه التماثيل التي أنتم لها عاكفون " وكان عكوف المشركين عند تلك السدرة تبركًا بها وتعظيمًا لها وفي حديث عمرو كان يناط بها السلاح فسميت ذات أنواط وكانت تعبد من دون الله . قوله : وينوطون بها أسلحتهم أي يعلقونها عليها للبركة . قلت : ففي هذا بيان أن عبادتهم لها بالتعظيم والعكوف والتبرك ، وبهذه الأمور الثلاثة عبدت الأشجار ونحوها . قوله : فقلنا : يا رسول الله اجعل لنا ذات أنواط قال أبو السعادات : سألوه أن يجعل لهم مثلها فنهاهم عن ذلك . وأنواط جمع نوط وهو مصدر سمى بها المنوط . ظنوا أن هذا أمر محبوب عند الله وقصدوا التقرب به ، وإلا فهم أجل قدرًا من أن يقصدوا مخالفة النبي . قوله : فقال رسول الله الله أكبر وفي رواية سبحان الله والمراد تعظيم الله تعالى وتنزييه عن هذا الشرك بأي نوع كان ، مما لا يجوز أن يطلب أو يقصد به غير الله وكان النبي يستعمل التكبير والتسبيح في حال التعجب تعظيمًا لله وتنزيهًا له إذا سمع من أحد ما لا يليق بالله مما فيه هضم للربوبية أو الإلهية . قوله : إنها السنن بضم السين أي الطرق . قوله : قلتم والذي نفسي بيده كما قالت بنو إسرائيل لموسى " اجعل لنا إلهًا كما لهم آلهة " شبه مقالتهم هذه بقول بني إسرائيل ، بجامع أن كلًا طلب أن يجعل له ما يألهه ويعبده من دون الله ، وإن اختلف اللفظان . فالمعنى واحد ، فتغيير الاسم لا يغير الحقيقة . ففيه الخوف من الشرك ، وأن الإنسان قد يستحسن شيئًا يظن أنه يقربه إلى الله ، وهو أبعد ما يبعده من رحمته ويقرهب من سخطه ، ولا يعرف هذا على الحقيقة إلى من عرف ما وقع في هذه الأزمان من كثير من العلماء والعباد مع أرباب القبور ، من الغلو فيها وصرف جل العبادة لها ، ويحسبون أنهم على شئ وهو الذنب الذي لا يغفره الله . قال الحافظ أبو محمد عبد الرحمن بن إسماعيل الشافعي المعروف بابن أبي شامة في كتاب البدع والحوادث : ومن هذا القسم أيضًا ما قد عم الابتلاء به من تزيين الشيطان للعامة تخليق الحيطان والعمد وإسراج مواضع مخصوصة في كل بلد ، يحكى لهم حاك أنه رأى في منامه بها أحدًا ممن شهر بالصلاح والولاية ، فيفعلون ذلك ويحافظون عليه مع تضييعهم لفرائض الله تعالى وسننه ، ويظنون أنهم متقربون بذلك ، ثم يتجاوزون هذا إلى أن يعظم وقع تلك الأماكن في قلوبهم فيعظمونها ويرجون الشفاء لمرضاهم وقضاء حوائجهم بالنذر لها ، وهي من عيون وشجر وحائط وحجر . وفي مدينة دمشق من ذلك مواضع متعددة كعوينة الحمى خارج باب توما والعمود المخلق داخل باب الصغير ، والشجرة الملعونة خارج باب النصر نفس قارعة الطريق سهل الله قطعها واجتثاثها من أصلها ، فما أشبهها بذات أنواط الواردة في الحديث . انتهى . وذكر ابن القيم رحمه الله نحو ما ذكره أبو شامة ، ثم قال : فما أسرع أهل الشرك إلى اتخاذ الأوثان من دون الله ولو كانت ما كانت ، ويقولون : إن هذا الحجر وهذه الشجرة وهذه العين تقبل النذر ، أي تقبل العبادة من دون الله ، فإن النذر عبادة وقربة يتقرب بها الناذر إلى المنذور له ، وسيأتي ما يتعلق بهذا الباب عند قوله  : " اللهم لا تجعل قبري وثنًا يعبد" . وفي هذه الجملة من الفوائد : أن ما يفعله من يعتقد في الأشجار والقبور والأحجار من التبرك بها العكوف عندها والذبح لها هو الشرك ، ولا يغتر بالعوام والطغام ، ولا يستبعد كون الشرك بالله تعالى يقع في هذه الأمة ، فإذا كان بعض الصحابة ظنوا ذلك حسنًا وطلبوه من النبي حتى بين لهم أن ذلك كقول بني إسرائيل : ' 7 : 138 ' " اجعل لنا إلهًا كما لهم آلهة " فكيف لا يخفى على من دونهم في العلم والفضل بأضعاف مضاعفة مع غلبة الجهل وبعد العهد بآثار النبوة ؟ ! بل خفى عليهم عظائم الشرك في الإلهية والربوبية ، فأكبروا فعله واتخذوه قربة . وفيها أن الاعتبار في الأحكام بالمعاني لا بالأسماء ، ولهذا جعل النبي طلبتهم كطلبة بني إسرائيل ، ولم يلتفت إلى كوفهم سموها ذات أنواط . فالمشرك مشرك وإن سمى شركه ما سماه . كمن يسمى دعاء الأموات والذبح والنذر لهم ونحو ذلك تعظيمًا ومحبة ، فإن ذلك هو الشرك ، وإن سماه ما سماه . وقس على ذلك .

لتركبن سنن من قبلكم قوله :لتركبن سنن من كان قبلكم بضم الموحدة وضم السين أي طرقهم ومناهجهم وقد يجوز فتح السين على الإفراد أي طريقهم. وهذا خبر صحيح . والواقع من كثير من هذه الأمة يشهد له . وفيه علم من أعلام النبوة من حيث إنه وقع كما أخبر به . وفي الحديث : النهى عن التشبه بأهل الجاهلية وأهل الكتاب فيما كانوا يفعلونه ، إلا ما دل الدليل على أنه من شريعة محمد . قال المصنف رحمه الله : وفيه التنبيه على مسائل القبر ، أما : من ربك ؟ فواضح. وأما : من نبيك ؟ فمن إخباره أنباء الغيب. وأما : ما دينك ؟ فمن قولهم اجعل لنا إلهًا إلخ . وفيه : أن الشرك لا بد أن يقع في هذه الأمة خلافًا لمن ادعى خلاف ذلك ، وفيه الغضب عند التعليم ، وإن ما ذم الله به اليهود والنصارى فإنه قال لنا لنحذره قاله المصنف رحمه الله . وأما ما ادعاه بعض المتأخرين من أنه يجوز التبرك بآثار الصالحين فممنوع من وجوه : منها : أن السابقين الأولين من الصحابة ومن بعدهم لم يكونوا يفعلون ذلك مع غير النبي ، لا فى حياته ولا بعد موته . ولو كان خيرًا لسبقونا إليه ، وأفضل الصحابة أبو بكر وعمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم . وقد شهد لهم رسول الله فيمن شهد له بالجنة ، وما فعله أحد من الصحابة والتابعين مع أحد من هؤلاء السادة ، ولا فعله التابعون مع ساداتهم في العلم والدين وأهل الأسوة . فلا يجوز أن يقاس على رسول الله أحد من الأمة ، وللنبي في حال الحياة خصائص كثيرة لا يصلح أن يشاركه فيها غيره . ومنها : أن في المنع عن ذلك سدًا لذريعة الشرك كما لا يخفى .

باب ما جاء في الذبح لغير الله قوله : ( باب ما جاء في الذبح لغير الله ) من الوعيد وأنه شرك بالله . قوله : ' 6 : 162 ، 163 ' " قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين * لا شريك له " الآية . قال ابن كثير : يأمره تعالى أن يخبر المشركين الذي يعبدون غير الله ويذبحون له : بأنه أخلص لله صلاته وذبيحته . لأن المشركين يعبدون الأصنام ويذبحون لها ، فأمره الله تعالى بمخالفتهم والإنحراف عما هم فيه والإقبال بالقصد والنية والعزم على الإخلاص لله تعالى . قال مجاهد : النسك الذبح في الحج والعمرة . وقال الثورى عن السدى عن سعيد ابن جبير : ونسكى ذبحى. وكذا قال الضحاك . وقال غيره " ومحياي ومماتي " أي وما آتيه في حياتى وما أموت عليه من الإيمان والعمل الصالح " لله رب العالمين " خالصًا لوجهه " لا شريك له وبذلك " الإخلاص " أمرت وأنا أول المسلمين " أى من هذه الأمة لأن إسلام كل نبى متقدم . قال ابن كثير : وهو كما قال ، فإن جميع الأنبياء قبله كانت دعوتهم إلى الإسلام ، وهو عبادة الله وحده لا شريك له . كما قال تعالى : ' 21 : 25 ' " وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون " وذكر آيات في هذا المعنى . ووجه مطابقة الآية للترجمة : أن الله تعالى تعبد عباده بأن يتقربوا إليه بالنسك ، كما تعبدهم بالصلاة وغيرها من أنواع العبادات ، فإن الله تعالى أمرهم أن يخلصوا جميع أنواع العبادة له دون كل ما سواه ، فإذا تقربوا إلى غير الله بالذبح أو غيره من أنواع العبادة فقد جعلوا لله شريكًا في عبادته ، ظاهر في قوله : " لا شريك له " نفى أن يكون لله تعالى شريك في هذه العبادات ، وهو بحمد الله واضح . قوله : " فصل لربك وانحر " قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى : أمر الله أن يجمع بين هاتين العبادتين ، وهما الصلاة والنسك ، الدالتان على القرب والتواضع والافتقار وحسن الظن ، وقوة اليقين ، وطمأنينة القلب إلى الله وإلى عدته ، عكس حال أهل الكبر والنفرة ، وأهل الغنى عن الله الذين لا حاجة لهم في صلاتهم إلى ربهم ، والذين لا ينحرون له خوفًا من الفقر ، ولهذا جمع بينهما في قوله : " قل إن صلاتي ونسكي " الآية والنسك الذبيحة لله تعالى إبتغاء وجهه . فإنهما أجل ما يتقرب به إلى الله ، فإنه أتى فيهما بالفاء الدالة على السبب ، لأن فعل ذلك سبب للقيام بشكر ما أعطاه الله تعالى من الكوثر . وأجل العبادات البدنية : الصلاة ، وأجل العبادات المالية : النحر . وما يجتمع للعبد في الصلاة لا يجتمع له في غيرها ، كما عرفه أرباب القلوب الحية ، وما يجتمع له في النحر إذا قارنه الإيمان والإخلاص ، من قوة اليقين وحسن الظن : أمر عجيب ، وكان النبي كثير الصلاة ، كثير النحر .ا هـ . قلت : وقد تضمنت الصلاة من أنواع العبادات كثيرًا ، فمن ذلك الدعاء والتكبير ، والتسبيح والقراءة ، والتسميع والثناء ، والقيام والركوع ، والسجود والاعتدال ، وإقامة الوجه لله تعالى ، والإقبال عليه بالقلب ، وغير ذلك مما هو مشروع في الصلاة ، وكل هذه الأمور من أنواع العبادة التي لا يجوز أن يصرف منها شئ لغير الله : وكذلك النسك يتضمن أمورًا من العبادة كما تقدم في كلام شيخ الإسلام رحمه الله تعالى .

حديث علي : لعن الله من ذبح لغير الله إلخ قوله : وعن علي بن أبي طالب قال : " حدثني رسول الله بأربع كلمات : لعن الله من ذبح لغير الله ، ولعن الله من لعن والديه ، ولعن الله من آوى محدثًا ، ولعن الله من غير منار الأرض " رواه مسلم من طرق وفيه قصة . ورواه الإمام أحمد كذلك عن أبي طفيل قال قلنا لعلى : أخبرنا بشئ أسره إليك رسول الله فقال : ما أسر إلى شيئًا كتمه الناس ، ولكن سمعته يقول : لعن الله من ذبح لغير الله ، ولعن الله من آوى محدثًا ، ولعن الله من لعن والديه ، ولعن الله من غير تخوم الأرض ، يعنى المنار . وعلى بن أبي طالب : هو الإمام أمير المؤمنين أبو الحسن الهاشمي ابن عم النبي وزوج ابنته فاطمة الزهراء ، كان من أسبق السابقين الأولين ومن أهل بدر وبيعة الرضوان ، وأحد العشرة المشهود لهم بالجنة ، ورابع الخلفاء الراشدين ، ومناقبه مشهورة رضي الله عنه ، قتله ابن ملجم الخارجي في رمضان سنة أربعين . قوله : لعن الله اللعن : البعد عن مظان الرحمة ومواطنها . قيل : واللعين والملعون من حقت عليه اللعنة ، أو دعى عليه بها . قال أبو السعادات : أصل اللعن : الطرد والإبعاد من الله ، ومن الخلق السب والدعاء . قال شيخ الإسلام رحمه الله ما معناه : إن الله تعالى يلعن من استحق اللعنة بالقول كما يصلي سبحانه على من استحق الصلاة من عباده قال تعالى : ' 33 : 43 ، 44 ' " هو الذي يصلي عليكم وملائكته ليخرجكم من الظلمات إلى النور وكان بالمؤمنين رحيما * تحيتهم يوم يلقونه سلام " وقال : ' 33 : 64 ' " إن الله لعن الكافرين وأعد لهم سعيرًا " وقال : ' 33 : 61 ' "ملعونين أينما ثقفوا أخذوا وقتلوا تقتيلًا " والقرآن كلامه تعالى أوحاه إلى جبريل عليه السلام وبلغه رسوله محمدًا ، وجبريل سمعه منه كما سيأتي في الصلاة إن شاء الله تعالى ، فالصلاة ثناء الله تعالى كما تقدم . فالله تعالى هو المصلى وهو المثيب ، كما دل على ذلك الكتاب والسنة ، وعليه سلف الأمة . قال الإمام أحمد رحمه الله : لم يزل الله متكلمًا إذا شاء . قوله : من ذبح لغير الله قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى : ' 2 : 173 ' " وما أهل به لغير الله " ظاهره : أنه ما ذبح لغير الله ، مثل أن يقول : هذا ذبيحة لكذا . وإذا كان هذا هو المقصود فسواء لفظ به أو لم يلفظ ، وتحريم هذا أظهر من تحريم ما ذبحه للصنم وقال فيه : باسم المسيح أو نحوه . كما أن ماذبحناه متقربين به إلى الله كان أزكى وأعظم مما ذبحناه للحم ، وقلنا عليه : بسم الله . فإذا حرم ما قيل فيه باسم المسيح أو الزهرة ، فلأن يحرم ما قيل فيه لأجل المسيح أو الزهرة أو قصد به ذلك أولى ، فإن العبادة لغير الله أعظم كفرًا من الإستعانة بغير الله . وعلى هذا فلو ذبح لغير الله متقربًا إليه يحرم ، وإن قال فيه باسم الله ، كما قد يفعله طائفة من منافقى هذه الأمة الذين يتقربون إلى الكواكب بالذبح والبخور ونحو ذلك وإن هؤلاء مرتدين لا تباح ذبيحتهم بحال . لكن يجتمع في الذبيحة مانعان : الأول : أنه مما أهل به لغير الله . والثاني : أنها ذبيحة مرتد . ومن هذا الباب : ما يفعله الجاهلون بمكة من الذبح للجن ، ولهذا روى عن النبي أنه نهى عن ذبائح الجن. اهـ . قال الزمخشري : كانوا إذا اشتروا دارًا أو بنوها أو استخرجوا عينًا ذبحوا ذبيحة خوفًا أن تصيبهم الجن ، فأضيفت إليهم الذبائح لذلك . وذكر إبراهيم المروزي : أن ما ذبح عند استقبال السلطان تقربًا إليه ، أفتى أهل بخارى بتحريمه ، لأنه مما أهل به لغير الله . قوله : لعن الله من لعن والديه يعني أباه وأمه وإن عليا . وفي الصحيح أن رسول الله قال : " من الكبائر شتم الرجل والديه ، قالوا : يا رسول الله وهل يشتم الرجل والديه ؟ قال : نعم يسب أبا الرجل فيسب أباه ، ويسب أمه فيسب أمه " . قوله : لعن الله من آوى محدثًا أى منعه من أن يؤخذ منه الحق الذى وجب عليه آوى بفتح الهمزة ممدوده أي ضمه إليه وحماه . قال أبو السعادات : أويت إلى المنزل ، وأويت غيرى ، وآويته . وأنكر بعضهم المقصور المتعدى . وأما محدثًا فقال أبو السعادات : يروى بكسر الدال وفتحها على الفاعل والمفعول ، فمعنى الكسر : من نصر جانبًا وآواه وأجاره من خصمه ، وحال بينه وبين أن يقتص منه . وبالفتح : هو الأمر المبتدع نفسه ، ويكون معنى الإيواء فيه الرضى به والصبر عليه ، فإنه إذا رضى بالبدعة وأقر فاعلها ولم ينكر عليه فقد آواه . قال ابن القيم رحمه الله تعالى : هذه الكبيرة تختلف مراتبها باختلاف مراتب الحدث في نفسه فكلما كان الحدث في نفسه أكبر كانت الكبيرة أعظم . قوله : ولعن الله من غير منار الأرض بفتح الميم علامات حدودها . قال أبو السعادات في النهاية ـ في مادة تخم ـ ملعون من غير تخوم الأرض أي معالمها وحدودها ، وحدها تخم قيل : أراد حدود الحرم خاصة : وقيل هو عام في جميع الأرض ، وأراد المعالم التي يهتدى بها في الطريق . وقيل هو أن يدخل الرجل في ملك غيره فيقتطعه ظلمًا . قال ويروى تخوم بفتح التاء على الإفراد وجمعه تخم بضم التاء والخاء . ا هـ . وتغييرها : أن يقدمها أو يؤخرها ، فيكون هذا من ظلم الأرض الذي قال فيه النبي  : " من ظلم شبرًا من الأرض طوقه يوم القيامة من سبع أرضين " ففيه جواز لعن أهل الظلم من غير تعيين . وأما لعن الفاسق المعين ففيه قولان : أحدهما : أنه جائز . اختاره ابن الجوزى وغيره . ثانيهما : لا يجوز ، اختاره ، أبو بكر عبد العزيز وشيخ الإسلام .

حديث دخل رجل الجنة في ذباب إلخ قوله : " وعن طارق بن شهاب أن رسول الله قال : دخل الجنة رجل في ذباب . ودخل النار رجل في ذباب . قالوا كيف يا رسول الله ؟ قال : مر رجلان على قوم لهم صنم ، لا يجوزه أحد حتى يقرب له شيئًا ، فقالوا لأحدهما : قرب . قال : ليس عندي شئ أقرب . قالوا له : قرب ولو ذبابًا . فقرب ذبابًا . فخلوا سبيله ، فدخل النار ، وقالوا للآخر : قرب ، فقال : ما كنت لأقرب لأحد شيئًا دون الله عز وجل . فضربوا عنقه ، فدخل الجنة " رواه أحمد . قال ابن القيم رحمه الله : قال الإمام أحمد رحمه الله حدثنا أبو معاوية حدثنا الأعمش عن سليمان بن ميسرة عن طارق بن شهاب يرفعه قال : دخل الجنة في رجل في ذباب الحديث . وطارق بن شهاب : هو البجلى الأحمس ، أبو عبد الله . رأى النبي وهو رجل . قال البغوي : نزل الكوفة . وقال أبو داود : رأى النبي ولم يسمع منه شيئًا . قال الحافظ : إذا ثبت أنه لقى النبي فهو صحابي . وإذا ثبت أنه لم يسمع منه فروايته عنه مرسل صحابي وهو مقبول على الراجح ، وكانت وفاته ـ على ما جزم به ابن حبان ـ سنة ثلاث وثمانين . قوله : دخل الجنة رجل في ذباب أي من أجله . قوله : قالوا : وكيف ذلك يا رسول الله كأنهم تقالوا ذلك ، وتعجبوا منه . فبين لهم النبي ما صير هذا الأمر الحقير عندهم عظيمًا يستحق هذا عليه الجنة ، ويستوجب الآخر عليه النار . قوله : فقال : مر رجلان على قوم لهم صنم الصنم ما كان منحوتًا على صورة ويطلق عليه الوثن كما مر . قوله : لا يجاوزه أي لا يمر به ولا يتعداه أحد حتى يقرب إليه شيئًا وإن قل . قوله : قالوا له قرب ولو ذبابًا فقرب ذبابًا فخلوا سبيله ، فدخل النار في هذا بيان عظمة الشرك ، ولو في شئ قليل ، وأنه يوجب النار . كما قال تعالى : ' 5 : 72 ' " إنه من يشرك بالله فقد حرم الله عليه الجنة ومأواه النار وما للظالمين من أنصار " . وفي هذا الحديث : التحذير من الوقوع في الشرك ، وأن الإنسان قد يقع فيه وهو لا يدرى أنه من الشرك الذي يوجب النار . وفيه أنه دخل النار بسبب لم يقصده ابتداء ، وإنما فعله تخلصًا من شر أهل الصنم . وفيه أن ذلك الرجل كان مسلمًا قبل ذلك ، وإلا فلو لم يكن مسلمًا لم يقل دخل النار في ذباب . وفيه أن عمل القلب هو المقصود الأعظم حتى عند عبدة الأوثان ، ذكره المصنف بمعناه . قوله : وقالوا للآخر : قرب . قال : ما كنت لأقرب شيئًا دون الله عز وجل . قال المصنف رحمه الله : وفيه معرفة قدر الشرك في قلوب المؤمنين كيف صبر على القتل ولم يوافقهم على طلبتهم مع كونهم لم يطلبوا منه إلى العمل الظاهر .

باب لا يذبح مكان يذبح فيه لغير الله قوله : باب : لا يذبح بمكان يذبح فيه لغير الله تعالى

لا  نافية ويحتمل أنها للنهى وهو أظهر ، قوله : وقول الله تعالى ' 9 : 108 ' " لا تقم فيه أبدا " الآية  قال المفسرون إن الله تعالى نهى رسوله عن الصلاة في مسجد الضرار ، والأمة تبع له في ذلك ، ثم إنه تعالى حثه على الصلاة في مسجد قباء الذي أسس من أول يوم بنى على التقوى، وهي طاعة الله ورسوله  ، وجمعًا لكلمة المؤمنين ومعقلًا ومنزلًا للإسلام وأهله ، ولهذا جاء في الحديث الصحيح أن رسول الله  قال : " صلاة في مسجد قباء كعمرة " وفي الصحيح :  أن رسول الله  كان يزور قباء راكبًا وماشيًا  وقد صرح أن المسجد المذكور في الآية هو مسجد قباء جماعة من السلف ، منهم ابن عباس ، وعروة ، والشعبي ، والحسن وغيرهم .

قلت : ويؤيده قوله في الآية " فيه رجال يحبون أن يتطهروا " وقيل هو مسجد رسول الله لحديث أبي سعيد قال : " تمارى رجلان في المسجد الذي أسس على التقوى من أول يوم ، فقال رجل : هو مسجد قباء . وقال الآخر : هو مسجد رسول الله ، فقال رسول الله  : هو مسجدي هذا " رواه مسلم ، وهو قول عمر وابنه وزيد ابن ثابت وغيرهم . قال ابن كثير : وهذا صحيح . ولا منافاة بين الآية والحديث . لأنه إذا كان مسجد قباء قد أسس على التقوى من أول يوم ، فمسجد رسول الله بطريق الأولى ، وهذا بخلاف مسجد الضرار الذي أسس على معصية الله كما قال تعالى : ' 9 : 107 ' " والذين اتخذوا مسجدا ضرارا وكفرا وتفريقا بين المؤمنين وإرصادا لمن حارب الله ورسوله من قبل وليحلفن إن أردنا إلا الحسنى والله يشهد إنهم لكاذبون " . فلهذه الأمور نهى الله نبيه عن القيام فيه للصلاة . وكان الذي بنوه جاءوا إلى النبي قبل خروجه إلى غزوة تبوك فسألوه أن يصلي فيه ، وأنهم إنما بنوه للضعفاء وأهل العلقة في الليلة الشاتية ، فقال : " إنا على سفر ، ولكن إذا رجعنا إن شاء الله " فلما قفل عليه السلام راجعًا إلى المدينة ، ولم يبق بينه وبينها إلا يوم أو بعضه نزل الوحي بخبر المسجد ، فبعث إليه فهدمه قبل قدومه إلى المدينة . وجه مناسبة الآية للترجمة : أن المواضع المعدة للذبح لغير الله يجب اجتناب الذبح فيها لله ، كما أن هذا المسجد لما أعد لمعصية الله صار محل غضب لأجل ذلك ، فلا تجوز الصلاة فيه لله . وهذا قياس صحيح يؤيده حديث ثابت الضحاك الآتى . قوله : " فيه رجال يحبون أن يتطهروا " روى الإمام أحمد وابن خزيمة وغيرهما عن عويم بن ساعدة الأنصاري " أن النبي آتاهم في مسجد قباء فقال : إن الله قد أحسن عليكم الثناء بالطهور في قصة مسجدكم ، فما هذا الطهور الذي تطهرون به ؟ فقالوا : والله يا رسول الله ما نعلم شيئًا إلا أنه كان لنا جيران من اليهود كانوا يغسلون أدبارهم من الغائط ، فغسلنا كما غسلوا " وفي رواية عن جابر وأنس هو ذاك فعليكموه رواه ابن ماجه وابن أبي حاتم والدارقطني والحاكم . قوله : " والله يحب المطهرين " قال أبو العالية : إن الطهور بالماء لحسن ولكنهم المتطهرون من الذنوب . وفيه إثبات صفة المحبة، خلافًا للأشاعرة ونحوهم .

حديث فيمن نذر بأن ينحر ببوانة قوله : وعن ثابت بن الضحاك قال : " نذر رجل أن ينحر إبلًا ببوانة ، فسأل النبي فقال : هل كان فيها وثن من أوثان الجاهلية يعبد ؟ قالوا : لا . قال : فهل كان فيها عيد من أعيادهم . قالوا : لا . فقال رسول الله  : أوف بنذرك ، فإنه لا وفاء لنذر في معصية الله ولا فيما لا يملك ابن آدم " رواه أبو داود ، وإسناده على شرطهما . قوله : عن ثابت بن الضحاك أي ابن خليفة الأشهلى ، صحابي مشهور ، روى عنه أبو قلابة وغيره . مات سنة أربع وستين . قوله : ببوانة بضم الباء وقيل بفتحها . قال البغوي : موضع في أسفل مكة دون يلملم . قال أبو السعادات : هضبة من وراء ينبع . قوله : فهل كان فيها وثن من أوثان الجاهلية يعبد ؟ فيه المنع من الوفاء بالنذر إذا كان في المكان وثن ، ولو بعد زواله . قال المصنف رحمه الله . قوله : فهل كان فيها عيد من أعيادهم ؟ قال شيخ الإسلام رحمه الله : العيد اسم لما يعود من الاجتماع العام على وجه معتاد عائد ، إما بعود السنة أو الأسبوع أو الشهر أو نحو ذلك والمراد به هنا الاجماع المعتاد من اجتماع أهل الجاهلية . فالعيد يجمع أمورًا منها يوم عائد ، كيوم الفطر ويوم الجمعة ، ومنها اجتماع فيه ، ومنها أعمال تتبع ذلك من العبادات والعادات ، وقد يختص العيد بمكان بعينه ، وقد يكون مطلقًا ، وكل من هذه الأمور قد يسمى عيدًا . فالزمان كقول النبي في يوم الجمعة "إن هذا يوم قد جعله الله للمسلمين عيدًا " والاجتماع والأعمال كقول ابن عباس شهدت العيد مع رسول الله والمكان كقول النبي " لا تتخذوا قبرى عيدًا " وقد يكون لفظ العيد إسمًا لمجموع اليوم والعمل فيه وهو الغالب ، كقول النبي  : " دعهما يا أبا بكر فإن لكل قوم عيدًا " انتهى . قال المصنف : وفيه استفصال المفتى والمنع من الوفاء بالنذر بمكان عيد الجاهلية ولو بعد زواله . قلت : وفيه سد الذريعة وترك مشابهة المشركين ، والمنع مما هو وسيلة إلى ذلك . قوله : فأوف بنذرك هذا يدل على أن الذبح لله في المكان الذي يذبح فيه المشركون لغير الله . أي في محل أعيادهم ، معصية ، لأن قوله فأوف بنذرك تعقيب للوصف بالحكم بالفاء ، وذلك يدل على أن الوصف سبب الحكم . فيكون سبب الأمر بالوفاء خلوه من هذين الوصفين . فلما قالوا لا قال أوف بنذرك وهذا يقتضى أن كون البقعة مكانًا لعيدهم ، أو بها وثن من أوثانهم : مانع من الذبح بها ولو نذره . قال شيخ الإسلام . وقوله : فإنه لا وفاء لنذر في معصية الله دليل على أن هذا نذر معصية لو قد وجد في المكان بعض الموانع . وما كان من نذر المعصية فلا يجوز الوفاء به بإجماع العلماء . واختلفوا هل تجب فيه كفارة يمين ؟ هما روايتان عن أحمد . أحدهما : يجب وهو المذهب . وروى عن ابن مسعود وابن عباس . وبه قال أبو حنيفة وأصحابه ، لحديث عائشة رضي الله عنها مرفوعًا : " لا نذر في معصية ، وكفارته كفارة يمين " رواه أحمد وأهل السنن واحتج به أحمد واسحق . ثانيهما : لا كفارة عليه . وروى ذلك عن مسروق والشعبي والشافعي ، لحديث الباب . ولم يذكر فيه كفارة . وجوابه : أنه ذكر الكفارة في الحديث المتقدم . والمطلق يحمل على المقيد . قوله : ولا فيما لا يملك ابن آدم قال في شرح المصابيح : يعنى إذا أضاف النذر إلى معين لا يملكه بأن قال : إن شفى الله مريضي فلله على أن أعتق عبد فلان ونحو ذلك . فأما إذا التزم في الذمة شيئًا ، بأن قال إن شفى الله مريضي فلله على أن أعتق رقبة ، وهو في تلك الحال لا يملكها ولا قيمتها ، فإذا شفى مريضه ثبت ذلك في ذمته . قوله : رواه أبو داود وإسناده على شرطهما أي البخاري ومسلم . وأبو داود : اسمه سليمان ابن الأشعث بن اسحق بن بشير بن شداد الأزدى السجستانى صاحب الإمام أحمد ، ومصنف السنن والمراسيل وغيرها ، ثقة إمام حافظ من كبار العلماء مات سنة خمس وسبعين ومائتين . رحمه الله تعالى .

باب من الشرك النذر لغير الله قوله : ( باب من الشرك النذر لغير الله تعالى ) أي لكونه عبادة يجب الوفاء به إذا نذره لله . فيكون النذر لغير الله تعالى شركًا في العبادة . وقوله تعالى : ' 76 : 7 ' " يوفون بالنذر ويخافون يومًا كان شره مستطيرًا " فالآية دلت على وجوب الوفاء بالنذر ومدح من فعل ذلك طاعة لله ووفاء بما تقرب به إليه . وقوله تعالى : ' 2 : 270 ' " وما أنفقتم من نفقة أو نذرتم من نذر فإن الله يعلمه " . قال ابن كثير : يخبر تعالى أنه عالم بجميع ما يعله العاملون من الخيرات ، من النفقات والمنذورات ، وتضمن ذلك مجازاته على ذلك أوفر الجزاء للعاملين إبتغاء وجهه . ا هـ . إذا علمت ذلك : فهذه النذور الواقعة من عباد القبور ، تقربًا بها إليهم ليقضوا لهم حوائجهم وليشفعوا لهم ، كل ذلك شرك في العبادة بلا ريب . كما قال تعالى : ' 6 : 136 ' " وجعلوا لله مما ذرأ من الحرث والأنعام نصيبا فقالوا هذا لله بزعمهم وهذا لشركائنا فما كان لشركائهم فلا يصل إلى الله وما كان لله فهو يصل إلى شركائهم ساء ما يحكمون " . قال شيخ الإسلام رحمه الله : وأما ما نذر لغير الله كالنذر للأصنام والشمس والقمر والقبور ونحو ذلك ، فهو بمنزلة أن يحلف بغير الله من المخلوقات . والحالف بالمخلوقات لا وفاء عليه ولا كفارة ، وكذلك الناذر للمخلوقات . فإن كلاهما شرك . والشرك ليس له حرمة ، بل عليه أن يستغفر الله من هذا ويقول ما قال النبي  : " من حلف وقال في حلفه : واللات والعزى فليقل لا إله إلا الله " . وقال فيمن نذر سمعة أو نحوها دهنًا لتنور به ويقول : إنها تقبل النذر كما يقوله بعض الضالين ـ : وهذا النذر معصية باتفاق المسلمين لا يجوز الوفاء به وكذلك إذا نذر مالًا للسدنة أو المجاورين العاكفين بتلك البقعة . فإن فيهم شبهًا من السدنة التي كانت عند اللات والعزى ومناة ، يأكلون أموال الناس بالباطل ويصدون عن سبيل الله . والمجاورون هناك فيهم شبه من الذين قال فيهم الخليل عليه السلام : " ما هذه التماثيل التي أنتم لها عاكفون " والذين اجتاز بهم موسى عليه السلام وقومه ، قال تعالى : ' 7 : 138 ' " وجاوزنا ببني إسرائيل البحر فأتوا على قوم يعكفون على أصنام لهم " فالنذر لأولئك السدنة والمجاورين في هذه البقاع نذر معصية . وفيه شبه من النذر لسدنة الصلبان والمجاورين عندها ، أو لسدنة الأبداد في الهند والمجاورين عندها . وقال الرافعى في شرح المنهاج : وأما النذر للمشاهد التي على قبر ولى أو شيخ أو على إسم من حلها من الأولياء ، أو تردد في تلك البقعة من الأولياء والصالحين فإن قصد الناذر بذلك ـ وهو الغالب أو الواقع من قصود العامة تعظيم البقعة والمشهد ، أو الزاوية ، أو تعظيم من دفن بها أو نسبت إليه ، أو بنيت على اسمه فهذا النذر باطل غير منعقد ، فإن معتقدهم أن لهذه الأماكن خصوصيات ، ويرون أنها مما يدفع بها البلاء ويستجلب بها النعماء ، ويستشفى بالنذر لها من الأدواء حتى إنهم ينذرون لبعض الأحجار لما قيل لهم : إنه استند إليها عبد صالح وينذرون لبعض القبور السرج والشموع والزيت ، ويقولون إنها تقبل النذر كما يقوله البعض يعنون بذلك أنه يحصل به الغرض المأمول من شفاء مريض ، أو قدوم غائب أو سلامة مال ، وغير ذلك من أنواع المجازاة ، فهذا النذر على الوجه باطل لا شك فيه ، بل نذر الزيت والشمع ونحوهما للقبور باطل مطلقًا . ومن ذلك نذر الشموع الكثيرة العظيمة وغيرها لقبر الخليل عليه السلام ولقبر غيره من الأنبياء والأولياء ، فإن الناذر لا يقصد بذلك الإيقاد على القبر إلا تبركًا وتعظيمًا ، ظانًا أن ذلك قربة ، فهذا مما لا ريب في بطلانه ، والإيقاد المذكور محرم ، سواء انتفع به هناك منتفع أم لا . قال الشيخ قاسم الحنفى في شرح درر البحار : النذر الذي ينذره أكثر العوام على ما هو مشاهد ، كأن يكون للإنسان غائب أو مريض أو له حاجة ، فيأتي إلى بعض الصلحاء ويجعل على رأسه ستره ، ويقول : يا سيدي فلان إن رد الله غائبي أو عوفى مريضي ، أو قضيت حاجتي فلك من الذهب كذا ، أو من الفضة كذا ، أو من الطعام كذا ، أو من الماء كذا ، أو من الشمع والزيت . فهذا النذر باطل بالإجماع لوجوه ، منها : أنه نذر لمخلوق ، والنذر للمخلوق لا يجوز ، لأنه عبادة والعبادة لا تكون لمخلوق ، ومنها أن المنذور له ميت ، والميت لا يملك ، ومنها أنه ظن أن الميت يتصرف في الأمور دون الله ، واعتقاد ذلك كفر ـ إلى أن قال : إذا علمت هذا فما يؤخذ من الدراهم والشمع والزيت وغيرها وينقل إلى ضرائح الأولياء تقربًا إليها فحرام بإجماع المسلمين. نقله عنه ابن نجيم في البحر الرائق ، ونقله المرشدى في تذكرته وغيرهما عنه وزاد: قد ابتلى الناس بهذا لا سيما في مولد البدوى. وقال الشيخ صنع الله الحلبي الحنفي في الرد على من أجاز الذبح والنذر للأولياء : فهذا الذبح والنذر إن كان على اسم فلان فهو لغير الله ، فيكون باطلًا . وفي التنزيل ' 6 : 121 ' " ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه " ' 6 : 162 ' " قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين * لا شريك له " والنذر لغير الله إشراك مع الله ، كالذبح لغيره .

حديث من نذر أن يعصي الله فلا يعصه قوله : عن عائشة هي أم المؤمنين ، زوج النبي ، وابنة الصديق رضي الله عنهما تزوجها النبي وهي ابنة سبع سنين ، ودخل بها ابنة تسع وهي أفقة النساء مطلقًا ، وهي أفضل أزواج النبي إلا خديجة ففيها خلاف . ماتت سنة سبع وخمسين على الصحيح رضي الله عنها . قوله : من نذر أن يطيع الله فليطعه أي فليفعل ما نذره من طاعة الله وقد أجمع العلماء على أن من نذر طاعة لشرط يرجوه ، كإن شفى الله مريضى فعلى أن أتصدق بكذا ونحو ذلك وجب عليه ، إن حصل له ما علق نذره على حصوله . وحكى عن أبي حنيفة : أنه لا يلزم الوفاء إلا بما جنسه واجب بأصل الشرع كالصوم وأما ما ليس كذلك كالاعتكاف فلا يجب عليه الوفاء به . قوله : ومن نذر أن يعصى الله فلا يعصه زاد الطحاوى : وليكفر عن يمينه وقد أجمع العلماء على أنه لا يجوز الوفاء بنذر المعصية . قال الحافظ : اتفقوا على تحريم النذر في المعصية ، وتنازعوا : هل ينعقد موجبًا للكفارة أم لا ؟ وتقدم . وقد يستدل بالحديث على صحة النذر في المباح ، كما هو مذهب أحمد وغيره ، يؤيده ما رواه أبو داود عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده ، وأحمد والترمذي عن بريدة : أن امرأة قالت : "يا رسول الله إني نذرت أن أضرب على رأسك بالدف ، فقال أوفي بنذرك" وأما نذر اللجاج والغضب فهو يمين عند أحمد ، فيخير بين فعله وكفارة يمين ، لحديث عمران بن حصين مرفوعًا " لا نذر في غضب، وكفارته كفارة يمين " رواه سعيد بن منصور وأحمد والنسائي ، فإن نذر مكروهًا كالطلاق استحب أن يكفر ولا يفعله .

باب من الشرك الاستعاذة بغير الله قوله : ( باب : من الشرك الاستعاذة بغير الله )

الاستعاذة  الالتجاء والاعتصام ، ولهذا يسمى المستعاذ به : معاذًا وملجأ فالعائذ بالله قد هرب مما يؤذيه أو يهلكه ، إلى ربه ومالكه ، واعتصم واستجار به والتجأ إليه ، وهذا تمثيل ، وإلا فما يقوم بالقلب من الالتجاء إلى الله ، والاعتصام به ، والانطراح بين يدى الرب ، والافتقار ، والتذليل له ، أمر لا تحيط به العبارة . قاله ابن القيم رحمه الله .

وقال ابن كثير : الاستعاذة هي الالتجاء إلى الله والالتصاق بجنابه من شر كل ذى شر . والعياذ يكون لدفع الشر . واللياذ لطلب الخير . انتهى . قلت : وهي من العبادات التي أمر الله تعالى بها عباده ، كما قال تعالى : ' 41 : 36 ' " وإما ينزغنك من الشيطان نزغ فاستعذ بالله إنه هو السميع العليم " وأمثال ذلك في القرآن كثير كقوله : " قل أعوذ برب الفلق " و " قل أعوذ برب الناس " فما كان عبادة لله فصرفه لغير الله شرك في العبادة ، فمن صرف شيئًا من هذه العبادات لغير الله جعله شريكًا لله في عبادته ونازع الرب في إلهيته كما أن من صلى لله صلى لغيره يكون عابدًا لغير الله ، ولا فرق ، كما سيأتي تقريره قريبًا إن شاء الله تعالى . قوله : وقول الله تعالى : ' 72 : 6 ' " وأنه كان رجال من الإنس يعوذون برجال من الجن فزادوهم رهقًا " . قال ابن كثير : أي كنا نرى أن لنا فضلًا على الإنس لأنهم كانوا يعوذون بنا ، أي إذا نزلوا واديًا أو مكانًا موحشًا من البراري وغيرها كما كانت عادة العرب في جاهليتها يعوذون بعظيم ذلك المكان من الجان أن يصيبهم بشئ يسوءهم ، كما كان أحدهم يدخل بلاد أعدائه في جوار رجل كبير وذمامه وخفارته ، فلما رأت الجن أن الإنس يعوذون بهم من خوفهم منهم زادوهم رهقًا ، أي خوفًا وإرهابًا وذعرًا ، حتى يبقوا أشد منهم مخافة وأكثر تعوذًا بهم ـ إلى أن قال ـ قال أبو العالية والربيع وزيد بن أسلم رهقًا أي خوفًا . وقال العوفي عن ابن عباس فزادوهم رهقًا أي إثمًا ، وكذا قال قتادة . ا هـ . وذاك أن الرجل من العرب كان إذا أمسى بواد قفر وخاف على نفسه قال : أعوذ بسيد هذا الوادي من سفهاء قومه ، يريد كبير الجن ، وقد أجمع العلماء على أنه لا يجوز الاستعاذة بغير الله . وقال ملا على قاري الحنفي : لا يجوز الاستعاذة بالجن . فقد ذم الله الكافرين على ذلك وذكر الآية وقال : قال تعالى '6: 128' " ويوم يحشرهم جميعا يا معشر الجن قد استكثرتم من الإنس وقال أولياؤهم من الإنس ربنا استمتع بعضنا ببعض وبلغنا أجلنا الذي أجلت لنا قال النار مثواكم خالدين فيها إلا ما شاء الله إن ربك حكيم عليم " فاستمتاع الإنسى بالجني في قضاء حوائجه وامتثال أوامره وإخباره بشئ من المغيبات ، واستمتاع الجنى بالإنسى تعظيمه إياه ، وإستعاذته به وخضوعه له . انتهى ملخصًا . قال المصنف : وفيه أن كون الشئ يحصل به منفعة دنيوية لا يدل على أنه ليس من الشرك .

ما يقول من نزل بمكان يخافه قوله : وعن خولة بنت حكيم قالت : سمعت رسول الله يقول : " من نزل منزلًا فقال : أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق ، لم يضره شئ حتى يرتحل من منزله ذلك " رواه مسلم . هي خولة بنت حكيم بن أمية السلمية ، يقال لها أم شريك ، ويقال إنها هي الواهبة وكانت قبل تحت عثمان بن مظعون . قال ابن عبد البر : وكانت صالحة فاضلة . قوله : أعوذ بكلمات الله التامات شرع الله لأهل الإسلام أن يستعيذوا به بدلًا عما يفعله أهل الجاهلية من الإستعاذة بالجن ، فشرع الله للمسلمين أن يستعيذوا بأسمائه وصفاته . قال القرطبي  : قيل : معناه الكاملات التي لا يلحقها نقص ولا عيب ، كما يلحق كلام البشر . وقيل معناه : معناه الشافية الكافية . وقيل الكلمات هنا هي القرآن . فإن الله أخبر عنه بأنه : ' 10 : 57 و 17 : 82 و 41 : 44 ' " هدى وشفاء " وهذا الأمر على جهة الإرشاد إلى ما يدفع به الأذى . ولما كان ذلك استعاذة بصفات الله تعالى كان من باب المندوب إليه المرغب فيه ، وعلى هذا فحق المستعيذ بالله أو بأسمائه وصفاته أن يصدق الله في إلتجائه إليه ، ويتوكل في ذلك عليه ، ويحضر ذلك في قلبه ، فمتى فعل ذلك وصل إلى منتهى طلبه ومغفرة ذنبه . قال شيخ الإسلام رحمه الله : وقد نص الأئمة كأحمد وغيره على أنه لا يجوز الإستعاذة بمخلوق . وهذا مما استدلوا به على أن كلام الله غير مخلوق . قالوا : لأنه ثبت عن النبي أنه استعاذ بكلمات الله وأمر بذلك ، ولهذا نهى العلماء عن التعازيم والتعاويذ التي لا يعرف معناها خشية أن يكون فيها شرك .

وقال ابن القيم : ومن ذبح للشيطان ودعاه ، واستعاذ به وتقرب إليه بما يجب فقد عبده ، وإن لم يسم ذلك عبادة ويسميه استخدامًا ، وصدق ، هو استخدام من الشيطان له ، فيصير من خدم الشيطان وعابديه ، وبذلك يخدمه الشيطان ، لكن خدمة الشيطان له ليست خدمة عباده ، فإن الشيطان لا يخضع له ولا يعبده كما يفعل هو به ا هـ .
قوله : " من شر ما خلق " قال ابن القيم رحمه الله : أي من كل شر في أي مخلوق قام بن الشر من حيوان أو غيره ، إنسيًا أو جنيًا ، أو هامة أو دابة ، أو ريحًا أو صاعقة ، أو أي نوع من أنواع البلاء في الدنيا والآخرة .
و ما ههنا موصولة وليس المراد بها العموم الإطلاقي ، بل المراد التقييدي الوصفي ، والمعنى : من كل شر كل مخلوق فيه شر، لا من شر كل ما خلقه الله ، فإن الجنة والملائكة والأنبياء ليس فيهم شر ، والشر يقال على شيئين : على الألم ، وعلى ما يفضى إليه .
قوله :  لم يضره شئ حتى يرتحل من منزله ذلك قال القرطبي : هذا خبر صحيح وقول صادق علمنا صدقه دليلًا وتجربة ، فإني منذ سمعت هذا الخبر عملت عليه فلم يضرني شئ إلى أن تركته ، فلدغتني عقرب بالمهدية ليلًا ، فتفكرت في نفسي فإذا بي قد نسيت أن أتعوذ بتلك الكلمات .

باب من الشرك الاستعانة بغير الله ودعاء غير الله قوله : ( باب من الشرك أن يستغيث بغير الله أو يدعو غيره ) قال شيخ الإسلام رحمه الله : الاستغاثة والدعاء أن الاستغاثة لا تكون إلا من المكروب ، والدعاء أعم من الاستغاثة ، لأنه يكون من المكروب وغيره . فعطف الدعاء على الاستغاثة من عطف العام على الخاص . فبينهما عموم وخصوص مطلق ، يجتمعان في مادة وينفرد الدعاء عنها في مادة ، فكل استغاثة دعاء ، وليس كل دعاء استغاثة . وقوله : أو يدعو غيره اعلم أن الدعاء نوعان : دعاء عبادة ، ودعاء مسألة ، ويراد به في القرآن هذا تارة ، وهذا تارة ، ويراد به مجموعهما فدعاء المسألة هو طلب ما ينفع الداعي من جلب نفع أو كشف ضر ، ولهذا أنكر الله على من يدعو أحدًا من دونه ممن لا يملك ضرًا ولا نفعًا ، كقوله تعالى : ' 5 : 76 ' " قل أتعبدون من دون الله ما لا يملك لكم ضرًا ولا نفعًا والله هو السميع العليم " وقوله : ' 6 : 71 ' " قل أندعوا من دون الله ما لا ينفعنا ولا يضرنا ونرد على أعقابنا بعد إذ هدانا الله كالذي استهوته الشياطين في الأرض حيران له أصحاب يدعونه إلى الهدى ائتنا قل إن هدى الله هو الهدى وأمرنا لنسلم لرب العالمين " وقال : ' 10 : 106 ' " ولا تدع من دون الله ما لا ينفعك ولا يضرك فإن فعلت فإنك إذًا من الظالمين " . قال شيخ الإسلام رحمه الله : فكل دعاء عبادة مستلزم لدعاء المسألة ، وكل دعاء مسألة متضمن لدعاء العبادة ، قال الله تعالى : ' 7 : 55 ' " ادعوا ربكم تضرعًا وخفية إنه لا يحب المعتدين " وقال تعالى : ' 6 : 40 ، 41 ' " قل أرأيتكم إن أتاكم عذاب الله أو أتتكم الساعة أغير الله تدعون إن كنتم صادقين * بل إياه تدعون فيكشف ما تدعون إليه إن شاء وتنسون ما تشركون " وقال تعالى : ' 13 : 14 ' " له دعوة الحق والذين يدعون من دونه لا يستجيبون لهم بشيء إلا كباسط كفيه إلى الماء ليبلغ فاه وما هو ببالغه وما دعاء الكافرين إلا في ضلال " وأمثال هذا في القرآن في دعاء المسألة أكثر من أن يحصر ، وهو يتضمن دعاء العبادة ، لأن السائل أخلص سؤاله لله ، وذلك من أفضل العبادات ، وكذلك الذاكر لله والتالي لكتابه ونحوه ، طالب من الله في المعنى ، فيكون داعيًا عابدًا . فتبين بهذا من قول شيخ الإسلام أن دعاء العبادة مستلزم لدعاء المسألة كما أن دعاء المسألة متضمن لدعاء العبادة ، وقد قال الله تعالى عن خليله : ' 19 ، 48 ، 49 ' " وأعتزلكم وما تدعون من دون الله وأدعو ربي عسى أن لا أكون بدعاء ربي شقيا * فلما اعتزلهم وما يعبدون من دون الله وهبنا له إسحاق ويعقوب وكلا جعلنا نبيا " فصار الدعاء من أنواع العبادة ، فإن قوله : " وأدعو ربي عسى أن لا أكون بدعاء ربي شقيا " كقول زكريا : ' 19 : 4 ' " إني وهن العظم مني واشتعل الرأس شيبا ولم أكن بدعائك رب شقيا " . وقد أمر الله تعالى به في مواضع من كتابه كقوله : ' 7 : 55 ، 56 ' " ادعوا ربكم تضرعا وخفية إنه لا يحب المعتدين * ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها وادعوه خوفا وطمعا إن رحمة الله قريب من المحسنين " وهذا هو دعاء المسألة المتضمن للعبادة ، فإن الداعي يرغب إلى المدعو ويخضع له ويتذلل . وضابط هذا : أن كل أمر شرعه الله لعباده وأمرهم به ففعله لله عبادة ، فإذا صرف من تلك العبادة شيئًا لغير الله فهو مشرك مصادم لما بعث به رسوله من قوله : ' 39 : 14 ' " قل الله أعبد مخلصًا له ديني " وسيأتي لهذا مزيد بيان إن شاء الله تعالى .

تعظيم رسول الله غير الغلو فيه قال شيخ الإسلام رحمه الله في الرسالة السنية : فإذا كان على عهد النبي ممن انتسب إلى الإسلام من مرق منه مع عبادته العظيمة ، فليعلم أن المنتسب إلى الإسلام والسنة في هذه الأزمان قد يمرق أيضًا من الإسلام لأسباب منها : الغلو في بعض المشايخ ، بل الغلو في علي بن أبي طالب ، بل الغلو في المسيح ، فكل من غلا في نبي أو رجل صالح ، وجعل فيه نوعًا من الإلهية مثل أن يقول : يا سيدي فلان انصرني أو أغثني ، أو ارزقني ، أو أنا في حسبك ، ونحو هذه الأقوال . فكل هذا شرك وضلال يستتاب صاحبه ، فإن تاب وإلا قتل . فإن الله سبحانه وتعالى إنما أرسل الرسل ، وأنزل الكتب ، ليعبد وحده لا شريك له ، ولا يدعى معه إله آخر . والذي يدعون مع الله آلهة آخرى مثل المسيح والملائكة والأصنام ، لم يكونوا يعتقدون أنها تخلق الخلائق أو تنزل المطر أو تنبت النبات ، وإنما كانوا يعبدونهم ، أو يعبدون قبورهم ، أو يعبدون صورهم ، يقولون : ' 39 : 3 ' " ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى " ' 10 : 101 ' " ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله " فبعث الله سبحانه رسله تنهى عن أن يدعى أحد من دونه ، لا دعاء عبادة ولا دعاء استغاثة . ا هـ . وقال أيضًا : من جعل بينه وبين الله وسائط يتوكل عليهم ويدعوهم ويسألهم كفر إجماعًا . نقله عنه صاحب الفروع وصاحب الإنصاف وصاحب الإقناع وغيرهم . وذكره شيخ الإسلام ونقلته عنه في الرد على ابن جرجيس في مسألة الوسائط . وقال ابن القيم رحمه الله : ومن أنواعه ـ يعني الشرك ـ طلب الحوائج من الموتى ، والاستغاثة بهم والتوجه إليهم . وهذا أصل شرك العالم . فإن الميت قد انقطع عمله ، وهو لا يملك لنفسه نفعًا ولا ضرًا ، فضلًا عمن استغاث به أو سأله أن يشفع له إلى الله ، وهذا من جهله بالشافع والمشفوع عنده ، وسيأتي تتمة كلامه في باب الشفاعة إن شاء الله تعالى . وقال الحافظ محمد بن عبد الهادي رحمه الله في رده على السبكى في قوله : إن المبالغة في تعظيمه ـ أي الرسول ـ واجبة . إن أريد به المبالغة بحسب ما يراه كل أحد تعظميًا ، حتى الحج إلى قبره والسجود له ، والطواف به ، واعتقاد أنه يعلم الغيب ، وأنه يعطى ويمنع لمن استغاث به من دون الله الضر والنفع ، وأنه يقضى حوائج السائلين ويفرج كربات المكروبين ، وأنه يشفع فيمن يشاء ، ويدخل الجنة من يشاء ـ فدعوى المبالغة في هذا التعظيم مبالغة في الشرك ، وانسلاخ من جملة الدين . وفي الفتاوى البزازية من كتب الحنفية  : قال علماؤنا : من قال أرواح المشائخ حاضرة تعلم : يكفر .

الرد على من ادعى أن للأولياء تصرفًا وقال الشيخ صنع الله الحنفي رحمه الله ـ في كتابه الرد على من ادعى أن للأولياء تصرفات في الحياة وبعد الممات على سبيل الكرامة : هذا وأنه قد ظهر الآن فيما بين المسلمين جماعات يدعون أن للأولياء تصرفات بحياتهم وبعد مماتهم ، ويستغاث بهم في الشدائد والبليات وبهممهم تكشف المهمات ، فيأتون قبورهم وينادونهم في قضاء الحاجات ، مستدلين أن ذلك منهم كرامات وقالوا: منهم أبدان ونقباء ، وأوتاد ونجباء وسبعون وسبعة ، وأربعون وأربعة ، والقطب هو الغوث للناس ، وعليه المدار بلا التباس ، وجوزوا لهم الذبائح والنذور ، وأثبتوا فيهما الأجور ، قال : وهذا كلام فيه تفريط وإفراد ، بل فيه الهلاك الأبدى والعذاب السرمدى، لما فيه من روائح الشرك المحقق ، ومصادمة الكتاب العزيز المصدق ، ومخالفة لعقائد الأئمة وما اجتمعت عليه الأمة . وفي التنزيل : ' 4 : 114 ' " ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيرًا " . ثم قال : فأما قولهم : إن للأولياء تصرفات في حياتهم وبعد الممات ، فيرده قوله تعالى : ' 27 : 61 ـ 64 ' " أإله مع الله " ' 7 : 54 ' " ألا له الخلق والأمر " ' 3 : 189 و 5 : 19 و 20 : 123 و 24 : 42 و 42 : 49 و 45 : 27 و 48 : 14 ' " لله ملك السموات والأرض " ونحوها من الآيات الدالة على أنه المنفرد بالخلق والتدبير والتصرف والتقدير ، ولا شئ لغيره في شئ ما بوجه من الوجوه فالكل تحت ملكه وقهره تصرفًا وملكًا ، وإماتة وخلقًا . وتمدح الرب تبار وتعالى بانفراده بملكه في آيات من كتابه كقوله : ' 35 : 3 ' " هل من خالق غير الله ؟ " ' 35 : 40 ' " والذين تدعون من دونه ما يملكون من قطمير * إن تدعوهم لا يسمعوا دعاءكم ولو سمعوا ما استجابوا لكم ويوم القيامة يكفرون بشرككم ولا ينبئك مثل خبير " وذكر آيات في هذا المعنى . ثم قوله : فقوله في الآيات كلها من دونه أي من غيره . فإنه هام يدخل فيه من اعتقدته ، ومن ولى وشيطان تستمده ، فإن من لم يقدر على نصر نفسه كيف يمد غيره ؟ إلى أن قال : إن هذا لقول وخيم، وشرك عظيم ، إلى أن قال : وأما القول بالتصرف بعد الممات فهو أشنع وأبدع من القول بالتصرف في الحياة . قال جل ذكره : ' 29 : 30 ' " إنك ميت وإنهم ميتون " ' 39 : 42 ' " الله يتوفى الأنفس حين موتها والتي لم تمت في منامها فيمسك التي قضى عليها الموت ويرسل الأخرى إلى أجل مسمى " ' 3 : 185 و 21 : 34 و 29 : 57 ' " كل نفس ذائقة الموت " ' 74 : 38 ' " كل نفس بما كسبت رهينة " وفي الحديث : " إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث " الحديث فجميع ذلك وما هو نحوه دال على انقطاع الحس والحركة من الميت ، وأن أرواحهم ممسكة وأن أعمالهم منقطعة عن زيادة ونقصان ، فدل ذلك على أنه ليس للميت تصرف في ذاته فضلًا عن غيره . فإذا عجز عن حركة نفسه . فكيف يتصرف في غيره ؟ فلله سبحانه يخبر أن الأرواح عنده، وهؤلاء الملحدون يقولون : إن الأرواح مطلقة متصرفة ' 2 : 140 ' " قل أأنتم أعلم أم الله ؟ " . قال : وأما اعتقادهم أن هذه التصرفات لهم من الكرامات ، فهو من المغالطة ، لأن الكرامة شئ من عند الله يكرم به أولياءه ، لا قصد لهم فيه ولا تحدى ، ولا قدرة ولا علم ، كما في قصة مريم بنت عمران ، وأسيد بن حضير ، وأبي مسلم الخولاني . قال : وأما قولهم فيستغاث بهم في الشدائد ، فهذا أقبح مما قبله وأبدع لمصادمته قوله جل ذكره : ' 27 : 62 ' " أمن يجيب المضطر إذا دعاه ويكشف السوء ويجعلكم خلفاء الأرض أإله مع الله ؟ " ' 6 : 63 ، 64 ' " قل من ينجيكم من ظلمات البر والبحر تدعونه تضرعا وخفية لئن أنجانا من هذه لنكونن من الشاكرين * قل الله ينجيكم منها ومن كل كرب ثم أنتم تشركون " وذكر آيات في هذا المعنى ، ثم قال : فإنه جل ذكره قرر أنه الكاشف للضر لا غيره ، وأنه المنفرد بإجابة المضطرين ، وأنه المستغاث لذلك كله ، وأنه القادر على دفع الضر ، القادر على إيصال الخير . فهو المنفرد بذلك ، فإذا تعين هو جل ذكره خرج غيره من ملك ونبى وولي . قال : والاستغاثة تجوز في الأسباب الظاهرة العادية من الأمور الحسية في قتال ، أو إدراك عدو أو سبع أو نحوه ، كقولهم : يا لزيد ، يا للمسلمين ، بحسب الأفعال الظاهرة . وأما الإستغاثة بالقوة والتأثير أو في الأمور المعنوية من الشدائد ، كالمرض وخوف الغرق والضيق والفقر وطلب الرزق ونحوه فمن خصائص الله لا يطلب فيها غيره . قال : وأما كونهم معتقدين التأثير منهم في قضاء حاجاتهم كما تفعله جاهلية العرب والصوفية والجهال . وينادونهم ويستنجدون بهم . فهذا من المنكرات . فمن اعتقد أن لغير الله من نبى أو ولى أو روح أو غير ذلك في كشف كربة وغيره على وجه الإمداد منه : أشرك مع الله ، إذ لا قادر على الدفع غيره ولا خير إلا خيره . قال : وأما ما قالوا إن منهم أبدالًا ونقباء وأوتادًا ونجباء وسبعين وسبعة وأربعين وأربعة والقطب هو الغوث للناس . فهذا من موضوعات إفكهم . كما ذكره القاضي المحدث في سراج المريدين ، وابن الجوزى وابن تيمية . انتهى باختصار . والمقصود أن أهل العلم ما زالوا ينكرون هذه الأمور الشركية التي عمت بها البلوى واعتقدها أهل الأهواء . فلو تتبعنا كلام العلماء المنكرين لهذه الأمور الشركية لطال الكتاب . والبصير النبيل يدرك الحق من أول دليل، ومن قال قولًا بلا برهان فقوله ظاهر البطلان، مخالف ما عليه أهل الحق والإيمان المتمسكون بمحكم القرآن ، المتسجيون لداعى الحق والإيمان . والله المستعان وعليه التكلان .

" ولا تدع من دون الله ما لا ينفعك " إلخ قال : وقوله تعالى : ' 10 : 106 ' " ولا تدع من دون الله ما لا ينفعك ولا يضرك فإن فعلت فإنك إذًا من الظالمين " . قال ابن عطية : معناه قيل لي ولا تدع فهو عطف على أقم وهذا الأمر والمخاطبة للنبي . إذا كانت هكذا فأحرى أن يحذر من ذلك غيره . والخطاب خرج مخرج الخصوص وهو عام للأمة . قال أبو جعفر ابن جرير في هذه الآية : يقول تعالى ذكره : ولا تدع يا محمد من دون معبودك وخالقك شيئًا لا ينفعك في الدنيا ولا في الآخرة ، ولا يضرك في دين ولا دنيا ، يعنى بذلك الآلهة والأصنام ، يقول لا تعبدها راجيًا نفعها أو خائفًا ضرها فإنها لا تنفع ولا تضر . فإن فعلت ذلك فدعوتها من دون الله فإنك إذًا من الظالمين يكون من المشركين بالله الظالم لنفسه . قلت : وهذه الآية لها نظائر كقوله : ' 26 : 213 ' " فلا تدع مع الله إلهًا آخر فتكون من المعذبين " وقوله: ' 28 : 88 ' " ولا تدع مع الله إلهًا آخر لا إله إلا هو " ففي هذه الآيات بيان أن كل مدعو يكون إلهًا ، والإلهية حق لله لا يصلح منها شئ لغيره . ولهذا قال : " لا إله إلا هو " كما قال تعالى : ' 22 : 62 ' " ذلك بأن الله هو الحق وأن ما يدعون من دونه هو الباطل وأن الله هو العلي الكبير " وهذا هو التوحيد الذي بعث الله به رسله ، وأنزل به كتبه ، كما قال تعالى : ' 98 : 5 ' " وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين " والدين : كل ما يدان الله به من العبادات الظاهرة والباطنة . وفسره ابن جرير في تفسيره بالدعاء ، وهو فرد من أفراد العبادة ، على عادة السلف في التفسير ، يفسرون الآية ببعض أفراد معناها ، فمن صرف منها شيئًا لقبر أو صنم أو وثن أو غير ذلك فقد اتخذه معبودًا وجعله شريكًا لله في الإلهية التي لا يستحقها إلا هو ، كما قال تعالى : '23 : 117 ' " ومن يدع مع الله إلهًا آخر لا برهان له به فإنما حسابه عند ربه إنه لا يفلح الكافرون " فتبين بهذه الآية ونحوها أن دعوة غير الله كفر وشرك وضلال . وقوله : '10 : 107 ' " وإن يمسسك الله بضر فلا كاشف له إلا هو وإن يردك بخير فلا راد لفضله " فإنه المنفرد بالملك والقهر ، والعطاء والمنع ، والضر والنفع ، دون كل ما سواه . فيلزم من ذلك أن يكون هو المدعو وحده ، المعبود وحده ، فإن العبادة لا تصلح إلا لمالك الضر والنفع . ولا يملك ذلك ولا شيئًا منه غيره تعالى ، فهو المستحق للعبادة وحده ، دون من لا يضر ولا ينفع . وقوله تعالى : ' 39 : 38 ' " قل أفرأيتم ما تدعون من دون الله إن أرادني الله بضر هل هن كاشفات ضره أو أرادني برحمة هل هن ممسكات رحمته قل حسبي الله عليه يتوكل المتوكلون " وقال : ' 35 : 2 ' " ما يفتح الله للناس من رحمة فلا ممسك لها وما يمسك فلا مرسل له من بعده وهو العزيز الحكيم " فهذا ما أخبر به الله تعالى في كتابه من تفرده بالإلهية والربوبية ، ونصب الأدلة على ذلك . فاعتقد عباد القبور والمشاهد نقيض ما أخبر به الله تعالى ، واتخذوهم شركاء لله في استجلاب المنافع ودفع المكاره ، بسؤالهم والالتجاء بالرغبة والرهبة والتضرع ، وغير ذلك من العبادات التي لا يستحقها إلا الله تعالى ، واتخذوهم شركاء لله في ربوبيته وإلهيته . وهذا فوق شرك كفار العرب القائلين : " ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى " " هؤلاء شفعاؤنا عند الله " فإن أولئك يدعونهم ليشفعوا لهم ويقربوهم إلى الله . وكانوا يقولون في تلبيتهم : لبيك ، لا شريك لك* إلا شريكًا هو لك * تملكه وما ملك * . وأما هؤلاء المشركون فاعتقدوا في أهل القبور والمشاهد ما هو أعظم من ذلك . فجعلوا لهم نصيبًا من التصرف والتدبير ، وجعلوهم معاذًا لهم وملاذًا في الرغبات والرهبات " سبحان الله عما يشركون " . وقوله : " وهو الغفور الرحيم " أي لمن تاب إليه . قال : وقوله تعالى : ' 29 : 17 ' " فابتغوا عند الله الرزق واعبدوه واشكروا له إليه ترجعون" يأمر تعالى عباده بابتغاء الرزق منه وحده دون ما سواه ممن لا يملك لهم رزقًا من السماوات والأرض شيئًا . فتقديم الظرف يفيد الاختصاص . وقوله : واعبدوه من عطف العام على الخاص ، فإن ابتغاء الرزق عنده من العبادة التي أمر الله بها . قال العماد ابن كثير رحمه الله تعالى : فابتغوا أي فاطلبوا عند الله الرزق أي لا عند غيره . لأنه المالك له ، وغيره لا يملك شيئًا من ذلك واعبدوه أي أخلصوا له العبادة وحده لا شريك له واشكروا له أي على ما أنعم عليكم إليه ترجعون أي يوم القيامة فيجازى كل عامل بعمله .

" إن الذين تعبدون من دون الله لا يملكون " إلخ

" ومن أضل ممن يدعو من دون الله " إلخ قال : : وقوله ' 46 : 5 ، 6 ' " ومن أضل ممن يدعو من دون الله من لا يستجيب له إلى يوم القيامة وهم عن دعائهم غافلون * وإذا حشر الناس كانوا لهم أعداء وكانوا بعبادتهم كافرين " نفى سبحانه أن يكون أحد أضل ممن يدعو غيره . وأخبر أنه لا يستجيب له ما طلب منه إلى يوم القيامة . والآية تعم على كل من يدعى من دون الله ، كما قال تعالى : ' 17 : 56 ' " قل ادعوا الذين زعمتم من دونه فلا يملكون كشف الضر عنكم ولا تحويلًا " وفي هذه الآية أخبر أنه لا يستجيب وأنه غافل عن داعيه " وإذا حشر الناس كانوا لهم أعداء وكانوا بعبادتهم كافرين " فتناولت الآية كل داع وكل مدعو من دون الله . قال أبو جعفر بن جرير في قوله : " وإذا حشر الناس كانوا لهم أعداءً " يقول تعالى ذكره : وإذا جمع الناس ليوم القيامة في موقف الحساب كانت هذه الآلهة التي يدعونها في الدنيا لهم أعداء ، لأنهم يتبرأون منهم " وكانوا بعبادتهم كافرين " يقول تعالى ذكره : وكانت آلهتهم التي يعبدونها في الدنيا بعبادتهم جاحدين ، لأنهم يقولون يوم القيامة : ما أمرناهم ولا شعرنا بعبادتها إيانا . تبرأنا منهم يا ربنا . كما قال تعالى : ' 25 : 17 ، 18 ' " ويوم يحشرهم وما يعبدون من دون الله فيقول أأنتم أضللتم عبادي هؤلاء أم هم ضلوا السبيل * قالوا سبحانك ما كان ينبغي لنا أن نتخذ من دونك من أولياء ولكن متعتهم وآباءهم حتى نسوا الذكر وكانوا قوما بورا " . قال ابن جرير  : " ويوم يحشرهم وما يعبدون من دون الله " من الملائكة والإنس والجن وساق بسنده عن مجاهد قال : عيسى وعزير والملائكة . ثم قال : يقول تعالى ذكره قالت الملائكة الذين كان هؤلاء المشركون يعبدونهم من دون الله وعيسى : تنزيهًا لك يا ربنا وتبرئةً مما أضاف إليك هؤلاء المشركون " ما كان ينبغي لنا أن نتخذ من دونك من أولياء " نواليهم " أنت ولينا من دونهم " انتهى . قلت : وأكثر ما يستعمل الدعاء في الكتاب والسنة واللغة ولسان الصحابة ومن بعدهم من العلماء : في السؤال والطلب ، كما قال العلماء من أهل اللغة وغيرهم : الصلاة لغة الدعاء ، وقد قال تعالى : ' 35 : 13 ، 14 ' " والذين تدعون من دونه ما يملكون من قطمير " الآيتين وقال : ' 6 : 63 ' " قل من ينجيكم من ظلمات البر والبحر تدعونه تضرعًا وخفية " وقال : ' 10 : 12 ' " وإذا مس الإنسان الضر دعانا لجنبه أو قاعدًا أو قائمًا " وقال : ' 41 : 51 ' " وإذا مسه الشر فذو دعاء عريض " وقال : ' 41 : 49 ' "لا يسأم الإنسان من دعاء الخير " الآية . وقال : ' 8 : 9 ' " إذ تستغيثون ربكم فاستجاب لكم " الآية . وفي حديث أنس مرفوعًا : " الدعاء مخ العبادة " وفي الحديث الصحيح : " ادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة " وفي آخر : " من يسأل الله يغضب عليه " وحديث : " ليس شئ أكرم على الله من الدعاء " رواه أحمد والترمذي وابن ماجه وابن حبان والحاكم وصححه . وقوله : " الدعاء سلاح المؤمن وعماد الدين ونور السماوات والأرض " رواه الحاكم وصححه . وقوله : " سلوا الله كل شئ حتى الشسع إذا انقطع " الحديث . وقال ابن عباس رضي الله عنهما : أفضل العبادة الدعاء وقرأ : ' 40 :60 ' "وقال ربكم ادعوني أستجب لكم " الآية . رواه ابن المنذر والحاكم وصححه . وحديث : " اللهم إني أسألك بأن لله الحمد لا إله إلا أنت المنان..." الحديث وحديث : " اللهم إني أسألك بأنك أنت الله لا إله إلا أنت الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوًا أحد " وأمثال هذا في الكتاب والسنة أكثر من أن يحصر ، في الدعاء الذي هو السؤال والطلب ، فمن جحد كون السؤال والطلب عبادة فقد صادم النصوص وخالف اللغة واستعمال الأمة سلفًا وخلفًا . وأما ما تقدم من كلام شيخ الإسلام ، وتبعه العلامة ابن القيم رحمهما الله تعالى من أن الدعاء نوعان : دعاء مسألة ودعاء عبادة . وما ذكر بينهما من التلازم وتضمن أحدهما للآخر . فذلك باعتبار كون الذاكر والتالي والمصلى والمتقرب بالنسك وغيره طالبًا في المعنى . فيدخل في مسمى الدعاء بهذا الاعتبار ، وقد شرح الله تعالى في الصلاة الشرعية من دعاء المسألة ما لا تصح الصلاة إلا به ، كما في الفاتحة والسجدتين وفي التشهد ، وذلك عبادة كالركوع والسجود . فتدبر هذا المقام يتبين لك جهل الجاهلين بالتوحيد. ومما يتبين هذا المقام ويزيد إيضاحًا . قوله العلامة ابن القيم رحمه الله تعالى في قوله تعالى : ' 17 : 110 ' " قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن أيا ما تدعوا فله الأسماء الحسنى " وهذا الدعاء المشهور أنه دعاء المسألة . قالوا : كان النبي يدعو ربه ويقول مرة يا الله ومرة يا رحمن فظن المشركون أنه يدعو إلهين فأنزل الله هذه الآية . ذكر هذا عن ابن عباس رضي الله عنهما . وقيل : إن هذا الدعاء هنا بمعنى التسمية ، والمعنى : أي سميتموه به من أسماء الله تعالى ، إما الله وإما الرحمن فله الأسماء الحسنى . وهذا من لوازم المعنى في الآية . وليس هو عين المراد . بل المراد بالدعاء معناه المعهود المطرد في القرآن . وهو دعاء السؤال ودعاء الثناء . ثم قال : إذا عرف هذا فقوله : " ادعوا ربكم تضرعا وخفية " يتناول نوعي الدعاء لكنه ظاهر في دعاء المسألة متضمن لدعاء العبادة ، ولهذا أمر بإخفائه . قال الحسن : بين دعاء السر ودعاء العلانية سبعون ضعيفًا . ولقد كان المسلمون يجتهدون في الدعاء ولم يسمع لهم صوت إن كان إلا همسًا بينهم وبين ربهم . وقوله تعالى : ' 2 : 186 ' " وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان " يتناول نوعى الدعاء ، وبكل منهما فسرت الآية قيل : أعطيه إذا سألني ، وقيل أثيبه إذا عبدني ، وليس هذا من استعمال اللفظ في حقيقته ومجازه ، بل هذا استعمال في حقيقته الواحدة المتضمنة للأمرين جمعيًا . وهذا يأتي في مسألة الصلاة وإنها نقل عن مسماها في اللغة وصارت حقيقة شرعية ، واستعملت في هذه العبادة مجازًا للعلاقة بينهما وبين المسمى اللغوي وهي باقية على الوضع اللغوي ، وضم إليها أركان وشرائط . فعلى ما قررناه لا حاجة إلى شئ من ذلك ، فإن المصلى من أول صلاته إلى آخرها لا ينفك عن دعاء : إما عبادة وثناء ، أو دعاء طلب ومسألة ، وهو في الحالتين داع . ا هـ . ملخصًا من البدائع .

" أمن يجيب المضطر إذا دعاه " قال : وقوله ' 27 : 62 ' " أمن يجيب المضطر إذا دعاه ويكشف السوء ويجعلكم خلفاء الأرض أإله مع الله قليلًا ما تذكرون " بين تعالى أن المشركين من العرب ونحوهم قد علموا أنه لا يجيب المضطر ويكشف السوء إلى الله وحده فذكر ذلك سبحانه محتجًا عليهم في اتخاذهم الشفعاء من دونه ، ولهذا قال " أإله مع الله ؟ " يعنى يفعل ذلك . فإذا كانت آلهتهم لا تجيبهم في حال الاضطرار فلا يصلح أن يجعلوها شركاء لله الذي يجيب المضطر إذا دعاه ويكشف السوء وحده . وهذا أصح ما فسرت به الآية كسابقتها من قوله " أمن خلق السماوات والأرض وأنزل لكم من السماء ماء فأنبتنا به حدائق ذات بهجة ما كان لكم أن تنبتوا شجرها أإله مع الله بل هم قوم يعدلون * أمن جعل الأرض قرارا وجعل خلالها أنهارا وجعل لها رواسي وجعل بين البحرين حاجزا أإله مع الله بل أكثرهم لا يعلمون " ولا حقتها إلى قوله : " أمن يهديكم في ظلمات البر والبحر ومن يرسل الرياح بشرا بين يدي رحمته أإله مع الله تعالى الله عما يشركون * أمن يبدأ الخلق ثم يعيده ومن يرزقكم من السماء والأرض أإله مع الله قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين " . فتأمل هذه الآيات يتبين لك أن الله تعالى احتج على المشركين بما أقروا به على ما جحدوه : من قصر العبادة جمعيها عليه ، كما في فاتحة الكتاب : " إياك نعبد وإياك نستعين " . قال أبو جعفر بن جرير : قوله : " أمن يجيب المضطر إذا دعاه ويكشف السوء "ـ إلى قوله ـ "قليلًا ما تذكرون " يقول تعالى ذكره : أم ما تشركون بالله خير ، أم الذي يجيب المضطر إذا دعاء ويكشف السوء النازل به عنه ؟ وقوله : " ويجعلكم خلفاء الأرض " يقول : يستخلف بعد أمواتكم في الأرض منكم خلفاء أحياء يخلفونهم ، وقوله : " أإله مع الله ؟ " أإله سواه يفعل هذه الأشياء بكم وينعم عليكم هذه النعم ؟ وقوله : " قليلًا ما تذكرون " يقول تذكرًا قليلًا من عظمة الله وأياديه عندكم تذكرون ، وتعتبرون ححج الله عليكم يسيرًا . فلذلك أشركوا بالله وغيره في عبادته . ا هـ .

قوله أنه لا يستغاث بي قوله : وروى الطبراني "أنه كان في زمن النبي منافق يؤذي المؤمنين . فقال بعضهم : قوموا بنا نستغيث برسول الله من هذا المنافق ، فقال النبي  : إنه لا يستغاث بي ، وإنما يستغاث بالله " . الطبراني : هو الإمام الحافظ سليمان بن أحمد بن أيوب اللخمي الطبراني ، صاحب المعاجم الثلاثة وغيرها . روى عن النسائي وإسحاق بن إبراهيم الديرى وخلق كثير . مات سنة ستين وثلثمائة . روى هذا الحديث عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه . قوله : أنه كان في زمن النبي منافق يؤذي المؤمنين لم أقف على اسم هذا المنافق . قلت : هو عبد الله بن أبي كما صرح به ابن أبي حاتم في روايته . قوله : فقال بعضهم أي الصحابة رضي الله عنهم ، هو أبو بكر رضي الله عنه . قوله : قوموا بنا نستغيث برسول الله من هذا المنافق لأنه يقدر على كف أذاه . قوله إنه لا يستغاث بي ، وإنما يستغاث بالله فيه النص على أنه لا يستغاث بالنبي ولا بمن دونه . كره أن يستعمل هذا اللفظ في حقه ، وإن كان مما يقدر عليه في حياته ، حماية لجناب التوحيد ، وسدًا لذرائع الشرك وأدبًا وتواضعًا لربه ، وتحذيرًا للأمة من وسائل الشرك في الأقوال والأفعال . فإذا كان فيما يقدر عليه في حياته ، فكيف يجوز أن يستغاث به بعد وفاته ويطلب منه أمورًا لا يقدر عليها إلا الله عز وجل ؟ كما جرى على ألسنة كثير من الشعراء كالبوصيري والبرعي وغيرهم ، من الاستغاثة بمن لا يملك لنفسه ضرًا ولا نفعًا ولا موتًا ولا حياة ولا نشورًا ، ويعرضون عن الاستغاثة بالرب العظيم القادر على كل شيء الذي له الخلق والأمر وحده ، وله الملك وحده ، لا إله غيره ولا رب سواه . قال تعالى : ( 7 : 187 ) " قل لا أملك لنفسي نفعًا ولا ضرًا إلا ما شاء الله " في مواضع من القرآن ( 72 : 21 ) " قل إني لا أملك لكم ضرًا ولا رشدًا " فأعرض هؤلاء عن القرآن واعتقدوا نقيض ما دلت عليه هذه الآيات المحكمات ، وتبعهم على ذلك الضلال الخلق الكثير والجم الغفير . فاعتقدوا الشرك بالله دينًا ، والهدى ضلالًا ، فإنا لله وإنا إليه راجعون . فما أعظمها من مصيبة عمت بها البلوى ، فعاندوا أهل التوحيد وبدعوا أهل التجريد ، فالله المستعان .

باب " أيشركون ما لا يخلق شيئًا وهم يخلقون " قوله : باب قول الله تعالى ' 7 : 119 ، 120 ' " أيشركون ما لا يخلق شيئا وهم يخلقون * ولا يستطيعون لهم نصرا ولا أنفسهم ينصرون " . قوله " أيشركون " أي في العبادة . قال المفسرون : في هذه الآية توبيخ وتعنيف للمشركين في عبادتهم مع الله تعالى ما لا يخلق شيئًا وهو مخلوق ، والمخلوق لا يكون شريكًا للخالق في العبادة التي خلقهم لها ، وبين أنهم لا يستطيعون لهم نصرًا ولا أنفسهم ينصرون ، فكيف يشركون به من لا يستطيع نصر عابديه ولا نصر نفسه ؟ وهذا برهان ظاهر على بطلان ما كانوا يعبدونه من دون الله ، وهذا وصف كل مخلوق ، حتى الملائكة والأنبياء والصالحين . وأشرف الخلق محمد قد كان يستنصر ربه على المشركين ويقول " اللهم أنت عضدي ونصيري ، بك أحول وبك أصول ، وبك أقاتل " وهذا كقوله ' 25 : 3 ' " واتخذوا من دونه آلهة لا يخلقون شيئا وهم يخلقون ولا يملكون لأنفسهم ضرا ولا نفعا ولا يملكون موتا ولا حياة ولا نشورا " وقوله ' 7 : 188 ' " قل لا أملك لنفسي نفعا ولا ضرا إلا ما شاء الله ولو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من الخير وما مسني السوء إن أنا إلا نذير وبشير لقوم يؤمنون " وقوله ' 72 : 21 ـ 23 ' " قل إني لا أملك لكم ضرا ولا رشدا * قل إني لن يجيرني من الله أحد ولن أجد من دونه ملتحدا * إلا بلاغا من الله ورسالاته " . فكفى بهذه الآيات برهانًا على بطلان دعوة غير الله كائنًا من كان . فإن كان نبيًا أو صالحًا فقد شرفه الله تعالى بإخلاص العبادة له ، والرضاء به ربًا ومعبودًا ، فكيف يجوز أن يجعل العابد معبودًا مع توجيه الخطاب إليه بالنهي عن هذا الشرك كما قال تعالى : ' 28 : 88 ' " ولا تدع مع الله إلها آخر لا إله إلا هو كل شيء هالك إلا وجهه له الحكم وإليه ترجعون " وقال ' 12 : 40 ' " إن الحكم إلا لله أمر أن لا تعبدوا إلا إياه " فقد أمر عباده من الأنبياء والصالحين وغيرهم بإخلاص العبادة له وحده ، ونهاهم أن يعبدوا معه غيره ، وهذا هو دينه الذي بعث به رسله ، وأنزل به كتبه ، ورضيه لعباده ، وهو دين الإسلام ، كما روى البخاري عن أبي هريرة في سؤال جبريل عليه السلام قال " يا رسول الله ، ما الإسلام ؟ قال الإسلام أن تعبد الله ولا تشرك به شيئًا ، وتقيم الصلاة ، وتؤتي الزكاة المفروضة ، وتصوم رمضان " الحديث .

" والذين تدعون من دونه ما يملكون من قطمير " وقوله تعالى : ' 35 : 13 ، 14 ' " والذين تدعون من دونه ما يملكون من قطمير * إن تدعوهم لا يسمعوا دعاءكم ولو سمعوا ما استجابوا لكم ويوم القيامة يكفرون بشرككم ولا ينبئك مثل خبير " يخبر تعالى عن حال المدعوين من دونه من الملائكة والأنبياء والأصنام وغيرها بما يدل على عجزهم وضعفهم وأنهم قد انتفت عنهم الأسباب التي تكون في المدعو ، وهي الملك ، وسماع الدعاء ، والقدرة على استجابته ، فمتى لم توجد هذه الشروط تامة بطلت دعوته فكيف إذا عدمت بالكلية ؟ فنفى عنهم الملك بقوله " ما يملكون من قطمير " قال ابن عباس ومجاهد وعكرمة ، وعطاء والحسن وقتادة : القطمير : اللفافة التي تكون على نواة التمر كما قال تعالى : ' 16 : 73 ' " ويعبدون من دون الله ما لا يملك لهم رزقًا من السموات والأرض شيئًا ولا يستطيعون " وقال ' 34 : 22 ، 23 ' " قل ادعوا الذين زعمتم من دون الله لا يملكون مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض وما لهم فيهما من شرك وما له منهم من ظهير * ولا تنفع الشفاعة عنده إلا لمن أذن له " ونفى عنهم سماع الدعاء بقوله " إن تدعوهم لا يسمعوا " لأنه ما بين ميت وغائب عنهم ، مشتغل بما خلق له ، مسخر بما أمر به كالملائكة ، ثم قال " ولو سمعوا ما استجابوا لكم " لأن ذلك ليس لهم ، فإن الله تعالى لم يأذن لأحد من عباده في دعاء أحد منهم ، لا استقلالًا ولا واسطة ، كما تقدم بعض أدلة ذلك . وقوله " ويوم القيامة يكفرون بشرككم " فتبين بهذا أن دعوة غير الله شرك . وقال تعالى : ' 19 : 81 ،82 ' " واتخذوا من دون الله آلهة ليكونوا لهم عزا * كلا سيكفرون بعبادتهم ويكونون عليهم ضدا " وقوله تعالى : " ويوم القيامة يكفرون بشرككم " قال ابن كثير : يتبرأون منكم ، كما قال تعالى : ' 46 : 5 ، 6 ' " ومن أضل ممن يدعو من دون الله من لا يستجيب له إلى يوم القيامة وهم عن دعائهم غافلون * وإذا حشر الناس كانوا لهم أعداء وكانوا بعبادتهم كافرين " . قال : وقوله " ولا ينبئك مثل خبير " أي ولا يخبرك بعواقب الأمور ومآلها وما تصير إليه مثل خبير بها . قال قتادة : يعني نفسه تبارك وتعالى . فإنه أخبر بالواقع لا محالة . قلت : والمشركون لم يسلموا للعليم الخبير ما أخبر به عن معبوداتهم فقالوا : تملك وتسمع وتستجيب وتشفع لمن دعاها ، ولم يلتفتوا إلى ما أخبر به الخبير من أن كل معبود يعادى عابده يوم القيامة ويتبرأ منه ، كما قال تعالى : ' 10 : 28 ـ 30 ' " ويوم نحشرهم جميعا ثم نقول للذين أشركوا مكانكم أنتم وشركاؤكم فزيلنا بينهم وقال شركاؤهم ما كنتم إيانا تعبدون * فكفى بالله شهيدا بيننا وبينكم إن كنا عن عبادتكم لغافلين * هنالك تبلو كل نفس ما أسلفت وردوا إلى الله مولاهم الحق وضل عنهم ما كانوا يفترون " أخرج ابن جرير عن ابن جريح قال : قال مجاهد " إن كنا عن عبادتكم لغافلين " قال يقول ذلك كل شئ كان يعبد من دون الله . فالكيس يستقبل هذه الآيات التي هي الحجة والنور والبرهان بالإيمان والقبول والعمل ، فيجرد أعماله لله وحده دون كل ماسواه ممن لا يملك لنفسه نفعًا ولا دفعًا ، فضلًا عن غيره . قوله : في الصحيح عن أنس رضي الله عنه قال " شج النبي يوم أحد وكسرت رباعيته . فقال : كيف يفلح قوم شجوا نبيهم ؟ فنزلت الآية ' 3 : 128 ' " ليس لك من الأمر شيء "" . قوله : في الصحيح أي الصحيحين . علقه البخاري . قال وقال حميد وثابت عن أنس . ووصله أحمد والترمذي والنسائي عن حميد عن أنس . ووصله مسلم عن ثابت عن أنس . وقال ابن إسحاق في المغازي . حدثنا حميد الطويل عن أنس قال كسرت رباعية النبي يوم أحد وشج وجهه ، فجعل الدم يسيل على وجهه ، وجعل يمسح الدم وهو يقول : كيف يفلح قوم خضبوا وجه نبيهم وهو يدعوهم إلى ربهم ؟ فأنزل الله الآية . قوله : شج النبي قال أبو السعادات : الشج في الرأس خاصة في الأصل ، وهو أن يضربه بشئ فيجرحه فيه ويشقه ، ثم استعمل في غيره من الأعضاء ، وذكر ابن هشام من حديث أبي سعيد الخدري أن عتبة بن أبي وقاص هو الذي كسر رباعية النبي السفلى وجرح شفته العليا وأن عبد الله بن شهاب الزهري هو الذي شجه في وجهه ، وأن عبد الله بن قمئة جرحه في وجنته ، فدخلت حلقتان من حلق المغفر في وجنته وأن مالك ابن سنان مص الدم من وجه رسول الله وازدرده . فقال له : لن تمسك النار . قال القرطبي : والرباعية بفتح الراء وتخفيف الياء ـ وهي كل سن بعد ثنية . قال النووي رحمه الله : وللإنسان أربع رباعيات . قال الحافظ  : والمراد أنها كسرت ، فذهب منها فلقة ولم تقلع من أصلها . قال النووي  : وفي هذا وقوع الأسقام والإبتلاء بالأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم لينالوا بذلك جزيل الأجر والثواب . ولتعرف الأمم ما أصابهم ويأتسوا بهم . قال القاضي  : وليعلم أنهم من البشر تصيبهم محن الدنيا ، ويطرأ على أجسامهم ما يطرأ على أجسام البشر ليتيقن أنهم مخلوقون مربوبون . ولا يفتن بما ظهر على أيديهم من المعجزات ويلبس الشيطان من أمرهم ما لبسه على النصارى وغيرهم انتهى . قلت : يعني من الغلو والعبادة . قوله : يوم أحد هو شرقي المدينة . قال " أحد جبل يحبنا ونحبه " وهو جبل معروف كانت عنده الواقعة المشهورة . فأضيفت إليه . قوله : كيف يفلح قوم شجوا نبيهم زاد مسلم مسلم كسروا رباعيته وأدموا وجهه .

" ليس لك من الأمر شيء " قوله : فأنزل الله : " ليس لك من الأمر شيء " قال ابن عطية : كأن النبي لحقه في تلك الحال يأس من فلاح كفار قريش ، فقيل له بسبب ذلك " ليس لك من الأمر شيء " أي عواقب الأمور بيد الله ، فامض أنت لشأنك ، ودم على الدعاء لربك . وقال ابن إسحاق : " ليس لك من الأمر شيء " في عبادي إلا ما أمرتك به فيهم . قوله : وفيه عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه سمع رسول الله يقول ـ إذا رفع رأسه من الركوع في الركعة الأخيرة من الفجر : ـ اللهم العن فلانًا وفلانًا بعد ما يقول : سمع الله لمن حمده ، ربنا ولك الحمد . فأنزل الله " ليس لك من الأمر شيء " وفي رواية يدعو على صفوان بن أمية ، وسهيل بن عمرو ، والحارث بن هشام فنزلت " ليس لك من الأمر شيء " . قوله : وفيه أي في صحيح البخاري . رواه النسائي . قوله : عن ابن عمر هو عبد الله بن عمر بن الخطاب ، صحابي جليل ، شهد له رسول الله بالصلاح ، مات سنة ثلاث وسبعين في آخرها أو في أول التي تليها . قوله : أنه سمع رسول الله هذا القنوت على هؤلاء بعد ما شج وكسرت رباعيته يوم أحد . قوله : اللهم العن فلانًا وفلانًا قال أبو السعادات : أصل اللعن والطرد والإبعاد من الله . ومن الخلق السب والدعاء وتقدم كلام شيخ الإسلام رحمه الله . قوله : فلانًا وفلانًا يعني صفوان بن أمية وسهيل بن عمرو والحارث بن هشام ، كما بينه في الرواية الآتية . وفيه : جواز الدعاء على المشركين بأعيانهم في الصلاة ، وأن ذلك لا يضر في الصلاة . قوله : بعد ما يقول : سمع الله لمن حمده قال أبو السعادات : أي أجاب حمده وتقبيله. وقال السهيلي: مفعول سمع محذوف، لأن السمع متعلق بالأقوال والأصوات دون غيرها فاللام تؤذن بمعنى زائد وهو الاستجابة للسمع ، فاجتمع في الكلمة الإيجاز والدلالة على الزائد ، وهو الاستجابة لمن حمده . وقال ابن القيم رحمه الله ما معناه : سمع الله لمن حمده باللام المتضمنة معنى استجاب له . ولا حذف وإنما هو مضمن . قوله : ربنا لك الحمد في بعض روايات البخاري بإسقاط الواو . قال ابن دقيق العيد : كأن إثباتها دال على معنى زائد ، لأنه يكون التقدير : ربنا استجب ولك الحمد . فيشتمل على معنى الدعاء ومعنى الخبر . قال شيخ الإسلام : والحمد ضد الذم ، والحمد يكون على محاسن المحمود مع المحبة له . كما أن الذم يكون على مساويه مع البغض له . وكذا قال ابن القيم : وفرق بينه وبين المدح بأن الأخبار عن محاسن الغير إما أن يكون إخبار مجردًا عن حب وإرادة ، أو يكون مقرونًا بحبه وإرادته . فإن كان الأول فهو المدح ، وإن كان الثاني فهو الحمد . فالحمد إخبار عن محاسن المحمود مع حبه وإجلاله وتعظيمه . ولهذا كان خبرًا يتضمن الإنشاء بخلاف المدح ، فإنه خبر مجرد . فالقائل إذا قال : الحمد لله أو قال ربنا ولك الحمد تضمن كلامه الخبر عن كل ما يحمد عليه تعالى بإسم جامع محيط متضمن لكل فرد من أفراد الجملة المحققة والمقدرة ، وذلك يستلزم إثبات كل كمال يحمد عليه الرب تعالى ، ولهذا لا تصلح هذه اللفظة على هذا الوجه ولا تنبغي إلا لمن هذا شأنه ، وهو الحميد المجيد . وفيه : التصريح بأن الإمام يجمع بين التسميع والتحميد ، وهو قول الشافعي وأحمد وخالف في ذلك مالك وأبو حنيفة ، وقالا : يقتصر على سمع الله لمن حمده . قوله : وفي رواية يدعو على صفوان بن أمية وسهيل بن عمرو والحارث بن هشام . وذلك لأنهم رؤوس المشركين يوم أحد ، هم وأبو سفيان بن حرب ، فما استجيب له فيهم بل أنزل الله " ليس لك من الأمر شيء أو يتوب عليهم أو يعذبهم " فتاب عليهم فأسلموا وحسن إسلامهم . وفي كله معنى شهادة أن لا إله إلا الله الذي له الأمر كله ، يهدي من يشاء بفضله ورحمته ، ويضل من يشاء بعدله وحكمته . وفي هذا من الحجج والبراهين ما يبين بطلان ما يعتقده عباد القبور في الأولياء والصالحين . بل في الواغيت من أنهم ينتفعون من دعاهم ، ويمنعون من لاذ بحماهم . فسبحان من حال بينهم وبين فهم الكتاب . وذلك عدله سبحانه ، وهو الذي يحول بين المرء وقلبه ، وبه الحول والقوة . قوله وفيه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله حين أنزل الله عليه ' 26 : 214 ' " وأنذر عشيرتك الأقربين " قال " يا معشر قريش ـ أو كلمة نحوها ـ اشتروا أنفسكم لا أغنى عنكم من الله شيئًا . يا عباس بن عبد المطلب لا أغنى عنك من الله شيئًا . يا صفية عمة رسول الله ، لا أغنى عنك من الله شيئًا . يا فاطمة بنت محمد ، سليني من مالي ما شئت ، لا أغنى عنك من الله شيئًا " . قوله : وفيه أي وفي صحيح البخاري . قوله : عن أبي هريرة اختلف في اسمه . وصحيح النووي أن اسمه عبد الرحمن ابن صخر ، كما رواه الحاكم في المستدرك عن أبي هريرة قال : كان اسمي في الجاهلية عبد الرحمن وروى الدولابى بإسناده عن أبي هريرة أن النبي سماه عبد الله وهو دوسي من فضلاء الصحابة وحفاظهم ، حفظ عن النبي أكثر مما حفظه غيره مات سنة سبع أو ثمان أو تسع وخمسين ، وهو ابن ثمان وسبعين سنة . قوله : قام رسول الله في الصحيح من رواية ابن عباس صعد رسول الله على الصفا .

" وأنذر عشيرتك الأقربين " قوله : حين أنزل عليه " وأنذر عشيرتك الأقربين " عشيرة الرجل : هم بنو أبيه الأدنون أو قبيلته . لأنهم أحق الناس ببرك وإحسانك الديني والدنيوي ، كما قال تعالى : ' 66 : 5 ' " يا أيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم نارا وقودها الناس والحجارة " وقد أمره الله تعالى أيضًا بالنذارة العامة ، كما قال ' 36 : 6 ' " لتنذر قومًا ما أنذر آباؤهم فهم غافلون " '14 : 44 ) " وأنذر الناس يوم يأتيهم العذاب " . قوله : يا معشر قريش المعشر الجماعة . قوله : أو كلمة نحوها هو بنصب كلمة عطف على ما قبله . قوله : اشتروا أنفسكم أي بتوحيد الله وإخلاص العبادة له وحده لا شريك له وطاعته فيما أمر به والإنتهاء عما نهى عنه . فإن ذلك هو الذي ينجي من عذاب الله لا الاعتماد على الأنساب والأحساب ، فإن ذلك غير نافع عند رب الأرباب . قوله : " ما أغني عنكم من الله من شيء " فيه حجة على من تعلق على الأنبياء والصالحين ، ورغب إليهم ليشفعوا له وينفعوه ، أو يدفعوا عنه ، فإن ذلك هو الشرك الذي حرمه الله تعالى ، وأقام نبيه بالإنذار عنه ، كما أخبر تعالى عن المشركين في قوله ' 39 : 3 ' " والذين اتخذوا من دونه أولياء ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى " ' 10 : 18 ' " هؤلاء شفعاؤنا عند الله " فأبطل الله ذلك ونزه نفسه عن هذا الشرك ، وسيأتي تقرير هذا المقام إن شاء الله تعالى . وفي صحيح البخاري يا بني عبد مناف لا أغنى عنكم من الله شيئًا . قوله : يا عباس بن عبد المطلب بنصب بن ويجوز في عباس الرفع النصب . وكذا في قوله يا صفية عمة رسول الله ، ويا فاطمة بنت محمد . قوله : سليني من مالي ما شئت بين رسول الله أنه لا ينجي من عذاب الله إلا الإيمان والعمل الصالح . وفيه : أنه لا يجوز أن يسأل العبد إلا ما يقدر عليه من أمور الدنيا . وأما الرحمة والمغفرة والجنة والنجاة من النار ونحو ذلك من كل ما لا يقدر عليه إلا الله تعالى ، فلا يجوز أن يطلب إلا منه تعالى ، فإن ما عند الله لا ينال إلا بتجريد التوحيد ، والإخلاص له بما شرعه ورضيه لعباده أن يتقربوا إليه به ، فإذا كان لا ينفع بنته ولا عمه ولا عمته ولا قرابته إلا ذلك ، فغيرهم أولى وأحرى . وفي قصة عمه أبي طالب معتبر . فانظر إلى الواقع الآن من كثير من الناس الالتجاء إلى الأموات والتوجه إليهم بالرغبات والرهبات ، وهم عاجزون لا يملكون لأنفسهم ضرًا ولا نفعًا ، فضلًا عن غيرهم _ يتبين لك أنهم ليسو على شئ ' 7 : 30 ' " إنهم اتخذوا الشياطين أولياء من دون الله ويحسبون أنهم مهتدون " أظهر لهم الشيطان الشرك في قالب محبة الصالحين ، وكل صالح يبرأ إلى الله من هذا الشرك في الدنيا ويوم يقوم الأشهاد . ولا ريب أن محبة الصالحين إنما تحصل بموافقتهم في الدين ، ومتابعتهم في طاعة رب العالمين ، لا باتخاذهم أندادًا من دون الله يحبونهم كحب الله إشراكًا بالله ، وعبادة لغير الله ، وعداوة لله ورسوله والصالحين من عباده ، كما قال تعالى : ' 5 : 116 ، 117 ' " وإذ قال الله يا عيسى ابن مريم أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله قال سبحانك ما يكون لي أن أقول ما ليس لي بحق إن كنت قلته فقد علمته تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك إنك أنت علام الغيوب * ما قلت لهم إلا ما أمرتني به أن اعبدوا الله ربي وربكم وكنت عليهم شهيدا ما دمت فيهم فلما توفيتني كنت أنت الرقيب عليهم وأنت على كل شيء شهيد " . قال العلامة ابن القيم رحمه الله في هذه الآية بعد كلام سبق : ثم نفى أن يكون قال لهم غير ما أمر به وهو محض التوحيد فقال " ما قلت لهم إلا ما أمرتني به أن اعبدوا الله ربي وربكم " ثم أخبر أن شهادته عليهم مدة مقامه فيهم ، وأنه بعد الوفاة لا إطلاع له عليهم ، وأن الله عز وجل المنفرد بعد الوفاة بالاطلاع عليهم فقال " وكنت عليهم شهيدا ما دمت فيهم فلما توفيتني كنت أنت الرقيب عليهم وأنت على كل شيء شهيد " وصف الله سبحانه بأن شهادته فوق كل شهادة وأعم ا هـ . قلت : ففي هذا بيان أن المشركين خالفوا ما أمر الله به رسله من توحيده الذي هو دينهم الذي اتفقوا عليه ، ودعوا الناس إليه ، وفارقوا فيه إلا من آمن ، فكيف يقال لمن دان بدينهم ، وأطاعهم فيما أمروا به من إخلاص العبادة لله وحده : إنه قد تنقصهم بهذا التوحيد الذي أطاع به ربه ، واتبع فيه رسله عليهم السلام ، ونزه به ربه عن الشرك الذي هو هضم للربوبية . وتنقص للإلهية وسوء ظن برب العالمين ؟ . والمشركون هم أعداء الرسل وخصماؤهم في الدنيا والآخرة ، وقد شرعوا لأتباعهم أن يتبرأوا من كل مشرك ويكفروا به ، ويبغضوه ويعادوه في ربهم ومعبودهم ' 6 : 109 ' " قل فلله الحجة البالغة فلو شاء لهداكم أجمعين " .

باب قول الله " حتى إذا فزع عن قلوبهم " قوله : باب قول الله تعالى ' 34 : 23 ' " حتى إذا فزع عن قلوبهم قالوا ماذا قال ربكم قالوا الحق وهو العلي الكبير " . قوله : " حتى إذا فزع عن قلوبهم " أي زال الفزع عنها . قاله ابن عباس وابن عمر وأبو عبد الرحمن السلمى والشعبي والحسن وغيرهم . وقال ابن جرير : قال بعضهم : الذين فزع عن قلوبهم : الملائكة قالوا : وإنما فزع عن قلوبهم من غشية تصيبهم عند سماعهم كلام الله بالوحي وقال ابن عطية : في الكلام حذف ما يدل عليه الظاهر . كأنه قال : ولا هم شفعاء كما تزعمون أنتم ، بل هم عبدة مسلمون لله أبدًا ، يعني منقادون ، حتى إذا فزع عن قلوبهم . والمراد الملائكة على ما اختاره ابن جرير وغيره . قال ابن كثير : وهو الحق الذي لا مرية فيه ، لصحة الأحاديث فيه والآثار . وقال أبو حيان : تظاهرت الأحاديث عن رسول الله أن قوله : " حتى إذا فزع عن قلوبهم " إنما هي الملائكة إذا سمعت الوحي إلى جبريل يأمره الله به سمعت كجر سلسلة الحديد على الصفوان ، فتفزع عند ذلك تعظيمًا وهيبة . قال : وبهذا المعنى ـ من ذكر الملائكة في صدر الآية ـ تتسق هذه الآية على الأولى ، ومن لم يشعر أن الملائكة مشار إليهم من أول قوله : " الذين زعمتم " لم تتصل له هذه الآية بما قبلها . قوله : " قالوا ماذا قال ربكم ؟ " ولم يقولوا ماذا خلق ربنا ؟ ولو كان كلام الله مخلوقًا لقالوا : ماذا خلق ؟ ؟ انتهى من شرح سنن ابن ماجة . ومثله الحديث ماذا قال ربنا يا جبريل وأمثال هذا في الكتاب والسنة كثير . قوله : " قالوا الحق " أي قال الله الحق . وذلك لأنهم إذا سمعوا كلام الله صعقوا ثم إذا أفاقوا أخذوا يسألون ، فيقولون : ماذا قال ربكم ؟ فيقولون : قال الحق . قوله : " وهو العلي الكبير " علو القدر وعلو القهر وعلو الذات ، فله العلو الكامل من جميع الوجوه ، كما قال عبدالله بن المبارك ـ لما قيل له : بما نعرف ربنا ؟ قال بأنه على عرشه بائن من خلقه تمسكًا منه بالقرآن لقوله تعالى : '20 : 5 ' " الرحمن على العرش استوى " ' 25 : 59 ' " ثم استوى على العرش الرحمن " في سبعة مواضع من القرآن ' 7 : 53 و 14 : 2 و 32 : 4 و 57 : 4 ' . قوله : الكبير أي الذي لا أكبر منه ولا أعظم منه تبارك وتعالى . قوله : في الصحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي قال : " إذا قضى الله الأمر في السماء ضربت الملائكة بأجنحتها خضعانًا لقوله ، كأنه سلسلة على صفوان ، ينفذهم ذلك ، حتى إذا فزع عن قلوبهم قالوا : ماذا قال ربكم ؟ قالوا : الحق وهو العلي الكبير ، فيسمعها مسترق السمع ومسترق السمع هكذا بعضه فوق بعض . وصفة سفيان بكفه فحرفها وبدد بين أصابعه ـ فيسمع الكلمة فيلقيها إلى من تحته ، ثم يلقيها الآخر إلى أن تحته ، حتى يلقيها على لسان الساحر أو الكاهن، فربما أدركه الشهاب قبل من يلقيها ، وربما ألقاها قبل أن يدركه ، فيكذب معها مائة كذبة ، فيقال : أليس قد قال لنا اليوم كذا وكذا : وكذا و كذا ؟ فيصدق بتلك الكلمة التي سمعت من السماء " . قوله : في الصحيح أي صحيح البخاري .

حديث أبي هريرة : إذا قضى الله الأمر في السماء إلخ قوله : إذا قضي الله الأمر في السماء أي إذا تكلم الله بالأمر الذي يوحيه إلى جبريل بما أراد ، كما صرح به في الحديث الآتي، وكما روى سعيد بن منصور وأبو داود وابن جرير عن ابن مسعود " إذا تكلم الله بالوحي سمع أهل السموات صلصة كجر السلسلة على الصفوان " . وروى ابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عباس قال : لما أوحي الجبار إلى محمد دعا الرسول من الملائكة ليبعثه بالوحي ، فسمعت الملائكة صوت الجبار يتكلم بالوحي . فما كشف عن قلوبهم سألوا عما قال الله . فقالوا : الحق . وعلموا أن الله لا يقول إلا حقًا . قوله : ضربت الملائكة بأجنحتها خضعانًا لقوله أي لقول الله تعالى . قال الحافظ : خضعانًا بفتحتين من الخضوع . وفي رواية بضم أوله وسكون ثانيه . وهو مصدر بمعنى خاضعين . قوله : كأنه سلسلة على صفوان أي كأن الصوت المسموع سلسلة على صفوان وهو الحجر الأملس . قوله : ينفذهم ذلك هو بفتح التحتية وسكون النون وضم الفاء والذال المعجمة ذلك أي القول ، والضمير في ينفذهم للملائكة، أي ينفذ ذلك القول الملائكة أي يخلص ذلك القول ويمضي فيهم حتى يفزعوا منه . وعند ابن مردويه من حديث ابن عباس فلا ينزل على أهل سماء إلا صعقوا وعند أبي داود وغيره مرفوعًا "إذا تكلم الله بالوحي سمع أهل السماء الدنيا صلصلة كجر السلسلة على الصفا فيصعقون ، فلا يزالون كذلك حتى يأتيهم جبريل " الحديث . قوله : حتى إذا فزع عن قلوبهم تقدم معناه . قوله : قالوا ماذا قال ربكم ؟ قالوا الحق أي قالوا : قال الله الحق ، علموا أن الله لا يقول إلا الحق . قوله : فيسمعها مسترق السمع أي يسمع الكلمة التي قضاها الله ، وهم الشياطين يركب بعضهم بعضًا . وفي صحيح البخاري عن عائشة مرفوعًا : " إن الملائكة تنزل في العنان ـ وهو السحاب ـ فتذكر الأمر قضى في السماء ، فتسترق الشياطين السمع ، فتوجه إلى الكهان" . قوله : ومسترق السمع هكذا وصفه سفيان بكفه أي وصف ركوب بعضهم فوق بعض . وسفيان هو ابن عيينة أبو محمد الهلالي الكوفي ثم المكي ، ثقة حافظ ، فقيه ، إمام حجة ، مات سنة ثمان وتسعين ومائة وله إحدى وتسعون سنة . قوله : فحرفها بحاء مهملة وراء مشددة وفاء . قوله : وبدد أي فرق بين أصابعه . قوله : فيسمع الكلمة فيلقيها إلى من تحته أي يسمع الفوقاني الكلمة فيلقيها إلى آخر تحته ، ثم يلقيها إلى من تحته حتى يلقيها على لسان الساحر أو الكاهن . قوله : فربما أدركه الشهاب قبل أن يلقيها الشهاب هو النجم الذي يرمي به ، أي ربما أدرك الشهاب المسترق ، وهذا يدل على أن الرمي بالشهب قبل المبعث . لما روى أحمد وغيره ـ والسياق له في المسند من طريق معمر ـ : أنبأنا الزهري عن علي بن الحسين عن ابن عباس قال كان رسول الله جالسًا في نفر من أصحابه ـ قال عبد الرزاق : من الأنصار ـ قال : فرمى بنجم عظيم ، فاستنار ، قال : ما كنتم تقولون إذا كان مثل هذا في الجاهلية ؟ قال : كنا نقول : لعله يولد عظيم أو يموت ، قلت للزهري : أكان يرمى بها في الجاهلية ؟ قال نعم ، ولكن غلظت حين بعث النبي قال : فإنها لا يرمى بها لموت أحد ولا لحياته ، ولكن ربنا تبارك اسمه إذا قضى أمرًا سبح حملة العرش ، ثم سبح أهل السماء الذين يلونهم ثم الذين يلونهم ، حتى يبلغ التسبيح هذه السماء الدنيا . ثم يستخبر أهل السماء الذين يلون حملة العرش ، فيقول الذين يلون حملة العرش لحملة العرش : ماذا قال ربكم ؟ فيخبرونهم ، ويخبر أهل كل سماء حتى ينتهي الخبر إلى هذه السماء ، وتخطف الجن السمع فيرمون ، فما جاءوا به على وجهه فهو حق ، ولكنهم يقرفون فيه ويزيدون . قال عبد الله : قال أبي : قال عبد الرزاق ويخطف الجن ويرمون وفي رواية له لكنهم يزيدون فيه ويقرفون وينقصون . قوله : فيكذب معها مائة كذبة أي الكاهن أو الساحر . و كذبة بفتح الكاف وسكون الذال المعجمة . قوله : أليس قد قال لنا يوم كذا وكذا : وكذا وكذا ؟ هكذا في نسخة بخط المصنف ، وكالذي في صحيح البخاري سواء . قال المصنف : وفيه قبول النفوس للباطل ، كيف يتعلقون بواحدة ولا يعتبرون بمائة كذبة ؟ . وفيه : أن الشئ إذا كان فيه شئ من الحق فلا يدل على أنه حق كله ، فكثيرًا ما يلبس أهل الضلال الحق بالباطل ليكون أقبل لباطلهم ، قال تعالى : ' 2 : 42 ' "ولا تلبسوا الحق بالباطل وتكتموا الحق وأنتم تعلمون " . وفي هذه الأحاديث وما بعدها وما في معناها : إثبات علو الله تعالى على خلقه على ما يليق بجلاله وعظمته ، وأنه تعالى لم يزل متكلمًا إذا شاء بكلام يسمعه الملائكة ، وهذا قول أهل السنة قاطبة سلفًا وخلفًا . خلافًا للأشاعرة والجهمية ، ونفاة المعتزلة . فإياك أن تلتفت إلى مازخرفه أهل التعطيل ، وحسبنا الله ونعم الوكيل .

حديث إذا أراد الله أن يوحي يوحي بالأمر إلخ قوله : وعن النواس بن سمعان قال : قال رسول الله " إذا أراد الله تعالى أن يوحي بالأمر تكلم بالوحي أخذت السموات منه رجفة ـ أو قال رعدة ـ شديدة خوفًا من الله عز وجل . فإذا سمع ذلك أهل السموات صعقوا وخروا لله سجدًا فيكون أول من يرفع رأسه جبريل ، فيكلمه الله من وحيه بما أراد ، ثم يمر جبريل على الملائكة ، كلما مر بسماء سأله ملائكتها : ماذا قال ربنا يا جبريل ؟ فيقول جبريل : قال الحق ، وهو العلي الكبير . فيقولون كلهم مثل ما قال جبريل ، فينتهي جبريل بالوحي إلى حيث أمره الله عز وجل" . هذا الحديث رواه ابن أبي حاتم بسنده كما ذكره العماد ابن كثير في تفسيره . النواس بن سمعان ، بكسر السين ، بن خالد الكلابي ، ويقال : الأنصاري صحابي . ويقال : إن أباه صحابي أيضًا . قوله : إذا أراد الله أن يوحي بالأمر إلى آخره . فيه النص على أن الله تعالى يتكلم بالوحي . وهذا من حجة أهل السنة على النفاة : لم يزل الله متكلمًا إذا شاء . قوله : أخذت السموات منه رجفة السموات مفعول مقدم ، والفاعل رجفة أي أصاب السموات من كلامه تعالى رجفة ، أي ارتجفت . وهو صريح في أنها تسمع كلامه تعالى ، كما روى ابن أبي حاتم عن عكرمة . قال إذا قضى الله أمرًا تكلم تبارك وتعالى رجفت السموات والأرض والجبال ، وخرت الملائكة كلهم سجدًا . قوله : أو قال رعدة شديدة شك من الراوي . هل قال النبي رجفة ، أو قال رعدة . والراء مفتوحة فيهما . قوله : خوفًا من الله عز وجل وهذا ظاهر في أن السموات تخاف الله ، بما يجعل تعالى فيها من الإحساس ومعرفة من خلقها . وقد أخبر تعالى أن هذه المخلوقات العظيمة تسبحه كما قال تعالى : ' 17 : 44 ' " تسبح له السماوات السبع والأرض ومن فيهن وإن من شيء إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم إنه كان حليما غفورا " وقال تعالى : ' 19 : 90 ' " تكاد السموات يتفطرن منه وتنشق الأرض وتخر الجبال هدًا " وقال تعالى : ' 2 : 74 ' " وإن منها لما يهبط من خشية الله " وقد قرر العلامة ابن القيم رحمه الله أن هذه المخلوقات تسبح الله وتخشاه حقيقة ، مستدلًا بهذه الآيات وما في معناها . وفي البخاري عن ابن مسعود قال كنا نسمع تسبيح الطعام وهو يؤكل وفي حديث أبي ذر " أن النبي أخذ في يده حصيات ، فسمع لهن تسبيح ..." الحديث وفي الصحيح قصة حنين الجذع الذي كان يخطب عليه النبي قبل اتخاذ المنبر . ومثل هذا كثير . قوله : صعقوا وخروا لله سجدًا الصعوق هو الغشي ، ومعه السجود . قوله : فيكون أول من يرفع رأسه جبريل بنصب أول خبر يكون مقدم على اسمها . ويجوز العكس . ومعنى جبريل : عبد الله، كما روى ابن جرير وغيره عن على ابن الحسين قال : كان اسم جبريل : عبد الله ، واسم ميكائيل عبيد الله ، وإسرافيل عبد الرحمن . وكل شئ رجع إلى ايل فهو معبد لله عز وجل . وفيه فضيلة جبريل عليه السلام . كما قال تعالى : ' 81 : 19 - 21 ' " إنه لقول رسول كريم * ذي قوة عند ذي العرش مكين * مطاع ثم أمين " . قال ابن كثير رحمه الله تعالى : إن هذا القرآن لتبليغ رسول كريم . وقال أبو صالح في الآية جبريل يدخل في سبعين حجابًا من نور بغير إذن . ولأحمد بإسناد صحيح عن ابن مسعود قال رأى رسول الله جبريل في صورته وله ستمائة جناح ، كل جناح منها قد سد الأفق ، يسقط من جناحه من التهاويل والدر والياقوت ما الله به عليم فإذا كان هذا عظم هذه ـ المخلوقات فخالفها أعظم وأجل وأكبر . فكيف يسوى به غيره في العبادة : دعاء وخوفًا ورجاء وتوكلًا وغير ذلك من العبادات التي لا يستحقها غيره ؟ فانظر إلى حال الملائكة وشدة خوفهم من الله تعالى ، وقد قال تعالى : ' 21 : 26 _ 29 ' " بل عباد مكرمون * لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون * يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يشفعون إلا لمن ارتضى وهم من خشيته مشفقون * ومن يقل منهم إني إله من دونه فذلك نجزيه جهنم كذلك نجزي الظالمين " . قوله : ثم ينتهي جبريل بالوحي إلى حيث أمره الله عز وجل من السماء والأرض وهذا تمام الحديث . والآيات المذكورة في هذا الباب والأحاديث تقرر التوحيد الذي هو مدلول شهادة أن لا إله إلا الله ، فإن الملك العظيم الذي تصعق الأملاك من كلامه خوفًا منه ومهابة وترجف منه المخلوقات ، الكامل في ذاته وصفاته ، وعلمه وقدرته وملكه وعزه ، وغناه عن جميع خلقه ، وافتقارهم جميعًا إليه ، ونفوذ تصرفه وقدره فيهم لعلمه وحكمته ، لا يجوز شرعًا ولا عقلًا أن يجعل له شريك من خلقه في عبادته التي هي حقه عليهم ، فكيف يجعل المربوب ربًا ، والعبد معبودًا ؟ أين ذهبت عقول المشركين ؟ سبحان الله عما يشركون . وقال تعالى : ' 19 : 93 ، 94 ' " إن كل من في السموات والأرض إلا آتي الرحمن عبدًا " من أولهم إلى آخرهم تزجرهم عن ذلك الشرك وتنهاهم عن عبادة ما سوى الله . انتهى من شرح سنن ابن ماجه .

باب الشفاعة قوله : ( باب الشفاعة ) أي بيان ما أثبته القرآن منها وما نفاه . وحقيقة ما دل القرآن على إثباته . قوله : وقول الله عز وجل : ' 6 : 51 ' " وأنذر به الذين يخافون أن يحشروا " المخافة والتحذير منها . قوله : به قال ابن عباس بالقرآن " الذين يخافون أن يحشروا إلى ربهم " وهم المؤمنون وعن الفضيل بن عياض ليس كل خلقه عاتب ، إنما عاتب الذين يعقلون ، فقال : " وأنذر به الذين يخافون أن يحشروا إلى ربهم " وهم المؤمنون أصحاب العقول الواعية . قوله : " ليس لهم من دونه ولي ولا شفيع " قال الزجاج : موضع ليس نصب على الحال ، كأنه قال : متخلين من كل ولي وشفيع . والعامل فيه يخافون . قوله : لعلهم يتقون أي فيعملون في هذه الدار عملًا ينجيهم الله به من عذاب يوم القيامة . وقوله : ' 39 : 44 ' " قل لله الشفاعة جميعًا " وقبلها " أم اتخذوا من دون الله شفعاء قل أو لو كانوا لا يملكون شيئا ولا يعقلون " وهذه كقوله تعالى : ' 10 : 18 ' " ويعبدون من دون الله ما لا يضرهم ولا ينفعهم ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله قل أتنبئون الله بما لا يعلم في السموات ولا في الأرض سبحانه وتعالى عما يشركون " فبين تعالى في هذه الآيات وأمثالها أن وقوع الشفاعة على هذا الوجه منتف وممتنع ، وأن اتخاذهم شفعاء شرك ، يتنزه الرب تعالى عنه . وقد قال تعالى : ' 46 : 28 ' " فلولا نصرهم الذين اتخذوا من دون الله قربانًا آلهة بل ضلوا عنهم وذلك إفكهم وما كانوا يفترون " فبين تعالى أن دعواهم أنهم يشفعون لهم بتأليههم . إن ذلك منهم إفك وافتراء . وقوله تعالى : " قل لله الشفاعة جميعًا " أي هو مالكها ، فليس لمن تطلب منه شئ منها ، وإنما تطلب ممن يملكها دون كل من سواه ، لأن ذلك عبادة وتأليه لا يصلح إلى لله . قال البيضاوي : لعله رد لما عسى أن يجيبوا به ، وهو أن الشفعاء أشخاص مقربون . وقوله تعالى : " له ملك السموات والأرض " تقرير لبطلان اتخاذ الشفعاء من دونه ، لأنه مالك الملك، فاندرج في ذلك ملك الشفاعة، فإذا كان هو مالكها بطل أن تطلب ممن لا يملكها ' 2 : 255 ' " من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه " ' 21 : 28 ' " ولا يشفعون إلا لمن ارتضى " . قال 'ابن جرير ' : نزلت لما قال الكفار : ما نعبد أوثاننا هذه إلى ليقربونا إلى الله زلفى قال الله تعالى : " له ملك السموات والأرض ثم إليه ترجعون " . قال : وقوله ' 2 : 255 ' " من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه " قد تبين مما تقدم من الآيات أن الشفاعة التي نفاها القرآن هي التي تطلب من غير الله . وفي هذه الآية بيان أن الشفاعة إنما تقع في الدار الآخرة بإذنه ، كما قال تعالى : ' 20 : 109 ' " يومئذ لا تنفع الشفاعة إلا من أذن له الرحمن ورضي له قولا " فبين أنه لا تقع لأحد إلا بشرطين : إذن الرب تعالى للشافع أن يشفع ، ورضاه عن المأذون بالشفاعة فيه ، وهو تعالى لا يرضى من الأقوال والأعمال الظاهرة والباطنة إلا ما أريد به وجهه ، ولقى العبد به ربه مخلصًا غير شاك في ذلك ، كما دل على ذلك الحديث الصحيح . وسيأتي ذلك مقررًا أيضًا في كلام شيخ الإسلام رحمه الله . وقوله : ' 53 : 26 ' " وكم من ملك في السموات لا تغني شفاعتهم شيئًا إلا من بعد أن يأذن الله لمن يشاء ويرضى " قال ابن كثير رحمه الله " وكم من ملك في السموات لا تغني شفاعتهم شيئًا إلا من بعد أن يأذن الله لمن يشاء ويرضى " كقوله " من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه " " ولا تنفع الشفاعة عنده إلا لمن أذن له " فإذا كان هذا في حق الملائكة المقربين ، فكيف ترجون أيها الجاهلون شفاعة هذه الأنداد عند الله ، وهو لم يشرع عبادتها ولا أذن فيها ، بل قد نهى عنها على ألسنة جميع رسله ، وأنزل بالنهي عن ذلك جميع كتبه ؟ قال : ( وقوله تعالى : '34 : 22 ، 23 ' " قل ادعوا الذين زعمتم من دون الله لا يملكون مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض وما لهم فيهما من شرك وما له منهم من ظهير * ولا تنفع الشفاعة عنده إلا لمن أذن له " .

قول ابن القيم رحمه الله في الشفاعة قال ابن القيم رحمه الله تعالى في الكلام على هذه الآيات : وقد قطع الله الأسباب التي يتعلق بها المشركون جميعها . فالمشرك إنما يتخذ معبوده لما يحصل له من النفع ، والنفع لا يكون إلا ممن فيه خصلة من هذه الأربع: إما مالك لما يريد عابده منه، فإن لم يكن مالكًا كان شريكًا للمالك ، فإن لم يكن شريكًا له كان معينًا له وظهيرًا ، فإن لم يكن معنيًا ولا ظهيرًا كان شفيعًا عنده . فنفى الله سبحانه المراتب الأربع نفيًا مرتبًا ، متنقلًا من الأعلى إلى الأدنى ، فنفى الملك والشركة والمظاهرة والشفاعة التي يطلبها المشرك ، وأثبت شفاعة لا نصيب فيها لمشرك ، وهي الشفاعة بإذنه . فكفى بهذه الآية نورًا وبرهانًا وتجريدًا للتوحيد ، وقطعًا لأصول الشرك ومواده لمن عقلها . والقرآن مملوء من أمثالها ونظائرها ، ولكن أكثر الناس لا يشعرون بدخول الواقع تحته وتضمنه له ، ويظنونها في نوع وقوم قد خلوا من قبل ولم يعقبوا وارثًا ، فهذا هو الذي يحول بين القلب وبين فهم القرآن . ولعمر الله ، إن كان أولئك قد خلوا فقد ورثهم من هو مثلهم أو شر منهم أو دونهم ، وتناول القرآن لهم كتناوله لأولئك . ثم قال : ومن أنواعه ـ أي الشرك ـ طلب الحوائج من الموتى والإستغاثة بهم ، وهذا أصل شرك العالم . فإن الميت قد انقطع عمله وهو لا يملك لنفسه نفعًا ولا ضرًا ، فضلًا عمن استغاث به وسأله أن يشفع له إلى الله . وهذا من جهله بالشافع والمشفوع عنده . فإنه لا يقدر أن يشفع له عند الله إلا بإذنه ، والله لم يجعل استغاثته وسؤاله سببًا لإذنه ، فإنه لا يقدر أن يشفع له عند الله إلا بإذنه ، والله لم يجعل استغاثته وسؤاله سببًا لإذنه ، وإنما السبب كمال التوحيد ، فجاء هذا الشرك بسبب يمنع الإذن ، وهو بمنزلة من استعان في حاجته بما يمنع حصولها . وهذه حالة كل مشرك ، فجمعوا بين الشرك بالمعبود وتغيير دينه ، ومعاداة أهل التوحيد ، ونسبة أهله إلى التنقص بالأموات ، وهم قد تنقصوا الخالق بالشرك ، وأولياءه الموحدين بذمهم وعيبهم ومعاداتهم ، وتنقصوا من أشركوا به غاية التنقص ، إذا ظنوا أنهم راضون منهم بهذا ، وأنهم أمروهم به ، وأنهم يوالونهم عليه ، وهؤلاء هم أعداء الرسل في كل زمان ومكان ، وما أكثر المستجيبين لهم ، وما نجى من شرك هذا الشرك الأكبر إلا من جرد توحيده لله ، وعادى المشركين في الله ، وتقرب بمقتهم إلى الله ، واتخذ الله وحده وليه وإلهه ومعبوده . فجرد حبه لله وخوفه لله ، ورجاءه لله ، وذله لله ، وتوكله على الله ، واستعانته بالله ، والتجاءه إلى الله ، واستغاثته بالله ، وقصده لله ، متبعًا لأمره متطلبًا لمرضاته ، إذا سأل سأل الله ، وإذا استعان استعان بالله ، وإذا عمل عمل لله . فهو لله وبالله ومع الله . انتهى كلامه رحمه الله تعالى . وهذا الذي ذكره هذا الإمام في معنى الآية هو حقيقة دين الإسلام ، كما قال تعالى : ' 4 : 125 ' " ومن أحسن دينًا ممن أسلم وجهه لله وهو محسن واتبع ملة إبراهيم حنيفًا واتخذ الله إبراهيم خليلًا " . قوله : قال أبو العباس هذه كنية شيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام ابن تيمية الحراني إمام المسلمين رحمه الله .

نفى الله عما سواه كل ما يتعلق به المشركون ، فنفى أن يكون لغيره ملك أو قسط منه ، أو يكون عونًا لله . فلم يبق إلى الشفاعة . فبين أنها لا تنفع إلا لمن أذن له الرب ، كما قال تعالى : '21 : 28 ' " ولا يشفعون إلا لمن ارتضى " فهذه الشفاعة التي يظنها المشركون هي منتفية يوم القيامة كما نفاها القرآن ، وأخبر النبي   أنه يأتي فيسجد لربه ويحمده ، لا يبدأ بالشفاعة أولًا . ثم يقال له : ارفع رأسك وقل يسمع ، وسل تعطه ، واشفع تشفع  . وقال له أبو هريرة "من أسعد الناس بشفاعتك ؟ قال : من قال لا إله إلا الله خالصًا من قلبه " فتلك الشفاعة لأهل الإخلاص بإذن الله ، ولا تكون لمن أشرك بالله ، وحقيقتها : أن الله سبحانه وتعالى هو الذي يتفضل على أهل الإخلاص ، فيغفر لهم بواسطة دعاء من أذن له أن يشفع ليكرمه وينال المقام المحمود . فالشفاعة التي نفاها القرآن ما كان فيها شرك ، ولهذا أثبت الشفاعة بإذنه في مواضع ، وقد بين النبي  أنها لا تكون إلا لأهل التوحيد والإخلاص  انتهى  .

من أسعد الناس بشفاعة رسول الله قوله : وقال أبو هريرة إلى آخره . هذا الحديث رواه البخاري والنسائي عن أبي هريرة ورواه أحمد وصححه ابن حبان وفيه " وشفاعتي لمن قال لا إله إلى الله مخلصًا ، يصدق قلبه لسانه ، ولسانه قلبه" وشاهده في صحيح مسلم عن أبي هريرة قال : قال رسول الله " لكل نبي دعوة مستجابة ، فتجعل كل نبي دعوته ، وإني اختبأت دعوتي شفاعة لأمتي يوم القيامة . فهي نائلة إن شاء الله من مات لا يشرك بالله شيئًا " . وقد ساق المصنف رحمه الله كلام شيخ الإسلام هنا ، فقام مقام الشرح والتفسير لما في هذا الباب من الآيات ، وهو كاف واف بتحقيق مع الإيجاز . والله أعلم . وقد عرف الإخلاص بتعريف حسن فقال : الإخلاص محبة الله وحده وإرادة وجهه . ا هـ . وقال ابن القيم رحمه الله في معنى حديث أبي هريرة : تأمل هذا الحديث كيف جعل أعظم الأسباب التي تنال بها شفاعته تجريد التوحيد ، عكس ما عند المشركين أن الشفاعة تنال باتخاذهم شفعاء وعبادتهم وموالاتهم ، فقلب النبي ما في زعمهم الكاذب ، وأخبر أن سبب الشفاعة تجريد التوحيد ، فحينئذ يأذن الله للشافع أن يشفع ومن جهل المشرك اعتقاده أن من اتخذه وليًا أو شفيعًا أنه يشفع له وينفعه عند الله ، كما يكون خواص الولاة والملوك تنفع من والاهم ولم يعلموا أنه لا يشفع عنده أحد إلا بإذنه في الشفاعة ، ولا يأذن في الشفاعة إلا لمن رضى قوله وعمله ، كما قال في الفصل الأول ' 2 : 255 ' " من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه " وفي الفصل الثاني ' 21 : 28 ' " ولا يشفعون إلا لمن ارتضى " وبقى فصل ثالث ، وهو أنه لا يرضى من القول والعمل إلا توحيده واتباع رسوله . فهذه ثلاثة فصول تقطع شجرة الشرك من قلب من عقلها ووعاها . ا هـ . وذكر أيضًا رحمه الله تعالى أن الشفاعة ستة أنواع : الأول : الشفاعة الكبرى التي يتأخر عنها أولو العزم عليهم الصلاة والسلام حتى تنتهي إليه فيقول : أنا لها وذلك حين يرغب الخلائق إلى الأنبياء ليشفعوا لهم إلى ربهم حتى يريحهم من مقامهم في الموقف . وهذه شفاعة يختص بها لا يشركه فيها أحد . الثاني : شفاعته لأهل الجنة في دخولها . وقد ذكرها أبو هريرة في حديثه الطويل المتفق عليه . الثالث : شفاعته لقوم من العصاة من أمته قد استوجبوا النار بذنوبهم ، فيشفع لهم أن لا يدخلوها . الرابع : شفاعته في العصاة من أهل التوحيد الذي يدخلون النار بذنوبهم . والأحاديث بها متواترة عن النبي . وقد أجمع عليها الصحابة وأهل السنة قاطبة وبدعوا من أنكرها ، وصاحوا به من كل جانب ونادوا عليه بالضلال . الخامس : شفاعته لقوم من أهل الجنة في زيادة ثوابهم ورفعة درجاتهم ، وهذه مما لم ينازع فيها أحد . وكلها مختصة بأهل الإخلاص الذين لم يتخذوا من دون الله وليًا ولا شفيعًا ، كما قال تعالى : ' 6 : 51 ' " وأنذر به الذين يخافون أن يحشروا إلى ربهم ليس لهم من دونه ولي ولا شفيع " . السادس : شفاعته في بعض أهل الكفار من أهل النار حتى يخفف عذابه وهذه خاصة بأبي طالب وحده .

باب إنك لا تهدي من أحببت قوله : باب

قول الله تعالى : ' 28 : 56 ' " إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء وهو أعلم بالمهتدين "  .

سبب نزول هذه الآية ، موت أبي طالب على ملة عبد المطلب ، كما سيأتي بيان ذلك في حديث الباب . قال ابن كثير رحمه الله تعالى : يقول تعالى لرسوله : إنك يا محمد لا تهدي من أحببت ، أي ليس إليك ذلك ، إنما عليك البلاغ والله يهدي من يشاء . وله الحكمة البالغة ، والحجة الدامغة ، كما قال تعالى : ' 2 : 272 ' " ليس عليك هداهم ولكن الله يهدي من يشاء " وقال تعالى : ' 12 : 103 ' " وما أكثر الناس ولو حرصت بمؤمنين " . قلت : والمنفى هنا هداية التوفيق والقبول ، فإن أمر ذلك إلى الله ، وهو القادر عليه . وأما الهداية المذكورة في قول الله تعالى: ' 42 : 52 ' " وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم " فإنها هداية الدلالة والبيان ، فهو المبين عن الله والدال على دينه وشرعه .

حديث ابن المسيب في وفاة أبي طالب وقوله : في الصحيح عن ابن المسيب عن أبيه قال : " لما حضرت أبا طالب الوفاة جاءه رسول الله وعنده عبد الله بن أبي أمية وأبو جهل ، فقال له : يا عم قل لا إله إلى الله ، كلمة أحاج بها عند الله . فقالا له : أترغب عن ملة عبد المطلب ؟ فأعاد عليه النبي ، فأعاد . فكان أخر ما قال : هو على ملة عبد المطلب . وأبي أن يقول لا إله إلى الله . فقال النبي لأستغفرن لك مالم أنه عنك " . فأنزل الله عز وجل ' 9 : 113 ' " ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ولو كانوا أولي قربى من بعد ما تبين لهم أنهم أصحاب الجحيم " وأنزل الله في أبي طالب : " إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء " . قوله : في الصحيح أي في الصحيحين . وابن المسيب هو سعيد بن المسيب بن حزن بن أبي وهب بن عمر بن عائذ بن عمران بن مخزوم القرشي المخزومي ، أحد العلماء والفقهاء الكبار السبعة من التابعين. اتفق أهل الحديث على أن مراسيله أصح المراسيل. وقال ابن المديني : لا أعلم في التابعين أوسع علمًا منه . مات بعد التسعين وقد ناهز الثمانين . وأبو المسيب صحابي ، بقى إلى خلافة عثمان رضي الله عنه ، وكذلك جده حزن ، صحابي استشهد باليمامة . قوله : لما حضرت أبا طالب الوفاة أي علاماتها ومقدماتها . قوله : جاء رسول الله يحتمل أن يكون المسيب حضر مع الإثنين فإنهما من بني مخزوم ، وهو أيضًا مخزومي ، وكان الثلاثة إذ ذاك كفارًا ، فقتل أبو جهل على كفره وأسلم الآخران . قوله : يا عم منادي مضاف يجوز فيه إثبات الياء وحذفها ، حذفت الياء هنا ، وبقيت الكسرة دليلًا عليها . قوله : قل لا إله إلا الله أمره أن يقولها لعلم أبي طالب بما دلت عليه من نفى الشرك بالله وإخلاص العبادة له وحده ، فإن من قالها عن علم ويقين فقد برىء من الشرك والمشركين ودخل في الإسلام . لأنهم يعلمون ما دلت عليه ، وفي ذلك الوقت لم يكن بمكة إلا مسلم أو كافر . فلا يقولها إلا من ترك الشرك وبرىء منه . ولما هاجر النبي وأصحابه إلى المدينة كان فيها المسلمون الموحدون والمنافقون الذين يقولونها بألسنتهم وهم يعرفون معناها ، لكن لا يعتقدونها ، لما في قلوبهم من العداوة والشك والريب ، فهم مع المسلمين بظاهر الأعمال دون الباطن ، وفيها اليهود ، وقد أقرهم رسول الله لما هاجر ، ووادعهم بأن لا يظاهروا عليه عدوًا كما هو مذكور في كتب الحديث والسير . قوله : كلمة قال القرطبي : بالنصب على أنه بدل من لا إله إلى الله ويجوز الرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف . قوله : أحاج لك بها عند الله هو بتشديد الجيم من المحاجة ، والمراد بها بيان الحجة بها لو قالها في تلك الحال . وفيه دليل على أن الأعمال بالخواتيم ، لأنه لو قالها في تلك الحال معتقدًا ما دلت عليه مطابقة من النفي والإثبات لنفعته . قوله : فقالا له : أترغب عن ملة عبد المطلب ذكراه الحجة الملعونة التي يحتج بها المشركون على المرسلين ، كقول فرعون لموسى : ' 20 : 51 ' " فما بال القرون الأولى " وكقوله تعالى : ' 43 : 23 ' " وكذلك ما أرسلنا من قبلك في قرية من نذير إلا قال مترفوها إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون " . قوله : فأعاد النبي فأعادا فيه معرفتهما لمعنى لا إله إلا الله لأنهما عرفا أن أبا طالب لو قالها لبرىء من ملة عبد المطلب . فإن ملة عبد المطلب هي الشرك بالله في إلهيته . وأما الربوبية فقد أقروا بها كما تقدم . وقد قال عبد المطلب لأبرهة : أنا رب الإبل ، والبيت له رب يمنعه منك وهذه المقالة منهما عند قول النبي لعمه : قل لا إله إلى الله استكبارًا عن العمل بمدلولها . كما قال الله تعالى عنهما وعن أمثالهما من أولئك المشركين : ' 37 : 35 ، 36 ' " إنهم كانوا إذا قيل لهم لا إله إلا الله يستكبرون * ويقولون أإنا لتاركوا آلهتنا لشاعر مجنون " فرد عليهم بقوله : ' 37 : 37 ' " بل جاء بالحق وصدق المرسلين " فبين تعالى أن استكبارهم عن قوله لا إله إلا الله لدلالتها على نفي عبادتهم الآلهة التي كانوا يعبدونها من دون الله . فإن دلالة هذه الكلمة على نفي ذلك دلالة تضمن ، ودلالتها عليه وعلى الإخلاص دلالة مطابقة . ومن حكمة الرب تعالى في عدم هداية أبي طالب إلى الإسلام ليبين لعباده أن ذلك إليه ، وهو القادر عليه دون من سواه ، فلو كان عند النبي ـ الذي هو أفضل خلقه ـ من هداية القلوب وتفريج الكروب ، ومغفرة الذنوب ، والنجاة من العذاب ، ونحو ذلك شئ ، لكان أحق الناس بذلك وأولاهم به عمه الذي كان يحوطه ويحميه وينصره ويؤويه ، فسبحان من بهرت حكمته العقول ، وأرشد العباد إلى ما يدلهم على معرفته وتوحيده ، وإخلاص العمل له وتجريده . قوله : فكان آخر ما قال الأحسن فيه الرفع على أنه اسم كان وجملة هو وما بعدها الخبر . قوله : هو على ملة عبد المطلب الظاهر أن أبا طالب قال : أنا فغيره الراوى استقباحًا للفظ المذكور ، وهو من التصرفات الحسنة ، قاله الحافظ . قوله : وأبى أن يقول لا إله إلا الله قال الحافظ : هذا تأكيد من الراوى في نفي وقوع ذلك من أبي طالب . قال المصنف رحمه الله : وفيه الرد على من زعم إسلام عبد الطلب وأسلافه ومضرة أصحاب السوء على الإنسان ، ومضرة تعظيم الأسلاف . أي إذا زاد على المشروع ، بحيث تجعل أقوالهم حجة يرجع إليها عند التنازع . قوله : فقال النبي لأستغفرن لك ما لم أنه عنك قال النووي : وفيه جواز الحلف من غير استحلاف . وكان الحلف هنا لتأكيد العزم على الاستغفار تطييبًا لنفس أبي طالب . وكانت وفاة أبي طالب بمكة قبل الهجرة بقليل . قال ابن فارس : مات أبو طالب ولرسول الله تسع وأربعون سنة وثمانية أشهر وأحد عشر يومًا . وتوفيت خديجة أم المؤمنين رضي الله عنها بعد موت أبي طالب بثمانية أيام . قوله : " ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ولو كانوا أولي قربى " الآية أي ما ينبغي لهم ذلك . وهو خبر بمعنى النهي ، والظاهر أن هذه الآية نزلت في أبي طالب . فإن الإتيان بالفاء المفيدة للترتيب في قوله : فأنزل الله بعد قوله لأستغفرن لك ما لم أنه عنك يفيد ذلك . وقد ذكر العلماء لنزول الآية الثانية فواضح في قصة أبي طالب . وأما نزول الآية التي قبلها ففيه نظر ، ويظهر أن المراد أن الآية المتعلقة بالإستغفار نزلت بعد أبي طالب بمدة ، وهي عامة في حقه وحق غيره ، ويوضح ذلك ما يأتي في التفسير ، فأنزل الله بعد ذلك : " ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين " الآية . ونزل في أبي طالب : " إنك لا تهدي من أحببت " كله ظاهر في أنه مات على غير الإسلام . ويضعف ما ذكره السهيلي أنه روى في بعض كتب 'المسعودى ' أنه أسلم ، لأن مثل ذلك لا يعارض ما في الصحيح . انتهى . وفيه تحريم الإستغفار للمشركين وموالاتهم ومحبتهم ، لأنه إذا حرم الاستغفار لهم فموالتهم ومحبتهم أولى .

باب ما جاء أن سبب كفر بني آدم إلخ قوله : باب ( ما جاء أن سبب كفر بني آدم وتركهم دينم هو الغلو في الصالحين ) قوله : تركهم بالجر عطفًا على المضاف إليه . وأراد المصنف رحمه الله تعالى بيان ما يؤول إله الغلو في الصالحين من الشرك بالله في الإلهية الذي هو أعظم ذنب عصى الله به ، وهو ينافي التوحيد الذي دلت عليه كلمة الإخلاص : شهادة أن لا إله إلى الله . قوله وقول الله عز وجل ' 4 : 171 ' " يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم ولا تقولوا على الله إلا الحق إنما المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه " الغلو هو الإفراط في التعظيم بالقول والاعتقاد ، أي لا ترفعوا المخلوق عن منزلته التي أنزله الله فتنزلوه المنزلة التي لا تنبغي إلا لله . والخطاب ـ وإن كان لأهل الكتاب ـ فإنه عام يتناول جميع الأمة ، تحذيرًا لهم أن يفعلوا بنبيهم فعل النصارى في عيسى ، واليهود في العزير كما قال تعالى : ' 57 : 16 ' " ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله وما نزل من الحق ولا يكونوا كالذين أوتوا الكتاب من قبل فطال عليهم الأمد فقست قلوبهم وكثير منهم فاسقون " ولهذا قال النبي " لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم " ويأتي . فكل من دعا نبيًا أو وليًا من دون الله فقد اتخذ إلهًا ، وضاهأ النصارى في شركهم ، وضاهأ اليهود في تفريطهم . فإن النصارى غلوا في عيسى عليه السلام ، واليهود عادوه وسبوه وتنقصوه . فالنصارى أفرطوا ، واليهود فرطوا . وقال تعالى : ' 5 : 57 ' " ما المسيح ابن مريم إلا رسول قد خلت من قبله الرسل وأمه صديقة كانا يأكلان الطعام " ففي هذه الآية وأمثالها الرد على اليهود والنصارى . قال شيخ الإسلام رحمه الله : ومن تشبه من هذه الأمة باليهود والنصارى ، وغلا في الدين فإفراط فيه أو تفريط فقد شابههم. قال: وعلى رضى الله عنه حرق الغالية من الرافضة ، فأمر بأخاديد خدت لهم عند باب كندة فقذفهم فيها . واتفق الصحابة على قتلهم. لكن ابن عباس مذهبه أن يقتلوا بالسفق من غير تحريق . وهو قول أكثر العلماء .

معنى " وقالوا لا تذرن آلهتكم ولا " إلخ قوله في الصحيح عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى ' 71 : 23 ' " وقالوا لا تذرن آلهتكم ولا تذرن ودا ولا سواعا ولا يغوث ويعوق ونسرا " قال : هذه أسماء رجال صالحين من قوم نوح ، فلما هلكوا أوحى الشيطان إلى قومهم : أن انصبوا إلى مجالسهم التي كانوا يجلسون فيها أنصابًا وسموها بأسمائهم ، ففعلوا ، ولم تعبد ، حتى إذا هلك أولئك ونسى العلم عبدت قوله وفي الصحيح أي صحيح البخاري . وهذا الأثر اختصره المصنف . ولفظ ما في البخاري : عن ابن عباس رضي الله عنهما قال صارت الأوثان التي في قوم نوح في العرب بعد . أما ود فكانت لكلب بدومة الجندل . وأما سواع فكانت لهذيل . وأما يغوث فكانت لمراد ثم لبنى غطيف بالجرف عند سبأ . وأما يعوق فكانت لهمدان . وأما نسر فكانت لحمير لآل ذي الكلاع : أسماء رجال صالحين في قوم نوح ... إلى آخره . وروى عكرمة والضحاك وابن إسحاق نحو هذا . قال ابن جرير : حدثنا ابن حميد قال حدثنا مهران عن سفيان عن موسى عن محمد ابن قيس أن يغوث ويعوق ونسرًا كانوا قومًا صالحين من بني آدم ، وكان لهم أتباع يقتدون بهم . فلما ماتوا قال أصحابهم : لو صورناهم كان أشوق لنا إلى العبادة ، فصوروهم ، فلما ماتوا وجاء آخرون دب إليهم إبليس فقال : إنما كانوا يعبدونهم وبهم يسقون المطر . فعبدوهم . قوله : أن انصبوا هو بكسر الصاد المهملة . قوله : أنصابًا جمع نصب ، والمراد به هنا الأصنام المصورة على صور أولئك الصالحين التي نصبوها في مجالسهم ، وسموها بأسمائهم . وفي سياق حديث ابن عباس ما يدل على أن الأصنام تسمى أوثانًا . فاسم الوثن يتناول كل معبود من دون الله ، سواء كان ذلك المعبود قبرًا أو مشهدًا ، أو صورة أو غير ذلك . قوله : حتى إذا هلك أولئك أي الذين صوروا تلك الأصنام . قوله : ونسى العلم ورواية البخاري وينسخ وللكشميهني ونسخ العلم أي درست آثاره بذهاب العلماء ، وعم الجهل حتى صاروا لا يميزون بين التوحيد والشرك فوقعوا في الشرك ظنًا منهم أنه ينفعهم عند الله . قوله : عبدت لما قال لهم إبليس : إن من كان قبلكم كانوا يعبدونهم وبهم يسقون المطر ، هو الذي زين لهم عبادة الأصنام وأمرهم بها ، فصار هو معبودهم في الحقيقة . كما قال تعالى : ' 36 : 60 ـ 62 ' " ألم أعهد إليكم يا بني آدم أن لا تعبدوا الشيطان إنه لكم عدو مبين * وأن اعبدوني هذا صراط مستقيم * ولقد أضل منكم جبلا كثيرا أفلم تكونوا تعقلون " وهذا يفيد الحذر من الغلو ووسائل الشرك ، وإن كان القصد بها حسنًا . فإن الشيطان أدخل أولئك في الشرك من باب الغلو في الصالحين والإفراط في محبتهم ، كما قد وقع مثل ذلك في هذه الأمة : أظهر لهم الغلو والبدع في قالب تعظيم الصالحين ومحبتهم ، ليوقعهم فيما هو أعظم من ذلك ، من عبادتهم لهم من دون الله وفي رواية أنهم قالوا : ما عظم أولنا هؤلاء إلا وهم يرجون شفاعتهم عند الله أي يرجون شفاعة أولئك الUالحين الذين صوروا تلك الأصنام على صورهم وسموها بأسمائهم . ومن هنا يعلم أن اتخاذ الشفعاء ورجاء شفائهم بطلبها منهم : شرك بالله ، كما تقدم بيانه في الآيات المحكمات .

قال ابن القيم لما ماتوا عكفوا على قبورهم قوله : وقال ابن القيم رحمه الله : قال غير واحد من السلف : لما ماتوا عكفوا على قبورهم ، ثم صوروا تماثيلهم ، ثم طال عليهم الأمد فعبدوا . قوله : وقال ابن القيم رحمه الله هو الإمام العلامة محمد بن أبي بكر بن أيوب الزرعي الدمشقي المعروف بابن قيم الجوزية . قال الحافظ السخاوي : العلامة الحجة المتقدم في سعة العلم ومعرفة الخلاف وقوة الجنان ، المجمع عليه بين الموافق والمخالف ، صاحب التصانيف السائرة والمحاسن الجمة . مات سنة إحدى وخمسين وسبعمائة . قوله : وقال غير واحد من السلف هو بمعنى ما ذكره البخاري وابن جرير إلا أنه ذكر عكوفهم على قبورهم قبل تصويرهم تماثيلهم . وذلك من وسائل الشرك بل هو الشرك ، لأن العكوف لله في المساجد عبادة . فإذا عكفوا على القبور صار عكوفهم تعظيمًا ومحبة : عبادة لها . قوله : ثم طال عليهم الأمد فعبدوهم أي طال عليهم الزمان . وسبب تلك العبادة والموصل إليها هو ما جرى من الأولين من التعظيم بالعكوف على قبورهم ، ونصب صورهم في مجالسهم ، فصارت بذلك أوثانًا تعبد من دون الله ، كما ترجم به المصنف رحمه الله تعالى . فإنهم تركوا بذلك دين الإسلام الذي كان أولئك عليه قبل حدوث وسائل هذا الشرك ، وكفروا بعبادة تلك الصور واتخذوهم شفعاء . وهذا أول شرك حدث في الأرض . قال القرطبي : وإنما صور أوائلهم الصور ليتأسوا بهم ويتذكروا أفعالهم الصالحة ، فيجتهدوا كاجتهادهم ، ويعبدوا الله عند قبورهم . ثم خلفهم قوم جهلوا مرادهم ، فوسوس لهم الشيطان أسلافهم كانوا يعبدون هذه الصور ويعظمونها ا هـ . قال ابن القيم رحمه الله : وما زال الشيطان يوحي إلى عباد القبور ويلقى إليهم أن البناء والعكوف عليها من محبة أهل القبور من الأنبياء والصالحين ، وأن الدعاء عندها مستجاب ، ثم ينقلها من هذه المرتبة إلى الدعاء بها ، والإقسام على الله بها ، فإن شأن الله أعظم من أن يقسم عليه أو يسأل بأحد من خلقه . فإذا تقرر ذلك عندهم نقلهم منه إلى دعائه وعبادته ، وسؤاله الشفاعة من دون الله ، واتخاذ قبره وثنًا تعلق عليه القانديل والستور، ويطاف به ويستلم ويقبل ، ويحج إليه ويذبح عنده ، فإذا تقرر ذلك عندهم نقلهم منه إلى دعاء الناس إلى عبادته ، واتخاذه عيدًا ومنسكًا ، ورأوا أن ذلك أنفع لهم في دنياهم وأخراهم . وكل هذا مما قد علم بالاضطرار من دين الإسلام أنه مضاد لما بعث الله به رسوله من تجديد التوحيد ، وأن لا يعبد إلا الله . فإذا تقرر ذلك عندهم نقلهم منه إلى أن من نهى عن ذلك فقد تنقص أهل هذه الرتب العالية وحطهم عن منزلتهم ، وزعم أنه لا حرمة لهم ولا قدر ، فغضب المشركون واشمأزت قلوبهم ، كما قال تعالى : ' 39 : 45 ' " وإذا ذكر الله وحده اشمأزت قلوب الذين لا يؤمنون بالآخرة وإذا ذكر الذين من دونه إذا هم يستبشرون " وسرى ذلك في نفوس كثير من الجهال والطغام ، وكثير ممن ينتسب إلى العلم والدين ، حتى عادوا أهل التوحيد ورموهم بالعظائم ونفروا الناس عنهم ، ووالوا أهل الشرك وعظموهم ، وزعموا أنهم أولياء الله وأنصار دينه ورسوله، ويأبي الله ذلك ' 8 : 34 ' " وما كانوا أولياءه إن أولياؤه إلا المتقون " . اهـ كلام ابن القيم رحمه الله . وفي القصة فوائد ذكرها المصنف رحمه الله . ومنها : رد الشبه التي يسميها أهل الكلام عقليات ، ويدفعون بها ما جاء به الكتاب والسنة من توحيد الصفات ، وإثباتها على ما يليق بجلال الله وعظمته وكبريائه . ومنها : مضرة التقليد . ومنها : ضرورة الأمة إلى ما جاء به رسول الله علمًا وعملًا بما يدل عليه الكتاب والسنة فإن ضرورة العبد إلى ذلك فوق كل ضرورة . قوله : وعن عمر رضي الله عنه أن رسول الله قال " لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم . إنما أعبد عبد ، فقولوا عبد الله ورسوله " أخرجاه . قوله عن عمر هو ابن الخطاب بن نفيل ـ بنون وفاء مصغرًا ـ العدوى أمير المؤمنين وأفضل الصحابة بعد الصديق رضي الله عنهم . ولي الخلافة عشر سنين ونصفا . فامتلأت الدنيا عدلًا ، وفتحت في أيامه ممالك كسرى وقيصر . واستهشد في ذي الحجة سنة ثلاث وعشرين رضي الله عنه .

لا تطروني كما أطرت النصارى عيسى قوله : لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم الإطراء مجاوزة الحد في المدح والكذب عليه . قاله أبو السعادات . وقال غيره : أي لا تمدحوني بالباطل ، ولا تجاوزوا الحد في مدحي . قوله : إنما أنا عبد فقولوا عبد الله ورسوله أي لا تمدحوني فتغلوا في مدحي كما غلت النصارى في عيسى عليه السلام فادعوا فيه الإلهية . وإنما أنا عبد الله ورسوله ، فصفوني بذلك كما وصفني ربي ، فقولوا عبد الله ورسوله ، فأبى المشركون إلا مخالفة أمره وارتكاب نهيه ، وعظموه بما نهاهم عنه وحذرهم منه ، وناقضوه أعظم مناقضة ، وضاهوا النصارى في غلوهم وشركهم ، ووقعوا في المحذور ، وجرى منهم من الغلو والشرك شعرًا ونثرًا ما يطول عده ، وصنفوا فيه مصنفات . وقد ذكر شيخ الإسلام رحمه الله عن بعض أهل زمانه أنه جوز الاستغاثة بالرسول في كل ما يستغاث فيه بالله ، وصنف في ذلك مصنفًا رده شيخ الإسلام ، ورده موجود بحمد الله . ويقول : إنه يعلم مفاتيح الغيب التي لا يعلهما إلا الله . وذكر لهم أشياء من هذا النمط . نعوذ بالله من عمى البصيرة وقد اشتهر في نظم البوصيري قوله : يا أكرم الخلق ما لي من ألوذ به سواك عند حدوث الحادث العمم وما بعده من الأبيات التي مضمونها إخلاص الدعاء واللياذ والرجاء والاعتماد في أضيق الحالات ، وأعظم الاضطرار لغير الله ، فناقضوا الرسول بارتكاب ما نهى عنه أعظم مناقضة ، وشاقوا الله وروسوله أعظم مشاقة ، وذلك أن الشيطان أظهر لهم هذا الشرك العظيم في قالب محبة النبي وتعظيمه ، وأظهر لهم التوحيد والإخلاص الذي بعثه الله به في قالب تنقيصه ، وهؤلاء المشركون هم المتنقصون الناقصون ، أفرطوا في تعظيمه بها نهاهم عنه أشد النهي ، وفرطوا في متابعته ، فلم يعبأوا بأقواله وأفعاله ، ولا رضوا بحكمه ولا سلموا له . وإنما يحصل تعظيم الرسول بتعظيم أمره ونهيه ، والاهتداء بهديه ، واتباع سنته ، والدعوة إلى دينه الذي دعا إليه ونصرته ، وموالاة من عمل به ، ومعاداة من خالفه . فعكس أولئك المشركون ما أراد الله ورسوله علمًا وعملًا ، وارتكبوا ما نهى عنه ورسوله . فالله المستعان .

إياكم والغلو فإنما أهلك من كان قبلكم الغلو قوله : وقال رسول الله " إياكم والغلو . فإنما أهلك من كان قبلكم الغلو " . هذا الحديث ذكره المصنف بدون ذكر راويه . وقد رواه الإمام أحمد والترمذي وابن ماجه من حديث ابن عباس . وهذا لفظ رواية أحمد : عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : قال رسول الله غداة جمع : " هلم القط لي . فلقطت له حصيات هن حصى الحذف . فما وضعهن في يده قال : نعم بأمثال هؤلاء فارموا . وإياكم والغلو في الدين ، فإنما هلك من كان قبلكم بالغلو في الدين " . قال شيخ الإسلام : هذا عام في جميع أنواع الغلو في الاعتقادات والأعمال وسبب هذا اللفظ العلم رمي الجمار ، وهو داخل فيه ، مثل الرمي بالحجارة الكبار ، بناء على أنه أبلغ من الصغار . ثم علله بما يقتضي مجانبة هدى من كان قبلنا إبعادًا عن الوقوع فيما هلكوا به ، فإن المشارك لهم في بعض هديهم يخاف عليه من الهلاك . قوله : ولمسلم عن ابن مسعود أن رسول الله قال : هلك المتتطعون قالها ثلاثًا . قال الخطابي : المتنطع المتعمق في الشئ ، المتكلف البحث عن علي مذاهب أهل الكلام الداخلين فيما لا يعنيهم ، الخائضين فيما لا تبلغه عقولهم . ومن التنطع : الامتناع من المباح مطلقًا ، كالذي يمتنع من أكل اللحم والخبز ، ومن لبس الكتان والقطن ، ولا يلبس إلا الصوف ، ويمتنع من نكاح النساء ، ويظن أن هذا من الزهد المستحب . قال الشيخ تقي الدين : فهذا جاهل ضال ، انتهى . وقال ابن القيم رحمه الله : قال الغزالي : والمتنطعون في البحث والاستقصاء . وقال أبو السعادات : هم المتعمقون الغالون في الكلام ، المتكلمون بأقصى حلوقهم . مأخوذ من النطع ، وهو الغار الأعلى من الفم ، ثم استعمل في كل متعمق قولًا وفعلًا . وقال النووي : فيه كراهة التقعر في الكلام بالتشدق وتكلف الفصاحة ، واستعمال وحشى اللغة ودقائق الإعراب في مخاطبة العوام ونحوهم . قوله : قالها ثلاثًا أي قال هذه الكلمة ثلاث مرات ، مبالغة في التعليم والإبلاغ ، فقد بلغ البلاغ المبين . صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وصحبه أجمعين .

التغليظ على من عبد الله عند قبر صلاح قوله : باب ( ما جاء من التغليظ فيمن عبد الله عند قبر رجل صالح ، فكيف إذا عبده ؟ ) أي الرجل الصالح ، فإن عبادته هي الشرك الأكبر ، وعبادة الله عنده وسيلة إلى عبادته ، ووسائل الشرك محرمة . لأنها تؤدي إلى الشرك الأكبر وهو أعظم الذنوب .

حديث أم سلمة في كنسية الحبشة قوله : في الصحيح : عن عائشة رضي الله عنها أن أم سلمة ذكرت لرسول الله كنيسة رأتها بأرض الحبشة وما فيها من الصور . فقال : " أولئك إذا مات فيهم الرجل الصالح أو العبد الصالح ، بنوا على قبره مسجدًا ، وصوروا فيه تلك الصور أولئك شرار الخلق عند الله " فهؤلاء جمعوا بين الفتنتين : فتنة القبور وفتنة التماثيل . قوله : في الصحيح أي الصحيحين . قوله : أن أم سلمة هي هند بنت أبي أمية بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم القرشية المخزومية . تزوجها رسول الله بعد أبي سلمة سنة أربع ، وقيل : ثلاث ، وكانت قد هاجرت مع أبي سلمة إلى الحبشة ماتت سنة اثنتين وستين . قوله : ذكرت لرسول الله وفي الصحيحين أن أم حبيبة وأم سلمة ذكرتا ذلك لرسول الله و الكنسية بفتح الكاف وكسر النون : معبد النصارى . قوله : أولئك بكسر الكاف خطاب للمرأة . قوله : إذا مات فيهم الرجل الصالح أو العبد الصالح هذا ـ والله أعلم ـ شك من بعض رواة الحديث : هل قال النبي هذا أو هذا ؟ ففيه التحري في الرواية . وجواز الرواية بالمعنى . قوله : وصوروا فيه تلك الصور الإشارة إلى ما ذكرت أم سلمة وأم حبيبة من التصاوير التي في الكنسية . قوله : أولئك شرار الخلق عند الله وهذا يقتضى تحريم بناء المساجد على القبور ، وقد لعن من فعل ذلك كما سيأتي . قال البيضاوي  : لما كانت اليهود والنصارى يسجدون لقبور الأنبياء تعظيمًا لشأنهم ، ويجعلنها قبلة يتوجهون في الصلاة نحوها واتخذوها أوثانًا لعنهم النبي . قال القرطبي : وإنما صور أوائلهم الصور ليتأسوا بها ويتذكروا أعمالهم الصالحة ، فيجتهدوا كاجتهادهم ، ويعبدوا الله عند قبورهم ، ثم خلفهم قوم جهلوا مرادهم ووسوس لهم الشيطان أن أسلافهم كانوا يعبدون هذه الصور ويعظمونها . فحذر النبي عن مثل ذلك ، سدًا للذريعة المؤدية إلى ذلك . قوله : فهؤلاء جمعوا بين الفتنتين : فتنة القبور وفتنة التماثيل هذا من كلام شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى ، ذكره المصنف رحمه الله تنبيهًا على ما وقع من شدة الفتنة بالقبور والتماثيل فإن فتنة بالقبور كالفتنة بالأصنام أو أشد . قال شيخ الإسلام رحمه الله : وهذه العلة التي لأجلها نهى الشارع عن اتخاذ المساجد على القبور لأنها هي التي أوقعت كثيرًا من الأمم إما في الشرك الأكبر أو فيما دونه من الشرك . فإن النفوس قد أشركت بتماثيل الصالحين ، وتماثيل يزعمون أنها طلاسم الكواكب ونحو ذلك . فإن الشرك بقبر الرجل الذي يعتقد صلاحه أقرب إلى النفوس من الشرك بخشبة أو حجر . ولهذا تجد أهل الشرك يتضرعون عندها ، ويخشعون ويخضعون ، ويعبدون بقلوبهم عبادة لا يفعلونها في بيوت الله ولا وقت السحر ، ومنهم من يسجد لها ، وأكثرهم يرجون من بركة الصلاة عندها والدعاء ما لا يرجونه في المساجد ، فلأجل هذه المفسدة حسم النبي مادتها . حتى نهي عن الصلاة في المقبرة مطلقًا ، وإن لم يقصد المصلى بركة البقعة بصلاته ، كما يقصد بصلاته بركة المساجد ، كما نهى عن الصلاة وقت طلوع الشمس وغروبها ، لأنها أوقات يقصد فيها المشركون الصلاة للشمس ، فنهى أمته عن الصلاة حينئذ وإن لم يقصد ما قصده المشركون ، سدًا للذريعة . وأما إذا قصد الرجل الصلاة عند القبور متبركًا بالصلاة في تلك البقعة فهذا عين المحادة لله ولرسوله ، والمخالفة لدينه وابتداع دين لم يأذن به الله ، فإن المسلمين قد أجمعوا على ما علموه بالاضطرار من دين الرسول  : أن الصلاة عند القبور منهى عنها ، وأنه لعن من اتخذها مساجد ، فمن أعظم المحدثات وأسباب الشرك : الصلاة عندها واتخاذها مساجد ، وبناء المساجد عليها . وقد تواترت النصوص عن النبي بالنهي عن ذلك والتغليظ فيه . وقد صرح عامة الطوائف بالنهي عن بناء المساجد عليها متابعة منهم للسنة الصحيحة الصريحة . وصرح أصحاب أحمد وغيرهم من أصحاب مالك والشافعي بتحريم ذلك . وطائفة أطلقت الكراهة والذي ينبغي أن تحمل على كراهة التحريم ، إحسانًا للظن بالعلماء ، وأن لا يظن بهم أن يجوزوا فعل ما تواتر عن رسول الله لعن فاعله والنهي عنه . ا هـ كلامه رحمه الله تعالى .

حديث عائشة : لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد قوله : ولهما عنها ـ أي عن عائشة رضي الله عنها ـ قالت : " لما نزل برسول الله طفق يطرح خميصة له على وجهه ، فإذا اغتم بها كشفها فقال ـ وهو كذلك ـ : لعن الله اليهود والنصارى ، اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد ، يحذر ما صنعوا . ولولا ذلك أبرز قبره ، غير أنه خشى أن يتخذ مسجدًا " أخرجاه . قوله : ولهما أي البخاري ومسلم . وهو يغنى عن قوله في آخره أخرجاه . قوله : لما نزل هو بضم النون وكسر الزاي . أي نزل به ملك الموت والملائكة الكرام عليهم السلام . قوله : طفق بكسر الفاء وفتحها ، والكسر أفصح . وبه جاء القرآن ، ومعناه جعل . قوله : خميصة بفتح المعجمة والصاد المهملة . كساء له أعلام . قوله : فإذا اغتم بها كشفها أي عن وجهه . قوله : لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد يبين أن من فعل مثل ذلك حل عليه من اللعنة ما حل على اليهود والنصارى . قوله : يحذر ما صنعوا الظاهر أن هذا كلام عائشة رضي الله عنها لأنها فهمت من قول النبي ذلك تحذير أمته من هذا الصنيع الذي كانت تفعله اليهود والنصارى في قبور أنبيائهم ، فإنه من الغلو في الأنبياء ، ومن أعظم الوسائل إلى الشرك . ومن غربة الإسلام أن هذا الذي لعن رسول الله فاعليه ـ تحذيرًا لأمته أن يفعلوه معه ومع الصالحين من أمته ـ قد فعله الخلق الكثير من متأخري هذه الأمة ، واعتقدوه قربة من القربات ، وهو من أعظم السيئات والمنكرات ، وما شعروا أن ذلك محادة لله ورسوله . قال القرطبي في معنى الحديث : وكل ذلك لقطع الذريعة المؤدية إلى عبادة من فيها كما كان السبب في عبادة الأصنام . انتهى . إذ لا فرق بين عبادة القبر ومن فيه وعبادة الصنم ، وتأمل قول الله تعالى عن نبيه يوسف ابن يعقوب حيث قال : ' 12 : 28 ' " واتبعت ملة آبائي إبراهيم وإسحاق ويعقوب ما كان لنا أن نشرك بالله من شيء " نكرة في سياق النفي تعم كل شرك . قوله : ولولا ذلك أي ما كان يحذر من اتخاذ قبر النبي مسجدًا لأبرز قبره وجعل مع قبور الصحابة الذين كانت قبورهم في البقيع . قوله : غير أنه خشي أن يتخذ مسجدًا روى بفتح الخاء وضمها ، فعلى الفتح يكون هو الذي خشي ذلك ، وأمرهم أن يدفنوه في المكان الذي قبض فيه . وعلى رواية الضم يحتمل أن يكون الصحابة هم الذين خافوا أن يقع ذلك من بعض الأمة ، فلم يبرزوا قبره ، خشية أن يقع ذلك من بعض الأمة غلوًا وتعظيمًا بما أبدى وأعاد من النهي والتحذير منه ولعن فاعله . قال القرطبي : ولهذا بالغ المسلمون في سد الذريعة في قبر النبي فأعلوا حيطان تربته وسدوا المداخل إليها ، وجعلوها محدقة بقبره ، ثم خافوا أن يتخذ موضع قبره قبلة إذا كان مستقبل المصلين ، فتصور الصلاة إليه بصورة العبادة فبنوا جدارين من ركني القبر الشماليين وحرفوهما حتى التقيا على زاوية مثلثة من ناحية الشمال حتى لا يمكنوا أحد من استقبال قبره انتهى .

حديث في النهي عن اتخاذ القبور مساجد قوله : ولمسلم عن جندب بن عبد الله قال : سمعت النبي قبل أن يموت بخمس ، وهو يقول : " إني أبرأ إلى الله أن يكون لي منكم خليل . فإن الله قد اتخذني خليلًا ، كما اتخذ إبراهيم خليلًا ولو كنت متخذًا من أمتي خليلًا لاتخذت أبا بكر خليلًا ، ألا وإن من كان قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبيائهم مساجد ، ألا فلا تتخذوا القبور مساجد ، فإني أنهاكم عن ذلك " . قوله : عن جندب بن عبد الله أي ابن سفيان البجلي ، وينسب إلى جده ، صحابي مشهور . مات بعد الستين . قوله : أني أبرأ إلى الله أن يكون لي منكم خليل أي أمتنع عما لا يجوز لي أن أفعله . والخلة فوق المحبة والخليل هو المحبوب غاية الحب ، مشتق من الخلة ـ بفتح الخاء ـ وهي تخلل المودة في القلب ، كما قال الشاعر : قد تخللت مسلك الروح مني وبذا سمى الخليل خليلًا هذا هو الصحيح في معناها كما ذكره شيخ الإسلام وابن القيم وابن كثير وغيرهم رحمهم الله تعالى . قال القرطبي : وإنما كان ذلك لأن قلبه قد امتلأ من محبة الله وتعظيمه ومعرفته فلا يسع خلة غيره . قوله : فإن الله قد اتخذني خليلًا فيه بيان أن الخلة فوق المحبة . قال ابن القيم رحمه الله : وأما ما يظنه بعض الغالطين من أن المحبة أكمل من الخلة ، وأن إبراهيم خليل الله ، ومحمد حبيب الله ـ فمن جهلهم ، فإن المحبة عامة ، والخلة خاصة وهي نهاية المحبة . وقد أخبر النبي أن الله قد اتخذه خليلًا ونفى أن يكون له خليل غير ربه ، مع إخباره بحبه لعائشة ولأبيها ، ولعمر بن الخطاب ، ومعاذ بن جبل وغيرهم رضي الله عنهم . وأيضًا فإن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين ويحب الصابرين ، وخلته خاصة بالخليلين . قوله : ولو كنت متخذًا خليلًا لا تخذت أبا بكر خليلًا فيه بيان أن الصديق أفضل الصحابة . وفيه الرد على الرافضة وعلى الجهمية وهما شر أهل البدع ، وأخرجهم بعض السلف من الثنتين والسبعين فرقة . وبسبب الرافضة حدث الشرك وعبادة القبور ، وهم أول من بنى عليها المساجد . قاله المصنف رحمه الله ، وهو كما قال بلا ريب . وفيه إشارة إلى خلافة أبي بكر ، لأن من كانت محبته لشخص أشد كان أولى به من غيره . وقد استخلفه على الصلاة بالناس ، وغضب لما قيل يصلي بهم عمر وذلك في مرضه الذي توفى فيه . واسم أبي بكر : عبد الله بن عثمان بن عامر بن عمرو بن كعب بن سعد بن تيم بن مرة الصديق الأكبر ، خليفة رسول الله وأفضل الصحابة بإجماع من يعتد بقوله من أهل العلم . مات في جمادى الأولى سنة ثلاث عشرة ، وله ثلاث وستون سنة رضي الله عنه . قوله : ألا حرف استفتاح ألا وإن من كان قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبيائهم مساجد ... الحديث قال الخلخالي : وإنكار النبي صنيعهم هذا مخرج على وجهين : أحدهما : أنهم يسجدون لقبور الأنبياء تعظيمًا . الثاني : أنهم يجوزون الصلاة في مدافن الأنبياء والتوجه إليها حالة الصلاة ، نظرًا منهم بذلك إلى عبادة الله والمبالغة في تعظيم الأنبياء . والأول : هو الشرك الجلي . والثاني : الخلفي ، فلذلك استحقوا اللعن . قوله : فقد نهى عنه في آخر حياته أي كما في حديث جندب . وهذا من كلام شيخ الإسلام . وكذا ما بعده . قوله : ثم إنه لعن ، وهو في السياق من فعله كما في حديث عائشة . قلت : فكيف يسوع بعد هذا التغليظ من سيد المرسلين أن تعظم القبور ويبنى عليها ويصلى عندها وإليها ؟ هذا أعظم مشاقة ومحادة لله تعالى ولرسوله لو كانوا يعقلون . قوله : الصلاة عندها من ذلك ، وإن لم يبن مسجد أي من اتخاذها مساجد الملعون فاعله . وهذا يقتضي تحريم الصلاة عند القبور وإليها . وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه مرفوعًا " الأرض كلها مسجد إلا المقبرة والحمام " رواه أحمد وأهل السنن وصححه ابن حبان والحاكم . قال ابن القيم رحمه الله : وبالجملة فمن له معرفة بالشرك وأسبابه وذرائعه وفهم عن رسول الله مقاصده ، جزم جزمًا لا يحتمل النقيض أن هذه المبالغة واللعن والنهي بصيغته ـ صيغة لا تفعلوا وصيغة أني أنهاكم عن ذلك ـ ليس لأجل النجاسة ، بل هو لأجل نجاسة الشرك اللاحقة لمن عصاه ، وارتكب ما عنه نهاه ، واتبع هواه ، ولم يخش ربه ومولاه ، وقل نصيبه أو عدم من لا إله إلا الله فإن هذا وأمثاله من النبي صيانة لحمى التوحيد أن يلحقه الشرك ويغشاه ، وتجريد له وغضب لربه أن يعدل به سواه ، فأبى المشركون إلا معصية لأمره وارتكابًا لنهيه ، وغرهم الشيطان بأن هذا تعظيم لقبور المشايخ والصالحين ، وكلما كنتم لها أشد تعظيمًا وأشد فيهم غلوا كنتم بقربهم أسعد ، ومن أعدائهم أبعد ، ولعمر الله ، من هذا الباب دخل الشيطان على عباد يعوق ويغوث ونسرا ، ودخل على عباد الأصنام منذ كانوا إلى يوم القيامة ، فجمع المشركون بين الغلو فيهم والطعن في طريقتهم ، فهدى الله أهل التوحيد لسلوك طريقتهم وإنزالهم منازلهم التي أنزلهم الله إياها من العبودية وسلب خصائص الإلهية عنهم . قال الشارح رحمه الله تعالى : وممن علل بخوف الفتنة بالشرك : الإمام الشافعي ، وأبو بكر الأثرم ، وأبو محمد المقدسي . وشيخ الإسلام وغيرهم رحمهم الله . وهو الحق الذي لا ريب فيه . قوله : فإن الصحابة لم يكونوا ليبنوا حول قبره مسجدًا أي لما علموا من تشديده في ذلك وتغليظه النهي عنه ، ولعن من فعله. قوله : وكل موضع قصدت الصلاة فيه فقد اتخذ مسجدًا أي وإن لم يبن مسجد ، بل كل موضع يصلى فيه يسمى مسجدًا ، يعني وإن لم يقصد بذلك ، كما إذا عرض لمن أراد أن يصلي فأوقع الصلاة في ذلك الموضع الذي حانت الصلاة عنده من غير أن يقصد ذلك الموضع بخصوصه ، فصار بفعل الصلاة فيه مسجدًا . قوله : كما قال " جعلت لي الأرض مسجدًا وطهورًا " أي فسمى الأرض مسجدًا ، تجوز الصلاة في كل بقعة منها إلا ما استثنى من المواضع التي لا تجوز الصلاة فيها ، كالمقبرة ونحوها . قال البغوي في شرح السنة : أراد أن أهل الكتاب لم تبح لهم الصلاة إلا في بيعهم وكنائسهم ، فأباح الله لهذه الأمة الصلاة حيث كانوا ، تخفيفًا عليهم وتيسيرًا ، ثم خص من جميع المواضع : الحمام والمقبرة والمكان النجس . انتهى .

حديث ابن مسعود : إن من شرار الناس الذين يتخذون القبور مساجد قوله : ولأحمد بسند جيد عن ابن مسعود مرفوعًا " إن من شرار الناس من تدركهم الساعة وهم أحياء ، والذين يتخذون القبور مساجد " ورواه أبو حاتم ابن حبان في صحيحه . قوله : إن من شرار الناس بكسر الشين جمع شرير . قوله : من تدركهم الساعة وهم أحياء أي مقدمتها ، كخروج الدابة ، وطلوع الشمس في مغربها . وبعد ذلك ينفخ في الصور نفخة الفزع . قوله : والذين يتخذون القبور مساجد معطوف على خبر إن في محل نصب على نية تكرار العامل ، أي وإن من شرار الناس الذين يتخذون القبور مساجد أي بالصلاة عندها وإليها ، وبناء المساجد عليها ، وتقدم في الأحاديث الصحيحة أن هذا من عمل اليهود والنصارى وأن النبي لعنهم على ذلك ، تحذيرًا للأمة أن يفعلوا مع نبيهم وصالحيهم مثل اليهود والنصارى . فما رفع أكثرهم بذلك رأسًا ، بل اعتقدوا أن هذا الأمر قربة لله تعالى ، وهو مما يبعدهم عن الله ويطردهم عن رحمته ومغفرته . والعجب أن أكثر من يدعى العلم ممن هو من هذه الأمة لا ينكرون ذلك ، بل ربما استحسنوه ورغبوا في فعله ، فلقد اشتدت غربة الإسلام وعاد المعروف منكرًا والمنكر معروفًا ، والسنة بدعة والبدعة سنة ، تنشأ على هذا الصغير وهرم عليه الكبير . قال شيخ الإسلام : أما بناء المساجد على القبور فقد صرح عام الطوائف بالنهي عنه ، متابعة للأحاديث الصحيحة . وصرح أصحابنا وغيرهم من أصحاب مالك والشافعي بتحريمه ، ثم ذكر الأحاديث في ذلك إلى أن قال وهذه المساجد المبنية على قبور الأنبياء والصالحين ، أو الملوك وغيرهم تتعين إزالتها بهدم أو غيره . هذا مما لا أعلم فيه خلافًا بين العلماء المعرفين . وقال ابن القيم رحمه الله : يجب هدم القباب التي بنيت على القبور ، لأنها أسست على معصية الرسول ، وقد أفتى جماعة من الشافعية بهدم ما في القرافة من الأبنية ، منهم ابن الجميزي والظهير التزميني وغيرهما . وقال القاضي ابن كج : ولا يجوز أن تجصص القبور ، ولا أن يبنى عليها قباب ، ولا غير قباب ، والوصية بها باطلة . وقال الأذرعي : وأما بطلان الوصية ببناء القباب وغيرها من الأبنية وانفاق الأموال الكثيرة ، فلا ريب في تحريمه . وقال القرطبي في حديث جابر رضي الله عنه نهى أن يجصص القبر أو يينى عليه وبظاهر هذا الحديث قال مالك ، وكره البناء والجص على القبور . وقد أجازه غيره ، وهذا الحديث حجة عليه . وقال ابن رشد : كره مالك البناء على القبر وجعل البلاطة المكتوبة ، وهو من بدع أهل الطول ، أحدثوه إرادة الفخر والمباهاة والسمعة ، وهو مما لا اختلاف عليه . وقال الزيلغي في شرح الكنز : ويكره أن يبني على القبر . وذكر قاضي خان : أنه لا يجصص القبر ولا يبني عليه . لما روى عن النبي أنه نهى عن التجصيص وللبناء فوق القبر . والمراد بالكراهة ـ عند الحنفية رحمهم الله ـ كراهة التحريم . وقد ذكر ذلك ابن نجيم في شرح الكنز . وقال الشافعي رحمه الله : أكره أن يعظم مخلوق ، حتى يجعل قبره مسجدًا مخافة الفتنة عليه وعلى من بعده من الناس . وكلام الشافعي رحمه الله يبين أن مرده بالكراهة كراهة التحريم . قال الشارح رحمه الله تعالى : وجزم النووي رحمه الله في شرح المهذب بتحريم البناء مطلقًا ، وذكر في شرح مسلم نحوه أيضًا. وقال أبو محمد عبد الله بن أحمد بن قدامة إمام الحنابلة صاحب المصنفات الكبار كالمغنى ، والكافى وغيرهما رحمه الله تعالى : ولا يجوز اتخاذ المساجد على القبور . لأن النبي قال : " لعن الله اليهود والنصارى ... " الحديث وقد روينا أن ابتداء عبادة الأصنام : تعظيم الأموات واتخاذ صورهم ، والتمسح بها والصلاة عندها ، انتهى . قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله : وأما المقبرة فلا فرق فيها بين الجديدة والعتقية ، انقلبت تربتها أو لم تنقلب . ولا فرق بين أن يكون بينه وبين الأرض حائل أو لا ، لعموم الاسم وعموم العلة ، ولأن النبي لعن الذين اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد ، ومعلوم أن قبور الأنبياء لا تنجس . وبالجملة فمن علل النهي عن الصلاة في المقبرة بنجاسة التربة خاصة فهو بعيد عن مقصود النبي ، ثم لا يخلو أن يكون القبر قد بنى عليه مسجد ، فلا يصلي في هذا المكان سواء صلى خلف القبر أو أمامه بغير خلاف في المذهب : لأن النبي قال " إن من كان قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد ، ألا فلا تتخذوا القبور مساجد فإني أنهاكم عن ذلك " وخص قبور الأنبياء لأن عكوف الناس على قبورهم أعظم ، واتخاذها مساجد أشد ، وكذلك إن لم يكن عليه بنى مسجد ، فهذا قد ارتكب حقيقة المفسدة التي كان النهي عن الصلاة عند القبور من أجلها ، فإن كل مكان صلى فيه يسمى مسجدًا، كما قال " جعلت لي الأرض مسجدًا وطهورًا " وإن كان موضع قبر أو قبرين . وقال بعض أصحابنا : لا يمنع الصلاة فيها لأنه لا يتناولها اسم المقبرة ، وليس في كلام أحمد ولا بعض أصحابه هذا الفرق ، بل عموم كلامهم يقتضى منع الصلاة عند كل قبر . وقد تقدم عن علي رضي الله عنه أنه قال : لا أصلي في حمام ولا عند قبر . فعلى هذا ينبغي أن يكون النهي متناولًا لحريم القبر وفنائه ، ولا تجوز الصلاة في مسجد بني في مقبرة ، سواء كان له حيطان تحجز بينه وبين القبور أو كان مكشوفًا . قال في رواية الأثرم : إذا كان المسجد بين القبور لا يصلى فيه الفريضة ، وإن كان بينها وبين المسجد حاجز فرخص أن يصلي فيه على الجنائز ولا يصلى فيه على غير الجنائز . وذكر حديث أبي مرثد عن النبي  : لا تصلوا على القبور وقال: إسناده جيد ، انتهى . ولو تتبعنا كلام العلماء في ذلك لا حتمل عدة أوراق . فتبين بهذا أن العلماء رحمهم الله بينوا أن علة النهي ما يؤدي إليه ذلك : من الغلو فيها وعبادتها من دون الله كما هو الواقع والله المستعان . وقد حدث بعد الأئمة الذين يعتد بقولهم أناس كثر في أبواب العلم بالله اضطرابهم ، وغلظ عن معرفة ما بعث الله به رسوله من الهدى والعلم حجابهم فقيدوا نصوص الكتاب والسنة بقيود أوهنت الانقياد وغيروا بها ما قصده الرسول بالنهي وأراد . فقال لتنجسها بصديد الموتى ، وهذا كله باطل من وجوه : منها : أنه من القول على الله بلا علم . وهو حرام بنص الكتاب . ومنها : أن ما قالوه لا يقتضى لعن فاعله والتغليظ عليه ، وما المانع له أن يقول : صلى في بقعة نجسة فعليه لعنة الله . ويلزم على ما قاله هؤلاء أن النبي لم يبين العلة ، وأحال الأمة في بيانها على من يجيء بعده وبعد القرون المفضلة والأئمة ، وهذا باطل قطعًا وعقلًا وشرعًا ، لا يلزم عليه من أن الرسول عجز عن البيان أو قصر في البلاغ ، وهذا من أبطل الباطل . فإن النبي بلغ البلاغ المبين ، وقدرته في البيان فوق قدرة كل أحد ، فإذا بطل اللازم بطل الملزوم . ويقال أيضًا : هذا اللعن والتغليظ الشديد إنما هو فيمن اتخذ قبور الأنبياء مساجد ، وجاء في بعض النصوص ما يعم الأنبياء وغيرهم ، فلو كانت هذه هي العلة لكانت منتفية في قبور الأنبياء ، لكون أجسادهم طرية لا يكون لها صديد يمنع من الصلاة عند قبورهم ، فإذا كان النهي عن اتخاذ المساجد عند القبور يتناول قبور الأنبياء بالنص ، علم أن العلة ما ذكره هؤلاء العلماء الذين قد نقلت أقوالهم ، والحمد لله على ظهور الحجة وبيان المحجة . والحمد لله الذي هدانا لهذا ، وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله .

الغلو في قبور الصالحين يصيرها أوثانا إلخ قوله : باب ( ما جاء أن الغلو في قبور الصالحين يصيرها أوثانًا تعبد من دون الله )

اللهم لا تجعل قبري وثنًا يعبد

روى مالك في الموطأ أن رسول الله  قال : " اللهم لا تجعل قبرى وثنًا يعبد ، اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد "  .

هذا الحديث رواه مالك مرسلًا عن زيد بن أسلم ، عن عطاء بن يسار : أن رسول الله قال ... الحديث . ورواه ابن أبي شيبة في مصنفه عن ابن عجلان عن زيد بن أسلم به ، ولم يذكر عطاء ، ورواه البزار عن زيد عن عطاء عن أبي سعيد الخدري مرفوعًا . وله شاهد عند الإمام أحمد بسنده عن سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة رفعه : اللهم لا تجعل قبري وثنًا ، لعن الله قومًا اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد . قوله : روى مالك في الموطأ هو الإمام مالك بن أنس بن مالك بن أبي عامر بن عمرو الأصبحي ، أبو عبدالله المدني . إمام دار الهجرة وأحد الأئمة الأربعة وأحد المتقنين للحديث ، حتى قال البخاري : أصح الأسانيد مالك عن نافع عن ابن عمر ، مات سنة تسع وسبعين ومائة . وكان مولده سنة ثلاث وتسعين . وقيل أربع وتسعين . وقال الواقدي : بلغ تسعين سنة . قوله : اللهم لا تجعل قبرى وثنًا يعيد قد استجاب الله دعاءه كما قال ابن القيم رحمه الله تعالى : فأجاب رب العالمين دعاءه وأحاطه بثلاثة الجداران حتى غدت أرجاؤه بدعائه في عزة وحماية وصيان ودل الحديث على أن قبر النبي لو عبد لكان وثنًا ، لكن حماه الله تعالى بما حال بينه وبين الناس فلا يوصل إليه . ودل الحديث على أن الوثن هو ما يباشره العابد من القبور والتوابيت التي عليها . وقد عظمت الفتنة بالقبور لتعظيمها وعبادتها ، كما قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه كيف أنتم إذا مستكم فتنة يهرم فيها الكبير ، وينشأ فيها الصغير . تجرى على الناس يتخذونها سنة ، إذا غيرت قيل : غيرت السنة انتهى . ولخوف الفتنة نهى عن عمر تتبع آثار النبي . قال ابن وضاح : سمعت عيسى بن يونس يقول : أمر عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه بقطع الشجرة التي بويع تحتها النبي فقطعها لأن الناس كانوا يذهبون فيصلون تحتها ، فخاف عليهم الفتنة . وقال المعرور بن سويد : صليت مع عمر بن الخطاب بطريق مكة صلاة الصبح . ثم رأى الناس يذهبون مذاهب ، فقال : أين يذهب هؤلاء ؟ فقيل : يا أمير المؤمنين ، مسجد صلى فيه النبي فهم يصلون فيه ، فقال : إنما هلك من كان قبلكم بمثل هذا ، كانوا يتتبعون آثار أنبيائهم ويتخذونها كنائس وبيعًا ، فمن أدركته الصلاة في هذه المساجد فليصل . ومن لا فليمض ولا يتعمدها .

وجد المسلمين دانيال في تستر لما فتحوها وفي مغازي ابن إسحاق من زيادات يونس بن بكير عن أبي خلدة خالد بن دينار . حدثنا أبو العالية قال : لما فتحنا تستر وجدنا في بيت مال الهرمزان سريرًا عليه رجل ميت ، عند رأسه مصحف . فأخذنا المصحف فحملناه إلى عمر ، فدعا له كعبًا فنسخه بالعربية ، فأنا أول رجل قرأه من العرب ، قرأته مثل ما أقرأ القرآن . فقلت لأبي العالية : ما كان فيه ؟. قال : سيرتكم وأموركم ولحون كلامكم وما هو كائن بعد . قلت : فماذا صنعتم بالرجل ؟ قال : حفرنا له بالنهار ثلاثة عشرة قبرًا متفرقة . فلما كان الليل دفناه وسوينا القبور كلها لنعميه عن الناس لا ينبشونه . قلت : وما يرجون منه ؟ قال : كانت السماء إذا حبست عنهم برزوا بسريره فيمطرون . فقلت : من كنتم تظنون الرجل ؟ قال : رجل يقال له دانيال . فقلت : منذ كم وجدتموه مات ؟ قال : منذ ثلاثمائة سنة . قلت : ما كان تغير منه شئ ؟ قال : لا ، إلا شعيرات من قفاه ، إن لحوم الأنبياء لا تبليها الأرض . قال ابن القيم رحمه الله : ففي هذه القصة ما فعله المهاجرون والأنصار رضي الله عنهم من تعمية قبره لئلا يفتتن به ، ولم يبرزوه للدعاء عنده والتبرك به ، ولو ظفر به المتأخرون لجالدوا عليه بالسيف ولعبدوه من دون الله . قال شيخ الإسلام رحمه الله : وهو إنكار منهم لذلك ، فمن قصد بقعة يرجو الخير بقصدها ـ ولم يستحب الشارع قصدها ـ فهو من المنكرات ، وبعضه أشد من بعض ، سواء قصدها ليصلي عندها أو ليدعو عندها ، أو ليقرأ عندها أو ليذكر الله عندها ، أو لينسك عندها بحيث يخص تلك البقعة بنوع من العبادة التى لم يشرع تخصيصها به لا نوعًا ولا عينًا ، إلا أن ذلك قد يجوز بحكم الاتفاق لا لقصد الدعاء فيها ، كمن يزورها ويسلم عليها ، ويسأل الله العافية له وللموتى ، كما جاءت به السنة . وأما تحرى الدعاء عندها بحيث يستشعر أن الدعاء هناك أجوب منه فى غيره ، فهذا هو المنهى عنه . انتهى ملخصًا . قوله : اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم فيه تحريم البناء على القبور ، وتحريم الصلاة عندها ، وأن ذلك من الكبائر . وفى القرى للطبرى من أصحاب مالك عن مالك أنه كره أن يقول : زرت قبر النبي ، وعلل ذلك بقوله  : " اللهم لا تجعل قبري وثنًا يعبد " الحديث . كره إضافة هذا اللفظ إلى القبر ، لئلا يقع التشبه بفعل أولئك ، سدًا للذريعة . قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى : ومالك قد أدرك التابعين ، وهم أعلم الناس بهذه المسألة ، فدل ذلك على أنه لم يكن معروفًا عندهم ألفاظ زيارة قبر النبي ـ إلى أن قال ـ وقد ذكروا أسباب كراهته لأن يقول : زرت قبر النبي لأن هذا اللفظ قد صار كثير من الناس يريد به الزيارة البدعية ، وهو قصد الميت لسؤاله ودعائه ، والرغبة إليه في قضاء الحوائج ، ونحو ذلك مما يفعله كثير من الناس ، فهم يعنون بلفظ الزيارة مثل هذا . وهذا ليس بمشروع باتفاق الأئمة . وكره مالك أن يتكلم بلفظ مجمل يدل على معنى فاسد ، بخلاف الصلاة والسلام عليه ، فإن ذلك مما أمر الله به . أما لفظ الزيارة في عموم القبور فلا يفهم منها مثل هذا المعنى . ألا ترى إلى قوله : فزوروا القبور فإنها تذكركم الآخرة مع زيارته لقبر أمه . فإن هذا يتناول قبور الكفار . فلا يفهم من ذلك زيارة الميت لدعائه وسؤاله والاستغاثة به ، ونحو ذلك مما يفعله أهل الشرك والبدع ، بخلاف ما إذا كان المزور معظمًا في الدين كالأنبياء والصالحين ، فإنه كثيرًا ما يعني بزيارة قبورهم هذه الزيارة البدعية الشركية، فلهذا كره مالك ذلك في مثل هذا ، وإن لم يكره ذلك في موضع آخر ليس فيه هذه المفسدة . ا هـ . وفيه : أن النبي لم يستعذ إلا مما يخاف وقوعه . ذكره المصنف رحمه الله تعالى .

اللات والعزى قوله : ولا بن جرير بسنده عن سفيان عن منصور عن مجاهد " أفرأيتم اللات والعزى " قال : كان يلت لهم السويق ، فمات فعكفوا على قبره ، كذا قال أبو الجوزاء عن ابن عباس قال : كان يلت السويق للحاج . قوله : ولابن جرير هو الإمام الحافظ محمد بن جرير بن يزيد الطبري ، صاحب التفسير والتاريخ والأحكام وغيرها . قال ابن خزيمة : لا أعلم على الأرض أعلم من محمد بن جرير وكان من المجتهدين لا يقلد أحدًا . وله أصحاب يتفقهون على مذهبه ويأخذون بأقواله . ولد سنة أربع وعشرين ومائتين ، ومات ليومين بقيا من شوال سنة عشر وثلاثمائة . قوله : عن سفيان الظاهر : أنه سفيان بن سعيد بن مسروق الثوري أبو عبد الله الكوفي ثقة حافظ فقيه إمام عابد كان مجتهدًا ، وله أتباع يتفقهون على مذهبه . مات سنة إحدى وستين ومائة ، وله أربع وستون سنة . قوله : عن منصور هو ابن المعتمر بن عبد الله السلمي ثقة ثبت فقيه . مات سنة اثنتين وثلاثين ومائة . قوله : عن مجاهد هو ابن جبر ـ بالجيم الواحدة ـ أبو الحجاج المخزومي مولاهم المكي ، ثقة إمام في التفسير ، أخذ عن ابن عباس وغيره رضي الله عنهم . مات سنة أربع ومائة ، قاله يحيى القطان ، وقال ابن حبان : مات سنة اثنتين أو ثلاث ومائة وهو ساجد ، ولد سنة إحدى وعشرين في خلافة عمر رضي الله عنه . قوله : كان يلت السويق لهم فمات فعكفوا على قبره في رواية : فيطعم من يمر من الناس . فلما مات عبدوه ، وقالوا : هو اللات رواه سعيد بن منصور . ومناسبته للترجمة : أنهم غلوا فيه لصلاحه حتى عبدوه وصار قبره وثنًا من أوثان المشركين . قوله : وكذا قال أبو الجوزاء هو أوس بن عبد الله الربعي ، فتح الراء والباء ، مات سنة ثلاث وثمانين . قال البخاري : حدثنا مسلم وهو ابن إبراهيم . حدثنا أبو الأشهب حدثنا أبو الجوزاء عن ابن عباس قال : كان اللات رجلًا يلت سويق الحجاج . قال ابن خزيمة : وكذا العزى ، وكانت شجرة عليها بناء وأستار بنخلة ، بين مكة والطائف ، كانت قريش يعظمونها ، كما قال أبو سفيان يوم أحد : لنا العزى ولا عزى لكم .

لعن الله زوارات القبور إلخ قوله : وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال : " لعن رسول الله زائرات القبور والمتخذين عليها المساجد والسرج " رواه أهل السنن . قلت : وفي الباب حديث عن أبي هريرة وحديث حسان بن ثابت . فأما حديث أبي هريرة فرواه أحمد والترمذي وصححه . وحديث حسان أخرجه ابن ماجه من رواية عبد الرحمن بن حسان بن ثابت عن أبيه قال : " لعن رسول الله زوارات القبور " . وحديث ابن عباس هذا في إسناده أبو صالح مولى أم هانيء ، وقد ضعفه بعضهم ووثقة بعضهم . قال على بن المديني ، عن يحيى القطان : لم أر أحدًا من أصحابنا ترك أبا صالح مولى أم هاني . وما سمعت أحدًا من الناس يقول فيه شيئًا ، ولم يتركه شعبة ولا زائدة ولا عبد الله بن عثمان . قال ابن معين : ليس به بأس ولهذا أخرجه ابن السكن في صحيحه . انتهى من الذهب الإبريز عن الحافظ المزي . قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى : وقد جاء عن النبي من طريقين : فعن أبي هريرة رضي الله عنه : " أن رسول الله لعن زوارات القبور " وذكر حديث ابن عباس . ثم قال : ورجال هذا ليس رجال هذا . فلم يأخذه أحدهما عن الآخر . وليس في الإسنادين من يتهم بالكذب . ومثل هذا حجة بلا ريب . وهذا من أجود الحسن الذي شرطه الترمذي ، فإنه جعل الحسن ما تعددت طرقه ولم يكن فيه متهم ، ولم يكن شاذًا ، أي مخالفًا لما ثبت بنقل الثقات وهذا الحديث تعددت طرقه وليس فيها متهم ولا خالفه أحد من الثقات ، هذا لو كان عن صاحب واحد ، فكيف إذا كان رواه عن صاحب وذاك عن آخر ؟ فهذا كله يبين أن الحديث في الأصل معروف . والذين رخصوا في الزيارة اعتمدوا على ما روى عن عائشة رضي الله عنها أنها زارت قبر أخيها عبد الرحمن وقالت : لو شهدتك ما زرتك وهذا يدل على أن الزيارة ليست مستحبة للنساء كما تستحب الرجال . إذ لو كان كذلك لا ستحبت زيارته سواء شهدته أم لا . قلت : فعلى هذا لا حجة فيه لمن قال بالرخصة . وهذا السياق لحديث عائشة رواه الترمذي من رواية عبد الله بن أبي مليكة عنها ، وهو يخالف سياق الأثرم له عن عبد الله بن أبي مليكة أيضًا : أن عائشة رضي الله عنها أقبلت ذات يوم من المقابر . فقلت لها : يا أم المؤمنين ، أليس نهى رسول الله عن زيارة القبور ؟ قالت : نعم نهى عن زيارة القبور ، ثم أمر بزيارتها . فأجاب شيخ الإسلام رحمه الله عن هذا وقال : ولا حجة في حديث عائشة فإن المحتج عليها احتج بالنهي العام ، فدفعت ذلك بأن النهي منسوخ ، ولم يذكر لها المحتج النهي الخاص بالنساء الذي فيه لعنهن على الزيارة . يبين ذلك قولها قد أمر بزيارتها فهذا يبين أنه أمر بها أمرًا يقتضي الاستحباب ، والاستحباب إنما هو ثابت للرجال خاصة . ولو كانت تعتقد أن النساء مأمورات بزيارة القبور لكانت تفعل ذلك كما يفعله الرجال ولم تقل لأخيها لما زرتك واللعن صريح في التحريم ، والخطاب بالإذن في قوله فزوروها لم يتناول النساء فلا يدخلن في الحكم الناسخ ، والعام إذا عرف أنه بعد الخاص لم يكن ناسخًا له عند جمهور العلماء، وهو مذهب الشافعي وأحمد في أشهر الروايتين عنه ، وهو المعروف عند أصحابه ، فكيف إذا لم يعلم أن هذا العام بعد الخاص ؟ إذ قد يكون قوله : لعن الله زوارات القبور بعد إذنه للرجال في الزيارة . يدل على ذلك أنه قرنه بالمتخذين عليها المساجد والسرج . ومعلوم أن اتخاذ المساجد والسرج المنهي عنها محكم ، كما دلت عليه الأحاديث الصحيحة وكذلك الآخر . والصحيح : أن النساء لم يدخلن في الإذن في زيارة القبور لعدة أوجه : أحدها : أن قوله فزوروها صيغة تذكير . وإنما يتناول النساء أيضًا على سبيل التغليب . لكن هذا فيه قولان ، قيل : إنه يحتاج إلى دليل منفصل ، وحينئذ فيحتاج تناول ذلك للنساء إلى دليل منفصل ، وقيل أنه يحتمل على ذلك عند الإطلاق . وعلى هذا فيكون دخول النساء بطريق العموم الضعيف ، والعام لا يعارض الأدلة الخاصة ولا ينسخها عند جمهور العلماء ، ولو كان النساء داخلات في هذا الخطاب لا ستحب لهن زيارة القبور . وما علمنا أحدًا من الأئمة استحب لهن زيارة القبور ، ولا كان النساء على عهد النبي وخلفائه الراشدين يخرجن إلى زيارة القبور . ومنها : أن النبي علل الإذن للرجال بأن ذلك " يذكر الموت ، ويرقق القلب ، وتدمع العين " هكذا في مسند أحمد . ومعلوم أن المرأة إذا فتح بالها هذا الباب أخرجها إلى الجزع والندب والنياحة ، لما فيها من الضعف وقلة الصبر . وإذا كانت زيارة النساء مظنة وسببًا للأمور المحرمة فإنه لا يمكن أن يحد المقدار الذي لا يفضي إلى ذلك ، ولا التمييز بين نوع ونوع ، ومن أصول الشريعة : أن الحكمة إذا كانت خفية أو منتشرة علق الحكم بمظنتها . فيحرم هذا الباب سدًا للذريعة ، كما حرم النظر إلى الزينة الباطنة ، وكما حرم الخلوة بالأجنبية وغير ذلك . وليس في ذلك من المصلحة ما يعارض هذه المفسدة . فإنه ليس في ذلك إلى دعاؤها للميت وذلك ممكن في بيتها . ومن العلماء من يقول : التشييع كذلك ، ويحتج بقوله " ارجعن مأزورات غير مأجورات ، فإنكن تفتن الحي وتؤذين الميت " ، وقوله لفاطمة : " أما إنك لو بلغت معهم الكدى لم تدخلي الجنة " ويؤيده ما ثبت في الصحيحين من أنه نهى النساء عن اتباع الجنائز ومعلوم أن قوله  : " من صلى على جنازة فله قيراط ومن تبعها حتى تدفن فله قيراطان " وهو أدل على العموم من صيغة التذكير . فإن لفظ من يتناول الرجال والنساء باتفاق الناس ، وقد علم بالأحاديث الصحيحة أن هذا العموم لم يتناول النساء لنهي النبي لهن عن اتباع الجنائز ، فإذا لم يدخلن في هذا العموم فكذلك في ذلك بطريق الأولى . انتهى ملخصًا . قلت : ويكون الإذن في زيارة القبور مخصوصًا للرجال ، خص بقوله : لعن الله زوارات القبور .... الحديث فيكون من العام المخصوص . وعندما استدل به القائلون بالنسخ أجوبة أيضًا . منها : أن ما ذكروه عن عائشة وفاطمة رضي الله عنهما معارض مما ورد عنهما في هذا الباب فلا يثبت به نسخ . ومنها : أن قول الصحابي وفعله ليس حجة على الحديث بلا نزاع ، وأما تعليمه عائشة كيف تقول إذا زارت القبور ونحو ذلك ، فلا يدل على نسخ ما دلت عليه الأحاديث الثلاثة من لعن زائرات القبور ، لاحتمال أن يكون ذلك قبل هذا النهي الأكيد والوعيد الشديد والله أعلم . قال محمد بن اسماعيل الصنعاني رحمه الله في كتابه تطهير الاعتقاد  : فإن هذه القباب والمشاهد التي صارت أعظم ذريعة إلى الشرك والإلحاد ، وأكبر وسيلة إلى هدم الإسلام وخراب بنيانه : غالب ـ بل كل ـ من يعمرها هم الملوك والسلاطين والرؤساء والولاة ، إما على قريب لهم أو على من يحسنون الظن فيه من فاضل أو عالم أو صوفي أو فقير أو شيخ أو كبير ، ويزوره الناس الذي يعرفونه زيارة الأموات من دون توسل به ولا هتف بإسمه ، بل يدعون له ويستغفرون حتى ينقرض من يعرفه أو أكثرهم ، فيأتي من بعدهم فيجد قبرًا قد شيد عليه البناء ، وسرجت عليه الشموع ، وفرش بالفراش الفاخر ، وأرخيب عليه الستور ، وألقيت عليه الأوراد والزهور ، فيعتقد أن ذلك لنفع أو دفع ضر ، وتأتيه السدنة يكذبون على الميت بأنه فعل وفعل ، وأنزل بفلان الضر النفع . حتى يغرسوا في جبلته كل باطل ، والأمر ما ثبت في الأحاديث النبوية من لعن من أسرج على القبور وكتب عليها وبنى عليها . وأحاديث ذلك واسعة معروفة فإن ذلك في نفسه منهى عنه . ثم هو ذريعة إلى مفسدة عظيمة . انتهى . ومنه تعلم مطابقة الحديث للترجمة والله أعلم . قوله : والمتخذين عليها المساجد تقدم شرحه في الباب قبله . قوله : السرج قال أبو محمد المقدسي : لو أبيح اتخاذ السرج عليها لم يلعن من فعله ، لأن فيه تضييعًا للمال في غير فائدة ، وإفراطًا في تعظيم القبور أشبه بتعظيم الأصنام . وقال ابن القيم رحمه الله : اتخاذها مساجد وإيقاد السرج عليها من الكبائر . قوله : رواه أهل السنن يعني أن أبا داود والترمذي وابن ماجه فقط ولم يروه النسائي .

باب ما جاء في حماية المصطفى إلخ قوله : باب ( ما جاء في حماية المصطفى وسده كل طريق يوصل إلى الشرك ) الجناب : هو الجانب . والمراد حمايته عما يقر منه أو يخالطه من الشرك وأسبابه . قوله : : وقول الله تعالى : ' 9 : 128 ، 129 ' " لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم * فإن تولوا فقل حسبي الله لا إله إلا هو عليه توكلت وهو رب العرش العظيم " . قال ابن كثير رحمه الله : يقول الله تعالى ممتنًا على المؤمنين بما أرسل إليهم رسولًا من أنفسهم أي من جنسهم وعلى لغتهم كما قال إبراهيم عليه السلام : ' 2 : 129 ' " ربنا وابعث فيهم رسولًا منهم " وقال تعالى : ' 3 : 164 ' " لقد من الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولًا من أنفسهم " وقال تعالى : " لقد جاءكم رسول من أنفسكم " أي منكم ، كما قال جعفر بن أبي طالب للنجاشي ، والمغيرة بن شعبة لرسول كسرى : إن الله بعث فينا رسولًا منا نعرف نسبه وصفته ، ومدخله ومخرجه ، وصدقه وأمانته وذكر الحديث . قال أبو سفيان بن عيينة عن جعفر بن محمد عن أبيه في قوله تعالى :" لقد جاءكم رسول من أنفسكم" قال : لم يصبه شئ في ولادة الجاهلية . وقوله : " عزيز عليه ما عنتم " أي يعز عليه الشئ الذي يعنت أمته ويشق عليها ولهذا جاء في الحديث المروي من طرق عنه أنه قال : " بعثت بالحنيفية السمحة " وفي الصحيح  : " إن هذا الدين يسر" وشريعته كلها سمحة سهلة كاملة ، ميسيرة على من يسرها الله عليه . قوله : حريص عليكم أي على هدايتكم ووصول النفع الدنيوي والآخروي إليكم . وعن أبي ذر رضي الله عنه قال : تركنا رسول الله وما طائر يقلب جناحيه في الهواء إلا وهو يذكر لنا منه علمًا أخرجه الطبراني ، قال : وقال رسول الله  : " ما بقى شئ يقر من الجنة ويباعد من النار إلا وقد بينته لكم " . وقوله : " بالمؤمنين رؤوف رحيم " كما قال تعالى : ' 16 : 215 ، 216 ، 217 ' " واخفض جناحك لمن اتبعك من المؤمنين * فإن عصوك فقل إني بريء مما تعملون * وتوكل على العزيز الرحيم " وهكذا أمره تعالى في هذه الآية الكريمة وهي قوله : " فإن تولوا " أي عما جئتم به من الشريعة العظيمة المطهرة الكاملة " حسبي الله لا إله إلا هو عليه توكلت وهو رب العرش العظيم " . قلت : فاقتضت هذه الأوصاف التي وصف بها رسول الله في حق أمته أن أنذرهم وحذرهم الشرك الذي هو أعظم الذنوب ، وبين لهم ذرائعه الموصلة إليه ، وأبلغ في نهيهم عنها ومن ذلك تعظيم القبور والغلو فيها ، والصلاة عندها وإليها ، ونحو ذلك مما يوصل إلى عبادتها ، كما تقدم ، وكما سيأتي في أحاديث الباب .

لا تجعلوا قبري عيدًا وصلوا على حيث كنتم قوله : وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله " لا تجعلوا بيوتكم قبورًا ولا تجعلوا قبرى عيدًا ، وصلوا فإن صلاتكم تبلغني حيث كنتم " رواه أبو داود بإسناد حسن . رواته ثقات . قوله : لا تجعلوا بيوتكم قبورًا قال شيخ الإسلام : أي لا تعطلوها من الصلاة فيها والدعاء والقراءة ، فتكون بمنزلة القبور ، فأمر بتحري العبادة في البيوت ونهى عن تحريهما عند القبور ، عكس ما يفعله المشركون من النصارى ومن تشبه بهم من هذه الأمة . وفي الصحيحين عن ابن عمر مرفوعًا : " اجعلوا من صلاتكم في بيوتكم ولا تتخذوها قبورًا " وفي صحيح مسلم عن ابن عمر مرفوعًا : " لا تجعلوا بيوتكم مقابر فإن الشيطان يفر من البيت الذي يسمع سورة البقرة تقرأ فيه " . قوله : ولا تجعلوا قبرى عيدًا قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى : العيد اسم لما يعود من الاجتماع العام على وجه معتاد ، عائدًا إما بعود السنة أو بعود الأسبوع أو الشهر ونحو ذلك . وقال ابن القيم رحمه الله تعالى : العيد ما يعتاد مجيئه وقصده من زمان ومكان ، مأخوذ من المعاودة والاعتياد . فإذا كان اسمًا للمكان فهو المكان الذي يقصد فيه الاجتماع وانتيابه للعبادة وغيرها ، كما أن المسجد الحرام ومنى ومزدلفة وعرفة والمشاعر جعلها الله عيدًا للحنفاء ومثابة ، كما جعل أيام العيد فيها عيدًا . وكان للمشركين أعياد زمنية ومكانية . فلما جاء الله بالإسلام أبطلها وعوض الحنفاء منها عيد الفطر وعيد النحر وأيام منى ، كما عوضهم من أعياد المشركين المكانية بالكعبة ومنى ومزدلفة وعرفة والمشاعر . قوله : وصلوا علي فإن صلاتكم تبلغني حيث كنتم . قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى : يشير بذلك إلى أن ما ينالني منكم من الصلاة والسلام يحصل مع قربكم من قبري وبعدكم ، فلا حاجة لكم إلى اتخاذه عيدًا . قوله : لا تجعلوا بيوتكم قبورًا تقدم كلام شيخ الإسلام في معنى الحديث قبله ا هـ . قوله : وعن علي بن الحسين رضي الله عنه : " أنه رأى رجلًا يجيء إلى فرجة كانت عند قبر النبي فيدخل فيها فيدعو ، فنهاه وقال : ألا أحدثكم حديثًا سمعته من أبي عن جدي عن رسول الله ؟ قال : لا تتخذوا قبري عيدًا ، ولا بيوتكم قبورًا ، وصلوا علي فإن تسليمكم يبلغني أين كنتم " رواه في المختار . هذا الحديث والذي قبله جيدان حسنا الإسنادين . أما الأول : فرواه أبو داود وغيره من حديث عبد الله بن نافع الصائغ قال : أخبرني ابن أبي ذئب عن سعيد المقبري عن أبي هريرة فذكره ، ورواته ثقات مشاهير ، لكن عبد الله بن نافع قال فيه أبو حاتم : ليس بالحافظ ، تعرف وتنكر . وقال ابن معين : هو ثقة وقال أبو زرعة : لا بأس به . قال شيخ الإسلام رحمه الله : ومثل هذا إذا كان لحديث شواهد علم أنه محفوظ ، وهذا له شواهد متعددة . وقال الحافظ محمد بن عبد الهادي : هو حديث حسن جيد الإسناد ، وله شواهد يرتقى بها إلى درجة الصحة . وأما الحديث الثاني : فرواه أبو يعلى والقاضي إسماعيل والحافظ الضياء محمد بن عبد الواحد المقدسي في المختارة . قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى : فانظر هذه السنة كيف مخرجها من أهل المدنية وأهل البيت الذين لهم من رسول الله قرب النسب وقرب الدار ، لأنهم إلى ذلك أحوج من غيرهم ، فكانوا له أضبط . ا هـ . وقال سعيد بن منصور في سننه ، حدثنا عبد العزيز بن محمد أخبرني سهيل بن أبي سهل قال : رآني الحسن بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهم عند القبر ، فناداني ، وهو في بيت فاطمة رضي الله عنها يتعشى ، فقال : هلم إلى العشاء . فقلت : لا أريده . فقال : ما لي رأيتك عند القبر ؟ فقلت : سلمت على النبي . فقال : إذا دخلت المسجد فسلم . ثم قال : إن رسول الله قال : " لا تتخذوا قبري عيدًا ، ولا تتخذوا بيوتكم مقابر ، وصلوا علي فإن صلاتكم تبلغني حيثما كنتم ، لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد ، ما أنتم وبني بالأندلس إلا سواء " . وقال سعيد أيضًا : حدثنا حبان بن علي ، حدثنا محمد عجلان عن أبي سعيد مولى المهري قال : قال رسول الله " لا تتخذوا قبري عيدًا ولا بيوتكم قبورًا ، وصلوا علي فإن صلاتكم تبلغني " . قال شيخ الإسلام : فهذان المرسلان من هذين الموجين المختلفين يدلان على ثبوت الحديث لا سيما وقد احتج به من أرسله . وذلك يقتضي ثبوته عنده هذا لو لم يرو من وجوه مسندة غير هذين ، فكيف وقد تقدم مسندًا . قوله : على بن الحسين أي ابن علي بن أبي طالب ، المعروف بزين العابدين رضي الله عنه ، أفضل التابعين من أهل بيته وأعلمهم . قال الزهري : ما رأيت قرشيًا أفضل منه . مات سنة ثلاث وتسعين على الصحيح . وأبوه الحسين سبط رسول الله وريحانته ، حفظ عن النبي واستشهد يوم عاشوراء سنة إحدى وستين وله ست وخمسون سنة رضي الله عنه . قوله : أنه رأى رجلًا يجيء إلى فرجة بضم الفاء وسكون الراء ، وهي الكوة في الجدار والخوخة ونحوهما . قوله : فيدخل فيها فيدعو فنهاه هذا يدل على النهي عن قصد القبور والمشاهد لأجل الدعاء والصلاة عندها . قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى : ما علمت أحدًا رخص فيه ، لأن ذلك نوع من اتخاذه عيدًا ويدل أيضًا على أن قصد القبر للسلام إذا دخل المسجد ليصلي منهى عنه ، لأن ذلك لم يشرع ، وكره مالك لأهل المدينة كلما دخل الإنسان المسجد أن يأتي قبر النبي لأن السلف لم يكونوا يفعلون ذلك ، قال : ولن يصلح آخر هذه الأمة إلا ما أصلح أولها وكان الصحابة والتابعون رضي الله عنهم يأتون إلى مسجد النبي فيصلون ، فإذا قضوا الصلاة قعدوا أو خرجوا ، ولم يكونوا يأتون القبر للسلام ، لعلمهم أن الصلاة والسلام عليه في الصلاة أكمل وأفضل ، وأما دخولهم عند قبره للصلاة والسلام عليه هناك ، أو للصلاة والدعاء فلم يشرعه لهم ، بل نهاهم عنه في قوله " لا تتخذوا قبري عيدًا وصلوا علي فإن صلاتكم تبلغني " فبين أن الصلاة تصل إليه من بعد وكذلك السلام ، ولعن من اتخذ قبور الأنبياء مساجد . وكانت الحجرة في زمانهم يدخل إليها من الباب ، إذا كانت عائشة رضي الله عنها فيها ، وبعد ذلك إلى أن بنى الحائط الآخر ، وهم مع ذلك التمكن من الوصول إلى قبره لا يدخلون عليه ، لا للسلام ولا للصلاة ، ولا للدعاء لأنفسهم ولا لغيرهم ، ولا لسؤال عن حديث أو علم ، ولا كان الشيطان يطمع فيهم حتى يسمعهم كلامًا أو سلامًا فيظنون أنه هو كلمهم وأفتاهم ، وبين لهم الأحاديث ، أو أنه قد رد عليهم السلام بصوت يسمع من خارج ، كما طمع الشيطان في غيرهم فأضلهم عند قبره وقبر غيره ، حتى ظنوا أن صاحب القبر يأمرهم وينهاهم ويفتيهم ويحدثهم في الظاهر ، وأنه يخرج من القبر ويرونه خارجًا من القبر ، ويظنون أن نفس أبدان الموتى خرجت تكلمهم ، وأن روح الميت تجسدت لهم فرأوها كما رآهم النبي ليلة المعراج . والمقصود : أن الصحابة رضي الله عنهم لم يكونوا يعتادون والسلام عليه عند قبره كما يفعله من بعدهم من الخلوف ، وإنما كان بعضهم يأتي من خارج فيسلم عليه إذا قد من سفر . كما كان ابن عمر يفعله . قال عبيد الله بن عمر عن نافع كان ابن عمر إذا قدم من سفر أتى قبر النبي فقال : السلام عليك يا رسول الله . السلام عليك يا أبا بكر . السلام عليك يا أبتاه ثم ينصرف قال عبيد الله ما نعلم أحدًا من أصحاب النبي فعل ذلك إلا ابن عمر وهذا يدل على أنه لا يقف عند القبر للدعاء إذا سلم كما يفعله كثير . قال شيخ الإسلام رحمه الله : لأن ذلك لم ينقل عن أحد من الصحابة ، فكان بدعة محضة . وفي المبسوط : قال مالك : لا أرى أن يقف عند قبر النبي ولكن يسلم ويمضى . ونص أحمد أنه يستقبل القبلة ويجعل الحجرة عن يساره لئلا يستدبره . وبالجملة فقد اتفق الأئمة على أنه إذا دعا لا يستقبل القبر ، وتنازعوا : هل يستقبله عند السلام عليه أم لا ؟ وفي الحديث دليل على منع شد الرحال إلى قبره وإلى غيره من القبور والمشاهد ، لأن ذلك من اتخاذها أعيادًا . بل من أعظم أسباب الإشراك بأصحابها . وهذه هي المسألة التي أفتى بها شيخ الإسلام رحمه الله ـ أعني من سافر لمجرد زيارة قبور الأنبياء والصالحين ـ ونقل فيها اختلاف العلماء ، فمن مبيح لذلك . كالغزالي وأبي محمد المقدسي . ومن مانع لذلك ، كابن بطة وابن عقيل ، وأبي محمد الجويني ، والقاضي عياض . وهو قول الجمهور ، نص عليه مالك ولم يخالفه أحد من الأئمة ، وهو الصواب . لما في الصحيحين عن أبي سعيد عن النبي قال : " لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد : المسجد الحرام ، ومسجدي هذا ، والمسجد الأقصى " فدخل في النهي شدها لزيارة القبور والمشاهد ، فإما أن يكون نهيًا ، وإما أن يكون نفيًا . وجاء في رواية بصيغة النهي ، فتعين أن يكون للنهي ، ولهذا فهم منه الصحابة رضي الله عنهم المنع ـ كما في الموطأ والمسند والسنن ـ عن بصرة بن أبي بصرة الغفاري أنه قال لأبي هريرة ـ وقد أقبل من الطور ـ : لو أدركت قبل أن تخرج إليه لما خرجت : سمعت رسول الله يقول: " لا تعمل المطي إلا إلى ثلاثة مساجد : المسجد الحرام ، ومسجدي هذا ، والمسجد الأقصى " وروى الإمام أحمد وعمر بن شبة في أخبار المدينة بإسناد جيد عن قزعة قال : أتيت ابن عمر فقلت : إني أريد الطور . فقال : إنما تشد الرحال إلى ثلاثة مساجد : المسجد الحرام ، ومسجد المدينة ، والمسجد الأقصى . فدع عنك الطور ولا تأته فابن عمر وبصرة بن أبي بصرة جعلًا الطور مما نهي عن شد الرحال إليه . لأن اللفظ الذي ذكراه فيه النهي عن شدها إلى غير الثلاثة مما يقصد به القربة ، فعلم أن المستنى منه عام في المساجد وغيرها ، وأن النهي ليس خاصًا بالمساجد ، ولهذا نهيا عن شدها إلى الطور مستدلين بهذا الحديث . والطور إنما يسافر من يسافر إليه لفضيلة البقعة . فإن الله سماه الوادي المقدس ، والبقعة المباركة وكلم كليمه موسى عليه السلام هناك ، وهذا هو الذي عليه الأئمة الأربعة وجمهور العلماء ، ومن أراد بسط القول في ذلك والجواب عما يعارضه فعليه بما كتبه شيخ الإسلام مجيبًا لابن الاخنائي فيما أعترض به على ما دلت عليه الأحاديث الصحيحة وأخذ به العلماء وقياس الأولى . لأن المفسدة في ذلك ظاهرة . وأما النهي عن زيارة غير المساجد الثلاثة فغاية ما فيها : أنها لا مصلحة في ذلك توجب شد الرحال ، ولا مزية تدعو إليه . وقد بسط القول في ذلك الحافظ محمد بن عبد الهادي في كتاب الصارم المنكي في رده السبكي ، وذكر فيه علل الأحاديث الواردة في زيارة قبر النبي وذكر هو وشيخ الإسلام رحمهما الله تعالى أنه لا يصح منها حديث عن النبي ولا عن أحد من أصحابه ، مع أنها لا تدل على محل النزاع . إذ ليس فيها إلا مطلق الزيارة ، وذلك لا ينكره أحد بدون شد الرحال ، فيحمل على الزيارة الشرعية التي ليس فيها شرك ولا بدعة . قوله : رواه في المختارة المختارة : كتاب جمع فيه مؤلفه الأحاديث الجياد الزائدة عن الصحيحين . ومؤلفه : هو أبو عبد الله محمد بن عبد الواحد المقدسي الحافظ ضياء الدين الحنبلي أحد الأعلام . قال الذهبي : أفنى عمره في هذا الشأن مع الدين المتين ، والورع والفضيلة التامة والإتقان . فالله يرحمه ويرضى عنه . وقال شيخ الإسلام : تصحيحه في مختاراته خير من تصحيح الحاكم بلا ريب . مات سنة ثلاث وأربعين وستمائة . ما جاء في أن بعض هذه الأمة يعبدون الأوثان قوله : باب ( ما جاء أن بعض هذه الأمة يعبد الأوثان ) وقول الله تعالى : ' 4 : 51 ' " ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبًا من الكتاب يؤمنون بالجبت والطاغوت " .

الوثن  يطلق على ما قصد بنوع من أنواع العبادة من دون الله من القبور والمشاهد وغيرها لقول الخليل عليه السلام : ' 22 : 17 ' " إنما تعبدون من دون الله أوثانًا وتخلقون إفكًا " ومع قوله : ' 21 : 17 ' " قالوا نعبد أصنامًا فنظل لها عاكفين " وقوله : ' 37 : 95 ' " أتعبدون ما تنحتون " فبذلك يعلم أن الوثن يطلق على الأصنام وغيرها مما عبد من دون الله ، كما تقدم في الحديث .

قول اليهود : هؤلاء أهدى من الذين آمنوا سبيلًا قوله : " يؤمنون بالجبت والطاغوت " روى ابن أبي حاتم عن عكرمة قال : جاء حيي بن أخطب وكعب بن الأشرف إلى أهل مكة فقالوا لهم : أنتم أهل الكتاب وأهل العلم ، فأخبرونا عنا وعن محمد . فقالوا : ما أنتم وما محمد ؟ فقالوا : نحن نصل الأرحام ، وننحر الكوماء ، ونسقي الماء على اللبن ، ونفك العناة ، ونسقي الحجيج ، ومحمد صنبور ، قطع أرحامنا ، واتبعه سراق الحجيج من غفار . فنحن خير أم هو ؟ فقالوا : أنتم خيرًا وأهدى سبيلًا فأنزل الله تعالى : " ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبًا من الكتاب يؤمنون بالجبت والطاغوت ويقولون للذين كفروا هؤلاء أهدى من الذين آمنوا سبيلًا " وفي مسند أحمد عن ابن عباس نحوه.

معنى ( عبد الطاغوت ) وقال الذين غلبوا على أمرهم إلخ قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه الجبت السحر ، والطاغوت الشيطان وكذلك قول ابن عباس وأبو العالية ومجاهد والحسن وغيرهم . وعن ابن عباس وعكرمة وأبي مالك الجبت الشيطان ـ زاد ابن عباس : بالحبشية وعن ابن عباس أيضًا : الجبت الشرك وعنه الجبت الأصنام وعنه الجبت : حيى بن أخطب وعن الشعبي الجبت الكاهن وعن مجاهد : الجبت كعب بن الأشرف قال الجوهري الجبت كلمة تقع على الصنم والكاهن والساحر ونحو ذلك . قال المصنف رحمه الله تعالى : وفيه معرفة الإيمان بالجبت والطاغوت في هذا الموضع هل هو اعتقاد قلب ، أو هو موافقة أصحابها ، مع بغضها ومعرفة بطلانها ؟ . قوله : وقوله تعالى : ' 5 : 60 ' " قل هل أنبئكم بشر من ذلك مثوبة عند الله من لعنه الله وغضب عليه وجعل منهم القردة والخنازير وعبد الطاغوت " . يقول تعالى لنبيه محمد  : قل يا محمد هل أخبركم بشر جزاء عند الله يوم القيامة مما تظنونه بنا ؟ وهم أنتم أيها المتصفون بهذه الصفات المفسرة بقوله : من لعنه الله أي أبعده من رحمته وغضب عليه أي غضبًا لا يرضى بعده أبدًا " وجعل منهم القردة والخنازير " وقد قال الثوري عن علقمة بن مرثد عن المغيرة بن عبد الله اليشكري عن المعرور بن سويد أن ابن مسعود رضي الله عنه قال " سئل رسول الله عن القردة والخنازير ، أهي مما مسخ الله ؟ فقال : إن الله لم يهلك قومًا ـ أو قال لم يمسخ قومًا ـ فجعل لهم نسلًا ولا عقبًا ، وإنما القردة والخنازير كانت قبل ذلك " رواه مسلم . قال البغوي في تفسيره قل يا محمد هل أنبئكم أخبركم بشر من ذلك الذي ذكرتم ، يعني قولهم : لم نر أهل دين أقل حظًا في الدنيا والآخرة منكم ، ولا دينًا شرًا من دينكم ، فذكر الجواب بلفظ الإبتداء وإن لم يكن الإبتداء شرًا ، لقوله تعالى : ' 22 : 72 ' " قل أفأنبئكم بشر من ذلكم النار " . وقوله : مثوبة ثوابًا وجزاء ، نصب على التفسير عند الله ، من لعنه الله أي هو من لعنه الله وغضب عليه يعني اليهود " وجعل منهم القردة والخنازير " فالقردة أصحاب السبت ، والخنازير كفار مائدة عيسى . وعن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس أن المسخين كلاهما من أصحاب السبت ، فشبابهم مسخوا قردة وشيوخهم مسخوا خنازير .

وعبد الطاغوت  أي وجعل منهم من عبد الطاغوت ، أي أطاع الشيطان فيما سول له ، وقرأ ابن مسعود  عبدوا الطاغوت  وقرأ حمزة و  عبد  بضم الباء ، و  الطاغوت  بجر التاء أراد العبد . وهما لغتان : عبد بسكون الباء ، وعبد بضمنها ، مثل سبع وسبع وقرأ الحسن  وعبد الطاغوت  على الواحد .

وفي تفسير الطبرسي : قرأ حمزة وحده وعبد الطاغوت بضم الياء وجر التاء ، والباقون وعبد الطاغوت بنصب الباء وفتح التاء . وقرأ ابن عباس وابن مسعود وإبراهيم المخعي والأعمش وأبان بن تغلب وعبد الطاغوت بضمن العين والباء وفتح الدال وخفض التاء ، قال : وحجة حمزة في قراءته وعبد الطاغوت أنه يحمله على ما عمل فيه جعل كأنه : وجعل منهم عبد الطاغوت . ومعنى جعل خلق . كقوله وجعل الظلمات والنور وليس عبد لفظ جمع لأنه ليس من أبنية الجموع شئ على هذا البناء ، ولكنه واحد يراد به الكثرة ، ألا ترى أن في الأسماء المفردة المضافة إلى المعارف ما لفظه الأفراد ومعناه الجمع ، كما في قوله تعالى : " وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها " ولأن بناء فعل يراد به المبالغة والكثرة نحو يقظ ودنس ، وكأن تقديره : أنه ذهب في عبادة الطاغوت كل مذهب . وأما من فتح فقال وعبد الطاغوت فإنه عطفه على بناء المضي الذي في الصلة وهو قوله لعنه الله وأفرد الضمير في عبد وإن كان المعنى فيه الكثرة ، لأن الكلام محمول على لفظه دون معناه ، وفاعله ضمير من كما أن فاعل الأمثلة المعطوف عليها ضمير من فأفرد لحمل ذلك جميعًا على اللفظ . وأما قوله : عبد الطاغوت فهو جمع عبد . وقال أحمد بن يحيى : عبد جمع عابد ، كبازل وبزل ، وشارف وشرف ، وكذلك عبد جمع عابد . ومثله عباد وعباد . ا هـ . وقال شيخ الإسلام في قوله وعبد الطاغوت الصواب أنه معطوف على ماقبله من الأفعال ، أي من لعنه وغضب عليه ، ومن جعل منهم القردة والخنازير ومن عبد الطاغوت . قال : والأفعال المتقدمة الفاعل فيها اسم الله ، مظهرًا أو مضمرًا . وهنا الفاعل اسم من عبد الطاغوت . وهو الضمير في عبد ولم يعد سبحانه من لأنه جعل هذه الأفعال صفة لصنف واحد وهم اليهود . قوله : أولئك شر مكانًا مما تظنون بنا وأضل عن سواء السبيل وهذا من باب استعمال أفعل التفضيل فيما ليس في الطرف الآخر له مشارك كقوله تعالى : ' 25 : 24 ' " أصحاب الجنة يومئذ خير مستقرا وأحسن مقيلا " قاله العماد ابن كثير في تفسيره ، وهو ظاهر . قوله : وقول الله تعالى : ' 18 : 21 ' " قال الذين غلبوا على أمرهم لنتخذن عليهم مسجدًا " والمراد أنهم فعلوا مع الفتية بعد موتهم ما يذم فاعله . لأن النبي قال : لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد أراد تحذير أمته أن يفعلوا كفعلهم .

لتتبعن سنن من كان قبلكم قوله : عن أبي سعيد رضي الله عنه أن رسول الله قال : " لتتبعن سنن من كان قبلكم حذو القذة بالقذة ، حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه قالوا يا رسول الله : اليهود والنصارى ؟ قال : فمن ؟ " أخرجاه وهذا سياق مسلم . قوله : سنن بفتح المهملة أي طريق من كان قبلكم . قال المهلب : فتح أولى . قوله : حذو القذة بالقذة بنصب حذو على المصدر . والقذة بضم القاف واحدة القذذ وموريش السهم . أي لتتبعن طريقهم في كل ما فعلوه ، وتشبهوهم في ذلك كما تشبه قذة السهم القذة الآخرى . وبهذا تظهر مناسبة الآيات للترجمة . وقد وقع كما أخبر ، وهو علم من أعلام النبوة . قوله : حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه وفي حديث آخر حتى لو كان فيهم من يأتي أمة علانية لكان في أمتي من يفعل ذلك أراد أن أمته لا تدع شيئًا مما كان يفعله اليهود والنصارى إلى فعلته كله لا تترك منه شيئًا ولهذا قال سفيان بن عيينة : من فسد من علمائنا ففيه شبه من اليهود ، ومن فسد من عبادنا ففيه شبه من النصارى . ا هـ . قلت : فما أكثر الفريقين ، لكن من رحمة الله تعالى ونعمته أن جعل هذه الأمة لا تجتمع على ضلالة كما في حديث ثوبان الآتي قريبًا . قوله : قالوا يا رسول الله ، اليهود والنصارى ؟ قال فمن ؟ هو برفع اليهود خبر مبتدأ محذوف ، أي أهم اليهود والنصارى الذين نتبع سننهم ؟ ويجوز النصب بفعل محذوف تقديره : تعني . قوله : قال فمن ؟ استفهام إنكاري . أي فمن هم غير أولئك ؟

حديث ثوبان : إن الله زوى لي الأرض إلخ قوله : ولمسلم عن ثوبان رضي الله عنه أن رسول الله قال : " إن الله زوى لي الأرض فرأيت مشارقها ومغاربها ، وإن أمتي سيبلغ ملكها ما زوى لي منها . وأعطيت الكنزين : الأحمر ، والأبيض . وإني سألت ربي لأمتي أن لا يهلكها بسنة بعامة ، وأن لا يسلط عليهم عدوًا من سوى أنفسهم ، فيستبيح بيضتهم ، وإن ربي قال : يا محمد ، إذا قضيت قضاء فإنه لا يرد ، وإن أعطيتك لأمتك أن لا أهلكها بسنة بعامة . وأن لا أسلط عليهم عدوًا من سوى أنفسهم فيستبيح بيضتهم ، ولو اجتمع عليهم من بإقطارها حتى يكون بعضهم يهلك بعضًا ، ويسبى بعضهم بعضًا " ورواه البرقاني في صحيحه وزاد " وإنما أخاف على أمتى الأئمة المضلين . وإذا وقع عليهم السيف لم يرفع إلى يوم القيامة ولا تقوم الساعة حتى يلحق حي من أمتي ، بالمشركين وحتى تعبد فئام من أمتى الأوثان . وأنه سيكون في أمتي كذابون ثلاثون ، كلهم يزعم أنه نبي ، وأنا خاتم النبيين لا نبي بعدي ، ولا تزال طائفة من أمتي على الحق منصورة لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى يأتي أمر الله تبارك وتعالى " . هذا الحديث رواه أبو داود في سننه وابن ماجه بالزيادة التي ذكرها المصنف . قوله : عن ثوبان هو مولى النبي صحبه . ولازمه . ونزل بعده الشام ومات بحمص سنة أربع وخمسين . قوله : زوى لي الأرض قال التوربشتى : زويت الشئ جمعته وقبضته ، يريد تقريب البعيد منها حتى اطلع عليه إطلاعه على القريب . وحاصله أنه طوى له الأرض وجعلها مجموعة كهيئة كف في مرآة ينظره . قال الطيبي : أي جمعها ، حتى بصرت ما تملكه أمتي من أقصى المشارق والمغارب منها . قوله : وإن أمتي سيبلغ ملكها ما زوى لي منها قال القرطبي : هذا الخبر وجد مخبره كما قال ، وكان ذلك من دلائل نبوته ، وذلك أن ملك أمته اتسع إلى أن بلغ أقصى طنجة ـ بالنون والجيم ـ الذي هو منتهى عمارة المغرب ، إلى أقصى المشرق مما هو وراء خراسان والنهر ، وكثير من بلاد السند والهند والصغد ، ولم يتسع ذلك الاتساع من جهة الجنوب والشمال . وذلك لم يذكر عليه السلام أنه أريه ولا أخبر أن ملك أمته يبلغه . قوله : زوى لي منها يحتمل أن يكون مبينًا للفاعل ، وأن يكون مبنيًا للمفعول . قوله : وأعطيت الكنزين : الأحمر والأبيض قال القرطبي : عني به كنز كسرى ، وهو ملك الفرس ، وكنز قيصر وهو ملك الروم وقصورهما وبلادهما . وقد قال  : " والذي نفسي بيده لتنفقن كنوزهما في سبيل الله " وعبر بالأحمر عن كنز قيصر لأن الغالب عندهم كالذهب ، وبالأبيض عن كنز كسرى لأن الغالب عندهم كان الجوهر والفضة . ووجد ذلك في خلافة عمر . فإنه سيق إليه تاج كسرى وحليته وما كان في بيوت أمواله ، وجميع ما حوته مملكته على سعتها وعظمتها ، وكذلك فعل الله بقيصر والأبيض والأحمر منصوبان على البدل . قوله : وإني سألت ربي لأمتي أن لا يهلكها بسنة بعامة هكذا ثبت في أصل المصنف رحمه الله بعامة بالباء وهي رواية صحيحة في صحيح مسلم وفي بعضها بحذفها . قال القرطبي : وكأنها زائدة لأن عامة : صفة السنة ، والسنة الجدب الذي يكون به الهلاك العام ، ويسمى الجدب والقحط : سنة . يجمع على سنين ، كما قال تعالى : ' 7 : 130 ' " ولقد أخذنا آل فرعون بالسنين " أي الجدب المتوالى . قوله : من سوى أنفسهم أي من غيرهم من الكفار من إهلاك بعضهم بعضًا ، وسبى بعضهم بعضًا ، كما هو مبسوط في التاريخ فيما قيل . وفي زماننا هذا ، نسأل الله العفو والعافية . قوله : فيستبيح بيضتهم قال الجوهري : بيضة كل شئ جوزته . وبيضة القوم ساحتهم ، وعلى هذا فيكون معنى الحديث : إن الله تعالى لا يسلط العدو على كافة المسلمين حتى يستبيح جميع ما حازوه من البلاد والأرض ، ولو اجتمع عليهم من بأقطار الأرض وهي جوانبها . وقيل : بيضتهم معظمهم وجماعتهم ، وإن قلوا . قوله : حتى يكون بعضهم يهلك بعضًا ، ويسبى بعضهم بعضًا والظاهر أن حتى عاطفة ، أو تكون لانتهاء الغاية ، أي إن أمر الأمة ينتهي إلى أن يكون بعضهم يهلك بعضًا . وقد سلط بعهضم على بعض كما هو الواقع ، وذلك لكثرة اختلافهم وتفرقهم . قوله : وإن ربي قال : يا محمد ، إذا قضيت قضاء فإنه لا يرد قال بعضهم : أي إذا حكمت حكمًا مبرمًا نافذًا فإنه لا يرد بشئ، ولا يقدر أحد على رده ، كما قال النبي ولا راد لما قضيت . قوله : رواه البرقاني في صحيحه هو الحافظ الكبير أبو بكر أحمد بن محمد بن أحمد بن غالب الخوارزمي الشافعي . ولد سنة ست وثلاثين وثلاثمائة ومات سنة خمس وعشرين وأربعمائة . قال الخطيب : كان ثبتًا ورعًا ، لم نر في شيوخنا أثبت منه ، عارفًا بالفقه كثير التصانيف . صنف مسندًا ضمنه ما أشتمل عليه الصحيحان . وجمع حديث الثوري وحديث شعبة وطائفة . وهذا الحديث رواه أبو داود بتمامه بسنده إلى أبي قلابة عن أبي أسماء عن ثوبان رضي الله عنه قال : قال رسول الله " إن الله ـ أو قال إن ربي ـ زوى لي الأرض فأريت مشارق الأرض ومغاربها ، وإن ملك أمتي سيبلغ ما زوى لي منها. وأعطيت الكنزين : الأحمر والأبيض . وإني سألت لأمتي أن لا يهلكها بسنة عامة ولا يسلط عليهم عدوًا سوى أنفسهم فيستبيح بيضتهم . وأن ربي قال لي : يا محمد إني إذا قضيت قضاء فإنه لا يرد ، ولا أهلكهم بسنة عامة ، ولا أسلط عليهم عدوًا من سوى أنفسهم فيستبيح بيضتهم . وإن ربي قال لي : يا محمد إني إذا قضيت قضاء فإنه لا يرد ، ولا أهلكهم بسنة عامة ، ولا أسلط عليهم عدوًا من سوى أنفسهم فيستبيح بيضتهم ولو اجتمع عليهم من بين أقطارها ـ أو قال : بأقطارها ـ حتى يكون بعضهم يهلك بعضًا ، وحتى يكون بعضهم يسبى بعضًا . وإنما أخاف على أمتي الأئمة المضلين . وإذا وضع السيف في أمتي لم يرفع عنها إلى يوم القيامة . ولا تقوم الساعة حتى يلحق قبائل أمتي بالمشركين ، وحتى تعبد قبائل من أمتي الأوثان وإنه سيكون في أمتي كذابون ثلاثون كلهم يزعم أنه نبي ، وأنا خاتم النبيين لا نبي بعدي ، ولا تزال طائفة من أمتي على الحق ـ قال ابن عيسى : ظاهرين ثم اتفقا لا يضرهم من خالفهم حتى يأتي أمر الله تعالى ". وروى أبو داود أيضًا عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه عن النبي أنه قال : " تدور رحى الإسلام لخمس وثلاثين ، أو ست وثلاثين ، أو سبع وثلاثين ، فإن يهلكوا فسبيل من هلك ، وإن يقم لهم دينهم يقم سبعين عامًا قلت : أمما بقى أو مما مضى ؟ قال : مما مضى " . وروى في سننه أيضًا عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله  :" يتقارب الزمان وينقص العلم ، وتظهر الفتن ، ويلقى الشح ، ويكثر الهرج ، قيل : يا رسول الله أيه هو ؟ قال : القتل القتل " . قوله : وإنما أخاف على أمتي الأئمة المضلين أي الأمراء والعلماء والعباد فيحكمون فيهم بغير علم فيضلونهم ، كما قال تعالى : ' 33 : 67 ' " وقالوا ربنا إنا أطعنا سادتنا وكبراءنا فأضلونا السبيلا " وكان بعض هؤلاء يقول لأصحابه : من كان له حاجة فليأت إلى قبري فإني أقضيها له ولا خير في رجل يحجبه عن أصحابه ذراع من تراب ، ونحو هذا . وهذا هو الضلال البعيد، يدعو أصحابه إلى أن يعبدوه من دون الله ويسألوه ما لا يقدر عليه من قضاء حاجاتهم وتفريج كرباتها ، وقد قال تعالى : ' 22 : 12 ، 13 ' " يدعو من دون الله ما لا يضره وما لا ينفعه ذلك هو الضلال البعيد * يدعو لمن ضره أقرب من نفعه لبئس المولى ولبئس العشير " وقال تعالى : ' 25 : 3 ' " واتخذوا من دونه آلهة لا يخلقون شيئًا وهم يخلقون ولا يملكون لأنفسهم ضرًا ولا نفعًا ولا يملكون موتًا ولا حياة ولا نشورًا " وقال تعالى : ' 29 : 17 ' " فابتغوا عند الله الرزق واعبدوه واشكروا له إليه ترجعون " وأمثال هذا في القرآن كثير ، يبين الله تعالى به الهدى من الضلال . ومن هذا الضرب : من يدعى أنه يصل مع الله إلى حال تسقط فيها عنه التكاليف ، ويدعى أن الأولياء يدعون ويستغاث بهم في حياتهم ومماتهم ، وأنهم ينفعون ويضرون ويدبرون الأمور على سبيل الكرامة ، وأنه يطلع على اللوح المحفوظ ، يعلم أسرار الناس وما في ضمائرهم ، ويجوز بناء المساجد على قبور الأنبياء والصالحين وإيقادها بالسرج ونحو ذلك من الغلو والإفراط والعبادة لغير الله . فما أكثر هذا الهذيان والكفر والمحادة لله ولكتابه ولرسوله .

إنما أخاف على أمتي الأئمة المضلين وقوله  : " وإنما أخاف على أمتي الأئمة المضلين " أتى بإنما التي قد تأتي للحصر بيانًا لشدة خوفه على أمته من أئمة الضلال ، وما وقع في خلد النبي من ذلك إلا لما أطلعه الله عليه من غيبه أنه سيقع نظير ما في الحديث قبله من قوله : " لتتبعن سنن من كان قبلكم ... " الحديث . وعن أبي الدرداء رضي الله عنه قال : قال رسول الله  : " إن أخوف ما أخاف على أمتي الأئمة المضلون " رواه أبو داود الطيالسي . وعن ثوبان رضي الله عنه أن رسول الله قال : " إنما أخاف على أمتي الأئمة المضلين " رواه الدارمى . وقد بين الله تعالى في كتابه صراطه المستقيم الذي هو سبيل المؤمنين . فكل من أحدث حدثًا ليس في كتاب الله ولا في سنة رسوله فهو ملعون وحدثه مردود ، كما قال  : " من أحدث حدثًا أو آوى محدثًا فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين لا يقبل الله منه يوم القيامة صرفًا ولا عدلًا " وقال : " من أحدث في أمرنا ما ليس منه فهو رد " وقال : " كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة " وهذه أحاديث صحيحة . ومدار أصول الدين وأحكامه على هذه الأحاديث ونحوها . وقد بين الله تعالى هذا الأصل في مواضع من كتابه العزيز كما قال تعالى : ' 7 : 3 ' " اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم ولا تتبعوا من دونه أولياء قليلًا ما تذكرون " وقال تعالى : ' 45 : 18 ' " ثم جعلناك على شريعة من الأمر فاتبعها ولا تتبع أهواء الذين لا يعلمون " ونظائرها في القرآن كثير . وعن زياد بن حدير قال : قال لي عمر رضي الله عنه : هل تعرف ما يهدم الإسلام ؟ قلت : لا ، قال يهدمه زلة العالم ، وجدال المنافق بالكتاب ، وحكم الأئمة المضلين رواه الدارمى . وقال يزيد بن عمير : كان معاذ بن جبل رضي الله عنه لا يجلس مجلسًا للذكر إلى ويقول : الله حكم قسط : هلك المرتابون ـ وفيه : فاحذروا زيغة الحكيم فإن الشيطان قد يقول الضلالة على لسان الحكيم ، وقد يقول المنافق كلمة الحق . قلت لمعاذ : وما يدريني رحمك الله أن الحكيم قد يقول كلمة الضلالة ، والمنافق قد يقول كلمة الحق ؟ فقال : اجتنب من كلام الحكيم المشتبهات التي يقول : ما هذه : ولا يثنيك ذلك عنه ، فإنه لعله أن يراجع الحق ، وتلق الحق إذا سمعته ، فإن على الحق نورًا رواه أبو داود وغيره . قوله : وإذا وقع السيف لم يرفع إلى يوم القيامة وكذلك وقع . فإن السيف لما وقع بقتل عثمان رضي الله عنه لم يرفع ، وكذلك يكون إلى يوم القيامة ، ولكن قد يكثر تارة ويقل أخرى ، ويكون في جهة ويرتفع عن أخرى . قوله : ولا تقوم بالساعة حتى يلحق حي من أمتي بالمشركين الحي واحد الأحياء وهي القبائل : وفي رواية أبي داود حتى يلحق قبائل من أمتي بالمشركين والمعنى : أنهم يكونون معهم ويرتدون برغبتهم عن أهل الإسلام ويلحقون بأهل الشرك . وقوله : حتى تعبد فئام من أمتى الأوثان الفئام بكسر الفاء مهموز الجماعات الكبيرة ، قاله أبو السعادات . وفي رواية أبي داود : حتى تعبد قبائل من أمتي الأوثان . وهذا هو شاهد الترجمة ، ففيه الرد على من قال بخلافه من عباد القبور الجاحدين لما يقع منهم من الشرك بالله بعبادتهم الأوثان . وذلك لجهلهم بحقيقة التوحيد وما يناقضه من الشرك والتنديد ، فالتوحيد هو أعظم مطلوب والشرك هو أعظم الذنوب . وفي معنى هذا الحديث : ما في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعًا : " لا تقوم الساعة حتى تضطرب أليات نساء دوس على ذي الخلصة قال : وذو الخلصة طاغية دوس التي كانوا يعبدون في الجاهلية " وروى ابن حبان عن معمر قال : إن عليه الآن بيتًا مبنيًا مغلقًا . قال العلامة ابن القيم رحمه الله في قصة هدم اللات ، لما أسلمت ثقيف : فيه أنه لا يجوز إبقاء مواضع الشرك والطواغيت بعد القدرة على هدمها وإبطالها يومًا واحدًا ، وكذا حكم المشاهد التي بنيت على القبور ، والتي اتخذت أوثانًا تعبد من دون الله ، والأحجار التي تقصد للتبرك والنذر لا يجوز إبقاء شئ منها على وجه الأرض مع القدرة على إزالتها ، وكثير منها بمنزلة اللات والعزى ومناة، أو أعظم شركًا عندها وبها . فاتبع هؤلاء سنن من كان قبلهم ، وسلكوا سبيلهم حذو القذة بالقذة ، وغلب الشرك على أكثر النفوس ، لظهور الجهل وخفاء العلم ، وصار المعروف منكرًا والمنكر معروفًا ، والسنة بدعة والبدعة سنة ، وطمست الأعلام ، واشتدت غربة الإسلام ، وقل العلماء ، وغلب السفهاء ، وتفاقم الأمر ، واشتد البأس ، وظهر الفساد ، في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس ، ولكن لا تزال طائفة من العصابة المحمدية بالحق قائمين ، ولأهل الشرك والبدع مجاهدين ، إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها وهو خير الوارثين ا هـ ملخصًا . قلت : فإذا كان هذا في القرن السابع وقبله ، فما بعده أعظم فسادًا كما هو الواقع .

سيكون في أمتي كذابون ثلاثة وقوله : وإنه سيكون في أمتي كذابون ثلاثون كلهم يزعم أنه نبي قال القرطبي : وقد جاء عددهم معينًا في حديث حذيفة قال : قال رسول الله  : " يكون في أمتي كذابون دجالون سبع وعشرون ، منهم أربع نسوة " أخرجه أبو نعيم . وقال : هذا حديث غريب . انتهى . وحديث ثوبان أصح من هذا . قال القاضي عياض : عد من تنبأ من زمن رسول الله إلى الآن ممن اشتهر بذلك وعرف وأتبعه جماعة على ضلالة . فوجد هذا العدد فيهم ، ومن طالع كتب الأخبار والتواريخ عرف صحة هذا . وقال الحافظ : وقد ظهر مصداق ذلك في زمن رسول الله ، فخرج مسيلمة الكذاب باليمامة ، والأسود العنسي باليمن ، وفي خلافة أبي بكر : طليحة بن خويلد في بني أسد بن خزيمة ، وسجاح في بني تميم ، وقتل الأسود قبل أن يموت النبي ، وقتل مسيلمة في خلافة أبي بكر رضي الله عنه ، قتله وحشي قاتل حمزة يوم أحد ، وشاركه في قتل مسيلمة يوم اليمامة رجل من الأنصار ، وتاب طليحة ومات على الإسلام في زمن عمر رضي الله عنه. ونقل أن سجاح تابت أيضًا. ثم خرج المختار بن أبي عبيد الثقفي وغلب على الكوفة في أول خلافة الزبير . وأظهر محبة أهل البيت ودعا الناس إلى طلب قتلة الحسين ، فتتبعهم فقتل كثيرًا ممن باشر ذلك ، وأعان عليه . فأحبه الناس ، ثم ادعى النبوة وزعم أن جبريلًا عليه السلام يأتيه . ومنهم الحرث الكذاب ، خرج في خلافة عبد الملك بن مروان فقتل . وخرج في خلافة بني العباس جماعة . وليس المراد بالحديث من ادعى النبوة مطلقًا . فإنهم لا يصحون كثرة لكون غالبهم تنشأ دعوته عن جنون أو سوداء . وإنما المراد من قامت له شوكة وبدأ له شبهة كمن وصفنا . وقد أهلك الله تعالى من وقع له منهم ذلك وبقي منهم من يلحقه بأصحابه وآخرهم الدجال الأكبر . قوله : وأنا خاتم النبيين قال الحسن . الخاتم الذي ختم به يعني أنه آخر النبيين ، كما قال تعالى :' 33 : 40 ' " ما كان محمد أبا أحد من رجالكم ولكن رسول الله وخاتم النبيين " وإنما ينزل عيسى ابن مريم في آخر الزمان حاكمًا بشريعة محمد مصليًا إلى قبلته . فهو كأحد من أمته ، بل هو أفضل هذه الأمة . قال النبي  : " والذي نفسي بيده لينزلن فيكم ابن مريم حكمًا مقسطًا . فليكسرن الصليب ، وليقتلن الخنزير ، وليضعن الجزية " .

الطائفة المنصورة أهل الحق قوله : ولا تزال طائفة من أمتي على الحق منصورة لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم قال يزيد بن هرون ، وأحمد بن حنبل : إن لم يكونوا أهل الحديث فلا أدري من هم ؟ . قال ابن المبارك وعلى بن المديني ، وأحمد بن سنان والبخاري وغيرهم إنهم أهل الحديث وعن ابن المديني رواية هم العرب واستدل برواية من روى ، هم أهل الغرب . وفسر الغرب بالدلو العظيمة ، لأن العرب هم الذين يستقون بها . قال النووي  : يجوز أن تكون الطائفة جماعة متعددة من أنواع المؤمنين ما بين شجاع وبصير بالحرب ، وفقيه ومحدث ومفسر ، وقائم بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر . وزاهد وعابد ، ولا يلزم أن يكونوا مجتمعين في بلد واحد ، بل يجوز اجتماعهم في قطر واحد ، وافتراقهم في أقطار الأرض ، ويجوز أن يجتمعوا في البلد الواحد وأن يكونوا في بعض دون بعض منه ، ويجوز إخلاء الأرض من بعضهم أولًا بأول إلى أن لا يبقى إلا فرقة واحدة ببلد واحد ، فإذا انقرضوا جاء أمر الله . ا هـ ملخصًا مع زيادة فيه . قاله الحافظ . قال القرطبي : وفيه دليل على أن الإجماع حجة لأن الأمة اجتمعت فقد دخل فيهم الطائفة المنصورة . قال المصنف رحمه الله : وفي الآية العظيمة : أنهم مع قلتهم لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم . وفيه البشارة بأن الحق لا يزول بالكلية . قتل : واحتج به الإمام أحمد على أن الإجتهاد لا ينقطع ما دامت هذه الطائفة موجودة . قوله : حتى يأتي أمر الله الظاهر أن المراد به ما روى من قبض من بقي من المؤمنين بالريح الطيبة ، ووقوع الآيات العظام ، ثم لا يبقى إلا شرار الناس ، كما روى الحاكم أن عبد الله بن عمر قال : لا تقوم الساعة إلا على شرار الخلق ، هم شر أهل الجاهلية فقال عقبة بن عامر لعبد الله : اعلم ما تقول ، وأما أنا فسمعت النبي يقول : لا تزال عصابة من أمتي يقاتلون على أمر الله ظاهرين لا يضرهم من خالفهم حتى تأتيهم الساعة وهم على ذلك قال عبد الله : ويبعث الله ريحًا ريحها المسك ، ومسها مس الحرير فلا تترك أحدًا في قلبه مثقال ذرة من إيمان إلا قبضته ، ثم يبقى شرار الناس فعليهم تقوم الساعة وفي صحيح مسلم : لا تقوم الساعة حتى لا يقال في الأرض الله الله . وعلى هذا فالمراد بقوله في حديث عقبة وما أشبهه حتى تأتيهم الساعة ساعتهم وهي وقت موتهم بهبوب الريح . ذكره الحافظ . وقد اختلف في محل هذه الطائفة ، فقال ابن بطال : إنها تكون في بيت المقدس ، كما رواه الطبراني من حديث أبي أمامة قيل: يا رسول الله ، أين هم ؟ قال : بيت المقدس وقال معاذ بن جبل رضي الله عنه : هم بالشام وفي كلام الطبري ما يدل على أنه لا يجب أن تكون في الشام أو في بيت المقدس دائمًا ، بل قد تكون في موضع آخر في بعض الأزمنة . قلت : ويشهد له الواقع وحال أهل الشام وأهل بيت المقدس ، فإنهم من أزمنة طويلة لا يعرف فيهم من قام بهذا الأمر بعد شيخ الإسلام ابن تيمية رضي الله عنه وأصحابه في القرن السابع وأول الثامن ، فإنهم كانوا في زمانهم على الحق يدعون إليه ، ويناظرون عليه ، ويجاهدون فيه . وقد يجيء من أمثالهم بعد بالشام من يقوم مقامهم بالدعوة إلى الحق والتمسك بالسنة . والله على كل شئ قدير . ومما يؤيد هذا أن أهل الحق والسنة في زمن الأئمة الأربعة وتوافر العلماء في ذلك الزمان وقبله وبعده لم يكونوا في محل واحد ، بل هم في غالب الأمصار في الشام منهم الأئمة ، وفي الحجار وفي مصر ، وفي العراق واليمن ، وكلهم على الحق يناضلون ، ويجاهدون أهل البدع ، ولهم المصنفات التي صارت أعلامًا لأهل السنة ، وحجة على كل مبتدع . فعلى هذا ، فهذه الطائفة قد تجتمع وقد تتفرق ، وقد تكون في الشام ، وقد تكون في غيره ، فإن حديث أبي أمامة ، وقول معاذ ، لا يفيد حصرها بالشام وإنما يفيد أنها تكون في الشام في مصر بعض الأزمنة لا في كلها . وكل جملة من هذا الحديث علم من أعلام النبوة ، فإن كل ما أخبر به النبي في هذا الحديث وقع كما أخبر . وقوله : تبارك وتعالى قال ابن القيم : البركة نوعان : أحدهما : بركة هي فعلة والفعل منها بارك ، ويتعدى بنفسه تارة وبأداة على تارة ، وبأداة في تارة، والمفعول منها مبارك. وهو ما جعل منها كذلك ، فكان مباركًا بجعله تعالى . والنوع الثاني : بركة تضاف إليه إضافة الرحمة والعزة ، والفعل منها تبارك ، ولهذا لا يقال لغيره ذلك ، ولا يصلح إلا له عز وجل ، فهو سبحانه المتبارك ، وعبده ورسوله المبارك ، كما قال المسيح عليه السلام : ' 19 : 30 ' " وجعلني مباركا أين ما كنت " فمن يبارك الله فيه وعليه فهو المبارك . وأما صفة تبارك فمختصة به ، كما أطلقه على نفسه في قوله : ' 7 : 54 ' " تبارك الله رب العالمين " ' 76 : 1 ' " تبارك الذي بيده الملك وهو على كل شيء قدير " أفلا تراها كيف اطردت في القرآن جارية عليه مختصة به ، لا تطلق على غيره ؟ وجاءت على بناء السعة والمبالغة ، كتعالى وتعاظم ونحوه ، فجاء بناء تبارك على بناء تعالى الذي هو دال على كمال العلو ونهايته ، فكذلك تبارك دال على كمال بركته وعظمته وسعتها . وهذا معنى قول من قال من السلف تبارك تعاظم . وقال ابن عباس رضي الله عنهما : جاء بكل بركة .

ما هو الجبت والطاغوت قوله : قال عمر رضي الله عنه : الجبت : السحر . والطاغوت : الشيطان هذا الأثر رواه ابن أبي حاتم وغيره . قوله : وقال جابر : الطواغيت كهان كان ينزل عليهم الشيطان ، في كل حي واحد هذا الأثر رواه ابن أبي حاتم بنحوه مطولًا عن وهب بن منبه قال : سألت جابر بن عبد الله عن الطواغيت التي كانوا يتحاكمون إليها ، فقال : إن في جهينة واحدًا ، وفي أسلم واحدًا ، وفي هلال واحدًا ، وفي كل حي واحدًا ، وهم كهان كانت تنزل عليهم الشياطين . قوله : قال جابر هو عبد الله بن حرام الأنصاري . قوله : الطواغيت كهان أراد أن الكهان من الطواغيت : فهو من إفراد المعنى . قوله : كان ينزل عليهم الشيطان أراد الجنس لا الشيطان الذي هو إبليس خاصة ، بل تنزل عليهم الشياطين ويخاطبونهم ويخبرونهم بما يسترقون من السمع ، فيصدقون مرة ويكذبون مائة . قوله : في كل حي واحد الحي واحد الأحياء ، وهم القبائل ، أي في كل قبيلة كاهن يتحاكمون إليه ويسألونه عن الغيب ، وكذلك كان الأمر قبل مبعث النبي فأبطل الله ذلك بالإسلام وحرست السماء بكثرة الشهب .

السبع الموبقات قوله : وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله  : " اجتنبوا السبع الموبقات ، قالوا : يا رسول الله وما هن ؟ قال : الشرك بالله ، والسحر ، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق ، وأكل الربا ، وأكل مال اليتيم ، والتولي يوم الزحف ، وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات " . كذا أورده المصنف غير معزو . وقد رواه البخاري ومسلم . قوله : اجتنبوا أي ابعدوا ، وهو أبلغ من قوله : دعوا واتركوا ، لأن النهي عن القربان أبلغ ، كقوله : ' 6 : 141 ' " ولا تقربوا الفواحش ما ظهر منها وما بطن " . قوله : الموبقات بموحدة وقاف . أي المهلكات. وسميت هذه موبقات لأنها تهلك فاعلها في الدنيا بما يترتب عليها من العقوبات، وفي الآخرة من العذاب . وفي حديث ابن عمر عند البخاري في الآدب المفرد والطبري في التفسير ، وعبد الرزاق مرفوعًا وموقوفًا قال : الكبائر تسع ـ وذكر السبع المذكورة ـ وزاد : والإلحاد في الحرم ، وعوق الوالدين ولابن أبي حاتم عن علي قال : الكبائر ـ فذكر السبع ـ إلا مال اليتيم ، وزاد ـ العقوق ، والتعرب بعد الهجرة ، وفراق : الجماعة ونكث الصفقة . قال الحافظ : ويحتاج عندي هذا الجواب عن الحكمة في الاقتصار على سبع . ويجاب : بأن مفهوم العدد ليس بحجة وهو ضعيف ، أو بأنه أعلم أو لا بالمذكورات. ثم أعلم بما زاد ، فيجب الأخذ بالزائد ، أو أن الاقتصار وقع بحسب المقام بالنسبة إلى السائل . وقد أخرج الطبراني وإسماعيل القاضي عن ابن عباس أنه قيل له : الكبائر سبع قال : هن أكثر من سبع وسبع وفي رواية هي إلى سبعين أقرب وفي رواية : إلى السبعمائة . قوله : قال الشرك بالله هو أن يجعل لله ندًا يدعوه ويرجوه ، ويخافه كما يخاف الله ، بدأ به لأنه أعظم ذنب عصى الله به ، كما في الصحيحين عن ابن مسعود " سألت النبي أي الذنب أعظم عند الله ؟ قال : أن تجعل لله ندًا وهو خلقك ، ..." الحديث ، وأخرج الترمذي بسنده عن صفوان بن عسال قال : قال يهودي لصاحبه : اذهب بنا إلى هذا النبي ، فقال له صاحبه : لا تقل نبي ، إنه لو سمعك لكان له أربع أعين ، فأتيا رسول الله فسألاه عن تسع آيات بينات ، فقال النبي  : " لا تشركوا بالله شيئًا ، ولا تسرقوا ، ولا تزنوا ، ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق ، ولا تمشوا ببريء إلى ذي سلطان ليقتله ، ولا تسحروا ، ولا تأكلوا الربا ، ولا تقذفوا محصنة ، ولا تولوا للفرار يوم الزحف ، وعليكم خاصة اليهود أن لا تعدوا في السبت . فقبلا يديه ورجليه . وقالا : نشهد أنك نبي ..." الحديث . وقال : حسن صحيح . قوله : السحر تقدم معناه . وهذا وجه مناسبة الحديث للترجمة . وقوله : وقتل النفس التي حرم الله أي حرم قتلها . وهي نفس المسلم المعصوم . قوله : إلا بالحق أي بأن تفعل ما يوجب قتلها . كالشرك والنفس بالنفس ، والزاني بعد الإحصان ، وكذا قتل المعاهد ، كما في الحديث "من قتل معاهدًا لم يرح رائحة الجنة " . واختلف العلماء فيمن قتل مؤمنًا متعمدًا ، وهل له توبة أم لا ؟ فذهب ابن عباس وأبو هريرة وغيرهما إلى أنه لا توبة له ، استدلالًا بقوله تعالى : ' 4 : 93 ' " ومن يقتل مؤمنًا متعمدًا فجزاؤه جهنم خالدًا فيها " وقال ابن عباس نزلت هذه الآية وهي آخر ما نزل وما نسخها شئ وفي رواية : لقد نزلت في آخر ما نزل وما نسخها شئ حتى قبض رسول الله وما نزل وحي وروى في ذلك آثار تدل لما ذهب إليه هؤلاء ، كما عند الإمام أحمد والنسائي وابن المنذر عن معاوية : سمعت رسول الله يقول : " كل ذنب عسى الله أن يغفره إلا الرجل يموت كافرًا أو الرجل يقتل مؤمنًا متعمدًا " . وذهب جمهور الأمة سلفًا وخلفًا إلى أن القاتل له توبة فيما بينه وبين الله ، فإن تاب وأناب عمل صالحًا بدل الله سيئاته حسنات ، كما قال تعالى : ' 25 : 68 ـ 71 ' " والذين لا يدعون مع الله إلها آخر ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق ولا يزنون ومن يفعل ذلك يلق أثاما * يضاعف له العذاب يوم القيامة ويخلد فيه مهانا * إلا من تاب وآمن وعمل عملا صالحا " الآيات . قوله : ومن يقتل مؤمنًا متعمدًا قال أبو هريرة وغيره هذا جزاؤه إن جازاه . وقد روى عن ابن عباس ما يوافق قول الجمهور ، فروى عبد بن حميد والنحاس عن سعيد بن عبادة أن ابن عباس رضي الله عنه كان يقول : لمن قتل مؤمنًا توبة وكذلك ابن عمر رضي الله عنهما . وروى مرفوعًا " أن جزاءه جهنم إن جازاه " . قوله : وآكل الربا أي تناوله بأي وجه كان ، كما قال تعالى : ' 2 : 275 ـ 280 ' " الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس " الآيات . قال ابن دقيق العيد : وهو مجرب لسوء الخاتمة . نعوذ بالله من ذلك . قوله : وآكل مال اليتيم يعني التعدي فيه . وعبر بالأكل لأنه أعم وجوه الانتفاع ، كما قال تعالى : ' 4 : 10 7" إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلمًا إنما يأكلون في بطونهم نارًا وسيصلون سعيرًا " . قوله : والتولي يوم الزحف أي الإدبار عن الكفار وقت التحام القتال ، وإنما يكون كبيرة إذا فر إلى غير فئة أو غير متحرف لقتال . كما قيد به في الآية . قوله : وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات وهو بفتح الصاد : المحفوظات من الزنا ، وبكسرها الحافظات فروجهن منه ، والمراد بالحرائر العفيفات ، والمراد رميهن بزنا أو لواط . والغافلات ، أي عن الفواحش وما رمين به . فهو كناية عن البريئات . لأن الغافل بريء عما بهت به . والمؤمنات ، أي بالله تعالى احترازًا من قذف الكافرات .

حد الساحر : ضربه بالسيف قوله : وعن جندب مرفوعًا " حد الساحر ضربه بالسيف " رواه الترمذي وقال : الصحيح أنه موقوف . قوله : عن جندب ظاهر صنيع الطبراني في الكبير أنه جندب بن عبد الله البجلي . لا جندب الخير الأزدي قاتل الساحر فإنه رواه في ترجمة جندب البجلي من طريق خالد العبد عن الحسن عن جندب عن النبي . وخالد العبد ضعيف . قال الحافظ : والصواب أنه غيره . وقد رواه ابن قانع والحسن بن سفيان من وجهين عن الحسن عن جندب الخير : أنه جاء إلى ساحر فضربه بالسيف حتى مات ، وقال : سمعت رسول الله يقول ـ فذكره وجندب الخير هو جندب بن كعب ، وقيل: جندب بن زهير ، وقيل : هما واحد ، كما قال ابن حبان : أبو عبد الله الأزدي الغامدي صحابي روى ابن السكن من حديث بريدة أن النبي قال : " يضرب ضربة واحدة فيكون أمة واحدة ". قوله : حد الساحر ضربه بالسيف وروى بالهاء وبالتاء ، وكلاهما صحيح . وبهذا الحديث أخذ مالك وأحمد وأبو حنيفة فقالوا : يقتل الساحر . وروى ذلك عن عمر ، وعثمان ، وابن عمر ، وحفصة ، وجندب بن عبد الله ، وجندب بن كعب ، وقيس ابن سعد ، وعمر بن عبد العزيز ، ولم ير الشافعي القتل عليه بمجرد السحر إلا إن عمل في سحره ما يبلغ الكفر . وبه قال ابن المنذر وهو رواية عن أحمد . والأول أولى للحديث ولأثر عمر ، وعمل به الناس في خلافته من غير نكير . قال : وفي صحيح البخاري عن بجالة بن عبدة قال : كتب عمر بن الخطاب أن اقتلوا كل ساحر وساحرة . قال فقتلنا ثلاث سواحر . هذا الأثر رواه البخاري كما قال المصنف رحمه الله ، لكن لم يذكر قتل السواحر . قوله : عن بجالة بفتح الموحدة بعدها جيم ، ابن عبدة بفتحتين ، التميمي العنبري بصرى ثقة . قوله : كتب إلينا عمر بن الخطاب أن اقتلوا كل ساحر وساحرة وظاهره أنه يقتل من غير استتابة . وهو كذلك على المشهور عن أحمد ، وبه قال مالك ، لأن علم السحر لا يزول بالتوبة . وعن أحمد يستتاب ، فإن تاب قبلت توبته ، وبه قال الشافعي لأن ذنبه لا يزيد عن الشرك ، والمشرك يستتاب وتقبل توبته ولذلك صح إيمان سحرة فرعون وتوبتهم . قوله : وصح عن حفصة أنها أمرت بقتل جارية لها سحرتها فقتلت . هذا الأثر وراه مالك في الموطأ . وحفصة هي أم المؤمنين بنت عمر بن الخطاب تزوجها النبي بعد خينس بن حذافة وماتت سنة خمس وأربعين . قوله : وكذلك صح عن جندب أشار المصنف بهذا إلى قتلة الساحر كما رواه البخاري في تاريخه عن أبي عثمان النهدي قال : كان عند الوليد رجل يلعب فذبح إنسانًا وأبان رأسه فعجبنا ، فأعاد رأسه فجاء جندب الأزدى فقتله ورواه البيهقي في الدلائل مطولًا . وفيه فأمر به الوليد فسجن فذكر القصة بتمامها ولها طرق كثيرة . قوله : قال أحمد عن ثلاث من أصحاب النبي أحمد هو الإمام ابن محمد بن حنبل . قوله : عن ثلاثة أي صح قتل الساحر عن ثلاثة ، أو جاء قتل الساحر عن ثلاثة من أصحاب النبي ، يعني عمر ، وحفصة ، وجندبًا . والله أعلم .

باب بيان شيء من أنواع السحر قوله : باب ( بيان شئ من أنواع السحر ) قلت : ذكر الشارح رحمه الله تعالى ها هنا شيئًا من الخوارق وكرامات الأولياء وذكر ما اغتر به كثير من الناس من الأحوال الشيطانية التي غرت كثيرًا من العوام والجهال ، وظنوا أنها تدل على ولاية من جرت على يديه ممن هو من أولياء الشيطان لا من أولياء الرحمن ثم قال : ولشيخ الإسلام كتاب الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان فراجعه . انتهى . قال رحمه الله تعالى قال أحمد : حدثنا محمد بن جعفر . حدثنا عوف عن حيان ابن العلاء ، حدثنا قطن بن قبيصة عن أبيه أنه سمع النبي قال : " إن العيافة ، والطرق ، والطيرة من الجبت " قال عوف : العيافة زجر الطير ، والطرق الخط يخط في الأرض ، والجبت : قال الحسن رنة الشيطان إسناده جيد . ولأبي داود والنسائي وابن حبان في صحيحه  : المسند منه . قوله : قال أحمد هو الإمام أحمد بن محمد بن حنبل . ومحمد بن جعفر هو المشهور بغندر الهذلي البصري ، ثقة مشهور ، مات سنة ست ومائتين . وعوف هو ابن أبي جميلة ـ بفتح الجيم ـ العبدي البصري ، المعروف بعوف الأعرابي ، ثقة مات سنة ست أو سبع وأربعين ، وله ست وثمانون سنة . وحيان بن العلاء هو بالتحتية ، ويقال حيان بن مخارق ، أبو العلاء البصري ، مقبول . وقطن ، بفتحتين أبو سهل البصري صدوق . قوله : عن أبيه هو قبيصة ـ بفتح أوله ـ ابن مخارق ـ بضم الميم ـ أبو عبد الله الهلالي . صحابي ، نزل البصرة . قوله : إن العيافة والطرق والطيرة من الجبت قال عوف : العيافة زجر الطير والتفاؤل بأسمائها وأصواتها وممرها ، وهو من عادات العرب ، وكثير من أشعارهم ، يقال : عاف يعيف عيفًا ، إذا زجر وحدس وظن . قوله : والطرق الخط يخط الأرض كذا فسره عوف ، وهو كذلك . وقال أبو السعادات : هو الضرب بالحصى الذي يفعله النساء . وأما الطيرة فيأتي الكلام عليها في بابها إن شاء الله تعالى . قوله : من الجبت أي السحر . قال القاضي : والجبت في الأصل الفضل الذي لا خير فيه ، ثم استعير لما يعبد من دون الله ، وللساحر والسحر . قوله : قال الحسن : رنة الشيطان قلت : ذكر إبراهيم بن محمد بن مفلح أن في تفسير بقي بن مخلد أن إبليس رن أربع رنات : رنة حين لعن ، ورنة حين أهبط ، ورنة حين ولد رسول الله ، ورنة حين نزلت فاتحة الكتاب . قال سعيد بن جيير : لما لعن الله تعالى إبليس تغيرت صورته عن صورة الملائكة ، ورن رنة ، فكل رنة منها في الدنيا إلى يوم القيامة . رواه ابن أبي حاتم . وعن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال : لما فتح رسول الله مكة رن إبليس رنة اجتمعت إليه جنوده . رواه الحافظ الضياء في المختارة  : الرنين الصوت . وقد رن يرن رنينًا ، وبهذا يظهر معنى قول الحسن رحمه الله تعالى . قوله : ولأبي داود وابن حبان في صحيحه : المسند منه ولم يذكر التفسير الذي فسره به عوف . وقد رواه أبو داود بالتفسير المذكور بدون كلام الحسن .

من اقتبس شعبة من النجوم قوله : وعن أبي عباس رضي الله عنهما قال : قال رسول الله  : " من اقتبس شعبة من النجوم فقد اقتبس شعبة من السحر ، زاد ما زاد " رواه أبو داود بإسناد صحيح وكذا صححه النووي والذهبي ورواه أحمد وابن ماجه . قوله : من اقتبس قال أبو السعادات : قبست العلم واقتبسته إذا علمته ا هـ . قوله : شعبة أي طائفة من النجوم علم . والشعبة الطائفة . ومنه الحديث " الحياة شعبة من الإيمان " أي جزء منه . قوله : فقد اقتبس شعبة من السحر المحرم تعلمه . قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى : فقد صرح رسول الله بأن علم النجوم من السحر ، وقال تعالى : ' 20 : 69 ' " ولا يفلح الساحر حيث أتى " . قوله : زاد ما زاد من تعلم علم النجوم زاد في الإثم الحاصل بزيادة الاقتباس من شعبه ، فإن ما يعتقده في النجوم من التأثير باطل ، كما أن تأثير السحر باطل .

من سحر فقد أشرك قوله : وللنسائي من حديث أبي هريرة رضي الله عنه : " من عقد عقدة ثم نفث فيها فقد سحر . ومن سحر فقد أشرك . ومن تعلق شيئًا وكل إليه " هذا حديث ذكره المصنف من حديث أبي هريرة وعزاه للنسائي . وقد رواه النسائي مرفوعًا وحسنه ابن مفلح . قوله : وللنسائي هو الإمام الحافظ أحمد بن شعيب بن علي بن سنان بن بحر بن دينار أبو عبد الرحمن صاحب السنن وغيرها . وروى عن محمد بن المثنى وابن بشار وقتيبة وخلق ، وكان إليه المنتهي في العلم بعلل الحديث ، مات سنة ثلاث وثلثمائة ، وله ثمان وثمانون سنة رحمه الله تعالى . قوله : من عقد عقدة ثم نفث فيها فقد سحر اعلم أن السحرة إذا أرادوا عمل السحر عقدوا الخيوط ونفثوا على كل عقدة ، حتى ينعقد ما يريدون من السحر ، قال الله تعالى : " ومن شر النفاثات في العقد " يعني السواحر اللاتي يفعلن ذلك ، والنفث هو النفخ مع الريق ، وهو دون التفل . والنفث فعل الساحر ، فإذا تكيفت نفسه بالخبث والشر الذي يريده المسحور ويستعين عليه بالأرواح الخبيثة نفخ في تلك العقيدة نفخًا معه ريق . فيخرج من نفسه الخبيثة نفس ممازج للشر والأذى مقارن للريق الممارج لذلك ، وقد يتساعد هو والروح الشيطانية على أذى المسحور فيصيبه بإذن الله الكونى القدرى لا الشرعي ، قاله ابن القيم رحمه الله تعالى . قوله : ومن سحر فقد أشرك نص في أن الساحر مشرك ، إذا لا يتأتى السحر بدون الشرك كما حكاه الحافظ عن بعضهم . قوله : ومن تعلق شيئًا وكل إليه أي من تعلق قلبه شيئًا : بحيث يعتمد عليه ويرجوه وكله الله إلى ذلك الشئ . فمن تعلق على ربه وإلهه وسيده ومولاه رب كل شئ ومليكه ، كفاه ووقاه وحفظه وتولاه . فنعم المولى ونعم النصير . قال تعالى: ' 39 : 36 ' " أليس الله بكاف عبده " ومن تعلق على السحرة والشياطين وغيرهم من المخلوقين وكله الله إلى من تعلق فهلك . ومن تأمل ذلك في أحوال الخلق ونظر بعين البصيرة رآى ذلك عيانًا ، وهذا من جوامع الكلم . والله أعلم . قال : وعن ابن مسعود رضي الله عنه أن رسول الله قال : " ألا هل أنبئكم ما العضه ؟ هي النميمة ، القالة بين الناس " رواه مسلم . قوله : ألا هل أنبئكم أخبركم و العضه بفتح المهملة وسكون المعجمة ، قال أبو السعادات : هكذا يروي في كتب الحديث . والذي في كتب الغريب ألا أنبئكم ما العضه بكسر العين وفتح الضاد . قال الزمخشري : أصلها العضهة فعلة من العضة وهو البهت . فحذفت لامه ، كما حذفت من السنة والشفة ، وتجمع على عضين ثمن فسره بقوله : هي النميمة القالة بين فأطلق عليها العضه لأنها لا تنفك من الكذب والبهتان غالبًا . ذكره القرطبي . وذكر ابن عبد البر عن يحيى بن أبي كثير قال : يفسد النمام والكذاب في ساعة ما لا يفسد الساحر في سنة . وقال أبو الخطاب في عيون المسائل : ومن السحر السعي بالنميمة والإفساد بين الناس . قال في الفروع : ووجهه أن يقصد الأذى بكلامه وعمله على وجه المكر والحيلة ، أشبه السحر ، وهذا يعرف بالعرف والعادة أنه يؤثر وينتج ما يعمله السحر ، أو أكثر فيعطى حكمه تسوية بين المتماثلين أو المتقاربين . لكن يقال : الساحر إنما يكفر لوصف السحر وهو أمر خاص ودليله خاص ، وهذا ليس بساحر . وإنما يؤثر عمله ما يؤثره فيعطي حكمه إلا فيما اختص به من الكفر وعدم قبول التوبة . انتهى ملخصًا . وبه يظهر مطابقة الحديث للترجمة . وهو يدل على تحريم النميمة ، وهو مجمع عليه قال ابن حزم رحمه الله : اتفقوا على تحريم الغيبة والنميمة في غير النصيحة الواجبة . وفيه دليل على أنها من الكبائر . قوله :القالة بين الناس قال أبو السعادات : أي كثرة القول وإيقاع الخصومة بين الناس ومنه الحديث : "فشت القالة بين الناس".

إن من البيان لسحرًا قال : ولهما عن ابن عمر أن رسول الله قال : " إن من البيان لسحر " البيان البلاغة والفصاحة . قال صعصعة بن صوحان : صدق نبي الله ، فإن الرجل يكون عليه الحق وهو ألحن بالحجج من صاحب الحق ، فيسحر القوم ببيانه فيذهب بالحق وقال ابن عبد البر تأوله طائفة على الذم . لأن السحر مذموم ، وذهب أكثر أهل العلم وجماعة أهل الأدب إلى أنه على المدح . لأن الله تعالى مدح البيان . قال : وقد قال عمر بن عبد العزيز لرجل سأله عن حاجة فأحسن المسألة فأعجبه قوله . قال : هذا ولله السحر الحلال انتهى . والأول أصح والمراد به البيان الذي فيه تمويه على السامع وتلبيس ، كما قال بعضهم : في زخرف القول تزيين لباطله والحق قد يعتريه سوء تعبير مأخوذ من قول الشاعر : تقول : هذا مجاج النحل ، تمدحه وإن تشأ قلت : ذا قيء الزنابير مدحًا وذمًا ، وما جاوزت وصفهما والحق قد يعتريه سوء تعبير قوله : إن من البيان لسحرًا هذا من التشبيه البليغ ، لكون ذلك يعمل عمل السحر ، فيجعل الحق في قالب الباطل ، والباطل في قالب الحق . فيستميل به قلوب الجهال ، حتى يقبلوا الباطل وينكروا الحق ، ونسأل الله الثبات والاستقامة على الهدى . وأما البيان الذي يوضح الحق ويقرره ، ويبطل الباطل ويبينه . فهذا هو الممدوح . وهكذا حال الرسل وأتباعهم ، ولهذا علت مراتبهم في الفضائل وعظمت حسناتهم . وبالجملة فالبيان لا يحمد إلا إذا لم يخرج إلى حد الإسهاب والإطناب ، وتغطية الحق ، وتحسين الباطل . فإذا خرج إلى هذا فهو مذموم . وعلى هذا تدل الأحاديث كحديث الباب وحديث " إن الله يبغض البليغ من الرجال الذي يتخلل بلسانه كما تتخلل البقرة بلسانها " رواه أحمد وأبو داود .

باب ما جاء في الكهانة قوله : ( باب ما جاء في الكهان ونحوهم )

الكاهن  هو الذي يأخذ عن مسترق السمع ، وكانوا قبل المبعث كثيرًا . وأما بعد المبعث فإنهم قليل . لأن الله تعالى حرس السماء بالشهب . وأكثر ما يقع في هذه الأمة ما يخبر به الجن أولياءهم من الإنس عن الأشياء الغائبة بما يقع في الأرض من الأخبار ، فيظنه الجاهل كشفًا وكرامة ، وقد اغتر بذلك كثير من الناس يظنون المخبر لهم بذلك عن الجن وليًا لله . وهو من أولياء الشيطان ، كما قال تعالى : ' 6 : 128 ' " ويوم يحشرهم جميعًا يا معشر الجن قد استكثرتم من الإنس وقال أولياؤهم من الإنس ربنا استمتع بعضنا ببعض وبلغنا أجلنا الذي أجلت لنا قال النار مثواكم خالدين فيها إلا ما شاء الله إن ربك حكيم عليم " .

من أتى عرافًا فصدقه لا تقبل له صلاة قوله : روى مسلم في صحيحه عن بعض أزواج النبي عن النبي قال : " من أتى عرافًا فسأله عن شئ ، فصدقه بما يقول ، لم تقبل له صلاة أربعين يومًا " . قوله : عن بعض أزواج النبي هي حفصة ، ذكره أبو مسعود الثقفي . لأنه ذكر هذا الحديث في الأطراف في مسندها . قوله : من أتى عرافًا سيأتي بيان العراف إن شاء الله تعالى . وظاهر هذا الحديث أن الوعيد مرتب على مجيئه وسؤاله ، سواء صدقه أو شك في خبره . فإن في بعض روايات الصحيح "من أتى عرافًا فسأله عن شئ لم تقبل له صلاة أربعين ليلة " . قوله : لم تقبل له صلاة إذا كانت هذه حال السائل ، فكيف بالمسئول ؟ قال النووي وغيره : معناه أنه لا ثواب له فيها ، وإن كانت مجزئة بسقوط الفرض عنه ، ولا بد من هذا التأويل في هذا الحديث ، فإن العلماء متفقون على أنه لا يلزم من أتى العراف إعادة صلاة أربعين ليلة . ا هـ ملخصًا . وفي الحديث النهي عن إتيان الكاهن ونحوه . قال القرطبي : يجب على من قدر على ذلك من محتسب وغيره أن يقيم من يتعاطى شيئًا من ذلك من الأسواق وينكر عليهم أشد النكير ، وعلى من يجيء إليهم ، ولا يغتر بصدقهم في بعض الأمور ولا بكثرة من يجيء إليهم من ينتسب إلى العلم ، فإنهم غير راسخين في العلم بل من الجهال بما في إتيانهم من المحذور .

من أتى كاهنًا فصدقه فقد كفر بما أنزل على محمد قال : عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي قال : " من أتى كاهنًا فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد " رواه أبو داود . وفي رواية أبي داود أو أتى امرأة ـ قال مسدد : امرأته حائضًا ـ أو أتى امرأة . قال مسدد : امرأته في دبرها ـ فقد بريء مما أنزل على محمد فناقل هذا الحديث من السنن حذف منه هذه الجملة واقتصر على ما يناسب الترجمة . قال : وللأربعة والحاكم ـ وقال صحيح على شرطهما عن النبي من أتى عرافًا أو كاهنًا فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد . هكذا بيض المصنف لاسم الراوي . وقد رواه أحمد والبيهقي والحاكم عن أبي هريرة مرفوعًا . قوله : من أتى كاهنًا قال بعضهم لا تعارض بين هذا وبين حديث من أتى عرافًا فسأله عن شئ لم تقبل له صلاة أربعين ليلة هذا على قول من يقول هو كفر دون كفر ، أما على قول من يقول بظاهر الحديث فيسأل عن وجه الجمع بين الحديثين . وظاهر الحديث أن يكفر متى اعتقد صدقه بأي وجه كان . وكان غالب الكهان قبل النبوة إنما كانوا يأخذون عن الشياطين . قوله :فقد كفر بما أنزل على محمد قال القرطبي : المراد بالمنزل الكتاب والسنة . ا هـ . وهل الكفر في هذا الموضع كفر دون كفر ، فلا ينقل عن الملة ، أم يتوقف فيه ، فلا يقال يخرج عن الملة ولا يخرج ؟ وهذا أشهر الروايتين عن أحمد رحمه الله تعالى . قال : ولأبي يعلى بسند جيد عن ابن مسعود مثله مرفوعًا . أبو يعلى اسمه أحمد بن علي بن المثنى الموصلى الإمام صاحب التصانيف كالمسند وغيره . روى عن يحيى بن معين وأبى بكر بن أبي شيبة وخلق . وكان من الأئمة الحفاظ ، مات سنة سبع وثلاثمائة ، وهذا الأثر رواه البزار أيضًا ولفظه : من أتى كاهنًا أو ساحرًا فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد وفيه دليل على كفر الكاهن والساحر لأنهما يدعيان علم الغيب وذلك كفر ، والمصدق لهما يعتقد ذلك ويرضى به وذلك كفر أيضًا .

التحذير من الطيرة . والكهانة والسحر قال :وعن عمران بن حصين رضي الله عنه مرفوعًا " ليس منا من تطير أو تطير له ، أو تكهن أو تكهن له ، أو سحر أو سحر له. ومن أتى كاهنًا فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد " رواه البزار بإسناد جيد ، ورواه الطبراني في الأوسط بإسناد حسن من حديث ابن عباس دون قوله : ومن أتى كاهنًا .... الحديث . قوله : ليس منا فيه وعيد شديد يدل على أن هذه الأمور من الكبائر وتقدم أن الكهانة والسحر كفر . قوله : من تطير أي فعل الطيرة أو تطير له أي قبل قول المتطير له وتابعه كذا معنى أو تكهن أو تكهن له كالذي يأتي الكاهن ويصدقه ويتابعه ، وكذلك من عمل الساحر له السحر . فكل من تلقى هذه الأمور عمن تعاطاها فقد بريء منه رسول الله لكونها إما شركًا ، كالطيرة ، أو كفرًا كالكهانة والسحر ، فمن رضي بذلك وتابع عليه فهو كالفاعل لقبوله الباطل واتباعه . قوله : رواه البزار هو أحمد بن عمر بن عبد الخالق ، أبو بكر البزار البصري صاحب المسند الكبير . وروى عن ابن بشار وابن المثنى وخلق ، مات سنة اثنتين وتسعين ومائتين . قوله : قال البغوي إلى آخره البغوي ـ بفتحتين ـ هو الحسين بن مسعود الفراء الشافعي ، صاحب التصانيف وعالم أهل خراسان ، كان ثقة ، فقيهًا زاهدًا ، مات في شوال سنة ست عشرة وخمسمائة رحمه الله تعالى .

من هو الكاهن والعراف قوله : العراف : الذي يدعى معرفة الأمور ظاهرة : أن العراف هو الذي يخبر عن الوقائع كالسرقة وسارقها والضالة ومكانها . وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى : إن العراف اسم للكاهن والمنجم والرمال ونحوهم ، كالحارز الذي يدعى علم الغيب أو يدعى الكشف . وقال أيضًا : والمنجم يدخل في اسم العراف ، وعند بعضهم هو معناه . وقال أيضًا : والمنجم يدخل في اسم الكاهن عند الخطابي وغيره من العلماء ، وحكى ذلك عن العرب . وعند آخرين هو من جنس الكاهن ، وأسوء حالًا منه ، فيلحق به من جهة المعنى . وقال الإمام أحمد : العرافة طرف من السحر . والساحر أخبث . وقال أبو السعادات : العراف المنجم ، والحارز الذي يدعى علم الغيب ، وقد استأثر الله تعالى به . وقال ابن القيم رحمه الله تعالى : من اشتهر بإحسان الزجر عندهم سموه عائفًا ، وعرافًا . والمقصود من هذا : معرفة أن من يدعى معرفة علم الشئ من المغيبات فهو إما داخل في اسم الكاهن ، وإما مشارك له في المعنى فيلحق به . وذلك أن إصابة المخبر ببعض الأمور الغائبة في بعض الأحيان يكون بالكشف . ومنه ما هو من الشياطين ويكون بالفأل والزجر والطيرة والضرب بالحصى والخط في الأرض والتنجيم والكهانة والسحر ، ونحو هذا من علوم الجاهلية ، ونعنى بالجاهلية كل من ليس من أتباع الرسل عليهم السلام ، كالفلاسفة والكهان والمنجمين ، وجاهلية العرب الذين كانوا قبل مبعث النبي ، فإن هذا علوم لقوم ليس لهم علم بما جاءت به الرسل صلى الله عليهم وسلم ، وكل هذه الأمور تسمى صاحبها كاهنًا أو عرافًا أو في معناهما ، فمن أتاهم فصدقهم بما يقولون لحقه الوعيد . وقد ورث هذه العلوم عنهم أقوام فادعوا بها علم الغيب الذي استأثر الله بعلمه ، وادعوا أنهم أولياء وأن ذلك كرامة . ولا ريب أن من ادعى الولاية ، واستدل بإخباره ببعض المغيبات فهو من أولياء الشيطان لا من أولياء الرحمن ، إن الكرامة أمر يجريه الله على يد عبده المؤمن التقى ، إما بدعاء أو أعمال صالحة لا صنع للولي فيها ، ولا قدرة له عليها ، بخلاف من يدعى أنه ولي ويقول للناس : اعلموا أني أعلم المغيبات ، فإن هذه الأمور قد تحصل بما ذكرنا من الأسباب ، وإن كانت أسبابًا محرمة كاذبة في الغالب ، ولهذا قال النبي في وصف الكهان : فيكذبون معها مائة كذبة فبين أنهم يصدقون مرة ويكذبون مائة ، وهكذا حال من سلك سبيل الكهان ممن يدعى الولاية تزكية النفس المنهي عنها بقوله : ' 53 : 32 ' " فلا تزكوا أنفسكم " وليس هذا من شأن الأولياء ، فإن شأنهم الإزراء على نفوسهم وعيبهم لها ، وخوفهم من ربهم ، فكيف يأتون الناس ويقولون : اعرفوا أننا أولياء ، وأنا نعلم الغيب ؟ وفي ضمن ذلك طلب المنزلة في قلوب الخلق واقتناص الدنيا بهذه الأمور. وحسبك بحال الصحابة والتابعين رضي الله عنهم ، وهم سادات الأولياء ، أفكان عندهم من هذه الدعاوى والشطحات شئ ؟ لا والله بل كان أحدهم لا يملك نفسه من البكاء إذا قرآ القرآن ، كالصديق رضي الله عنه ، وكان عمر رضي اله عنه يسمع نشيجه من وراء الصفوف يبكي في صلاته ، وكان يمر بالآية في ورده من الليل فيمرض منها ليالي يعودونه ، وكان تميم الداري يتقلب على فراشه ولا يستطيع النوم إلا قليلًا خوفًا من النار ثم يقوم إلى صلاته . ويكفيك في صفات الأولياء ما ذكره الله تعالى في صفاتهم في سورة الرعد والمؤمنين والفرقان والذاريات والطور فالمتصفون بتلك الصفات هم الأولياء الأصفياء ، لا أهل الدعوى والكذب ومنازعة رب العالمين فيما اختص به من الكبرياء والعظمة وعلم الغيب ، بل مجرد دعواه علم الغيب كفر . فكيف يكون المدعى لذلك وليًا لله ؟ ولقد عظم الضرر واشتد الخطب بهؤلاء المفترين الذين ورثوا هذه العلوم عن المشركين ، ولبسوا بها على خفافيش القلوب : نسأل الله السلامة والعافية في الدنيا والآخرة . قوله :وقال ابن عباس في قوم يكتبون أبا جاد إلى آخره هذا الأثر رواه الطبراني عن ابن عباس مرفوعًا . وإسناده ضعيف . ولفظه " رب معلم حروف أبي جاد دارس في النجوم ليس له عند الله خلاق يوم القيامة " ورواه حمد بن زنجويه عنه بلفظ رب ناظر في النجوم ومتعلم حروف أبي جاد ليس له عند الله خلاق . قوله : ما أرى بجوز فتح الهمزة بمعنى : لا أعلم . ويجوز ضمها بمعنى : لا أظن وكتابه أبي جاد وتعلمها لمن يدعى بها علم الغيب هو الذي يسمى علم الحرف ، وهو الذي جاء في الوعيد ، فأما تعلمها للتهجي وحساب الحمل فلا بأس به . قوله : وينظرون في النجوم أي يعتقدون أن لها تأثيرًا كما سيأتي في باب التنجيم . وفيه من الفوائد عدم الاغترار بما يؤتاه أهل الباطل من معارفهم وعلومهم كما قال تعالى : ' 40 : 83 ' " فلما جاءتهم رسلهم بالبينات فرحوا بما عندهم من العلم وحاق بهم ما كانوا به يستهزئون " .

باب ما جاء في النشرة ، وما هي النشرة قوله : ( باب : ما جاء في النشرة ) بضم النون ، كما في القاموس ، قال أبو السعادات : النشرة ضرب من العلاج والرقية ، يعالج به من يظن أن به مسًا من الجن ، سميت نشرة لأنه ينشر بها عنه ما خامره من الداء ، أي يكشف ويزال . قال الحسن : النشرة من السحر . وقد نشرت عنه تنشيرًا ، ومنه الحديث : فلعل طبًا أصابه ، ثم نشره بقل أعوذ برب الناس أي رقاه . وقال ابن الجوزي : النشرة حل السحر عن المسحور . ولا يكاد يقدر عليه إلا من يعرف السحر . قال : عن جابر رضي الله عنهما أن رسول الله سئل عن النشرة ؟ فقال : " هي من الشيطان " رواه أحمد بسند جيد . وأبو داود وقال : سئل أحمد عنها فقال : ابن مسعود يكره هذا كله . هذا الحديث رواه أحمد ورواه عنه أبو داود في سننه . والفضل بن زياد في كتاب المسائل عن عبد الرزاق عن عقيل بن معقل بن منبه عن جابر فذكره قال ابن مفلح : إسناد جيد ، وحسن الحافظ إسناده . قوله : سئل عن النشرة والألف واللام فيالنشرة للعهد أي النشرة المعهودة التي كان أهل الجاهلية يصنعونها هي من عمل الشيطان . قوله : وقال : سئل أحمد عنها فقال : ابن مسعود يكره هذا كله أراد أحمد رحمه الله أن ابن مسعود يكره النشرة التي هي من عمل الشيطان كما يكره تعليق التمائم مطلقًا . قوله : وللبخاري عن قتادة : قلت لابن المسيب رجل به طب أو يؤخذ عن امرأته أيحل عنه ، أو ينشر ؟ قال : لا بأس به : إنما يريدون به الإصلاح فأما ما ينفع فلم ينه عنه . قوله : عن قتادة هو ابن دعامة ـ بكسر الدال ـ الدوسي ثقة فقيه من أحفظ التابعين . قالوا إنه ولد أكمه . مات سنة بضع عشرة ومائة . قوله : رجل به طب بكسر الطاء . أي سحر ، يقال : طب الرجل ـ بالضم ـ ذا سحر . ويقال : كنوا عن السحر بالطب تفاؤلًا . كما يقال للديغ : سليم . وقال ابن الأنباري : الطب من الأضداد . يقال لعلاج الداء طب ، والسحر من الداء يقال له طب . قوله : يؤخذ بفتح الواو مهموزة وتشديد الخاء المعجمة وبعدها ذال معجمة . أي يحبس عن امرأته ولا يصل إلى جماعها . والأخذة ـ بضم الهمزة ـ الكلام الذي يقوله الساحر . قوله : أيحل بضم الياء وفتح الحاء مبنى للمفعول . قوله : أو ينشر بتشديد المعجمة . قوله : لا بأس به يعني أن النشرة لا بأس بها لأنهم يريدون بها الإصلاح ، أي إزالة السحر ، ولم ينه عما يراد به الإصلاح ، وهذا من ابن المسيب يحمل على نوع من النشرة لا يعلم أنه سحر . قوله : وروى الحسن أنه قال : لا يحل السحر إلا ساحر هذا الأثر ذكره ابن الجوزي في جامع المسانيد . والحسن هو ابن أبي الحسن واسمه : يسار ـ بالتحتية والمهملة ـ البصرى الأنصاري : مولاهم . ثقة فقيه ، إمام من خيار التابعين . مات سنة عشرة ومائة رحمه الله ، وقد قارب التسعين . قوله * : قال ابن القيم : النشرة حل السحر عن المسحور ، وهي نوعان ، حل بسحر مثله ، وهو الذي من عمل الشيطان ـ إلى آخره * ومما جاء في صفة النشرة الجائزة : ما رواه ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن ليث بن أبي سليم قال : بلغني أن هؤلاء الآيات شفاء من السحر بإذن الله ، تقرأ في إناء فيه ماء ، ثم يصب على رأس المسحور : الآية التي في سورة يونس : ' 10 : 81 ، 82 ' " فلما ألقوا قال موسى ما جئتم به السحر إن الله سيبطله إن الله لا يصلح عمل المفسدين * ويحق الله الحق بكلماته ولو كره المجرمون " وقوله : ' 7 : 118 ـ 120 ' " فوقع الحق وبطل ما كانوا يعملون " إلى آخر الآيات الأربع . وقوله : ' 20 : 69 ' " إنما صنعوا كيد ساحر ولا يفلح الساحر حيث أتى " . وقال ابن بطال : في كتاب وهب بن منبه : أنه يأخذ سبع ورقات من سدر أخضر فيدقه بين حجرين ثم يضربه بالماء ويقرأ فيه آية الكرسي والقواقل ثم يحسو منه ثلاث حسوات ثم يغتسل به يذهب عنه كل مابه ، هو جيد للرجل إذا حبس عن أهله . قلت : قول العلامة ابن القيم والثاني النشرة بالرقية والتعوذات والدعوات والأدوية المباحة فهو جائز يشير رحمه الله إلى مثل هذا ، وعليه يحمل كلام من أجاز النشرة من العلماء . والحاصل : أن ما كان منه بالسحر فيحرم ، وما كان بالقرآن والدعوات والأدوية المباحة فجائز : والله أعلم .

ما هي النشرة

باب ما جاء في التطير قوله : ( باب : ما جاء في التطير ) أي من النهي عنه والوعيد فيه ، مصدر تطير يتطير ، و الطيرة بكسر الطاء وفتح الياء ، وقد تسكن اسم مصدر من تطير طيرة ، كما يقال تخير خيرة ، ولم يجيء في المصادر على هذه الزنة غيرهما ، وأصله التطير بالسوانح والبوارح من الطير والظباء وغيرهما ، وكان ذلك يصدهم عن مقاصدهم ، فنفاه الشارع وأبطله ، وأخبر أنه لا تأثير له في جلب نفع ولا دفع ضر . قال المدائني سألت رؤبه بن العجاج قلت : ما السانح ؟ قال : ما ولاك ميامنه . قلت : فما البارح ؟ قال : ما ولاك مياسره . والذي يجيء من أمامك فهو الناطح والنطيح ، والذي يجيء من خلفك فهو القاعد والقعيد . ولما كانت الطيرة من الشرك المنافي لكمال التوحيد الواجب لكونها من إلقاء الشيطان وتخويفه ووسوسته ذكرها المصنف رحمه الله في كتاب التوحيد تحذيرًا مما ينافي كما التوحيد الواجب . قوله : وقول الله تعالى : ' 7 : 131 ' " ألا إنما طائرهم عند الله " ... الآية ذكر تعالى هذه الآية في سياق قوله : " فإذا جاءتهم الحسنة قالوا لنا هذه وإن تصبهم سيئة يطيروا بموسى ومن معه " الآية . المعنى : أن آل فرعون كانوا إذا أصابتهم الحسنة ، أي الخصب والسعة والعافية ، كما فسره مجاهد وغيره ـ قالوا : لنا هذه ، أي نحن الجديرون والحقيقيون به ، ونحن أهله . وإن تصبهم سيئة . أي بلاء وقحط تطيروا بموسى ومن معه ، فيقولون : هذا بسبب موسى وأصحابه أصابنا بشؤمهم فقال الله تعالى : " ألا إنما طائرهم عند الله " قال ابن عباس طائرهم : ماقضى عليهم وقدر لهم وفي رواية شؤمهم عند الله ومن قبله أي إنما جاءهم الشؤم من قبله بكفرهم وتكذيبهم بآياته ورسله . قوله : " ولكن أكثرهم لا يعلمون " أي أن أكثرهم جهال لا يدرون . ولو فهموا وعقلوا لعلموا أنه ليس فيما جاء به موسى عليه السلام إلى الخير والبركة والسعادة والفلاح لمن آمن به واتبعه . قوله : وقوله تعالى : ' 36 : 19 ' " قالوا طائركم معكم " الآية المعنى ـ والله أعلم ـ حظكم وما نابكم من شر معكم ، بسبب أفعالكم وكفركم ومخالفتكم الناصحين ، ليس هو من أجلنا ولا بسببنا . بل ببغيكم وعدوانكم . فطائر الباغي الظالم معه ، فما وقع به من الشر فهو سببه الجالب له . وذلك بقضاء الله وقدره وحكمته وعدله ، كما قال تعالى : 7 68 : 35 ، 36 ' " أفنجعل المسلمين كالمجرمين * ما لكم كيف تحكمون " ويحتمل أن يكون المعنى : طائركم معكم . أي راجع عليكم ، فالتطير الذي حصل لكم إنما يعود عليكم . وهذا من باب القصاص في الكلام . ونظيره قوله عليه الصلاة والسلام : " إذا سلم عليكم أهل الكتاب فقولوا : وعليكم " ذكره ابن القيم رحمه الله . قوله تعالى : " أإن ذكرتم " أي من أجل أنا ذكرناكم وأمرناكم بتوحيد الله قابلتمونا بهذا الكلام " بل أنتم قوم مسرفون " قال قتادة : أئن ذكرناكم بالله تطيرتم بنا ؟ ومناسبة الآيتين للترجمة : أن التطير من عمل أهل الجاهلية والمشركين . وقد ذمهم الله تعالى به ومقتهم ، وقد نهى رسول الله عن التطير وأخبر أنه شرك . كما سيأتي في أحاديث الباب .

حديث : لا عدوى ولا طيرة إلخ قال * : وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله قال : " لا عدوى ولا طيرة ولا هامة ولا صفر " أخرجاه . زاد مسلم : " ولا نوء ولا غول " . قال أبو السعادات : العدوى اسم من الإعداء . كالدعوى . يقال : أعداء الداء يعديه إعداد إذا أصابه مثل ما بصاحب الداء . وقال غير : لا عدوى هو اسم من الإعداد ، وهو مجاوزة العلة من صاحبها إلى غيره والمنفي نفس سراية العلة أو إضافتها إلى العلة . والأول هو الظاهر . وفي رواية لمسلم أن أبا هريرة كان يحدث بحديث لا عدوى ، ويحدث عن النبي أنه قال : " لا يورد ممرض على مصح " ثم إن أبا هريرة اقتصر على حديث : لا يورد ممرض على مصح وأمسك عن حديث لا عدوى فراجعوه وقالوا : سمعناك تحدث به ، فأبى أن يعترف به . قال أبو مسلمة ـ الراوي عن أبي هريرة : فلا أدري أنسى أبو هريرة أو نسخ أحد القولين الآخر ؟ وقد روى حديث لا عدوى جماعة من الصحابة : أنس بن مالك ، وجابر بن عبد الله ، والسائب بن يزيد ، وابن عمر ، وغيرهم ، وفي بعض روايات هذا الحديث وفر من المجذوم كما تفر من الأسد . وقد اختلف العلماء في ذلك . وأحسن ما قيل فيه : قول البيهقي ، وتبعه ابن الصلاح وابن القيم ، وابن رجب ، وابن مفلح وغيرهم : أن قوله : لا عدوىعلى الوجه الذي يعتقده أهل الجاهلية من إضافة الفعل إلى غير الله تعالى ، وإن هذه الأمور تعدى بطبعها . وإلا فقد يجعل الله بمشيئته مخالطة الصحيح من به شئ من الأمراض سببًا لحدوث ذلك ، ولهذا قال : فر من المجذوم كما تفر من الأسد وقال : لا يورد ممرض على مصح وقال في الطاعون : من سمع به في أرض فلا يقدم عليه وكل ذلك بتقدير الله تعالى . ولأحمد والترمذي عن ابن مسعود مرفوعًا : " لا يعدي شئ قالها ثلاثًا فقال أعرابي يا رسول الله إن النقبة من الجرب تكون بمشفر البعير أو بذنبه في الإبل العظيمة فتجرب كلها ؟ فقال رسول الله  : فمن أجرب الأول ؟ لا عدوى ولا طيرة ولا هامة ولا صفر ، خلق الله كل نفس وكتب حياتها ومصائبها ورزقها " فأخبر أن ذلك كله قضاء الله وقدره ، والعبد مأمور باتقاء أسباب الشر إذا كان في عافية . فكما أنه يؤمر أن لا يلقى نفسه في الماء والنار ، مما جرت العادة أن يهلك أو يضر . فكذلك اجتنب مقاربة المريض كالمجذوم ، والقدوم على بلد الطاعون . فإن هذه كلها أسباب للمرض والتلف ، فالله سبحانه هو خالق الأسباب ومسبباتها . لا خالق غيره ولا مقدر غيره . وأما إذا قوى التوكل على الله والإيمان بقضاء الله وقدره فقويت النفس على مباشرة بعض هذه الأسباب اعتمادًا على الله ورجاء منه أن لا يحصل به ضرر ، ففي هذه الحال تجوز مباشرة ذلك ، لاسيما إذا كانت مصلحة عامة أو خاصة ، وعلى هذا يحمل الحديث الذي رواه أبو داود والترمذي : " أن النبي أخذ بيد مجذوم فأدخلها معه في القصعة ، ثم قال كل بسم الله ثقة بالله وتوكلًا عليه " وقد أخذ به الإمام أحمد . وروى ذلك عن ابن عمر وابنه وسلمان رضي الله عنهم . ونظير ذلك ما روى عن خالد بن الوليد رضي الله عنه أنه أكل السم ومنه مشى سعد بن أبي وقاص وأبي مسلم الخولاني على متن البحر ، قاله ابن رجب رحمه الله . قوله : ولا طيرة قال ابن القيم رحمه الله تعالى : يحتمل أن يكون نفيًا أو نهيًا أي لا تطيروا ، ولكن قوله في الحديث : لا عدوي ولا صفر ولا هامة يدل على أن المراد النفي وإبطال هذه الأمور التي كانت الجاهلية تعانيها . والنفي في هذا أبلغ من النهي . لأن النفي يدل على بطلان ذلك وعدم تأثيره ، والنهي إنما يدل على المنع منه . وفي صحيح مسلم عن معاوية بن الحكم أنه قال لرسول الله " ومنا أناس يتطيرون . قال : ذلك شئ يجده أحدكم في نفسه فلا يصدنكم " فأخبر أن تأذيه وتشاؤمه بالطيرة إنما هو في نفسه وعقدته ، لا في المتطير به ، فوهمه وخوفه وإشراكه هو الذي يطيره ويصده لما رآه وسمعه ، فأوضح لأمته الأمر ، وبين لهم فساد الطيرة ليعلموا أن الله سبحانه لم يجعل لهم عليه علامة ، ولا فيها دلالة ، ولا نصبها سببًا لما يخافونه ويحذرونه ، ولتطمئن قلوبهم ، وتسكن نفوسهم إلى وحدانيته تعالى التي أرسل بها رسله ، وأنزل بها كتبه ، وخلق لأجلها السماوات والأرض ، وعمر الدارين الجنة والنار بسبب التوحيد فقطع علق الشرك في قلوبهم ، لئلا يبقى فيها علقة منها ، ولا يتلبسوا بعمل من أعمال أهل النار البتة . فمن استمسك بعروة التوحيد الوثقى ، واعتصم بحبله المتين ، وتوكل على الله ، قطع هاجس الطيرة من قبل استقرارها ، وبادر خواطرها من قبل استكمانها . قال عكرمة : كنا جلوسًا عند ابن عباس ، فمر طائر يصيح ، فقال رجل من القوم : خير خير . فقال له ابن عباس : لاخير ولا شر .فبادره بلإنكار عليه لئلا يعتقد تأثيره في الخير والشر . وخرج طاوس مع صاحب له في سفر ، فصاح غراب ، فقال الرجل : خير . فقال طاوس : وأي خير عند هذا ؟ لا تصحبي . ا هـ ملخصًا . وقد جاءت أحاديث ظن بعض الناس أنها تدل على جواز الطيرة ، كقوله : الشؤم في ثلاث : في المرأة ، والدابة ، والدار ونحو هذا . قال ابن القيم رحمه الله تعالى : إخباره بالشؤم في هذه الثلاثة ليس فيه إثبات الطيرة التي نفاها الله سبحانه ، وإنما غايته أن الله سبحانه قد يخلق منها أعيانًا مشؤومة على من قاربها وساكنها ، وأعيانًا مباركة لا يلحق من قاربها شؤم ولا شر ، وهذا كما يعطي سبحانه الوالدين ولدًا مباركًا يريان الخير على وجهه ، ويعطى غيرهما ولدًا مشؤومًا يريان الشر على وجهه ، وكذلك ما يعطاه العبد من ولاية وغيرها ، فكذلك الدار والمرأة والفرس . والله سبحانه خالق الخير والشر والسعود والنحوس ، فيخلق بعض هذه الأعيان سعودًا مباركة ، ويقضي بسعادة من قاربها وحصول اليمن والبركة له. ويخلق بعضها نحوسًا يتنحس بها من قاربها . وكل ذلك بقضائه وقدره ، كما خلق سائر الأسباب وربطها بمسبباتها المتضادة والمختلفة . كما خلق المسك وغيره من الأرواح الطيبة ولذذ بها من قاربها من الناس . وخلق ضدها وجعلها سببًا لألم من قاربها من الناس ، والفرق بين هذين النوعين مدرك بالحس ، فكذلك الديار والنساء والخيل . فهذا لون والطيرة الشركية لون . انتهى . قوله : ولا هامة بتخفيف الميم على الصحيح . قال الفراء : الهامة طير من طير الليل . كأنه يعني البومة . قال ابن الأعرابي : كانوا يتشاءمون بها إذا وقعت على بيت أحدهم ، يقول : نعت إلى نفسي أو أحدًا من أهل داري ، فجاء الحديث بنفي ذلك وإبطاله . قوله : ولا صفر بفتح الفاء ، روى أبو عبيدة في غريب الحديث عن رؤبة أنه قال : هي حية تكون في البطن تصيب الماشية والناس ، وهي أعدى من الجرب عند العرب . وعلى هذا فالمراد بنفيه ما كانوا يعتقدونه من العدوى وممن قال بهذا سفيان بن عيينة والإمام أحمد والبخاري وابن جرير . وقال آخرون : المراد به شهر صفر ، والنفي لما كان أهل الجاهلية يفعلونه في النسيء وكانوا يحلون المحرم ويحرمون صفر مكانه، وهو قول مالك . وروى أبو داود عن محمد بن راشد عمن سمعه يقول : إن أهل الجاهلية يتشاءمون بصفر ، ويقولون : إنه مشؤوم ، فأبطل النبي ذلك . قال ابن رجب : ولعل هذا القول أشبه الأقوال ، والتشاؤم بصفر هو من جنس الطيرة المنهي عنها ، وكذلك التشاؤم بيوم من الأيام كيوم الأربعاء وتشاؤم أهل الجاهلية بشوال في النكاح فية خاصة .

لا نوء ولا غول قوله : ولا نواء النوء واحد الأنواء ، وسيأتي الكلام عليه في بابه إن شاء الله تعالى . قوله : ولا غول هو بالضم اسم ، وجمعه أغوال وغيلان ، وهو المراد هنا . قال أبو السعادات : الغول واحد الغيلان ، وهو جنس من الجن والشياطين كانت العرب تزعم أن الغول في الفلاة تتراءى للناس ، تتلون تلونًا في صور شتى وتغولهم ، أي تضلهم عن الطريق وتهلكهم ، فنفاه النبي صلى الله عليه وأبطله . فإن قيل : ما معنى النفي وقد قال النبي  : " إذا تغولت الغيلان فبادروا بالأذان " . أجيب عنه : بأن ذلك كان في الإبتداء ، ثم دفعها الله عن عباده . أو يقال : المنفى ليس وجود الغول ، بل ما يزعمه العرب من تصرفه في نفسه ، أو يكون المعنى بقوله لا غول أنها لا تستطيع أن تضل أحدًا مع ذكر الله والتوكل عليه . ويشهد له الحديث الآخر " لا غول ولكن السعالى سحرة الجن " أي ولكن في الجن سحرة لهم تلبيس وتخييل . ومنه الحديث " إذا تغولت الغيلان فبادروا بالأذان " أي ادفعوا شرها بذلك بذكر الله . وهذا يدل على أنه لم يرد بنفيها أو عدمه . ومنه حديث أبي أيوب " كان لي تمر في سهوة فكانت الغول تجي فتأخذ " .

أحسنها الفأل قوله : " ولهما عن أنس قال : قال رسول الله لا عدوى ولا طيرة ، ويعجبني الفأل ، قالوا : وما الفأل ؟ قال : الكلمة الطيبة " . قوله : ويعجبني الفأل قال أبو السعادات : الفأل ، مهموز فيما يسر ويسوء ، والطيرة لا تكون إلا فيما يسوء ، وربما استعملت فيما يسر . يقال : تفاءلت بكذا وتفاولت ، على التحقيق والقلب ، وقد أولع الناس بترك الهمزة تخفيفًا ، وإنما أحب الفأل لأن الناس إذا أملوا فائدة الله ورجوا عائدته عند كل سبب ضعيف أو قوى فهم على خير ، وإذا قطعوا آمالهم ورجاءهم من الله تعالى كان ذلك من الشر . وأما الطيرة فإن فيها سوء الظن بالله وتوقع البلاء ، والتفاؤل : أن يكون رجل مريض فيسمع آخر يقول : يا سالم ، أو يكون طالب ضالة فيسمع آخر يقول : يا واجد ، فيقع في ظنه أنه يبرأ من مرضه ويجد ضالته . ومنه الحديث : "قيل يا رسول الله ما الفأل ؟ قال : الكلمة الطيبة " . قوله : قالوا : وما الفأل ؟ قال : الكلمة الطيبة بين أن الفأل يعجبه فدل على أنه ليس من الطيرة المنهى عنها . قال ابن القيم رحمه الله تعالى : ليس في الإعجاب بالفأل ومحبته شئ من الشرك ، بل ذلك إبانة عن مقتضى الطبيعة وموجب الفطرة الإنسانية التي تميل إلى ما يوافقها ويلائمها ، كما أخبرهم أنه حبب إليه من الدنيا النساء والطيب ، وكان يحب الحلواء والعسل ، ويحب حسن الصوت بالقرآن والأذان ويستمع إليه ويحب معالي الأخلاق ومكارم الشيم . بالجملة يحب كل كمال وخير ما يفضي إليهما ، والله سبحانه قد جعل في غرائز الناس الإعجاب بسماع الإسم الحسن ومحبته ، وميل نفوسهم إليه ، وكذلك جعل فيها الارتياح والاستبشار والسرور باسم الفلاح والسلام والنجاح والتهنئة والبشرى والفوز والظفر ونحو ذلك ، فإذا قرعت هذه الأسماء الأسماع استشبرت بها النفوس وانشرح لها الصدر وقوى بها القلب ، وإذا سمعت أضدادها أوجب لها ضد هذه الحال . فأحزنها ذلك ، وأثار لها خوفًا وطيرة وانكماشًا وانقباضًا عما قصدت له وعزمت عليه ، فأورث لها ضررًا في الدنيا ونقصًا في الإيمان ومقارفة الشرك . وقال الحليمي : وإنما كان يعجبه الفأل لأن التشاؤم سوء ظن بالله تعالى بغير سبب محقق ، والتفاؤل حسن ظن به ، والمؤمن مأمور بحسن الظن بالله تعالى على كل حال . قوله : ولأبي داود بسند صحيح عن عقبة بن عامر قال : ذكرت الطيرة عند رسول الله فقال : " أحسنها الفأل ، ولا ترد مسلمًا ، فإذا رأى أحدكم ما يكره فليقل : اللهم لا يأتي بالحسنات إلا أنت ، ولا يدفع السيئات إلا أنت ولا حول ولا قوة إلا بك " . قوله : عن عقبة بن عامر هكذا وقع في نسخ التوحيد ، وصوابه : عن عروة ابن عامر كذا أخرجه أحمد وأبو داود وغيرهما . وهو مكي اختلف في نسبه ، فقال أحمد : عن عروة بن عامر القرشي ، وقال غيره : الجهني . واختلف في صحبته ، فقال الماوردي : له صحبة ، وذكره ابن حبان في ثقات التابعين ، وقال المزي : لا صحبة له تصح . قوله : فقال أحسنها الفأل قد تقدم أن النبي كان يعجبه الفأل . وروى الترمذي وصححه عن أنس رضي الله عنه " أن النبي كان إذا خرج لحاجته يحب أن يسمع : يا نجيح ، يا راشد " وروى أبو داود عن بريدة أن النبي كان لا يتطير من شئ ، وكان إذا بعث عاملًا سأله عن اسمه فإذا أعجبه فرح به ، وإن كره اسمه رؤي كراهية ذلك في وجهه وإسناده حسن . وهذا فيه استعمال الفأل . قال ابن القيم : أخبر أن الفأل من الطيرة وهو خيرها ، فأبطل الطيرة وأخبر أن الفأل منها ولكنه خير منها ، ففصل بين الفأل والطيرة لما بينهما من الامتياز والتضاد ، ونفع أحدهما ومضرة الآخر ، ونظير هذا : منعه من الرقي بالشرك وإذنه في الرقية إذا لم يكن فيها شرك ، لما فيها من المنفعة الخالية من المفسدة . قوله : ولا ترد مسلمًا قال الطيبي : تعريض بأن الكافر بخلافه . قوله : اللهم لا يأتي بالحسنات إلا أنت ولا يدفع السيئات إلا أنت أي لا تأتي الطيرة الحسنة ولا تدفع المكروهات ، بل أنت وحدك لا شريك لك الذي تأتي بالحسنات ، وتدفع السيئات ، و الحسنات هنا النعم ، و السيئات المصائب ، كقوله ' 4 : 78 ، 79 ' " وإن تصبهم حسنة يقولوا هذه من عند الله وإن تصبهم سيئة يقولوا هذه من عندك قل كل من عند الله فمال هؤلاء القوم لا يكادون يفقهون حديثا * ما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك " ففيه نفي تعليق القلب بغير الله في جلب نفع أو دفع ضر ، وهذا هو التوحيد ، وهو دعاء مناسب لمن وقع في قلبه شئ من الطيرة وتصريح بأنها لا تجلب نفعًا ولا تدفع ضرًا ، ويعد من اعتقدها سفيهًا مشركًا . قوله : ولا حول ولا قوة إلا بك استعانة بالله تعالى على فعل التوكل وعدم الالتفات إلى الطيرة التي قد تكون سببًا لوقوع المكروه عقوبة لفاعلها . وذلك الدعاء إنما يصدر عن حقيقة التوكل الذي هو أقوى الأسباب في جلب الخيرات ودفع المكروهات . و الحول التحول والإنتقال من حال إلى حال ، و القوة على ذلك بالله وحده لا شريك له . ففيه التبري من الحول والقوة والمشيئة بدون حول الله وقوته ومشيئته . وهذا هو التوحيد في الربوبية ، وهو الدليل على توحيد الإلهية الذي هو إفراد الله تعالى بجميع أنواع العبادة ، وهو توحيد القصد والإرادة ، وقد تقدم بيان ذلك بحمد الله . قوله : وعن ابن مسعود رضي الله عنه مرفوعًا : " الطيرة شرك ، والطيرة شرك . وما منا إلا ، ولكن الله يذهبه بالتوكل " رواه أبو داود والترمذي وصححه . وجعل آخر من قول ابن مسعود . ورواه ابن ماجه وابن حبان . ولفظ أبي داود الطيرة شرك ، الطيرة شرك ، الطيرة شرك . ثلاثًا وهذا صريح في تحريم الطيرة ، وأنها من الشرك لما فيها من تعلق القلب على غير الله تعالى . قال ابن حمدان : تكره الطيرة ، وكذا قال غيره من أصحاب أحمد . قال ابن مفلح : والأولى القطع بتحريمها لأنها شرك ، وكيف يكون الشرك مكروهًا الكراهية الإصطلاحية ؟ قال في شرح السنن: وإنما جعل الطيرة من الشرك لأنهم كانوا يعتقدون أن الطيرة تجلب لهم نفعًا أو تدفع عنهم ضرًا إذا عملوا بموجبها ، فكأنهم أشركوا مع الله تعالى . قوله : وما منا إلا قال أبو القاسم الأصبهاني ، والمنذري : في الحديث إضمار . التقدير : وما منا إلا وقد وقع في قلبه شئ من ذلك . ا هـ . وقال الخلخاني : حذف المستثنى لما يتضمنه من الحالة المكروهة . وهذا من أدب الكلام . قوله : ولكن الله يذهبه بالتوكل أي لكن لما توكلنا على الله في جلب النفع ودفع الضر أذهبه الله عنا بتوكلنا عليه وحده . قوله : وجعل آخره من قول ابن مسعود قال ابن القيم : وهو من الصواب ، فإن الطيرة نوع من الشرك .

من ردته الطيرة فقد أشرك قال : ولأحمد من حديث ابن عمر :" ومن ردته الطيرة عن حاجته فقد أشرك . قالوا فما كفارة ذلك ؟ قال : أن تقول : اللهم لا خير إلا خيرك ، ولا طير إلا طيرك ، ولا إله غيرك " . هذا الحديث رواه أحمد والطبراني عن عبد الله بن عمرو بن العاص ، وفي إسناده ابن لهيعة وبقية رجاله ثقات . قوله :من حديث ابن عمرو وهو عبد الله بن عمرو بن العاص بن وائل السهمي أبو محمد . وقيل أبو عبد الرحمن ، أحد السابقين المكثرين من الصحابة وأحد العبادلة الفقهاء . مات في ذي الحجة ليالي الحرة على الأصح بالطائف . قوله : من ردته الطيرة عن حاجته فقد أشرك وذلك أن الطيرة هي التشاؤم بالشئ المرئي أو المسموع ، فإذا رده شئ من ذلك عن حاجته التي عزم عليها كإرادة السفر ونحوه ، فمنعه عما أراده وسعى فيه ما رأى وما سمع تشاؤمًا ، فقد دخل في الشرك . كما تقدم ، فلم يخلص توكله على الله بالتفاته إلى ما سواه فيكون للشيطان منه نصيب . قوله : فما كفارة ذلك ؟ إلى آخره . فإذا قال ذلك وأعرض عما وقع في قلبه ، ولم يلتفت إليه ، كفر الله عنه ما وقع في قلبه ابتداء لزواله عن قلبه بهذا الدعاء المتضمن للاعتماد على الله وحده ، والإعراض عما سواه . وتضمن الحديث أن الطيرة لا تضر من كرهها ومضى في طريقه ، وأما من لا يخلص توكله على الله واسترسل مع الشيطان في ذلك ، فقد يعاقب بالوقوع فيما يكره ، لأنه أعرض عن واجب الإيمان بالله ، وأن الخير كله بيده ، فهو الذي يجلبه لعبده بمشيئته وإرادته ، وهو الذي يدفع عنه الضر وحده بقدرته ولطفه وإحسانه ، فلا خير إلا منه ، وهو الذي يدفع الشر عن عبده فما أصابه من ذلك فبذنبه ، كما قال تعالى : ' 4 : 79 ' " ما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك " . قوله : وله من حديث الفضل بن عباس إنما الطيرة ما أمضاك أو ردك . هذا الحديث عند الإمام أحمد من حديث الفضل بن عباس قال : " خرجت مع رسول الله يومًا ، فبرح ظبي ، فمال في شقه فاحتضنته ، فقلت : يا رسول الله تطيرت ، فقال : إنما الطيرة ما أمضاك أو ردك " وفي إسناده انقطاع ، أي بين مسلمة رواية وبين الفضل ، وهو الفضل بن العباس بن عبد المطلب ابن عم النبي . قال ابن معين : قتل يوم اليرموك . وقال غيره : قتل يوم مرج الصفر سنة ثلاث عشرة وهو ابن اثنتين وعشرين سنة . وقال أبو داود : قتل بدمشق . كان عليه درع رسول الله . قوله : إنما الطيرة ما أمضاك أو ردك هذا حد الطيرة المنهى عنها : أنها ما يحمل الإنسان على المضمي فيما أراده ، ويمنعه من المضي فيه كذلك . وأما الفأل الذي كان يحبه النبي فيه نوع من بشارة ، فيسر به العبد ولا يعتمد عليه بخلاف ما يمضيه أو يرده ، فإن للقلب عليه نوع اعتماد . فافهم الفرق والله أعلم .

باب ما جاء في التنجيم قوله : ( باب : ما جاء في التنجيم ) قال شيخ الإسلام رحمه الله : التنجيم هو الاستدلال بالأحوال الفكلية على الحوادث الأرضية . وقال الخطابي : علم النجوم المنهى عنه هو ما يدعيه أهل التنجيم من علم الكوائن والحوادث التي ستقع في مستقبل الزمان ، كأوقات هبوب الرياح ومجيء المطر ، وتغير الأسعار ، وما في معناها من الأمور التي يزعمون أنها تدرك معرفتها بمسير الكواكب في مجاريها ، واجتماعها وافتراقها ، يدعون أن لها تأثيرًا في السفليات ، وهذا منهم تحكم على الغيب ، وتعاط لعلم قد استأثر الله به ، ولا يعلم الغيب سواه . قوله : قال البخاري في صحيحه : قال قتادة : خلق الله هذه النجموم لثلاث : زينة للسماء ، ورجومًا للشياطين ، وعلامات يهتدى بها ، فمن تأول فيها غير ذلك أخطأ وأضاع نصيبه ، وتكلف ما لا علم له به . هذا الأثر علقه البخاري في صحيحه . وأخرجه عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وغيرهم . وأخرجه الخطيب في كتاب النجوم عن قتادة ، ولفظه قال : إنما جعل الله هذه النجوم لثلاث خصال : جعلها زينة للسماء ، وجعلها يهتدى بها ، وجعلها رجومًا للشيطاطين . فمن تعاطى فيها غير ذلك فقد قال برأيه ، وأخطأ حظه وأضاع نصيبه ، وتكلف ما لا علم له به ، وإن ناسًا جهلة بأمر الله قد أحدثوا في هذه النجوم كهانة : من أعرس بنجم كذا وكذا كان كذا وكذا ، ومن سافر بنجم كذا وكذا كان كذا وكذا . ولعمري ما من نجم إلا يولد به الأحمر والأسود والطويل والقصير والحسن والدميم ، وما علم هذه النجوم وهذا الدابة وهذا الطائر بشئ من هذا الغيب ولو أن أحدًا علم الغيب لعلمه آدم الذي خلقه الله بيده وأسجد له ملائكته وعلمه أسماء كل شئ انتهى . فتأمل ما أنكره هذا الإمام مما حدث من المنكرات في عصر التابعين ، وما زال الشر يزداد في كل عصر بعدهم حتى بلغ الغاية في هذه الأعصار ، وعمت به البلوى في جميع الأمصار فمقل ومستكثر ، وعز في الناس من ينكره ، وعظمت المصيبة به في الدين . فإنا لله وإنا إليه راجعون . قوله : خلق الله هذه النجوم لثلاث قال تعالى : ' 67 : 5 ' " ولقد زينا السماء الدنيا بمصابيح وجعلناها رجومًا للشياطين " وقال تعالى : ' 16 : 16 ' " وعلامات وبالنجم هم يهتدون " وفيه إشارة إلى أن النجوم في السماء الدنيا ، كما روى ابن مردويه عن ابن مسعود رضي الله عنه قال : قال رسول الله " أما السماء الدنيا فإن الله خلقها من دخان وجعل فيها سراجًا وقمرًا منيرًا ، وزينها بمصابيح وجعلها رجومًا للشياطين ، وحفظًا من كل شيطان رجيم " . قوله : وعلامات أي دلالات على الجهات يهتدي بها أي يهتدي بها الناس في ذلك . كما قال تعالى : ' 6 : 97 ' " وهو الذي جعل لكم النجوم لتهتدوا بها في ظلمات البر والبحر " أي لتعرفوا بها جهة قصدكم ، وليس المراد أن يهتدي بها في علم الغيب ، كما يعتقده المنجمون ، وقد تقدم وجه بطلانه وأنه لا حقيقة له كما قال قتادة : فمن تأول فيها غير ذلك أي زعم فيها غير ما ذكر الله في كتابه من هذه الثلاث فقد أخطأ . حيث زعم شيئًا ما أنزل الله به من سلطان ، وأضاع نصيبه من كل خير ، لأنه شغل نفسه بما يضره ولا ينفعه . فإن قيل : المنجم قد يصدق ؟ قيل : صدقه كصدق الكاهن ، ويصدق في كلمة ويكذب في مائة . وصدقه ليس عن علم ، بل قد يوافق قدرًا ، فيكون فتنة في حق من صدقه . وعن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله : ' 16 : 15 ' " وألقى في الأرض رواسي أن تميد بكم وأنهارا وسبلا لعلكم تهتدون * وعلامات " فقوله : علامات معطوف على ما تقدم مما ذكره في الأرض ، ثم استأنف فقال : " وبالنجم هم يهتدون " ذكره ابن جرير عن ابن عباس بمعناه . وقد جاءت الأحاديث عن النبي بإبطال علم التنجيم ، كقوله : " من اقتبس شعبة من النجوم فقد اقتبس شعبة من السحر . زاد ما زاد " . وعن رجاء بن حيوة أن النبي قال : " إن مما أخاف على أمتي : التصديق بالنجوم ، والتكذيب بالقدر ، وحيث الأئمة " رواه عبد بن حميد . وعن أبي محجن مرفوعًا : " أخاف على أمتي ثلاثًا : حيف الأئمة ، وإيمانًا بالنجوم وتكذيبًا للقدر " رواه ابن عساكر وحسنه السيوطي . وعن أنس رضي الله مرفوعًا "أخاف على أمتي بعدي خصلتين : تكذيبًا بالقدر ، وإيمان بالنجوم " رواه أبو يعلي وابن عدي والخطاب في كتاب النجوم وحسنه السيوطي أيضًا . والأحاديث في ذم التنجيم والتحذير منه كثيرة .

ما جاء في تعلم علم الفلك قوله : وكره قتادة تعلم منازل القمر . ولم يرخص ابن عيينة فيه . ذكره حرب عنهما . ورخص في تعلم المنازل أحمد وإسحاق . قال الخطابي : أما علم النجوم الذي يدرك من طريق المشاهدة والخبر الذي يعرف به الزوال ، وتعلم به جهة القبلة فإنه غير داخل فيما نهى عنه . وذلك أن معرفة رصد الظل ليس شيئًا أكثر من أن الظل ما دام متناقصًا فالشمس بعد صاعدة نحو وسط السماء من الأفق الشرقي ، وإذا أخد في الزيادة فالشمس هابطة من وسط السماء نحو الأفق الغربي ، وهذا علم يصح إدراكه بالمشاهدة ، إلا أن أهل هذه الصناعة قد دبروها بما اتخذوه من الآلات التي يستغنى الناظر فيها عن مراعاة مدته ومراصدته . وأما ما يستدل به من النجوم على جهة القبلة فإنها كواكب رصدها أهل الخبرة من الأئمة الذين لا نشك في عنايتهم بأمر الدين ومعرفتهم بها وصدقهم فيما أخبروا به عنها ، مثل أن يشاهدها بحضرة الكعبة ويشاهدها على حال الغيبة عنها ، فكان إدراكهم الدلالة منها بالمعاينة ، وإدراكنا ذلك بقبول خبرهم إذ كانوا عندنا غير مهتمين في دينهم ، ولا مقصرين في معرفتهم . انتهى . وروى ابن المنذر عن مجاهد أنه كان لا يرى بأسًا أن يتعلم الرجل منازل القمر . وروى عن إبراهيم أنه كان لا يرى بأسًا أن يتعلم الرجل من النجوم ما يهتدي به . قال ابن رجب : والمأذون في تعلمه التسيير لا علم التأثير فإنه باطل محرم ، قليله وكثيره . وأما علم التسيير فيتعلم ما يحتاج إليه منه للاهتداء ومعرفة القبلة والطرق جائز عند الجمهور . قوله : ذكره حرب عنهما هو الإمام الحافظ حرب بن إسماعيل أبو محمد الكرماني الفقيه من جلة أصحاب الإمام أحمد . روى عن أحمد وإسحاق وابن المديني وابن معين وغيرهم . وله كتاب المسائل التي سئل عنها الإمام أحمد وغيره ، مات سنة ثمانين ومائتين . وأما إسحاق فهو ابن إبراهيم بن مخلد أبو أيوب الحنظلي النيسابوري ، الإمام المعروف بابن راهويه . روى عن ابن المبارك وأبي أسامة وابن عيينة وطبقتهم . قال أحمد : إسحاق عندنا إمام من أئمة المسلمين . روى عنه أحمد والبخاري ومسلم وأبو داود وغيرهم . وروى هو أيضًا عن أحمد . مات سنة تسع وثلاثين ومائتين . قال : وعن أبي موسى رضي الله عنه قال : قال رسول الله  : " ثلاثة لا يدخلون الجنة : مدمن الخمر ، وقاطع الرحم ، ومصدق بالسحر " رواه أحمد وابن حبان في صحيحه . هذا الحديث رواه أيضًا الطبراني والحاكم وقال : صحيح . وأقره الذهبي . وتمامه ومن مات وهو يدمن الخمر سقاه الله من نهر الغوطة : نهر يجري من فروج المومسات ، يؤذي أهل النار ريح فروجهن . قوله : وعن أبي موسى هو عبد الله بن قيس بن سليم بن حضار ـ بفتح المهملة وتشديد الضاد ، أبي موسى الأشعري . صحابي جليل . مات سنة خمسين . قوله : ثلاثة لا يدخلون الجنة هذا من نصوص الوعيد التي كره السلف تأويلها . وقالوا : أمروها كما جاءت ، وعن تأولها فهو على خطر من القول على الله بلا علم . وأحسن ما يقال : إن كل عمل دون الشرك والكفر المخرج على ملة الإسلام فإنه يرجع إلى مشيئة الله ، فإن عذبه فقد استوجب العذاب ، وإن غفر له فبفضله وعفوه ورحمته . قوله : مدمن الخمر أي المداوم على شربها . قوله : وقاطع الرحم يعني القرابة كما قال تعالى : ' 47 : 22 ' " فهل عسيتم إن توليتم أن تفسدوا في الأرض وتقطعوا أرحامكم " الآية . قوله : ومصدق بالسحر أي مطلقًا . ومنه التنجيم ، لما تقدم من الحديث . وهذا وجه مطابقة الحديث للترجمة . قال الذهبي في الكبائر : ويدخل فيه تعلم السيميا وعملها ، وعقد المرء عن زوجته ومحبة الزوج لامرأته وبغضها وبغضه . وأشباه ذلك بكلمات مجهولة . قال : وكثير من الكبائر ـ بل عامتها إلا الأقل ـ يجهل خلق من الأمة تحريمه ، وما بلغه الزجر فيه ، ولا الوعيد عليه ا هـ .

الاستسقاء بالنجوم قوله : ( ما جاء في الاستسقاء بالأنواء ) أي من الوعيد ، والمراد : نسبة السقيا ومجيء المطر إلى الأنواء . جمع نوء وهي منازل القمر . قال أبو السعادات : وهي ثمان وعشرون منزلة . ينزل القمر كل ليلة منها . ومنه قوله تعالى : ' 36 : 39 ' " والقمر قدرناه منازل " يسقط في الغرب كل ثلاث عشرة ليلة منزلة طلوع الفجر ، وتظلع أخرى مقابلتها ذلك الوقت من المشرق ، فتقضي جميعها مع انقضاء السنة . وكانت العرب تزعم أن مع سقوط المنزلة وطلوع رقيبها يكون مطر ، وينسبونه إليها ، ويقولون مطرنا بنوء كذا وكذا وإنما سمى نوءًا لأنه إذا سقط الساقط منها ناء الطالع بالمشرق ، أي نهض وطلع . قال : وقوله تعالى ' 56 : 82 ' " وتجعلون رزقكم أنكم تكذبون " روى الإمام أحمد والترمذي ـ وحسنه ـ وابن جرير وابن أبي حاتم والضياء في المختارة عن علي رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله  : " " وتجعلون رزقكم " يقول : شكركم " أنكم تكذبون " تقولون : مطرنا بنوء كذا وكذا : بنجم كذا وكذا " وهذ أولى ما فسرت به الآية . وروى ذلك عن علي وابن عباس وقتادة والضحاك وعطاء الخراساني وغيرهم وهو قول جمهور المفسرين وبه يظهر وجه استدلال المصنف رحمه الله بالآية . قال ابن القيم رحمه الله : أي تجعلون حظكم من هذا الرزق الذي به حياتكم : التكذيب به ، يعني القرآن . قال الحسن : تجعلون حظكم ونصيبكم من القرآن أنكم تكذبون قال : وخسر عبد لا يكون حظه من القرآن إلا التكذيب . قوله : عن أبي مالك الأشعري رضي الله عنه أن رسول الله قال : " أربع في أمتي من أمر الجاهلية لا يتركونهن : الفخر بالأحساب ، والطعن في الأنساب ، والاستسقاء بالنجوم ، والنياحة " . وقال : " النائحة إذا لم تتب قبل موتها تقام يوم القيامة وعليها سربال من قطران ودرع من جرب " رواه مسلم . أبو مالك اسمه الحرث بن الحرث الشامي . صحابي تفرد عنه بالرواية أبو سلام . وفي الصحابة أبو مالك الأشعري اثنان غير هذا . قوله : أربع في أمتي من أمر بالجاهلية لا يتركونهن ستفعلها هذه الأمة إما مع العلم بتحريمها أو مع الجهل بذلك ، مع كونها من أعمال الجاهلية المذمومة المكروهة المحرمة . والمراد بالجاهلية هنا : ما قبل المبعث ، سموا ذلك لفرط جهلهم . وكل ما يخالف ما جاء به الرسول فهو جاهلية ، فقد خالفهم رسول الله في كثير من أمورهم أو أكثرها . وذلك يدرك بتدبر القرآن ومعرفة السنة . ولشخنا رحمه الله مصنف لطيف ذكر فيه ما خالف رسول الله فيه أهل الجاهلية ، بلغ مائة وعشرين مسألة . قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى : أخبر أن بعض أمر الجاهلية لا يتركه الناس كلهم ذمًا لمن لم يتركه ، وهذا يقتضي أن كل ما كان من أمر الجاهلية وفعلهم فهو مذموم في دين الإسلام ، وإلا لم يكن في إضافة هذه المنكرات إلى الجاهلية ذم لها ، ومعلوم أن إضافتها إلى الجاهلية خرج مخرج الذم ، وهذا كقوله تعالى : ' 33 : 33 ' " ولا تبرجن تبرج الجاهلية الأولى " فإن في ذلك ذمًا للتبرج وذمًا لحال الجاهلية الأولى ، وذلك يقتضي المنع من مشابهتهم في الجملة . قوله : الفخر بالأحساب أي التعاظم على الناس بالآباء ومآثرهم ، وذلك جهل عظيم ، إذ لا كرم إلا بالتقوى ، كما قال تعالى : ' 49 : 13 ' " إن أكرمكم عند الله أتقاكم " وقال تعالى : ' 34 : 37 ' " وما أموالكم ولا أولادكم بالتي تقربكم عندنا زلفى إلا من آمن وعمل صالحًا فأولئك لهم جزاء الضعف بما عملوا وهم في الغرفات آمنون " . ولأبي داود عن أبي هريرة مرفوعًا : " إن الله قد أذهب عنكم عبية الجاهلية وفخرها بالآباء ، إنما هو مؤمن تقي ، أو فاجر شقي ، الناس بنو آدم وآدم من تراب ، ليدعن رجال فخرهم بأقوام إنما فحم من فحم جهنم ، أو ليكونن أهون على الله من الجعلان " . قوله : والطعن في الأنساب أي الوقوع فيها بالعيب والتنقص . ولما عير أبو ذر رضي الله عنه رجلًا بأمه قال له النبي  :" أعيرته بأمه ؟ إنك امرؤ فيك جاهلية " متفق عليه . فدل على أن الطعن في الأنساب من عمل الجاهلية ، وأن المسلم قد يكون فيه شئ من هذه الخصال بجاهلية ويهودية ونصرانية ، ولا يوجب ذلك كفره ولا فسقه . قاله شيخ الإسلام رحمه الله. قوله : والاستسقاء بالنجوم أي نسبة المطر إلى النوء وهو سقوط النجم . كما أخرج الإمام أحمد وابن جرير السوائي قال: سمعت رسول الله يقول :" أخاف على أمتي ثلاثًا : استسقاء بالنجوم . وحيف السلطان . وتكذيبًا بالقدر " . فإذا قال قائلهم : مطرنا بنجم كذا أو بنوء كذا . فلا يخلوا إما أن يعتقد أن له تأثيرًا في إنزال المطر . فهذا شرك وكفر . وهو الذي يعتقده أهل الجاهلية كاعتقادهم أن دعاء الميت والغائب يجلب لهم نفعًا ، أو يدفع عنهم ضرًا . أو أنه يشفع بدعائهم إياه ، فهذا هو الشرك الذي بعث الله رسوله بالنهي عنه وقتال من فعله . كما قال تعالى : ' 8 : 39 ' "وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله " والفتنة الشرك ، وإما أن يقول : مطرنا بنوء كذا مثلا ، لكن مع اعتقاده أن المؤثر هو الله وحده . لكنه أجرى العادة بوجود المطر عند سقوط ذلك النجم ، والصحيح : أنه يحرم نسبة ذلك إلى النجم ولو على طريق المجاز ، فقد صرح ابن مفلح في الفروع : بأنه يحرم قول مطرنا بنوء كذا وجزم في الإنصاف بتحريمه ولو على طريق المجاز ، ولم يذكر خلافًا . وذلك أن القائل لذلك نسب ما هو من فعل الله تعالى الذي لا يقدر عليه غيره إلى خلق مسخر لا ينفع ولا يضر ولا قدرة له على شئ ، فيكون ذلك شركًا أصغر . والله أعلم .

عقوبة النائحة إذا لم تتب قوله : والنياحة أي رفع الصوت بالندب على الميت لأنها تسخط بقضاء الله ، وذلك ينافي الصبر الواجب ، وهي من الكبائر لشدة الوعيد والعقوبة . قوله : والنائحة إذا لم تتب قبل موتها فيه تنبيه على أن التوبة تكفر الذنب وإن عظم ، هذا مجمع عليه في الجملة ، ويكفر أيضًا الحسنات الماحية والمصائب ، ودعاء المسلمين بعضهم لبعض ، وبالشفاعة بإذن الله ، وعفو الله عمن شاء ممن لا يشرك به شيئًا وفي الحديث عن ابن عمر مرفوعًا :" إن الله تعالى يقبل توبة العبد ما لم يغرغر" رواه أحمد والترمذي وابن ماجه وابن حبان . قوله : تقام يوم القيامة وعليها سربال من قطران ودرع من جرب قال القرطبي  : السربال واحد السرابيل ، وهي الثياب والقميص، يعني أنهن يلطخن بالقطران ، فيكون لهم كالقمص ، حتى يكون اشتعال النار بأجسادهن أعظم ، ورائحتهن أنتن ، وألمهن بسبب الجرب أشد . وروى عن ابن عباس : إن القطران هو النحاس المذاب . قال : "ولهما عن زيد بن خالد رضي الله عنه قال : صلى لنا رسول الله صلاة الصبح بالحديبية على إثر سماء كانت من الليل ، فلما انصرف أقبل على الناس فقال : أتدرون ماذا قال ربكم ؟ قالوا : الله ورسوله أعلم . قال : قال : أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر ، فأما من قال : مطرنا بفضل الله ورحمته فذلك مؤمن بي كافر بالكوكب ، وأما من قال مطرنا بنوء كذا وكذا فذلك كافر بي مؤمن بالكوكب " . زيد بن خالد الجهني صحابي مشهور ، مات سنة ثمان وستين ، وقيل : غير ذلك ، وله خمس وثمانون سنة . قوله : صلى لنا رسول الله أي بنا ، فاللام بمعنى الباء . قال الحافظ : وفيه إطلاق ذلك مجازًا . وإنما الصلاة لله . قوله : بالحديبية بالمهملة المضمومة وتخفيف يائها وتثقل . قوله : على إثر سماء كانت من الليل بكسر الهمزة وسكون المثلثة على المشهور ، وهو ما يعقب الشئ . قوله : سماء أي مطر . لأنه ينزل من السحاب ، والسماء يطلق على كل ما ارتفع . قوله : فلما انصرف أي من صلاته ، أي التفت إلى المأمومين ، كما يدل عليه قوله : أقبل على الناس ويحتمل أنه أراد السلام . قوله : هل تدرون لفظ استفهام ومعناه التنبيه . وفي النسائي : ألم تسمعوا ما قال ربكم الليلة ؟ وهذا من الأحاديث القدسية. وفيه إلقاء العالم على أصحابه المسألة ليختبرهم . قوله : قالوا الله ورسوله أعلم فيه حسن الأدب للمسئول عما لا يعلم أن يكل العلم إلى عالمه . وذلك يجب . قوله : أصبح من عبادي الإضافة هنا للعموم بدليل التقسيم إلى مؤمن وكافر كقوله تعالى : ' 64 : 2 ' " هو الذي خلقكم فمنكم كافر ومنكم مؤمن " . قوله : مؤمن بي وكافر إذا اعتقد أن للنوء تأثيرًا في إنزال المطر فهذا كفر لأنه أشرك في الربوبية . والمشرك كافر . وإن لم يعتقد ذلك فهو من الشرك الأصغر ، لأنه نسب نعمة الله إلى غيره ، ولأن الله لم يجعل النوء سببًا لإنزال المطر فيه ، وإنما هو فضل من الله ورحمته يحبسه إذا شاء وينزله إذا شاء . ودل هذا الحديث على أنه لا يجوز لأحد أن يضيف أفعال الله إلى غيره ولو على سبيل المجاز . وأيضًا الباء تحتمل معاني ، وكلها لا تصدق بهذا اللفظ ، فليست للسببية ولا للاستعانة ، لما عرفت من أن هذا باطل . ولا تصدق أيضًا على أنها للمصاحبة ، لأن المطر قد يجيء في هذا الوقت وقد لا يجيء فيه ، وإنما يجيء المطر في الوقت الذي أراد الله مجيئه فيه برحمته وحكمته وفضله . فكل معنى تحمل عليه الباء في هذا اللفظ المنهى عنه فاسد . فيظهر على هذا تحريم هذه اللفظة مطلقًا لفساد المعنى . وقد تقدم القطع بتحريمه في كلام صاحب الفروع والإنصاف . قال المصنف رحمه الله : وفيه التفطن للإيمان في هذا الموضع يشير إلى أنه الإخلاص . قوله : فأما من قال : مطرنا بفضل الله ورحمته فالفضل والرحمة صفتان لله ، ومذهب أهل السنة والجماعة : أن ما وصف الله به نفسه ووصفه به رسوله من صفات الذات : كالحياة والعلم ، وصفات الأفعال ، كالرحمة التي يرحم بها عباده . كلها صفات لله قائمة بذاته ليست قائمة بغيره ، فتفطن لهذا فقط غلط فيه طوائف . وفي هذا الحديث : إن نعم الله لا يجوز أن تضاف إلا إليه وحده ، وهو الذي يحمد عليها ، وهذه حال أهل التوحيد . قوله : وأما من قال : مطرنا بنوء كذا وكذا إلى أخره ، تقدم ما يتعلق بذلك . قال المصنف رحمه الله : وفيه التفطن للكفر في هذا الموضع . يشير إلى أنه نسبة النعمة إلى غير الله كفر ، ولهذا قطع بعض العلماء بتحريمه ، وإن لم يعتقد تأثير النوء بإنزال المطر ، فيكون من كفر النعم ، لعدم نسبتها إلى الذي أنعم بها ، ونسبتها إلى غيره ، كما سيأتي في قوله تعالى : ' 16 : 83 ' " يعرفون نعمة الله ثم ينكرونها " . قال القرطبي في شرح حديث زيد بن خالد : وكانت العرب إذا طلع نجم من الشرق وسقط آخر من المغرب فحدث عند ذلك مطر أو ريح ، فمنهم من ينسبه إلى الطالع ، ومنهم من ينسبه إلى الغارب نسبة إلى إيجاد واختراع ، ويطلقون ذلك القول المذكور في الحديث . فنهى الشارع عن إطلاق ذلك لئلا يعتقد أحد اعتقادهم ولا يتشبه بهم في نطقهم . انتهى . قوله : فمنهم من ينسبه نسبة إيجاد ـ يدل على أن بعضهم كان لا يعتقد ذلك ، كما قال تعالى : ' 29 : 63 ' " ولئن سألتهم من نزل من السماء ماء فأحيا به الأرض من بعد موتها ليقولن الله قل الحمد لله بل أكثرهم لا يعقلون " فدل على أن منهم من يعرف ويقر بأن الله هو الذي أوجد المطر ، وقد يعتقد هؤلاء أن النوء فيه شيئًا من التأثير ، والقرطبي في شرحه لم يصرح أن العرب كلهم يعتقدون ذلك المعتقدالذي ذكره . فلا اعتراض عليه بلآية للاحتمال المذكور . قوله : ولهما من حديث ابن عباس معناه ، وفيه : قال بعضهم : لقد صدق نوء كذا وكذا . فأنزل الله هذه الآيات : ' 56 : 75 -82 ' " فلا أقسم بمواقع النجوم * وإنه لقسم لو تعلمون عظيم * إنه لقرآن كريم * في كتاب مكنون * لا يمسه إلا المطهرون * تنزيل من رب العالمين * أفبهذا الحديث أنتم مدهنون * وتجعلون رزقكم أنكم تكذبون " . وبلفظه عن ابن عباس قال : مطر الناس على عهد النبي فقال النبي  :" أصبح من الناس شاكر ، ومنهم كافر . قالوا : هذه رحمة الله . وقال بعضهم : لقد صدق نوء كذا وكذا " . فقال : فنزلت هذه الآية : " فلا أقسم بمواقع النجوم " . هذا قسم من الله عز وجل ، يقسم بما شاء من خلقه على ما شاء . وجواب القسم : " إنه لقرآن كريم " فتكون لا صلة لتأكيد النفي ، فتقدير الكلام ، ليس الأمر كما زعمتم في القرآن أنه سحر ، أو كهانة ، بل هو قرآن كريم . قال ابن جرير : قال بعض أهل العربية : معنى قوله : فلا أقسم فليس الأمر كما تقولون ، ثم استؤنف القسم بعد فقيل : أقسم بمواقع النجوم . قال ابن عباس : يعني نجوم القرآن ، فإنه نزل جملة ليلة القدر من السماء الدنيا ، ثم نزل مفرقًا في السنين بعد ، ثم قرأ ابن عباس هذه الآية . ومواقعها : نزولها شيئًا بعد شئ . وقال مجاهد : مواقع النجوم مطالعها ومشارقها . واختاره ابن جرير . وعلى هذه فتكون المناسبة بين المقسم به والمقسم عليه ـ وهو القرآن ـ من وجوه : أحدها : أن النجوم جعلها الله يهتدي بها في ظلمات البر والبحر ، وآيات القرآن يهتدي بها في ظلمات الغي والجهل . فتلك هداية في الظلمات الحسية ، والقرآن هداية في الظلمات المعنوية . فجمع بين الهدايتين مع ما في النجوم من الزينة الظاهرة . وفي القرآن من الزينة الباطنة ، ومع ما في النجوم من الرجوم للشياطين ، وفي القرآن من رجوم شياطين الجن والإنس. والنجوم آياته المشهودة العيانية ، والقرآن آياته المتلوة السمعية ، مع ما في مواقعها عند الغروب من العبرة والدلالة على آياته القرآنية ومواقعها عند النزول ذكره ابن القيم رحمه الله . وقوله : " وإنه لقسم لو تعلمون عظيم " قال ابن كثير : أي وإن هذا القسم الذي أقسمت به لقسم عظيم لو تعلمون عظمته لعظمتم المقسم به عليه . وقوله : " إنه لقرآن كريم " هذا هو المقسم عليه ، وهو القرآن ، أي إنه وحي الله وتنزيله وكلامه ، لا كما يقول الكفار : إنه سحر أو كهانة ، أو شعر . بل هو قرآن كريم أي عظيم كثير الخير لأنه كلام الله . قال ابن القيم رحمه الله تعالى : فوصفه بما يقتضي حسنه وكثرة خيره ومنافعه وجلالته ، فإن الكريم هو البهي الكثير الخير العظيم ، وهو من كل شئ أحسنه وأفضله . والله سبحانه وتعالى وصف نفسه بالكرم ووصف به كلامه ، ووصف به عرشه ، ووصف به ما كثر خيره وحسن منظره من النبات وغيره ولذلك فسر السلف الكريم بالحسن قال الأزهري: الكريم اسم جامع لما يحمد، والله تعالى كريم جميل الفعال ، وإنه لقرآن كريم يحمد لما فيه من الهدى والبيان والعلم والحكمة . وقوله : " في كتاب مكنون " أي في كتاب معظم محفوظ موقر ، قاله ابن كثير . وقال ابن القيم رحمه الله تعالى : اختلف المفسرون في هذا ، فقيل : هو اللوح المحفوظ والصحيح أنه الكتاب الذي بأيدي الملائكة ، وهو المذكور في قوله : ' 80 : 13 ـ 16 ' " في صحف مكرمة * مرفوعة مطهرة * بأيدي سفرة * كرام بررة " ويدل على أنه الكتاب الذي بأيدي الملائكة قوله : " لا يمسه إلا المطهرون " فهذا يدل على أنه بأيديهم يمسونه .

" لا يمسه إلا المطهرون " قوله : " لا يمسه إلا المطهرون " قال ابن عباس رضي الله عنهما : لا يمسه إلا المطهرون . قال : الكتاب الذي في السماء وفي رواية لا يمسه إلا المطهرون يعني الملائكة وقال قتادة : لا يمسه عند الله إلا المطهرون فأما في الدنيا فإنه يمسه المجوسي النجس والمنافق الرجس واختار هذا القول كثيرون ، منهم ابن القيم رحمه الله ورجحه ، وقال ابن زيد : زعمت قريش أن هذا القرآن تنزلت به الشياطين ، فأخبر الله تعالى أنه لا يمسه إلا المطهرون كما قال تعالى : ' 26 : 210 ـ 212 ' " وما تنزلت به الشياطين * وما ينبغي لهم وما يستطيعون * إنهم عن السمع لمعزولون " قال ابن كثير : هذا قول جيد . وهو لا يخرج عن القول قبله . وقال البخاري رحمه الله تعالى في صحيحه في هذه الآية : لا يجد طعمه إلا من آمن به . قال ابن القيم رحمه الله : هذا من إشارة الآية وتنبيهها ، وهو أنه لا يلتذ به وبقراءته وفهمه وتدبره إلا من يشهد أنه كلام الله تكلم به حقًا ، وأنزله على رسوله وحيًا . لا ينال معانيه إلا من لم يكن في قلبه حرج منه بوجه من الوجوه . وقال آخرون : " لا يمسه إلا المطهرون " أي من الجنابة والحديث . قالوا : ولفظ الآية خبر معناه الطلب . قالوا : والمراد بالقرآن ههنا المصحف . واحتجوا على ذلك بما رواه مالك في الموطأ عن عبد الله بن محمد بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم : إن في الكتاب الذي كتبه رسول الله لعمرو بن حزم : أن لا يمس القرآن إلا طاهر . وقوله :" تنزيل من رب العالمين " قال ابن كثير : هذا القرآن منزل من رب العالمين وليس كما يقولون إنه سحر أو كهانة أو شعر، بل هو الحق الذي لا مرية فيه ، وليس وراءه حق نافع . وفي هذه الآية : أنه كلام الله تكلم به . قال ابن القيم رحمه الله : ونظيره : ' 32 : 13 ' " ولكن حق القول مني " وقوله : ' 16 : 102 ' " قل نزله روح القدس من ربك بالحق " هو إثبات علو الله تعالى على خلقه . فإن النزول والتنزيل الذي تعقله العقول وتعرفه الفطر هو وصول الشئ من أعلى إلى أسفل ولا يرد عليه قوله : ' 39 :6 ' " وأنزل لكم من الأنعام ثمانية أزواج" لأنا نقول : إن الذي أنزلها فوق سماواته . فأنزلها لنا بأمره . قال ابن القيم رحمه الله : وذكر التنزيل مضافًا إلى ربوبيته للعالمين المستلزمة لملكه لها وتصرفه فيهم ، وحكمه عليهم ، وإحسانه إليهم ، وإنعامه عليهم ، وأن من هذا شأنه مع الخلق كيف يليق به مع ربوبيته التامة أن يتكرهم سدى ، ويدعهم هملًا ، ويخلقهم عبثًا . لا يأمرهم ولا ينهاهم ولا يثيبهم ولا يعاقبهم ؟ فمن أقر بأنه رب العالمين أقر بأن القرآن تنزيله على رسوله . واستدل بكونه رب العالمين على ثبوت رسالة رسوله وصحة ما جاء به ، وهذا الاستدلال أقوى وأشرف من الاستدلال بالمعجزات والخوارق . وإن كانت دلالتها أقرب إلى أذهان عموم الناس . وذلك إنما تكون لخواص العقلاء . قوله : " أفبهذا الحديث أنتم مدهنون " قال مجاهد : أتريدون أن تمالئوهم فيه وتركنوا إليهم ؟ . قال ابن القيم رحمه الله تعالى : ثم وبخهم على وضعهم الإدهان في غير موضعه ، وأنهم يداهنون فيما حقه أن يصدع به ويعرف به ، ويعض عليه بالنواجذ ، وتثني عليه الخناصر ، وتعقد عليه القلوب والأفئدة ، ويحارب ويسالم لأجله ، ولا يلتوى عنه يمنة ولا يسرة ، ولا يكون للقلب التفات إلى غيره ، ولا محاكمة إلا إليه ، ولا مخاصمة إلا به ، ولا اهتداء في طرق المطالب العالية إلا بنوره، ولا شفاء إلا به ، فهو روح الوجود ، وحياة العالم ، ومدار السعادة ، وقائد الفلاح ، وطريق النجاة ، وسبيل الرشاد، ونور البصائر. فكيف تطلب المداهنة بما هذا شأنه ، ولم ينزل للمداهنة ، وإنما نزل بالحق وللحق ، والمداهنة إنما تكون في باطل قوى لا تمكن إزالته ، أو في حق ضعيف لا تمكن إقامته ، فيحتاج المداهن إلى أن يترك بعض الحق ويلتزم بعض الباطل ، فأما الحق الذي قام به كل حق فكيف يداهن به ؟ قوله : " وتجعلون رزقكم أنكم تكذبون " تقدم الكلام عليها أول الباب ، والله تعالى أعلم .

ومن الناس من يتخذ من دون الله أندادًا قوله : باب

قول الله تعالى : ' 2 : 165 ' " ومن الناس من يتخذ من دون الله أندادًا يحبونهم كحب الله "  .

لما كانت محبته سبحانه هي أصل دين الإسلام الذي يدور عليه قطب رحاه ، فبكمالها يكمل ، وبنقصها ينقص توحيد الإنسان ، نبه المصنف على ذلك بهذه الترجمة . قوله تعالى : " ومن الناس من يتخذ من دون الله أندادا " الآية . قال في شرح المنازل : أخبر تعالى أن من أحب من دون الله شيئًا كما يحب الله تعالى فهو ممن اتخذ من دون الله أندادًا ، فهذا ند في المحبة لا في الخلق والربوبية ، فإن أحدًا من أهل الأرض لا يثبت هذا الند ، بخلاف ند المحبة . فإن أكثر أهل الأرض قد اتخذوا من دون الله أندادًا في الحب والتعظيم. ثم قال تعالى: " يحبونهم كحب الله " وفي تقدير الآية قولان : أحدهما : والذين آمنوا أشد حبًا لله من أصحاب الأنداد لأندادهم وآلهتهم التي يحبونها ويعظمونها من دون الله . وروى ابن جرير عن مجاهد في قوله تعالى : " يحبونهم كحب الله " مباهاة ومضاهاة للحق بالأنداد " والذين آمنوا أشد حبًا لله" من الكفار لأوثانهم . ثم روى عن ابن زيد قال : هؤلاء المشركون أندادهم آلهتهم التي عبدوا مع الله يحبونهم كما يحب الذين آمنوا الله ، والذين آمنوا أشد حبًا لله من حبهم آلهتهم . انتهى . والثاني : والذين آمنوا أشد حبًا لله من المشركين بالأنداد لله ، فإن محبة المؤمنين خالصة ، ومحبة أصحاب الأنداد قد ذهبت أندادهم بقسط منها ، والمحبة الخالصة أشد من المشتركة . والقولان مرتبان على القولين في قوله تعالى : " يحبونهم كحب الله " فإن فيها قولين أيضًا : أحدهما : يحبونهم كما يحبون الله . فيكون قد أثبت لهم محبة الله . ولكنها محبة أشركوا فيها مع الله تعالى أندادهم . والثاني : أن المعنى يحبون أندادهم كما يحب المؤمنون الله ، ثم بين تعالى أن محبة المؤمنين لله أشد من محبة أصحاب الأنداد لأندادهم . وكان شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله يرجح القول الأول ويقول : إنما ذموا بأن شركوا بين الله وبين أندادهم في المحبة ولم يخلصوها لله كمحبة المؤمنين له ، وهذه التسوية المذكورة في قوله تعالى حكاية عنهم ، وهم في النار أنهم يقولون لآلهتهم وأندادهم وهي محضرة معهم في العذاب ' 26 : 97 ، 98 ' " تالله إن كنا لفي ضلال مبين * إذ نسويكم برب العالمين " ومعلوم أنهم ما سووهم برب العالمين في الخلق والربوبية وإنما سووهم به في المحبة والتعظيم، وهذا أيضًا هو العدل المذكور في قوله تعالى : ' 6 : 1 ' " الحمد لله الذي خلق السموات والأرض وجعل الظلمات والنور ثم الذين كفروا بربهم يعدلون " به غيره في العبادة التي هي المحبة والتعظيم . وقال تعالى : ' 3 : 31 ' " قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله " وهذه تسمى آية المحنة . قال بعض السلف : ادعى قوم محبة الله فأنزل الله تعالى آية المحنة : " قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله " إشارة إلى دليل المحبة وثمرتها وفائدتها ، فدليلها وعلامتها : اتباع الرسول وفائدتها وثمرتها ، محبة المرسل لكم ، فما لم تحصل منكم المتابعة فمحبتكم له غير حاصلة ، ومحبته لكم منتفية . وقال تعالى : ' 5 : 54 ' " يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم " ذكر لها أربع علامات : إحداهما : أنهم أذلة على المؤمنين ، قيل : معناه أرقاء رحماء مشفقين عاطفين عليهم ، فلما ضمن أذلة هذا المعنى عداه بأداة على. قال عطاء رحمه الله : للمؤمنين كالولد لوالده وكالعبد لسيده ، وعلى الكافرين كالأسد على فريسته ، " أشداء على الكفار رحماء بينهم " . العلامة الثالثة : الجهاد في سبيل الله بالنفس واليد والمال واللسان . وذلك تحقيق دعوى المحبة . العلامة الرابعة : إنهم لا تأخذهم في الله لومة لائم . وهذه علامة صحة المحبة . فكل محب أخذه اللوم على محبوبه فليس بمحب على الحقيقة . وقال تعالى : ' 17 : 57 ' " أولئك الذين يدعون يبتغون إلى ربهم الوسيلة أيهم أقرب ويرجون رحمته ويخافون عذابه " فذكر المقامات الثلاثة : الحب . وهو ابتغاء القرب إليه ، والتوسل إليه بالأعمال الصالحة . والرجاء والخوف يدل على أن ابتغاء الوسيلة أمر زائد على رجاء الرحمة وخوف العذاب ، ومن المعلوم قطعًا أنه لا يتنافس إلا في قرب من يحب قربه ، وحب قربه تبع لمحبة ذاته ، بل محبة ذاته أوجبت محبة القرب منه . وعند الجهمية والمعطلة : ما من ذلك كله شئ فإنه عندهم لا تقرب ذاته من شئ ، ولا يقرب من ذاته شئ ، ولا يحب ، فأنكروا حياة القلوب ، ونعيم الأرواح وبهجة النفوس ، وقرة العيون وأعلى نعيم الدنيا والآخرة . ولذلك ضربت قلوبهم بالقسوة وضرب دونهم ودون الله حجاب على معرفته ومحبته، فلا يعرفونه ولا يحبونه ولا يذكرونه إلى عند تعطيل أسمائه وصفاته، فذكرهم أعظم آثامهم وأوزارهم ، بل يعاقبون من يذكره بأسمائه وصفاته ونعوت جلاله ويرمونهم بالأدواء التي هم أحق بها وأهلها . وحسب ذي البصيرة وحياة القلب ما يرى على كلامهم من القسوة والمقت والتنفير عن محبة الله تعالى ومعرفته وتوحيده والله المستعان . وقال رحمه الله تعالى أيضًا : لا تحد المحبة بحد أوضح منها ، فالحدود لا تزيدها إلا خفاء. فحدها وجودها ولا توصف المحبة بوصف أظهر من المحبة ، وإنما يتكلم الناس في أسبابها وموجباتها وعلاماتها وشواهدها وثمراتها وأحكامها . وأجمع ما قيل في ذلك : ما ذكره أبو بكر الكتاني عن الجنيد .

محبة الله قال أبو بكر : جرت مسألة في المحبة بمكة ـ أعزها الله في أيام الموسم ـ فتكلم الشيوخ فيها ، وكان الجنيد أصغرهم سنًا ، فقالوا : هات ما عندك يا عراقي ، فأطرق رأسه ودمعت عيناه ، ثم قال : عبد ذاهب عن نفسه ، متصل بذكر ربه ، قائم بأداء حقوقه ، ناظر إليه بقلبه ، أحرق قلبه أنوار هيبته ، وصفا شرابه من كأس مودته ، وانكشف له الحياء من أستار غيبه ، فإن تكلم فبالله ، وإن نطق فعن الله ، وإن تحرك فبأمر الله ، وإن سكن فمع الله ، فهو لله وبالله ومع الله . فبكى الشيوخ وقالوا: ما على هذا مزيد ، جبرك الله يا تاج العارفين . وذكر رحمه الله تعالى : أن الأسباب الجالبة للمحبة عشرة : أحدهما : قراءة القرآن بالتدبر والتفهم لمعانيه وما أريد به . الثاني : التقرب إلى الله تعالى بالنوافل بعد الفرائض . الثالث : دوام ذكره على كل حال باللسان والقلب والعمل والحال فنصيبه من المحبة على قدر هذا . الرابع : إيثار محابه على محابك عند غلبات الهوى . الخامس : مطالعة القلب لأسمائه ومشاهدتها وتقلبه في رياض هذه المعرفة وميادينها . السادس : مشاهدة بره وإحسانه ونعمه الظاهرة والباطنة . السابع : وهو أعجبها ـ إنكسار القلب بين يديه . الثامن : الخلوة وقت النزول الإلهي وتلاوة كتابه ثم ختم ذلك بالاستغفار والتوبة . التاسع : مجالسة المحبين الصادقين ، والتقاط أطايب ثمرات كلامهم ، ولا تتكلم إلا إذا ترجحت مصلحة الكلام وعلمت أن فيه مزيدًا لحالك ومنفعة لغيرك . العاشرة : مباعدة كل سبب يحول بين القلب وبين الله عز وجل . فمن هذه الأسباب العشرة وصل المحبون إلى منازل المحبة ودخلوا على الحبيب . قوله : وقول الله تعالى : ' 9 : 24 ' " قل إن كان آباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم وأموال اقترفتموها وتجارة تخشون كسادها ومساكن ترضونها أحب إليكم من الله ورسوله وجهاد في سبيله فتربصوا حتى يأتي الله بأمره والله لا يهدي القوم الفاسقين " . أمر الله نبيه أن يتوعد من أحب أهله وماله وعشيرته وتجارته ومسكنه فآثارها ، أو بعضها على فعل ما أوجبه الله عليه من الأعمال التي يحبها الله تعالى ويرضاها ، كالهجرة والجهاد ونحو ذلك . قال العماد ابن كثير رحمه الله تعالى : أي إن كانت هذه الأشياء " أحب إليكم من الله ورسوله وجهاد في سبيله فتربصوا " أي انتظروا ما يحل بكم من عقابه . روى الإمام أحمد وأبو داود ـ واللفظ له ـ من حديث أبي عبد الرحمن السلمي عن عطاء الخراساني عن نافع عن ابن عمر رضي الله عنهما قال : سمعت رسول الله يقول:" إذا تبايعتم بالعينة ، وأخذتم أذناب البقر ، ورضيتهم بالزرع ، وتركتم الجهاد، سلط الله عليكم ذلًا لا ينزعه عنكم حتى تراجعوا دينكم " . فلا بد من إيثار ما أحبه الله من عبده وأراده على ما يحبه العبد ويريده ، فيحب ما يحبه الله ويبغض ما يبغضه ، ويوالي فيه ويعادي فيه ويتابع رسوله كما تقدم في آية المحنة ونظائرها .

محبة النبي قوله : وعن أنس رضي الله عنه : أن رسول الله قال : " لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين " أخرجاه أي البخاري ومسلم . قوله : لا يؤمن أحدكم أي الإيمان الواجب ، والمراد كماله ، حتى يكون الرسول أحب إلى العبد من ولده ووالده والناس أجمعين ، بل ولا يحصل هذا الكمال إلا بأن يكون الرسول أحب إليه من نفسه ، كما في الحديث : " أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال : يا رسول الله لأنت أحب إلي من كل شئ إلا من نفسي . فقال : والذي نفسي بيده حتى أكون أحب إليك من نفسك ، فقال له عمر : فإنك الآن أحب إلي من نفسي ، فقال : الآن يا عمر " رواه البخاري . فمن قال : إن المنفي هو الكمال ، فإن أراد الكمال الواجب الذي يذم تاركه ويعرض للعقوبة فقد صدق ، وإن أراد أن المنفي الكمال المستحب ، فهذا لم يقع قط في كلام الله ورسوله . قاله شيخ الإسلام رحمه الله . فمن ادعى محبة النبي بدون متابعة وتقديم قوله على قول غيره فقد كذب كما قال تعالى : ' 24 : 47 ' " ويقولون آمنا بالله وبالرسول وأطعنا ثم يتولى فريق منهم من بعد ذلك وما أولئك بالمؤمنين " فنفى الإيمان عمن تولى عن طاعة الرسول ، لكن كل مسلم يكون محبًا بقدر ما معه من الإسلام وكل مسلم لا بد أن يكون مؤمنًا وإن لم يكن مؤمنًا الإيمان المطلق . لأن ذلك لايحصل إلا لخواص المؤمنين . قال شيخ الإسلام رحمه الله : وعامة الناس إذا أسلموا بعد كفر ، أو ولدوا على الإسلام والتزموا شرائعه وكانوا من أهل الطاعة لله ورسوله . فهم مسلمون ومعهم إيمان مجمل ، لكن دخول حقيقة الإيمان إلى قلوبهم يحصل شيئًا فشيئًا إن أعطاهم الله ذلك ، وإلا فكثير من الناس لا يصلون إلى اليقين ولا إلى الجهاد ، ولو شككوا لشكوا ، ولو أمروا بالجهاد لما جاهدوا . إذ ليس عندهم من علم اليقين ما يدرأ الريب ، ولا عندهم من قوة الحب لله ورسوله ما يقدمونه على الأهل والمال ، فهؤلاء إن عرفوا من المحنة ماتوا ودخلوا الجنة ، وإن ابتلوا بمن يدخل عليهم شبهات توجب ريبهم فإن لم ينعم الله عليهم بما يزيل الريب وإلا صاروا مرتابين ، وانتقلوا إلى نوع من النفاق . انتهى . وفي هذا الحديث : أن الأعمال من الإيمان . لأن المحبة عمل القلب . وفيه : أن محبة الرسول واجبة تابعة لمحبة الله لازمة لها ، فإنها لله ولأجله ، تزيد بزيادة محبة الله في قلب المؤمن وتنقص بنقصها ، وكل من كان محبًا لله فإنما يحب في الله ولأجله كما يحب الإيمان والعمل الصالح . وهذه المحبة ليس فيها شئ من شوائب الشرك كالاعتماد عليه ورجائه في حصول مرغوب منه أو دفع مرهوب منه . وما كان فيها ذلك فمحبته مع الله لما فيها من التعلق على غيره والرغبة إليه من دون الله ، فبهذا يحصل التمييز بين المحبة في الله ولأجله ، التي هي من كمال التوحيد ، وبين المحبة مع الله التي هي محبة الأنداد من دون الله لما يتعلق في قلوب المشركين من الإلهية التي لا تجوز إلا لله وحده . قوله : ولهما عنه ـ أي البخاري ومسلم ، عن أنس رضي الله عنه ـ قال : قال رسول الله  : " ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان : أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما ، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله ، وأن يكره أن يعود في الكفر بعد إذ أنقذه الله منه كما يكره أن يقذف بالنار " وفي رواية : لا يجد أحد حلاوة الإيمان حتى يحب المرء لا يحبه إلا لله ... إلخ . قوله : ثلاث أي ثلاث خصال . قوله : من كن فيه أي وجدت فيه تامة . قوله : وجد بهن حلاوة الإيمان الحلاوة هنا هي التي يعبر عنها بالذوق لما يحصل به من لذة القلب ونعيمه وسروره وغذائه ، وهي شئ محسوس يجده أهل الإيمان في قلوبهم . قال السيوطي رحمه الله في التوشيح : وجد حلاوة الإيمان فيه استعارة تخييلية . شبه رغبة المؤمن في الإيمان بشئ حلو، وأثبت له لازم ذلك الشئ ، وأضافه إليه . وقال النووي: معنى حلاوة الإيمان استلذاذ الطاعات وتحمل المشاق وإيثار ذلك على أغراض الدنيا ، ومحبة العبد لله بفعل طاعته وترك مخالفته . وكذلك الرسول . قال يحيى بن معاذ : حقيقة الحب في الله : أن لا يزيد بالبر ولا ينقص بالجفاء . قوله : أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما يعني بالسوى : ما يحبه الإنسان بطبعه ، كمحبة الولد والمال والأزواج ونحوها . فتكون أحب هنا على بابها . وقال الخطابي : المراد بالمحبة هنا حب الاختيار لا حب الطبع كذا قال . وأما المحبة الشركية التي قد تقدم بيانها فقليلها وكثيرها ينافي محبة الله ورسوله وفي بعض الأحاديث :"أحبوا الله بكل قلوبكم" فمن علامات محبة الله ورسوله : أن يحب ما يحبه الله ويكره ما يكرهه الله ، ويؤثر مرضاته على ما سواه ، ويسعى في مرضاته ما استطاع ، ويبعد عما حرمه الله ويكرهه أشد الكراهة ، ويتابع رسوله ويمتثل أمره ويترك نهيه ، كما قال تعالى : ' 4 : 80 ' " من يطع الرسول فقد أطاع الله " فمن آثر أمر غيره على أمره وخالف ما نهى عنه ، فذلك أحب الله وأطاعه أحب الرسول وأطاعه . ومن لا فلا ، كما في آية المحنة ، ونظائرها . والله المستعان . قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى : أخبر النبي أن هذه الثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان . لأن وجود الحلاوة للشئ يتبع المحبة له فمن أحب شيئًا واشتهاه ، إذا حصل له مراده فإنه يجد الحلاوة واللذة والسرور بذلك ، واللذة أمر يحصل عقيب إدراك الملائم الذي هو المحبوب أو المشتهى . قال : فحلاوة الإيمان المتضمنة للذة والفرح تتبع كمال محبة العبد لله . وذلك بثلاثة أمور : تكميل هذه المحبة وتفريغها ، ودفع ضدها . فتكميلها أن يكون الله ورسوله أحب إلى العبد مما سواهما ، فإن محبة الله ورسوله لا يكتفى فيها بأصل الحب ، بل أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما . قلت : ومحبة الله تعالى تستلزم محبة طاعته ، فإنه يحب من عبده أن يطيعه . والمحب يحب ما يحبه محبوبه ولا بد . ومن لوازم محبة الله أيضًا : محبة أهل طاعته ، كمحبة أنبيائه ورسله والصالحين من عباده . فمحبة ما يحبه الله ومن يحبه الله من كمال الإيمان ، كما في حديث ابن عباس الآتي . قال : وتفريغها . أن يحب المرء لا يحبه إلا لله ، قال : ودفع ضدها أن يكره ضد الإيمان كما يكره أن يقذف في النار . انتهى . قوله : أحب إليه مما سواهما فيه جمع ضمير الله تعالى وضمير رسوله وفيه قولان : أحدهما : أنه ثنى الضمير هنا إيماء إلى أن المعتبر هو المجموع المركب من المحبتين ، لا كل واحدة فإنها وحدها لاغية . وأمر بالإفراد في حديث الخطيب إشعارًا بأن كل واحد من العصيانين مستقل باستلزام الغواية إذ العطف في تقدير التكرير ، والأصل استقلال كل من المعطوفين في الحكم . الثاني : حمل حديث الخطيب على الأدب والأولى ، وهذا هو الجواز . وجواب ثالث : وهو أن هذا وارد على الأصل ، وحديث الخطيب ناقل فيكون أرجح . قوله : كما يكره أن يقذف في النار أي يستوى عنده الأمران . وفيه رد على الغلاة الذين يتوهمون أن صدور الذنب من العبد نقص في حقه مطلقًا وإن تاب منه . والصواب : أنه إن لم يتب كان نقصًا وإن تاب فلا ، ولهذا كان المهاجرون والأنصار رضي الله عنهم أفضل هذه الأمة مع كونهم في الأصل كفارًا فهداهم الله إلى الإسلام ، والإسلام يمحو ما قبله ، وكذلك الهجرة . كما صح الحديث بذلك . قوله : وفي رواية : لا يجد أحد هذه الرواية أخرجها البخاري في الأدب من صحيحه . ولفظها : لا يجد أحد حلاوة الإيمان حتى يحب المرء لا يحبه إلى لله ، وحتى أن يقذف في النار أحب إليه من أن يرجع إلى الكفر بعد إذ أنقذه الله منه ، وحتى يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما . وقد تقدم أن المحبة هنا عبارة عما يجده المؤمن من اللذة والبهجة والسرور والإجلال والهيبة ولوازم ذلك ، قال الشاعر : أهابك إجلالًا . وما بك قدرة على ، ولكن ملء عين حبيبها

من أحب الله أبغض في الله ووالى في الله قوله : وعن ابن عباس رضي الله عنهما : "من أحب في الله ، وأبغض في الله ، ووالى في الله ، وعادى في الله ، فإنما تنال ولاية الله بذلك ، ولن يجد عبد طعم الإيمان وإن كثرت صلاته وصومه حتى يكون كذلك . وقد صارت عامة مؤاخاة الناس على أمر الدنيا ، وذلك لا يجدي على أهله شيئًا " رواه ابن جرير . وأخرج ابن أبي شيبة وابن أبي حاتم الجملة الأولى منه فقط .

قوله :  ومن أحب في الله  أي أحب أهل الإيمان بالله وطاعته من أجل ذلك . 

قوله : وأبغض في الله أي أبغض من كفر بالله وأشرك به وفسق عن طاعته لأجل ما فعلوه مما يسخط الله وإن كانوا أقرب الناس إليه ، كما قال تعالى : ' 58 : 22 ' " لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله " الآية . قوله : ووالى في الله هذا والذي قبله من لوازم محبة العبد لله تعالى ، فمن أحب فيه ، ووالى أولياءه ، وعادى أهل معصيته وأبغضهم ، وجاهد أعداءه ونصر أنصاره . وكلما قويت محبة العبد لله في قلبه قويت هذه الأعمال المترتبة عليها ، وبكمالها يكمل توحيد العبد ، ويكون ضعفها على قدر ضعف محبة العبد لربه ، فمقل ومستكثر ومحروم . قوله : فإنما تنال ولاية الله بذلك أي توليه لعبده . و ولاية بفتح الواو لا غير : أي الأخوة والمحبة والنصرة ، وبالكسر الإمارة ، والمراد هنا الأول . ولأحمد والطبراني عن النبي قال : " لا يجد العبد صريح الإيمان حتى يحب لله ويبغض لله . فإذا أحب لله وأبغض لله ، فقد استحق الولاية لله " وفي حديث آخر : " أوثق عري الإيمان الحب في الله ، والبغض في الله عز وجل " رواه الطبراني . قوله : ولن يجد عبد طعم الإيمان إلى آخره . أي لا يحصل له ذوق الإيمان ولذته وسروره وإن كثرت صلاته وصومه ، حتى يكون كذلك ، أي حتى يحب في الله ويبغض في الله ، ويعادي في الله ، ويوالي فيه . وفي حديث أبي أمامة مرفوعًا : " من أحب الله وأبغض لله وأعطى لله ومنع لله فقد استكمل الإيمان " رواه أبو داود . قوله : وقد صارت عامة مؤاخاة الناس على أمر الدنيا . وذلك لا يجدي على أهله شيئًا أي لا ينفعهم ، بل يضرهم كما قال تعالى : ' 43 ، 67 ' " الأخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدو إلا المتقين " فإذا كانت البلوى قد عمت بهذا في زمن ابن عباس خير القرون فما زاد الأمر بعد ذلك إلا شدة ، حتى وقعت الموالاة على الشرك والبدع والفسوق والعصيان . وقد وقع ما أخبر به بقوله : " بدأ الإسلام غريبًا وسيعود غريبًا كما بدأ " . وقد كان الصحابة رضي الله عنهم من المهاجرين والأنصار في عهد نبيهم وعهد أبي بكر وعمر رضي الله عنهما يؤثر بعضهم بعضًا على نفسه محبة في الله وتقربًا إليه ، كما قال تعالى : ' 59 : 9 ' " ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة " وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال : لقد رأيتنا على عهد رسول الله وما منا أحد يرى أنه أحق بديناره ودرهمه من أخيه المسلم رواه ابن ماجه . قوله : وقال ابن عباس في قوله تعالى : ' 2 : 166 ' " وتقطعت بهم الأسباب " قال : المودة هذا الأثر رواه عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم وصححه . قوله : قال المودة أي التي كانت بينهم في الدنيا خانتهم أحوج ما كانوا إليها ، وتبرأ بعضهم من بعض ، كما قال تعالى : ' 29 : 25 ' " وقال إنما اتخذتم من دون الله أوثانًا مودة بينكم في الحياة الدنيا ثم يوم القيامة يكفر بعضكم ببعض ويلعن بعضكم بعضًا ومأواكم النار وما لكم من ناصرين " . قال العامة ابن القيم في قوله تعالى : ' 2 : 166 ، 167 ' " إذ تبرأ الذين اتبعوا من الذين اتبعوا ورأوا العذاب " الآيتين فهؤلاء المتبوعون كانوا على الهدى وأتباعهم ادعوا أنهم على طريقهم ومناهجهم ، وهم مخالفون لهم سالكون غير طريقهم ، ويزعمون أن محبتهم لهم تنفعهم مع مخالفتهم ، فيتبرآون منهم يوم القيامة فإنهم اتخذوهم أولياء من دون الله . وهذا حال كل من اتخذ من دون الله أولياء ، يوالي لهم ، ويعادي لهم ، ويرضى لهم ، ويغضب لهم ، فإن أعماله كلها باطلة ، يراها يوم القيامة حسرات عليه مع كثرتها وشدة تعبه فيها ونصبه ، إذ لم يجرد موالاته ومعاداته وحبه وبغضه وإنتصاره وإيثاره لله ورسوله ، فأبطل الله عز وجل ذلك العمل كله . وقطع تلك الأسباب . فينقطع يوم القيامة كل سبب وصلة ووسيلة ومودة كانت لغير الله ، ولا يبقى إلا السبب الواصل بين العبد وربه . وهو حظه من الهجرة إليه وإلى رسوله وتجريده عبادته لله وحده ولوازمها : من الحب والبغض ، والعطاء والمنع ، والموالاة والمعاداة ، والتقرب والإبعاد ، وتجريد ومتابعة رسول الله تجريدًا محضًا بريئًا من شوائب الالتفات إلى غيره ، فضلًا عن الشرك بينه وبين غيره ، فضلًا عن تقديم قول غيره عليه . فهذا السبب هو الذي لا ينقطع بصاحبه . وهذه هي النسبة التي بين العبد وربه ، وهي نسبة العبودية المحضة ، وهي آخيته التي يجول ما يجول وإليها مرجعه ، ولا تتحقق إلا بتجريده متابعة الرسل صلوات الله وسلامه عليهم ، إذ هذه العبودية إنما جاءت على ألسنتهم ، وما عرفت إلا بهم ولا سبيل إليها إلا بمتابعتهم . وقد قال تعالى : ' 25 : 23 ' " وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباءً منثورًا " فهذه هي الأعمال التي كانت في الدنيا على غير سنة رسله وطريقتهم ولغير وجهه ، يجعلها الله هباءً منثورًا لا ينتفع منها صحابها بشئ أصلًا . وهذا من أعظم الحسرات على العبد يوم القيامة : أن يرى سعيه ضائعًا . وقد سعد أهل السعي النافع بسعيهم . انتهى ملخصًا .

قول الله : إنما ذلكم الشيطان يخوف أولياءه قوله : باب

قول الله تعالى : ' 3 : 175 ' " إنما ذلكم الشيطان يخوف أولياءه فلا تخافوهم وخافون إن كنتم مؤمنين " .

الخوف من أفضل مقامات الدين وأجلها ، وأجمع أنواع العبادة التي يجب إخلاصها لله تعالى . قال تعالى : ' 21 : 28 ' " وهم من خشيته مشفقون " وقال تعالى : ' 16 : 50 ' " يخافون ربهم من فوقهم " وقال تعالى : ' 55 : 46 ' " ولمن خاف مقام ربه جنتان " وقال تعالى : ' 16 : 51 ' " فإياي فارهبون " وقال تعالى : ' 5 : 44 ' " فلا تخشوا الناس واخشون " وأمثال هذه الآيات في القرآن كثير .

أقسام الخوف والخوف من حيث هو على ثلاثة أقسام : أحدها : خوف السر ، وهو أن يخاف من غير الله من وثن أو طاغوت أن يصيبه بما يكره ، كما قال تعالى عن قوم هود عليه السلام إنهم قالوا له : ' 11 : 54 ' " إن نقول إلا اعتراك بعض آلهتنا بسوء قال إني أشهد الله واشهدوا أني بريء مما تشركون * من دونه فكيدوني جميعا ثم لا تنظرون " وقال تعالى : ' 39 : 36 ' " ويخوفونك بالذين من دونه " وهذا هو الواقع من عباد القبور ونحوها من الأوثان يخافونها ، ويخوفون بها أهل التوحيد إذا أنكروا عبادتها وأمروا بإخلاص العبادة لله ، وهذا ينافي التوحيد . الثاني : أن يترك الإنسان ما يجب عليه ، خوفًا من بعض الناس ، فهذا محرم وهو نوع من الشرك بالله المنافى لكمال التوحيد . وهذا هو سبب نزول هذه الآية . كما قال تعالى : ' 3 : 173 ـ 175 ' " الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيمانا وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل * فانقلبوا بنعمة من الله وفضل لم يمسسهم سوء واتبعوا رضوان الله والله ذو فضل عظيم* إنما ذلكم الشيطان يخوف أولياءه " الآية . وفي الحديث : " إن الله تعالى يقول للعبد يوم القيامة : ما منعك إذ رأيت المنكر أن لا تغيره ؟ فيقول : رب خشية الناس . فيقول : إباي كنت أحق أن تخشى " . الثالث : الخوف الطبيعي ، وهو الخوف من عدو أو سبع أو غير ذلك . فهذا لا يذم . كما قال تعالى في قصة موسى عليه السلام : '28 : 21 ' " فخرج منها خائفا يترقب " الآية . ومعنى قوله : " إنما ذلكم الشيطان يخوف أولياءه " أي يخوفكم أولياءه " فلا تخافوهم وخافون " وهذا نهى من الله تعالى للمؤمنين أن يخافوا غيره ، وأمر لهم أن يقصروا خوفهم على الله ، فلا يخافون إلا إياه . وهذا هو الإخلاص الذي أمر به عباده ورضيه منهم . فإذا أخلصوا له الخوف وجميع العبادة أعطاهم ما يرجون وأمنهم من مخاوف الدنيا والآخرة ، كما قال تعالى : ' 39 : 36 ' " أليس الله بكاف عبده ويخوفونك بالذين من دونه " الآية . قال العلامة ابن القيم رحمه الله تعالى : ومن كيد عدو الله : أنه يخوف المؤمنين من جنده وأوليائه ، لئلا يجاهدوهم ، لا يأمروهم بمعروف ، ولا ينهوم عن منكر . وأخبر تعالى أن هذا من كيد الشيطان وتخويفه . ونهانا أن نخافهم . قال : والمعنى عند جميع المفسرين : يخوفهم بأوليائه . قال قتادة : يعظمهم في صدوركم . فكلما قوى إيمان العبد زال خوف أولياء الشيطان من قلبه ، وكلما ضعف إيمانه قوى خوفه منهم . فدلت هذه الآية على أن إخلاص الخوف من كمال شروط الإيمان .

" إنما يعمر مساجد الله " الآية قوله : وقول الله تعالى : ' 9 : 18 ' " إنما يعمر مساجد الله من آمن بالله واليوم الآخر وأقام الصلاة وآتى الزكاة ولم يخش إلا الله فعسى أولئك أن يكونوا من المهتدين " . أخبر تعالى أن مساجد الله لا يعمرها إلا أهل الإيمان بالله واليوم الآخر ، الذين آمنوا بقلوبهم وعملوا بجوارحهم ، وأخلصوا له الخشية دون من سواه ، فأثبت لهم عمارة المساجد بعد أن نفاها عن المشركين . لأن عمارة المساجد بالطاعة والعمل الصالح ، والمشرك وإن عمل فعمله : ' 24 : 30 ' " كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئا " أو ' 14 : 18 ' " كرماد اشتدت به الريح في يوم عاصف " وما كان كذلك فالعدم خير منه ، فلا تكون المساجد عامرة إلا بالإيمان الذي معظمه التوحيد مع العمل الصالح الخالص من شوائب الشرك والبدع ، وذلك كله داخل في مسمى الإيمان المطلق عند أهل السنة والإجماع . قوله : " ولم يخش إلا الله " قال ابن عطية : يريد خشية التعظيم والعبادة والطاعة ، ولا محالة أن الإنسان يخشى المحاذير الدنيوية ، وينبغي في ذلك كله قضاء الله وتصريفه . وقال ابن القيم رحمه الله : الخوف عبودية القلب . فلا يصلح إلا لله ، كالذل والإنابة والمحبة والتوكل والرجاء وغيرها من عبودية القلب . قوله : " فعسى أولئك أن يكونوا من المهتدين " قال بن أبي طلحة عن ابن عباس رضي الله عنهما : يقول : إن أولئك هم المهتدون ، وكل عسى في القرآن فهي واجبة وفي الحديث : " إذا رأيتم الرجل يعتاد المسجد فاشهدوا له بالإيمان قال الله تعالى : " إنما يعمر مساجد الله من آمن بالله واليوم الآخر " " رواه أحمد والترمذي والحاكم عن أبي سعيد الخدري .

" ومن الناس من يقول آمنا بالله " فإذا أوذي إلخ قوله : ' 29 : 10 ' " ومن الناس من يقول آمنا بالله فإذا أوذي في الله جعل فتنة الناس كعذاب الله " . قال ابن كثير رحمه الله تعالى : يقول تعالى مخبرًا عن صفات قوم من المكذبين يدعون الإيمان بألسنتهم ، ولم يثبت في قلوبهم : أنهم إذا جاءتهم محنة وفتنة في الدنيا اعتقدوا أنها من نقمة الله بهم ، فارتدوا عن الإسلام . قال ابن عباس رضي الله عنهما : يعني فتنة أن يرتد عن دينه إذا أوذي في الله . وقال ابن القيم رحمه الله تعالى : الناس إذا أرسل إليهم الرسل بين أمرين : إما أن يقول أحدهم : آمنا ، وإما أن لا يقول ذلك . بل يستمر على السيئات والكفر ، فمن قال : آمنا امتحنه ربه وابتلاه وفتنه . والفتنة : الإبتلاء والاختبار ، ليتبين الصادق من الكاذب ، ومن لم يقل : آمنا . فلا يحسب أنه يعجر الله ويفوته ويسبقه . فمن آمن بالرسل وأطاعهم عاداه أعداؤهم وآذوه وابتلى بما يؤلمه ، ومن لم يؤمن بهم ولم يطعهم عوقب في الدنيا والآخرة وحصل له ما يؤلمه ، وكان هذا الألم أعظم وأدوم من ألم أتباعهم . فلا بد من حصول الألم لكل نفس ، آمنت أو رغبت عن الإيمان ، لكن المؤمن يحصل له الألم في الدنيا ابتداء ثم تكون له العاقبة في الدنيا والآخرة ، والمعرض عن الإيمان تحصل له اللذة ابتداء ثم يصير في الألم الدائم ، والإنسان لا بد أن يعيش مع الناس ، والناس لهم إرادات وتصورات ، فيطلبون منه أن يوافقهم عليها ، وإن لم يوافقهم آذوه وعذبوه ، وإن وافقهم حصل له العذاب تارة منهم وتارة من غيرهم ، كمن عنده دين وتقي حل بين قوم فجار ظلمة لا يتمكنون من فجورهم وظلمهم إلا بموافقته لهم أو سكوته عنهم ، فإن وافقهم أو سكت عنهم سلم من شرهم في الإبتداء ، ثم يتسلطون عليه بالإهانة والأذى أضعاف ما كان يخافه ابتداء لو أنكر عليهم وخالفهم ، وإن سلم منهم فلا بد أن يهان ويعاقب على يد غيرهم . فالحزم كل الحزم بما قالت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها لمعاوية رضي الله عنه : " من أرضى الله بسخط الناس كفاه الله مؤونة الناس . ومن أرضى الناس بسخط الله لم يغنوا من الله شيئًا ". فمن هداه الله وألهمه رشده ووقاه شر نفسه امتنع من الموافقة على فعل المحرم وصبر على عداوتهم ، ثم تكون له العاقبة في الدنيا والآخرة ، كما كانت للرسل وأتباعهم . ثم أخبر تعالى عن حال الداخل في الإيمان بلا بصيرة وأنه إذا أوذي في الله جعل فتنة الناس له ، وهي أذاهم ونيلهم إياه بالمكروه ، وهو الألم الذي لا بد أن ينال الرسل وأتباعهم ممن خالفهم ، جعل ذلك في فراره منه وتركه السبب الذي يناله به : كعذاب الله الذي فر منه المؤمنون بالإيمان . فالمؤمنون لكمال بصيرتهم فروا من ألم عذاب الله إلى الإيمان ، وتحملوا ما فيه من الألم الزائل المفارق عن قرب . وهذا لضعف بصيرته فر من ألم أعداء الرسل إلى موافقتهم ومتابعتهم ، ففر من ألم عذابهم إلى ألم عذاب الله . فجعل ألم فتنة الناس في الفرار منه بمنزلة عذاب الله . وغبن كل الغبن إذ استجار من الرمضاء بالنار . وفر من ألم ساعة إلى ألم الأبد ، وإذا نصر الله جنده وأولياءه قال : إني كنت معكم ، والله أعلم بما انطوى عليه صدره من النفاق . انتهى . وفي الآية رد على المرجئة والكرامية ، ووجهه : أنه لم ينفع هؤلاء قولهم : آمنا بالله . مع عدم صبرهم على أذى من عاداهم في الله ، فلا ينفع القول والتصديق بدون العمل . فلا يصدق الإيمان الشرعي على الإنسان إلا باجتماع الثلاثة : التصديق بالقلب وعمله ، والقول باللسان ، والعمل بالأركان . وهذا قول أهل السنة والجماعة سلفًا وخلفًا ، والله سبحانه وتعالى أعلم . وفيه الخوف من مداهنة الخلق في الحق . والمعصوم من عصمه الله .

من ضعف اليقين أن ترضى الناس بسخط الله قوله : عن أبي سعيد مرفوعًا : إن من ضعف اليقين أن ترضى الناس بسخط الله ، وأن تحمدهم على رزق الله ، وأن تذمهم على ما لم يؤتك الله ، إن رزق الله لا يجره حرص حريص ، ولا يرده كراهية كاره . هذا الحديث رواه أبو نعيم في الحلية والبيهقي ، وأعله بمحمد بن مروان السدى وقال : ضعيف ، وفيه أيضًا عطية العوفي : ذكره الذهبي الضعفاء والمتروكين ، ومعنى الحديث صحيح ، وتمامه : " وإن الله بحكمته جعل الروح والفرح في الرضى واليقين ، وجعل الهم والحزن في الشك والسخط " . قوله : إن من ضعف اليقين الضعف يضم ويحرك ، ضد القوة ، ضعف ككرم ونصر ، ضعفًا ، وضعفة ، وضعافية ، فهو ضعيف وضعوف وضعفان ، والجمع : ضعاف وضعفاء وضعفة وضعفى ، أو الضعف ـ بالفتح ـ في الرأي وبالضم في البدن ، فهي ضعيفة وضعوف . اليقين كمال الإيمان . قال ابن مسعود : اليقين الإيمان كله ، والصبر نصف الإيمان رواه أبو نعيم الحلية ، والبيهقي في الزهد من حديثه مرفوعًا . قال : ويدخل في ذلك تحقيق الإيمان بالقدر السابق ، كما في حديث ابن عباس مرفوعًا : " فإن استطعت أن تعمل بالرضى في اليقين فافعل ، فإن لم تستطع فإن في الصبر على ما تكره خيرًا كثيرًا " وفي رواية : " قلت يا رسول الله كيف أصنع باليقين ؟ قال : أن تعلم أن ما أصابك لم يكن ليخطئك ، وما أخطأك لم يكن ليصيبك " . قوله : أن ترضى الناس بسخط الله أي تؤثر رضاهم على رضى الله ، وذلك إذا لم يقم بقلبه من إعظام الله وإجلاله وهيبته ما يمنعه من استجلاب رضى المخلوق بما يجلب له سخط خالقه وربه ومليكه الذي يتصرف في القلوب ويفرج الكروب ويغفر الذنوب . وبهذا الاعتبار يدخل في نوع من الشرك . لأنه آثر رضى المخلوق على رضى الله . وتقرب إليه بما يسخط الله . ولا يسلم من هذا إلا من سلمه الله . ووفقه لمعرفته ومعرفة ما يجوز على الله من إثبات صفاته على ما يليق بجلاله ، وتنزيهه تعالى عن كل ما ينافي كماله ، ومعرفة توحيده من ربوبيته وإلهيته وبالله التوفيق . قوله : وأن تحمدهم على رزق الله أي على ما وصل إليك من أيديهم ، بأن تضيفه إليهم وتحمدهم عليه . فإن المتفضل في الحقيقة هو الله وحده الذي قدره لك وأوصله إليك ، وإذا أراد أمرًا قيض له أسبابًا . ولا ينافي هذا حديث : " من لا يشكر الناس لا يشكر الله " لأن شكرهم إنما هو بالدعاء لهم لكون الله ساقه على أيديهم فتدعو لهم أو تكافئهم ، لحديث : " ومن صنع إليكم معروفًا فكافئوه ، فإن لم تجدوا ما تكافئونه فادعوا له حتى تروا أنكم قد كافأتموه " . فإضافة الصنيعة إليهم لكونهم صاروا سببًا في إيصال المعروف إليك ، والذي قدره وساقه هو الله وحده . قوله : وأن تذمهم على ما لم يؤتك الله لأنه لم يقدر لك ما طلبته على أيديهم فلو قدره لك لساقته المقادير إليك . فمن علم أن المتفرد بالعطاء والمنع هو الله وحده وأنه هو الذي يرزق العبد بسبب وبلا سبب ، ومن حيث لا يحتسب ، لم يمدح مخلوقًا على رزق ولم يذمه على منع ، ويفوض أمره إلى الله ، ويعتمد عليه في أمر دينه ودنياه . وقد قرر النبي هذا المعنى بقوله في الحديث : " إن رزق الله لا يجره حرص حريص ولا يرده كراهية كاره " كما قال تعالى : ' 35 : 2 ' " ما يفتح الله للناس من رحمة فلا ممسك لها وما يمسك فلا مرسل له من بعده وهو العزيز الحكيم " . قال شيخ الإسلام رحمه الله : اليقين يتضمن اليقين في القيام بأمر الله وما عدا الله أهل طاعته ، ويتضمن اليقين بقدر الله وخلقه وتدبيره ، فإذا أرضيتهم بسخط الله لم تكن موقنًا لا بوعده ولا برزقه ، فإنه إنما يحمل الإنسان على ذلك إما ميل إلى ما في أيديهم فيترك القيام فيهم بأمر الله لما يرجوه منهم ، وإما ضعف تصديقه بما وعد الله أهل طاعته من النصر والتأييد والثواب في الدنيا والآخرة . فإنك إذا أرضيت الله نصرك ورزقك وكفاك مؤونتهم . وإرضاؤهم بما يسخطه إنما يكون خوفًا منهم ورجاءً لهم وذلك من ضعف اليقين . وإذا لم يقدر لك ما تظن يفعلونه معك فالأمر في ذلك إلى الله لا لهم . فإنه ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن ، فإذا ذممتهم على ما لم يقدر كان ذلك من ضعف يقينك ، فلا تخفهم ولا ترجهم ولا تذمهم من جهة نفسك وهواك ، ولكن من حمده الله ورسوله منهم فهو المحمود ، ومن ذمه الله ورسوله منهم فهو المذموم . ولما قال بعض وفد بني تميم : " أي محمد أعطني . فإن حمدي زين وذمي شين ، قال النبي ذاك الله " ودل الحديث على أن الإيمان يزيد وينقص وأن الأعمال من مسمى الإيمان . قوله : وعن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله قال : " من التمس رضى الله بسخط الناس رضي الله عنه وأرضى عنه الناس ، ومن التمس رضى الناس بسخط الله سخط الله عليه وأسخط عليه الناس " رواه ابن حبان في صحيحه . هذا الحديث رواه ابن حبان بهذا اللفظ ، ورواه الترمذي عن رجل من أهل المدينة قال : كتب معاوية رضي الله عنه إلى عائشة رضي الله عنها : أن اكتبي لي كتابًا توصيني فيه ، ولا تكثري علي ، فكتبت عائشة رضي الله عنها : إلى معاوية ، سلام عليك، أما بعد فإني سمعت رسول الله يقول : " من التمس رضا الله بسخط الناس كفاه الله مؤونة الناس ، ومن التمس رضا الناس بسخط الله وكله الله إلى الناس . والسلام عليك " ورواه أبو نعيم في الحلية . قوله : من التمس أي طلب . قال شيخ الإسلام : وكتبت عائشة إلى معاوية ، وروي أنها رفعته : " من أرضى الله بسخط الناس كفاه الله مؤونة الناس ، ومن أرضى الناس بسخط الله لم يغنوا عنه من الله شيئًا " هذا لفظ المرفوع . ولفظ الموقوف : " من أرضى الله بسخط الناس رضى الله عنه وأرضى عنه الناس ، ومن أرضى الناس بسخط الله عاد حامده من الناس له ذمًا " وهذا من أعظم الفقه في الدين فإن من أرضى الله بسخطهم كان قد اتقاه وكان عبده الصالح ، والله يتولى الصالحين ، والله كاف عبده : ' 65 : 2 ، 3 ' " ومن يتق الله يجعل له مخرجا * ويرزقه من حيث لا يحتسب " . والله يكفيه مؤنة الناس بلا ريب . وأما كون الناس كلهم يرضون عنه قد لا يحصل ذلك ، لكن يرضون عنه إذا سلموا من الأغراض وإذا تبين لهم العاقبة . ومن أرضى الناس بسخط الله لم يغنوا عنه من الله شيئًا كالظالم الذي يعض يديه . وأما كون حامده ينقلب ذامًا ، فهذا يقع كثيرًا ويحصل في العاقبة . فإن العاقبة للتقوى لا تحصل ابتداء عند أهوائهم . ا هـ . وقد أحسن من قال : إذا صح منك الود يا غاية المنى فكل الذي فوق التراب تراب قال ابن رجب رحمه الله : فمن تحقق أن كل مخلوق فوق التراب فهو تراب فكيف يقدم طاعة من هو تراب على طاعة رب الأرباب ؟ أم كيف يرضى التراب بسخط الملك الوهاب ؟ إن هذا لشئ عجاب . وفي الحديث : عقوبة من خاف الناس وآثرهم رضاهم على الله ، وأن العقوبة قد تكون في الدين . عياذًا بالله من ذلك . كما قال تعالى : ' 9 : 78 ' " فأعقبهم نفاقًا في قلوبهم إلى يوم يلقونه بما أخلفوا الله ما وعدوه وبما كانوا يكذبون " .

وعلى الله فتوكلوا إلخ قوله : باب قوله الله تعالى : ' 5 : 23 ' " وعلى الله فتوكلوا إن كنتم مؤمنين " . قال أبو السعادات : يقال : توكل بالأمر . إذا ضمن القيام به ، ووكلت أمري إلى فلان . إذا اعتمدت عليه ، ووكل فلان فلانًا إذا استكفاه أمره ثقة بكفايته ، أو عجزًا عن القيام بأمر نفسه . ا هـ . وأراد المصنف رحمه الله بهذه الترجمة بالآية بيان أن التوكل فريضة يجب إخلاصه لله تعالى ، فإن تقديم المعمول يفيد الحصر . أي وعلى الله فتوكلوا لا على غيره ، فهو من أجمع أنواع العبادة وأعظمها ، لما ينشأ عنه من الأعمال الصالحة ، فإنه إذا اعتمد على الله في جميع أموره الدينية والدنيوية ، دون كل من سواه صح إخلاصه ومعاملته مع الله تعالى ، فهو من أعظم منازل " إياك نعبد وإياك نستعين " فلا يحصل كمال التوحيد بأنواعه الثلاثة إلا بكمال التوكل على الله ، كما في هذه الآية ، وكما قال تعالى : ' 10 : 84 ' " إن كنتم آمنتم بالله فعليه توكلوا إن كنتم مسلمين " وقوله : ' 73 : 9 ' " رب المشرق والمغرب لا إله إلا هو فاتخذه وكيلًا " الآيات في الأمر به كثيرة جدًا . قال الإمام أحمد رحمه الله : التوكل عمل القلب . وقال ابن القيم في معنى الآية المترجم بها : فجعل التوكل على الله شرطًا في الإيمان فدل على إنتفاء الإيمان عند انتفائه ، وفي الآية الآخرى : ' 10 : 84 ' " قال موسى يا قوم إن كنتم آمنتم بالله فعليه توكلوا إن كنتم مسلمين " فجعل دليل صحة الإسلام التوكل ، وكلما قوى إيمان العبد كان توكله أقوى ، وإذا ضعف الإيمان ضعف التوكل وإذا كان التوكل ضعيفًا كان دليلًا على ضعف الإيمان ولا بد . والله تعالى يجمع بين التوكل والعبادة ، وبين التوكل والإيمان ، وبين التوكل والتقوى ، وبين التوكل والإسلام ، وبين التوكل والهداية . فظهر أن التوكل أصل جميع مقامات الإيمان والإحسان ، ولجميع أعمال الإسلام ، وأن منزلته منها كمنزلة الجسد من الرأس ، فكما لا يقوم الرأس إلا على البدن فكذلك لا يقوم الإيمان ومقاماته وأعماله إلا على ساق التوكل . قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى : وما رجا أحد مخلوقًا ولا توكل عليه إلا خاب ظنه فيه ، فإنه مشرك : ' 22 : 31 ' " ومن يشرك بالله فكأنما خر من السماء فتخطفه الطير أو تهوي به الريح في مكان سحيق " . قال الشارح رحمه الله تعالى : قلت : لكن التوكل على الله قسمان : أحدهما : التوكل في الأمور التي لا يقدر الله ، كالذين يتوكلون على الأموات والطواغيت في رجاء مطالبهم من نصر ، أو حفظ أو رزق أو شفاعة . فهذا شرك أكبر . الثاني : التوكل في الأسباب الظاهرة ، كمن يتوكل على أمير أو سلطان فيما أقدره الله تعالى عليه من رزق ، أو دفع أذى ونحو ذلك ، فهو نوع شرك أصغر . والوكالة الجائزة هي توكيل الإنسان الإنسان في فعل ما يقدر عليه نيابة عنه ، لكن ليس له أن يعتمد في حصوله ما وكل فيه ، بل يتوكل على الله في تيسير أمره الذي يطلبه بنفسه أو نائبه ، وذلك من جملة الأسباب التي يجوز فعلها ، ولا يعتمد عليها بل يعتمد على المسبب الذي أوجد السبب والمسبب .

" إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم " قال : وقول الله تعالى : ' 8 : 2 ' " إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم " الآيات . قال ابن عباس في الآية : المنافقون لا يدخل في قلوبهم شئ من ذكر الله عند أداء فرائضه ولا يؤمنون بشئ من آيات الله ، ولا يتوكلون على الله ، ولا يصلون إذا غابوا ، ولا يؤدون زكاة أموالهم ، فأخبر الله أنهم ليسوا بمؤمنين ، ثم وصف المؤمنين فقال : " إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم " فأدوا فرائضه رواه ابن جرير وابن أبي حاتم ، ووجل القلب من الله مستلزم القيام بفعل ما أمر به وترك ما نهى عنه : قال السدى :" الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم" هو الرجل يريد أن يظلم ، أو قال يهم بمعصية ، فيقال له : اتق الله ، فيجل قلبه رواه ابن أبي شيبة وابن جرير . قوله : " وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيمانًا " استدل الصحابة رضي الله عنهم والتابعون ومن تبعهم من أهل السنة بهذه الآية ونظائرها على زيادة الإيمان ونقصانه . قال عمير بن حبيب الصحابي : " إن الإيمان يزيد وينقص ، فقيل له : وما زيادته ونقصانه ؟ قال : إذا ذكرنا الله وخشيناه فذلك زيادته . وإذا غفلنا ونسينا وضيعنا فذلك نقصانه " . رواه ابن سعد . وقال مجاهد : الإيمان يزيد وينقص وهو قول وعمل رواه ابن أبي حاتم . وحكى الإجماع على ذلك الشافعي وأحمد وأبو عبيد وغيرهم رحمهم الله تعالى . قوله : " وعلى ربهم يتوكلون " أي يعتمدون عليه بقلوبهم مفوضين إليه أمورهم فلا يرجون سواه ولا يقصدون إلا إياه ، ولا يرغبون إلا إليه ، يعلمون أن ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن ، وأنه المتصرف في الملك وحده ، والمعبود وحده ، لا شريك له . وفي الآية وصف المؤمنين حقًا بثلاث مقامات من مقامات الإحسان ، وهي : الخوف ، وزياة الإيمان ، والتوكل على الله وحده . وهذه المقامات تقتضي كمال الإيمان وحصول أعماله الباطنة والظاهرة مثال ذلك الصلاة ، فمن أقام الصلاة وحافظ عليها وأدى الزكاة كما أمره الله استلزم ذلك العمل بما يقدر عليه من الواجبات وترك جميع المحرمات ، كما قال تعالى : ' 29 : 45 ' " إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر ولذكر الله أكبر " .

معنى : حسبك الله ومن ابتعك من المؤمنين قال وقوله : ' 8 : 64 ' " يا أيها النبي حسبك الله ومن اتبعك من المؤمنين " قال ابن القيم رحمه الله : أي الله وحده كافيك وكافي أتباعك : فلا تحتاجون معه إلى أحد ، وهذا اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله . وقيل : المعنى حسبك الله وحسبك المؤمنون . قال ابن القيم رحمه الله : وهذا خطأ محض لا يجوز حمل الآية عليه ، فإن الحسب والكفاية لله وحده كالتوكل والتقوى والعبادة . قال الله تعالى : ' 8 : 62 ' " وإن يريدوا أن يخدعوك فإن حسبك الله هو الذي أيدك بنصره وبالمؤمنين " ففرق بين الحسب والتأييد ، فجعل الحسب له وحده وجعل التأييد له بنصره وبعباده ، وأثنى على أهل التوحيد من عباده حيث أفردوه بالحسب ، فقال تعالى : ' 3 : 173 ' " الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيمانًا وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل " ولم يقولوا : حسبنا الله ورسوله . ونظير هذا قوله سبحانه : ' 9 : 59 ' " وقالوا حسبنا الله سيؤتينا الله من فضله ورسوله إنا إلى الله راغبون " . فتأمل كيف جعل الإيتاء لله والرسول ، وجعل الحسب له وحده . فلم يقل : وقالوا حسبنا الله ورسوله ، بل جعله خالص حقه ، كما قال " إنا إلى الله راغبون " فجعل الرغبة إليه وحده، كما قال تعالى "وإلى ربك فارغب" فالرغبة والتوكل والإنابة والحسب لله وحده ، كما أن العبادة والتقوى والسجود والنذر والحلق لا يكون إلا له سبحانه وتعالى . انتهى . وبهذا يتبين مطابقة الآية للترجمة . فإذا كان هو الكافي لعبده وجب ألا يتوكل إلا عليه ، ومتى التفت بقلبه إلى سواه وكله الله إلى من التفت إليه ، كما في الحديث : " من تعلق شيئًا وكل إليه " . قال : وقول الله تعالى : ' 65 : 3 ' " ومن يتوكل على الله فهو حسبه " . قال ابن القيم رحمه الله وغيره : أي كافيه . ومن كان الله كافيه وواقيه فلا مطمع فيه لعدوه ولا يضره إلا أذى لا بد منه ، كالحر والبرد والجوع والعطش . وأما أن يضره بما يبلغ به مراده منه فلا يكون أبدًا ، وفرق بين الأذى الذي هو الظاهر إيذاء وفي الحقيقة إحسان وإضرار بنفسه ، وبين الضرر الذي يتشفى به منه . قال بعض السلف : جعل الله لكل عمل جزاء من نفسه ، وجعل جزاء التوكل عليه نفس كفايته ، فقال : " ومن يتوكل على الله فهو حسبه " فلم يقل : فله كذا وكذا من الأجر كما قال في الأعمال ، بل جعل نفسه سبحانه كافي عبده المتوكل عليه وحسبه وواقيه . فلو توكل العبد على الله حق توكله ، وكادته السموات والأرض ومن فيهن ، لجعل الله له مخرجًا وكفاه رزقه ونصره . انتهى . وفي أثر رواه أحمد في الزهد عن وهب بن منبه قال : " قال الله عز وجل في بعض كتبه : بعزتي إنه من اعتصم بي فكادته السموات بمن فيهن والأرضون بمن فيهن ، فإني أجعل له من ذلك مخرجًا ، ومن لم يعتصم بي فإني أقطع يديه من أسباب السماء وأخسف من تحت قدميه الأرض ، فأجعله في الهواء ثم أكله إلى نفسه . كفى بي لعبدي مآلًا . إذا كان عبدي في طاعتي أعطيه قبل أن يسألني ، وأستجيب له قبل أن يدعوني . فأنا أعلم بحاجته التي نرفق به منه " . وفي الآية دليل على فضل التوكل ، وأنه أعظم الأسباب في جلب المنافع ودفع المضار . لأن الله تعالى علق الجملة الأخيرة على الأولى وتعليق الجزاء على الشرط . فيمتنع أن يكون وجود الشرك كعدمه ، لأنه الله تعالى رتب الحكم على الوصف المناسب له ، فعلم أن توكله هو سبب كون الله حسبًا له . وفيها تنبيه على القيام بالأسباب مع التوكل ، لأنه تعالى ذكر التقوى ثم ذكر التوكل ، كما قال تعالى : ' 5 : 11 ' " واتقوا الله وعلى الله فليتوكل المؤمنون " فجلع التوكل مع التقوى الذي هو قيام الأسباب المأمور بها. فالتوكل بدون القيام بالأسباب المأمور بها عجز محض ، وإن كان مشوبًا بنوع من التوكل فلا ينبغي للعبد أن يجعل توكله عجزًا ولا عجزه توكلًا ، بل يجعل توكله من جملة الأسباب التي لا يتم المقصود إلا بها كلها . ذكره ابن القيم بمعناه . قال : وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال : " حسبنا الله ونعم الوكيل " ، قالها إبراهيم حين ألقي في النار ، وقالها محمد حين قالوا له : " إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيمانًا وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل " رواه البخاري . قوله : حسبنا الله أي كافينا . فلا نتوكل إلا عليه . قال تعالى ' 39 : 36 ' " أليس الله بكاف عبده ؟ " . قوله : ونعم الوكيل أي نعم الموكل إليه ، كما قال تعالى : ' 22 : 78 ' " واعتصموا بالله هو مولاكم فنعم المولى ونعم النصير " ومخصوص نعم محذوف تقديره هو . قال ابن القيم رحمه الله : هو حسب من توكل عليه وكافى من لجأ إليه ، وهو الذي يؤمن خوف الخائف ، ويجير المستجير ، فمن تولاه واستنصر به وتوكل عليه ، وانقطع بكليته إليه ، تولاه وحفظه وحرسه وصانه . ومن خافه واتقاه ، أمنه مما يخاف ويحذر ، ويجلب إليه ما يحتاج إليه من المنافع .

ما قال إبراهيم حين ألقى في النار قوله : قالها إبراهيم حين ألقي في النار قال تعالى : ' 21 : 68 ـ 70 ' " قالوا حرقوه وانصروا آلهتكم إن كنتم فاعلين * قلنا يا نار كوني بردا وسلاما على إبراهيم * وأرادوا به كيدا فجعلناهم الأخسرين " . قوله : وقالها محمد حين قالوا له : " إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيمانًا وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل " وذلك بعد منصرف قريش والأحزاب من أحد " بلغه أن أبا سفيان ومن معه قد أجمعوا الكرة عليهم ، فخرج النبي في سبعين راكبًا حتى انتهى إلى حمراء الأسد ، فألقى الله الرعب في قلب أبي سفيان . فرجع إلى مكة بمن معه ، ومر به ركب من عبد القيس فقال : أين تريدون ؟ قالوا : نريد المدينة . قال : فهل أنتم مبلغون محمدًا عني رسالة ؟ قالوا : نعم . قال فإذا وافيتموه فأخبروه أنا قد أجمعنا السير إليه وإلى أصحابه لنستأصل بقيتهم . فمر الركب برسول الله وهو بحمراء الأسد ، فأخبروه بالذي قال أبو سفيان . فقال : حسبنا الله ونعم الوكيل " ففي هاتين القصتين فضل هذه الكلمة العظيمة وأنها قول الخليلين عليهما الصلاة والسلام في الشدائد . وجاء في الحديث : " إذا وقعتم في الأمر العظيم فقولوا : حسبنا الله ونعم الوكيل " .

ما قال إبراهيم حين ألقى في النار قوله : قالها إبراهيم حين ألقي في النار قال تعالى : ' 21 : 68 ـ 70 ' " قالوا حرقوه وانصروا آلهتكم إن كنتم فاعلين * قلنا يا نار كوني بردا وسلاما على إبراهيم * وأرادوا به كيدا فجعلناهم الأخسرين " . قوله : وقالها محمد حين قالوا له : " إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيمانًا وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل " وذلك بعد منصرف قريش والأحزاب من أحد " بلغه أن أبا سفيان ومن معه قد أجمعوا الكرة عليهم ، فخرج النبي في سبعين راكبًا حتى انتهى إلى حمراء الأسد ، فألقى الله الرعب في قلب أبي سفيان . فرجع إلى مكة بمن معه ، ومر به ركب من عبد القيس فقال : أين تريدون ؟ قالوا : نريد المدينة . قال : فهل أنتم مبلغون محمدًا عني رسالة ؟ قالوا : نعم . قال فإذا وافيتموه فأخبروه أنا قد أجمعنا السير إليه وإلى أصحابه لنستأصل بقيتهم . فمر الركب برسول الله وهو بحمراء الأسد ، فأخبروه بالذي قال أبو سفيان . فقال : حسبنا الله ونعم الوكيل " ففي هاتين القصتين فضل هذه الكلمة العظيمة وأنها قول الخليلين عليهما الصلاة والسلام في الشدائد . وجاء في الحديث : " إذا وقعتم في الأمر العظيم فقولوا : حسبنا الله ونعم الوكيل " .


باب قول الله " أفأمنوا مكر الله " قوله : باب قول الله تعالى : ' 7 : 99 ' " أفأمنوا مكر الله فلا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون " . قصد المصنف رحمه الله بهذه الآية التنبيه على أن الأمن من مكر الله من أعظم الذنوب . وأنه ينافي كمال التوحيد ، كما أن القنوط من رحمه الله كذلك وذلك يرشد إلى أن المؤمن يسير إلى الله بين الخوف والرجاء ، كما دل على ذلك الكتاب والسنة وأرشد إليه سلف الأمة والأئمة . ومعنى الآية : أن الله تبارك وتعالى لما ذكر حال أهل القرى المكذبين للرسل بين أن الذي حملهم على ذلك هو الأمن مكر الله وعدم الخوف منه ، كما قال تعالى : ' 7 : 96 ـ 98 ' " أفأمن أهل القرى أن يأتيهم بأسنا بياتا وهم نائمون * أو أمن أهل القرى أن يأتيهم بأسنا ضحى وهم يلعبون * أفأمنوا مكر الله فلا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون " . أي الهالكون . وذلك أنهم أمنوا مكر الله لما استدرجهم بالسراء والنعم ، فاستبعدوا أن يكون ذلك مكرًا . قال الحسن رحمه الله : من وسع الله عليه فلم ير أنه يمكر به فلا رأى له . وقال قتادة : بغت القوم أمر الله ، وما أخذ الله قومًا قط إلى عند سلوتهم ونعمتهم غرتهم . فلا تغتروا بالله . وفي الحديث : " إذا رأيت الله يعطي العبد من الدنيا على معاصيه ما يحب فإنما هو استدراج " رواه أحمد وابن جرير وابن أبي حاتم . وقال إسماعيل بن رافع : " من الأمن من مكر الله إقامة العبد على الذنب يتمنى على الله المغفرة " رواه ابن أبي حاتم . وهذا هو تفسير المكر في قول بعض السلف : يستدرجهم الله بالنعم إذا عصوه ، ويملى لهم ثم يأخذهم أخذ عزيز مقتدر . وهذا هو معنى المكر والخديعة ونحو ذلك ، ذكره ابن جرير بمعناه . قال : وقول الله تعالى : ' 15 : 56 ' " ومن يقنط من رحمة ربه إلا الضالون " القنوط : استبعاد الفرج واليأس منه . وهو يقابل الأمن من مكر الله . وكلاهما ذنب عظيم . وتقدم ما فيه لمنافاته لكمال التوحيد . وذكر المصنف رحمه الله تعالى هذه الآية مع التي قبلها تنبيهًا على أنه لا يجوز لمن خاف الله أن يقنط من رحمته ، بل يكون خائفًا راجيًا ، يخاف ذنوبه ويعمل بطاعته ، ويرجو رحمته ، كما قال تعالى : ' 39 : 9 ' " أمن هو قانت آناء الليل ساجدًا وقائمًا يحذر الآخرة ويرجو رحمة ربه " وقال : ' 2 : 218 ' " إن الذين آمنوا والذين هاجروا وجاهدوا في سبيل الله أولئك يرجون رحمة الله والله غفور رحيم " فالرجاء مع المعصية وترك الطاعة غرور من الشيطان ، ليوقع العبد في المخاوف مع ترك الأسباب المنجية من المهالك ، بخلاف حال أهل الإيمان الذين أخذوا بأسباب النجاة خوفًا من الله تعالى وهربًا من عقابه ، وطمعًا في المغفرة ورجاء لثوابه . والمعنى أن الله تعالى حكى قول خليله إبراهيم عليه السلام ، لما بشرته الملائكة بابنه إسحاق : ' 15 : 54 ' " قال أبشرتموني على أن مسني الكبر فبم تبشرون " لأن العادة أن الرجل إذا كبر سنه وسن زوجته استبعد أن يولد له منها . والله على كل شئ قدير ، فقالت الملائكة : " بشرناك بالحق " الذي لا ريب فيه . فإن الله إذا أراد شيئًا إنما يقول له كن فيكون : " فلا تكن من القانطين " أي من الأيسين ، فقال عليه السلام : " ومن يقنط من رحمة ربه إلا الضالون " فإنه يعلم من قدرة الله ورحمته ما هو أبلغ من ذلك وأعظم ، لكنه ـ والله أعلم ـ قال ذلك على وجه التعجب . قوله : " إلا الضالون " قال بعضهم : إلا المخطئون طريق الصواب ، أو إلا الكافرون . كقوله : ' 12 : 87 ' " إنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون " .

اليأس من روح الله والأمن من مكر الله قوله : وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله " سئل عن الكبائر ، فقال : الشرك بالله ، واليأس من روح الله ، والأمن من مكر الله " . هذا الحديث رواه البزار وابن أبي حاتم من طريق شبيب بن بشر عن عكرمة عن ابن عباس ورجاله ثقات إلا شبيب بن بشر . فقال ابن معين : ثقة . ولينه أبو حاتم . وقال ابن كثير : في إسناده نظر . والأشبه أن يكون موقوفًا . قوله : الشرك بالله هو أكبر الكبائر . قال ابن القيم رحمه الله : الشرك بالله هضم للربوبية وتنقص للإلهية ، وسوء ظن برب العالمين . انتهى . ولقد صدق ونصح . قال تعالى : ' 6 : 1 ' " ثم الذين كفروا بربهم يعدلون " وقال تعالى : ' 31 : 13 ' " إن الشرك لظلم عظيم " ولهذا لا يغفره الله إلا بالتوبة منه . قوله : واليأس من روح الله أي قطع الرجاء الأول والأمل من الله فيما يخافه ويرجوه ، وذلك إساءة ظن بالله ، وجهل به وبسعة رحمته وجوده ومغفرته . قوله : والأمن من مكر الله أي من استدراجه للعبد وسلبه ما أعطاه من الإيمان ، نعوذ بالله من ذلك . وذلك جهل بالله وبقدرته ، وثقة بالنفس وعجب بها . واعلم أن هذا الحديث لم يرد به حصر الكبائر في الثلاث ، بل الكبائر كثير وهذه الثلاث من أكبر الكبائر المذكورة في الكتاب والسنة ، وضابطها ما قاله المحققون من العلماء : كل ذنب ختمه الله بنار أو لعنة أو غضب أو عذاب . زاد شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله : أو نفى الإيمان . قلت : ومن برىء منه رسول الله ، أو قال : " ليس منا من فعل كذا وكذا " . وعن ابن عباس رضي الله عنهما : هي إلى سبعمائة أقرب منها إلى سبع ، غير أنه لا كبيرة مع الإستغفار ولا صغيرة مع الإصرار قوله : وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال : " أكبر الكبائر الإشراك بالله . والأمن من مكر الله ، والقنوط من رحمة الله ، واليأس من روح الله " رواه عبد الرزاق . ورواه ابن جرير بأسانيد صحاح عن ابن مسعود رضي الله عنه . قوله : والقنوط من رحمة الله قال أبو السعادات : هو أشد اليأس . وفيه التنبيه على الرجاء والخوف ، فإذا خاف فلا يقنط ولا ييأس ، بل يرجو رحمة الله . وكان السلف يستحبون أن يقوى في الصحة الخوف ، وفي المرض الرجاء . وهذه طريقة أبي سليمان الداراني وغيره . قال : ينبغي للقلب أن يكون الغالب عليه الخوف، فإذا غلب الرجاء الخوف فسد القلب . قال تعالى : ' 14 : 12 ' " إن الذين يخشون ربهم بالغيب لهم مغفرة وأجر كبير " وقال : ' 14 : 37 ' " يخافون يوما تتقلب فيه القلوب والأبصار " قال تعالى : ' 23 : 60 ' " والذين يؤتون ما آتوا وقلوبهم وجلة أنهم إلى ربهم راجعون * أولئك يسارعون في الخيرات وهم لها سابقون " وقال تعالى : ' 39 : 9 ' " أمن هو قانت آناء الليل ساجدا وقائما يحذر الآخرة ويرجو رحمة ربه " الآية . قدم الحذر على الرجاء في هذه الآية .

باب من الإيمان بالله الصبر على أقدار الله قوله : ( باب من الإيمان بالله : الصبر على أقدار الله ) قال الإمام أحمد : ذكر الله تعالى الصبر في تسعين موضعًا من كتابه . وفي الحديث الصحيح : " الصبر ضياء " رواه أحمد ومسلم، وللبخاري ومسلم مرفوعًا : " ما أعطى أحد عطاء خيرًا أوسع من الصبر " قال عمر رضي الله عنه : وجدنا خير عيشنا بالصبر رواه البخاري . قال علي رضي الله عنه : " إن الصبر من الإيمان بمنزلة الرأس من الجسد ـ ثم رفع صوته ـ فقال : ألا إنه لا إيمان لمن لا صبر له " . واشتقاقه : من صبر إذا حبس ومنع . والصبر حبس النفس عن الجزع ، وحبس اللسان عن التشكي والتسخط ، والجوارح عن لطم الخدود وشق الجيوب ونحوهما ذكره ابن القيم رحمه الله . واعلم أن الصبر ثلاثة أقسام : صبر على ما أمر الله به ، وصبر عما نهى عنه ، وصبر على ما قدره من المصائب . قوله : وقول الله تعالى : ' 64 : 11 ' " ومن يؤمن بالله يهد قلبه " . وأول الآية : " ما أصاب من مصيبة إلا بإذن الله " أي بمشيئته وإرادته وحكمته ، كما قال في الآية الآخرى : ' 57 : 22 ' " ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل أن نبرأها إن ذلك على الله يسير " وقال : ' 2 : 154 ' " وبشر الصابرين * الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون * أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة وأولئك هم المهتدون " .

معنى قول الله " ومن يؤمن بالله يهد قلبه " قوله : " ومن يؤمن بالله يهد قلبه " قال ابن عباس في قوله : " إلا بإذن الله " إلا بأمر الله يعني عن قدره ومشيئته " ومن يؤمن بالله يهد قلبه " أي من صابته مصيبة فعلم أنها بقدر الله فصبر واحتسب واستسلم لقضاء الله هدى الله قلبه وعوضه عما فاته من الدنيا هدى في قلبه ، ويقينًا صادقًا . وقد يخلف عليه ما كان أخذ منه . قوله : " والله بكل شيء عليم " تنبيه على أن ذلك إنما يصدر عن علمه المتضمن لحكمته . وذلك يوجب الصبر والرضا . قوله : قال علقمة : هو الرجل تصيبه المصيبة فيعلم أنها من عند الله فيرضى ويسلم . هذا الأثر رواه ابن جرير وابن أبي حاتم . وعلقمة : هو قيس بن عبد الله النخعي الكوفي . ولد في حياة النبي ، وسمع من أبي بكر وعثمان وعلي وسعد وابن مسعود وعائشة وغيرهم رضي الله عنهم . وهو من كبار التابعين وأجلائهم وعلمائهم وثقاتهم مات بعد الستين . قوله : هو الرجل تصيبه المصيبة إلخ . هذا الأثر رواه الأعمش عن أبي ظبيان . قال : كنا عند علقمة فقرىء عليه هذه الآية : " ومن يؤمن بالله يهد قلبه " قال هو الرجل تصيبه المصيبة فيعلم أنها من عند الله فيرضى ويسلم . هذا سياق ابن جرير . وفي هذا دليل على أن الأعمال من مسمى الإيمان . قال سعيد بن جبير : " ومن يؤمن بالله يهد قلبه " يعني يسترجع . يقول إنا لله وإنا إليه راجعون . وفي الآية بيان أن الصبر سبب لهداية القلب وأنها من ثواب الصابرين . قوله : وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه : أن رسول الله قال : " اثنتان في الناس هما بهم كفر : الطعن في النسب ، والنياحة على الميت " . أي هما بالناس كفر حيث كانتا من أعمال الجاهلية ، وهما قائمتان بالناس ولا يسلم منهما إلا من سلمه الله تعالى ورزقه علمًا وإيمانًا يستضيء به . لكن ليس من قام بشعبة من شعب الكفر يصير كافرًا كالكفر المطلق . كما أنه ليس من قام به شبعة من شعب الإيمان يصير مؤمنًا الإيمان المطلق . وفرق بين الكفر المعرف باللام كما في قوله : " ليس بين العبد وبين الكفر أو الشرك إلا ترك الصلاة " وبين كفر منكر في الإثبات . قوله : الطعن في النسب أي عيبه ، يدخل فيه أن يقال : هذا ليس ابن فلان مع ثبوت نسبه . قوله : والنياحة على الميت أي رفع الصوت بالندب وتعداد فضائل الميت ، لما فيه من التسخط على القدر المنافي للصبر ، كقول النائحة : واعضداه ، واناصراه ، ونحو ذلك . وفيه دليل على أن الصبر واجب ، وأن الكفر ما لا ينقل عن الملة .

براءة الرسول من ضرب الخدود إلخ قوله : ولهما عن ابن مسعود مرفوعًا : " ليس منا من ضرب الخدود ، وشق الجيوب ، ودعا بدعوى الجاهلية " . هذا من نصوص الوعيد ، وقد جاء عن سفيان الثوري وأحمد كراهية تأويلها ليكون أوقع في النفوس ، وأبلغ في الزجر ، وهو يدل على أن ذلك ينافي كمال الإيمان الواجب . قوله : من ضرب الخدود وقال الحافظ : خص الخد لكونه الغالب وإلا فضرب بقية الوجه مثله . قوله : وشق الجيوب هو الذي يدخل فيه الرأس من الثوب ، وذلك من عادة أهل الجاهلية حزنًا على الميت . قوله : ودعا بدعوى الجاهلية قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى : هو ندب الميت . وقال غيره : هو الدعاء بالويل والثبور . وقال ابن القيم رحمه الله : الدعاء بدعوى الجاهلية كالدعاء إلى القبائل والعصبية، ومثله التعصب إلى المذاهب والطوائف والمشايخ، وتفضيل بعضهم على بضع ، يدعو إلى ذلك ويوالي عليه ويعادي ، فكل هذا من دعوى الجاهلية . وعند ابن ماجه وصححه ابن حبان عن أبي أمامة : " أن رسول الله لعن الخامشة وجهها ، والشاقة جبيها ، والداعية بالويل والثبور " . وهذا يدل على أن هذه الأمور من الكبائر ، وقد يعفى عنه الشئ اليسير من ذلك إذا كان صدقًا وليس على وجه النوح والتسخط نص عليه أحمد رحمه الله ، لما وقع لأبي بكر وفاطمة رضي الله عنهما لما توفي رسول الله . وليس في هذه الأحاديث ما يدل على النهي عن البكاء ، لما في الصحيح أن رسول الله صلى لله عليه وسلم لما مات ابنه إبراهيم قال : " تدمع العين ويحزن القلب ، ولا نقول إلا ما يرضي الرب ، وإنا بك يا إبراهيم لمحزونون " وفي الصحيحين عن أسامة بن زيد رضي الله عنه : " أن رسول الله انطلق إلى إحدى بناته ولها صبي في الموت ، فرفع إليه ونفسه تقعقع كأنها شن ، ففاضت عيناه ، فقال سعد : ما هذا يا رسول الله ؟ قال : هذه رحمة جعلها الله في قلوب عباده ، وإنما يرحم الله من عبادة الرحماء " .

من رحمته بالعبد تعجيل عقوبته في الدنيا قوله : " وعن أنس رضي الله عنه أن رسول الله قال : إذا أراد الله بعبده الخير عجل له العقوبة في الدنيا ، وإذا أراد بعبده الشر أمسك عنه بذنبه حتى يوافى به يوم القيامة " . هذا الحديث رواه الترمذي والحاكم وحسنه الترمذي . وأخرجه الطبراني والحاكم عن عبد الله بن مغفل ابن عدي عن أبي هريرة ، والطبراني عن عمار بن ياسر . قوله : إذا أراد الله بعبده الخير عجل له العقوبة في الدنيا أي يصب عليه البلاء والمصائب لما فرط من الذنوب منه ، فيخرج منها وليس عليه ذنب يوافى به يوم القيامة . قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى : المصائب نعمة ، لأنها مكفرات للذنوب ، وتدعو إلى الصبر فيثاب عليها . وتقتضي الإنابة إلى الله والذل له ، والإعراض عن الخلق ، إلى غير ذلك من المصالح العظيمة . فنفس البلاء يكفر الله به الذنوب والخطايا . وهذا من أعظم النعم . فالمصائب رحمة ونعمة في حق عموم الخلق إلا أن يدخل صاحبها بسببها في معاصي أعظم مما كان قبل ذلك فيكون شرًا عليه من جهة ما أصابه في دينه ، فإن من الناس من إذا ابتلى بفقر أو مرض أو وجع حصل له من النفاق والجزع ومرض القلب والكفر الظاهر وترك بعض الواجبات وفعل بعض المحرمات ما يوجب له الضرر في دينه ، فهذا كانت العافية خيرًا له من جهة ما أورثته المصيبة لا من جهة نفس المصيبة ، كما أن من أوجبت له المصيبة صبرًا وطاعة ، كانت في حقه نعمة دينية ، فهي بعينها فعل الرب عز وجل ورحمة للخلق والله تعالى محمود عليها ، فمن ابتلى فرزق الصبر كان الصبر عليه نعمة في دينه ، وحصل له بعد ما كفر من خطاياه رحمة ، وحصل له بثنائه على ربه صلاة ربه عليه ، قال تعالى : ' 2 : 156 ' " أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة " وحصل له غفران السيئات ورفع الدرجات . فمن قام بالصبر الواجب حصل له ذلك انتهى ملخصًا . قوله : وإذا أراد بعبده الشر أمسك عنه أي أخر عنه العقوبة بذنبه حتى يوافى به يوم القيامة وهو بضم الياء وكسر الفاء منصوبًا بحتى مبنيًا للفاعل . قال العزيزي : أي لا يخازيه بذنبه في الدنيا حتى يجيء في الآخرة مستوفر الذنوب وافيها ، فيستوفى ما يستحقه من العقاب . وهذه الجملة هي آخر الحديث . فأما قوله : وقال النبي " إن عظم الجزاء مع عظم البلاء " إلى آخره فهو أول حديث آخر ، لكن لما رواهما الترمذي بإسناد واحد وصحابي واحد جعلهما المصنف كالحديث الواحد . وفيه التنبيه على حسن الرجاء وحسن الظن بالله فيما يقضيه لك ، كما قال تعالى : ' 2 : 216' " وعسى أن تكرهوا شيئًا وهو خير لكم وعسى أن تحبوا شيئًا وهو شر لكم والله يعلم وأنتم لا تعلمون " . قوله : وقال النبي " إن عظم الجزاء مع عظم البلاء . وإن الله تعالى إذا أحب قومًا ابتلاهم ، فمن رضي فله الرضى ، ومن سخط فله السخط " حسنه الترمذي . قال الترمذي : حدثنا قتيبة ثنا الليث عن يزيد بن أبي حبيب عن سعد بن سنان عن أنس ، فذكر الحديث السابق ثم قال : وبهذا الإسناد عن النبي أنه قال : " إن عظم الجزاء ... " الحديث . ثم قال حديث حسن غريب من هذا الوجه . ورواه ابن ماجه . وروى الإمام أحمد عن محمود بن لبيد رفعه: " إذا أحب الله قومًا ابتلاهم ، فمن صبر فله الصبر ، ومن جزع فله الجزع " قال المنذري : رواته ثقات . قوله :إن عظم الجزاء بكسر العين وفتح الظاء فيها . ويجوز ضمها مع سكون الطاء . أي من كان ابتلاؤه أعظم كمية وكيفية . وقد يحتج بهذا الحديث من يقول : إن المصائب يثاب عليها مع تكفير الخطايا ، ورجح ابن القيم أن ثوابها تكفير الخطايا فقط ، إلا إذا كانت سببًا لعمل صالح ، كالصبر والرضا والتوبة والإستغفار . فإنه حينئذ يثاب على ما تولد منها ، وعلى هذا يقال في معنى الحديث : إن عظم الجزاء مع عظم البلاء إذا صبر واحتسب . قوله : وإن الله إذا أحب قومًا ابتلاهم ولهذا ورد في حديث سعد : " سئل النبي  : أي الناس أشد بلاء ؟ قال الأنبياء ، ثم الأمثل فالأمثل ، يبتلي الرجل على حسب دينه ، فإن كان في دينه صلابة اشتد بلاؤه ، وإن كان في دينه رقة ابتلى على قدر دينه ، فما يبرح البلاء بالعبد حتى يتركه يمشي على الأرض وما عليه خطيئة " رواه الدرامى وابن ماجه والترمذي وصححه . وهذا الحديث ونحوه من أدلة التوحيد ، فإذا عرف العبد أن الأنبياء والأولياء يصيبهم البلاء في أنفسهم الذي هو في الحقيقة رحمة ولا يدفعه عنهم إلا الله ، عرف أنهم لا يملكون لأنفسهم نفعًا ولا دفعًا ، فلأن لا يملكوه لغيرهم أولى وأحرى ، فيحرم قصدهم والرغبة إليهم في قضاء حاجة أو تفريج كربة ، وفي وقوع الإبتلاء بالأنبياء والصالحين من الأسرار والحكم والمصالح وحسن العاقبة ما لا يحصى . قوله : فمن رضى فله الرضاء أي من الله تعالى ، والرضاء قد وصف الله تعالى به نفسه في مواضع من كتابه كقوله تعالى ' 98 : 8 ' " جزاؤهم عند ربهم جنات عدن تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدًا رضي الله عنهم ورضوا عنه " ومذهب السلف وأتباعهم من أهل السنة : إثبات الصفات التي وصف الله بها نفسه ووصفه بها رسول الله على ما يليق بجلاله وعظمته إثباتًا بلا تمثيل وتنزيهًا بلا تعطيل : فإذا رضي الله تعالى عنه حصل له كل خير ، وسلم من كل شر ، والرضى هو أن يسلم العبد أمره إلى الله ، ويحسن الظن به ، ويرغب في ثوابه ، وقد يجد لذلك راحة وانبساطًا محبة لله وثقة به ، كما قال ابن مسعود رضي الله عنه : إن الله بقسطه وعدله جعل الروح والفرح في اليقين والرضا ، وجعل الهم والحزن في الشك والسخط . قوله : ومن سخط وهو بكسر الخاء ، قال أبو السعادات : السخط الكراهية للشئ وعدم الرضا به . أي من سخط على الله فيما دبره فله السخط ، أي من الله ، وكفى بذلك عقوبة . وقد يستدل به على وجوب الرضا وهو اختيار ابن عقيل . واختار القاضي عدم الوجوب ، ورجحه شيخ الإسلام وابن القيم . قال شيخ الإسلام : ولم يجيء الأمر به كما جاء الأمر بالصبر . وإنما جاء الثناء على أصحابه . قال : وأما ما يروى من لم يصبر على بلائي ولم يرض بقضائي فليتخذ ربًا سوائي فهذا إسرائيلي لم يصح عن النبي . قال شيخ الإسلام : وأعلى من ذلك ـ أي من الرضا ـ أن يشكر الله على المصيبة لما يرى من إنعام الله عليه بها . ا هـ والله أعلم .

باب ما جاء في الرياء قوله : ( باب : ما جاء في الرياء ) أي من النهي والتحذير . قال الحافظ : هو مشتق من الرؤية . والمراد بها إظهار العبادة لقصد رؤية الناس لها فيحمدون صاحبها . والفرق بينه وبين السمعة : أن الرياء لما يرى من العمل كالصلاة . والسمعة لما يسمع كالقراءة والوعظ والذكر ، ويدخل في ذلك التحدث بما عمله .

" قل إنما أنا بشر مثلكم " إلخ قوله : وقول الله تعالى : ' 18 : 110 ' " قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلي أنما إلهكم إله واحد " أي ليس لي من الربوبية ولا من الإلهية شئ ، بل ذلك كله وحده لا شريك له أوحاه إلى " فمن كان يرجو لقاء ربه " أي يخافه " فليعمل عملًا صالحًا ولا يشرك بعبادة ربه أحدًا "، قوله أحدًا نكرة في سياق النهي تعم ، وهذا العموم يتناول الأنبياء والملائكة والصالحين والأولياء وغيرهم . قال شيخ الإسلام رحمه الله : أما اللقاء فقد فسره طائفة من السلف والخلف بما يتضمن المعاينة ، وقالوا : لقاء الله يتضمن رؤيته سبحانه وتعالى يوم القيامة ، وذكر الأدلة على ذلك . قال ابن القيم رحمه الله في الآية : أي كما أن الله واحد لا إله سواه ، فكذلك ينبغي أن تكون العبادة له وحده لا شريك له ، فكما تفرد بالإلهية يجب أن يفرد بالعبودية ، فالعمل الصالح : هو الخالص من الرياء المقيد بالسنة . وفي الآية دليل على أن أصل الدين الذي بعث الله به رسول الله والمرسلين قبله ، هو إفراده تعالى بأنواع العبادة ، كما قال تعالى : ' 21 : 25 ' " وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون " والمخالف لهذا الأصل من هذه الأمة أقسام : إما طاغوت ينازع الله في ربوبيته وإلهيته ، ويدعو الناس إلى عبادته ، أو طاغوت يدعو الناس إلى عبادة الأوثان ، أو مشرك يدعو غير الله ويتقرب إليه بأنواع العبادة أو بعضها ، أو شاك في التوحيد : أهو حق أم يجوز أن يجعل لله شريك في عبادته ؟ أو جاهل يعتقد أن الشرك دين يقرب إلى الله ، وهذا هو الغالب على أكثر العوام لجلهم وتقليدهم من قبلهم ، لما اشتدت غربة الدين ونسى العلم بدين المرسلين .

الله أغنى الشركاء عن الشرك قوله : وعن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعًا : " قال الله تعالى : أنا أغنى الشركاء عن الشرك . من عمل عملًا أشرك معي فيه غيري تركته وشركه" رواه مسلم . قوله  : من عمل عملًا أشرك فيه غيري أي من قصد بعمله غيري من المخلوقين تركته وشركه . ولابن ماجه فأنا بريء وهو الذي أشرك قال الطيبي : الضمير المنصوب في قوله تركته يجوز أن يرجع إلى العمل .

أخوف النبي على أمته من الرياء قال ابن رجب رحمه الله : واعلم أن العمل لغير الله أقسام فتارة يكون رياء محضًا كحال المنافقين . كما قال تعالى : '4 :142 ' " وإذا قاموا إلى الصلاة قاموا كسالى يراؤون الناس ولا يذكرون الله إلا قليلا " وهذا الرياء المحض لا يكاد يصدر عن مؤمن في فرض الصلاة أو التي يتعدى نفعها ، فإن الإخلاص فيها عزيز ، وهذا العمل لا يشك مسلم أنه حابط ، وأن صاحبه يستحق المقت من الله والعقوبة . وتارة يكون العمل لله ويشاركه الرياء ، فإن شاركه من أضله فالنصوص الصحيحة تدل على بطلانه ـ وذكر أحاديث تدل على ذلك منها : هذا الحديث وحديث شداد بن أوس مرفوعًا " من صلى يرائى فقد أشرك ، ومن صام يرائي فقد أشرك ، ومن تصدق يرائي فقد أشرك ، وإن الله عز وجل يقول : أنا خير قسم لمن أشرك بي ، فمن أشرك بي شيئًا فإن جدة عمله وقليله وكثيره لشريكه الذي أشرك به . أنا عنه غني " رواه أحمد ، وذكر أحاديث في المعنى ثم قال : فإن خالط نية الجهاد مثلًا نية غير الرياء ، مثل أخذ أجرة الخدمة أو أخذ من الغنيمة أو التجارة نقص بذلك أجر جهاده ولم يبطل بالكلية . قال ابن رجب : وقال الإمام أحمد رحمه الله : التاجر والمستأجر والمكرى أجرهم على قدر ما يخلص من نياتهم في غزواتهم ، ولا يكون مثل من جاهد بنفسه وماله لا يخلط به غيره . وقال أيضًا فيمن يأخذ جعل الجهاد : إذا لم يخرج لأجل الدراهم فلا بأس كأنه خرج لدينه إن أعطى شيئًا أخذه . وروى عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال : " إذا أجمع أحدكم على الغزو فعوضه الله رزقًا فلا بأس بذلك ، وأما إن أحدكم أعطى دراهم غزا وإن لم يعط لم يغز فلا خير في ذلك " . وروى عن مجاهد رحمه الله أنه قال في حج الجمال وحج الأجير ، وحج التاجر : هو تام لا ينقص من أجرهم شئ أي لأن قصدهم الأصلي كان هو الحج دون التكسب . قال : وأما إن كان أصل العمل لله ثم طرأ عليه نية الرياء ، فإن كان خاطرًا ثم دفعه فلا يضره بغير خلاف ، وإن استرسل معه فهل يحبط عمله أم لا فيجازى على أصل نيته ؟ في ذلك اختلاف بين العلماء من السلف قد حكاه الإمام أحمد وابن جرير ، ورجحا أن عمله لا يبطل بذلك ، وأنه يجازي بنيته الأولى ، وهو مروى عن الحسن وغيره . وفي هذا المعنى جاء حديث أبي ذر عن النبي  : " أنه سئل عن الرجل يعمل العمل من الخير يحمده الناس عليه ، فقال : تلك عاجل بشرى المؤمن " رواه مسلم . انتهى ملخصًا . قلت : وتمام هذا المقام يتبين في شرح حديث أبي سعيد إن شاء الله تعالى . قوله : وعن أبي سعيد مرفوعًا " ألا أخبركم بما هو أخوف عليكم عندي من المسيح الدجال ؟ قالوا : بلى يا رسول الله . قال : الشرك الخفي : يقوم الرجل فيصلي فيزين صلاته لما يرى من نظر رجل " رواه أحمد . وروى ابن خزيمة في صحيحه عن محمود بن لبيد قال : " خرج عليه رسول الله فقال : أيها الناس ، إياكم وشرك السرائر ، قالوا يا رسول الله وما شرك السرائر ؟ قال : يقوم الرجل فيصلي فيزين صلاته لما يرى من نظر الرجل إليه . فذلك شرك السرائر " . قوله : عن أبي سعيد الخدري وتقدم . قوله : الشرك الخفي سماه خفيًا لأن صاحبه يظهر أن عمله لله وقد قصد به غيره ، أو شركه فيه بتزيين صلاته لأجله . وعن شداد بن أوس قال : كنا نعد الرياء على عهد رسول الله الشرك الأصغر رواه ابن أبي الدنيا في كتاب الإخلاص ، وابن جرير في التهذيب ، والطبراني والحاكم وصححه . قال ابن القيم : وأما الشرك الأصغر فكيسير الرياء والتصنع للخلق والحلف بغير الله ، وقول الرجل للرجل ماشاء الله وشئت ، وهذا من الله ومنك ، وأنا بالله وبك ، وما لي إلا الله وأنت ، وأنا متوكل على الله وعليك ، ولولا الله وأنت لم يكن كذا وكذا . وقد يكون هذا شرك أكبر بحسب حال قائله ومقصده ، انتهى . ولا خلاف أن الإخلاص شرط لصحة العمل وقبوله ، وكذلك المتابعة ، كما قال الفضيل بن عياض رحمه الله في قوله تعالى : ' 67 : 2 ' " ليبلوكم أيكم أحسن عملًا " قال : أيكم أخلصه ولم يكن صوابًا لم يقبل ، وإذا كان صوابًا لم يقبل ، وإذا كان صوابًا ولم يكن خالصًا لم يقبل حتى يكون خالصًا صوابًا ، فالخالص ما كان لله ، والصواب ما كان على السنة . وفي الحديث عن الفوائد : شفقة النبي على أمته ونصحه لهم ، وأن الرياء أخوف على الصالحين من فتنة الدجال . فإن كان النبي يخافه على سادات الأولياء مع قوة إيمانهم وعلمهم فغيرهم ممن هو دونهم بأضعاف أولى بالخوف من الشرك أصغره وأكبره .

باب من الشرك إرداة الإنسان بعمله الدنيا قوله : ( باب : من الشرك إرادة الإنسان بعمله الدنيا ) فإن قيل : فما الفرق بين هذه الترجمة وبين ترجمة الباب قبله ؟ قلت : بينهما عموم وخصوص مطلق ، يجتمعان في مادة ، وهو ما إذا أراد الإنسان بعمله التزين عند الناس والتصنع لهم والثناء ، فهذا رياء كما تقدم بيانه ، كحال المنافقين . وهو أيضًا إرادة الدنيا بالتصنع عند الناس ، وطلب المدحة منهم والإكرام . ويفارق الرياء بكونه عمل عملًا صالحًا ، أراد به عرضًا من الدنيا ، كمن يجاهد ليأخذ مالًا ، كما في الحديث " تعس عبد الدينار " أو يجاهد للمغنم أو غير ذلك من الأمور التي ذكرها شيخنا عن ابن عباس رضي الله عنه وغيره من المفسرين في معنى قوله تعالى : ' 11 : 15 ' " من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها " . وأراد المصنف رحمه الله بهذه الترجمة وما بعدها أن العمل لأجل الدنيا شرك ينافي كمال التوحيد الواجب ، ويحبط الأعمال ، وهو أعظم من الرياء ، لأن مريد الدنيا قد تغلب إرادته تلك على كثير من عمله ، وأما الرياء فقد يعرض له في عمل دون عمل ، ولا يسترسل معه ، والمؤمن يكون حذرًا من هذا وهذا . قال : وقوله تعالى : ' 11 : 15 ، 16 ' " من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها نوف إليهم أعمالهم فيها وهم فيها لا يبخسون * أولئك الذين ليس لهم في الآخرة إلا النار وحبط ما صنعوا فيها وباطل ما كانوا يعملون " . قال ابن عباس رضي الله عنه : " من كان يريد الحياة الدنيا " أي ثوابها . وزينتها ، أي مالها . نوف ، أي نوفر لهم ثواب أعمالهم بالصحة والسرور في المال والأهل والولد : " وهم فيها لا يبخسون " لا ينقصون ، ثم نسختها : ' 17 : 18 ، 19 ' " من كان يريد العاجلة عجلنا له فيها ما نشاء لمن نريد " الآيتين . رواه النحاس في ناسخه . قوله : ثم نسختها أي قيدتها . فلم تبق الآية على إطلاقها . وقال قتادة : من كانت الدنيا همه وطلبته ونيته جازاه الله بحسناته في الدنيا ثم يفضي إلى الآخرة وليس له حسنة يعطي بها جزاء ، وأما المؤمن فيجازى بحسناته في الدنيا ويثاب عليها في الآخرة ذكره ابن جرير بسنده ، ثم ساق حديث أبي هريرة عن ابن المبارك عن حيوة ابن شريح قال : حدثني الوليد بن أبي الوليد أبو عثمان أن عقبة بن مسلم حدثه أن شفى بن ماتع الأصبحي حدثه : ( أنه دخل المدينة فإذا هو برجل قد اجتمع عليه الناس ، فقال : من هذا ؟ فقالوا : أبو هريرة . قال : فدنوت منه حتى قعدت بين يديه ، وهو يحدث الناس . فما سكت وخلا قلت : أنشدك بحق وبحق لما حدثتني حديثًا سمعته من رسول الله عقلته وعلمته . قال : فقال أبو هريرة : أفعل ، لأحدثنك حديثًا حدثنيه رسول الله في هذا البيت ما فيه أحد غيري وغيره ثم نشغ أبو هريرة نشغة ، ثم أفاق فقال : لأحدثنك حديثًا حدثنيه رسول الله في هذا البيت ما فيه غيري أحد وغيره . ثم نشغ أبو هريرة نشغة أخرى ، ثم مال خارًا على وجهه ، واشتد به طويلًا . ثم أفاق فقال : حدثني رسول الله  : " إن الله تبارك وتعالى إذا كان يوم القيامة نزل إلى القيامة ليقضي بينهم ، وكل أمة جاثية . فأول من يدعو به رجل جمع القرآن ، ورجل قتل في سبيل الله ، ورجل كثير المال . فيقول الله تبارك وتعالى للقارىء : ألم أعلمك ما أنزلت على رسولي ؟ قال : بلى يا رب . قال : فماذا عملت فيما علمت ؟ قال : كنت أقوم آناء الليل وآناء النهار . فيقول الله له : كذبت ، وتقول له الملائكة : كذبت ، ويقول الله له : بل أردت أن يقال فلان قارىء فقد قيل ذلك . ويؤتي بصاحب المال فيقول الله له : ألم أوسع عليك حتى لم أدعك تحتاج إلى أحد ؟ قال : بلى يا رب ، قال : فما عملت فيما آتيتك ؟ قال : كنت أصل الرحم وأتصدق ، فيقول الله له : كذبت ، وتقول له الملائكة : كذبت ، ويقول الله : بل أردت أن يقال فلان جواد ، فقد قيل ذلك . ويؤتي بالذي قتل في سبيل الله فيقال له : فبماذا قتلت ؟ فيقول : أمرت بالجهاد في سبيلك فقاتلت حتى قتلت ، فيقول الله له : كذبت ، وتقول له الملائكة : كذبت ، ويقول الله له : بل أردت أن يقال فلان جريء فقد قيل ذلك . ثم ضرب رسول الله على ركبتي فقال : يا أبا هريرة ، أولئك الثلاثة أول خلق الله تسعر بهم النار يوم القيامة " . وقد سئل شيخنا المصنف رحمه الله عن هذه الآية فأجاب بما حاصله : ذكر عن السلف فيها أنواع مما يفعله الناس اليوم ولا يعرفون معناه . فمن ذلك : العمل الصالح الذي يفعله كثير من الناس ابتغاء وجه الله : من صدقة وصلاة ، وصلة وإحسان إلى الناس ، وترك ظلم ، ونحو ذلك مما يفعله الإنسان أو يتركه خالصًا لله ، لكنه لا يريد ثوابه في الآخرة ، إنما يريد أن يجازيه الله بحفظ ماله وتنميته ، أو حفظ أهله وعياله ، أو إدامة النعمة عليهم ، ولا همة له في طلب الجنة والهرب من النار ، فهذا يعطي ثواب عمليه في الدنيا وليس له في الآخرة من نصيب . وهذا النوع ذكره ابن عباس . النوع الثاني : وهو أكبر من الأول وأخوف ، وهو الذي ذكره مجاهد في الآية : أنها نزلت فيه وهو أن يعمل أعمالًا صالحة ونيته رياء الناس ، لا طلب ثواب الآخرة . النوع الثالث : أن يعمل أعمالًا صالحة يقصد بها مالًا ، مثل أن يحج لمال يأخذه أو يهاجر لدنيا يصيبها ، أو امرأة يتزوجها ، أو يجاهد لأجل المغنم ، فقد ذكر أيضًا هذا النوع في تفسير هذه الآية ، كما يتعلم الرجل لأجل مدرسة أهله أو مكسبهم أو رياستهم ، أو يتعلم القرآن ويواظب على الصلاة لأجل وظيفة المسجد ، كما هو واقع كثيرًا . النوع الرابع : أن يعمل بطاعة الله مخلصًا في ذلك لله وحده لا شريك له لكنه على عمل يكفره كفرًا يخرجه عن الإسلام ، مثل اليهود والنصارى إذا عبدوا الله ، أو تصدقوا أو صاموا إبتغاء وجه الله والدار الآخرة ، ومثل كثير من هذه الأمة الذين فيهم كفر أو شرك أكبر يخرجهم من الإسلام بالكلية ، إذا أطاعوا الله طاعة خالصة يريدون بها ثواب الله في الدار الآخرة ؟ لكنهم على أعمال تخرجهم من الإسلام وتمنع قبول أعمالهم ، فهذا النوع أيضًا قد ذكر في هذه الآية عن أنس بن مالك وغيره ، وكان السلف يخافون منها ، قال بعضهم : لو أعلم أن الله تقبل مني سجدة واحدة لتمنيت الموت لأن الله تعالى يقول : ' 5 : 27 ' " إنما يتقبل الله من المتقين " . ثم قال : بقي أن يقال : إذا عمل الرجل الصلوات الخمس والزكاة والصوم والحج إبتغاء وجه الله ، طالبًا ثواب الآخرة ، ثم بعد ذلك عمل أعمالًا قاصدًا بها الدنيا ، مثل أن يحج فرضه لله ، ثم يحج بعده لأجل الدنيا كما هو واقع ، فهو لما غلب عليه منهما . وقد قال بعضهم : القرآن كثيرًا ما يذكر أهل الجنة الخلص وأهل النار الخلص ، ويسكت عن صاحب الشائبتين ، وهو هذا وأمثاله ا هـ .

تعس عبد الدينار قوله : ( في الصحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله  : " تعس عبد الدينار ، تعس عبد الدرهم ، تعس عبد الخميصة ، تعس عبد الخميلة ، إن أعطى رضى ، وإن لم يعط سخط ، تعس وانتكس وإذا شك فلا انتقش . طوبى لعبد أخذ بعنان فرسه في سبيل الله أشعث رأسه ، مغبرة قدماه ، إن كان في الحراسة كان في الحراسة ، وإن كان في الساقة كان في الساقة . إن استأذن لم يؤذن له ، وإن شفع لم يشفع له " . قوله : في الصحيح أي صحيح البخاري . قوله : تعس هو بكسر العين ويجوز الفتح أي سقط ، والمراد هنا هلك . قاله الحافظ ، وقال في موضع آخر : وهو ضد سعد . أي شقي . قال أبو السعادات : يقال تعس يتعس إذا عثر وانكب لوجهه . وهو دعاء عليه بالهلاك . قوله : عبد الدينار هو المعروف من الذهب كالمثقال في الوزن . قوله : تعس عبد الدرهم وهو من الفضة ، قدره الفقهاء بالشعير وزنًا ، وعندنا منه درهم من ضرب بني أمية وهو زنة خمسين حبة شعير وخمسا حبة سماه عبدًا له ، لكونه هو المقصود بعمله ، فكل من توجه بقصده لغير الله فقد جعله شريكًا له في عبوديته كما هو حال الأكثر . قوله : تعس عبد الخميصة قال أبو السعادات : هي ثوب خز أو صوف معلم ، وقيل لا تسمى خميصة إلا أن تكون سوداء معلمة، وتجمع على خمائص . والخميلة بفتح الخاء المعجمة وقال أبو السعادات : ذات الخمل ، ثياب لها خمل من أي شئ كان . قوله : تعس وانتكس قال الحافظ : هو بالمهملة ، أي عاوده المرض . وقال أبو السعادات : أي انقلب على رأسه . وهو دعاء عليه بالخيبة . قال الطيبي : فيه الترقي بالدعاء عليه . لأنه إذا تعس انكب على وجهه . وإذا انتكس انقلب على رأسه بعد أن سقط . قوله : وإذا شيك أي أصابته شوكة فلا انتقش أي فلا يقدر على إخراجها بالمنقاش قاله أبو السعادات . والمراد أن من كانت هذه حاله فإنه يستحق أن يدعى عليه بما يسوءه في العواقب ، ومن كانت هذه حاله فلا بد أن يجد أثر هذه الدعوات في الوقوع فيما يضره في عاجل دنياه وآجل أخراه . قال شيخ الإسلام رحمه الله : فسماه النبي عبد الدينار والدرهم وعبد القطيفة وعبد الخميصة . وذكر فيه ما هو دعاء بلفظ الخبر وهو قوله : تعس وانتكس وإذا شيك فلا انتقش وهذه حال من إذا أصابه شر لم يخرج منه ولم يفلح ، لكونه تعس وانتكس ، فلا نال المطلوب ، ولا خلص من المكروه ، وهذا حال من عبد المال . وقد وصف ذلك بأنه : إن أعطى رضى ، وإن منع سخط كما قال تعالى : ' 8 : 58 ' " ومنهم من يلمزك في الصدقات فإن أعطوا منها رضوا وإن لم يعطوا منها إذا هم يسخطون " فرضاؤهم لغير الله ، وسخطهم لغير الله ، وهكذا حال من كان متعلقًا منها برياسة أو صورة ونحو ذلك من أهواء نفسه ، إن حصل له رضى ، وإن لم يحصل له سخط ، فهذا عبد ما يهواه من ذلك وهو رقيق له ، إذ الرق والعبودية في الحقيقة هو رق القلب وعبوديته ، فما استرق القلب واستعبده فهو عبده ـ إلى أن قال : ـ وهكذا أيضًا طالب المال ، فإن ذلك يستعبده ويسترقه وهذه الأمور نوعان ، فمنها ما يحتاج إليه العبد ، كما يحتاج إلى طعامه وشرابه ومنكحه ومسكنه ونحو ذلك ، فهذا يطلب من الله ويرغب إليه فيه . فيكون المال عنده يستعمله في حاجته بمنزلة حماره الذي يركبه ، وبساطه الذي يجلس عليه من غير أن يستعبده فيكون هلوعًا . ومنها : ما لا يحتاج إليه العبد ، فهذا ينبغي أن لا يعلق قلبه بها ، فإذا تعلق قلبه بها صار مستعبدًا لها ، وربما صار مستعبدًا متعمدًا على غير الله فيها ، فلا يبقى معه حقيقة العبودية لله ولا حقيقة التوكل عليه ، بل فيه شعبة من العبادة لغير الله وشعبة من التوكل على غير الله ، وهذا من أحق الناس بقوله  : " تعس عبد الدينار ، تعس عبد الدرهم ، تعس عبد الخميصة ، تعس عبد الخميلة " وهذا هو عبد لهذه الأمور ولو طلبها من الله ، فإن الله إذا أعطاه إياه رضى ، وإن منعه إياها سخط ، وإنما عبد الله من يرضيه ما يرضي الله ويسخطه ما يسخط الله ويحب ما أحبه الله ورسوله ويبغض ما أبغضه الله ورسوله ، ويوالى أولياء الله ويعادى أعداء الله فهذا الذي استكمل الإيمان ، انتهى ملخصًا . قوله : طوبى لعبد قال أبو السعادات : طوبى اسم الجنة ، وقيل : هي شجرة فيها ويؤيد هذا ما روى ابن وهب بسنده عن أبي سعيد قال : " قال رجل : يا رسول الله وما طوبى ؟ قال : شجرة في الجنة مسيرة مائة سنة ، ثياب أهل الجنة تخرج من أكمامها " ورواه الإمام أحمد : حدثنا حسن بن موسى سمعت عبد الله بن لهيعة حدثنا دراج أبو السمح أن أبا الهيثم حدثه أبو سعيد الخدري عن رسول الله " إن رجلًا قال : يا رسول الله ، طوبى لمن رآك وآمن بك ، قال طوبى لمن رآني وآمن بي ، وطوبى ثم طوبى ثم طوبى لمن آمن بي ولم يرني . قال له رجل : وما طوبى ؟ قال : شجرة في الجنة مسيرة مائة عام ، ثياب أهل الجنة تخرج من أكمامها " وله شواهد في الصحيحين وغيرهما . وقد روى ابن جرير عن وهب بن منبه هاهنًا أثرًا غريبًا عجيبًا . قال وهب رحمه الله : إن في الجنة شجرة يقال لها طوبى يسير الراكب في ظلها مائة عام لا يقطعها : زهرها رياط ، وورقها برود وقضبانها عنبر ، وبطحاؤها ياقوت ، وترابها كافور ، ووحلها مسك ، يخرج من أصلها أنهار الخمر واللبن والعسل ، وهي مجلس لأهل الجنة ، بينما هم في مجلسهم إذا أتتهم الملائكة من ربهم يقودون نجبًا مزمومة بسلاسل من ذهب ، وجوهها كالمصابيح من حسنها ، ووبرها كخز المرعزي من لينه ، عليها رحال ألواحها من ياقوت ، ودفوفها من ذهب وثيابها من سندس وإستبرق ، فينيخونها ويقولون : إن ربنا أرسل إليكم لتزوروه وتسلموا عليه قال : فيركبونها ، قال : فهي أسرع من الطائر ، وأوطأ من الفراش . خبا من غير مهنة ، يسير الراكب إلى جنب أخيه وهو يكلمه ويناجيه ، لا تصيب أذن راحلة منها أذن صاحبتها ، ولا برك راحلة برك صاحبتها ، حتى إن الشجرة لتنتحى عن طريقهم لئلا تفرق بين الرجل وأخيه . قال : فيأتون إلى الرحمن الرحيم فيسفر لهم عن وجهه الكريم حتى ينظروا إليه ، فإذا رأوه قالوا : اللهم أنت السلام ومنك السلام ، وحق لك الجلال والإكرام ، قال : فيقول تبارك وتعالى عند ذلك ، أنا السلام ومني السلام وعليكم حقت رحمتي ومحبتي ، مرحبًا بعبادي الذين خشوني بالغيب وأطاعوا أمري . قال فيقولون : ربنا إنا لم نعبدك حق عبادتك ، ولم نقدرك ، فائذن لنا بالسجود قدامك . قال : فيقول الله : إنها ليست بدار نصب ولا عبادة ، ولكنها دار ملك ونعيم ، وإني قد رفعت عنكم نصب العبادة ، فسلوني ما شئتم ، بأن لكل رجل منكم أمنيته . فيسألونه ، حتى إن أقصرهم أمنية ليقول : ربي ، تنافس أهل الدنيا في دنياهم فتضايقوا فيها ، رب فآتني من كل شئ كانوا فيه من يوم خلقتها إلى أن انتهت الدنيا ، فيقول الله تعالى : لقد قصرت بك اليوم أمنيتك . ولقد سألت دون منزلتك . هذا لك منى وسأتحفك بمنزلتي لأن ليس في عطائي نكد ولا قصر يد . قال : ثم يقول : اعرضوا على عبادي ما لم تبلغ أمانيهم ولم يخطر على بال . قال : فيعرضون عليهم حتى تقصر بهم أمانيهم التي في أنفسهم ، فيكون فيما يعرضون عليهم براذين مقرنة على كل أربعة منها سرير من ياقوتة واحدة . على كل سرير منها قبة من ذهب مفزعة . في كل قبة منها فرش من فرش الجنة مظاهرة . في كل قبة منها جاريتان من الحور العين . على كل جارية منهن ثوبان من ثياب الجنة . وليس في الجنة لون إلا وهو فيهما . ولا ريح طيب إلا قد عبق بهما . ينفذ ضوء وجوههما غلظ القبة . حتى يظن من يراهما أنهما من دون القبة يرى مخهما من فوق سوقهما كالسلك الأبيض في يا قوته حمراء . يريان له من الفضل على صحابته كفضل الشمس على الحجارة أو أفضل . ويرى لهما مثل ذلك . ثم يدخل عليهما فيحييانه ويقبلانه ويعانقانه ويقولان له : والله ما ظننا أن الله يخلق مثلك . ثم يأمر الله تعالى الملائكة فيسيرون بهم صفًا في الجنة حتى ينتهي كل رجل منهم إلى منزلته التي أعدت له . وقد روى هذا الأثر ابن أبي حاتم بسنده عن وهب بن منبه وزاد : فانظروا إلى مواهب ربكم الذي وهب لكم ، فإذا بقباب في الرفيق الأعلى ، وغرف مبنية بالدر والمرجان أبوابها من ذهب وسررها من ياقوت ، وفرشها من سندس واستبرق ، ومنابرها من نور ، يفور من أبوابها وعراصها نور مثل شعاع الشمس ، عنده مثل الكوكب الدري في النهار المضيء ، وإذا بقصور شامخة في أعلى عليين من الياقوت يزهو نورها . فلولا أنه مسخر إذًا لالتمع الأبصار ، فما كان من تلك القصور من الياقوت الأبيض فهو مفروش بالحرير الأبيض ، وما كان منها من الياقوت الأخضر فهو مفروش بالسندس الأخضر ، وما كان منها من الياقوت الأصفر فهو مفروش بالأرجوان الأصفر ، مبوبة بالزمرد الأخضر والذهب الأحمر والفضة البيضاء ، قوائمها وأركانها من الجوهر ، وشرفها من قباب من لؤلؤ ، وبروجها غرف من المرجان . فلما انصرفوا إلى ما أعطاهم ربهم قربت لهم براذين من ياقوت أبيض منفوخ فيها الروح ، تحتها الولدان المخلدون ، بيد كل وليد منهم حكمة برذون من تلك البراذين ولجمها وأعنتها من فضة بيضاء منظومة بالدر والياقوت ، سرر موضونة مفروشة بالسندس والإستبرق ، فانطلقت بهم تلك البراذين تزف فينظرون رياض الجنة فلما انتهوا إلى منازلهم وجدوا الملائكة قعدوا على منابر من نور ينتظرونهم ليزوروهم ويصافحوهم ويهنئوهم كرامة ربهم ، فلما دخلوا قصورهم وجدوا فيها جميع ما تطاول به عليهم وما سألوا وما تمنوا ، وإذا على باب كل قصر من تلك القصور أربعة جنان جنتان ذواتًا أفنان وجنتان مدهامتان وفيهما عينان نضاختان ، وفيهما من كل فاكهة زوجان ، وحور مقصورات في الخيام ، فلما تبوءوا منازلهم واستقروا قرارهم قال لهم ربهم : " هل وجدتم ما وعد ربكم حقًا قالوا نعم " وربنا . قال : هل رضيتم ثواب ربكم ؟ قالوا: ربنا رضينا فارض عنا ، قال: فبرضائي عنكم أحللتكم داري ونظرتم إلى وجهي ، فعند ذلك قالوا : " الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن إن ربنا لغفور شكور * الذي أحلنا دار المقامة من فضله لا يمسنا فيها نصب ولا يمسنا فيها لغوب " وهذا سياق غريب وأثر عجيب ولبعضه شواهد في الصحيحين . وقال خالد بن معدان : إن في الجنة شجرة يقال لها طوبى ، ضروع كلها ، ترضع صبيان أهل الجنة ، وإن سقط المرأة يكون في نهر من أنهار الجنة يتقلب فيه حتى تقوم القيامة فيبعث ابن أربعين سنة رواه ابن أبي حاتم . قوله : أخذ بعنان فرسه في سبيل الله أي في جهاد المشركين . قوله : أشعث مجرور بالفتحة لأنه اسم لا ينصرف للوصفية ووزن الفعل ، ورأسه مرفوع على الفاعلية ، وهو طائر الشعر ، شغله الجهاد في سبيل الله عن التنعم بالأدهان وتسريح الشعر . قوله : مغبرة قدماه هو بالجر صفة ثانية لعبد . قوله : إن كان في الحراسة كان في الحراسة هو بكسر الحاء أي حمى الجيش عن أن يهجم العدو عليهم . قوله : كان في الحراسة أي غير مقصر فيها ولا غافل ، وهذا اللفظ يستعمل في حق من قام بالأمر على وجه الكمال . قوله : وإن كان في الساقة كان في الساقة أي في مؤخرة الجيش ، يقلب نفسه في مصالح الجهاد ، فكل مقام يقوم فيه إن كان ليلًا أو نهارًا ، رغبة في ثواب الله وطلبًا لمرضاته ومحبة لطاعته . قال ابن الجوزي رحمه الله : وهو خامل الذكر لا يقصد السمو . وقال الخلخالي : المعنى ائتماره بما أمر ، وإقامته حيث أقيم . لا يفقد من مقامه ، وإنما ذكر الحراسة والساقة لأنهما أشد مشقة . انتهى . وفيه فضل الحراسة في سبيل الله . قوله : إن استأذن لم يؤذن له أي إن استأذن على الأمراء ونحوهم لم يؤذن له لأنه لا جاه له عندهم ولا منزلة . لأنه ليس من طلابها . وإنما يطلب ما عند الله لا يقصد بعمله سواه . قوله : وإن شفع بفتح أوله وثانية لم يشفع بفتح الفاء مشددة . يعني لو ألجأته الحال إلى أن يشفع في أمر يحبه الله ورسوله لم تقبل شفاعته عند الأمراء ونحوهم . وروى الإمام أحمد ومسلم عن أبي هريرة مرفوعًا : " رب أشعث مدفوع بالأبواب لو أقسم على الله لأبره " . وروى الإمام أحمد أيضًا عن مصعب بن ثابت بن عبد الله بن الزبير قال : قال عثمان رضي الله ـ وهو يخطب على منبره : " إني محدثكم حديثًا سمعته من رسول الله لم يكن يمنعني أن أحدثكم به إلا الظن بكم . سمعت رسول الله يقول : حرس ليلة في سبيل الله أفضل من ألف ليلة يقام ليلها ويصام نهارها " . وروى الحافظ ابن عساكر في ترجمة عبد الله بن المبارك قال عبد الله بن محمد قاضي نصيبين حدثني محمد بن إبراهيم بن أبي سكينة أنه أملى عليه عبد الله بن المبارك هذه الأبيات بطرسوس وواعده الخروج . وأنشدها معه إلى الفضيل بن عياض في سنة سبع وسبعين ومائة . قال : يا عابد الحرمين لو أبصرتنا لعلمت أنك في العبادة تلعب من كان يخصب خده بدموعه فنحورنا بدمائنا تتخضب أو كان يتعب خيله في باطل فخيولهم يوم الصبيحة تتعب ريح العبير لكم ، ونحن عبيرنا رهج السنابك والغبار الأطيب ولقد أتانا من مقال نبينا قول صحيح صادق لا يكذب لا يستوي غبار خيل الليل في أنف امرىء ودخان نار تلهب هذا كتاب الله ينطق بيننا ليس الشهيد بميت لا يكذب قال : فلقيت الفضيل بكتابه في المسجد الحرام فلما قرأه ذرفت عيناه فقال : صدق أبو عبد الرحمن ونصحني ، ثم قال : أنت ممن يكتب الحديث ؟ قلت : نعم قال لي : اكتب هذا الحديث ، وأملى على الفضيل بن عياض : حدثنا منصور بن المعتمر عن أبي صالح عن أبي هريرة : "أن رجلًا قال : يا رسول الله علمني عملًا أنال به ثواب المجاهدين في سبيل الله ، فقال : هل تستطيع أن تصلي فلا تفتر ، وتصوم فلا تفطر ؟ فقال : يا رسول الله أنا أضعف من أن أستطيع ذلك ، ثم قال النبي  : فو الذي نفسي بيده لو طوقت ذلك ما بلغت فضل المجاهدين في سبيل الله ، أما علمت أن فرس المجاهد ليستن في طوله فيكتب له بذلك حسنات ؟ " .

باب من أطاع العلماء والأمراء في تحريم ما أحل الله قوله : ( باب : من أطاع العلماء والأمراء في تحريم ما أحل الله أو تحليل ما حرم الله ، فقد اتخذهم أربابًا من دون الله ) قول الله تعالى : ' 9 : 31 ' " اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابًا من دون الله والمسيح ابن مريم وما أمروا إلا ليعبدوا إلهًا واحدًا لا إله إلا هو سبحانه عما يشركون" وتقديم تفسير هذا في أصل المصنف رحمه الله عند ذكر حديث عدي ابن حاتم رضي الله عنه . قوله : وقال ابن عباس رضي الله عنهما : " يوشك أن تنزل عليكم حجارة من السماء . أقول : قال رسول الله وتقولون : قال أبو بكر وعمر ؟ " . قوله : يوشك بضم أوله وكسر الشين المعجمة أي يقرب ويسرع . وهذا القول من ابن عباس رضي الله عنهما جواب لمن قال : إن أبا بكر وعمر رضي الله عنهما لا يريان التمتع بالعمرة إلى الحج، ويريان أن إفراد الحج أفضل : أو ما هو معنى هذا ، وكان ابن عباس يرى أن التمتع بالعمرة إلى الحج واجب ويقول : إذا طاف بالبيت وسعى بين الصفا والمروة سبعة أشواط فقد حل من عمرته شاء أم أبى" لحديث سراقة بن مالك حين أمرهم النبي أن يجعلوها عمرة ويحلوا إذا طافوا بالبيت وسعوا بين الصفا والمروة ، فقال سراقة : يا رسول الله ألعامنا هذا أم للأبد ؟ فقال : بل للأبد " والحديث في الصحيحين ، وحينئذ فلا عذر لمن استفى أن ينظر في مذاهب العلماء وما استدل به كل إمام ويأخذ من أقوالهم ما دل عليه الدليل إذا كان له ملكة يقتدر بها على ذلك . كما قال تعالى : ' 4 : 59 ' " فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلا " . وللبخاري ومسلم وغيرهما أن النبي قال : " لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما أهديت ولولا أن معي الهدى لأحللت " هذا لفظ البخاري في حديث عائشة رضي الله عنها . ولفظه في حديث جابر : " افعلوا ما أمرتكم به فلولا أني سقت الهدى لفعلت مثل الذي أمرتكم " في عدة أحاديث تؤيد قول ابن عباس . وبالجملة فلهذا قال ابن عباس لما عارضوا الحديث برأي أبي بكر وعمر رضي الله عنهما : يوشك أن تنزل عليكم حجارة من السماء .... الحديث . وقال الإمام مالك رحمه الله تعالى : ما منا إلا راد ومردود عليه ، إلا صاحب هذا القبر . وكلام الأئمة في هذا المعنى كثير . وما زال العلماء رحمهم الله يجتهدون في الوقائع فمن أصاب منهم فله أجران ، ومن أخطأ فله أجر ، كما في الحديث ، لكن إذا استبان لهم الدليل أخذوا به وتركوا اجتهادهم . وأما إذا لم يبلغهم الحديث أو لم يثبت عن النبي عندهم فيه حديث ، أو ثبت وله معارض أو مخصص ونحو ذلك فحينئذ يسوغ للإمام أن يجتهد . وفي عصر الأئمة الأربعة رحمهم الله تعالى إنما كان طلب الأحاديث ممن هي عنده باللقى والسماع ، ويسافر الرجل في طلب الحديث إلى الأمصار عدة سنين . ثم اعتنى الأئمة بالتصانيف ودونوا الأحاديث ورووها بأسانيدها ، وبينوا صحيحها من حسنها من ضعيفها . والفقهاء صنفوا في كل مذهب ، وذكروا حجج المجتهدين . فسهل الأمر على طالب العلم . وكل إمام يذكر الحكم بدليله عنده ، وفي كلام ابن عباس رضي الله عنهما ما يدل على أن من يبلغه الدليل فلم يأخذ به ـ تقليدًا لإمامه ـ فإنه يجب الإنكار عليه بالتغليظ لمخالفته الدليل . وقال الإمام أحمد : حدثنا أحمد بن عمر البزار ، حدثنا زياد بن أيوب ، حدثنا أبو عبيدة الحداد عن مالك بن دينار عن عكرمة ابن عباس قال : ليس منا أحد إلا يؤخذ من قوله ويدع غير النبي . وعلى هذا فيجب الإنكار على من ترك الدليل لقول أحد من العلماء كائنًا من كان ، ونصوص الأئمة على هذا ، وأنه لا يسوغ التقليد إلا في مسائل الاجتهاد التي لا دليل فيها يرجع إليه من كتاب ولا سنة ، فهذا هو الذي عناه بعض العلماء بقوله : لا إنكار في مسائل الإجتهاد . وأما من خالف الكتاب والسنة فيجب الرد عليه كما قال ابن عباس والشافعي ومالك وأحمد ، وذلك مجمع عليه ، كما تقدم في كلام الشافعي رحمه الله تعالى .

قول الإمام أحمد : عجبت لقوم عرفوا الإسناد ويذهبون إلى رأي سفيان إلخ قوله : وقال الإمام أحمد : عجبت لقوم عرفوا الإسناد وصحته ، ويذهبون إلى رأي سفيان . والله تعالى يقول : ' 24 : 63 ' " فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم " أتدرون ما الفتنة ؟ الفتنة الشرك ، لعله إذا رد بعض قوله أن يقع في قلبه شئ من الزيغ فيهلك . هذا الكلام من الإمام أحمد رحمه الله رواه عنه الفضل بن زياد وأبو طالب . قال الفضل عن أحمد : نظرت في المصحف فوجدت طاعة الرسول في ثلاث وثلاثين موضعًا ، ثم جعل يتلو : " فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة " الآية ، فذكر من قوله : الفتنة الشرك ـ إلى قوله ـ فيهلك . ثم جعل يتلو هذه الآية : ' 4 : 65 ' " فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجًا مما قضيت ويسلموا تسليمًا " . وقال أبو طالب عن أحمد وقيل له : إن قومًا يدعون الحديث ويذهبون إلى رأي سفيان وغيره ، فقال : أعجب لقوم سمعوا الحديث وعرفوا الإسناد وصحته يدعونه ويذهبون إلى رأي سفيان وغيره ، قال الله تعالى : " فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم " أتدري ما الفتنة ؟ الفتنة : الكفر . قال الله تعالى : ' 2 : 217 ' " والفتنة أكبر من القتل " فيدعون الحديث عن رسول الله وتغلبهم أهواؤهم إلى الرأي ذكر ذلك عنه شيخ الإسلام رحمه الله تعالى . قوله : عرفوا الإسناد أي إسناد الحديث وصحته ، فإن صح إسناد الحديث فهو صحيح عند أهل الحديث وغيرهم من العلماء . وسفيان : هو الثوري الإمام الزاهد العابد الثقة الفقيه ، وكان له أصحاب يأخذون عنه ، ومذهبه مشهور يذكره العلماء رحمهم الله في الكتب التي يذكر فيها مذاهب الأئمة ، كالتمهيد لابن عبد البر ، والاستذكار له ، وكتاب الإشراف على مذاهب الأشراف لابن المنذر ، والمحلى لابن حزم ، والمغنى لأبي محمد عبد الله بن أحمد بن قدامة الحنبلي . وغير هؤلاء . فقول الإمام أحمد رحمه الله : عجبت لقوم عرفوا الإسناد وصحته ... إلخ إنكار منه لذلك . وأنه يؤول إلى زيع القلوب الذي يكون به المرء كافرًا . وقد عمت البلوى بهذا المنكر خصوصًا ممن ينتسب إلى العلم ، نصبوا الحبائل في الصد عن الأخذ بالكتاب والسنة ، وصدوا عن متابعة الرسول وتعظيم أمره ونهيه ، فمن ذلك قولهم : لا يستدل بالكتاب والسنة إلا المجتهد . والاجتهاد قد انقطع ويقول : هذا الذي قلدته أعلم منك بالحديث وبناسخه ومنسوخه ، ونحو ذلك من الأقوال التي غايتها ترك متابعة الرسول الذي لا ينطق عن الهوى ، والاعتماد على قول من يجوز عليه الخطأ ، وغيره من الأئمة يخالفه ، ويمنع قوله بدليل ، فما من إمام إلا والذي معه بعض العلم لا كله . فالواجب على كل مكلف إذا بلغه الدليل من كتاب الله وسنة رسوله وفهم معنى ذلك : أن ينتهي إليه ويعمل به ، وإن خالفه من خالفه ، كما قال تعالى : ' 7 : 3 ' " اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم ولا تتبعوا من دونه أولياء قليلًا ما تذكرون " وقال تعالى ' 29 : 51 ' " أولم يكفهم أنا أنزلنا عليك الكتاب يتلى عليهم إن في ذلك لرحمة وذكرى لقوم يؤمنون " وقد تقدم حكاية الإجماع على ذلك ، وبيان أن المقلد ليس من أهل العلم ، وقد حكى أيضًا أبو عمر ابن عبد البر وغيره الإجماع على ذلك . قلت : ولا يخالف في ذلك إلا جهال المقلدة ، لجهلهم بالكتاب والسنة ، ورغبتهم عنها ، وهؤلاء وإن ظنوا أنهم قد اتبعوا الأئمة فإنهم في الحقيقة قد خالفوهم ، واتبعوا غير سبيلهم . كما قدمنا من قول مالك والشافعي وأحمد ، ولكن في كلام أحمد رحمه الله إشارة إلى أن التقليد قبل بلوغ الحجة لا يذم وإنما ينكر على من بلغته الحجة وخالفهم لقول إمام من الأئمة ، وذلك إنما ينشأ عن الإعراض عن تدبر كتاب الله وسنة رسوله والإقبال على كتب من تأخروا والإستغناء بها عن الوحيين ، وهذا يشبه ما وقع من أهل الكتاب الذي قال الله فيهم : ' 9 : 3 ' " اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابًا من دون الله " كما سيأتي بيان ذلك في حديث عدي بن حاتم ، فيجب على من نصح نفسه إذا قرأ كتب العلماء ونظر فيها وعرف أقوالهم أن يعرضها على ما في الكتاب والسنة ، فإن كل مجتهد من العلماء ومن تبعه وانتسب إلى مذهبه لا بد أن يذكر دليله ، والحق في المسألة واحد، والأئمة مثابون على اجتهادهم، فالمصنف يجعل النظر في كلامهم وتأمله طريقًا إلى معرفة المسائل واستحضارها ذهنًا وتمييزًا للصواب من الخطأ بالأدلة التي يذكرها المستدلون ، ويعرف بذلك من هو أسعد بالدليل من العلماء فيتبعه ، والأدلة على هذا الأصل في كتاب الله أكثر وفي السنة كذلك ، كما أخرج أبو داود بسنده عن أناس من أصحاب معاذ : " أن رسول الله لما أراد أن يبعث معاذًا إلى اليمن قال : كيف تقضي إذا عرض لك قضاء ؟ قال : أقضي بكتاب الله تعالى ، قال : فإن لم تجد في كتاب الله ؟ قال : فبسنة رسول الله قال فإن لم تجد في سنة رسول الله ولا في كتاب الله ؟ قال : أجتهد رأيي ولا آلو ، قال : فضرب رسول الله صدره وقال : الحمد لله الذي وفق رسول رسول الله لما يرضي رسول الله" وساق بسنده عن الحارث بن عمر عن أناس من أصحاب معاذ بن جبل رضي الله عنه : أن رسول الله لما بعثه إلى اليمن ـ بمعناه . والأئمة رحمهم الله لم يقصروا في البيان ، بل نهوا عن تقليدهم إذا استبانت السنة ، لعلمهم أن من العلم شيئًا لم يعلموه ، وقد يبلغ غيرهم ، وذلك كثير كما لا يخفى على من نظر في أقوال العلماء . قال أبو حنيفة رحمه الله : إذا جاء الحديث عن رسول الله فعلى الرأس والعين ، وإذا جاء عن الصحابة رضي الله عنهم فعلى الرأس والعين ، وإذا جاء عن التابعين فنحن رجال وهم رجال . وقال : إذا قلت قولًا وكتاب الله يخالفه فاتركوا قولي لكتاب الله . قيل : إذا كان قول رسول الله يخالفه ؟ قال : اتركوا قولي لخبر الرسول . وقيل إذا كان قول الصحابة يخالفه ؟ قال : اتركوا قولي لصحابة . وقال الربيع : سمعت الشافعي رحمه الله يقول : إذا وجدتم في كتابي خلاف سنة رسول الله فخذوا سنة رسول الله ودعوا ما قلت . وقال : إذا صح الحديث بما يخالف قولي فاضربوا بقولي الحائط . وقال مالك : كل أحد يؤخذ من قوله ويترك إلا رسول الله . وتقدم له مثل ذلك ، فلا عذر لمقلد بعد هذا . ولو استقضينا كلام العلماء في هذا لخرج عما قصدناه من الاختصار ، وفيما ذكرناه كفاية لطالب الهدى . قوله : لعله إذا رد بعض قوله أي قول الرسول أي يقع في قلبه شئ من الزيغ فيهلك نبه رحمه الله أن رد قول الرسول سبب لزيغ القلب ، وذلك هو الهلاك في الدنيا والآخرة كما قال تعالى : ' 61 : 5 ' " فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم والله لا يهدي القوم الفاسقين " . قال شيخ الإسلام رحمه الله في معنى قول الله تعالى : ' 24 : 63 ' " فليحذر الذين يخالفون عن أمره " فإن كان المخالف لأمره قد حذر من الكفر والشرك ، أو من العذاب الأليم ، دل على أنه قد يكون مفضيًا إلى الكفر والعذاب الأليم ، ومعلوم أن إفضاءه إلى العذاب الأليم هو مجرد فعل المعصية ، فإفضاؤه إلى الكفر إنما هو لما يقترن به من الاستخفاف في حق الأمر ، كما فعل إبليس لعنه الله تعالى ا هـ . وقال أبو جعفر ابن جرير رحمه الله تعالى عن الضحاك : " فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة " قال : يطبع على قلبه فلا يؤمن أن يظهر الكفر بلسانه فتضرب عنقه . قال أبو جعفر بن جرير : أدخلت عن لأن معنى الكلام فليحذر الذين يلوذون عن أمره ويدبرون عنه معرضين . قوله : أو يصيبهم في الدنيا عذاب من الله موجع على خلافهم أمر رسول الله .

اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابًا من دون الله قوله : عن عدي بن حاتم رضي الله عنه : أنه سمع النبي يقرأهذه الآية : ' 9 : 31 ' " اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله والمسيح ابن مريم " الآية . فقلت : " إنا لسنا نعبدهم . قال : أليس يحرمون ما أحل الله فتحرمونه ويحلون ما حرم الله فتحلونه ؟ فقلت : بلى ، قال : فتلك عبادتهم " رواه أحمد والترمذي وحسنه . هذا الحديث قد روى من طرق ، فرواه ابن سعد وعبد بن حميد وابن المنذر وابن جرير وابن أبي حاتم والطبراني ، وأبو الشيخ وابن مردويه والبيهقي . قوله : عن عدي بن حاتم أي الطائي المشهور . وحاتم هو ابن عبد الله بن سعد بن الحشرج ـ بفتح الحاء ـ المشهور بالسخاء والكرم . قدم عدي على النبي في شعبان سنة تسع من الهجرة . فأسلم وعاش مائة وعشرين سنة . وفي الحديث دليل على أن طاعة الأحبار والرهبان في معصية الله عبادة لهم من دون الله ، ومن الشرك الأكبر الذي لا يغفره الله لقوله تعالى في آخر الآية : " وما أمروا إلا ليعبدوا إلهًا واحدًا لا إله إلا هو سبحانه عما يشركون " ونظير ذلك في قوله تعالى : ' 6 : 121 ' " ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه وإنه لفسق وإن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم ليجادلوكم وإن أطعتموهم إنكم لمشركون " وهذا قد وقع فيه كثير من الناس مع من قلدوهم ، لعدم إعتبارهم الدليل إذا خالف المقلد ، وهو من هذا الشرك . ومنهم من يغلو في ذلك ويعتقد أن الأخذ بالدليل والحالة هذه يكره ، أو يحرم ، فعظمت الفتنة . ويقول : هم أعلم منا بالأدلة . ولا يأخذ بالدليل إلا المجتهد ، وربما تفوهوا بذم من يعمل بالدليل ، ولا ريب أن هذا من غربة الإسلام كما قال شيخنا رحمه الله في المسائل : فتغيرت الأحوال ، وآلت إلى هذه الغاية فصارت عند الأكثر عبادة الرهبان هي أفضل الأعمال ، ويسمونها ولاية ، وعبادة الأحبار هي العلم والفقه . ثم تغيرت الحال إلى أن عبد من ليس من الصالحين ، وعبد بالمعنى الثاني من هو من الجاهلين . وأما طاعة الأمراء ومتابعتهم فيما يخالف ما شرعه الله ورسوله فقد عمت بها البلوى قديمًا وحديثًا في أكثر الولاة بعد الخلفاء الراشدين وهلم جرا . وقد قال تعالى : ' 28 : 50 ' " فإن لم يستجيبوا لك فاعلم أنما يتبعون أهواءهم ومن أضل ممن اتبع هواه بغير هدى من الله إن الله لا يهدي القوم الظالمين " . وعن زياد بن حدير قال : قال لي عمر رضي الله عنه : " هل تعرف ما يهدم الإسلام ؟ قلت : لا ، قال : يهدمه زلة العالم ، وجدال المنافق بالقرآن ، وحكم الأئمة المضلين " رواه الدارمى . جعلنا الله وإياكم من الذين يهدون بالحق وبه يعدلون .

باب " ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا " إلخ قوله : باب قول الله تعالى : ' 4 : 60 ' " ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك " الآيات . قال العماد ابن كثير رحمه الله تعالى : والآية ذامة لمن عدل عن الكتاب والسنة وتحاكم إلى ما سواهما من الباطل ، وهو المراد بالطاغوت ههنا . وتقدم ما ذكره ابن القيم رحمه الله في حده للطاغوت ، وأنه كل ما تجاوز به العبد حده من معبود أو متبوع أو مطاع ، فكل من حاكم إلى غير كتاب الله وسنة رسوله فقد حاكم إلى الطاغوت الذي أمر الله تعالى عباده المؤمنين أن يكفروا به ، فإن التحاكم ليس إلا إلى كتاب الله وسنة رسوله ومن كان يحكم بهما ، فمن تحاكم إلى غيرهما فقد تجاوز به حده ، وخرج عما شرعه الله ورسوله وأنزله منزلة لا يستحقها . وكذلك من عبد شيئًا دون الله فإنما عبد الطاغوت ، فإن كان المعبود صالحًا صارت عبادة العابد له راجعة إلى الشيطان الذي أمره بها ، كما قال تعالى : ' 10 : 28 ـ 30 ' " يوم نحشرهم جميعا ثم نقول للذين أشركوا مكانكم أنتم وشركاؤكم فزيلنا بينهم وقال شركاؤهم ما كنتم إيانا تعبدون * فكفى بالله شهيدا بيننا وبينكم إن كنا عن عبادتكم لغافلين * هنالك تبلو كل نفس ما أسلفت وردوا إلى الله مولاهم الحق وضل عنهم ما كانوا يفترون " وكقوله : ' 34 : 40 ـ 41 ' " ويوم يحشرهم جميعا ثم يقول للملائكة أهؤلاء إياكم كانوا يعبدون * قالوا سبحانك أنت ولينا من دونهم بل كانوا يعبدون الجن أكثرهم بهم مؤمنون " وإن كان ممن يدعو إلى عبادة نفسه أو كان شجرًا أو حجرًا أو قبرًا وغير ذلك مما يتخذه المشركون أصنامًا على صور الصالحين والملائكة وغير ذلك ، فهي من الطاغوت الذي أمر الله تعالى عباده أن يكفروا بعبادته ، ويتبرأوا منه ، ومن عبادة كل معبود سوى الله كائنًا من كان ، وهذا كله من عمل الشيطان وتسويله ، فهو الذي دعا إلى كل باطل وزينة لمن فعل ، وهذا ينافي التوحيد الذي هو معنى شهادة أن لا إله إلا الله . فالتوحيد: هو الكفر بكل طاغوت عبده العابدون من دون الله ، كما قال تعالى : ' 60 : 4 ' " قد كانت لكم أسوة حسنة في إبراهيم والذين معه إذ قالوا لقومهم إنا برآء منكم ومما تعبدون من دون الله كفرنا بكم وبدا بيننا وبينكم العداوة والبغضاء أبدا حتى تؤمنوا بالله وحده " وكل من عبد غير الله فقد جاوز به حده وأعطاه من العبادة ما لا يستحقه . قال الإمام مالك رحمه الله الطاغوت ما عبد من دون الله . وكذلك من دعا إلى تحكيم غير الله ورسوله فقد ترك ما جاء به الرسول ورغب عنه ، وجعل لله شريكًا في الطاعة وخالف ما جاء به رسول الله فيما أمره الله تعالى به في قوله : " وأن احكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم واحذرهم أن يفتنوك عن بعض ما أنزل الله إليك " وقوله تعالى : ' 4 : 65 ' " فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجًا مما قضيت ويسلموا تسليمًا " فمن خالف ما أمر الله به ورسوله بأن حكم بين الناس بغير ما أنزل الله ، أو طلب ذلك أتباعًا لما يهواه ويريده فقد خلع ربقة الإسلام والإيمان في عنقه . وإن زعم أنه مؤمن ، فإن الله تعالى أنكر على من أراد ذلك ، وأكذبهم في زعمهم الإيمان لما في ضمن قوله : " يزعمون " من نفى إيمانهم ، فإن " يزعمون " إنما يقال غالبًا لمن ادعى دعوى هو فيها كاذب لمخالفته لموجبها وعمله بما ينافيها، يحقق هذا قوله: " وقد أمروا أن يكفروا به " لأن الكفر بالطاغوت ركن التوحيد ، كما في آية البقرة فإن لم يحصل هذا الركن لم يكن موحدًا والتوحيد هو أساس الإيمان الذي تصلح به جميع الأعمال وتفسد بعدمه . كما أن ذلك بين في قوله تعالى : ' 2 : 256 ' " فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى " الآية . وذلك أن التحاكم إلى الطاغوت إيمان به . وقوله : " ويريد الشيطان أن يضلهم ضلالًا بعيدًا " يبين تعالى في هذه الآية أن التحاكم إلى الطاغوت مما يأمر به الشيطان ويزينه لمن أطاعه : ويبين أن ذلك مما أضل به الشيطان من أضله ، وأكده بالمصدر ، ووصفه بالبعد . فدل على أن ذلك من أعظم الضلال وأبعده عن الهدى . ففي هذه الآية أربعة أمور . الأول : أنه إرادة الشيطان : الثاني : إنه ضلال . الثالث : تأكيده بالمصدر . الرابع : وصفه بالبعد عن سبيل الحق والهدى . فسبحان الله ما أعظم هذا القرآن وما أبلغه ، وما أدله على أنه كلام رب العالمين ، أوحاه إلى رسوله الكريم ، وبلغه عبده الصادق الأمين . صلوات الله وسلامه عليه . قوله : " وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول رأيت المنافقين يصدون عنك صدودًا " بين تعالى أن هذه صفة المنافقين ، وأن من فعل ذلك أو طلبه ، وإن زعم أنه مؤمن فإنه في غاية البعد عن الإيمان . قال العلامة ابن القيم رحمه الله تعالى : هذا دليل على أن من دعى إلى تحكيم الكتاب والسنة فأبى أنه من المنافقين . قوله : " ويصدون " لازم وهو بمعنى يعرضون ، لأن مصدره صدودًا فما أكثر من اتصف بهذا الوصف ، خصوصًا ممن يدعى العلم ، فإنهم صدوا عما توجبه الأدلة من كتاب الله وسنة رسوله إلى أقوال من يخطىء كثيرًا ممن ينتسب إلى الأئمة الأربعة في تقليدهم من لا يجوز تقليده ، واعتمادهم على قول من لا يجوز الاعتماد على قوله ، ويجعلون قوله المخالف لنص الكتاب والسنة وقواعد الشريعة هو المعتمد عندهم الذي لا تصح الفتوى إلا به . فصار المتبع للرسول بين أولئك غريبًا ، كما تقدم التنبيه على هذا في الباب الذي قبل هذا . فتدبر هذه الآيات وما بعدها يتبين لك ما وقع فيه غالب الناس من الإعراض عن الحق وترك العمل به في أكثر الوقائع . والله المستعان .

" وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض " إلخ قوله : ' 2 : 11 ' " وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض قالوا إنما نحن مصلحون " قال أبو العالية في الآية : يعني لا تعصوا في الأرض . لأن من عصى الله في الأرض أو أمر بمعصية الله فقد أفسد في الأرض ، لأن صلاح الأرض والسماء إنما هو بطاعة الله ورسوله . وقد أخبر تعالى عن إخوة يوسف عليه السلام في قوله تعالى : ' 12 : 70 ـ 72 ' " ثم أذن مؤذن أيتها العير إنكم لسارقون" ـ إلى قوله ـ "قالوا تالله لقد علمتم ما جئنا لنفسد في الأرض وما كنا سارقين " فدلت الآية على أن كل معصية فساد في الأرض . ومناسبة الآية للترجمة : أن التحاكم إلى غير الله ورسوله من أعمال المنافقين وهو الفساد في الأرض . وفي الآية : التنبيه على عدم الإغترار بأقوال أهل الأهواء وإن زخرفوها بالدعوى . وفيها التحذير من الاغترار بالرأي ما لم يقم على صحة دليل من كتاب الله وسنة رسوله فما أكثر من يصدق بالكذب ويكذب بالصدق إذا جاءه ، وهذا من الفساد في الأرض ويترتب عليه من الفساد أمور كثيرة ، تخرج صاحبها عن الحق وتدخله في الباطل . نسأل الله العفو والعافية والمعافاة الدائمة في الدين والدنيا والآخرة . فتدبر تجد ذلك في حال الأكثر إلا من عصمه الله ومن عليه بقوة داعي الإيمان ، وأعطاه عقلًا كاملًا عند ورود الشهوات ، وبصرًا نافذًا عند ورود الشبهات ، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم . قوله : ' 7 : 56 ' " ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها " قال أبو بكر بن عياش في الآية : إن الله بعث محمدًا إلى أهل الأرض وهم فساد ، فأصلحهم الله بمحمد فمن دعا إلى خلاف ما جاء به محمد فهو من المفسدين في الأرض . وقال ابن القيم رحمه الله : قال أكثر المفسرين : لا تفسدوا فيها بالمعاصي والدعاء إلى غير طاعة الله بعد إصلاح الله لها ببعث الرسل ، وبيان الشريعة والدعاء إلى طاعة الله ، فإن عبادة غير الله والدعوة إلى غيره والشرك به هو أعظم فساد في الأرض ، بل فساد الأرض في الحقيقة إنما هو بالشرك به ومخالفة أمره ، فالشرك والدعوة إلى غير الله وإقامة معبود غيره ، ومطاع متبع غير رسول الله ، هو أعظم فساد في الأرض ، ولا صلاح لها ولا لأهلها إلا أن يكون الله وحده هو المطاع ، والدعوة له لا لغيره ، والطاعة والاتباع لرسوله ليس إلا ، وغيره إنما تجب طاعته إذا أمر بطاعة الرسول . فإذا أمر بمعصية وخلاف شريعته فلا سمع ولا طاعة . ومن تدبر أحوال العالم وجد كل صلاح في الأرض فسببه توحيد الله وعبادته وطاعة رسوله، وكل شر في العالم وفتنة وبلاء وقحط وتسليط عدو وغير ذلك فسببه مخالفة رسوله والدعوة إلى غير الله ورسوله. ا هـ . ووجه مطابقة هذه الآية للترجمة : أن التحاكم إلى غير الله ورسوله من أعظم ما يفسد الأرض من المعاصي ، فلا صلاح لها إلا بتحكيم كتاب الله وسنة رسوله ، وهو سبيل المؤمنين ، كما قال تعالى : ' 4 : 15 ' " ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيرا " . قوله : ( وقول الله تعالى : ' 5 : 50 ' " أفحكم الجاهلية يبغون ومن أحسن من الله حكمًا لقوم يوقنون " . قال ابن كثير رحمه الله : ينكر تعالى على من خرج عن حكم الله تعالى المشتمل على كل خير ، الناهي عن كل شر وعدل إلى ما سواه من الآراء والأهواء والاصطلاحات التي وضعها الرجال بلا مستند من شريعة الله ، كما كان أهل الجاهلية يحكمون به من الجهالات والضلالات كما يحكم به التتار من السياسات المأخوذة عن جنكيز خان الذي وضع لهم الياسق وهو عبارة عن كتاب أحكام قد اقتبسها من شرائع شتى من اليهودية والنصرانية والملة الإسلامية وفيها كثير من الأحكام أخذها عن مجرد نظرة وهواه. فصارت في بنيه شرعًا يقدمونها على الحكم بالكتاب والسنة ، فمن فعل ذلك فهو كافر يجب قتاله حتى يرجع إلى حكم الله ورسوله ، فلا يحكم بسواه في قليل ولا كثير . قوله : " ومن أحسن من الله حكمًا لقوم يوقنون " استفهام إنكار أي لا حكم أحسن من حكمه تعالى . وهذا من باب استعمال أفعل التفضيل فيما ليس له في الطرف الآخر مشارك ، أي ومن أعدل من الله حكمًا لمن عقل عن الله شرعه وآمن وأيقن أنه تعالى أحكم الحاكمين ، وأرحم بعباده من الوالدة بولدها ، العليم بمصالح عباده القادر على كل شئ ، الحكم في أقواله وأفعاله وشره وقدره ؟ . وفي الآية ، التحذير من حكم الجاهلية وإختياره على حكم الله ورسوله ، فمن فعل ذلك فقد أعرض عن الأحسن ، وهو الحق ، إلى ضده من الباطل .

لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعًا لما جئت به قوله : عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما : أن رسول الله قال : " لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعًا لما جئت به " قال النووي : حديث صحيح رويناه في كتاب الحجة بإسناد صحيح . هذا الحديث رواه الشيخ أبو الفتح نضر بن إبراهيم المقدسي الشافعي في كتاب : الحجة على تارك الحجة بإسناد صحيح كما قاله المصنف رحمه الله عن النووي . ورواه الطبراني وأبو بكر بن عاصم، والحافظ أبو نعيم في الأربعين التي شرط لها أن تكون في صحيح الأخبار ، وشاهده في القرآن قوله تعالى : ' 4 : 65 ' " فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم " الآية . وقوله : ' 33 : 36 ' " وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرًا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم " وقوله : ' 28 : 50 ' " فإن لم يستجيبوا لك فاعلم أنما يتبعون أهواءهم " ونحو هذه الآيات . قوله : لا يؤمن أحدكم أي لا يكون من أهل كمال الإيمان الواجب الذي وعد الله أهله عليه بدخول الجنة والنجاة من النار . وقد يكون في درجة أهل الإساءة والمعاصي من أهل الإسلام . قوله : حتى يكون هواه تبعًا لما جئت به . الهوى بالقصر ، أي ما يهواه وتحبه نفسه وتميل إليه ، فإن كان الذي تحبه وتميل إليه نفسه ويعمل به تابعًا لما جاء به رسول الله لا يخرج عنه إلى ما يخالفه . فهذه صفة أهل الإيمان المطلق ، وإن كان بخلاف ذلك أو في بعض أحواله أو أكثرها انتفى عنه من الإيمان كماله الواجب ، كما في حديث أبي هريرة : " لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن ، ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن " يعني أنه بالمعصية ينتفي عنه كمال الإيمان الواجب وينزل عنه في درجة الإسلام وينقص إيمانه ، فلا يطلق عليه الإيمان إلا بقيد المعصية ، أو الفسوق ، فيقال : مؤمن عاص ، أو يقال : مؤمن بإيمانه فاسق بمعصيته ، فيكون معه مطلق الإيمان الذي لا يصح إسلامه إلا به . كما قال تعالى : ' 5 : 92 ' " فتحرير رقبة مؤمنة " والأدلة على ما عليه سلف الأمة وأئمتها : أن الإيمان قول وعمل ونية يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية : من كتاب الله تعالى وسنة رسوله أكثر من أن تحصى ، فمن ذلك قوله تعالى : ' 2 : 143 ' " وما كان الله ليضيع إيمانكم " أي صلاتكم إلى بيت المقدس قبل تحويل القبلة ، وقول النبي لوفد عبد القيس : " آمركم بالإيمان بالله وحده ، أتدرون ما الإيمان بالله وحده ؟ شهادة أن لا إله إلا الله " الحديث ، وهو في الصحيحين والسنن . والدليل على أن الإيمان يزيد قوله تعالى : '74 : 31 ' " ويزداد الذين آمنوا إيمانًا " الآية . وقوله : ' 9 : 124 ' " فأما الذين آمنوا فزادتهم إيمانا " الآية . خلافًا لمن قال : إن الإيمان هو القول ، وهم المرجئة ، ومن قال : إن الإيمان هو التصديق كالأشاعرة . ومن المعلوم عقلًا وشرعًا أن نية الحق تصديق ، والعمل به تصديق وقول الحق تصديق وليس مع أهل البدع ما ينافي قول أهل السنة والجماعة ولله الحمد والمنة . قال الله تعالى : ' 2 : 177 ' " ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر" ـ إلى قوله ـ "أولئك الذين صدقوا " أي فيما عملوا به في هذه الآية من الأعمال الظاهرة والباطنة . وشاهده في كلام العرب قولهم : حملة صادقة . وقد سمي الله تعالى الهوى المخالف لما جاء به الرسول إلهًا ، فقال تعالى: ' 25 : 43 ' " أفرأيت من اتخذ إلهه هواه " قال بعض المفسرين : لا يهوى شيئًا إلا ركبه . قال ابن رجب رحمه الله : أما معنى الحديث : فهو أن الإنسان لا يكون مؤمنًا كامل الإيمان الواجب حتى تكون محبته تابعة لما جاء به الرسول من الأوامر والنواهي وغيرها . فيجب ما أمر به ويكره ما نهى عنه ، وقد ورد القرآن مثل هذا المعنى في غير موضع ، وذم سبحانه من كره ما أحبه الله أو أحب ما كرهه الله كما قال تعالى : ' 47 : 28 ' " ذلك بأنهم اتبعوا ما أسخط الله وكرهوا رضوانه فأحبط أعمالهم " فالواجب على كل مؤمن أن يحب ما أحبه الله محبة توجب له الإتيان بما أوجب عليه منه ، فإن زادت المحبة حتى أتى بما ندب إليه منه كان ذلك فضلًا ، وأن يكره ما يكرهه الله كراهة توجب له الكف عما حرم عليه منه ، فإن زادت الكراهة حتى أوجبت الكف عما كراهه تنزيهًا كان ذلك فضلًا . فمن أحب الله ورسوله محبة صادقة من قلبه أوجب ذلك له أن يحب بقلبه ما يحب الله ورسوله ويكره ما يكرهه الله ورسوله ، فيرضي ما يرضي الله ورسوله ، ويسخط ما يسخط الله ورسوله ، ويعمل بجوارحه بمقتضى هذا الحب والبغض ، فإن عمل بجوارحه شيئًا يخالف ذلك ، بأن ارتكب بعض ما يكرهه الله ورسوله وترك ما يحبه الله ورسوله مع وجوبه والقدرة عليه ، دل ذلك على نقص محبته الواجبة ، فعليه أن يتوب من ذلك ويرجع إلى تكميل المحبة الواجبة التي هي ركن العبادة إذا كملت فجميع المعاصي تنشأ عن تقديم هوى النفس على محبة الله ورسوله . وقد وصف الله المشركين باتباع الهوى في مواضع من كتابه ، فقال تعالى : ' 28 : 50 ' " فإن لم يستجيبوا لك فاعلم أنما يتبعون أهواءهم ومن أضل ممن اتبع هواه بغير هدى من الله " وكذلك البدع إنما تنشأ من تقديم الهوى على الشرع . ولهذا سمي أهلها أهل الأهواء ، وكذلك المعاصي إنما تنشأ من تقديم الهوى على محبة الله ومحبة ما يحبه ، وكذلك حب الأشخاص : الواجب فيه أن يكون تبعًا لما جاء به الرسول ، فيجب على المؤمن محبة ما يحبه الله من الملائكة والرسل والأنبياء والصديقين والشهداء والصالحين عمومًا ، ولهذا كان من علامات وجود حلاوة الإيمان : أن يحب المرء لا يحبه إلا لله فتحرم موالاة أعداء الله ومن يكرهه الله عمومًا ، وبهذا يكون الدين كله لله . ومن أحب لله وأبغض لله ، وأعطى لله ومنع لله فقد استكمل الإيمان ، ومن كان حبه وبغضه وعطاؤه ومنعه لهوى نفسه كان ذلك نقصًا في إيمانه الواجب . فتجب التوبة من ذلك : انتهى ملخصًا . ومناسبة الحديث للترجمة : بيان الفرق بين أهل الإيمان وأهل النفاق والمعاصي في أقوالهم وأفعالهم وإرادتهم . قوله : وقال الشعبي هو عامر بن شراحيل الكوفي ، عالم أهل زمانه ، وكان حافظًا علامة ذا فنون . كان يقول : ما كتبت سوداء في بيضاء ، وأدرك خلقًا كثيرًا من الصحابة وعاش بضعًا وثمانين سنة . قال الذهبي . وفيما قاله الشعبي ما يبين أن المنافق يكون أشد كراهة لحكم الله ورسوله من اليهود والنصارى . ويكون أشد عداوة منهم لأهل الإيمان . كما هو الواقع في هذه الأزمنة وقبلها من إعانة العدو على المسلمين . وحرصهم على إطفاء نور الإسلام والإيمان : ومن تدبر ما في التاريخ وما وقع منهم من الوقائع عرف أن هذا حال المنافقين قديمًا وحديثًا ، وقد حذر الله نبيه من طاعتهم والقرب منهم ، وحضه على جهادهم في مواضع من كتابه ، قال تعالى : ' 66 : 9 ' " يا أيها النبي جاهد الكفار والمنافقين واغلظ عليهم " الآية . وفي قصة عمر رضي الله عنه وقتله المنافق الذي طلب التحاكم إلى كعب بن الأشرف اليهودي دليل على قتل من أظهر الكفر والنفاق ، وكان كعب بن الأشرف هذا شديد العداوة للنبي والأذى له والإظهار لعداوته فانتقض به عهده . وحل به قتله . وروى مسلم في صحيحه عن عمر : سمعت جابرًا يقول : : قال رسول الله  : " من لكعب ابن الأشرف ؟ فإنه قد آذى الله ورسوله ، قال محمد بن سلمة : يا رسول الله ، أتحب أن أقتله ؟ قال : نعم . قال : ائذن لي فلأقل ، قال : قل ، فأتاه فقال له ، وذكر ما بينهما وقال : إن هذا الرجل قد أراد صدقة وقد عنانا . فما سمعه قال : وأنا أيضًا والله لتملنه ، قال : إنا قد اتبعناه الآن ، ونكره أن ندعه حتى ننظر إلى أي شئ يصير أمره، قال : وقد أردت أن تسلفني سلفًا ، قال : فما ترهنني ؟ قال : ما تريد . قال : ترهنني نسائكم ؟ قالت : أنت أجمل العرب ، أنرهنك نسائنا ؟ قال : ترهنوني أولادكم ؟ قال : يسب ابن أحدنا فيقال : رهن في وسقين من تمر . ولكن نرهنك اللأمة ـ يعني السلاح ـ قال : فنعم : وواعده أن يأتيه بالحارث وأبي عبس بن جبر وعباد بن بشر . قال : فجاءوا فدعوه ليلًا فنزل إليهم ـ قال سفيان قال غير عمرو : قالت له أمرأته : إني أسمع صوتًا كأنه صوت دم ، قال : إنما هذا محمد بن مسلمة ورضيعه وأبو نائلة إن الكريم لو دعى إلى طعنة ليلًا لأجاب ، قال محمد إني إذا جاء فسوف أمد يدي إلى رأسه ، فإذا استمكنت منه فدونكم قال : فلما نزل وهو متوشح . فقالوا : نجد منك ريح الطيب ، قال : نعم ، تحتى فلانة أعطر نساء العرب ، قال : فتأذن لي أن أشتم منه ؟ قال : نعم فشم ، فتناول فشم ، ثم قال : أتأذن لي أن أعود ؟ قال : فاستمكن من رأسه . ثم قال : دونكم . قال : فقتلوه " . وفي قصة عمر : بيان أن المنافق المغموض بالنفاق إذا أظهر نفاقه قتل ، كما في الصحيحين وغيرهما : أن النبي إنما ترك قتل من أظهر نفاقه منهم تأليفًا للناس ، فإنه قال : " لا يتحدث الناس أن محمدًا يقتل أصحابه " فصلوات الله وسلامه عليه .

باب من جحد شيئًا من الأسماء والصفات باب من جحد شيئًا من الأسماء والصفات وقول الله تعالى : ' 13 : 30 ' " وهم يكفرون بالرحمن قل هو ربي لا إله إلا هو عليه توكلت وإليه متاب " . سبب نزول هذه الآية معلوم مذكور في كتب التفسير وغيرها . وهو أن مشركي قريش جحدوا اسم الرحمن عنادًا ، وقال تعالى: ' 17 : 110 ' " قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن أيًا ما تدعوا فله الأسماء الحسنى " و الرحمن اسم وصفته ، دل هذا الإسم على أن الرحمة وصفه سبحانه ، وهي من صفات الكمال ، فإن كان المشركون جحدوا إسمًا من أسمائه تعالى ، وهو من الأسماء التي دلت على كماله سبحانه وبحمده فجمود معنى هذا الإسم ونحوه من الأسماء يكون كذلك ، فإن جهم بن صفوان ومن تبعه يزعمون أنها لا تدل على صفة قائمة بالله تعالى . وتبعهم على ذلك طوائف من المعتزلة والأشاعرة وغيرهم . فلهذا كفرهم كثيرون من أهل السنة . قال العلامة ابن القيم رحمه الله تعالى : ولقد تقلد كفرهم خمسون في عشر من العلماء في البلدان الكائي الإمام حكاه عنــ هم بل حكاه قبله الطبراني فإن هؤلاء الجهمية ومن وافقهم على التعطيل جحدوا ما وصف به نفسه ووصفه به رسوله من صفات كماله ونعوت جلاله ، وبنوا هذا التعطيل على أصل باطل أصلوه من عند أنفسهم ، فقالوا : هذه هي صفات الأجسام . فيلزم من إثباتها أن يكون الله جسمًا ، هذا منشأ ضلال عقولهم ، لم يفهموا من صفات الله إلا ما فهموه من خصائص صفات المخلوقين ، فشبهوا الله في إبتداء آرائهم الفاسدة بخلقه ثم عطلوه من صفات كماله ، وشبهوه بالناقصات والجمادات والمعدومات ، فشبهوا أولًا وعطلوا ثانيًا . وشبهوه ثالثًا بكل ناقص ومعدوم ، فتركوا ما دل عليه الكتاب والسنة من إثبات ما وصف الله به نفسه ووصفه به رسوله على ما يليق بجلاله وعظمته . وهذا هو الذي عليه سلف الأمة وأئمتها ، فإنهم أثبتوا لله ما أثبته لنفسه وأثبته له رسوله إثباتًا بلا تمثيل ، وتنزيهًا بلا تعطيل ، فإن الكلام في الصفات فرع عن الكلام في الذات يحتذى حذوه فكما أن هؤلاء المعطلة يثبتون لله ذاتًا لا تشبه لذوات ، فأهل السنة يقولون ذلك ويثبتون ما وصف الله به نفسه ووصفه به رسوله من صفات كماله ونعوت جلاله لا تشبه صفاته صفات خلقه ، فإنهم آمنوا بكتاب الله وسنة رسوله ولم يتناقضوا ، وأولئك المعطلة كفروا بما في الكتاب والسنة من ذلك ، وتناقضوا . فبطل قول المعطلين بالعقل والنقل ولله الحمد والمنة ، وإجماع أهل السنن من الصحابة والتابعين وتابعيهم وأئمة المسلمين . وقد صنف العلماء رحمهم الله تعالى في الرد على الجهمية والمعطلة والمعتزلة والأشاعرة وغيرهم في إبطال هذه البدع وما فيها من التناقض والتهافت : كالإمام أحمد رحمه الله تعالى في رده المشهور ، وكتاب السنة لابنه عبد الله ، وصاحب الحيدة عبد العزيز الكتاني في رده على بشر المريسي ، وكتاب السنة لأبي عبد الله المروزي ، ورد عثمان بن سعيد على الكافر العنيد . وهو بشر المريسي ، وكتاب التوحيد لإمام الأئمة محمد بن خزيمة الشافعي ، وكتاب السنة لأبي بكر الخلال ، وأبي عثمان الصابوني الشافعي ، وشيخ الإسلام الأنصاري ، وأبي عمر بن عبد البر النمري ، وخلق كثير من أصحاب الأئمة الأربعة وأتباعهم ، وأهل الحديث ومن متأخريهم أبو محمد عبد الله بن أحمد بن قدامة ، وشيخ الإسلام ابن تيمية وأصحابه وغيرهم رحمهم الله تعالى . فلله الحمد والمنة على بقاء السنة وأهلها مع تفرق الأهواء وتشعب الآراء . والله أعلم . قوله : وفي صحيح البخاري عن علي رضي الله عنه : حدثوا الناس بما يعرفون أتريدون أن يكذب الله ورسوله .

على  هو أمير المؤمنين أبو الحسن علي بن أبي طالب ، وأحد الخلفاء الراشدين . وسبب هذا القول ـ والله أعلم ـ ما حدث في خلافته من كثرة إقبال الناس على الحديث ، وكثرة القصاص وأهل الوعظ . فيأتون في قصصهم بأحاديث لا تعرف من هذا القبيل ، فربما استنكرها بعض الناس وردها وقد يكون لبعضها أصل أو معنى صحيح ، فيقع بعض المفاسد لذلك ، فأرشدهم أمير المؤمنين رضي الله عنه إلى أنهم لا يحدثون عامة الناس إلا بما هو معروف ينفع الناس في أصل دينهم وأحكامه ، من بيان الحلال من الحرام الذي كلفوا به علمًا وعملًا ، دون ما يشغل عن ذلك مما قد يؤدي إلى رد الحق وعدم قبوله فيفضي بهم إلى التكذيب ، ولا سيما مع اختلاف الناس في وقته ، وكثرة خوضهم وجدلهم .

وقد كان شيخنا المصنف رحمه الله لا يحب أن يقرأ على الناس إلا ما ينفعهم في أصل دينهم وعباداتهم ومعاملاتهم الذي لا غنى لهم عن معرفته ، وينهاهم عن القراءة في مثل كتب ابن الجوزي : كالمنعش ، والمرعش ، والتبصرة لما في ذلك من الإعراض عما هو أوجب وأنفع ، وفيها ما الله به وأعلم مما لا ينبغي اعتقاده . والمعصوم من عصمه الله . وقد كان أمير المؤمنين معاوية بن أبي سفيان ينهى القصاص عن القصص ، لما في قصصهم من الغرائب والتساهل في النقل وغير ذلك ، ويقول : لا يقص إلا أمير أو مأمور وكل هذا محافظة على لزوم الثبات على الصراط المستقيم علمًا وعملًا ونية وقصدًا ، وترك كل ما كان وسيلة إلى الخروج عنه من البدع ووسائلها ، والله الموفق للصواب ، ولا حول ولا قوة إلا بالله . قوله : وروى عبد الرزاق عن معمر عن ابن طاوس عن أبيه عن ابن عباس : أنه رأى رجلًا انتفض لما سمع حديثًا عن النبي في الصفات ـ استنكارًا لذلك ـ فقال : ما فرق هؤلاء ؟ يجدون رقة عند محكمه ، ويهلكون عند متشابهه . قوله : وروى عبد الرزاق هو ابن همام الصنعاني المحدث محدث اليمن صاحب التصانيف، أكثر الرواية عن معمر بن راشد صاحب الزهري . وهو شيخ عبد الرزاق يروي عنه كثيرًا . ومعمر ـ بفتح الميمين وسكون العين ـ أبو عروة بن أبي عمرو راشد الأزدي الحراني ثم اليماني ، أحد الأعلام من أصحاب محمد بن شهاب الزهري يروي عنه كثيرًا . قوله : عن ابن طاوس هو عبد الله بن طاوس اليماني . قال معمر : كان من أعلم الناس بالعربية . وقال ابن عيينة : مات سنة اثنتين وثلاثين ومائة . قوله : عن أبيه هو طاوس بن كيسان الجندي بفتح الجيم والنون ـ الإمام العلم ، قيل اسمه ذكوان ، قاله ابن الجوزي . قلت : وهو من أئمة التفسير ومن أوعية العلم ، قال في تهذيب الكمال : عن الوليد الموقري عن الزهري قال : قدمت على عبد الملك بن مروان فقال : من أين قدمت يا زهري ؟ قال : قلت : من مكة ، قال : ومن خلفت يسودها وأهلها ؟ قلت : عطاء بن أبي رباح ، قال : فمن العرب أم من الموالي ؟ قلت : من الموالي ، قال : فبم سادهم ؟ قال : قلت : بالديانة والرواية . قال : إن الديانة والرواية لينبغي أن يسودوا . قال : فمن يسود أهل اليمن ؟ قلت : طاوس بن كيسان ، قال : فمن العرب أم من الموالي ؟ قال : قلت : من الموالى ، قال : فبم سادهم ؟ قلت : بما ساد به عطاء ، قال : إنه لينبغي ذلك . قال : فمن يسود أهل مصر ؟ ؟ قلت يزيد بن حبيب ، قال : فمن العرب أم من الموالى ؟ قال : قلت : من الموالى ، قال : فمن يسود أهل الشام ؟ قلت : مكحول ، قال : فمن العرب أم من الموالي ؟ قلت من الموالي ، عبد نوبي أعتقته امرأة من هذيل . قال : فمن يسود أهل الجزيرة ؟ قلت : ميمون بن مهروان ، قال : فمن العرب أم من الموالي ، قال : قلت : من الموالي . قال فمن يسود أهل خراسان ؟ قال : قلت : الضحاك بن مزاحم ، قال : فمن العرب أم من الموالي ؟ قال : قلت : من الموالي ، قال : فمن يسود أهل البصرة ؟ قال : قلت : الحسن البصري ، قال فمن العرب أم من الموالي ؟ قلت : من الموالي . قال : ويلك ، ومن يسود أهل الكوفة ؟ قال : قلت : إبراهيم النخعي ، قال : فمن العرب أم من الموالي ؟ قال : قلت : من العرب . قال : ويلك يا زهري فرجت عني ، والله لتسودن الموالي على العرب في هذا البلد حتى يخطب لها على المنابر والعرب تحتها . قال : قلت : يا أمير المؤمنين ، إنما هو دين : من حفظه ساد ومن ضيعه سقط . قوله : عن ابن عباس قد تقدم ، وهو حبر الأمة وترجمان القرآن ، ودعا له النبي قال : " اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل " وروى عنه أصحابه أئمة التفسير : كمجاهد ، وسعيد بن جبير ، وعطاء بن أبي رباح ، وطاوس وغيرهم . قوله : ما فرق هؤلاء يستفهم من أصحابه ، يشير إلى أناس ممن يحضر مجلسه من عامة الناس ، فإذا سمعوا شيئًا من محكم القرآن ومعناه حصل معهم فرق أي خوف ، فإذا سمعوا شيئًا من أحاديث الصفات انتفضوا كالمنكرين له ، فلم يحصل منهم الإيمان الواجب الذي أوجبه الله تعالى على عباده المؤمنين قال الذهبي : حديث وكيع عن إسرائيل بحديث :إذا جلس الرب على الكرسي فاقشعر رجل عند وكيع . فغضب وكيع . وقال : أدركنا الأعمش وسفيان يحدثون بهذه الأحاديث ولا ينكرونها أخرجه عبد الله بن أحمد في كتاب الرد على الجهمية . وربما حصل معهم من عدم تلقيه بالقبول ترك ما وجب من الإيمان به ، فشبه حالهم حال من قال الله فيهم : ' 2 : 85 ' " أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض " فلا يسلم من الكفر إلا من عمل بما وجب عليه في ذلك من الإيمان بكتاب الله كله واليقين كما قال تعالى : ' 3 : 7 ' " هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا وما يذكر إلا أولو الألباب " فهؤلاء الذين ذكرهم ابن عباس رضي الله عنهما تركوا ما وجب عليهم من الإيمان بما لم يعرفوا معناه من القرآن ، وهو حق لا يرتاب فيه مؤمن ، وبعضهم يفهم منه غير المراد من المعنى الذي أراد الله فيحمله على غير معناه ، كما جرى لأهل البدع ، كالخوارج والرافضة والقدرية ، ونحوهم ممن يتأول بعض آيات القرآن على بدعته . وقد وقع منهم الابتداع والخروج عن الصراط المستقيم ، فإن الواقع من أهل البدع وتحريفهم لمعنى الآيات يبين معنى قول ابن عباس . وسبب هذه البدع جهل أهلها وقصورهم في الفهم ، وعدم أخذ العلوم الشرعية على وجهها ، وتلقيها من أهلها العارفين لمعناها الذين وفقهم الله تعالى لمعرفة المراد ، والتوفيق بين النصوص ، والقطع بأن بعضها لا يخالف بعضًا ، ورد المتشابه إلى المحكم . وهذه طريقة أهل السنة والجماعة في كل زمان ومكان ، فلله الحمد لا نحصي ثناء عليه .

ما ورد عن علماء السلف في المشتابه ( ذكر ما ورد عن علماء السلف في المتشابه ) قال في الدر المنثور : أخرج الحاكم ـ وصححه ـ عن ابن مسعود عن النبي قال : " كان الكتاب الأول ينزل من باب واحد على حرف واحد ، فنزل القرآن من سبعة أحرف : زجر ، وأمر ، وحلال ، وحرام ، ومحكم ومتشابه ، وأمثال . فأحلوا حلاله ، وحرموا حرامه ، وافعلوا ما أمرتم به ، وانتهوا عما نهيتم عنه ، واعتبروا بأمثاله واعملوا بمحكمة ، وآمنوا بمتشابهه ، وقولوا آمنا به كل من عند ربنا " . قال : وأخرج عبد بن حميد عن قتادة في قوله تعالى : ' 3 : 7 ' " فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه " الآية . قال : طلب القوم التأويل ، فأخطأوا التأويل وأصابوا الفتنة ، وطلبوا ما تشابه منه فهلكوا بين ذلك . وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : " آيات محكمات " قال : منهن قوله تعالى : ' 6 : 151 ـ 153 ' " قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم " إلى ثلاث آيات ، ومنهن : ' 17 : 23 ـ 39 ' " وقضى ربك أن لا تعبدوا إلا إياه " إلى آخر الآيات . وأخرج ابن جرير من طريق أبي مالك عن أبي صالح عن ابن عباس ، وعن مرة عن ابن مسعود وناس من الصحابة رضي الله عنهم : المحكمات الناسخات التي يعمل بهن ، والمتشابهات المنسوخات . وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن أبي حاتم عن إسحق بن سويد أن يحيى بن يعمر وأبا فاختة تراجعا هذه الآية " هن أم الكتاب " فقال أوب فاختة : هن فواتح السور . منها يستخرج القرآن : " الم * ذلك الكتاب " منها استخرجت البقرة و " الم * الله لا إله إلا هو " منها استخرجت آل عمران . وقال يحيى : هن اللاتي فيهن الفرائض ، والأمر والنهي والحال والحرام . والحدود وعماد الدين . وأخرج ابن جرير عن محمد بن جعفر بن الزبير قال : المحكمات فيهن حجة الرب وعصمة العباد ، ودفع الخصوم والباطل ، ليس فيها تصريف ولا تحريف عما وضعت عليه وأخر متشابهات في الصدق ، لهن تصريف وتحريف وتأويل ، ابتلى الله بهن العباد كما ابتلاهم بالحلال والحرام ، لا يصرفن إلى الباطل ولا يحرفن عن الحق . وأخرج ابن أبي حاتم مقاتل بن حيان إنما قال : " هن أم الكتاب " لأنه ليس من أهل دين لا يرضي بهن : " وأخر متشابهات " يعني فيما بلغنا ألم و المص و المر . قلت : وليس في هذه الآثار ونحوها ما يشعر بأن أسماء الله تعالى وصفاته من المتشابه ، وما قال المنفاة من أنها من المتشابه دعوى بلا برهان . قوله : ولما سمعت قريش رسول الله يذكر الرحمن أنكروا ذلك فأنزل الله فيهم : ' 13 : 30 ' " وهم يكفرون بالرحمن " روى ابن جرير عن قتادة : " وهم يكفرون بالرحمن " روى ابن جرير عن قتادة : " وهم يكفرون بالرحمن " ذكر لنا أن نبي الله زمن الحديبية حين صالح قريشًا كتب : هذا ما صالح عليه محمد رسول الله ، فقال مشركوا قريش : لئن كنت رسول الله ثم قاتلناك لقد ظلمناك ، ولكن اكتب : هذا ما صالح عليه محمد بن عبد الله . فقال أصحاب رسول الله  : يا رسول الله دعنا نقاتلهم . فقال : لا . اكتبوا كما يريدون : إني محمد بن عبد الله فلما كتب الكاتب بسم الله الرحمن الرحيم قالت قريش : أما الرحمن فلا نعرفه . وكان أهل الجاهلية يكتبون : باسمك اللهم . فقال أصحابه : دعنا نقاتلهم . قال : لا . ولكن اكتبوا كما يريدون وروى أيضًا عن مجاهد قال : قوله : ' 13 : 30 ' " كذلك أرسلناك في أمة قد خلت من قبلها أمم لتتلو عليهم الذي أوحينا إليك وهم يكفرون بالرحمن قل هو ربي لا إله إلا هو عليه توكلت وإليه متاب " قال : هذا ما كاتب عليه رسول الله قريشًا في الحديبية ، كتب بسم الله الرحمن الرحيم قالوا : لا تكتب الرحمن ، لا ندري ما الرحمن ؟ لا نكتب إلا باسمك اللهم . قال تعالى : " وهم يكفرون بالرحمن " الآية . وروى أيضًا عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : كان رسول الله يدعو ساجدًا : يا رحمن يا رحيم . فقال المشركون : هذا يزعم أنه يدعو واحدًا وهو يدعو مثنى مثنى . فأنزل الله : ' 17 : 110 ' " قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن أيا ما تدعوا فله الأسماء الحسنى " الآية .

يعرفون نعمة الله ثم ينكرونها قوله : باب قول الله تعالى : ' 16 : 83 ' " يعرفون نعمة الله ثم ينكرونها وأكثرهم الكافرون " . ذكر المصنف رحمه الله ما ذكر بعض العلماء في معناها . وقال ابن جرير : فإن أهل التأويل اختلفوا في المعنى بالنعمة . فذكر عن سفيان عن السدى : " يعرفون نعمة الله ثم ينكرونها " قال : محمد وقال آخرون بل معنى ذلك أنهم يعرفون أن ما عدد الله تعالى ذكره في هذه السورة من النعم من عند الله ، وأن الله هو المنعم عليهم بذلك ، ولكنهم ينكرون ذلك ، فيزعمون أنهم ورثوه عن آبائهم . وأخرج عن مجاهد : " يعرفون نعمة الله ثم ينكرونها " ، قال : هي المساكن والأنعام وما يرزقون منها والسرابيل من الحديد والثياب ، تعرف هذا كفار قريش ثم تنكره ، بأن تقول : هذا كان لآبائنا فورثونا إياه وقال آخرون : معنى ذلك أن الكفار إذا قيل لهم من : رزقكم ؟ أقروا بأن الله هو الذي يرزقهم ثم ينكرونه بقولهم : رزقنا ذلك شفاعة آلهتنا . وذكر المصنف مثل هذا عن ابن قتيبة وهو أبو محمد عبد الله بن مسلم بن قتيبة الدينوري قاضي مصر النحوي اللغوي ، صاحب المصنفات البديعة المفيدة المحتوية على علوم جمة ، اشتغل ببغداد وسمع الحديث على إسحاق بن راهوية وطبقته . توفي سنة ست وسبعين ومائتين . وقال آخرون : ما ذكره المصنف عن عون بن عبد الله بن عتبة بن مسعود الهذلي أبو عبد الله الكوفي الزاهد عن أبيه وعائشة وابن عباس وعنه قتادة وأبو الزبير والزهري ، وثقة أحمد وابن معين قال البخاري : مات بعد العشرين ومائة " يعرفون نعمة الله ثم ينكرونها " قال : إنكارهم إياها أن يقول الرجل : لولا فلان ما كان كذا وكذا ، ولولا فلان ما أصبت كذا وكذا وإختار ابن جرير القول الأول ، واختار غيره أن الآية تعم ما ذكره العلماء في معناها . وهو الصواب والله أعلم . قوله : قال مجاهد هو شيخ التفسير : الإمام الرباني ، مجاهد بن جبر المكي مولى بني مخزوم . قال الفضل بن ميمون : سمعت مجاهدًا يقول عرضت المصحف على ابن عباس مرات ، أقفه عند كل آية وأسأله : فيم نزلت ؟ وكيف نزلت ؟ وكيف معناها ؟ توفي سنة اثنتين ومائة . وله ثلاث وثمانون سنة رحمه الله . قوله : وقال أبو العباس هو شيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام ابن تيمية الإمام الجليل رحمه الله ـ بعد حديث زيد بن خالد ـ وقد تقدم في باب ما جاء في الإستسقاء بالأنواء . قال : وهذا كثير في الكتاب والسنة ، يذم سبحانه من يضيف إنعامه إلى غيره ويشرك به . قال بعض السلف هو كقولهم : كانت الريح طيبة ، والملاح حاذقًا . نحو ذلك مما هو جار على ألسنة كثير . ا هـ . وكلام شيخ الإسلام يدل على أن حكم هذه الآية عام فيمن نسب النعم إلى غير الله الذي أنعم بها ، وأسند أسبابها إلى غيره ، كما هو مذكور في كلام المفسرين المذكور بعضه هنا . قال شيخنا رحمه الله : وفيه اجتماع الضدين في القلب ، وتسمية هذا الكلام إنكارًا للنعمة .

قول الله " فلا تجعلوا لله أندادًا وأنتم تعلمون " قوله : باب قول الله تعالى : ' 2 : 22 ' " فلا تجعلوا لله أندادا وأنتم تعلمون " . الند : المثل والنظير . وجعل الند لله : هو صرف أنواع العبادة أو شئ منها لغير الله ، كحال عبدة الأوثان الذين يعتقدون فيمن دعوه ورجوه أنه ينفعهم ويدفع عنهم ، ويشفع لهم . وهذه الآية في سياق قوله تعالى : " يا أيها الناس اعبدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم لعلكم تتقون * الذي جعل لكم الأرض فراشا والسماء بناء وأنزل من السماء ماء فأخرج به من الثمرات رزقا لكم فلا تجعلوا لله أندادا وأنتم تعلمون " قال العماد ابن كثير رحمه الله في تفسيره : قال أبو العالية : لا تجعلوا لله أندادًا أي عدلاء شركاء . وهكذا قال الربيع بن أنس وقتادة والسدى وأبو مالك واسماعيل بن أبي خالد . وقال ابن عباس : " فلا تجعلوا لله أندادًا وأنتم تعلمون " أي لا تشركون بالله شيئًا من الأنداد التي لا تنفع ولا تضر ، وأنتم تعلمون أنه ربكم لا رب لكم يرزقكم غيره ، وقد علمتم أن الذي يدعوكم الرسول إليه من توحيده هو الحق الذي لا شك فيه . وكذلك قال قتادة ومجاهد : " فلا تجعلوا لله أندادًا " قال أكفاء من الرجال تطيعونهم في معصية الله . وقال ابن زيد : الأنداد هي الآلهة التي جعلوها معه وجعلوا لها مثل ما جعلوا له . وعن ابن عباس : " فلا تجعلوا لله أندادًا " أشباهًا . وقال مجاهد : " فلا تجعلوا لله أندادًا وأنتم تعلمون " قال تعلمون أنه إله واحد في التوراة والإنجيل . وذكر حديثًا في معنى هذه الآية الكريمة وهو ما في مسند أحمد عن الحارث الأشعري أن نبي الله قال : " إن الله أمر يحيى بن زكريا عليه السلام بخمس كلمات أن يعمل بهن وأن يأمر بني إسرائيل أن يعملوا بهن ، وأنه كاد أن يبطيء بها . فقال له عيسى عليه السلام : إن الله أمرك بخمس كلمات أن تعمل بهن وتأمر بني إسرائيل أن يعملوا بهن فإما أن تبلغهن وإما أن أبلغهن ، فقال : يا أخي ، إني أخشى إن سبقتني أن أعذب أو يخسف بي . قال : فجمع يحيى بن زكريا بني إسرائيل في بيت المقدس ، حتى امتلأ المسجد وقعد على الشرف . فحمد الله وأثنى عليه ثم قال : إن الله أمرني بخمس كلمات أن أعمل بهن وآمركم أن تعملوا بهن : أولاهن أن تعبدوا الله ولا تشركوا به شيئًا : فإن مثل ذلك مثل رجل اشترى عبدًا من خالص ماله بذهب أو ورق ، فجعل يعمل ويؤدي غلته إلى غير سيده ، فأيكم يسره أن يكون عبده كذلك ؟ وإن الله خلقكم ورزقكم فاعبدوه ولا تشركوا به شيئًا . وآمركم بالصلاة فإن الله ينصب وجهه لوجه عبده ما لم يلتفت . فإذا صليتم فلا تلتفتوا . وآمركم بالصيام ، فإن مثل ذلك كمثل رجل معه صرة من مسك في عصابة كلهم يجد ريح المسك . وإن خلوف فم الصائم عند الله أطيب من ريح المسك . وآمركم بالصدقة . فإن مثل ذلك كمثل رجل أسره العدو فشدوا يديه إلى عنقه ، وقدموه ليضربوا عنقه . فقال لهم : هل لكم أن أفتدي نفسي منكم ؟ فجعل يفتدى بالقليل والكثير حتى فك نفسه . وآمركم بذكر الله كثيرًا : فإن مثل ذلك كمثل رجل طلبه العدو سراعًا في أثره ، فأتى حصنًا حصينًا فتحصن فيه ، وإن العبد أحصن ما يكون من الشيطان إذا كان في ذكر الله . قال : وقال رسول الله  : وأنا آمركم بخمس الله أمرني بهن : الجماعة ، والسمع والطاعة، والهجرة والجهاد في سبيل الله ، فإنه من خرج من الجماعة قيد شبر فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه إلا أن يراجع ، ومن دعا بدعوى الجاهلية فهو من جثي جهنم . قالوا يا رسول الله وإن صلى وصام ؟ فقال : وإن صلى وصام وزعم أنه مسلم ، فادعوا المسلمين بأسمائهم التي سماهم الله عز وجل : المسلمين المؤمنين عباد الله " . وهذا حديث حسن ، والشاهد منه في هذه الآية قوله : " واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا " وهذه الآية دالة على توحيد الله تعالى بالعبادة وحده لا شريك له . وقد استدل بها كثير من المفسرين على وجود الصانع ، وهي دالة على ذلك بطريق الأولى . والآيات الدالة على هذا المقام في القرآن كثيرة جدًا . وسئل أبو نواس عن ذلك فأنشد : تأمل في نبات الأرض وانظر إلى آثار ما صنع المليك عيون من لجين ناظرات بأحداق هي الذهب السبيك على قضب الزبرجد شاهدات بأن الله ليس له شريك وقال ابن المعتز : فيا عجبًا ، كيف يعصى الإلـ ـه أم كيف يجحده الجاحد ؟ وفي كل شئ له آية تدل على أنه واحد قوله : وعن ابن عباس رضي الله عنهما في الآية الأنداد هو الشرك ، أخفى من دبيب النمل على صفاة سوداء في ظلمة الليل . وهو أن تقول : والله ، وحياتك يا فلانة . وحياتي ، وتقول : لولا كليبة هذا لأتانا اللصوص . ولولا الله وفلان . لا تجعل فيها فلانًا. هذا كله به شرك رواه ابن أبي حاتم . بين ابن عباس رضي الله عنهما أن هذا كله من الشرك ، وهو الواقع اليوم على ألسن كثير ممن لا يعرف التوحيد ولا الشرك : فتنبه لهذه الأمور . فإنها من المنكر العظيم الذي يجب النهي عنه والتغليظ فيه لكونه من أكبر الكبائر . وهذا من ابن عباس رضي الله عنهما تنبيه بالأدنى من الشرك على الأعلى .

من حلف بغير الله فقد أشرك أو كفر قوله : وعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن رسول الله قال : " من حلف بغير الله فقد كفر أو أشرك " رواه الترمذي وحسنه وصححه الحاكم . قوله : فقد كفر أو أشرك يحتمل لي أن يكون شكًا من الراوي ويحتمل أن تكون أو بمعنى الواو فيكون قد كفر وأشرك . ويكون الكفر الذي هو دون الكفر الأكبر . كما هو من الشرك الأصغر . وورد مثل هذا عن ابن مسعود بهذا اللفظ . قوله : وقال ابن مسعود : لأن أحلف بالله كاذبًا أحب إلى من أن أحلف بغيره صادقًا . ومن المعلوم أن الحلف بالله كاذبًا كبيرة من الكبائر لكن الشرك أكبر من الكبائر . وإن كان أصغر كما تقدم بيان ذلك ، فإذا كان هذا حال الشرك الأصغر فكيف بالشرك الأكبر الموجب للخلود في النار ؟ كدعوة غير الله والاستغاثة به ، والرغبة إليه ، وإنزال حوائجه به ، كما هو حال الأكثر من هذه الأمة في هذه الأزمان وما قبلها : من تعظيم القبور ، واتخاذهها أوثانًا ، والبناء عليها ، واتخاذها مساجد ، وبناء المشاهد باسم الميت لعبادة من بنيت باسمه وتعظيمه ، والإقبال عليه بالقلوب والأقوال والأعمال . وقد عظمت البلوى بهذا الشرك الأكبر الذي لا يغفره الله ، وتركوا ما دل عليه القرآن العظيم من النهي عن هذا الشرك وما يوصل إليه . قال الله تعالى : ' 7 : 37 ' " فمن أظلم ممن افترى على الله كذبًا أو كذب بآياته أولئك ينالهم نصيبهم من الكتاب حتى إذا جاءتهم رسلنا يتوفونهم قالوا أين ما كنتم تدعون من دون الله قالوا ضلوا عنا وشهدوا على أنفسهم أنهم كانوا كافرين " كفرهم الله تعالى بدعوتهم من كانوا يدعونه من دونه في دار الدنيا . وقد قال تعالى : ' 72 : 18 ' " وأن المساجد لله فلا تدعو مع الله أحدا " وقال تعالى : ' 72 : 20 ـ 21 ' " قل إنما أدعو ربي ولا أشرك به أحدا * قل إني لا أملك لكم ضرا ولا رشدا " وهؤلاء المشركون عكسوا الأمر فخالفوا ما بلغ به الأمة وأخبر به عن نفسه ، فعاملوه بما نهاهم عنه من الشرك بالله والتعلق على غير الله حتى قال قائلهم : يا أكرم الخلق ما لي من ألوذ به سواك عند حلول الحادث العمم إن لم تكن في معادي آخذًا بيدي فضلًا ، وإلا فقل : يا زلة القدم فإن من جودك الدنيا وضرتها ومن علومك علم اللوح والقلم فانظر إلى هذا الجهل العظيم حيث اعتقد أنه لا نجاة له إلا بعياذه ولياذه بغير الله ، وانظر إلى هذا الإطراء العظيم الذي تجاوز الحد في الإطراء الذي نهي عنه بقوله : " لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم ، إنما أنا عبد فقولوا عبد الله ورسوله " رواه مالك وغيره ، وقد قال تعالى : ' 6 : 50 ' " قل لا أقول لكم عندي خزائن الله ولا أعلم الغيب ولا أقول لكم إني ملك " . فانظر إلى هذه المعارضة العظيمة للكتاب والسنة والمحادة لله ورسوله . وهذا الذي يقوله هذا الشاعر هو الذي في نفوس كثير خصوصًا ممن يدعون العلم والمعرفة . ورأوا قراءة هذه المنظومة ونحوها لذلك وتعظيمها من القربات فإن لله وإنا إليه راجعون . قوله : وعن حذيفة رضي الله عنه عن النبي قال : " لا تقولوا ما شاء الله وشاء فلان ، ولكن قولوا ما شاء الله ، ثم شاء فلان " رواه أبو داود بسند صحيح . وذلك لأن المعطوف بالواو يكون مساويًا للمعطوف عليه ، لكونها إنما وضعت لمطلق الجمع . فلا تقتضي ترتيبًا ولا تعقيبًا . وتسوية المخلوق بالخالق شرك ، إن كان في الأصغر ـ مثل هذا ـ فهو أصغر ، وإن كان في الأكبر فهو أكبر . كما قال تعالى عنهم في الدار الآخرة :' 21 : 97 ، 98 ' " تالله إن كنا لفي ضلال مبين * إذ نسويكم برب العالمين " بخلاف المعطوف بثم . فإن المعطوف بها يكون متراخيًا عن المعطوف عليه بمهملة . فلا محذور لكونه صار تابعًا . قوله : وعن إبراهيم النخعي : أنه يكره أن يقول الرجل أعوذ بالله وبك . ويجوز أن يقول : بالله ثم بك . قال ويقول : لولا الله ثم فلان . لا تقولوا : لولا الله وفلان . وقد تقدم الفرق بين ما يجوز وما لا يجوز من ذلك . هذا إنما هو في الحي الحاضر الذي له قدرة وسبب في الشئ . وهو الذي يجري في حقه مثل ذلك . وأما في حق الأموات الذين لا إحساس لهم بمن يدعوهم ولا قدرة لهم على نفع ولا ضر . فلا يقال في حقهم شئ من ذلك . فلا يجوز التعلق عليه بشئ ما بوجه من الوجوه ، والقرآن يبين ذلك وينادي بأنه يجعلهم آلهة إذا سئلوا شيئًا من ذلك ، أو رغب إليهم أحد بقوله أو عمله الباطن أو الظاهر ، فمن تدبر القرآن ورزق فهمه صار على بصيرة من دينه وبالله التوفيق . والعلم لا يؤخذ قسرًا وإنما يؤخذ بأسباب ذكرها بعضهم في قوله : أخي ، لن تنال العلم إلا بستة سأنبيك عن تفصيلها ببيان ذكاء وحرص ، واجتهاد وبلغة وإرشاد أستاذ ، وطول زمان وأعظم من هذه الستة من رزقه الله تعالى الفهم والحفظ ، وأتعب نفسه في تحصيله فهو الموفق لمن شاء من عباده . كما قال تعالى : ' 4 : 113 ' " وعلمك ما لم تكن تعلم وكان فضل الله عليك عظيما " . ولقد أحسن العلامة ابن القيم رحمه الله تعالى من حيث قال : والجهل داء قاتل وشفاؤه أمران في التركيب متفقان نص من القرآن ، أو من سنة وطبيب ذاك العالم الرباني والعلم أقسام ثلاث ، ما لها من رابع ، والحق ذو تبيان علم بأوصاف الإله وفعله وكذلك الأسماء للرحمن والأمر والنهي الذي هو دينه وجزاؤه يوم المعاد الثاني والكل في القرآن والسنن التي جاءت عن المبعوث بالقرآن والله ما قال امرؤ متحذلق بسواهما إلا من الهذيان

باب ما جاء فيمن لم يقنع بالحلف بالله والنهي عن الحلف بالآباء قوله : باب ( ما جاء فيمن لم يقنع بالحلف بالله ) عن ابن عمر أن رسول الله قال : " لا تحلفوا بآبائكم . من حلف بالله فليصدق . ومن حلف له بالله فليرض . ومن لم يرض فليس من الله " رواه ابن ماجه بسند حسن . قوله : لا تحلفوا بآباكم تقدم النهي عن الحلف بغير الله عمومًا . قوله : من حلف بالله فليصدق هذا مما أوجبه الله على عباده وحضهم عليه في كتابه . قال تعالى : ' 9 : 119 ' " يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين " وقال : ' 33 : 35 ' " والصادقين والصادقات " وقال : ' 47 : 21 ' " فلو صدقوا الله لكان خيرًا لهم " وهو حال أهل البر ، كما قال تعالى : ' 2 : 177 ' " ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنبيين " ـ إلى قوله ـ "أولئك الذين صدقوا وأولئك هم المتقون " . وقوله : من حلف فليرض ، ومن لم يرض فليس من الله أما إذا لم يكن له بحكم الشريعة على خصمه إلا اليمين فأحلفه فلا ريب أنه يجب عليه الرضا . وأما إذا كان فيما يجري بين الناس مما قد يقع في الاعتذارات من بعضهم لبعض ونحو ذلك . فهذا من حق المسلم على المسلم : أن يقبل منه إذا حلف له معتذرًا أو متبرئًا من تهمة ومن حقه عليه : أن يحسن به الظن إذا لم يتبين خلافه ، كما في الأثر عن عمر رضي الله عنه : ولا تظنن بكلمة خرجت من مسلم شرًا وأنت تجد لها في الخير محملًا . وفيه : من التواضع والألفة والمحبة وغير ذلك من المصالح التي يحبها الله ما لا يخفى على من له فهم . وذلك من أسباب اجتماع القلوب على طاعة الله ، ثم إنه يدخل في حسن الخلق الذي هو أثقل ما يوضع في ميزان العبد ، كما في الحديث وهو من مكارم الأخلاق . فتأمل أيها الناصح لنفسه ما يصلحك مع الله تعالى : من القيام بحقوقه وحقوق عباده ، وإدخال السرور على المسلمين ، وترك الانقباض عنهم والترفع عليهم . فإن فيه من الضرر ما لا يخطر بالبال ولا يدور بالخيال . وبسط هذه الأمور وذكر ما ورد فيها مذكور في كتب الأدب وغيرها . فمن رزق ذلك والعمل بما ينبغي العمل به من وترك ما يجب تركه من ذلك ، دل على وفور دينه ، وكمال عقله . والله الموفق لعبده الضعيف المسكين . والله أعلم .

باب : قول ما شاء الله وشئت باب قول : ( ما شاء الله وشئت ) عن قتيلة : " أن يهوديًا أتى النبي ، فقال : إنكم تشركون . تقولون : ما شاء الله وشئت ، وتقولون ، وتقولون : والكعبة . فأمرهم النبي إذا أرادوا أن يحلفوا أن يقولوا : ورب الكعبة . وأن يقولوا : ما شاء الله ثم شئت " رواه النسائي وصححه . قوله : عن قتيلة بمثناة مصغرة بنت صيفي الأنصارية صحابية مهاجرة ، لها حديث في سنن النسائي ، وهو المذكور في الباب . ورواه عنها عبد الله بن يسار الجعفي . وفيه : قبول الحق مما جاء به كائنًا من كان . وفيه : بيان النهي عن الحلف بالكعبة ، مع أنها بيت الله التي حجها وقصدها بالحج والعمرة فريضة . وهذا يبين أن النهي عن الشرك بالله عام لا يصلح منه شئ ، لا لملك مقرب ولا نبي مرسل . ولا للكعبة التي هي بيت الله في أرضه . وأنت ترى ما وقع من الناس اليوم من الحلف بالكعبة وسؤالها ما لا يقدر عليه إلا الله . ومن المعلوم أن الكعبة لا تضر ولا تنفع . وإنما شرع الله لعباده الطواف بها والعبادة عندها وجعلها للأمة قبلة : فالطواف بها مشروع والحف بها ودعاؤها ممنوع . فميز أيها المكلف بين ما يشرع وما يمنع ، وإن خالفك من خالفك من جهة الناس الذين هم كالأنعام ، بل هم أضل سبيلًا . قوله : إنكم تشركون . تقولون : ما شاء الله وشئت والعبد وإن كانت له مشيئة فمشيئته تابعة لمشيئة الله ، ولا قدرة له على أن يشأ شيئًا إلا إذا كان الله قد شاءه ، كما قال تعالى : ' 81 : 28 ، 29 ' " لمن شاء منكم أن يستقيم * وما تشاؤون إلا أن يشاء الله رب العالمين " وقوله : ' 76 : 29 ، 30 ' " إن هذه تذكرة فمن شاء اتخذ إلى ربه سبيلا * وما تشاؤون إلا أن يشاء الله إن الله كان عليما حكيما " . وفي هذه الآيات والأحاديث : الرد على القدرية والمعتزلة ، نفاة القدر الذين يثبتون للعبد مشيئة تخالف ما أراده الله تعالى من العبد وشاءه ، وسيأتي ما يبطل قولهم في : باب ما جاء في منكري القدر إن شاء الله تعالى ، وأنهم مجوس هذه الأمة . وأما أهل السنة والجماعة فتمسكوا بالكتابة والسنة في هذا الباب وغيره . واعتقدوا أن مشيئة العبد تابعة لمشيئة الله تعالى في كل شئ مما يوافق ما شرعه الله وما يخالفه ، من أفعال العباد وأقوالهم . فالكل بمشيئة الله وإرادته . فما وافق ما شرعه رضيه وأحبه . وما خالفه كرهه من العبد ، كما قال تعالى : ' 39 : 7 ' " إن تكفروا فإن الله غني عنكم ولا يرضى لعباده الكفر " الآية . وفيه : بيان أن الحلف بالكعبة شرك . فإن النبي أقر اليهودي على قوله : إنكم تشركون . قوله : وله أيضًا عن ابن عباس رضي الله عنهما " أن رجلًا قال للنبي ما شاء الله وشئت ، قال : أجعلتني لله ندًا ؟ بل ما شاء الله وحده " . هذا يقرر ما تقدم من أن هذا شرك ، لوجود التسوية في العطف بالواو . وقوله : أجعلتني لله ندًا فيه بيان أن من سوى العبد بالله ولو في الشرك الأصغر فقد جعله ندًا لله شاء أم أبى ، خلافًا لما يقوله الجاهلون ، مما يختص بالله تعالى من عباده ، وما يجب النهي عنه من الشرك بنوعيه . ومن يرد الله به خيرًا يفقهه في الدين. قوله : ولابن ماجه : عن الطفيل أخي عائشة لأمها قال : رأيت فيما يرى النائم كأني أتيت على نفر من اليهود ، فقلت : من أنتم ؟ قالوا : نحن اليهود ، قلت : إنكم لأنتم القوم ، لولا أنكم تقولون عزير ابن الله. قالوا : وإنكم لأنتم القوم ، لولا أنكم تقولون : ما شاء الله وشاء محمد . ثم مررت بنفر من النصارى فقلت : من أنتم ؟ قالوا نحن النصارى . قلت إنكم لأنتم القوم لولا أنكم تقولون : المسيح ابن الله ، قالوا : وإنكم لأنتم القوم لولا أنكم تقولون : ما شاء الله وشاء محمد ، فلما أصبحت أخبرت بها من أخبرت ثم أتيت النبي فأخبرته ، فقال : هل أخبرت بها أحدًا ؟ قلت: نعم. قال : فحمد الله وأثنى عليه . ثم قال : أما بعد فإن طفيلًا رأى رؤيا أخبر بها من أخبر منكم ، وإنكم قلتم كلمة كان يمنعني كذا وكذا أن أنهاكم عنها . فلا تقولوا : ما شاء الله وشاء محمد ، ولكن قولوا : ما شاء الله وحده . قوله : عن الطفيل أخي عائشة لأمها هو الطفيل بن عبد الله بن سخبرة أخو عائشة لأمها ، صحابي له حديث عند ابن ماجه ، وهو ما ذكره المصنف في الباب . وهذه الرؤيا حق أقرها رسول الله وعمل بمقتضاها . فنهاهم أن يقولوا : ما شاء الله وشاء محمد ، وأمرهم أن يقولوا : ما شاء الله وحده . وهذا الحديث والذي قبله فيه أن يقولوا : ما شاء الله وحده ولا ريب أن هذا أكمل في الإخلاص وأبعد عن الشرك من أن يقولوا: ثم شاء فلان لأن فيه التصريح بالتوحيد المنافي للتنديد في كل وجه . فالبصير يختار لنفسه أعلى مراتب الكمال في مقام التوحيد والإخلاص . قوله : كان يمنعني كذا وكذا أن أنهاكم عنها ورد في بعض الطرق : أنه كان يمنعه الحياء منهم وبعد هذا الحديث الذي حدثه به الطفيل عن رؤياه خطبهم فنهى عن ذلك نهيًا بليغًا ، فما زال يبلغهم حتى أكمل الله له الدين وأتم له به النعمة ، وبلغ البلاغ المبين ، صلوات الله وسلامهم عليه وعلى آله وصبحه أجمعين . وفيه معنى قوله  : "الرؤيا الصالحة جزء من ستة وأربعين جزءًا من النبوة " . قلت : وإن كان رؤيا منام فهي وحي يثبت بها ما يثبت بالوحي أمرًا ونهيًا . والله أعلم .

باب من سب الدهر فقد آذى الله قوله : باب ( من سب الدهر فقد آذى الله ) وقول الله تعالى : ' 45 :24 ' " وقالوا ما هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا وما يهلكنا إلا الدهر " . قال العماد ابن كثير في تفسيره : يخبر تعالى عن دهرية الكفار ومن وافقهم من مشركي العرب في إنكار المعاد : " وقالوا ما هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا وما يهلكنا إلا الدهر " ما ثم إلا هذه الدار ، يموت قوم ويعيش آخرون ، وما ثم معاد ولا قيامة . وهذا يقوله مشركو العرب المنكرون للمعاد ، ويقوله الفلاسفة الإلهيون منهم ، وهم ينكرون البدأة والرجعة . وتقول الفلاسفة الدهرية الدورية ، المنكرون للصانع ، المعتقدون أن في كل ستة وثلاثين ألف سنة يعود كل شئ إلى ما كان عليه . وزعموا أن هذا قد تكرر مرات لا تتناهى ، فكابروا المعقول وكذبوا المنقول ، ولهذا قالوا : " وما يهلكنا إلا الدهر " قال الله تعالى : " وما لهم بذلك من علم إن هم إلا يظنون " أي يتوهمون ويتخيلون . فأما الحديث الذي أخرجه صاحب الصحيح وأبو داود والنسائي من رواية سفيان ابن عيينة عن الزهري عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة قال : قال رسول الله  : " يقول الله تعالى : يؤذيني ابن آدم ، يسب الدهر وأنا الدهر ، بيدي الأمر ، أقلب الليل والنهار " وفي رواية : " لا تسبوا الدهر فإني أنا الدهر " وفي رواية : " لا يقل ابن آدم يا خيبة الدهر ، فإني أنا الدهر ، أرسل الليل والنهار ، فإذا شئت قبضتهما " ا هـ . قال في شرح السنة : حديث متفق على صحته أخرجاه من طريق معمر من أوجه عن أبي هريرة قال : ومعناه أن العرب كان من شأنها ذم الدهر أي سبه عند النوازل ، لأنهم كانوا ينسبون إليه ما يصيبهم من المصائب والمكاره فيقولون : أصابتهم قوارع الدهر وأبادهم الدهر ، فإذا أضافوا إلى الدهر ما نالهم من الشدائد التي يصنعونها فنهوا عن سب الدهر . ا هـ باختصار . وقد أورده ابن جرير بسياق غريب جدًا بهذا الطريق . قال : كان أهل الجاهلية يقولون : إنما يهلكنا الليل والنهار وهو الذي يهلكنا ويميتنا ويحيينا ، فقال الله في كتابه : " وقالوا ما هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا وما يهلكنا إلا الدهر " . ويسبون الدهر . فقال الله عز وجل : يؤذيني ابن آدم ، يسب الدهر وأنا الدهر ، بيدي الأمر ، أقلب الليل والنهار . وكذا رواه ابن أبي حاتم عن أحمد بن منصور عن سريج بن النعمان عن ابن عيينة مثله . ثم روى عن يونس عن ابن وهب عن الزهري عن أبي سلمة عن أبي هريرة : سمعت رسول الله يقول : " يقول الله تعالى : يسب ابن آدم الدهر وأنا الدهر ، بيدي الليل والنهار " وأخرجه صاحب الصحيح والنسائي من حديث يونس بن يزيد به . وقال محمد بن إسحاق عن العلاء بن عبدالرحمن عن أبيه عن أبي هريرة أن رسول الله قال : " يقول الله عز وجل : استقرضت عبدي فلم يعطني ، ويسبني عبدي ، يقول : وادهراه ، وأنا الدهر " . قال الشافعي وأبو عبيد وغيرهما من الأئمة في تفسير قوله : ألا تسبوا الدهر فإن الله هو الدهر كانت العرب في جاهليتها إذا أصابهم شدة أو بلاء أو نكبة قالوا : يا خيبة الدهر فيسندون تلك الأفعال إلى الدهر ويسبونه ، وإنما فاعلها هو الله تعالى . فكأنما إنما سبوا الله سبحانه ، لأنه فاعل ذلك في الحقيقة ، فلهذا نهى عن سب الدهر بهذا الإعتبار لأن الله هو الدهر الذي يعنونه ويسندون إليه تلك الأفعال . هذا أحسن ما قيل في تفسيره ـ وهو المراد ـ والله أعلم . وقد غلط ابن حزم ومن نحا نحوه من الظاهرة في عدهم الدهر من الأسماء الحسنى أخذًا من هذا الحديث . ا هـ . وقد بين معناه في الحديث بقوله : أقلب الليل والنهار وتقليبه تصرفه تعالى فيه بما يحبه الناس ويكرهونه . وفي هذا الحديث زيادة لم يذكرها المصنف رحمه الله تعالى ، وهي قوله : بيدي الأمر . قوله : وفي رواية : لا تسبوا الدهر فإن الله هو الدهر . معنى هذه الرواية : هو ما صرح به في الحديث من قوله : وأنا الدهر ، أقلب الليل والنهار يعني ما يجري فيه من خير وشر بإرادة الله وتدبيره ، بعلم منه تعالى وحكمة ، لا يشاركه في ذلك غيره . ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن ، فالواجب عند ذلك حمده في الحالتين وحسن الظن به سبحانه وبحمده ، والرجوع إليه بالتوبة والإنابة . كما قال الله تعالى : ' 7 : 168 ' " وبلوناهم بالحسنات والسيئات لعلهم يرجعون " وقال تعالى : ' 21 : 35 ' " ونبلوكم بالشر والخير فتنة وإلينا ترجعون " ونسبة الفعل إلى الدهر ومسبته كثيرة ، كما في أشعار المولدين ، كابن المعتز والمتنبي وغيرهما . وليس منه وصف السنين بالشدة ونحو ذلك كقوله تعالى : ' 12 : 48 ' " ثم يأتي من بعد ذلك سبع شداد " الآية . وقال بعض الشعراء : إن الليالي من الزمان مهولة تطوى وتنشر بينها الأعمار فقصارهن مع الهموم طويلة وطوالهن مع السرور قصار وقال أبو تمام : أعوام وصل كاد ينسى طيبها ذكر النوى ، فكأنها أيام ثم انبرت أيام هجر أعقبت نحوى أسى ، فكأنها أعوام ثم انقضت تلك السنون وأهلها فكأنها وكأنهم أحلام

باب التسمى بقاضي القضاة قوله : باب ( التسمى بقاضي القضاة ونحوه ) ذكر المصنف رحمه الله هذه الترجمة إشارة إلى النهى عن التسمى بقاضي القضاة قياسًا على ما في حديث الباب . لكونه شبهه في المعنى فينهى عنه . قوله : في الصحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي قال : " إن أخنع اسم عند الله رجل تسمى ملك الأملاك ، لا مالك إلا الله " . لأن هذا اللفظ إنما يصدق على الله تعالى . فهو ملك الأملاك لا ملك أعظم ولا أكبر منه . مالك الملك ذو الجلال والإكرام . وكل ملك يؤتيه الله من يشاء من عباده فهو عارية يسرع ردها إلى المعير . وهو الله تعالى ، ينزع الملك من ملكه تارة وينزع الملك منه تارة فيصير لا حقيقة له سوى اسم زال مسماه . وأما رب العالمين فملكه دائم كامل لا انتهاء له بيده القسط يخفضه ويرفعه ، ويحفظ على عباده أعمالهم بعلمه سبحانه وتعالى ، وما تكتبه الحفظة عليهم . فيجازى كل عامل بعمله إن خيرًا فخير وإن شرًا فشر . كما ورد في الحديث : " اللهم لك الحمد كله ولك الملك كله وبيدك الخير كله . وإليك يرجع الأمر كله . أسألك من الخير كله ، وأعوذ بك من الشر كله " . قوله : قال سفيان يعني ابن عيينة مثل شاهنشاه عند العجم عبارة عن ملك الأملاك . ولهذا مثل به سفيان لأنه عبارة عنه بلغة العجم . قوله : وفي رواية : أغيظ رجل على الله وأخبثه . قوله : أغيظ من الغيظ وهو مثل الغضب والبغض . فيكون بغيضا إلى الله مغضوبًا عليه . والله أعلم . قوله : وأخبثه وهو يدل أيضًا على أن هذا خبيث عند الله فاجتمعت في حقه هذه الأمور لتعاظمه في نفسه وتعظيم الناس له بهذه الكلمة التي هي من أعظم التعظيم ، فتعظمه في نفسه وتعظيم الناس له بما ليس له بأهل ، وضعه عند الله يوم القيامة . فصار أخبث الخلق وأبغضهم إلى الله وأحقرهم ، لأن الخبيث البغيض عند الله يكون يوم القيامة أحقر الخلق وأخبثهم ، لتعاظمه في نفسه على خلق الله بنعم الله . قوله : أخنع : يعني أوضع هذا هو معنى أخنع فيفيد ما ذكرنا في معنى أغيظ أنه يكون حقيرًا بغيضًا عند الله . وفيه التحذير من كل ما فيه تعاظم . كما أخرج أبو داود عن أبي مجلذ قال : خرج معاوية رضي الله عنه على ابن الزبير وابن عامر . فقام ابن عامر وجلس ابن الزبير . فقال معاوية لابن عامر : اجلس ، فإني سمعت رسول الله يقول : "من أحب أن يتمثل له الرجال قيامًا فليتبوأ مقعده من النار " وأخرجه الترمذي أيضًا ، وقال حسن . وعن أبي أمامة رضي الله عنه قال : " خرج علينا رسول الله متكئًا على عصا ، فقمنا إليه . فقال : لا تقوموا كما تقوم الأعاجم ، يعظم بعضهم بعضًا " رواه أبو داود . قوله : أغيظ رجل هذا من الصفات التي تمر كما جاءت ، وليس شئ مما ورد في الكتاب والسنة إلا ويجب اتباع الكتاب والسنة في ذلك وإثباته على وجه يليق بجلال الله وعظمته تعالى ، إثباتًا بلا تمثيل وتنزيهًا بلا تعطيل كما تقدم ، والباب كله واحد . وهذا هو قول أهل السنة والجماعة من الصحابة والتابعين فمن بعدهم من الفرق الناجية من الثلاث والسبعين فرقة. وهذا التفرق والاختلاف إنما حدث في أواخر القرن الثالث وما بعده كما لا يخفى على من له معرفة بما وقع في الأمة من التفرق والاختلاف والخروج عن الصراط المستقيم ، والله المستعان .

باب إحترام أسماء الله باب ( احترام أسماء الله تعالى وتغيير الاسم لأجل ذلك ) عن أبي شريح : أنه كان يكنى أبا الحكم . فقال له النبي  : " إن الله هو الحكم . وإليه الحكم ، فقال : إن قومي إذا اختلفوا في شئ أتوني فحكمت بينهم فرضى كلا الفريقين . فقال : ما أحسن هذا . فما لك من الولد ؟ قل : شريح ومسلم وعبد الله . قال : فمن أكبرهم ؟ قلت : شريح . قال : فأنت أبو شريح " رواه أبو داود وغيره . قوله : عن أبي شريح قال في خلاصة التهذيب: هو أبو شريح الخزاعي اسمه خويلد بن عمرو أسلم يوم الفتح ، له عشرون حديثًا ، اتفقا على حديثين وانفرد البخاري بحديث ، وروى عنه أبو سعيد المقبري ونافع بن جيير وطائفة . قال ابن سعد : مات بالمدينة سنة ثمان وستين . وقال الشارح اسمه هانيء بن يزيد الكندي قاله الحافظ ، وقيل : الحارث الضبابي . قاله المزي . قوله : يكنى الكنية ما صدر بأب أو أم ونحو ذلك واللقب ما ليس كذلك كزين العابدين ونحوه . وقول النبي  : إن الله هو الحكم وإليه الحكم فهو سبحانه الحكم في الدنيا والآخرة ، يحكم بين خلقه في الدنيا بوحيه الذي أنزل على أنبيائه ورسله ، وما من قضية إلا ولله فيها حكم بما أنزل على نبيه من الكتاب والحكمة ، وقد يسر الله معرفة ذلك لأكثر العلماء من هذه الأمة ، فإنها لا تجتمع على ضلالة ، فإن العلماء وإن اختلفوا في بعض الأحكام فلا بد أن يكون المصيب فيهم واحدًا ، فمن رزقه الله تعالى قوة الفهم وأعطاه ملكة يقتدر بها على فهم الصواب من أقوال العلماء يسر له ذلك بفضله ومنه عليه وإحسانه إليه ، فما أجلها من عطية ، فنسأل الله من فضله . قوله : وإليه الحكم في الدنيا والآخرة كما قال تعالى : ' 42 : 10 ' " وما اختلفتم فيه من شيء فحكمه إلى الله " وقال : ' 4 : 59 ' " فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلا " فالحكم إلي الله هو الحكم إلى كتابه ، والحكم إلى رسوله هو الحكم إليه في حياته وإلى سنته بعد وفاته . وقد قال لمعاذ لما بعثه إلى اليمن : " بم تحكم ؟ قال : بكتاب الله : قال : فإن لم تجد ؟ قال : بسنة رسول الله . قال فإن لم تجد ؟ قال أجتهد رأيي . فقال الحمد لله الذي وفق رسول رسول الله إلى ما يرضى رسول الله " فمعاذ من أجل علماء الصحابة بالأحكام ومعرفة الحلال من الحرام ، ومعرفة أحكام الكتاب والسنة . ولهذا ساغ له الاجتهاد إذا لم يجد للقضية حكمًا في كتاب الله ، ولا في سنة رسوله ، بخلاف ما يقع اليوم وقبله من أهل التفريط في الأحكام ممن يجهل حكم الله في كتابه وسنة رسوله ، فيظن أنه الاجتهاد يسوغ له مع الجهل بأحكام الكتاب والسنة وهيهات . وأما يوم القيامة فلا يحكم بين الخلق إلا الله عز وجل إذا نزل لفصل القضاء بين العباد ، فيحكم بين خلقه بعلمه . وهو الذي لا يخفى عليه خافية من أعمال خلقه : '4 : 40 ' " إن الله لا يظلم مثقال ذرة وإن تك حسنة يضاعفها ويؤت من لدنه أجرًا عظيمًا " والحكم يوم القيامة إنما هو بالحسنات والسيئات ، فيؤخذ للمظلوم من الظالم من حسناته بقدر ظلامته إن كان له حسنات ، وإن لم يكن له حسنات أخذ من سيئات المظلوم ، فطرح على سيئات الظالم لا يزيد على هذا مثقال ذرة ولا ينقص هذا عن حقه بمثقال ذرة . قوله : فإن قومي إذا اختلفوا في شئ أتوني فحكمت بينهم فرضى كلا الفريقين فقال : ما أحسن هذا فالمعنى ـ والله أعلم ـ أن أبا شريح لما عرف منه قومه أنه صاحب إنصاف وتحر للعدل بينهم ومعرفة ما يرضيهم من الجانبين صار عندهم مرضيًا وهذا هو الصلح : لأن مدارؤ على الرضى لا على الإلزام . ولا على الكهان وأهل الكتاب من اليهود والنصارى ، ولا على الاستناد إلى أوضاع أهل الجاهلية من أحكام كبرائهم وأسلافهم التي تخالف حكم الكتاب والسنة . كما قد يقع اليوم كثيرًا ، كحال الطواغيت الذين لا يلتفتون إلى حكم الله ولا إلى حكم رسوله . وإنما المعتمد عندهم ما حكموا به بأهوائهم وآرائهم . وقد يلتحق بهذا بعض المقلدة لمن لم يسغ تقليده فيعتمد على قول من قلده ويترك ما هو الصواب الموافق لأصول الكتاب والسنة . والله المستعان . وقول رسول الله  : " فما لك من الولد ؟ قال شريح ، ومسلم ، وعبد الله . قال : فمن أكبرهم ؟ قلت : شريح. قال : فأنت أبو شريح " فيه تقديم الأكبر في الكنية وغيرها غالبًا . وجاء هذا المعنى في غير ما حديث والله أعلم .

باب من هزل بشيء فيه ذكر الله والرسول قوله : باب ( من هزل بشئ فيه الله أو القرآن أو الرسول ) أي فقد كفر قوله :وقول الله تعالى : ' 9 : 65 ' " ولئن سألتهم ليقولن إنما كنا نخوض ونلعب قل أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزئون" . قال العماد ابن كثير رحمه الله في تفسيره : قال أبو معشر المدني عن محمد بن كعب القرظي وغيره : قالوا : قال رجل من المنافقين : ما أرى مثل قرائنا هؤلاء ؟ أرغبنا بطونًا ، وأكذبنا ألسنًا ، وأجبننا عند اللقاء ، فرفع ذلك إلى رسول الله وقد ارتحل وركب ناقته . فقال يا رسول الله ، إنما كنا نخوض ونلعب ، ونتحدث حديث الركب نقطع به عنا الطريق . فقال : " أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزئون * لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم إن نعف عن طائفة منكم نعذب طائفة بأنهم كانوا مجرمين " وإن رجليه ليسفعان الحجارة ، وما يلتفت إليه رسول الله وهو متعلق بنسعة ناقة رسول الله وقال عبد الله بن وهب : أخبرني هشام بن سعد عن زيد بن أسلم عن عبد الله بن عمر قال : قال رجل في غزوة تبوك في مجلس : ما رأينا مثل قرائنا هؤلاء أرغب بطونًا ، ولا أكذب ألسنًا ، ولا أجبن عند اللقاء . فقال رجل في المجلس : كذبت ، ولكنك منافق ، لأخبرن رسول الله . فبلغ ذلك رسول الله ونزل القرآن . قال عبد الله بن عمر : وأنا رأيته متعلقًا بحقب ناقة رسول الله تنكبه الحجارة ، وهو يقول : يا رسول الله إنما كنا نخوض ونلعب ، ورسول الله يقول : " أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزئون * لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم " وقد رواه الليث عن هشام بن سعد بنحو هذا . وقال ابن إسحاق : وقد كان جماعة من المنافقين منهم وديعة بن ثابت أخو بني أمية ابن زيد بن عمرو بن عوف ، ورجل من أشجع حليف لبنى سلمة يقال له : مخشي بن حمير ، يشيرون إلى رسول الله وهو منطلق إلى تبوك ، فقال بعضهم لبعض : أتحسبون جلاد بني الأصفر كقتال العرب بعضهم بعضًا ؟ والله لكأنا بكم غدًا مقرنين في الجبال ، إرتجافًا وترهيبًا للمؤمنين . فقال مخشي بن حمير : والله لوددت أني أقاضي على أن يضرب كل رجل منا مائة جلدة ، وأنا نتلفت أن ينزل فينا قرآن لمقالتكم هذه ، وقال رسول الله فيما بلغني لعمار بن ياسر : أدرك القوم فإنهم قد احترقوا ، فسلهم عما قالوا ، فإن أنكروا فقل : بل قلتم كذا وكذا وكذا ، فانطلق إليهم عمار ، فقال ذلك لهم ، فأتوا رسول الله يعتذورن إليه . فقال وديعة بن ثابت ـ ورسول الله واقف على راحلته ـ فجعل يقول وهو آخذ بحقها : يا رسول الله إنما كنا نخوض ونلعب ، فقال مخشي بن حمير : يا رسول الله قعد بي اسمي واسم أبي ، فكان الذي عناه أي بقوله تعالى : " إن نعف عن طائفة منكم نعذب طائفة " في هذه الآية : مخشي بن حمير فسمى عبد الرحمن، وسأل الله أن يقتل شهيدًا لا يعلم بمكانه ، فقتل يوم اليمامة فلم يوجد له أثر . وقال عكرمة في تفسير هذه الآية : كان رجل ممن إن شاء الله عفا عنه يقول : اللهم إني أسمع آية أنا أعني بها تقشعر منها الجلود ، وتجل منها القلوب . اللهم فاجعل وفاتي قتلًا في سبيلك ، لا يقول أحد أنا غسلت ، أنا كفنت ، أنا دفنت . قال : فأصيب يوم اليمامة ، فما أحد من المسلمين إلا وقد وجد غيره . وقوله : " لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم " أي بهذه المقالة التي استهزأتم بها " إن نعف عن طائفة منكم " أي مخشي بن حمير " نعذب طائفة " أي لا يعفى عن جميعكم ، ولا بد من عذاب بعضكم " إنهم كانوا مجرمين " أي بهذه المقالة الفاجرة الخاطئة . انتهى . قال شيخ الإسلام : وقد أمره الله تعالى أن يقول لهم : " قد كفرتم بعد إيمانكم " وقول من يقول : إنهم كفروا بعد إيمانهم بلسانهم مع كفرهم أولًا بقلوبهم : لا يصح لأن الإيمان باللسان مع كفر القلب قد قارنه الكفر ، فلا يقال : قد كفرتم بعد إيمانكم ، فإنهم لم يزالوا كافرين في نفس الأمر ، وإن أريد أنكم أظهرتم الكفر بعد إظهاركم الإيمان ، فهم لم يظهروا للناس إلا لخواصهم ، وهم مع خواصهم ما زالوا كذلك . ولا يدل اللفظ على أنهم ما زالوا منافقين . وقال رحمه الله في موضع آخر : فقد أخبر أنهم كفروا بعد إيمانهم مع قولهم : إنما تكلمنا بالكفر من غير اعتقاد له ، بل إنما كنا نخوض ونلعب . وبين أن الاستهزاء بآيات الله كفر . ولا يكون هذا إلا ممن شرح صدرًا بهذا الكلام ، ولو كان الإيمان في قلبه لمنعه أن يتكلم بهذا الكلام ، والقرآن يبين أن إيمان القلب يستلزم العمل الظاهر بحسبه . كقوله تعالى : ' 24 : 47 ـ 52 ' " ويقولون آمنا بالله وبالرسول وأطعنا ثم يتولى فريق منهم من بعد ذلك" ـ إلى قوله ـ "إنما كان قول المؤمنين إذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم أن يقولوا سمعنا وأطعنا وأولئك هم المفلحون " فنفى الإيمان عمن تولى عن طاعة الرسول ، وأخبر أن المؤمنين إذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم سمعوا وأطاعوا ، فبين أن هذا من لوازم الإيمان ، انتهى . وفيه : بيان أن الإنسان قد يكفر بكلمة يتكلم بها أو عمل يعمل به . وأشدها خطرًا إرادات القلوب . فهي كالبحر الذي لا ساحل له . ويفيد الخوف من النفاق الأكبر . فإن الله تعالى أثبت لهؤلاء إيمانًا قبل أن يقولوا ما قالوه ، كما قال ابن أبي مليكة : أدركت ثلاثين من أصحاب رسول الله كلهم يخاف النفاق على نفسه . نسأل الله السلامة والعفو والعافية في الدنيا والآخرة .

باب قول الله " ولئن أذقناه رحمة منا من بعد ضراء مسته " الآية قوله : باب قول الله تعالى : ' 41 : 50 ' " ولئن أذقناه رحمة منا من بعد ضراء مسته " الآية . ذكر المصنف رحمه الله تعالى عن ابن عباس وغيره من المفسرين في معنى هذه الآية وما بعدها ما يكفي في المعنى ويشفي . قوله : قال مجاهد : هذا بعملي وأنا محقوق به . وقال ابن عباس : يريد من عندي . وقوله : " قال إنما أوتيته على علم عندي " قال قتادة : على علم مني بوجوه المكاسب : وقال آخرون : على علم من الله أني له أهل وهذا معنى قول مجاهد: أوتيته على شرف . وليس فيما ذكروه اختلاف وإنما هي افراد المعنى . قال العماد ابن كثير رحمه الله في معنى قوله تعالى : ' 39 : 49 ' " إذا خولناه نعمة منا قال إنما أوتيته على علم بل هي فتنة " يخبر أن الإنسان في حالة الضر يضرع إلى الله تعالى وينيب إليه ويدعوه ، ثم إذا خوله نعمة منه طغى وبغى و " قال إنما أوتيته على علم " أي لما يعلم الله من استحقاق له ، ولولا أني عند الله حظيظ لما خولني هذا . قال تعالى: " بل هي فتنة" أي ليس الأمر كما زعم بل إنما أنعمنا عليه بهذه النعمة لنختبره فيما أنعمنا عليه أيطيع أم يعصى ؟ مع علمنا المتقدم بذلك " بل هي فتنة " أي إختبار " ولكن أكثرهم لا يعلمون " فلهذا يقولون ما يقولون ، ويدعون ما يدعون : " قد قالها الذين من قبلهم " أي قد قال هذه المقالة وزعم هذا الزعم وادعى هذه الدعوى كثير ممن سلف من الأممم " فما أغنى عنهم ما كانوا يكسبون " أي فما صح قولهم ولا نفعهم جمعهم ، وما كانوا يكسبون . كما قال تعالى مخبرًا عن قارون : ' 28 : 76 ـ 78 ' " إذ قال له قومه لا تفرح إن الله لا يحب الفرحين * وابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة ولا تنس نصيبك من الدنيا وأحسن كما أحسن الله إليك ولا تبغ الفساد في الأرض إن الله لا يحب المفسدين * قال إنما أوتيته على علم عندي أولم يعلم أن الله قد أهلك من قبله من القرون من هو أشد منه قوة وأكثر جمعا ولا يسأل عن ذنوبهم المجرمون " وقال تعالى : ' 26 : 138 ' " وقالوا نحن أكثر أموالًا وأولادًا وما نحن بمعذبين " ا هـ .

حديث أبرص وأقرع وأعمى قوله : : وعن أبي هريرة رضي الله عنه أنه سمع رسول الله يقول : إن ثلاثة .. الحديث . قوله : أخرجاه أي البخاري ومسلم . والناقة العشراء ـ بضم العين وفتح الشين وبالمد ـ هي الحامل . قوله : أنتج وفي رواية فنتج معناه تولي نتاجها ، والناتج للناقة كالقابلة للمرأة . قوله : ولد هذا هو بتشديد اللام ، أي تولى ولادتها ، وهو بمعنى أنتج في الناقة ، فالمولد والناتج والقابلة بمعنى واحد ، لكن هذا للحيوان ، وذلك لغيره . وقوله : انقطعت بي الحبال هو بالحاء المهملة والباء الموحدة : هي الأسباب . قوله : لا أجهدك معناه : لا أشق عليك في رد شئ تأخذ ، أو تطلب من مالي ذكره النووي . وهذا حديث عظيم ، وفيه معتبر : فإن الأولين جحدا نعمة الله ، فما أقرا لله بنعمة ، ولا نسبا النعمة إلى المنعم بها ، ولا أديا حق الله فيها ، فحل عليهما السخط . وأما الأعمى فاعترف بنعمة الله ، ونسبها إلى من أنعم عليه بها ، وأدى حق الله فيها ، فاستحق الرضا من الله بقيامه بشكر النعمة لما أتى بأركان الشكر الثلاثة التي لا يقوم الشكر إلا بها . وهي الإقرار بالنعمة ونسبتها إلى المنعم ، وبذلها فيما يجب . قال العلامة ابن القيم رحمه الله : أصل الشكر هو الاعتراف بإنعام المنعم على وجه الخضوع له ، والذل والمحبة ، فمن لم يعرف النعمة بل كان جاهلًا بها لم يشكرها ، ومن عرفها ولم يعرف بها لم يشكرها أيضًا ، ومن عرف النعمة والمنعم لكن جحدها كما يحجد المنكر لنعمة المنعم عليه بها فقد كفرها ، ومن عرف النعمة والمنعم بها ، وأقر بها ولم يجحدها ، ولكن لم يخضع له ولم يحبه ويرض به وعنه ، لم يشكره أيضًا ، ومن عرفها وعرف المنعم بها وأقر بها ، وخضع للمنعم بها ، وأحبه ورضى به وعنه ، واستعملها في محابه وطاعته ، فهذا هو الشاكر لها ، فلا بد في الشكر من علم القلب ، وعمل يتبع العلم ، وهو الميل إلى المنعم ومحبته والخضوع له . قوله : قذرني الناس بكراهة رؤيته وقربه منهم .

باب قول الله " فلما آتاهما صالحا " الآية

قول الله ' 7 : 190 ' " فلما آتاهما صالحًا جعلا له شركاء فيما آتاهما فتعالى الله عما يشركون "  .

قال الإمام أحمد رحمه الله في معنى هذه الآية : حدثنا عبد الصمد حدثنا عمر بن إبراهيم حدثنا قتادة عن الحسن عن سمرة عن النبي قال : " لما ولدت حواء طاف بها إبليس وكان لا يعيش لها ولد فقال : سميه عبد الحارث فإنه يعيش ، فسمته عبد الحارث فعاش . وكان ذلك من وحي الشيطان وأمره " وهكذا رواه ابن جرير عن محمد بن بشار بندار عن عبد الصمد بن عبد الوارث به . ورواه الترمذي في تفسير هذه الآية عن محمد ابن المثنى عن عبد الصمد به ، وقال : هذا حديث حسن غريب ، لا نعرفه إلا من حديث عمر بن إبراهيم ، ورواه بعضهم عن عبد الصمد ولم يرفعه . ورواه الحاكم في مستدركه من حديث عبد الصمد مرفوعًا ، وقال : هذا حديث صحيح الإسناد ، ولم يخرجاه . ورواه الإمام أبو محمد بن أبي حاتم في تفسيره عن أبي زرعة الرازي عن هلال بن فياض عن عمر بن إبراهيم به مرفوعًا . وقال ابن جرير : حدثنا ابن وكيع ، حدثنا سهيل بن يوسف عن عمرو عن الحسن " جعلا له شركاء فيما آتاهما " قال : كان هذا في بعض أهل الملل ولم يكن آدم . وحدثنا بشر بن معاذ قال : حدثني يزيد ، حدثنا سعيد عن قتادة قال : كان الحسن يقول : هم اليهود والنصارى ، رزقهم الله أولادًا فهودوا ونصروا وهذا إسناد صحيح عن الحسن رحمه الله . قال العماد ابن كثير في تفسيره : وأما الآثار : فقال : محمد بن إسحاق عن داود ابن الحصين عن عكرمة عن ابن عباس قال : كانت حواء تلد لآدم عليه السلام أولادًا فتعبدهم لله وتسميهم عبد الله وعبيد الله ونحو ذلك ، فيصيبهم الموت ، فأتاهما إبليس فقال : أما إنكما لو تسميانه بغير الذي تسميانه به لعاش ، فولدت له رجلًا فسماه عبد الحارث ، ففيه أنزل الله : " هو الذي خلقكم من نفس واحدة " الآية وقال العوفي عن ابن عباس :فأتاهما الشيطان فقال : هل تدريان ما يولد لكما ؟ أم هل تدريان ما يكون ، أبهيمة أم لا ؟ وزين لهما الباطل ، إنه لغوي مبين ، وقد كانت قبل ذلك ولدت ولدين فماتا ، فقال لهما الشيطان: إنكما إن لم تسمياه بي لم يخرج سويًا ، ومات كما مات الأول . فسميا ولدهما عبد الحارث ، فذلك قوله تعالى : " فلما آتاهما صالحًا جعلا له شركاء فيما آتاهما فتعالى الله عما يشركون " . وذكر مثله عن سعيد بن جيير عن ابن عباس . ورواه ابن أبي حاتم . وقد تلقى هذا الأثر عن ابن عباس جماعة من أصحابه كمجاهد وعكرمة وسعيد بن جبير ، ومن الطبقة الثانية : قتادة والسدى وجماعة من الخلف ، ومن المفسرين والمتأخرين جماعات لا يحصون كثرة . قال العماد ابن كثير : وكأن أصله ـ والله أعلم ـ مأخوذ من أهل الكتاب . قلت : وهذا بعيد جدًا . قوله : قال ابن حزم : اتفقوا على تحريم كل اسم معبد لغير الله كعبد عمرو وعبد الكعبة ، وما أشبه ذلك ، حاشى عبد المطلب . ابن حزم : هو عالم الأندلس ، أبو محمد على بن أحمد بن سعيد بن حزم القرطبي الظاهري . صاحب التصانيف ، توفي سنة ست وخمسين وأربعمائة . وله اثنتان وسبعون سنة . وعبد المطلب هذا هو جد رسول الله . وهو ابن هاشم بن عبد مناف بن قصى بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر بن مالك بن النضر بن كنانة بن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان ، وما فوق عدنان مختلف فيه . ولا ريب أنهم من ذرية إسماعيل بن إبراهيم الخليل عليهما السلام . حكى رحمه الله اتفاق العلماء على تحريم كل ما عبد لغير الله ، لأنه شرك في الربوبية والإلهية . لأن الخلق كلهم ملك لله وعبيد له ، استعبدهم لعبادته وحده ، وتوحيده في ربوبيته وإلهيته ، فمنهم من عبد الله ووحده في ربوبيته وإلهيته ، ومنهم من أشرك به في إلهيته وأقر له بربوبيته وأسمائه وصفاته ، وأحكامه القدرية جارية عليهم ولا بد ، كما قال تعالى : ' 19 : 93 ' " إن كل من في السماوات والأرض إلا آتي الرحمن عبدا " فهذه هي العبودية العامة . وأما العبودية الخاصة فإنها تخص بأهل الإخلاص والطاعة ، كما قال تعالى : " أليس الله بكاف عبده " ونحوها . قوله : حاشى عبد المطلب هذا استثناء من العموم المستفاد من كل وذلك أن تسميته بهذا الإسم لا محذور فيها ، لأن أصله من عبودية الرق ، وذلك أن المطلب أخو هاشم قدم المدينة ، وكان ابن أخيه شيبة هذا قد نشأ في أخواله بني النجار من الخزرج، لأن هاشمًا تزوج فيهم امرأة ، فجاءت منه بهذا الابن ، فلما شب في أخواله ، وبلغ سن التمييز سافر به عمه المطلب إلى مكة بلد أبيه وعشيرته فقدم به مكة وهو رديفه ، فرآه أهل مكة وقد تغير لونه بالسفر ، فحسبوه عبدًا للمطلب ، فقالوا : هذا عبد المطلب ، فعلق به هذا الإسم وركبه ، فصار لا يذكر ولا يدعى إلا به ، فلم يبق للأصل معنى مقصود . وقد قال النبي  : " أنا ابن عبد المطلب " وقد صار معظمًا في قريش والعرب ، فهو سيد قريش وأشرفهم في جاهليته ، وهو الذي حفر زمزم وصارت له السقاية وفي ذريته من بعده . وعبد الله والد رسول الله أحد بني عبد المطلب ، وتوفي في حياة أبيه . قال الحافظ صلاح الدين العلائي في كتاب الدرة السنية في مولد خير البرية : كان سن أبيه عبد الله حين حملت منه آمنة برسول الله نحو ثمانية عشر عامًا ، ثم ذهب إلى المدينة ليمتار منها تمرًا لأهله فمات بها عند أخواله بني عدي بن النجار ، والنبي صلى الله عليه حمل على الصحيح . انتهى . قلت : وصار النبي لما أوضعته أمه في كفالة جده عبد المطلب . قال الحافظ الذهبي : وتوفي أبوه عبد الله وللنبي ثمانية وعشرون شهرًا ، وقيل أقل من ذلك ، وقيل : وهو حمل . توفي بالمدينة ، وكان قد قدمها ليمتار تمرًا ، وقيل : بل مر بها راجعًا من الشام ، وعاش خمسة وعشرين سنة . قال الواقدي : وذلك أثبت الأقاويل في سنه ووفاته . وتوفيت أمه آمنة بالأبواء وهي راجعة به إلى مكة من زيارة أخوال أبيه بني عدي بن النجار ، وهو يومئذ ابن ست سنين ومائة يوم ، وقيل : ابن أربع سنين . فلما ماتت أمه حملته أم أيمن مولاته إلى جده ، فكان في كفالته إلى أن توفي جده ، وللنبي ثمان سنين فأوصى به إلى عمه أبو طالب ا هـ . قوله : وعن ابن عباس رضي الله عنهما في الآية قد قدمنا نظيره عن ابن عباس في المعنى . قوله : وله بسند صحيح عن قتادة قال : شركاء في طاعته ولم يكن في عبادته قال شيخنا رحمه الله : إن هذا الشرك في مجرد تسمية ، لم يقصدا حقيقته التي يريدها إبليس ، وهو محمل حسن يبين أن ما وقع من الأبوين من تسميتهما ابنهما عبد الحارث إنما هو مجرد تسمية لم يقصدا تعبيده لغير الله وهذا معنى قول قتادة : شركاء في طاعته ولم يكن في عبادته .

قول الله " ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها " قوله : باب

قول الله تعالى : ' 7 : 180 ' " ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها وذروا الذين يلحدون في أسمائه " الآية .

عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله قال : " إن لله تسعة وتسعين اسمًا ، مائة إلا واحدًا ، من أحصاها دخل الجنة ، وهو وتر يحب الوتر " أخرجاه في الصحيحين من حديث سفيان ابن عيينة . ورواه البخاري عن أبي اليمان عن أبي الزناد عن الأعرج عنه . وأخرجه الجوزجاني عن صفوان بن صالح عن الوليد بن مسلم عن شعيب بسنده مثله . وزار بعد قوله : " يحب الوتر ـ : هو الله الذي لا إله إلا هو ، الرحمن ، الرحيم ، الملك ، القدوس ، السلام ، المؤمن ، المهيمن ، العزيز ، الجبار ، المتكبر ، الخالق ، البارىء ، المصور ، القهار ، الغفار ، الوهاب ، الرزاق ، الفتاح ، العليم ، القابض ، الباسط ، الخافض ، الرافع ، المعز ، المذل ، السميع ، البصير ، الحكم ، العدل ، اللطيف ، الخبير ، الحليم ، العظيم ، الغفور ، الشكور ، العلي ، الكبير ، الحفيظ ، المقيت ، الحسيب ، الجليل ، الكريم ، الرقيب ، المجيب ، الواسع ، الحكيم ، الودود ، المجيد ، الباعث ، الشهيد ، الحق ، الوكيل ، القوي ، المتين ، الولي ، الحميد ، المحصي ، المبدىء ، المعيد ، المحيى ، المميت ، الحي ، القيوم ، الواجد ، الماجد ، الواحد ، الأحد ، الفرد ، الصمد ، القادر ، المقتدر ، المقدم ، المؤخر ، الأول ، الآخر ، الظاهر ، الباطن ، الوالي ، المتعالي ، البر ، التواب ، المنتقم ، العفو ، الرؤوف ، مالك الملك ، ذو الجلال والإكرام ، المقسط ، الجامع ، الغني ، المغني ، المعطي ، المانع ، الضار ، النافع ، النور ، الهادي ، البديع ، الباقي ، الوارث ، الرشيد ، الصبور " . ثم قال الترمذي : هذا حديث غريب . وقد روى من غير وجه عن أبي هريرة ، ولا نعلم في كثير من الروايات ذكر الأسماء إلا في هذا الحديث . الذي عول عليه جماعة من الحفاظ أن سرد الأسماء في هذا الحديث مدرج فيه . وإنما ذلك كما رواه الوليد بن مسلم وعبد الملك بن محمد الصنعاني عن زهير بن محمد أنه بلغه عن غير واحد من أهل العلم أنهم قالوا ذلك . أي أنهم جمعوها من القرآن كما روى عن جعفر بن محمد وسفيان وأبي زيد اللغوي والله أعلم . هذا ما ذكره العماد ابن كثير في تفسيره . ثم قال : ليعلم أن الأسماء الحسنى ليست منحصرة في تسعة وتسعين . بدليل ما رواه أحمد عن يزيد بن هارون عن فضيل بن مرزوق عن أبي سلمة الجهني عن القاسم بن عبد الرحمن عن أبيه عن عبد الله بن مسعود عن رسول الله قال : " ما أصاب أحدًا قط هم ولا حزن فقال : اللهم إني عبدك بن عبدك ، بن أمتك ، ناصيت بيدك . ماض في حكمك . عدل في قضاؤك . أسألك اللهم بكل اسم هو لك . سميت به نفسك. أو أنزلته في كتابك . أو علمته أحدًا من خلقك . أو استأثرت به في علم الغيب عنك . أن تجعل القرآن العظيم ربيع قلبي ونور صدري . وجلاء حزني . وذهاب همي وغمى . إلا أذهب الله همه وحزنه . وأبدله مكانه فرحًا فقيل : يا رسول الله : ألا نتعلهما ؟ فقال : بلى . ينبغي لمن سمعها أن يتعلمها " وقد أخرجه أبو حاتم وابن حبان في صحيحه .

معنى يلحدون في أسمائه وقال العوفي عن ابن عباس في قوله تعالى : " وذروا الذين يلحدون في أسمائه " قال : إلحاد الملحدين : أن دعوا اللات في أسماء الله وقال ابن جريج عن مجاهد : " وذروا الذين يلحدون في أسمائه " قال : اشتقوا اللات من الله . واشتقوا العزى من العزيز . وقال قتادة : يلحدون : يشركون وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس الإلحاد التكذيب . وأصل الإلحاد في كلام العرب : العدول عن القصد . والميل والجور والإنحراف . ومنه اللحد في القبر . لانحرافه إلى جهة القبلة عن سمت الحفر . قال ابن القيم رحمه الله تعالى : وحقيقة الإلحاد فيها الميل بالإشـ ـراك والتعطيل والنكران وقال رحمه الله تعالى : فالإلحاد إما بجحدها وإنكارها . وإما بجحد معانيها وتعطيلها وإما بتحريفها عن الصواب وإخراجها عن الحق بالتأويلات . وإما أن يجعلها أسماء لهذه المخلوقات كإلحاد أهل الاتحاد . فإنهم جعلوها أسماء هذا الكون محمودها ومذمومها . حتى قال زعيمهم : هو المسمى بمعنى كل اسم ممدوح عقلًا وشرعًا وعرفًا . وبكل اسم مذموم عقلًا وشرعًا وعرفًا . تعالى عما يقولون علوًا كبيرًا ، انتهى . قتل : والذي عليه أهل السنة والجماعة قاطبة . متقدمهم ومتأخرهم : إثبات الصفات التي وصف الله بها نفسه ووصفه بها رسول الله على ما يليق بجلال الله وعظمته . إثباتًا بلا تمثيل . وتنزيهًا بلا تعطيل . كما قال تعالى : ' 42 : 11 ' " ليس كمثله شيء وهو السميع البصير " وأن الكلام في الصفات فرع عن الكلام في الذات يحتذى حذوه ومثاله . فكما أنه يجب العلم بأن الله ذاتًا حقيقة لا تشبه شيئًا من ذوات المخلوقين ، فله صفات حقيقة لا تشبه شيئًا من صفات المخلوقين ، فمن جحد شيئًا مما وصف الله به نفسه أو وصفه به رسوله ، أو تأوله على غير ما ظهر من معناه فهو جهمي قد اتبع غير سبيل المؤمنين . كما قال تعالى : ' 4 : 115 ' " ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيرًا " . وقال العلامة ابن القيم رحمه الله تعالى أيضًا : ( فائدة جليلة ) ما يجري صفة أو خبرًا على الرب تبارك وتعالى أقسام : أحدها : ما يرجع إلى نفس الذات ، كقولك : ذات وموجود . الثاني : ما يرجع صفاته ونعوته ، كالعليم والقدير ، والسميع والبصير . الثالث : ما يرجع إلى أفعاله . كالخالق والرازق . الرابع : التنزيه المحض . ولا بد من تضمنه ثبوتًا ، إذا لا كمال في العدم المحض ، كالقدوس والسلام . الخامس : ـ ولم يذكره أكثر الناس ـ وهو الاسم الدال على جملة أوصاف عديدة لا تختص بصفة معينة ، بل دال على معان ، نحو المجيد العظيم الصمد . فإن المجيد من اتصف بصفات متعددة ، من صفات الكمال ، ولفظه يدل على هذا . فإنه موضوع للسعة والزيادة والكثرة ، فمنه استمجد المرخ والعفار وأمجد الناقة ، علفها . ومنه رب العرش المجيد صفة العرش لسعته وعظمته وشرفه . وتأمل كيف جاء هذا الاسم مقترنًا بطلب الصلاة من الله على رسوله كما علمناه لأنه في مقام طلب المزيد والتعرض لسعة العطاء ، وكثرته ودوامه . فأتى في هذا المطلوب باسم يقتضيه ، كما تقول : اغفر لي وارحمني إنك أنت الغفور الرحيم ، فهو راجع إلى التوسل إليه بأسمائه وصفاته . وهو من أقرب الوسائل وأحبها إليه . ومنه الحديث الذي في الترمذي : " ألظوا بياذا الجلال والإكرام " ومنه : " اللهم إني أسألك بأن لك الحمد لا إله إلا أنت المنان بديع السموات والأرض يا ذا الجلال والإكرام " فهذا سؤال له وتوسل إليه بحمده وأنه لا إله إلا هو المنان . فهو توسل إليه بأسمائه وصفاته . وما أحق ذلك بالإجابة وأعظمه موقعًا عند المسؤول . وهذا باب عظيم من أبواب التوحيد . السادس : صفة تحصل من اقتران أحد الاسمين والوصفين بالآخر . وذكل قدر زائد على مفرديهما نحو الغني الحميد ، الغفور القدير ، الحميد المجيد ، وهكذا عامة الصفات المقترنة والأسماء المزدوجة في القرآن . فإن الغني صفة كمال و الحمد كذلك ، واجتماع الغني مع الحمد كمال آخر ، فله ثناء من غناه من حمده ، وثناء من اجتماعهما ، وكذلك الغفور القدير ، والحميد المجيد ، والعزيز الحكيم ، فتأمله فإنه أشرف المعارف .

باب : لا يقال السلام على الله قوله : ( باب لا يقال : السلام على الله ) . قوله : في الصحيح عن ابن مسعود ـ إلخ هذا الحديث رواه البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي وابن ماجه من حديث شقيق بن سلمة عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال : " كنا إذا جلسنا مع رسول الله في الصلاة قلنا : السلام على الله قبل عباده ، السلام على فلان وفلان ـ الحديث " وفي آخره ذكر التشهد الآخير . رواه الترمذي من حديث الأسود بن يزيد عن ابن مسعود . وذكر في الحديث سبب النهي عن ذلك بقوله : " فإن الله هو السلام ومنه السلام " وقد كان النبي إذا انصرف من الصلاة المكتوبة يستغفر ثلاثًا ويقول : " اللهم أنت السلام ومنك السلام ، تباركت يا ذا الجلال والإكرام " . وفي الحديث : "إن هذا هو تحية أهل الجنة لربهم تبارك وتعالى " وفي التنزيل ما يدل على أن الرب تبارك وتعالى يسلم عليهم في الجنة . كما قال تعالى : ' 36 : 58 ' " سلام قولًا من رب رحيم " . ومعنى قوله : إن الله هو السلام إن الله سالم من كل نقص ومن كل تمثيل . فهو الموصوف بكل كمال ، المنزه عن كل عيب ونقص . قال العلامة ابن القيم في بدائع الفوائد : السلام اسم مصدر . وهو من ألفاظ الدعاء . يتضمن الإنشاء والإخبار ، فجهة الخبر فيه لا تناقض الجهة الإنشائية . وهو معنى السلام المطلوب عند التحية . وفيه قولان مشهوران : الأول : أن السلام هنا هو الله عز وجل . ومعنى الكلام : نزلت بركته عليكم ونحو ذلك . فاختير في هذا المعنى من أسمائه عز وجل اسم السلام دون غيره من الأسماء . الثاني : أن السلام مصدر بمعنى السلامة . وهو المطلوب المدعو به عند التحية ومن حجة أصحاب القول : أنه يأتي منكرًا ، فيقول المسلم : سلام عليكم ولو كان اسمًا من أسماء الله لم يستعمل كذلك . ومن حجتهم : أنه ليس المقصود من السلام هذا المعنى ، وإنما المقصود منه الإيذان بالسلامة خبرًا ودعاء . قال العلامة ابن القيم رحمه الله : وفصل الخطاب أن يقال : الحق في مجموع القولين . فكل منهما بعض الحق ، والصواب في مجموعهما . وإنما يتبين ذلك بقاعدة . وهي : أن حق من دعا الله بأسمائه الحسنى أن يسأل في كل مطلوب ويتوسل بالاسم المقتضى لذلك المطلوب ، المناسب لحصوله ، حتى إن الداعي متشفع إلى الله تعالى متوسل به إليه . فإذا قال : رب اغفر لي وتب علي إنك أنت التواب الغفور . فقد سأله أمرين وتوسل إليه باسمين من أسمائه ، مقتضيين لحصول مطلوبه . وقال لأبي بكر رضي الله عنه وقد سأله ما يدعو به " قل : اللهم أني ظلمت نفسي ظلمًا كثيرًا ، ولا يغفر الذنوب إلا أنت فاغفر لي مفغرة من عندك ، وارحمني إنك أنت الغفور الرحيم " فالمقام لما كان مقام طلب السلامة التي هي أهم عند الرجل ، أتى في طلبها بصيغة اسم من أسماء الله تعالى وهو السلام الذي تطلب منه السلامة . فتضمن لفظ السلام معنين : أحدهما : ذكر الله، والثاني: طلب السلامة . وهو مقصود المسلم . فقد تضمن سلام عليكم اسمًا من اسماء الله وطلب السلامة منه . فتأمل هذه الفائدة . وحقيقته : البراءة والخلاص والنجاة من الشر والعيوب . وعلى هذا المعنى تدور تصاريفه ، فمن ذاك قولهم : سلمك الله ، ومنه دعاء المؤمنين على الصراط رب سلم سلم ومنه سلم الشئ لفلان ، أي خلص له وحده . قال تعالى : ' 39 : 29 ' " ضرب الله مثلًا رجلًا فيه شركاء متشاكسون ورجلًا سلمًا لرجل " أي خالصًا له وحده لا يملكه معه غيره . ومنه السلم ضد الحرب : لأن كل واحد من المتحاربين يخلص ويسلم من أذى الآخر ، ولهذا بنى فيه على المفاعلة ، فقيل : المسالمة مثل المشاركة . ومنه القلب السليم وهو النفي من الدغل والعيب . وحقيقته : الذي قد سلم لله وحده ، فخلص من دغل الشرك وغله ، ودغل الذنوب والمخالفات ، فهو مستقيم على صدق حبه وحسن معاملته . وهذا هو الذي ضمن له النجاة من عذاب الله والفوز بكرامته . ومنه أخذ الإسلام ، فإنه من هذه المادة ، لأنه الاستسلام والانقياد لله ، والتخلص من شوائب الشرك ، فسلم لربه وخلص له ، كالعبد الذي سلم لمولاه ليس له فيه شركاء متشاكسون . ولهذا ضرب سبحانه هذين المثلين للمسلم الخالص لربه وللمشرك به .

قول : اللهم اغفر لي إن شئت قوله : باب قول : اللهم اغفر لي إن شئت يعني أن ذلك لا يجوز لورود النهي عنه في حديث الباب . قوله : في الصحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله قال : " لا يقل أحدكم : اللهم اغفر لي إن شئت ، اللهم ارحمني إن شئت ، ليعزم المسألة فإن الله لا مكره له " بخلاف العبد ، فإنه قد يعطي السائل مسألته . لحاجته إليه، أو لخوفه أو رجائه ، فيعطيه مسألته وهو كاره . فاللائق بالسائل للمخلوق أن يعلق حصول حاجته على مشيئة المسؤول ، مخافة أن يعطيه وهو كاره ، بخلاف رب العالمين ، فإنه تعالى لا يليق به ذلك لكمال غناه عن جميع خلقه ، وكمال جوده وكرمه ، وكلهم فقير إليه ، محتاج لا يستغني عن ربه طرفة عين وعطاؤه كلام . وفي الحديث : " يمين الله ملأى لا يغيضها نفقة ، سخاء الليل والنهار . أرأيتم ما أنفق منذ خلق السموات والأرض ؟ فإنه لم يغض ما في يمينه ، وفي يده الأخرى القسط يخفضه ويرفعه " يعطي تعالى لحكمة ويمنع لحكمة وهو الحكيم الخبير . فاللائق بمن سأل الله أن يعزم المسألة ، فإنه لا يعطي عبده شيئًا عن كراهة ولا عن عظم مسألة . وقد قال بعض الشعراء فيمن يمدحه : ويعظم في عين الصغير صغارها ويصغر في عين العظيم العظائم وهذا بالنسبة إلى ما في نفوس أرباب الدنيا ، وإلا فإن العبد يعطي تارة ويمنع أكثر ، ويعطي كرهًا ، والبخل عليه أغلب . وبالنسبة إلى حاله هذه فليس عطاؤه بعظيم ، وأما ما يعطيه الله تعالى عباده فهو دائم مستمر ، يجود بالنوال قبل السؤال من حين وضعت النطفة في الرحم . فنعمه على الجنين في بطن أمه دارة ، يربيه أحسن تربية ، فإذا وضعته أمه عطف عليه والديه ورباه بنعمة حتى يبلغ أشد ، يتقلب في نعم الله مدة حياته ، فإن كانت حياته على الإيمان والتقوى ازدادت نعم الله تعالى عليه إذا توفاه أضعاف أضعاف ما كان عليه في الدنيا من النعم التي لا يقدر قدرها إلا الله ، مما أعده الله تعالى لعباده المؤمنين المتقين . وكل ما يناله العبد في الدنيا من النعم وإن كان بعضها على يد مخلوق فهو بإذن الله وإرادته وإحسانه إلى عبده ، فالله تعالى هو المحمود على النعم كلها ، فهو الذي شاءها وقدرها وأجراها عن كرمه وجوده وفضله . فله النعمة وله الفضل وله الثناء الحسن . قال تعالى : ' 16 : 53 ' " وما بكم من نعمة فمن الله ثم إذا مسكم الضر فإليه تجأرون " وقد يمنع سبحانه عبده إذا سأله لحكمة وعلم بما يصلح عبده من العطاء والمنع ، وقد يؤخر ما سأله عبده لوقته المقدر ، أو ليعطيه أكثر . فتبارك الله رب العالمين . وقوله :ولمسلم : وليعظم الرغبة أي في سؤاله ربه حاجته ، فإنه يعطي العظائم كرمًا وجودًا وإحسانًا . فالله تعالى لا يتعاظمه شئ أعطاه ، أي ليس شئ عنده بعظيم ، وإن عظم في نفس المخلوق . لأن سائل المخلوق لا يسأله إلا ما يهون عليه بذله بخلاف رب العالمين ، فإن عطاءه كلام ' 36 : 82 ' " إنما أمره إذا أراد شيئًا أن يقول له كن فيكون " فسبحان من لا يقدر الخلق قدره ، لا إله غيره ولا رب سواه .

لا يقول : عبدي وأمتي قوله : باب ( لا يقول : عبدي وأمتي ) ذكر الحديث الذي في الصحيح : عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله قال : " لا يقولن أحدكم : أطعم ربك . وضيء ربك . وليقل : سيدي ومولاي . ولا يقل أحدكم : عبدي وأمتي ، وليقل : فتاي وفتاتي وغلامي " . هذه الألفاظ المنهى عنها . وإن كانت تطلق لغة . فالنبي نهى عنها تحقيقًا للتوحيد وسدًا لذرائع الشرك لما فيها من التشريك في اللفظ . لأن الله تعالى هو رب العباد جميعهم . فإذا أطلق على غيره شاركه في الاسم . فينهى عنه لذلك . وإن لم يقصد بذلك التشريك في الربوبية التي هي وصف الله تعالى . وإنما المعنى أن هذا مالك له . فيطلق عليه هذا اللفظ بهذا الإعتبار . فالنهي عنه حسمًا لمادة التشريك بين الخالق والمخلوق . وتحقيقًا للتوحيد . وبعدًا عن الشرك حتى في اللفظ . وهذا أحسن مقاصد الشريعة . لما فيه من تعظيم الرب تعالى ، وبعده عن مشابهة المخلوقين ، فأرشدهم إلى ما يقوم مقام هذه الألفاظ . وهو قوله سيدي ومولاي وكذا قوله : ولا يقل أحدكم عبدي وأمتي لأن العبيد عبيد الله . والإماء إماء الله . قال الله تعالى : ' 19 : 93 ' " إن كل من في السماوات والأرض إلا آتي الرحمن عبدا " ففي إطلاق هاتين الكلمتين على غير الله تشريك في اللفظ ، فنهاهم عن ذلك تعظيمًا لله تعالى وأدبًا وبعدًا عن الشرك وتحقيقًا للتوحيد ، وأرشدهم إلى أن يقولوا : فتاي وفتاتي وغلامي وهذا من باب حماية المصطفى جناب التوحيد ، فقد بلغ أمته كل ما فيه لهم نفع ، ونهاهم عن كل ما فيه نقص في الدين . فلا خير إلا دلهم عليه ، خصوصًا في تحقيق التوحيد ، ولا شر إلا حذرهم منه ، خصوصًا ما يقرب من الشرك لفظًا وإن لم يقصد به . وبالله التوفيق .

لا يرد من سأل الله قوله : باب ( لا يرد من سأل بالله ) ظاهر الحديث النهي عن رد السائل إذا سأل بالله . لكن هذا العموم يحتاج إلى تفصيل بحسب ما ورد في الكتاب والسنة ، فيجب إذا سأل السائل ما له فيه حق كبيت المال أن يجاب فيعطى منه على قدر حاجته وما يستحقه وجوبًا ، وكذلك إذا سأل المحتاج من في ماله فضل فيجب أن يعطيه على حسب حاله ومسألته ، خصوصًا إذا سأل من لا فضل عنده ، فيستحب أن يعطيه على قدر حال المسؤول ما لا يضر به ولا يضر عائلته ، وإن كان مضطرًا وجب أن يعطيه ما يدفع ضرورته . ومقام الإنفاق من أشرف مقامات الدين ، وتفاوت الناس فيه بحسب ما جبلوا عليه من الكرم وضدهما من البخل والشح . فالأول : محمود في الكتاب والسنة . والثاني : مذموم فيهما . وقد حث الله تعالى عباده على الإنفاق لعظم نفعه وتعديه وكثرة ثوابه . قال الله تعالى : ' 2 : 267 ، 268 ' " يا أيها الذين آمنوا أنفقوا من طيبات ما كسبتم ومما أخرجنا لكم من الأرض ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون ولستم بآخذيه إلا أن تغمضوا فيه واعلموا أن الله غني حميد * الشيطان يعدكم الفقر ويأمركم بالفحشاء والله يعدكم مغفرة منه وفضلا والله واسع عليم " وقال تعالى : ' 55 : 7 ' " وأنفقوا مما جعلكم مستخلفين فيه " وذلك الإنفاق من خصال البر المذكورة في قوله تعالى : ' 2 : 177 ' " ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنبيين وآتى المال على حبه ذوي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل والسائلين " الآية فذكره بعد ذكر أصول الإيمان وقبل ذكر الصلاة . ذلك ـ والله أعلم ـ لتعدي نفعه . وذكره تعالى في الأعمال التي أمر الله بها عباده . وتعبدهم بها ووعدهم عليها الأجر العظيم . قال تعالى : ' 33 : 35 ' " إن المسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات والقانتين والقانتات والصادقين والصادقات والصابرين والصابرات والخاشعين والخاشعات والمتصدقين والمتصدقات والصائمين والصائمات والحافظين فروجهم والحافظات والذاكرين الله كثيرا والذاكرات أعد الله لهم مغفرة وأجرا عظيما " . وكان النبي يحث أصحابه على الصدقة حتى النساء . نصحًا للأمة وحثًا لهم على ما ينفعهم عاجلًا وآجلًا . وقد أثنى الله سبحانه على الأنصار رضي الله عنهم بالإيثار ، فقال تعالى : ' 59 : 9 ' " ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة ، ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون " والإيثار من أفضل خصال المؤمن كما تفيده هذه الآية الكريمة ، وقد قال تعالى: ' 76 : 8، 9 ' " ويطعمون الطعام على حبه مسكينا ويتيما وأسيرا * إنما نطعمكم لوجه الله لا نريد منكم جزاء ولا شكورا " . والآيات والأحاديث في فضل الصدقة كثيرة جدًا ، ومن كان سعيه للآخرة رغب في هذا ورغب ، بالله التوفيق . قوله : من دعاكم فأجيبوه هذا من حقوق المسلمين بعضهم على بعض : إجابة دعوة المسلم ، وتلك من أسباب الألفة والمحبة بين المسلمين .

من صنع لكم معروفًا فكافئون قوله : ومن صنع إليكم معروفًا فكافئوه ندبهم على المكافأة على المعروف ، فإن المكافأة على المعروف من المروءة التي يحبها الله ورسوله ، كما دل عليه هذا الحديث ولا يهمل المكافأة على المعروف إلا اللئام من الناس ، وبعض اللئام يكافىء على الإحسان بالإساءة ، كما يقع كثيرًا من بعضهم . نسأل الله العفو والعافية في الدنيا والآخرة ، بخلاف حال أهل التقوى والإيمان فإنهم يدفعون السيئة بالحسنة طاعة لله ومحبة لما يحبه لهم ويرضاه ، كما قال تعالى : ' 23 : 96 ـ 98 ' " ادفع بالتي هي أحسن السيئة نحن أعلم بما يصفون * وقل رب أعوذ بك من همزات الشياطين * وأعوذ بك رب أن يحضرون " وقال تعالى : ' 41 : 34 ، 35 ' " ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم * وما يلقاها إلا الذين صبروا وما يلقاها إلا ذو حظ عظيم " وهم الذين سبقت لهم من الله تعالى السعادة . قوله : فإن لم تجدوا ما تكافئونه فادعوا له أرشدهم إلى أن الدعاء في حق من لم يجد المكافأة مكافأة للمعروف : فيدعو له على حسب معروفه . قوله : تروا ـ بضم التاء تظنوا ـ أنكم قد كافأتموه ويحتمل أنها مفتوحة بمعنى تعلموا . ويؤيده ما في سنن أبي داود من حديث ابن عمر : حتى تعلموا فتعين الثاني للتصريح به . وفيه : من سألكم بالله فأجيبوه أي إلى ما سأل . فيكون بمعنى : أعطوه ، وعند أبي داود في رواية أبي نهيك عن ابن عباس : من سألكم بوجه الله فأعطوه وفي رواية عبيد الله القواريري لهذا الحديث ومن سألكم بالله كما في حديث ابن عمر .

لا يسأل بوحه الله إلا الجنة قوله : باب ( لا يسأل بوجه الله إلا الجنة ) ذكر فيه حديث جابر ـ رواه أبو داود عن جابر قال : قال رسول الله  : " لا يسأل بوجه الله إلا الجنة " . وهنا سؤال : وهو أنه قد ورد في دعاء النبي عند منصرفه من الطائف حين كذبه أهل الطائف ومن في الطائف من أهل مكة ، فدعا النبي بالدعاء المأثور : " اللهم إليك أشكو ضعف قوتي ، وقلة حيلتي ، وهواني على الناس . أنت رب المستضعفين وأنت ربي ، إلى من تكلني ؟ إلى بعيد يتجهمني ، أو إلى عدو ملكته أمري ؟ إن لم يك بكل غضب علي فلا أبالي ، غير أن عافيتك هي أوسع لي " وفي آخره : " أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة . أن يحل على غضبك ، أو ينزل بي سخطك . لك العتبي حتى ترضى ولا حول ولا قوة إلا بالله " . والحديث المروي في الأذكار : " اللهم أنت أحق من ذكر وأحق من عبد ـ وفي آخره ـ أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له السموات والأرض " وفي حديث آخر : " أعوذ بوجه الله الكريم ، وباسم الله العظيم وبكلماته التامة من شر السامة واللامة ، ومن شر ما خلقت ، أي رب ، ومن شر هذا اليوم ومن شر ما بعده ، ومن شر الدنيا والآخرة " . وأمثال ذلك في الأحاديث المرفوعة بالأسانيد الصحيحة أو الحسان . فالجواب : أن ما ورد من ذلك فهو في سؤال ما يقرب إلى الجنة أو ما يمنعه من الأعمال التي تمنعه من الجنة ، فيكون قد سأل بوجه الله وبنور وجهه ما يقرب إلى الجنة كما في الحديث الصحيح : " اللهم إن أسألك الجنة وما يقرب إليها من قول وعمل ، وأعوذ بك من النار وما يقرب إليها من قول وعمل " بخلاف ما يختص بالدنيا كسؤال المال والرزق والسعة في المعيشة رغبة في الدنيا ، مع قطع النظر عن كونه أراد بذلك ما يعينه على عمل الآخرة . فلا ريب أن الحديث يدل على المنع من أن يسأل حوائج دنياه بوجه الله . وعلى هذا فلا تعارض بين الأحاديث . كما لا يخفى . والله أعلم . وحديث الباب من جملة الأدلة المتواترة في الكتاب والسنة على إثبات الوجه لله تعالى . فإنه صفة كمال : وسلبه غاية النقص والتشبيه بالناقصات . كسلبهم جميع الصفات أو بعضها . فوقعوا في أعظم مما فروا منه . تعالى الله عما يقول الظالمون علوًا كبيرًا . وطريقة أهل السنة والجماعة سلفًا وخلفًا . الإيمان بما وصف الله به نفسه في كتابه ووصفه به رسوله في سنته على ما يليق بجلال الله وعظمته ، فيثبتون له ما أثبته لنفسه في كتابه وأثبته له رسوله ، وينفون عنه مشابهة المخلوق . فكما أن ذات الرب لا تشبه الذوات فصفاته كذلك لا تشبه الصفات ، فمن نفاها فقد سلبه الكمال .

ما جاء في اللهو قوله : باب ( ما جاء في اللهو ) أي من الوعيد والنهي عنه عند الأمور المكروهة ، كالمصائب إذا جرى بها القدر لما فيه من الإشعار بعد الصبر والأسى على ما فات ، مما لا يمكن استدراكه ، فالواجب التسليم للقدر ، والقيام بالعبودية الواجبة وهو الصبر على ما أصاب العبد مما يكره . والإيمان بالقدر أصل من أصول الإيمان الستة . وأدخل المصنف رحمه الله أداة التعريف على لو وهذه في هذا المقام لا تفيد تعريفًا كنظائرها ، لأن المراد هذا اللفظ كما قال الشاعر : رأيت الوليد بن اليزيد مباركًا شديدًا بأعباء الخلافة كأهله وقوله : وقول الله عز وجل : ' 3 : 154 ' " يقولون لو كان لنا من الأمر شيء ما قتلنا هاهنا " . قال بعض المنافقين يوم أحد ، لخوفهم وجزعهم وخورهم . قال بن إسحاق : فحدثني يحيى بن عباد بن عبد الله بن الزبير عن أبيه عن عبد الله ابن الزبير قال : قال الزبير : لقد رأيتني مع رسول الله حين اشتد الخوف علينا أرسل الله علينا النوم . فما منا رجل إلا ذقنه في صدره ، قال : فو الله إني لأسمع قول معتب بن قشير ما أسمعه إلا كالحلم : لو كان لنا من الأمر شئ ما قتلنا ها هنا . فحفظتها منه ، وفي ذلك أنزل الله عز وجل : " يقولون لو كان لنا من الأمر شيء ما قتلنا هاهنا " لقول معتب رواه ابن أبي حاتم . قال الله تعالى : " قل لو كنتم في بيوتكم لبرز الذين كتب عليهم القتل إلى مضاجعهم " أي هذا قدر مقدر من الله عز وجل وحكم حتم لازم لا محيد عنه ولا مناص منه . وقوله : ' 3 : 96 ' " الذين قالوا لإخوانهم وقعدوا لو أطاعونا ما قتلوا " الآية . قال العماد ابن كثير : الذين قالوا لإخوانهم ، وقعدوا : لو أطاعونا ما قتلوا أي لو سمعوا مشورتنا عليهم بالقعود وعدم الخروج ما قتلوا مع من قتل . قال الله تعالى : " قل فادرؤوا عن أنفسكم الموت إن كنتم صادقين " أي إذا كان القعود يسلم به الشخص من القتل والموت ، فينبغي لكم أن لا تموتوا ، والموت لا بد آت إليكم ، ولو كنتم في بروج مشيدة ، فادفعوا عن أنفسكم الموت إن كنتم صادقين . قال مجاهد عن جابر بن عبد الله : نزلت هذه الآية في عبد الله بن أبي وأصحابه يعني أنه هو الذي قال ذلك . وأخرج البيهقي عن أنس أن أبا طلحة قال : غشينا النعاس ونحن في مصافنا يوم أحد ، فجعل يسقط سيفي وآخذه ويسقط وآخذه . قال : والطائفة الأخرى ـ المنافقون ـ ليس لها هم إلا أنفسهم ، أجبن قوم ، وأرعبه ، وأخذله للحق " يظنون بالله غير الحق ظن الجاهلية " إنما هم أهل ريب وشك بالله عز وجل . قوله : قد أهمتهم أنفسهم يعني لا يغشاهم النعاس عن القلق والجزع والخوف : " يظنون بالله غير الحق ظن الجاهلية " .

ابن تيمية : كلامه على القدر قال شيخ الإسلام رحمه الله : لما ذكر ما وقع من عبد الله بن أبي في غزوة أحد قال : فلما انخذل يوم أحد وقال : يدع رأيي ورأيه ويأخذ برأي الصبيان ؟ أو كما قال ... انخذل معه خلق كثير ، كان كثير منهم لم ينافق قبل ذلك . فأولئك كانوا مسلمين وكان معهم إيمان ، هو الضوء الذي ضرب الله به المثل . فلو ماتوا قبل المحنة والنفاق لماتوا على الإسلام، ولم يكونوا من المؤمنين حقًا الذين امتحنوا فثبتوا على المحنة ، ولا من المنافقين حقًا الذين ارتدوا عن الإيمان بالمحنة . وهذا حال كثير من المسلمين في زماننا أو أكثرهم إذا ابتلوا بالمحنة التي يتضعضع فيها أهل الإيمان ينقص إيمانهم كثيرًا وينافق كثير منهم . ومنهم من يظهر الردة إذا كان العدو غالبًا ، وقد رأينا من هذا ورأى غيرنا من هذا ما فيه عبرة . وإذا كانت العافية ، أو كان المسلمون ظاهرين على عدوهم كانوا مسلمين ، وهم مؤمنون بالرسل باطنًا وظاهرًا ، لكنه إيمان لا يثبت على المحنة ، ولهذا يكثر في هؤلاء ترك الفرائض وانتهاك المحارم وهؤلاء من الذين قالوا : آمنا ، فقيل لهم : " لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا ولما يدخل الإيمان في قلوبكم " أي الإيمان المطلق الذي أهله هم المؤمنون حقًا ، فإن هذا هو الإيمان إذا أطلق في كتاب الله تعالى ، كما دل عليه الكتاب والسنة، فلم يحصل لهم ريب عند المحن التي تقلقل الإيمان في القلوب ، انتهى . قوله : وقد رأينا من هذا ورأى غيرنا ما فيه عبرة . قلت : ونحن كذلك رأينا من ذلك ما فيه عبرة عند غلبة العدو ، من إعانتهم العدو على المسلمين ، والطعن في الدين ، وإظهار العداوة والشماتة ، وبذل الجهد في إطفاء نور الإسلام ، وذهاب أهله ، وغير ذلك مما يطول ذكره . والله المستعان . قوله : في الصحيح أي صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله قال : احرص ـ الحديث . اختصر المصنف رحمه الله هذا الحديث ، وتمامه : عن النبي أنه قال : " المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف ، وفي كل خير . اخرص على ما ينفعك " أي في معاشك ومعادك . والمراد الحرص على فعل الأسباب التي تنفع العبد في دنياه وأخراه مما شرعه الله تعالى لعباده من الأسباب الواجبة والمستحبة والمباحة ، ويكون العبد في حال فعله السبب مستعينًا بالله وحده دون كل ما سواه ليتم له سببه وينفعه . ويكون اعتماده على الله تعالى في ذلك ، لأن الله تعالى هو الذي خلق السبب والمسبب ، ولا ينفعه سبب إلا إذا نفعه الله به ، فيكون اعتماده في فعل السبب على الله تعالى . ففعل السبب سنة ، والتوكل على الله توحيد . فإذا جمع بينهما تم له مراده بإذن الله . قوله : ولا تعجزن النون نون التأكيد الخفيفة . نهاه عن العجز وذمه ، والعجز مذموم شرعًا وعقلًا ، وفي الحديث : " الكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت ، والعاجر من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله الأماني " فأرشده في هذا الحديث إذا أصابه ما يكره أن لا يقول : لو أني فعلت كذا لكان كذا وكذا . ولكن يقول : قدر الله وما شاء فعل ، أي هذا قدر الله والواجب التسليم للقدر ، والرضى به ، واحتساب الثواب عليه . قوله : فإن لو تفتح عمل الشيطان أي ما فيه من التأسف على ما فات والتحسر ولوم القدر ، وذلك ينافي الصبر والرضى ، والصبر واجب ، والإيمان بالقدر فرض ، قال تعالى : ' 57 : 22 ، 23 ' " ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل أن نبرأها إن ذلك على الله يسير * لكي لا تأسوا على ما فاتكم ولا تفرحوا بما آتاكم والله لا يحب كل مختال فخور " . قال أمير المؤمنين على بن أبي طالب رضي الله عنه : الصبر من الإيمان بمنزلة الرأس من الجسد وقال الإمام أحمد : ذكر الله الصبر في تسعين موضعًا من القرآن . قال شيخ الإسلام رحمه الله ـ وذكر حديث الباب بتمامه ـ ثم قال في معناه : لا تعجز عن مأمور ، ولا تجزع عن مقدور ، ومن الناس من يجمع كلا الشرين ، فأمر النبي بالحرص على النافع والاستعانة بالله ، والأمر يقتضي الوجوب ، وإلا فالاستحباب ، ونهى عن العجز وقال : إن الله يلوم على العجز والعاجز ضد الذين هم ينتصرون فالأمر بالصبر والنهي عن العجز مأمور به في مواضع كثيرة ، وذلك لأن الإنسان بين أمرين : أمر أمر بفعله ، فعليه أن يفعله ويحرص عليه ويستعين الله ولا يعجز ، وأمر أصيب به من غير فعله . فعليه أن يصبر عليه ولا يجزع منه ، ولهذا قال بعض العقلاء ـ ابن المقفع أو غيره ـ الأمور أمران : أمر فيه حيلة فلا تعجز عنه ، وأمر لا حيلة فيه فلا تجزع منه . وهذا في جميع الأمور لكن عند المؤمن : الذي فيه حيلة هو ما أمره الله به ، وأحبه له . فإن الله لم يأمره إلا بما فيه حيلة له ، إذ لا يكلف الله نفسًا إلا وسعها ، وقد أمره بكل خير له فيه حيلة . وما لا حيلة له فيه ما أصيب به من غير فعله . واسم الحسنات والسيئات يتناول قسمين : فالأفعال مثل قوله تعالى : ' 6 : 160 ' " من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها ومن جاء بالسيئة فلا يجزى إلا مثلها " ومثل قوله تعالى : ' 17 : 7 ' " إن أحسنتم أحسنتم لأنفسكم وإن أسأتم فلها " ومثل قوله تعالى : ' 42 : 40 ' " وجزاء سيئة سيئة مثلها " ومثل قوله تعالى : ' 2 : 81 ' " بلى من كسب سيئة وأحاطت به خطيئته " إلى آيات كثيرة من هذا الجنس والله أعلم . والقسم الثاني : ما يجري على العبد بغير فعله من النعم والمصائب . كما قال تعالى : ' 4 : 79 ' " ما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك " والآية قبلها ، فالحسنة في هاتين الآيتين : النعم، والسيئة : المصائب ، هذا هو الثاني من القسمين . وأظن شيخ الإسلام رحمه الله ذكره في هذا الموضع ولعل الناسخ أسقطه والله أعلم . ثم قال رحمه الله : فإن الإنسان ليس مأمورًا أن ينظر إلى القدر عندما يؤمر به من الأفعال ولكن عندما يجري عليه المصائب التي لا حيلة له في دفعها ، فما أصابك بفعل الآدميين أو بغير فعلهم فاصبر عليه وارض وسلم . قال تعالى : ' 64 : 11 ' " ما أصاب من مصيبة إلا بإذن الله ومن يؤمن بالله يهد قلبه " ولهذا قال آدم لموسى : أتلومني على أمر قدره الله على قبل أن أخلق بأربعين سنة ؟ فحج أدم موسى لأن موسى قال له : لماذا أخرجتنا ونفسك من الجنة فلامه على المصيبة التي حصلت بسبب فعله ، لا لأجل كونها ذنبًا . وأما كونها لأجل الذنب ـ كما يظنه طوائف من الناس ـ فليس مرادًا بالحديث ، فإن آدم عليه السلام كان قد تاب من الذنب . والتائب من الذنب كمن لا ذنب له . ولا يجوز لوم التائب باتفاق الناس ، انتهى . قال العلامة ابن القيم رحمه الله : فتضمن هذا الحديث أصولًا عظيمة من أصول الإيمان . أحدها : أن الله سبحانه موصوف بالمحبة وأنه يحب حقيقة . الثاني : أنه يحب مقتضى أسمائه وصفاته وما يوافقها ، فهو القوي ويجب المؤمن القوي ، وهو وتر ويحب الوتر ، وجميل يحب الجمال ، وعليم يحب العلماء ، ونظيف يحب النظافة ، ومؤمن يحب المؤمنين ، ومحسن يحب المحسنين ، وصابر يحب الصابرين ، وشاكر يحب الشاكرين . ومنها أن محبته للمؤمنين تتفاضل ، فيحب بعضهم أكثر من بعض . ومنها : أن سعادة الإنسان في حرصه على ما ينفعه في معاشه ومعاده ، والحرص هو بذل الجهد واستفراغ الوسع . فإذا صادف ما ينتفع به الحريص كان حرصه محمودًا وكماله كله في مجموع هذين الأمرين: أن يكون حريصًا وأن يكون حرصه على ما ينتفع به، فإن حرص على ما لا ينفعه أو فعل ما ينفعه من غير حرص فإنه من الكمال بقدر ما فاته من ذلك ، فالخير كله في الحرص على ما ينفع . ولما كان حرص الإنسان وفعله إنما هو بمعونة الله ومشيئته وتوفيقه أمره أن يستعين بالله ليجتمع له مقام : " إياك نعبد وإياك نستعين " فإن حرصه على ما ينفعه عبادة لله تعالى . ولا يتم إلا بمعونته فأمره أن يعبده وأن يستعين به . فالحريص على ما ينفعه ، المستعين بالله ضد العاجز ، فهذا إرشاد له قبل وقوع المقدور إلى ما هو أعظم أسباب حصوله ، وهو الحرص عليه مع الاستعانة بمن أزمة الأمور بيده ومصدرها منه ومردها إليه . فإن فاته ما لم يقدر له فله حالتان : عجز . وهو مفتاح عمل الشيطان ، فيلقيه العجز إلى لو ولا فائدة من لو ههنا بل هي مفتاح اللوم والعجز والسخط والأسف والحزن ، وذلك كله من عمل الشيطان فنهاه عن افتتاح عمله بهذا الافتتاح ، وأمره بالحالة الثانية . وهي النظر إلى القدر وملاحظته وأنه لو قدر له لم يفته ولم يغلبه عليه أحد ، فلم يبق له ها هنا أنفع من شهود القدر ومشيئة الرب النافذة التي توجب وجوب المقدور ، وإن انتفت امتنع وجوده ، ولهذا قال : فإن غلبك أمر فلا تقل : لو أني فعلت كذا وكذا ولكن قل : قدر الله وما شاء فعل فأرشده إلى ما ينفعه في الحالتين : حال حصول المطلوب ، وحالة فواته ، فلهذا كان هذا الحديث مما لا يستغنى عنه العبد أبدًا ، بل هو أشد إليه ضرورة ، وهو يتضمن إثبات القدر والكسب والاختيار والقيام بالعبودية ظاهرًا وباطنًا في حالتي المطلوب وعدمه ، وبالله التوفيق .

النهي عن سب الريح وما يقول عند هياج الريح قوله : باب ( النهي عن سب الريح ) قوله : عن أبي بن كعب رضي الله عنه أن رسول الله قال : " لا تسبوا الريح فإذا رأيتم ما تكرهون فقولوا: اللهم إنا نسألك من خير هذه الريح وخير ما فيها ، وخير ما أمرت به ، ونعوذ بك من شر هذه الريح وشر ما فيها وشر ما أمرت به " . صححه الترمذي . لأنها ـ أي الريح ـ إنما تهب عن إيجاد الله تعالى وخلقه لها وأمره . لأنه هو الذي أوجدها وأمرها ، فمسبتها مسبة للفاعل ، وهو الله سبحانه . كما تقدم في النهي عن سب الدهر وهذا يشبهه ، ولا يفعله إلا أهل الجهل بالله ودينه وبما شرعه لعباده ، فنهى أهل الإيمان عما يقوله أهل الجهل والجفاء وأرشدهم إلى ما يجب أن يقال عند هبوب الرياح فقال : إذا رأيتم ما تكرهون فقولوا : اللهم إنا نسألك من خير هذه الريح وخير ما فيها وخير ما أمرت به يعني إذا رأيتم ما تكرهون من الريح إذا هبت فارجعوا إلى ربكم بالتوحيد وقولوا " اللهم إنا نسألك من خير هذه الريح وخير ما فيها ، وخير ما أمرت به . ونعوذ بك من شر هذه الريح وشر ما فيها وشر ما أمرت به " ففي هذا عبودية لله وطاعة له ولرسوله ، واستدفاع للشرور به ، وتعرض لفضله ونعمته وهذه حال أهل التوحيد والإيمان ، خلافًا لحال أهل الفسوق والعصيان الذين حرموا ذوق طعم التوحيد الذي هو حقيقة الإيمان .

ما يقول عند هياج الريح

قول الله " يظنون بالله غير الحق ظن الجاهلية " قوله : باب قول الله تعالى : ' 3 : 154 ' " يظنون بالله غير الحق ظن الجاهلية يقولون هل لنا من الأمر من شيء قل إن الأمر كله لله " الآية . وهذه الآية ذكرها الله في سياق قوله تعالى في ذكر وقعة أحد " ثم أنزل عليكم من بعد الغم أمنة نعاسًا يغشى طائفة منكم " يعني أهل الإيمان والثبات والتوكل الصادق ، وهم الجازمون بأن الله تعالى ينصر رسوله وينجز له مأموله ، ولهذا قال: " وطائفة قد أهمتهم أنفسهم " يعني لا يغشاهم النعاس من الجزع والقلق والخوف " يظنون بالله غير الحق ظن الجاهلية " كما قال تعالى : ' 48 : 12 ' " بل ظننتم أن لن ينقلب الرسول والمؤمنون إلى أهليهم أبدًا وزين ذلك في قلوبكم وظننتم ظن السوء وكنتم قومًا بورًا " وهكذا هؤلاء اعتقدوا أن المشركين لما ظهروا تلك الساعة ظنوا أنها الفيصلة ، وأن الإسلام قد باد وأهله . وهذا شأن أهل الريب والشك إذا حصل أمر من الأمور الفظيعة تحصل لهم هذه الأمور الشنيعة ، عن ابن جريج قال : قيل لعبد الله بن أبي : قتل بنو الخزرج اليوم ؟ قال : وهل لنا من الأمور من شئ ؟ .

قول بن القيم : في ظن السوء بالله والذين يظنونه قال العلامة ابن القيم رحمه الله تعالى في الكلام على ما تضمنته وقعة أحد : وقد فسر هذا الظن الذي لا يليق بالله سبحانه بأنه لا ينصر رسوله ، وأن أمره سيضمحل وأنه يسلمه للقتل ، وفسر بظنهم أن ما أصابهم لم يكن بقضاء الله وقدره ولا حكمة له فيه . ففسر بإنكار الحكمة . وإنكار القدر ، وإنكار أن يتم أمر رسول الله وأن يظهره على الدين كله . وهذا هو ظن السوء الذي ظنه المنافقون والمشركون في سورة الفتح حيث يقول : ' 48 : 6 ' " ويعذب المنافقين والمنافقات والمشركين والمشركات الظانين بالله ظن السوء عليهم دائرة السوء وغضب الله عليهم ولعنهم وأعد لهم جهنم وساءت مصيرًا " وإنما كان هذا هو ظن السوء وظن الجاهلية ـ وهو المنسوب إلى أهل الجهل ـ وظن غير الحق ، لأنه ظن غير ما يليق بأسمائه الحسنى وصفاته العليا وذاته المبرأة من كل عيب وسوء ، وخلاف ما يليق بحكمته وحمده وتفرده بالربوبية والإلهية ، وما يليق بوعده الصادق الذي لا يخلفه ، وبكلمته التي سبقت لرسله أنه ينصرهم ولا يخذلهم . ولجنده بأنهم هم الغالبون . فمن ظن به أنه لا ينصر رسله ولا يتم أمره ولا يؤيده ويؤيد حزبه ويعليهم ويظفرهم بأعدائهم ويظهرهم ، وأنه لا ينصر دينه وكتابه ، وأنه يديل الشرك على التوحيد ، والباطل على الحق إدالة مستقرة ، يضمحل معها التوحيد والحق اضمحلالًا لا يقوم بعده أبدًا . فقد ظن بالله ظن السوء ، ونسبه إلى خلاف ما يليق بجلاله وكماله وصفاته ونعوته ، فإن حمده وعزته وحكمته وإلهيته تأبى ذلك وتأبى أن يذل حزبه وجنده ، وأن تكون النصرة المستقرة والظفر الدائم لأعدائه المشركين به العادلين به . فمن ظن به ذلك فما عرفه ولا عرف أسماءه ولا عرف صفاته وكماله . وكذلك من أنكر أن يكون ذلك بقضاءه وقدره . فما عرفه ولاعرف ربوبيته وملكه وعظمته . وكذلك من أنكر أن يكون قدر ما قدره من ذلك وغيره لحكمة بالغة وغاية محمودة يستحق الحمد عليها ، وأن ذلك إنما صدر عن مشيئة مجردة عن حكمته وغاية مطلوبة هي أحب إليه من فواتها . وأن تلك الأسباب المكروهة له المفضية إليها ، لا يخرج تقديرها عن الحكمة ، لإفضائها إلى ما يحب وإن كانت مكروهة له ، فما قدرها سدى ولا شاءها عبثًا ولا خلقها باطلًا : '48 : 27 ' " ذلك ظن الذين كفروا فويل للذين كفروا من النار " . وأكثر الناس يظنون بالله غير الحق ظن السوء فيما يختص بهم ، وفيما يفعله بغيره ، ولا يسلم من ذلك إلا من عرف الله وعرف أسمائه وصفاته ، وعرف موجب حكمته وحمده . فمن قنط من رحمته وأيس من روحه فقد ظن به ظن السوء . ومن جوز عليه أن يعذب أولياءه مع إحسانهم وإخلاصهم ويسوى بينهم وبين أعدائه فقد ظن به ظن السوء . ومن ظن أن يترك خلقه سدى معطلين عن الأمر والنهي ، لا يرسل إليهم رسله ولا ينزل عليهم كتبه بل يتركهم هملًا كالأنعام فقد ظن به ظن السوء ، ومن ظن أنه لن يجمع عبيده بعد موتهم للثواب والعقاب في دار يجازى المحسن فيها بإحسانه والمسيء بإساءته ، ويبين لخلقه حقيقة ما اختلفوا فيه ويظهر للعالمين كلهم صدقه وصدق رسله ، وأن أعداءه كانوا هم الكاذبين فقد ظن به ظن السوء . ومن ظن أنه يضيع عليه عمله الصالح الذي عمله خالصًا لوجهه على امتثال أمره ، ويبطله عليه بلا سبب من العبد ، وأنه يعاقب بما لا صنع له فيه ولا اختيار له ولا قدرة ولا إرادة له في حصوله ، بل يعاقبه على فعله هو سبحانه به ، أو ظن به أنه يجوز عليه أن يؤيد أعداءه الكاذبين عليه بالمعجزات التي يؤيد بها أنبياءه ورسله ويجريها على أيديهم ليضلوا بها عباده ، وأنه يحسن منه كل شئ حتى تعذيب من أفنى عمره في طاعته فيخلده في الجحيم في اسفل السافلين ، وينعم من استنفذ عمره في عداوته وعداوة رسله ودينه فيرفعه إلى أعلى عليين ، وكلا الأمرين في الحسن عنده سواء ، ولا يعرف امتناع أحدهما ووقوع الآخر إلا بخبر صادق ، وإلا فالعقل لا يقضي بقبح أحدهما وحسن الآخر . فقد ظن به ظن السوء . ومن ظن أنه أخبر عن نفسه وصفاته وأفعاله بما ظاهره باطل وتشبيه وتمثيل ، وترك الحق لم يخبر به وإنما رمز إليه رموزًا بعيدة ، وأشار إليه إشارة ملغزة ولم يصرح به وصرح دائمًا بالتشبيه والتمثيل والباطل ، وأراد من خلقه أن يتعبوا أذهانهم وقواهم وأفكارهم في تحريف كلامه عن مواضعه ، وتأويله على غير تأويله ، ويتطلبوا له وجوه الاحتمالات المستكرهة والتأويلات التي هي بالألغاز والأحاجي أشبه منها بالكشف والبيان ، وأحالهم في معرفة أسمائه وصفاته على عقولهم وآرائهم لا على كتابه . بل أراد منهم ألا يحملوا كلامه على ما يعرفونه من خطابهم ولغتهم ، مع قدرته على أن يصرح لهم بالحق الذي ينبغي التصريح به ، ويريحهم من الألفاظ التي توقعهم في اعتقاد الباطل فلم يفعل ، بل سلك بهم خلاف طريق الهدى والبيان . فقد ظن به ظن السوء ، فإنه إن قال : إنه غير قادر على التعبير عن الحق باللفظ الصريح الذي عبر به هو وسلفه فقد ظن بقدرته العجز ، وإن قال إنه قادر ولم يبين ، وعدل عن البيان وعن التصريح بالحق إلى ما يوهم ، بل يوقع في الباطل المحال والاعتقاد الفاسد . فقد ظن بحكمته ورحمته ظن السوء . ومن ظن أنه هو وسلفه عبروا عن الحق بصريحه دون الله ورسوله . وأن الهدى والحق في كلامهم وعباراتهم وأما كلام الله فإنما يؤخذ من ظاهره التشبيه والتمثيل والضلال وظاهر كلام المتهوكين والحيارى هو الهدى والحق فهذا أسوأ الظن بالله . فكل هؤلاء من الظانين بالله ظن السوء ومن الظانين بالله غير الحق ظن الجاهلية . ومن ظن به أن يكون في ملكه ما لا يشاء ولا يقدر على إيجاده وتكوينه ، فقد ظن بالله ظن السوء . ومن ظن أنه كان معطلًا من الأزل إلى الأبد عن أن يفعل ، ولا يوصف حينئذ بالقدرة على الفعل ثم صار قادرًا عليه بعد أن لم يكن قادرًا ، فقد ظن به ظن السوء . ومن ظن أنه لا يسمع ولا يبصر ولا يعلم الموجودات ، ولا عدد السموات ولا النجوم ، ولا بني آدم وحركاتهم وأفعالهم ، ولا يعلم شيئًا من الموجودات في الأعيان ، فقد ظن بهم ظن السوء . ومن ظن به أنه لا سمع له ولا بصر ولا علم ولا إرادة ، ولا كلام يقوم به ، وأنه لا يكلم أحدًا من الخلق ولا يتكلم أبدًا ، ولا قال ، ولا يقول ، ولا له أمر ولا نهي يقوم به ، فقد ظن بهم ظن السوء . ومن ظن به أنه ليس فوق سمواته على عرشه بائن من خلقه ، وأن نسبة ذاته إلى عرشه كنسبتها إلى أسفل سافلين ، وإلى الأمكنة التي يرغب عن ذكرها ، وأنه أسفل كما أنه أعلى ، وأنه من قال : سبحان ربي الأسفل كان كمن قال : سبحان ربي الأعلى . فقد ظن به أقبح الظن وأسوأه . ومن ظن أنه يحب الكفر والفسوق والعصيان ، ويحب الفساد كما يحب الإيمان والبر والطاعة والإصلاح ز فقد ظن به ظن السوء . ومن ظن به أنه لا يحب ولا يرضى ، ولا يغضب ولا يسخط ، ولا يوالي ولا يعادي ، ولا يقرب من أحد من خلقه ، ولا يقرب منه أحد . وأن ذوات الشياطين في القرب من ذاته كذوات الملائكة المقربين وأوليائه المفلحين . فقد ظن به ظن السوء . ومن ظن به أنه يسوي بين المتضادين ، أو يفرق بين المتساويين من كل وجه ، أو يحبط طاعات العمر المديد الخالصة الصواب بكبيرة واحدة تكون بعدها ، فيخلد فاعل تلك الطاعات في الجحيم أبد الآبدين بتلك الكبيرة ، ويحبط بها جميع طاعاته ويخلده في العذاب كما يخلد من لم يؤمن به طرفة عين ، واستنفذ ساعات عمره في مساخطة ومعاداة رسله ودينه ، فقد ظن به ظن السوء . ومن ظن به أن له ولدًا أو شريكًا ، أو أن أحدًا يشفع عنده بدون إذنه ، أو أن بينه وبين خلقه وسائط يرفعون حوائجهم إليه ، وأنه نصب لعباده أولياء من دونه يتقربون بهم إليه ، ويتوصلون بهم إليه ، ويجعلونهم وسائط بينه وبينهم ، فيدعونهم ويخافونهم ويرجونهم فقد ظن به أقبح الظن وأسوأه . ومن ظن به أنه ينال ما عنده بمعصيته ومخالفته ، كما يناله بطاعته والتقرب إليه ، فقد ظن به خلاف حكمته وخلاف موجب أسمائه وصفاته وهو من ظن السوء . ومن ظن به أنه إذا ترك شيئًا من أجله لم يعوضه خيرًا منه ، أو من فعل شيئًا لأجله لم يعطه أفضل منه ، فقد ظن به ظن السوء . ومن ظن به أنه يغضب على عبده ويعاقبه ويحرمه بغير جرم ولا سبب من العبد إلا بمجرد المشيئة ومحض الإرادة فقد ظن به ظن السوء . ومن ظن به أنه إذا صدقه في الرغبة والرهبة وتضرع إليه وسأله واستعان به وتوكل عليه أنه يخيبه ولا يعطيه ما سأله ، فقد ظن به ظن السوء . وظن به خلاف ما هو أهله . ومن ظن أنه يثيبه إذا عصاه كما يثيبه إذا أطاعه ، وسأله ذلك في دعائه ، فقد ظن به خلاف ما تقتضيه حكمته وحمده ، وخلاف ما هو أهله وما لا يفعله . ومن ظن به أنه إذا أغضبه وأسخطه وأوضع في معاصيه ثم اتخذ من دونه أولياء ودعا من دونه ملكًا أو بشرًا حيًا أو ميتًا يرجو بذلك أن ينفعه عند ربه ويخلصه من عذابه ، فقد ظن به ظن السوء . فأكثر الخلق بل كلهم ـ إلا من شاء الله ـ يظنون بالله غيره الحق وظن السوء ، فإن غالب بني آدم يعتقد أنه مبخوس الحق ناقص الحظ ، وأنه يستحق فوق ما شاءه الله وأعطاه . ولسان حاله يقول : ظلمني ربي ومنعني ما أستحقه ونفسه تشهد عليه بذلك ، وهو بلسانه ينكره ولا يتجاسر على التصريح به . ومن فتش نفسه وتغلغل في معرفة طواياها رأي ذلك فيها كامنًا كمون النار في الزناد ، فاقدح زناد من شئت ينبئك شراره عما في زناده ، ولو فتشت من فتشت لرأيت عنده تعنتًا وتعتبًا على القدر وملامة له واقتراحًا عليه خلاف ما جرى به ، وإنه كان ينبغي أن يكون كذا وكذا . فمستقل ومستكثر ، وفتش نفسك هل أنت سالم من ذلك ؟ فإن تنج منها تنج من ذي عظيمة وإلا فإني لا إخالك ناجيًا فليعتن اللبيب الناصح لنفسه بهذا الموضع ، وليتب إلى الله ويستغفره في كل وقت من ظنه بربه ظن السوء ، وليظن السوء بنفسه التي هي مادة كل سوء ومنبع كل شر ، المركبة على الجهل والظلم . فهي أولى بظن السوء من أحكام الحاكمين ، وأعدل العادلين ، وأرحم الراحمين الغني الحميد ، الذي له الغني التام ، والحمد التام ، والحكمة التامة ، المنزه عن كل سوء في ذاته وصفاته وأفعاله وأسمائه ، فذاته لها الكمال المطلق من كل وجه وصفاته كذلك وأفعاله كلها حكمة ومصلحة ورحمة وعدل ، وأسماؤه كلها حسنى . فلا تظنن بربك ظن سوء فإن الله أولى بالجميل ولا تظنن بنفسك قط خيرًا فكيف بظالم جان جهول وقل : يا نفس مأوى كل سوء أترجو الخير من ميت بخيل وظن بنفسك السوأى تجدها كذاك وخيرها كالمستحيل وما بك من تقي فيها وخير فتلك مواهب الرب الجليل وليس لها ولا منها ولكن من الرحمن فاشكر للدليل قوله : " الظانين بالله ظن السوء " قال ابن جرير في تفسيره " ويعذب المنافقين والمنافقات والمشركين والمشركات الظانين بالله ظن السوء " الظانين بالله أنه لن ينصرك وأهل الإيمان بك على أعدائك ، ولن يظهر كلمته فيجعلها العليا على كلمة الكافرين به . وذلك كان السوء من ظنونهم التي ذكرها الله في هذا الموضع . يقول تعالى ذكره : على المنافقين والمنافقات والمشركين والمشركات الذين ظنوا هذا الظن دائرة السوء . يعني دائرة العذاب تدور عليهم به . واختلف القراء في قراءة ذلك : فقرأته عامة قراء الكوفة دائرة السوء بفتح السين . وقرأ بعض قراء البصرة دائرة السوء بالضم . وكان الفراء يقول : الفتح أفشى في السين . وقل ما تقول العرب دائرة السوء بضم السين . وقوله : " وغضب الله عليهم ولعنهم " يعني ونالهم الله بغضب منه ولعنهم . يقول : وأبعدهم فأقصاهم من رحمته " وأعد لهم جهنم " يقول : وأعد لهم جهنم يصلونها يوم القيامة " وساءت مصيرًا " يقول : وساءت جهنم منزلًا يصير إليه هؤلاء المنافقون والمنافقات والمشركون والمشركات . وقال العماد ابن كثير رحمه الله تعالى : " ويعذب المنافقين والمنافقات والمشركين والمشركات الظانين بالله ظن السوء " أي يتهمون الله في حكمه ويظنون بالرسول وأصحابه أن يقتلوا ويذهبوا بالكلية . ولهذا قال تعالى : " عليهم دائرة السوء " وذكر في معنى الآية الأخرى نحوًا مما ذكره ابن جرير رحمهما الله تعالى : قوله : قال ابن القيم رحمه الله تعالى الذي ذكره المصنف في المتن قدمته لاندراجه في كلامه الذي سقته من أوله إلى آخره.

ما جاء في منكري القدر قوله : باب ( ما جاء في منكري القدر ) أي من الوعيد الشديد ونحو ذلك . أخرج أبو داود عن عبد العزيز بن أبي حازم عن أبيه عن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي قال : " القدرية مجوس هذه الأمة ، إن مرضوا فلا تعودوهم . وإن ماتوا فلا تشهدوهم " . وعن عمر مولى غفرة عن رجل من الأنصار عن حذيفة ـ وهو ابن اليمان ـ رضي الله عنهما قال : قال رسول الله  : " لكل أمة مجوس ، ومجوس هذه الأمة الذين يقولون : لا قدر ، من مات منهم فلا تشهدوا جنازته ومن مرض منهم فلا تعودوه ، وهم شيعة الدجال ، وحق على الله أن يلحقهم بالدجال " . قوله : وقول ابن عمر : والذي نفسي بيده ... إلخ حديث ابن عمر أخرجه مسلم وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه عن يحيى بن يعمر قال : كان أول من تكلم في القدر بالبصرة معبد الجهني ، فانطلقت أنا وحميد بن عبد الرحمن الحميري حاجين ، أو معتمرين . فقلنا : لو لقينا أحدًا من أصحاب رسول الله فسألناه عما يقول هؤلاء في القدر ؟ فوفق الله تعالى لنا عبد الله بن عمر داخلًا في المسجد ، فاكتنفته أنا وصاحبي ، فظننت أن صاحبي سيكل الكلام إلى ، فقلت : أبا عبد الرحمن ، إنه قد ظهر قبلنا أناس يقرآون القرآن ، ويتقفرون العلم يزعمون أن لا قدر ، وأن الأمر أنف ، فقال : إذا لقيت أولئك فأخبرهم أني منهم بريء ، وأنهم مني برآء . والذي يحلف به عبد الله بن عمر لو أن لأحدهم مثل أحد ذهبًا فأنفقه في سبيل الله ما قبله الله منه ، حتى يؤمن بالقدر . ثم قال حدثني عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال : " بينما نحن جلوس عند رسول الله إذا طلع علينا رجل شديد بياض الثياب ، شديد سواد الشعر لا يرى عليه أثر السفر ، ولا يعرفه منا أحد . حتى جلس إلى النبي فأسند ركبتيه إلى ركبتيه ، ووضع كفيه على فخذيه . وقال : يا محمد أخبرني عن الإسلام . قال رسول الله  : الإسلام أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله ، وتقيم الصلاة ، وتؤتي الزكاة ، وتصوم رمضان ، وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلًا . قال : صدقت . فعجبنا له يسأله ويصدقه . قال : فأخبرني عن الإيمان . قال : أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر ، وتؤمن بالقدر خيره وشره ، قال : صدقت . قال : فأخبرني عن الإحسان ، قال : أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك . قال : فأخبرني عن الساعة ، قال : ما المسؤول عنها بأعلم من السائل . قال : فأخبرني عن أماراتها قال : أن تلد الأمة ربتها وأن ترى الحفاة العراة العالة رعاء الشاء يتطاولون في البنيان . قال فانطلق . فلبث ثلاثًا ، وفي رواية مليًا ، ثم قال يا عمر أتدري من السائل ؟ قلت : الله ورسوله أعلم ، قال : فإنه جبريل أتاكم يعلكم دينكم " . ففي هذا الحديث أن الإيمان بالقدر من أصول الإيمان الستة المذكورة ، فمن لم يؤمن بالقدر خيره وشره فقد ترك أصلًا من أصول الدين وجحده ، فيشبه من قال الله فيهم : ' 2 : 85 ' " أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض " الآية . قوله : وعن عبادة قد تقدم ذكره في باب فضل التوحيد ، وحديثه هذا رواه أبو داود ورواه الإمام أحمد بكماله قال حدثنا الحسن بن سوار حدثنا ليث عن معاوية عن أيوب بن زياد ، حدثني عبادة بن الوليد بن عبادة ثنى أبي قال : دخلت على عبادة وهو مريض أتخايل فيه الموت ، فقلت : يا أبتاه أوصني واجتهد لي ، فقال : أجلسوني . قال : يا بني إنك لن تجد طعم الإيمان ، ولن تبلغ حقيقة العلم بالله حتى تؤمن بالقدر خيره وشره ، قلت : يا أبتاه فكيف لي أن أعلم ما خير القدر وشره ؟ قال : تعلم أن ما أخطأك لم يكن ليصيبك ، وما أصابك لم يكن ليخطئك ، يا بني سمعت رسول الله يقول : "إن أول ما خلق الله القلم ، فقال له : اكتب ، فجرى في تلك الساعة بما هو كائن إلى يوم القيامة . يا بني ، إن مت ولست على ذلك دخلت النار ". ورواه الترمذي بسنده المتصل إلى عطاء بن أبي رباح عن الوليد بن عبادة عن أبيه ، وقال : حسن صحيح وغريب . وفي هذا الحديث ونحوه : بيان شمول علم الله تعالى وإحاطته بما كان ويكون في الدنيا والآخرة ، كما قال تعالى: ' 65 : 12' " الله الذي خلق سبع سماوات ومن الأرض مثلهن يتنزل الأمر بينهن لتعلموا أن الله على كل شيء قدير وأن الله قد أحاط بكل شيء علما " . وقد قال الإمام أحمد رحمه الله لما سئل عن القدر قال : القدر قدرة الرحمن واستحسن ابن عقيل هذا من أحمد رحمه الله . والمعنى : أنه لا يمنع عن قدرة الله شئ . ونفاة القدر قد جحدوا كمال قدرة الله تعالى فضلوا سواء السبيل . وقد قال بعض السلف : ناظروهم بالعلم ، فإن أقروا به خصموا وإن جحدوه كفروا . قوله : وفي المسند وسنن أبي داود عن ابن الديلمي وهو أبو بسر ـ بالسين المهملة ، وبالباء المضمومة . ويقال أبو بشر ـ بالشين المعجمة وكسر الباء ـ وبعضهم صحح الأول . وإسمه عبد الله بن فيروز . ولفظ أبي داود قال : لو أن الله عذب أهل سمواته وأهل أرضه ، عذبهم وهو غير ظالم لهم . ولو رحمهم لكانت رحمته خيرًا لهم من أعمالهم . ولو أنفقت مثل أحد ذهبًا ما قبله الله منك حتى تؤمن بالقدر ، وتعلم أن ما أصابك لم يكن ليخطئك وما أخطأك لم يكن ليصيبك ، ولو مت على غير هذا لكنت من أهل النار . قال : فأتيت عبد الله بن مسعود فقال مثل ذلك ثم أتيت حذيفة بن اليمان فقال مثل ذلك ، قال : ثم أتيت زيد بن ثابت ، قال : فحدثني عن النبي مثل ذلك وأخرجه ابن ماجه . وقال العماد ابن كثير رحمه الله : عن سفيان عن منصور عن ربعي بن حراش عن رجل عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال : قال رسول الله  : " لا يؤمن عبد حتى يؤمن بأربع : يشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله بعثني بالحق ، ويؤمن بالبعث بعد الموت ، ويؤمن بالقدر خيره وشره " وكذا رواه الترمذي عن النضر بن شميل عن شعبة عن منصور به . ورواه من حديث أبي داود الطياليسي عن شعبة عن ربعي عن على فذكره . وقد ثبت في صحيح مسلم من رواية عبد الله بن وهب وغيره عن أبي هانئ الخولاني عن أبي عبد الرحمن الحبلى عن عبد الله بن عمرو قال : قال رسول الله  : " إن الله كتب مقادير الخلائق قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة ـ زاد ابن وهب ـ : وكان عرشه على الماء " رواه الترمذي وقال : حديث حسن غريب . وكل هذه الأحاديث وما في معناها فيها الوعيد الشديد على عدم الإيمان بالقدر وهي الحجة على نفاة القدر من المعتزلة وغيرهم . ومن مذهبهم : تخليد أهل المعاصي في النار . وهذا الذي اعتقدوه من أكبر الكبائر وأعظم المعاصي . وفي الحقيقة إذا اعتبرنا إقامة الحجة عليهم بما تواترت به نصوص الكتاب والسنة من إثبات القدر فقد حكموا على أنفسهم بالخلود في النار إن لم يتوبوا . وهذا لازم لهم على مذهبهم هذا ، وقد خالفوا ما تواترت به أدلة الكتاب والسنة من إثبات القدر ، وعدم تخليد أهل الكبائر من الوحدين في النار .

ما جاء في المصورين قوله : باب ( ما جاء في المصورين ) أي من عظيم عقوبة الله لهم وعذابه . وقد ذكر النبي العلة : وهي المضاهاة بخلق الله ، لأن الله تعالى له الخلق والأمر ، فهو رب كل شئ ومليكه، وهو خالق كل شئ وهو الذي صور جميع الخلوقات ، وجعل فيها الأرواح التي تحصل بها الحياة ، كما قال تعالى : ' 32 : 7 ' " الذي أحسن كل شيء خلقه وبدأ خلق الإنسان من طين * ثم جعل نسله من سلالة من ماء مهين * ثم سواه ونفخ فيه من روحه وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة قليلا ما تشكرون " فالمصور لما صور الصورة على شكل ما خلقه الله تعالى من إنسان وبهيمة صار مضاهئًا لخلق الله . فصار ما صوره عذابًا له يوم القيامة ، وكلف أن ينفخ فيها الروح وليس بنافخ . فكان أشد الناس عذابًا ، لأن ذنبه من أكبر الذنوب . فإن كان هذا فيمن صور صورة على مثال ما خلقه الله تعالى من الحيوان ، فكيف بحال من سوى المخلوق برب العالمين وشبهه بخلقه ، وصرف له شيئًا من العبادة التي ما خلق الله الخلق إلا ليعبدوه وحده بما لا يستحقه غيره من كل عمل يحبه الله من العبد ويرضاه . فتسوية المخلوق بالخالق بصرف حقه لمن لا يستحقه من خلقه ، وجعله شريكًا له فيما اختص به تعالى وتقدس ، وهو أعظم ذنب عصى الله تعالى به . ولهذا أرسل رسله وأنزل كتبه لبيان هذا الشرك والنهي عنه ، وإخلاص العبادة بجميع أنواعها لله تعالى . فنجى الله تعالى رسله ومن أطاعهم . وأهلك من جهل التوحيد ، واستمر على الشرك والتنديد ، فما أعظمه من ذنب: '4 : 48 : 116 ' " إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء " ' 22 : 41 ' " ومن يشرك بالله فكأنما خر من السماء فتخطفه الطير أو تهوي به الريح في مكان سحيق " .

بعث على إلى اليمن لهدم القباب وطمس التماثيل والصور قوله : ولمسلم عن أبي الهياج الأسدي ـ حيان بن حصين ـ قال : قال لي علي رضي الله عنه هو أمير المؤمنين على بن أبي طالب رضي الله عنه . قوله : ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله ؟ أن لا تدع صورة إلا طمستها ولا قبرًا مشرفًا إلا سويته . فيه تصريح بأن النبي بعث عليًا لذلك . أما الصور فلمضاهاتها لخلق الله . وأما تسوية القبور فلما في تعليتها من الفتنة بأربابها وتعظيمها ، وهو من ذرائع الشرك ووسائله . فصرف الهمم إلى هذا وأمثاله من مصالح الدين ومقاصده وواجباته . ولما وقع التساهل في هذه الأمور وقع المحذور ، وعظمت الفتنة بأرباب القبور ، وصارت محطًا لرحال العابدين المعظمين لها . فصرفوا لها جل العبادة : من الدعاء والاستعانة والاستغاثة ، والتضرع لها ، والذبح لها ، والنذور ، وغير ذلك من كل شرك محظور .

قول ابن القيم فيما ابتدعه الضالون من بدع القبور محادة الله ولرسوله قال العلامة ابن القيم رحمه الله : ومن جمع بين سنة رسول الله في القبور وما أمر به ونهى عنه وما كان عليه أصحابه ، وبين ما عليه أكثر الناس اليوم . رأى أحدهما مضادًا للآخر ، مناقضًا له بحيث لا يجتمعان أبدًا . فنهى رسول الله عن الصلاة إلى القبور ، وهؤلاء يصلون عندها وإليها . ونهى عن اتخاذها مساجد ، وهؤلاء يبنون عليها المساجد ، ويسمونها مشاهد مضاهاة لبيوت الله . ونهى عن إيقاد السرج عليها وهؤلاء يوقفون الوقوف على إيقاد القناديل عليها . ونهى عن أن تتخذ عيدًا ، وهؤلاء يتخذونها أعيادًا ومناسك ، ويجتمعون لها كاجتماعاتهم للعيد أو أكثر . وامر بتسويتها ، كما روى مسلم في صحيحه عن أبي الهياج الأسدي ـ فذكر حديث الباب ـ وحديث تمامة بن شفي وهو عند مسلم أيضًا قال : كنا مع فضالة بن عبيد بأرض الروم بدردس ، فتوفى صاحب لنا ، فأمر فضالة بقبره فسوى ، ثم قال : سمعت رسول الله يأمر بتسويتها وهؤلاء يبالغون في مخالفة هذين الحديثين، ويرفعونها عن الأرض كالبيت ، ويعقدون عليها القباب . ونهى عن تجصيص القبر والبناء عليه . كما روى مسلم في صحيحه عن جابر رضي الله عنه قال : نهى رسول الله عن تجصيص القبر وأن يعقد عليه ، وأن يبني عليه ونهى عن الكتابة عليها ، كما روى أبو داود في سننه . عن جابر أن رسول الله  : " نهى عن تجصيص القبور ، وأن يكتب عليها " قال الترمذي : حديث حسن صحيح . وهؤلاء يتخذون عليها الألواح ، ويكتبون عليها القرآن وغيره ، ونهى أن يزاد عليها غير ترابها . كما روى أبو داود عن جابر أيضًا أن رسول الله نهى أن يجصص القبر ، أو يكتب عليه ، أو يزاد عليه وهؤلاء يزيدون عليه الآجر والجص والأحجار . قال إبراهيم النخعي : كانوا يكرهون الآجر على قبورهم . والمقصود : أن هؤلاء المعظمين للقبور المتخذينها أعيادًا ، الموقدين عليها السرج ، الذين يبنون عليها المساجد والقباب مناقضون لما أمر به رسول الله محادون لما جاء به ، وأعظم ذلك اتخاذها مساجد ، وإيقاد السرج عليها . وهو من الكبائر . وقد صرح الفقهاء من أصحاب أحمد وغيرهم بتحريمه . قال أبو محمد المقدسي : ولو أتيح اتخاذ السرج عليها لم يلعن من فعله . ولأن فيه تضييعًا للمال في غير فائدة وإفراطًا في تعظيم القبور أشبه تعظيم بالأصنام . قال : ولا يجوز اتخاذ المساجد على القبور لهذا الخبر ، ولأن النبي قال : " لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد . يحذر ما صنعوا " متفق عليه . ولأن تخصيص القبور بالصلاة عندها يشبه تعظيم الأصنام بالسجود لها والتقرب إليها ، وقد روينا أن ابتداء عبادة الأصنام تعظيم الأموات باتخاذ صورهم ، والتمسح بها والصلاة عندها . انتهى . وقد آل الأمر بهؤلاء الضلال المشركين إلى أن شرعوا للقبور حجًا . ووضعوا لها مناسك حتى صنف بعض غلاتهم في ذلك كتابًا وسماه مناسك حج المشاهد مضاهاة منه القبور بالبيت الحرام ، ولا يخفى أن هذا مفارقة لدين الإسلام ، ودخول في دين عباد الأصنام ، فانظر إلى هذا التباين العظيم بين ما شرعه رسول الله وقصده ، من النهي عما تقدم ذكره في القبور ، وبين ما شرعه وقصدوه ، ولا ريب أن في ذلك من المفاسد ما يعجز عن حصره . فمنها : تعظيمها الموقع في الافتتان بها . ومنها : اتخاذها أعيادًا . ومنها السفر إليها . ومنها : مشابهة عباد الأصنام بما يفعل عندها من العكوف عليها والمجاورة عندها وتعليق الستور عليها وسدانتها ، وعبادها يرجحون المجاورة عندها على المجاورة عند المسجد الحرام ، ويرون سدانتها أفضل من خدمة المساجد ، والويل عندهم لقيمها ليلة يطفىء القنديل المعلق عليها . ومنها : النذر لها ولسدنتها . ومنها : اعتقاد المشركين فيها أن بها يكشف البلاء وينصر على الأعداء ، ويستنزل غيث السماء ، وتفرج الكروب ، وتقضي الحوائج ، وينصر المظلوم ، ويجار الخائف إلى غير ذلك . ومنها : الدخول في لعنة الله ورسوله باتخاذ المساجد عليها وإيقاد السرج عليها . ومنها : الشرك الأكبر الذي يفعل عندها . ومنها : إيذاء أصحابها بما يفعله المشركون بقبورهم . فإنهم يؤذيهم ما يفعل عند قبورهم ، ويكرهونه غاية الكراهية ، كما أن المسيح عليه السلام يكره ما يفعله النصارى عند قبره ، وكذلك غيره من الأنبياء والأولياء والمشايخ يؤذيهم ما يفعله أشباه النصارى عند قبورهم . ويوم القيامة يتبرأون منهم ، كما قال تعالى : ' 25 : 17 ، 18 ' " ويوم يحشرهم وما يعبدون من دون الله فيقول أأنتم أضللتم عبادي هؤلاء أم هم ضلوا السبيل * قالوا سبحانك ما كان ينبغي لنا أن نتخذ من دونك من أولياء ولكن متعتهم وآباءهم حتى نسوا الذكر وكانوا قوما بورا " قال الله تعالى للمشركين : " فقد كذبوكم بما تقولون " وقال تعالى : ' 5 : 116 ' " وإذ قال الله يا عيسى ابن مريم أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله قال سبحانك ما يكون لي أن أقول ما ليس لي بحق " الآية وقال تعالى : ' 34 : 40 ، 41 ' " ويوم يحشرهم جميعا ثم يقول للملائكة أهؤلاء إياكم كانوا يعبدون * قالوا سبحانك أنت ولينا من دونهم بل كانوا يعبدون الجن أكثرهم بهم مؤمنون " . ومنها : إماتة السنن وإحياء البدع . ومنها تفصيلها على خير البقاع وأحبها إلى الله ، فإن عباد القبور يقصدونها مع التعظيم والإحترام والخشوع ورقة القلب ، والعكوف بالهمة على الموتى بما لا يفعلونه في المساجد ولا يحصل لهم فيها نظيره ولا قريبًا منه . ومنها : أن الذي شرعه الرسول عند زيارة القبور إنما هو تذكر الآخرة ، والإحسان إلى المزور بالدعاء له ، والترحم عليه ، والإستغفار له . وسؤال العافية له ، فيكون الزائر محسنًا إلى نفسه وإلى الميت . فقلب هؤلاء المشركون الأمر وعكسوا الدين ، وجعلوا المقصود بالزيارة الشرك بالميت ، ودعاءه والدعاء به ، وسؤالهم حوائجهم ، واستنزال البركة منه ، ونصره لهم على الأعداء . ونحو ذلك . فصاروا مسيئين إلى أنفسهم وإلى الميت . وكان رسول الله قد نهى الرجال عن زيادة القبور سدًا للذريعة فلما تمكن التوحيد في قلوبهم أذن لهم في زيارتها على الوجه الذي شرعه ، ونهاهم أن يقولوا هجرًا ، ومن أعظم الهجر : الشرك عندها قولًا وفعلًا . وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله " زوروا القبور ، فإنها تذكر الموت " وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال : مر رسول الله بقبور المدينة ، فأقبل عليهم بوجهه فقال :" السلام عليكم يأهل القبور ، يغفر الله لنا ولكم ، أنتم سلفنا ونحن بالأثر " رواه أحمد والترمذي وحسنه . فهذه الزيارة التي شرعها رسول الله لأمته ، وعلمهم إياها ، هل تجد فيها شيئًا مما يعتمده أهل الشرك والبدع ؟ أم تجدها مضادة لما هم عليه من كل وجه ؟ وما أحسن ما قال مالك بن أنس رحمه الله : لن يصلح آخر هذه الأمة إلا ما أصلح أولها ولكن كلما ضعف تمسك الأمم بعهود أنبيائهم ونقص إيمانهم عوضوا عن ذلك بما أحدثوه من البدع والشرك . ولقد جرد السلف الصالح التوحيد وحموا جانبه ، حتى كان أحدهم إذا سلم على النبي ثم أراد الدعاء استقبل القبلة ، وجعل ظهره إلى جدار القبر ثم دعا ونص على ذلك الأئمة الأربعة : أنه يستقبل القبلة وقت الدعاء حتى لا يدعو عند القبر ، فإن الدعاء عبادة . وفي الترمذي وغيره : الدعاء هو العبادة فجرد السلف العبادة لله ولم يفعلوا عند القبور منها إلا ما أذن فيه رسول الله ، من الدعاء لأصحابها والإستغفار لهم والترحم عليهم . وأخرج أبو داود عن أبي هريرة قال : قال رسول الله  : " لا تجعلوا بيوتكم قبورًا ، ولا تجعلوا قبري عيدًا ، وصلوا علي فإن صلاتكم تبلغني حيث كنتم " وإسناده جيد ورواته ثقات مشير . قوله : لا تجعلوا بيوتكم قبورًا أي لا تعطلوها عن الصلاة فيها والدعاء والقراءة فتكون بمنزلة القبور فأمر بتحري النافلة في البيوت ونهى عن تحرير النافلة عند القبور ، وهذا ضد ما عليه المشركون من النصارى وأشباههم . ثم إن في تعظيم القبور واتخاذها أعيادًا من المفاسد العظيمة التي لا يعلمها إلا الله ما يغضب الله لأجله كل من في قلبه وقار الله وغيرة على التوحيد وتهجين وتقبيح للشرك ، ولكن ما لجرح بميت إيلام . فمن المفاسد : اتخاذها أعيادًا والصلاة إليها والطواف بها وتقبيلها واستلامها وتعفير الخدود على ترابها وعبادة أصحابها ، والاستغاثة بهم ، وسؤالهم النصر والرزق والعافية ، وقضاء الدين ، وتفريج الكربات ، وإغاثة اللهفات وغير ذلك من أنواع الطلبات التي كان عباد الأوثان يسألونها أوثانهم . فلو رأيت غلاة المتخذين لها عيدًا ، وقد نزلوا عن الأكوار والدواب إذا رأوها من مكان بعيد ، فوضعوا لها الجباه ، وقبلوا الأرض ، وكشفوا الرؤوس ، وارتفعت أصواتهم ، بالضجيج ، وتباكوا حتى تسمع لهم النشيج ، ورأو أنهم قد أربوا في الربح على الحجيج ، فاستغاثوا بمن لا يبديء ولا يعيد ، ونادوا ولكن من مكان بعيد ، حتى إذا دنوا منها صلوا عند القبر ركعتين ، ورأوا أنهم قد أحرزوا من الأجر ولا أجر من صلى إلى القبلتين !!‍ فتراهم حول القبر ركعًا سجدًا يبتغون فضلًا من الميت ورضوانًا ، وقد ملأوا أكفهم خيبة وخسرانًا . فلغير الله ـ بل الشيطان ـ ما يراق هناك من العبرات ، ويرتفع من الأصوات ، ويطلب من الميت من الحاجات ، ويسأل من تفريج الكربات ، وإغاثة اللهفات ، وإغناء ذوي الفاقات ، ومعافاة ذوي العاهات والبليات ، ثم انثنوا بعد ذلك حول القبر طائفين ، تشبيهًا له بالبيت الحرام الذي جعله الله مباركًا وهدى للعالمين . ثم أخذوا في التقبيل والاستلام . أرأيت الحجر الأسود وما يفعل به وفد البيت الحرام . ثم عفروا لديه تلك الجباه والخدود ، التي يعلم الله أنه لم تعفر كذلك بين يديه في السجود ، ثم كملوا مناسك حج القبر بالتقصير هناك والحلاق واستمتعوا بخلاقهم من ذلك الوثن إذ لم يكن لهم عند الله من خلاق ، وقد قربوا لذلك الوثن القرابين وكانت صلاتهم ونسكهم وقربانهم لغير الله رب العالمين ، فلو رأيتهم يهنىء بعضهم بعضًا ويقول : أجزل الله لنا ولكم أجرًا وافرًا وحظًا ، فإن رجعوا سألهم غلاة المتخلفين أن يبيع أحدهم ثواب حجة القبر بحجة المتخلف إلى البيت الحرام ، فيقول : لا ولا بحجك كل عام . هذا ـ ولم نتجاوز فيما حكيناه عنهم ، ولا استقصينا جميع بدعهم وضلالهم ، إذ هي فوق ما يخطر بالبال ، ويدور في الخيار ، وهذا مبدأ الأصنام في قوم نوح كما تقدم . وكل من شم أدنى رائحة من العلم والفقه يعلم أن من أهم الأمور ، سد الذريعة إلى هذا المحظور . وأن صاحب الشرع أعلم بعاقبة ما نهى عنه وما يؤول إليه ، وأحكم في نهيه عنه وتوعده عليه ، وأن الخير والهدى في اتباعه وطاعته ، والشر والضلال في معصيته ومخالفته . ا هـ كلامه رحمه الله تعالى .

ما جاء في كثرة الحلف قوله : باب ( ما جاء في كثرة الحلف ) أي من النهي عنه والوعيد .

وقول الله تعالى : ' 5 : 98 ' " واحفظوا أيمانكم "  .

قال ابن جرير لا تتركوها بغير تكفير . وذكر غيره من المفسرين عن ابن عباس يريد لا تحلفوا . وقال آخرون : احفظوا أيمانكم عن الحنث فلا تحنثوا . والمصنف أراد من الآية المعنى الذي ذكره ابن عباس ، فإن القولين متلازمان ، فيلزم من كثرة الحلف كثرة الحنث مع ما يدل عليه من الإستخفاف ، وعدم التعظيم لله ، وغير ذلك مما ينافى كمال التوحيد الواجب أو عدمه .

عن أبي هريرة رضي الله عنه قال سمعت رسول الله  يقول :" الحلف منفقة للسلعة ممحقة للكسب " أخرجاه.

أي البخاري ومسلم . وأخرجه أبو داود والنسائي . والمعنى : أنه إذا حلف على سلعته أنه أعطى فيها كذا وكذا ، أو أنه اشتراها بكذا وكذا ، وقد يظنه المشتري صادقًا فيما حلف عليه فيأخذها بزيادة على قيمتها ، والبائع كذاب وحلف طمعًا في الزيادة ، فيكون قد عصى الله تعالى ، فيعاقب بمحق البركة ، فإذا ذهبت بركة كسبه دخل عليه من النقص أعظم من تلك الزيادة التي دخلت عليه بسب حلفه ، وربما ذهب ثمن تلك السلعة رأسًا . وما عند الله لا ينال إلا بطاعته وإن تزخرفت الدنيا للعاصي فعاقبتها اضمحلال وذهاب وعقاب .

ثلاث لا يكلهم الله قوله : وعن سلمان رضي الله عنه أن رسول الله قال : " ثلاثة لا يكلمهم الله ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم : أشيمط زان ، وعائل مستكبر ، ورجل جعل الله بضاعته ، لا يشتري إلا بيمينه ، ولا يبيع إلا بيمينه " رواه الطبراني بسند صحيح . وسلمان لعله سلمان الفارسي أبو عبد الله ، أسلم مقدم النبي المدينة ، وشهد الخندق ، روى عنه أبو عثمان النهدي وشرحبيل بن السمط وغيرهما . قال النبي  :" سلمان منا أهل البيت ، إن الله يحب من أصحابي أربعة: عليًا ، وأبا ذر ، وسلمان ، والمقداد " أخرجه الترمذي وابن ماجه . قال الحسن : كان سلمان أميرًا على ثلاثين ألفًا يخطب بهم في عباءة يفترش نصفها ويلبس نصفها . توفي في خلافة عثمان رضي الله عنه . قال أبو عبيده سنة ست وثلاثين عن ثلاثمائة وخمسين سنة . ويحتمل أنه سلمان بن عامر بن أوس الضبي . قوله : ثلاثة لا يكلمهم الله نفى كلام الرب تعالى وتقدس عن هؤلاء العصاة دليل على أن يكلم من أطاعه . وأن الكلام صفة كماله . والأدلة على ذلك من الكتاب والسنة أظهر شئ وأبينه . وهذا هو الذي عليه أهل السنة والجماعة من المحققين قيام الأفعال بالله سبحانه ، وأن الفعل يقع بمشيئته تعالى وقدرته شيئًا فشيئًا ولم يزل متصفًا به . فهو حادث الآحاد قديم النوع ، كما يقول ذلك أئمة أصحاب الحديث وغيرهم من أصحاب الشافعي وأحمد وسائر الطوائف ، كما قال تعالى : ' 36 : 82 ' " إنما أمره إذا أراد شيئًا أن يقول له كن فيكون " فأتى بالحروف الدالة على الاستقبال والأفعال الدالة على الحال والاستقبال أيضًا . وذلك في القرآن كثير . قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله : فإذا قالوا لنا يعني النفاة : فهذا يلزمه أن تكون الحوادث قائمة به . قلنا : ومن أنكر هذا قبلكم من السلف والأئمة ؟ ونصوص القرآن والسنة تتضمن ذلك مع صريح العقل . ولفظ الحوادث مجمل ، فقد يراد به الإعراض والنقائص ، والله تعالى منزه عن ذلك ـ ولكن يقوم به ما يشاء من كلامه وأفعاله ونحو ذلك : مما دل عليه الكتاب والسنة . والقول الصحيح : هو قول أهل العلم والحديث الذين يقولون : لم يزل الله متكلمًا إذا شاء ، كما قال ابن المبارك وأحمد بن حنبل وغيرهما من أئمة السنة ، ا هـ . قلت : ومعنى قيام الحوادث به تعالى : قدرته عليها وإيجاده لها بمشيئته وأمره . والله أعلم . قوله : ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم لما عظم ذنبهم عظمت عقوبتهم ، فعوقبوا بهذه الثلاث التي هي أعظم العقوبات . قوله : أشيمط زان صغره تحقيرًا له وذلك لأن داعي المعصية ضعف في حقه ، فدل على أن الحامل له على الزنا : محبة المعصية والفجور ، وعدم خوفه من الله . وضعف الداعي إلى المعصية مع فعلها يوجب تغليظ العقوبة عليه ، بخلاف الشاب ، فإن قوة داعي الشهوة منه قد تغلبه مع خوفه من الله ، وقد يرجع على نفسه بالندم ، ولومها على المعصية فينتهي ويراجع . وكذا العائل المستكبر ليس له ما يدعوه إلى الكبر ، لأن الداعي إلى الكبر في الغالب كثرة المال والنعم والرياسة . والعائل الفقير لا داعي له إلى أن يستكبر ، فاستكباره مع عدم الداعي إليه يدل على أن الكبر طبيع له ، كامن في قلبه ، فعظمت عقوبته لعدم الداعي إلى هذا الخلق الذميم الذي هو من أكبر المعاصي . قوله : ورجل جعل الله بضاعته بنصب الإسم الشريف ، أي الحلف به ، جعله بضاعته لملازمته له وغلبته عليه . وهذه أعمال تدل على أن صاحبها إن كان موحدًا فتوحيده ضعيف وأعماله ضعيفة بحسب ما قام بقلبه وظهر على لسانه وعمله من تلك المعاصي العظيمة على قلة الداعي إليها . نسأل الله السلامة والعافية ، نعوذ بالله من كل عمل لا يحبه ربنا ولا يرضاه . قوله : وفي الصحيح أي صحيح مسلم . وأخرجه أبو داود والترمذي ، ورواه البخاري بلفظ خيركم . قوله : عن عمران بن حصين رضي الله عنه قال : قال رسول الله  : " خير أمتي قرني ثم الذين يلونهم ، ثم الذين يلونهم ـ قال عمران : فلا أدري أذكر بعد قرنيه مرتين أو ثلاثًا ؟ ـ ثم إن بعدكم قومًا يشهدون ولا يستشهدون ، ويخونون ولا يؤتمنون ، وينذرون ولا يوفون ، ويظهر فيهم السمن " . قوله : خير أمتي قرني لفضيلة أهل ذلك القرن في العلم والإيمان والأعمال الصالحة التي يتنافس فيها المتنافسون ، ويتفاضل فيها العاملون ، فغلب الخير فيها وكثر أهله ، وقل الشر فيها وأهله واعتز فيها الإسلام والإيمان ، وكثر فيها العلم والعلماء ثم الذين يلونهم فضلوا على من بعدهم لظهور الإسلام فيهم وكثرة الداعي إليه والراغب فيه والقائم به . وما ظهر فيه من البدع أنكر واستعظم وأذيل ، كبدعة الخوارج والقدرية والرافضة ، فهذه البدع وإن كانت قد ظهرت فأهلها في غاية الذل والمقت والهوان والقتل فيمن عاند منهم ولم يتب . قوله : فلا أدري أذكر بعد قرنه مرتين أو ثلاثًا هذا شك من راوي الحديث عمران بن حصين رضي الله عنه . والمشهور في الروايات : أن القرون المفضلة ثلاثة ، الثالث دون الأولين في الفضل ، لكثرة البدع فيه ، لكن العلماء متوافرون والإسلام فيه ظاهر والجهاد فيه قائم ، ثم ذكر ما وقع بعد القرون الثلاثة من الجفاء في الدين ، وكثرة الأهواء . فقال : ثم إن بعدكم قومًا يشهدون ولا يستشهدون لاستخفافهم بأمر الشهادة وعدم تحريهم الصدق ، وذلك لقلة دينهم وضعف إسلامهم . قوله : ويخونون ولا يؤتمنون يدل على أن الخيانة قد غلبت على كثير منهم أو أكثرهم وينذرون ولا يوفون أي لا يؤدون ما وجب عليهم ، فظهور هذه الأعمال الذميمة يدل على ضعف إسلامهم وعدم إيمانهم . قوله : ويظهر فيهم السمن لرغبتهم في الدنيا ، ونيل شهواتهم والتنعم بها ، وغفلتهم عن الدار الآخرة والعمل لها . وفي حديث أنس : " لا يأتي على الناس زمان إلا والذي بعده شر منه حتى تلقوا ربكم " قال أنس : سمعته من نبيكم ، فما زال الشر يزيد في الأمة حتى ظهر الشرك والبدع في كثير منهم حتى فيمن ينتسب إلى العلم ويتصدر للتعليم والتصنيف . قلت : بل قد دعوا إلى الشرك والضلال والبدع ، وصنفوا في ذلك نظمًا ونثرًا فنعوذ بالله من موجبات غضبه . قوله : وفيه عن ابن مسعود رضي الله عنه أن النبي قال : " خير الناس قرنى ثم الذين يلونهم ، ثم الذين يلونهم ، ثم الذين يلونهم ، ثم يجيء قوم تسبق شهادة أحدهم يمينه ويمينه شهادته " . قلت : وهذه حال من صرف رغبته إلى الدنيا ونسى المعاد ، فخف أمر الشهادة واليمين عنده تحملًا وأداء ، لقلة خوفه من الله وعدم مبالاته بذلك ، وهذا هو الغالب على الأكثر . والله المستعان . فإذا كان هذا قد وقع في صدر الإسلام الأول فما بعده أكثر بأضعاف . فكان الناس على حذر . قوله : وقال إبراهيم ـ هو النخعي ـ كانوا يضربوننا على الشهادة والعهد ونحن صغار وذلك لكثرة علم التابعين ، وقوة إيمانهم ومعرفتهم بربهم ، وقيامهم بوظيفة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، لأنه من أفضل الجهاد ولا يقوم الدين إلا به . وفي هذا رغبة في تمرين الصغار على طاعة ربهم ونهيهم عما يضرهم . وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم .

ما جاء في ذمة الله وذمة نبيه قوله : باب ( ما جاء في ذمة الله وذمة نبيه )

وقول الله تعالى : ' 16 : 91 ' " وأوفوا بعهد الله إذا عاهدتم ولا تنقضوا الأيمان بعد توكيدها وقد جعلتم الله عليكم كفيلا " الآية .

قال العماد بن كثير : وهذا مما يأمر الله تعالى به وهو الوفاء بالعهود والمواثيق ، والمحافظة على الأيمان المؤكدة . ولهذا قال : " ولا تنقضوا الأيمان بعد توكيدها " ولا تعارض بين هذا وقوله : " ولا تجعلوا الله عرضة لأيمانكم " وبين قوله : " ذلك كفارة أيمانكم إذا حلفتم واحفظوا أيمانكم " أي لا تتركوها بلا تكفير . وبين قوله في الصحيحين : " إني والله إن شاء الله لا أحلف على يمين فأرى غيرها خيرًا منها إلا أتيت الذي هو خير منها وتحللتها ـ وفي رواية ـ وكفرت عن يميني " لا تعارض بين هذا كله وبين الآية المذكورة هنا وهي : " ولا تنقضوا الأيمان بعد توكيدها " لأن هذه الأيمان المراد بها الداخلة في العهود والمواثيق ، لا الأيمان الواردة على حث أو منع ، ولهذا قال مجاهد في هذه الآية : يعني الحلف أي حلف الجاهلية . ويؤيده ما رواه الإمام أحمد عن جبير بن مطعم قال : قال رسول الله  : " لا حلف في الإسلام ، وإنما حلف كان في الجاهلية لم يزده الإسلام إلا شدة " وكذا رواه مسلم ، ومعناه أن الإسلام لا يحتاج معه إلى الحلف الذي كان أهل الجاهلية يفعلونه، فإن في التمسك بالإسلام كفاية عما كانوا فيه . وقوله تعالى : " إن الله يعلم ما تفعلون " تهديد ووعيد لمن نقض الأيمان بعد توكيدها . قوله : عن بريدة هو ابن الحصيب الأسلمي . وهذا الحديث من رواية ابنه سليمان عنه . قال في المفهم .

وصايا النبي لقواد جيوشه بأن لا يغلوا ولا يغدروا ولا يقتلوا وليدًا إلخ قوله : " قال : كان رسول الله إذا أمر أميرًا على جيش أو سرية أوصاه في خاصته بتقوى الله تعالى " فيه من الفقه تأمير الأمراء ووصيتهم . قال الحربي : السرية : الخيل تبلغ أربعمائة ونحوها . والجيش ما كان أكثر من ذلك . وتقوى الله : التحرز بطاعته من عقوبته . قلت : وذلك بالعمل بما أمر الله به والإنتهاء عما نهى عنه . قوله : ومن معه من المسلمين خيرًا أي ووصاه بمن معه أن يفعل معهم خيرًا : من الرفق بهم ، والإحسان إليهم ، وخفض الجناح لهم ، وترك التعاظم عليهم . قوله : اغزوا باسم الله هذا أي اشرعوا في فعل الغزو مستعينين بالله مخلصين له . قلت : فتكون الباء في بسم الله هنا للاستعانة والتوكل على الله . قوله : قاتلوا من كفر بالله هذا العموم يشمل جميع أهل الكفر المحاربين وغيرهم . وقد خصص منهم من له عهد والرهبان والنسوان ، ومن لم يبلغ الحلم ، وقد قال متصلًا به : ولا تقتلوا وليدًا وإنما نهى عن قتل الرهبان والنسوان لأنه لا يكون منهم قتال غالبًا . وإن كان منهم قتال أو تدبير قتلوا . قلت : وكذلك الذراري والأولاد . قوله : ولا تغلوا ولا تغدروا ولا تمثلوا الغلو : الأخذ من الغنيمة من غير قسمتها . الغدر نقض العهد . والتمثيل هنا التشويه بالقتيل ، كقطع أنفه وأذنه والعبث به . ولا خلاف في تحريم الغلو والغدر . وفي كراهية المثلة . قوله : وإذا لقيت عدوك من المشركين فادعهم إلى ثلاث خلال أو خصال الرواية بالشك وهو من بعض الرواة . ومعنى الخلال والخصال واحد . قوله : فأيتهن ما أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم قيدناه عمن يوثق بعلمه وتقييده بنصب أيتهنعلى أن يعمل فيها أجابوك لا على إسقاط حرف الجر . وما زائدة . ويكون تقدير الكلام : فإلى أيتهن أجابوك فاقبل منهم . كما تقول : جئتك إلى كذا وفي كذا . فيعدى إلى الثاني بحرف جر . قلت : فيكون في ناصب أيتهن وجهان : ذكرهما الشارح . الأول : منصوب على الاشتغال . والثاني : على نزع الخافض . قوله : ثم ادعهم إلى الإسلام كذا وقعت الرواية في جميع نسخ كتاب مسلم ثم ادعهم بزيادة ثم والصواب إسقاطها . كما روى في غير كتاب مسلم . كمصنف أبي داود ، وكتاب الأموال لأبي عبيد . لأن ذلك هو إبتداء تفسير الثلاث خصال . وقوله : ثم ادعهم إلى التحول إلى دار المهاجرين يعني المدينة . وكان في أول الأمر وجوب الهجرة إلى المدينة على كل من دخل في الإسلام . وهذا يدل على أن الهجرة واجبة على كل من آمن من أهل مكة وغيرهم . قوله : فإن أبوا أن يتحولوا يعني أن من أسلم ولم يهاجر ولم يجاهد لا يعطي من الخمس ولا من الفيء شيئًا . وقد أخذ الشافعي رحمه الله بالحديث في الأعراب ، فلم ير لهم من الفيء شيئًا . إنما لهم الصدقة المأخوذة من أغنيائهم فترد على فقرائهم. كما أن أهل الجهاد وأجناد المسلمين لا حق لهم في الصدقة عنده ، ومصرف كل مال في أهله . وسوى مالك رحمه الله وأبو حنيفة رحمه الله بين المالين ، وجوزا صرفهما للضعيف . قوله : فإن هم أبوا فاسألهم الجزية فيه حجة لمالك وأصحابه والأوزاعي في أخذ الجزية من كل كافر : عربيًا كان أو غيره ، كتابيًا كان أو غيره . وذهب أبو حنيفة رحمه الله إلى أنها تؤخذ من الجميع إلا من مشركي العرب ومجوسهم . وقال الشافعي لا تؤخذ إلا من أهل الكتاب عربًا كانوا أو عجمًا . وهو قول الإمام أحمد في ظاهر مذهبه ، وتؤخذ من المجوس . قلت : لأن النبي أخذها منهم . وقال : " سنوا بهم سنة أهل الكتاب " . وقد اختلفوا في القدر المفروض من الجزية : فقال مالك : أربعة دنانير على أهل الذهب ، وأربعون درهمًا على أهل الورق . وهل ينقص منها الضعيف أو لا ؟ قولان . قال الشافعي : فيه دينار على الغني والفقير . وقال أبو حنيفة رحمه الله ، والكوفيون : على الغني ثمانية وأربعون درهمًا والوسط أربعة وعشرون درهمًا . والفقير اثنا عشر درهمًا . وهو قول أحمد بن حنبل رحمه الله . قال يحيى بن يوسف الصرصري الحنبلي رحمه الله : وقاتل يهودا والنصارى وعصبة المجـ ـوس ، فإن هم سلموا الجزية أصدد على الأدون اثني عشر درهمًا افرضن وأربعة من بعد عشرين زد لأوسطهم حالًا ومن كان موسرًا ثمانية مع أربعين لتنقد وتسقط عن صبيانهم ونسائهم وشيخ لهم فان وأعمى ومقعد وذي الفقر والمجنون أو عبد مسلم ومن وجبت منهم عليه فيهتدي وعند مالك وكافة العلماء على الرجال الأحرار البالغين العقلاء دون غيرهم ، وإنما تؤخذ ممن كان تحت قهر المسلمين لا ممن نأى بداره ، ويجب تحويلهم إلى بلاد المسلمين أو حربهم . قوله : وإذا حاصرت أهل حصن الكلام إلى آخره فيه حجة لمن يقول من الفقهاء وأهل الأصول : إن المصيب في مسائل الإجتهاد واحد . وهو المعروف من مذهب مالك وغيره ووجه الاستدلال به أنه قد نص على أن الله تعالى قد حكم حكمًا معينًا في المجتهدات . فمن وافقه فهو المصيب ومن لم يوافقه فهو المخطىء . قوله : وإذا حاصرت أهل حصن فأرادوك أن تجعل لهم ذمة الله وذمة نبيه : الحديث الذمة العهد ، وتخفر تنقض يقال : أخفرت الرجل إذا نقضت عهده ، وخفرته : أجرته ، ومعناه أنه خاف من نقض من لم يعرف حق الوفاء بالعهد ، كجملة الأعراب : فكأنه يقول : إن وقع نقض من متعد معتد كان نقض عهد الخلق أهون من نقض عهد الله تعالى . والله أعلم . قوله : وقول نافع وقد سئل عن الدعوة قبل القتال ، ذكر فيه أن مذهب مالك يجمع بين الأحاديث في الدعوة قبل القتال ، قال وهو أن مالكًا قال : لا يقاتل الكفار قبل أن يدعوا ولا تلتمس غرتهم إلا أن يكونوا قد بلغتهم الدعوة . فيجوز أن تلتمس غرتهم وهذا الذي صار إليه مالك هو الصحيح لأن فائدة الدعوة أن يعرف العدو أن المسلمين لا يقاتلون للدنيا ولا للعصبية وإنما يقاتلون للدين فإذا علموا بذلك أمكن أن يكون ذلك سببًا مميلًا لهم إلى الإنقياد إلى الحق ، بخلاف ما إذا جهلوا مقصود المسلمين . فقد يظنون أنهم يقاتلون للملك وللدنيا فيزدادون عتوًا وبغضًا . والله أعلم .

ما جاء في الأقسام على الله قوله : باب ( ما جاء في الإقسام على الله ) ذكر المصنف في حديث : عن جندب بن عبد الله رضي الله عنه قال : قال رسول الله  : " قال رجل : والله لا يغفر الله لفلان . قال الله عز وجل : من ذا الذي يتألى على أن لا أغفر لفلان ؟ إني قد غفرت له وأحبطت عملك " رواه مسلم . قوله : يتألى أي يحلف . والألية بالتشديد الحلف . وصح من حديث أبي هريرة قال البغوي في شرح السنة ـ وساق بالسند إلى عكرمة بن عمار ـ قال : دخلت مسجد المدينة فناداني شيخ قال : يا يمامي ، تعال ، وما أعرفه ، قال : لا تقولن لرجل: والله لا يغفر الله لك أبدًا ولا يدخلك الجنة . قلت : ومن أنت يرحمك الله . قال : أبو هريرة ، فقلت : إن هذه كلمة يقولها أحدنا لبعض أهله إذا غضب ، أو لزوجته أو لخادمه ، قال ، فإني سمعت رسول الله يقول : " إن رجلين كانا في بني إسرائيل متحابين ، أحدهما مجتهد في العبادة ، والآخر ، كأنه يقول مذنب ، فجعل يقول : أقصر عما أنت فيه . قال فيقول : خلني وربي ، قال : فوجده يومًا على ذنب استعظمه فقال : أقصر ، فقال : خلني وربي ، أبعثت علي رقيبًا ، فقال : والله لا يغفر الله لك ولا يدخلك الجنة أبدًا . قال : فبعث الله إليهما ملكًا ، فقبض أرواحهما ، فاجتمعا عنده ، فقال للمذنب: ادخل الجنة برحمتي، وقال للآخر : أتستطيع أن تحظر على عبدي رحمتي ؟ قال : لا يا رب ، قال : اذهبوا به إلى النار . قال أبو هريرة : والذي نفسي بيده لتكلم بكلمة أو بقت دنياه وآخرته " . ورواه أبو داود في سننه ، وهذا لفظه عن أبي هريرة رضي الله عنه يقول : " كان رجلان في بني إسرائيل متآخيين فكان أحدهما يذنب ، والآخر مجتهد في العبادة . فكان لا يزال المجتهد يرى الآخر على الذنب فيقول : أقصر ، فوجده يومًا على ذنب فقال له : أقصر ، فقال : خلني وربي أبعثت علي رقيبًا ؟ قال : والله لا يغفر الله لك ولا يدخلك الجنة ، فقبضت أرواحهما ، فاجتمعا عند رب العالمين ، فقال لهذا المجتهد : أكنت بي عالمًا ، أو كنت على ما في يدي قادرًا ؟ فقال للمذنب : اذهب فادخل الجنة وقال للآخر : اذهبوا به إلى النار " . قوله : وفي حديث أبي هريرة أن القائل رجل عابد يشير إلى قوله في هذا الحديث : أحدهما مجتهد في العبادة وفي هذه الأحاديث بيان خطر اللسان وذلك يفيد التحرز من الكلام ، كما في حديث معاذ " قلت يا رسول الله ، وإنا لمؤاخذون بما نتكلم به ؟ قال : ثكلتك أمك يا معاذ ، وهل يكب الناس في النار على وجوهم ـ أو قال على مناخرهم ـ إلا حصائد ألسنتهم " . الله أعلم .

لا يشتشفع بالله على خلقه قوله : باب ( لا يستشفع بالله على خلقه ) وذكر الحديث وسياق أبي داود في سننه أتم مما ذكره المصنف رحمه الله ولفظه : عن جبير بن محمد بن جبير بن مطعم عن أبيه عن جده قال : " أتى رسول الله أعرابي فقال : يا رسول الله ، جهدت الأنفس ، وضاعت العيال ، ونهكت الأموال ، وهلكت الأنعام ، فاستسق الله لنا ، فإنا نستشفع بك على الله ، ونستشفع بالله عليك ، قال رسول الله  : ويحك ، أتدري ما تقول ؟ وسبح رسول الله فما زال يسبح حتى عرف ذلك في وجوه أصحابه ، ثم قال : ويحك ، إنه لا يستشفع بالله على أحد من خلقه ، شأن الله أعظم من ذلك، ويحك أتدري ما الله . إن عرشه على سمواته لهكذا ـ وقال بأصابعه مثل القبة عليه ـ وإنه ليئط به أطيط الرجل بالراكب " قال ابن بشار في حديثه : " إن الله فوق عرشه فوق سماواته " . قال الحافظ الذهبي : رواه أبو داود بإسناد حسن عنده في الرد على الجهمية من حديث محمد بن إسحاق بن يسار . قوله : ويحك إنه لا يستشفع بالله على أحد من خلقه فإنه تعالى رب كل شئ ومليكه ، والخير كله بيده ، لا مانع لما أعطى ولا معطي لما منع ، ولا راد لما قضى ، وما كان الله ليعجزه من شئ في السموات ولا في الأرض إنه كان عليمًا قديرًا . إنما أمره إذا أراد شيئًا أن يقول له كن فيكون . والخلق وما في أيديهم ملكه يتصرف فيهم كيف يشاء وهو الذي يشفع الشافع إليه ، ولهذا أنكر على الأعرابي . قوله : وسبح لله كثيرًا وعظمه لأن هذا القول لا يليق بالخالق سبحانه وبحمده إن شأن الله أعظم من ذلك . وفي هذا الحديث : إثبات علو الله على خلقه ، وأن عرشه فوق سماواته. وفيه تفسير الاستواء بالعلو كما فسره الصحابة والتابعون والأئمة ، خلافًا للمعطلة والجهمية والمعتزلة ومن أخذ عنهم ، كالأشاعرة ونحوهم ممن ألحد في اسماء الله وصفاته وصرفها عن المعنى الذي وضعت له ودلت عليه من إثبات صفات الله تعالى التي دلت على كماله جل وعلا ، كما عليه السلف الصالح والأئمة ومن تبعهم ممن تمسك بالسنة ، فإنهم أثبتوا ما أثبته الله لنفسه وأثبته له رسوله من صفات كماله على ما يليق بجلاله وعظمته إثباتًا بلا تمثيل ، وتنزيهًا بلا تعطيل . قال العلامة ابن القيم رحمه الله تعالى في مفتاح دار السعادة ـ بعد كلام سبق فيما يعرف العبد بنفسه وبربه من عجائب مخلوقاته . قال بعد ذلك : والثاني : أن يتجاوز هذا إلى النظر بالبصيرة الباطنة فتفتح له أبواب السماء ، فيجول في أقطارها وملكوتها وبين ملائكتها ، ثم يفتح له باب بعد باب حتى ينتهي به سير القلب إلى عرش الرحمن فينظر سعته وعظمته وجلاله ومده ورفعته ، ويرى السماوات السبع والأرضين السبع بالنسة إليه كحلقة ملقاة بأرض فلاة ، ويرى الملائكة حافين من حول العرش لهم زجل بالتسبيح والتحميد والتقديس والتكبير ، والأمر ينزل من فوقه بتدبير الممالك والجنود التي لا يعلمها إلا ربها ومليكها ، فينزل الأمر بإحياء قوم وإماتة آخرين ، وإعزاز قوم إذلال آخرين ، وإنشاء ملك وسلب ملك ، وتحويل نعمة من محل إلى محل وقضاء الحاجات على إختلافها وتبيانها وكثرتها : من جبر كسير ، وإغناء فقير ، وشفاء مريض ، وتفريج كرب ، ومغفرة ذنب ، وكشف ضر ، ونصر مظلوم ، وهداية حيران ، وتعليم جاهل ، ورد آبق ، وأمان خائف ، وإجارة مستجير ، ومدد لضعيف ، وإغاثة لملهوف ، وإعانة لعاجز ، وانتقام من ظالم ، وكف لعدوان ، فهي مراسيم دائرة بين العدل والفضل ، والحكمة والرحمة ، تنفذ في أقطار العوالم ، لا يشغله سمع شئ منها عن سمع غيره ، ولا تغلطه كثرة المسائل والحوائج على اختلاف لغاتها وتبيانها واتحاد قوتها ، ولا يتبرم بإلحاح الملحين ، ولا تنقص ذرة من خزائنه ، لا إله إلا هو العزيز الحكيم . فحينئذ يقوم القلب بين يدي الرحمن مطرقًا لهيئته خاشعًا لعظمته عانيًا لعزته ، فيسجد بين يدي الملك الحق المبين ، سجدة لا يرفع رأسه منها إلى يوم المزيد ، فهذا سفر القلب ، وهو في وطنه وداره ومحل ملكه ، وهذا من أعظم آيات الله وعجائب صنعه ، فياله من سفر ما أبركه وأروحه ، وأعظم ثمرته وربحه ، وأجل منفعته وأحسن عاقبته ، سفر هو حياة الأرواح ، ومفتاح السعادة ، وغنيمة العقول والألباب ، لا كالسفر الذي هو قطعة من العذاب . ا هـ كلامه رحمه الله . وأما الاستشفاع بالرسول في حياته فالمراد به استجلاب دعائه ، وليس خاصًا به بل كل حي يرجى أن يستجاب له فلا بأس أن يطلب منه أن يدعو للسائل بالمطالب الخاصة والعامة ، كما قال النبي لعمر لما أراد أن يعتمر من المدينة لا تنسنا يا أخي من صالح دعائك وأما الميت فإنما يشرع في حقه الدعاء له على جنازته على قبره وفي غير ذلك . وهذ هو الذي يشرع في حق الميت ، وأما دعاؤه فلم يشرع ، بل قد دل الكتاب والسنة على النهي والوعيد عليه ، كما قال تعالى : ' 35 : 13 ، 14 ' " والذين تدعون من دونه ما يملكون من قطمير * إن تدعوهم لا يسمعوا دعاءكم ولو سمعوا ما استجابوا لكم ويوم القيامة يكفرون بشرككم " فبين الله تعالى أن دعاء من لا يسمع ولا يستجيب شرك يكفر به المدعو يوم القيامة أي ينكره ويعادي من فعله ، كما في آية الأحقاف : ' 46 : 6 ' " وإذا حشر الناس كانوا لهم أعداء وكانوا بعبادتهم كافرين " فكل ميت أو غائب لا يسمع ولا يستجيب ولا ينفع ولا يضر . والصحابة رضي الله عنهم ، لا سيما أهل السوابق منهم كالخلفاء الراشدين ، لم ينقل عن أحد منهم ولا عن غيره أنهم أنزلوا حاجتهم بالنبي بعد وفاته ، حتى في أوقات الجدب ، كما وقع لعمر رضي الله عنه لما خرج ليستسقي بالناس خرج بالعباس عم النبي فأمره أن يستسقي لأنه حي حاضر يدعو ربه فلو جاز أن يستسقي بأحد بعد وفاته لاستسقى عمر رضي الله عنه والسابقون الأولون بالنبي . وبهذا يظهر الفرق بين الحي والميت ، لأن المقصود من الحي دعاءه إذا كان حاضرًا . فإنهم في الحقيقة إنما توجهوا إلى الله بطلب دعاء من يدعوه ويتضرع إليه ، وهم يدعون ربهم ، فمن تعدى المشروع إلى ما لا يشرع ضل وأضل . ولو كان دعاء الميت خيرًا لكان الصحابة إليه أسبق وعليه أحرص ، وبهم أليق ، وبحقه أعلم وأقوم . فمن تمسك بكتاب الله نجا ، ومن تركه واعتمد على عقله هلك . وبالله التوفيق .

ما جاء في حماية النبي حمى التوحيد باب ( ما جاء في حماية النبي حمى التوحيد ، وسد طرق الشرك ) حمايته حمى التوحيد عما يشوبه من الأقوال والأعمال التي يضمحل معها التوحيد أو ينقص وكذا كثير في السنة الثابتة عنه كقوله : " لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم إنما أنا عبد فقولوا : عبد الله ورسوله " وتقدم . وقوله : " إنه لا يستغاث بي وإنما يستغاث بالله عز وجل " ونحو ذلك . ونهى عن التمادح وشدد القول فيه ، كقوله لمن مدح إنسانًا : ويلك قطعت عنق صاحبك ... الحديث أخرجه أبو داود عن عبد الرحمن بن أبي بكرة عن أبيه : أن رجلًا أثنى على رجل عند النبي فقال له : "قطعت عنق صاحبك ... ثلاثًا " وقال : "إذا لقيتم المداحين فاحثوا في وجوههم التراب " أخرجه مسلم والترمذي وابن ماجه عن المقداد بن الأسود . وفي هذا الحديث : نهى عن أن يقولوا : أنت سيدنا وقال : السيد الله تبارك وتعالى ونهاهم أن يقولوا : وأفضلنا فضلًا وأعظمنا طولًا وقال : لا يستجرينكم الشيطان . وكذلك قوله في حديث أنس : " أن ناسًا قالوا : يا رسول الله يا خيرنا وابن خيرنا " ... إلخ . كره أن يواجهوه بالمدح فيفضي بهم إلى الغلو . وأخبر أن مواجهة المادح للمدوح بمدحه ـ ولو بما هو فيه ـ من عمل الشيطان لما تفضي محبة المدح إليه من تعاظم الممدوح في نفسه وذلك ينافي كمال التوحيد فإن العبادة لا تقوم إلا بقطب رحاها الذي لا تدور إلا عليه ، وذلك غاية الذل في غاية المحبة ، وكمال الذل يقتضي الخضوع والخشية والاستكانة لله تعالى ، وأن لا يرى نفسه إلا في مقام الذم لها والمعاتبة لها في حق ربه ، وكذلك الحب لا تحصل غايته إلا إذا كا يحب ما يحبه الله ، ويكره ما يكرهه الله من الأقوال والأعمال والإرادات ، ومحبة المدح من العبد لنفسه تخالف ما يحبه الله منه والمادح يغره من نفسه فيكون آثمًا ، فمقام العبودية يقتضي كراهة المدح رأسًا ، والنهي عنه صيانة لهذا المقام ، فمتى أخلص العبد الذل لله والمحبة له خلصت أعماله وصحت ومتى أدخل عليها ما يشوبها من هذه الشوائب دخل على مقام العبودية بالنقص أو الفساد ، وإذا أداه المدح إلى التعاظم في نفسه والإعجاب بها وقع في أمر عظيم ينافي العبودية الخاصة كما في الحديث : " الكبرياء درائي والعظمة إزاري فمن نازعني شيئًا منهما عذبته ": وفي الحديث : " لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر" : وهذه الآفات قد تكون محبة المدح سببًا لها وسلمًا إليها ، والعجب يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب ، وأما المادح فقد يفضي به المدح إلى أن ينزل الممدوح منزلة لا يستحقها ، كما يوجد كثيرًا في أشعارهم من الغلو الذي نهى عنه الرسول وحذر أمته أن يقع منهم ، فقد وقع الكثير منه حتى صرحوا فيه بالشرك في الربوبية والإلهية والملك ، كما تقدمت الإشارة إلى شئ من ذلك . والنبي لما أكمل الله له مقام العبودية صار يكره أن يمدح ، صيانة لهذا المقام ، وأرشد الأمة إلى ترك ذلك نصحًا لهم ، وحماية لمقام التوحيد عن أن يدخله ما يفسده ، أو يضعفه من الشرك ووسائله : ' 2 : 59 ' " فبدل الذين ظلموا قولًا غير الذي قيل لهم " ورأو أن فعل ما نهاهم عن فعله قربة من أفضل القربات وحسنه من أعظم الحسنات ! وأما تسمية العبد بالسيد فاختلف العلماء في ذلك . قال العلامة ابن القيم في بدائع الفوائد : اختلف الناس في جواز إطلاق السيد على البشر . فمنعه قوم ، ونقل عن مالك ، واحتجوا بقول النبي لما قيل له : يا سيدنا قال : السيد الله تبارك وتعالى وجوزه قوم ، واحتجوا بقول النبي للأنصار : قوموا إلى سيدكم وهذا أصح من الحديث الأول . قال هؤلاء : السيد أحد ما يضاف إليه ، فلا يقال للتميمي سيد كندة ، ولا يقال الملك سيد البشر . قال : وعلى هذا فلا يجوز أن يطلق على الله هذا الاسم ، وفي هذا نظر ، فإن السيد إذا أطلق عليه تعالى فهو في منزلة المالك ، والمولى والرب . لا بمعنى الذي يطلق على المخلوق . انتهى . قلت : فقد صح عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال في معنى قول الله تعالى : ' 6 : 164 ' " قل أغير الله أبغي ربا " أي إلهًا وسيدًا وقال في قول الله تعالى : " الله الصمد " أنه السيد الذي كمل في جميع أنواع السؤدد : وقال أبو وائل : هو السيد الذي انتهى سؤدده . وأما استدلالهم بقول النبي للأنصار قوموا إلى سيدكم فالظاهر أن النبي لم يواجه سعدًا به ، فيكون في هذا المقام تفضيل والله أعلم .

ما جاء في قول الله " وما قدروا الله حق قدره " قوله : باب

قول الله تعالى : ' 39 : 67 ' " وما قدروا الله حق قدره والأرض جميعًا قبضته يوم القيامة والسماوات مطويات بيمينه سبحانه وتعالى عما يشركون "  أي من الأحاديث والآثار في معنى هذه الآية الكريمة .

قال العماد ابن كثير رحمه الله تعالى : يقول تعالى : ما قدر المشركون الله حق قدره حتى عبدوا معه غيره ، وهو العظيم الذي لا أعظم منه ، القادر على كل شئ المالك لكل شئ ، وكل شئ تحت قهره وقدرته . قال مجاهد : نزلت في قريش . وقال السدى : ما عظموه حق عظمته . وقال محمد بن كعب : لو قدروه حق قدره ما كذبوه . وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس : هم الكفار الذين لم يؤمنوا بقدرة الله عليهم فمن آمن أن الله على كل شئ قدير ، فقد قدر الله حق قدره ، ومن لم يؤمن بذلك فلم يقدر الله حق قدره . وقد وردت أحاديث كثيرة متعلقة بهذه الآية ، الطريق فيها وفي أمثالها مذهب السلف ، وهو إمرارها كما جاءت من غير تكييف ولا تحريف ـ وذكر حديث ابن مسعود كما ذكره المصنف رحمه الله في هذا الباب قال : ورواه البخاري في غير موضع من صحيحه . والإمام أحمد ومسلم والترمذي والنسائي كلهم من حديث سليمان بن مهران وهو الأعمش عن إبراهيم عن عبيدة عن ابن مسعود بنحوه .

حديث الحبر الذي جاء يصف كيف يقبض الله السموات والأرض قال الإمام أحمد : حدثنا معاوية حدثنا الأعمش ، عن إبراهيم عن علقمة عن عبد الله قال : " جاء رجل من أهل الكتاب إلى النبي فقال : يا أبا القاسم أبلغك أن الله تعالى يجعل الخلائق على إصبع والسموات على إصبع ، والأرضين على إصبع ، والشجر على إصبع ، والثرى على إصبع وسائر الخلق على إصبع . فيقول : أنا الملك . فضحك رسول الله حتى بدت نواجذه تصديقًا لقول الحبر . قال : وأنزل الله : " وما قدروا الله حق قدره " "الآية . وهكذا رواه البخاري ومسلم والنسائي من طرق عن الأعمش به . وقال الإمام أحمد : حدثنا الحسين بن حسن الأشقر ، حدثنا أبو كدينة عن عطاء . عن أبي الضحى عن ابن عباس قال : " مر يهودي برسول الله وهو جالس ، فقال : كيف تقول يا أبا القاسم يوم يجعل الله السموات على ذه ـ وأشار بالسبابة ـ والأرض على ذه ، والجبال على ذه وسائر الخلق على ذه ؟ كل ذلك يشير بأصابعه ، فأنزل الله : " وما قدروا الله حق قدره " " وكذا رواه الترمذي في التفسير بسنده عن أبي الضحى مسلم بن صبيح به . وقال : حسن صحيح غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه . ثم قال البخاري : حدثنا سعيد بن عفير حدثنا الليث حدثني عبد الرحمن بن خالد بن مسافر عن ابن شهاب عن أبي سلمة بن عبد الرحمن أن أبا هريرة رضي الله عنه قال : سمعت رسول الله يقول : " يقبض الله الأرض ويطوي السماء بيمينه ، فيقول : أنا الملك أين ملوك الأرض ؟ " تفرد به من هذا الوجه ، ورواه مسلم من وجه آخر . وقال البخاري في موضع آخر : حدثنا مقدم بن محمد حدثنا عمى القاسم بن يحيى عن عبيد الله عن نافع عن ابن عمر رضي الله عنهما قال : إن رسول الله قال : " إن الله تعالى يقبض يوم القيامة الأرضين على إصبع وتكون السماء بيمينه ثم يقول : أنا الملك " تفرد به أيضًا من هذا الوجه . ورواه مسلم من وجه آخر . وقد رواه الإمام أحمد من طريق آخر بلفظ أبسط من هذا السياق وأطول فقال : حدثنا عفان حدثنا حماد بن سلمة ، أنبأنا إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة عن عبيد الله ابن مقسم عن ابن عمر أن رسول الله قرأ هذه الآية ذات يوم على المنبر " وما قدروا الله حق قدره والأرض جميعًا قبضته يوم القيامة والسماوات مطويات بيمينه ، سبحانه وتعالى عما يشركون " ورسول الله يقول هكذا بيده يحركها ، يقبل بها ويدبر ، يمجد الرب تعالى نفسه : أنا الجبار ، أنا المتكبر ، أنا الملك ، أنا العزيز ، أنا الكريم ، فرجف برسول الله المنبر حتى قلنا : ليخرن به ا هـ . قوله : ولمسلم عن ابن عمر ـ الحديث كذا في رواية مسلم . قال الحميدي وهي أتم ، وهي عند مسلم من حديث سالم عن أبيه . وأخرجه البخاري من حديث عبيد الله عن نافع عن ابن عمر رضي الله عنهما قال : " إن الله يقبض يوم القيامة الأرضين وتكون السماء بيمينه " وأخرجه مسلم من حديث عبيد الله بن مقسم . قلت : وهذه الأحاديث وما في معناها تدل على عظمة الله وعظيم قدرته وعظم مخلوقاته . وقد تعرف سبحانه وتعالى إلى عباده بصفاته وعجائب مخلوقاته ، وكلها تعرف وتدل على كماله ، وأنه هو المعبود لا شريك له في ربوبيته وإلهيته وتدل على إثبات الصفات له على ما يليق بجلال الله وعظمته ، إثباتًا بلا تمثيل ، وتنزيهًا بلا تعطيل ، وهذا هو الذي دلت عليه نصوص الكتاب والسنة وعليه سلف الأمة وأئمتها ومن تبعهم بإحسان ، واقتفى أثرهم على الإسلام والإيمان . وتأمل ما في هذه الأحاديث الصحيحة من تعظيم النبي ربه بذكر صفات كماله على ما يليق بعظمته وجلاله وتصديقه اليهود فيما أخبروا به عن الله من الصفات التي تدل على عظمته وتأمل ما فيها من إثبات علو الله تعالى على عرشه ، ولم يقل النبي في شئ منها . إن ظاهرها غير مراد ، وأنها تدل على تشبيه صفات الله بصفات خلقه ، فلو كان هذا حقًا بلغه أمينه أمته ، فإن الله أكمل به الدين وأتم به النعمة فبلغ البلاغ المبين . صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وصحبه ومن تبعهم إلى يوم الدين . وتلقى الصحابة رضي الله عنهم عن نبيهم ما وصف به ربه من صفات كماله ونعوت جلاله ، فآمنوا به وآمنوا بكتاب الله وما تضمنه من صفات ربهم جل وعلا ، كما قال تعالى : ' 3 : 7 ' " والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا " وكذلك التابعون لهم بإحسان وتابعوهم ، والأئمة من المحدثين والفقهاء كلهم وصف الله بما وصف به نفسه ووصفه به رسول الله ولم يجحدوا شيئًا من الصفات ، ولا قال أحد منهم : إن ظاهرها غير مراد ولا أنه يلزم من إثباتها التشبيه ، بل أنكروا على من قال ذلك غاية الإنكار ، فصنفوا في رد هذه الشبهات المصنفات الكبار المعروفة الموجودة بأيدي أهل السنة والجماعة .

ما الكرسي في العرش إلا كحلقة ألقيت في فلاة من الأرض

بعد ما بين كل سماء والتي يليها والسابعة والكرسي ، الكرسي والعرش قال شيخ الإسلام أحمد بن تيمية رحمه الله تعالى : وهذا كتاب الله من أوله إلى آخره وسنة رسول الله ، وكلام الصحابة والتابعين ، وكلام سائر الأئمة مملوءة كلها بما هو نص أو ظاهر أن الله تعالى فوق كل شئ ، وأنه فوق العرش فوق السموات مستو على عرشه ، مثل قوله تعالى : ' 35 : 10 ' " إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه " وقوله تعالى : ' 3 : 55 ' " يا عيسى إني متوفيك ورافعك إلي " وقوله تعالى : ' 4 : 158 ' " بل رفعه الله إليه " وقوله تعالى: ' 70 : 3 : 4 ' " ذي المعارج * تعرج الملائكة والروح إليه " وقوله تعالى : ' 32 : 5 ' " يدبر الأمر من السماء إلى الأرض ثم يعرج إليه " وقوله تعالى : ' 16 : 50 ' " يخافون ربهم من فوقهم " وقوله تعالى : ' 2 : 29 ' " هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعا ثم استوى إلى السماء فسواهن سبع سماوات " وقوله تعالى : ' 7 : 54 ' " إن ربكم الله الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش يغشي الليل النهار يطلبه حثيثا والشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره ألا له الخلق والأمر تبارك الله رب العالمين " وقوله : ' 10 : 3 ' " إن ربكم الله الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش يدبر الأمر ما من شفيع إلا من بعد إذنه " ... الآية فذكر التوحيدين في هذه الآية . قوله تعالى : ' 13 : 2 ' " الله الذي رفع السماوات بغير عمد ترونها ثم استوى على العرش " وقوله تعالى : ' 20 : 4 ، 5 ' " تنزيلا ممن خلق الأرض والسماوات العلى * الرحمن على العرش استوى " وقوله : ' 25 : 58 ، 59 ' " وتوكل على الحي الذي لا يموت وسبح بحمده وكفى به بذنوب عباده خبيرا * الذي خلق السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام ثم استوى على العرش الرحمن فاسأل به خبيرا " وقوله تعالى: '32 : 4 ، 5 ' " الله الذي خلق السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام ثم استوى على العرش ما لكم من دونه من ولي ولا شفيع أفلا تتذكرون * يدبر الأمر من السماء إلى الأرض ثم يعرج إليه في يوم كان مقداره ألف سنة مما تعدون " وقوله : ' 57 : 4 ' " هو الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش يعلم ما يلج في الأرض وما يخرج منها وما ينزل من السماء وما يعرج فيها وهو معكم أين ما كنتم والله بما تعملون بصير " فذكر عموم علمه وعموم قدرته وعموم إحاطته وعموم رؤيته . وقوله تعالى : ' 67 : 16 ، 17 ' " أأمنتم من في السماء أن يخسف بكم الأرض فإذا هي تمور * أم أمنتم من في السماء أن يرسل عليكم حاصبا فستعلمون كيف نذير " وقوله تعالى : ' 41 : 42 ' " تنزيل من حكيم حميد " وقوله: '45 : 2 ' " تنزيل الكتاب من الله العزيز الحكيم " وقوله تعالى : ' 40 : 36 ، 37 ' " وقال فرعون يا هامان ابن لي صرحا لعلي أبلغ الأسباب * أسباب السماوات فأطلع إلى إله موسى وإني لأظنه كاذبا " . انتهى كلامه رحمه الله .

الإيمان بما وصف الله به نفسه ووصفه به رسوله بلا تمثيل ولا تعطيل وقوله تعالى : ' 41 : 42 ' " تنزيل من حكيم حميد " وقوله: '45 : 2 ' " تنزيل الكتاب من الله العزيز الحكيم " وقوله تعالى : ' 40 : 36 ، 37 ' " وقال فرعون يا هامان ابن لي صرحا لعلي أبلغ الأسباب * أسباب السماوات فأطلع إلى إله موسى وإني لأظنه كاذبا " . انتهى كلامه رحمه الله . قلت : وقد ذكر الأئمة رحمهم الله تعالى فيما صنفوه في الرد على نقاة الصفات من الجهمية والمعتزلة والأشاعرة ونحوهم أقوال الصحابة والتابعين . فمن ذلك ما رواه الحافظ الذهبي في كتاب العلو وغيره بالأسانيد الصحيحة عن أم سلمة زوج النبي أنها قالت في قوله تعالى : " الرحمن على العرش استوى " قالت : الاستواء غير مجهول ، والكيف غير معقول ، والإقرار به إيمان ، والجحود به كفر رواه ابن المنذر واللالكائي وغيرهما بأسانيد صحاح . قال : وثبت عن سفيان بن عيينة رحمه الله تعالى أنه قال : لما سئل ربيعة بن أبي عبد الرحمن : كيف الاستواء ، قال : الاستواء غير مجهول ، والكيف غير معقول ، ومن الله الرسالة ، وعلى الرسول البلاغ ، وعلينا التصديق . وقال ابن وهب : كنا عند مالك فدخل رجل فقال : يا أبا عبد الله " الرحمن على العرش استوى " كيف استوى ؟ فأطرق مالك رحمه الله وأخذته الرحضاء وقال : الرحمن على العرش استوى ، كما وصف نفسه ولا يقال كيف ؟ و كيف عنه مرفوع ، وأنت صاحب بدعة . أخرجوه رواه البيهقي بإسناد صحيح عن ابن وهب ، ورواه عن يحيى بن يحيى أيضًا ، ولفظه قال : الاستواء غير مجهول ، والكيف غير معقول، والإيمان به واجب ، والسؤال عنه بدعة . قال الذهبي : فانظر إليهم كيف أثبتوا الاستواء لله ، وأخبروا أنه معلوم لا يحتاج لفظه إلى تفسير ، ونفوا عنه الكيفية ، قال البخاري في صحيحه : قال مجاهد استوى علا على العرش . وقال إسحاق بن راهويه سمعت غير واحد من المفسرين يقول : " الرحمن على العرش استوى " أي ارتفع . وقال محمد ابن جرير الطبري في قوله تعالى : " الرحمن على العرش استوى " أي علا وارتفع . وشواهده في أقوال الصحابة والتابعين وأتباعهم ، فمن ذلك قول عبد الله بن رواحة رضي الله عنه : شهدت بأن وعد الله حق وأن النار مثوى الكافرينا وأن العرش فوق الماء طاف وفوق العرش رب العالمينا وتحمله ملائكة شداد ملائكة الإله مسومينا وروى الدارمى والحاكم والبيهقي بأصح إسناد إلى علي بن الحسين بن شقيق ، قال : سمعت عبد الله بن المبارك يقول : نعرف ربنا بأنه فوق سبع سماواته على العرش استوى ، بائن في خلقه ، ولا نقول كما قال الجهمية قال الدارمي : حدثنا الحسن بن الصباح البزار حدثنا علي بن الحسين بن شقيق عن ابن المبارك : قيل له : كيف نعرف ربنا ؟ قال : بأنه فوق السماء السابعة على العرش بائن من خلفه . وقد تقدم قول الأوزاعي : كنا ـ والتابعون متوافرون ـ نقول : إن الله تعالى ذكره بائن من خلقه ، ونؤمن بما وردت به السنة . وقال أبو عمر الطلمنكي في كتاب الأصول  : أجمع المسلون من أهل السنة على أن الله استوى على عرشه بذاته . وقال في هذا الكتاب أيضًا : أجمع أهل السنة على أن الله تعالى استوى على عرشه على الحقيقة لا على المجاز ، ثم ساق بسنده عن مالك قوله : الله في السماء وعلمه في كل مكان : ثم قال في هذا الكتاب : أجمع المسلمون من أهل السنة أن معنى قوله : " وهو معكم أين ما كنتم " ونحو ذلك من القرآن : أن ذلك علمه ، وأن الله فوق السماوات بذاته مستو على عرشه كيف شاء . وهذا لفظه في كتابه . وهذا كثير في كلام الصحابة والتابعين والأئمة ، أثبتوا ما أثبته الله في كتابه على لسان رسوله على الحقيقة على ما يليق بجلال الله وعظمته ، ونفوا عنه مشابهة المخلوقين ، ولم يمثلوا ولم يكيفوا ، كما ذكرنا ذلك عنهم في هذا الباب . وقال الحافظ الذهبي : وأول وقت سمعت مقالة من أنكر أن الله فوق عرشه : هو الجعد بن درهم . وكذلك أنكر جميع الصفات . وقتله خالد بن عبد الله القسري وقصته مشهورة ، فأخذ هذه المقالة عنه الجهم بن صفوان إمام الجهمية ، فأظهرها واحتج لها بالشبهات ، وكان ذلك في آخر عصر التابعين فأنكر مقالته أئمة ذلك العصر مثل الأوزاعي وأبي حنيفة ، ومالك والليث بن سعد والثوري ، وحماد بن زيد ، وحماد بن سلمة وابن المبارك ومن بعدهم من أئمة الهدى . فقال الأوزاعي إمام أهل الشام على رأس الخمسين ومائة عند ظهور هذه المقالة : ما أخبرنا عبد الواسع الأبهري بسنده إلى أبي بكر البيهقي : أنبأنا أبو عبد الله الحافظ ، أخبرني محمد بن علي الجوهري ـ ببغداد ـ حدثنا إبراهيم بن الهيثم حدثنا محمد بن كثير المصيصي سمعت الأوزاعي يقول : كنا ـ والتابعون متوافرون ـ نقول : إن الله فوق عرشه . ونؤمن بما وردت به السنة من صفاته . أخرجه البيهقي في الصفات ورواته أئمة ثقات . وقال الإمام الشافعي رحمه الله تعالى : لله أسماء وصفات لا يسع أحدًا ردها ومن خالف بعد ثبوت الحجة عليه كفر ، وأما قبل قيام الحجة فإنه يعذر بالجهل ، ونثبت هذه الصفات وننفي عنه التشبيه ، كما نفى عن نفسه فقال : " ليس كمثله شيء وهو السميع البصير " ا هـ من فتح الباري .

حديث الأوعال الذي رواه العباس قوله : عن العباس بن عبد المطلب ساقه المصنف رحمه الله مختصرًا ، والذي في سنن أبي داود : عن العباس بن عبد المطلب قال : كنت في البطحاء في عصابة فيهم رسول الله ، فمرت بهم سحابة فنظر إليها فقال :" ما تسمون هذه؟ قالوا : السحاب قال : والمزن قالوا : والمزن . قال : والعنان قالوا : والعنان ـ قال أبو داود : لم أتقن العنان جيدًا ـ قال : هل تدرون ما بعد ما بين السماوات والأرض ؟ قالوا : لا ندري قال : إن بعد ما بينهما إما واحدة أو اثنتان أو ثلاث وسبعون سنة ، ثم السماء التي فوقها كذلك ، حتى عد سبع سماوات ، ثم فوق السابعة بحر بين أسلفه وأعلاه مثل ما بين سماء إلى سماء ، ثم فوق ذلك ثمانية أوعال ، بين أظلافهم وركبهم مثل ما بين سماء إلى سماء ، ثم على ظهورهم العرش بين أسلفه وأعلاه كما بين سماء إلى سماء ، ثم الله تعالى فوق ذلك " وأخرجه الترمذي وابن ماجه وقال الترمذي : حسن غريب . وقال الحافظ الذهبي : رواه أبو داود بإسناد حسن وروى الترمذي نحوه من حديث أبي هريرة وفيه : ما بين سماء إلى سماء خمسمائة عام ولا منافاة بينهما . لأن تقدير ذلك بخمسمائة عام هو على سير القافلة مثلًا ، ونيف وسبعون سنة على سير البريد ، لأنه يصح أن يقال : بيننا وبين مصر عشرون يومًا باعتبار سير العادة ، وثلاثة أيام باعتبار سير البريد . وروى شريك بعض هذا الحديث عن سماك فوقفه . هذا آخر كلامه . قلت : فيه التصريح بأن الله فوق عرشه كما تقدم في الآيات المحكمات ، والأحاديث الصحيحة وفي كلام السلف من الصحابة والتابعين وتابعيهم ، وهذا الحديث له شواهد في الصحيحين وغيرهما ، ولا عبرة بقول من ضعفه لكثرة شواهده التي يستحيل دفعها وصرفها عن ظواهرها . وهذا الحديث كأمثاله يدل على عظمة الله وكماله وعظم مخلوقاته ، وأنه المتصف بصفات الكمال التي وصف بها نفسه في كتابه ووصفه بها رسول الله ، وعلى كمال قدرته وأنه هو المعبود وحده لا شريك له دون كل ما سواه .

وبالله التوفيق ، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم ، وحسبنا الله ونعم الوكيل . وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين . تم كتاب ( فتح المجيد ) بعون الله الحميد .