محلى ابن حزم - المجلد الرابع/الصفحة الثالثة والسبعون

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة
ابن حزم - المحلى المؤلف ابن حزم
كتاب الأقضية (مسأله 1778 - 1786)


كتاب الأقضية

1778 - مسألة: ولا يحل الحكم إلا بما أنزل الله تعالى على لسان رسوله وهو الحق وكل ما عدا ذلك فهو جور وظلم لا يحل الحكم به ويفسخ أبدا إذا حكم به حاكم.

برهان ذلك : قول الله تعالى : {وأن احكم بينهم بما أنزل الله}

وقال تعالى : {وآمنوا بما نزل على محمد وهو الحق من ربهم}

وقال تعالى : {لتبين للناس ما نزل إليهم}.

وقال تعالى : {وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى}

وقال تعالى : {ومن يتعد حدود الله فقد ظلم نفسه} والظلم لا يحل إقراره , والخطأ لا يجوز إمضاؤه.


1779 - مسألة: ولا يحل أن يلي القضاء والحكم في شيء من أمور المسلمين وأهل الذمة : إلا مسلم , بالغ , عاقل , عالم بأحكام القرآن , والسنة الثابتة عن رسول الله وناسخ كل ذلك , ومنسوخه , وما كان من النصوص مخصوصا بنص آخر صحيح ; لأن الحكم لا يجوز إلا بما ذكرنا لما ذكرنا قبل. فإذا لم يكن عالما بما لا يجوز الحكم إلا به لم يحل له أن يحكم بجهله بالحكم ، ولا يحل له إذا كان جاهلا بما ذكرنا أن يشاور من يرى أن عنده علما ثم يحكم بقوله ; لأنه لا يدري أفتاه بحق أم بباطل. وقد قال الله تعالى : {ولا تقف ما ليس لك به علم} فمن أخذ بما لا يعلم فقد قفا ما لا علم له به , وعصى الله عز وجل. وليس هذا بمنزلة الجاهل من العامة تنزل به النازلة فيسأل من يوصف له بعلم القرآن والسنة , ويأخذ بقوله بعد أن يخبره أنه حكم الله تعالى أو أمر رسول الله أو أن العامي مكلف في تلك النازلة عملا ما قد افترضه الله عليه , ولم يفسح له في إهماله فعليه في ذلك أن يبلغ في ذلك حيث بلغ وسعه من العلم ما لم يلزمه

قال الله تعالى : {لا يكلف الله نفسا إلا وسعها}.

وأما الحاكم فبضد هذا ; لأنه غير مكلف ما لا يدري من الحكم بين غيره من الناس , بل هو محرم عليه ذلك , وإنما كلفه الله تعالى سواه من أهل العلم.


1780 - مسألة: ولا يحل الحكم بقياس , ولا بالرأي ، ولا بالاستحسان ، ولا بقول أحد ممن دون رسول الله دون أن يوافق قرآنا أو سنة صحيحة ; لأن كل ذلك حكم بغالب الظن. وقد قال الله تعالى : {إن الظن لا يغني من الحق شيئا}.

وقال تعالى : {إن يتبعون إلا الظن وما تهوى الأنفس ولقد جاءهم من ربهم الهدى}.

وقال رسول الله  : إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث.

فإن قيل : فإنكم في أخذكم بخبر الواحد متبعون للظن.

قلنا : كلا , بل للحق المتيقن , قال تعالى : {إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون}.

وقال تعالى : {وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى}.

فإن قيل : فإنكم في الحكم بالبينة واليمين حاكمون بالظن.

قلنا : كلا , بل بيقين أن الله تعالى أمرنا بذلك نصا وما علينا من مغيب الأمر شيء إذ لم نكلفه.

وأيضا فإنه لا يخلو ما أوجبه القياس , أو ما قيل برأي أو استحسان أو تقليد قائل من أحد , أوجه ثلاثة لا رابع لها ضرورة : إما أن يكون ذلك موافقا لقرآن أو لسنة صحيحة عن رسول الله فهذا إنما يحكم فيه بالقرآن أو بالسنة , ولا معنى لطلب قياس , أو رأي , أو قول قائل موافق لذلك , ومن لم يحكم بالقرآن , أو بحكم رسول الله إلا حتى يوافق ذلك قياس , أو رأي , أو قول قائل فقد انسلخ عن الإيمان قال الله عز وجل : {فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما} وهذا الذي لم يحكم بحكم رسول الله فيما شجر عنده فيما بين الناس إلا حتى وافقه قياس أو رأي , أو قول قائل فلم يحكم النبي ولا سلم له تسليما , بل وجد في نفسه حرجا مما قضى به عليه الصلاة والسلام فوربنا ما آمن.

وأما أن يكون مخالفا للقرآن أو لسنة رسول الله فهذا الضلال المتيقن , وخلاف دين الإسلام , ولا نحتاج أن نطول في هذا مع مسلم. قال تعالى : {تلك حدود الله فلا تعتدوها}

وقال تعالى : {ومن يعص الله ورسوله ويتعد حدوده يدخله نارا خالدا فيها}.

وأما أن لا يوجد في القرآن والسنة ما يوافقه نصا ، ولا ما يخالفه , فهذا معدوم من العالم ، ولا سبيل إلى وجوده. قال تعالى : {اليوم أكملت لكم دينكم}.

وقال تعالى : {ما فرطنا في الكتاب من شيء}.

وقال رسول الله  : (دعوني ما تركتكم فإنما هلك من كان قبلكم بكثرة مسائلهم واختلافهم على أنبيائهم فإذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم وإذا نهيتكم عن شيء فاتركوه). فصح ضرورة أنه لا يخرج حكم أبدا عن أن يأمر به الله تعالى على لسان رسوله عليه الصلاة والسلام فيكون فرضا ما استطعنا منه أو ينهى عنه الله تعالى على لسان رسوله عليه الصلاة والسلام فيكون حراما , أو لا يكون فيه أمر ، ولا نهي فهو مباح فعله وتركه , وبطل أن تنزل نازلة في الدين لا حكم لها في القرآن والسنة ولو وجدت وقد أبى الله عز وجل أن توجد : لكان من أراد أن يشرع فيها حكما داخلا في الدين ذم الله تعالى إذ قوله تعالى : {شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله}.

فإن قالوا : نحكم فها بحكم ما يشبهها من القرآن والسنة

قلنا : وأين أمركم الله تعالى بهذا وهذا هو الشرع في الدين بما لم يأذن به الله.

فإن قالوا : قال الله تعالى : {فاعتبروا يا أولي الأبصار}

قلنا : نعم , اعتبروا معناه اعجبوا قال الله تعالى : {وإن لكم في الأنعام لعبرة نسقيكم مما في بطونه من بين فرث ودم} , وما فهم أحد قط من " اعتبروا احكموا للشيء بحكم نظيره , وهذا هو تحريف للكلم عن مواضعه , والقول على الله تعالى بالباطل وبما لم يقله.

فإن قالوا : قد قال الله تعالى : {وشاورهم في الأمر}.

قلنا : نعم , فيما أبيح له فعله وتركه , لا في شرع الدين بما لم يأذن فيه الله تعالى , ولا في إسقاط فرض فرضه الله تعالى , ولا في إباحة ما حرمه الله تعالى , ولا في تحريم ما أحله الله تعالى , ولا في إيجاب ما لم يوجبه الله تعالى. وقد قال الله تعالى : {واعلموا أن فيكم رسول الله لو يطيعكم في كثير من الأمر لعنتم}.

فصح أن الأخذ برأيهم لا يجوز في الدين إلا حيث صححه رسول الله فقط , وما كان هكذا فإنما صح طاعة لرسول الله لا اتباعا لمن أشار به ثم كل ما أتوا به من آية أو سنة فيها : أن الله تعالى حكم في أمر كذا بكذا من أجل كذا وكذا , أو كما حكم في أمر كذا.

قلنا : هو حق كما هو. وكلما أردتم أن تشرعوا أنتم فيه تشبيها له بحكم آخر دون نص فهو باطل بحت لا يحل , فليس لأحد أن يحرم ما لم يحرمه الله تعالى من أجل أن الله تعالى حرم أشياء أخر , ولا أن يوجب ما لم يوجبه الله عز وجل من أجل أن الله عز وجل أوجب أشياء أخر : فهذا كله تعد لحدود الله عز وجل , وشرع في الدين ما لم يأذن به الله تعالى. فإن ادعوا في جواز ذلك إجماعا.

قلنا : هذا الكذب والبهت , بل الإجماع قد صح على بطلان كل ذلك ; لأن الأمة كلها مجمعة على تصديق قول الله تعالى : {اليوم أكملت لكم دينكم}. وعلى تصديق قول الله تعالى : {أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر}. وفي هذا بطلان الحكم بما عدا القرآن والسنة. ثم نقض من نقض فأخطأ قاصدا إلى الخير , ولا سبيل لهم ألبتة إلى وجود حكم طول مدة رسول الله بقياس أصلا , ولا برأي ألبتة , وكل شرع حدث بعده عليه الصلاة والسلام لم يحكم هو به , فهو باطل بيقين , وليس من الدين ألبتة , قال تعالى : {اليوم أكملت لكم دينكم} وما كمل فلا يجوز ألبتة أن يزاد فيه شيء أصلا , ولا سبيل ألبتة إلى أن يوجد عن أحد من الصحابة ، رضي الله عنهم ، الأمر بالقياس في الدين من طريق صحيحة أبدا.

وأيضا فمدعي الإجماع على ما لا يتيقن أن كل مسلم فقد عرفه وقال به : كاذب على الأمة كلها , وقد نص الله تعالى على أن نفرا من الجن آمنوا , وسمعوا القرآن من رسول الله فهم صحابة وفضلاء , فمن لهذا المدعي بالباطل بإجماع أولئك , فكيف وإحصاء أقوال الصحابة ، رضي الله عنهم ، لا تحصر إلا حيث لا يشك في أن كل مسلم فقد عرفه. وقد قال أحمد بن حنبل رضي الله عنه: من ادعى الإجماع فقد كذب , وما يدريه لعل الناس اختلفوا في ذلك : حدثنا بذلك : حمام بن أحمد , ويحيى بن عبد الرحمن بن مسعود , قال حمام : ، حدثنا عباس بن أصبغ , وقال يحيى : ، حدثنا أحمد بن سعيد بن حزم , ثم اتفق أحمد , وعباس , قالا : ، حدثنا محمد بن عبد الملك بن أيمن ، حدثنا عبد الله بن أحمد بن حنبل قال : قال أبي فذكره


1781 - مسألة: ولا يقضي القاضي وهو غضبان , لما روينا من طريق أحمد بن شعيب أنا علي بن حجر أنا هشيم عن عبد الملك بن عمير عن عبد الرحمن بن أبي بكرة عن أبيه قال : قال النبي  : (لا يقضي القاضي بين اثنين وهو غضبان).


1782 - مسألة: ولا تجوز الوكالة عند الحاكم إلا على جلب البينة , وعلى طلب الحق , وعلى تقاضيه , وعلى تقاضي اليمين : لأن كل هذا بيد الوكيل مقام يد الموكل. وقد بعث رسول الله عليا إلى اليمن لقبض حق ذوي القربى من خمس الخمس ,

وقال تعالى : {كونوا قوامين بالقسط} ومن القيام بالقسط طلب حق كل ذي حق.


1783 - مسألة: ولا يجوز التوكيل على الإقرار والإنكار أصلا , ولا يقبل إنكار أحد عن أحد , ولا إقرار أحد على أحد , ولا بد من قيام البينة عند الحاكم على إقرار المقر نفسه أو إنكاره.

برهان ذلك : قول الله تعالى : {ولا تكسب كل نفس إلا عليها ولا تزر وازرة وزر أخرى}. وقد صح إجماع أهل الإسلام على أن لا يصدق أحد على غيره إلا على حكم الشهادة فقط , ثم نقض من نقض فأنفذ إقرار الوكيل على موكله وأخذه به في الدم , والمال , والفرج , وهذا أمر يوقن أنه لم يكن قط , ولا جاز ، ولا عرف في عصر رسول الله ولا في عصر أحد من الصحابة ، رضي الله عنهم ، وما كان هكذا فهو حقا خلاف إجماع المسلمين , وخلاف القرآن , والباطل الذي لا يجوز وبالله تعالى التوفيق.


1784 - مسألة: ويقضى على الغائب كما يقضى على الحاضر. وهو قول الشافعي , وأبي سليمان , وأصحابهما. وقال ابن شبرمة : لا يقضى على غائب.

وقال أبو حنيفة , وأصحابه : لا يقضى على غائب إلا في بعض المواضع

وقال مالك : يقضى على الغائب في كل شيء إلا في الأرضين , والدور , إلا أن يكون غائبا غيبة طويلة قال ابن القاسم : كما بين مصر والأندلس

قال أبو محمد : أما قول مالك فظاهر الخطأ من وجهين : أحدهما تفريقه بين العقار وغيره وهو قول بلا

برهان , وما حرم الله تعالى على أحد من الناس من عقار غيره إلا كالذي حرمه من غير العقار ، ولا فرق , بل العقار كان أولى في الرأي أن يحكم فيه على الغائب ; لأنه لا ينقل ، ولا يغاب عليه , ولا يفوت , بل يستدرك الخطأ فيه في كل وقت , وليس كذلك سائر الأموال. والوجه الثاني تفريقه بين الغائب غيبة طويلة وغيبة غير طويلة , فهذا قول بلا

برهان , وتفريق فاسد , وليس في العالم غيبة إلا وهي طويلة بالإضافة إلى ما هو أقصر منها في الزمان , والمكان , وهي أيضا قصيرة بالإضافة إلى ما هو أطول منها في المكان والزمان , فمن غاب عامين إلى العراق فقد غاب غيبة طويلة بالإضافة إلى من غاب نصف عام إلى مصر , وقد غاب غيبة قصيرة بالإضافة إلى من غاب عشرة أعوام إلى الهند , وهكذا في كل زمان وكل مكان. ثم تحديد ابن القاسم خطأ ثالث :

وهذا قول ما نعلمه لأحد من خلق الله عز وجل قبل مالك فسقط هذا القول.

وأما قول أبي حنيفة , وأصحابه ففاسد أيضا ; لأن كل من لم يحضر مجلس الحاكم فهو غائب عنه ولو أنه في رحبة باب دار الحاكم فعلى هذا لا يحكم على أحد أبدا وهو فاسد كما ترى.

فإن قالوا : يبعث فيه

قلنا : وابعثوا أيضا في كل غائب ، ولا فرق.

فإن قالوا : قد يكون بحيث تتعذر البعثة فيه.

قلنا : وقد يكون إلى جانب حائط الحاكم , وتتعذر البعثة فيه أيضا لتعذره أو لبعض الوجوه , ثم قد فحش تناقضهم هاهنا , فقالوا : من غاب بحيث لا يعرف , فإنه ينفق من ماله على زوجته وأصاغر ولده , وعلى أكابر ولده إن كانوا زمنى وعلى بناته الأبكار وإن كن بالغات غير زمنات وعلى أبويه الفقيرين الزمنين من طعامه وزيته وثيابه الذي تشاكل لباس من ذكرنا , ومن دراهمه ودنانيره , ولا يباع في ذلك ألبتة عقار , ولا عروض , ولا حيوان , وسواء كان ما ذكرنا من الطعام والزيت والناض والثياب وديعة عند مقر أو غير مقر , أو في منزل الغائب. وهذا كلام جمع من السخف وجوها عظيمة , وهو حكم على الغائب , وتحكم بالفرق بين الأموال بالباطل , إلى تخاليط لهم هاهنا في غاية الفساد , وقضوا على المرتد إذا لحق بأرض الحرب بأنه ميت وهو حي وقسموا ما لله على ورثته وهذا قضاء بالباطل على غائب. ولا فرق بين حق من ذكرنا في النفقة وبين حق الغرماء في الديون , وحق المغصوبين فيما غصب منهم , وتقاسيم لا تعرف عن أحد من خلق الله تعالى قبلهم.

قال أبو محمد : وموهوا في ذلك بأشياء وهي عليهم لا لهم نذكرها إن شاء الله تعالى ونبين أنها عليهم بحول الله تعالى وقوته.

وأما من أجمل أن لا يقضى على غائب كابن شبرمة , وسفيان ومن وافقه , فإنهم احتجوا : ب

ما روينا من طريق شريك عن سماك بن حرب عن حنش بن المعتمر عن علي بن أبي طالب قال : بعثني رسول الله إلى اليمن قاضيا , فقلت : يا رسول الله ترسلني وأنا حديث السن لا علم لي بالقضاء , فقال : إن الله عز وجل سيهدي قلبك ويثبت لسانك , فإذا جلس بين يديك الخصمان فلا تقضين حتى تسمع من الآخر كما سمعت من الأول , فإنه أحرى أن يتبين لك القضاء , قال : فما زلت قاضيا وما شككت في قضاء بعد. و

ما روينا من طريق ابن عيينة عن سماك بن حرب عن حنش بن المعتمر عن علي بن أبي طالب أن النبي قال له : إذا قعد الخصمان فلا تقض للأول حتى تسمع حجة الآخر. وحدثنا محمد بن الحسن الرازي ، حدثنا عبد الرحمن بن عمر بن النحاس ، حدثنا ابن الأعرابي ، حدثنا سهل بن أحمد بن عثمان الواسطي ، حدثنا القاسم بن عيسى بن إبراهيم الطائي ، حدثنا المؤمل بن إسماعيل عن سفيان الثوري عن علي بن الأقمر عن جحيفة عن علي " أن النبي قال له في حديث: (فإذا جلس بين يديك الخصمان فلا تقض للأول حتى تسمع من الآخر , فإنه أحرى أن يثبت لك القضاء).

قال أبو محمد : هكذا في كتابي عن الرازي عن " جحيفة " والصواب جحيفة. وذكروا عمن دون رسول الله ما رويناه من طريق الكشوري عن الحذافي ، حدثنا عبد الملك الذماري ، حدثنا محمد الغفاري حدثني ابن أبي ذئب الجهني عن عمرو بن عثمان بن عفان قال : أتى عمر بن الخطاب رجل قد فقئت عينه فقال له عمر : تحضر خصمك فقال له : يا أمير المؤمنين أما بك من الغضب إلا ما أرى فقال له عمر : فلعلك قد فقأت عيني خصمك معا , فحضر خصمه قد فقئت عيناه معا , فقال عمر : إذا سمعت حجة الآخر بان القضاء. قالوا : ولا يعلم لعمر في ذلك مخالف من الصحابة.

ومن طريق عبد الرزاق عن الحذافي عن محمد بن مسلم الطائفي عن عمرو بن دينار وقال قال عمر بن عبد العزيز , قال لقمان : إذا جاءك الرجل وقد سقطت عيناه في يده فلا تقض له حتى يأتي خصمه.

ومن طريق مجالد عن الشعبي عن شريح : لا يقضى على غائب.

ومن طريق أبي عبيد عن عبد الرحمن بن مهدي عن سفيان الثوري عن الجعد بن ذكوان : أن رجلا سأل شريحا عن شيء فقال : لا أغري حاضرا بغائب.

قال أبو محمد : لا نعلم لهم شيئا غير هذا , وكله لا حجة لهم في شيء منه , أما الخبر عن رسول الله فساقط ; لأن شريكا مدلس , وسماك بن حرب يقبل التلقين , وحنش بن المعتمر ساقط مطرح.

وأما الطريق الأخرى , فالقاسم بن عيسى بن إبراهيم الطائي مجهول لا يدرى من هو. ثم أعجب شيء : أننا

روينا من طريق البزار ، حدثنا أبو كامل ، حدثنا أبو عوانة عن سماك بن حرب عن حنش بن المعتمر , قال : إن علي بن أبي طالب قدم اليمن فاختصم إليه في أسد سقط في بئر فاجتمع الناس إليها , فسقط فيها رجل فتعلق بآخر ; وتعلق الآخر بثالث وتعلق الثالث برابع فسقطوا كلهم , فطلبت دياتهم من الأول , فقضى في ذلك بديتين وسدس على من حضر البئر من الناس : فللأول ربع دية ; لأنه هلك فوقه ثلاثة , وللثاني ثلث دية ; لأنه هلك فوقه اثنان , وللثالث نصف دية لأنه هلك فوقه واحد , وللرابع دية فأخبر رسول الله بقضاء علي فقال : هو ما قضى بينكم وهم يخالفون هذا ، ولا يقولون به , فمرة تكون رواية سماك بن حرب عن حنش حجة إذا ظنوا أن تمويههم بها يجوز لهم , ومرة لا تكون حجة إذا لم يمكنهم أن يموهوا بها وما أدري أي دين يبقى مع هذا. ثم لو صحت الأخبار التي قدمنا لما كان لهم بها متعلق أصلا ; لأنه ليس فيها : أن لا يقضى على غائب , بل فيها : أن لا يقضى على حاضر بدعوى خصمه دون سماع حجته وهذا شيء لا نخالفهم فيه. ولا يجوز أن يقضى على حاضر ، ولا غائب بقول خصمه , ولكن بالذي أمر الله تعالى به من البينة العادلة فقط , فظهر عظيم تمويههم بالباطل ونعوذ بالله من الخذلان. ومن العجائب : أنهم قد خالفوا هذه الآثار التي موهوا بها في مكان آخر , وهو أنهم قضوا على الغائب بإقرار وكيله عليه وليس هذا في شيء من الأخبار أصلا.

وأما تمويههم بعمر فإنه لا يصح عنه أيضا ; لأنه من طريق محمد الغفاري ، عن ابن أبي ذئب الجهني ، ولا يدرى من هما في خلق الله تعالى ثم عن عمرو بن عثمان بن عفان عن عمر ولم يولد عمرو إلا ليلة موت عمر.

وأيضا فكم قضية لعمر , وعلي , قد خالفوها حيث لا يجوز خلافها.

وأيضا فلو صح عن عمر فليس فيه إلا أن لا يقضى على غائب بدعوى خصمه وهذا حق لا ننكره.

وأيضا فإن الصحيح عن عمر , وعثمان : القضاء على الغائب إذا صح الحق قبله , ولا يصح عن أحد من الصحابة خلاف ذلك.

وأما عن عمر بن عبد العزيز فإنما ذكر عن لقمان كلاما , وأين لقمان من أيام عمر. ثم ليس فيه إلا أن يقضى على غائب بدعوى خصمه فقط وهكذا نقول. وكم قصة خالفوا فيهما قضاء عمر بن عبد العزيز وغيره.

وأما شريح فإنه لا يصح عنه ; لأنه عن مجالد , ومجالد ضعيف والطريق الأخرى : إنما فيها أنه لا يلقن خصما فقط ولو صح لما كان في أحد دون رسول الله حجة , فلم يبق لهم شيء يتعلقون به فسقط قولهم لتعريه من البرهان. ووجدنا الله تعالى يقول : {كونوا قوامين بالقسط شهداء لله} فلم يخص تعالى حاضرا من غائب.

وقال تعالى : {وأقيموا الشهادة لله} فلم يخص تعالى حاضرا من غائب. فصح وجوب الحكم على الغائب كما هو على الحاضر. وما ندري في الضلال أعظم من فعل حاكم شهد عنده العدول بأن فلانا الغائب قتل زيدا عمدا أو خطأ , أو أنه غصب هذه الحرة أو تملكها , أو أنه طلق امرأته ثلاثا , أو أنه غصب هذه الأمة من هذا , أو تملك مسجدا أو مقبرة , فلا يلتفت إلى كل ذلك وتبقى في ملكه الحرة والفرج الحرام , والمال الحرام , ألا إن هذا هو الضلال المبين , والجور المتيقن , والفسق المتين , والتعاون على الإثم والعدوان. وقد صح عن رسول الله الحكم على الغائب كما حكم على العرنيين الذين قتلوا الرعاء وسملوا أعينهم وفروا , فأتبعهم بقائف وهم غيب حتى أدركوا واقتص منهم. وعلى أهل خيبر وهم غيب بأن يقيم الحارثيون أولياء عبد الله بن سهل رضي الله عنه البينة أو يحلف خمسون منهم على قاتله من أهل خيبر ويسلم إليهم أو يؤدوا ديته , أو يحلف خمسون من يهود أنهم ما قتلوه ويبرءون. والخبر المشهور الذي رويناه من طرق , منها : عن أحمد بن شعيب ، أخبرنا إسحاق بن إبراهيم ، هو ابن راهويه أنا أبو معاوية ، حدثنا هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة أم المؤمنين قالت : جاءت هند بنت عتبة إلى رسول الله فقالت : إن زوجي أبا سفيان رجل مسيك شحيح , لا يعطيني ما يكفيني وبني , أفآخذ من ماله وهو لا يعلم فقال رسول الله  : خذي ما يكفيك وبنيك بالمعروف. وهذا حكم على الغائب.

فإن قالوا : إنما حكم عليه الصلاة والسلام على أبي سفيان لعلمه بصحة ما ذكرت له هند.

قلنا : إن هذا لعجب عهدنا بكم تجعلون البينة أقوى من علم الحاكم في مواضع , منها : ما علم قبل أن يلي الحكم , ومنها : الحدود في الزنى , والقطع , والخمر , فإنكم ترون أن يحكم في كل ذلك بالبينة , ولا تجيزون أن يحكم في ذلك بعلمه , وإن علمه بعد ولايته القضاء , فمرة يكون الحكم بالعلم عندكم أقوى من البينة , ومرة تكون البينة أقوى من العلم فكم هذا الخبط في ظلمات الجهل , والتحكم في الدين بالباطل. وكل ما لزم الحاكم أن يحكم فيه بعلمه فلازم له أن يحكم فيه بالبينة , وكل ما لزمه أن يحكم فيه بالبينة لزمه أن يحكم فيه بعلمه , لقول الله تعالى : {كونوا قوامين بالقسط}.

وأما الصحابة ، رضي الله عنهم ، فروينا من طريق حماد بن سلمة عن عطاء بن السائب عن أبي زرعة بن عمرو بن جرير بن عبد الله البجلي : أن رجلا كان مع أبي موسى الأشعري وكان ذا صوت ونكاية في العدو فغنموا فأعطاه أبو موسى الأشعري بعض سهمه فأبى أن يأخذ إلا جميعا , فضربه عشرين سوطا وحلق رأسه , فجمع شعره ورحل إلى عمر فدخل عليه , قال جرير بن عبد الله : وأنا أقرب الناس مجلسا من عمر , فأخرج شعره فضرب به صدر عمر , وقال : أما والله لولا فقال عمر : لولا ماذا صدق والله لولا النار فقال : كنت ذا صوت ونكاية في العدو , ثم قص قصته على عمر. فكتب عمر إلى أبي موسى : إن فلانا قدم علي فأخبرني بكذا وكذا , فإن كنت فعلت ذلك به فعزمت عليك إن كنت فعلت به ذلك في ملا من الناس , فعزمت عليك لما جلست له في ملا من الناس حتى يقتص منك , وإن كنت فعلت به ذلك في خلاء لما جلست له في خلاء حتى يقتص منك فقال له الناس : اعف عنه فقال : لا والله لا أدعه لأحد , فلما قعد أبو موسى للقصاص رفع رأسه إلى السماء وقال : اللهم قد عفوت عنه. حدثنا يونس بن عبد الله ، حدثنا أحمد بن عبد الله بن عبد الرحيم ، حدثنا أحمد بن خالد ، حدثنا محمد بن عبد السلام الخشني ، حدثنا محمد بن بشار ، حدثنا يحيى سعيد القطان ، حدثنا يحيى بن سعيد التيمي ، حدثنا عباية بن رفاعة بن رافع بن خديج قال : بلغ عمر بن الخطاب أن سعد بن أبي وقاص اتخذ بابا وقال : انقطع الصوت فأرسل إليه عمر فحرقه , وأرسل محمد بن مسلمة الأنصاري وأخذ بيد سعد وأخرجه وأجلسه وقال : هنا اجلس للناس , فاعتذر إليه سعد وحلف أنه ما تكلم بذلك.

حدثنا محمد بن سعيد بن نبات ، حدثنا أحمد بن عون الله ، حدثنا قاسم بن أصبغ ، حدثنا محمد بن عبد السلام الخشني ، حدثنا محمد بن بشار ، حدثنا محمد بن جعفر ، حدثنا شعبة عن أبي حصين قال : سمعت الشعبي قال : كتب عمر إلى أبي موسى : أنه بلغني أن ناسا من قبلك دعوا بدعوى الجاهلية : يا آل ضبة , فإذا أتاك كتابي هذا فأنهكهم عقوبة في أموالهم وأجسامهم حتى يفرقوا , إذ لم يفقهوا.

ومن طريق عبد الرزاق عن معمر عن الزهري عن سعيد بن المسيب قال : قضى عمر بن الخطاب , وعثمان بن عفان في المفقود : أن امرأته تتربص أربع سنين وأربعة أشهر وعشرا , ثم تتزوج. وهذا كله قضاء على الغائب. ولو تتبع ذلك للصحابة بعدما يوجد من ذلك للنبي لكثر جدا والذي أوردنا عن عمر , وعثمان صحيح , ولا يصح عن أحد من الصحابة خلافه أبدا وبالله تعالى التوفيق.


1785 - مسألة: وكل من قضي عليه ببينة عدل بغرامة أو غيرها , ثم أتى هو ببينة عدل : أنه كان قد أدى ذلك الحق أو برئ من ذلك الحق : رد عليه ما كان غرم , وفسخ عنه القضاء الأول ; لأنه حق ظهر لم يكن في علم البينة التي شهدت أولا وبالله تعالى التوفيق.


1786 - مسألة: وكل من ادعى على أحد وأنكر المدعى عليه فكلف المدعي البينة فقال : لي بينة غائبة , أو قال : لا أعرف لنفسي بينة , أو قال : لا بينة لي قيل له : إن شئت فدع تحليفه حتى تحضر بينتك أو لعلك تجد بينة , وإن شئت حلفته وقد سقط حكم بينتك الغائبة جملة , فلا يقضى لك بها أبدا , وسقط حكم بينة تأتي بها بعد هذا عليه , ليس لك إلا هذا فقط , فأي الأمرين اختار قضي له به ولم يلتفت له إلى بينة في تلك الدعوى بعدها , إلا أن يكون تواتر يوجب صحة العلم ويقينه : أنه حلف كاذبا فيقضى عليه بالحق أو يقر بعد أن [ يكون ] حلف فيلزمه ما أقر به. وقد اختلف الناس في هذا : فروينا من طريق وكيع ، حدثنا سفيان الثوري عن هشام بن حسان ، عن ابن سيرين قال : كان شريح يستحلف الرجل مع بينته ويقبل البينة بعد اليمين , ويقول البينة العادلة أحق من اليمين الفاجرة. وبالحكم على الحالف إذا أقام الطالب بينة بعد يمين المطلوب يقول سفيان الثوري , والليث بن سعد.

وبه يقول أبو حنيفة , والشافعي , وأحمد , وإسحاق.

وقال مالك : إن عرف الطالب أن له بينة فاختار تحليف المطلوب فقد سقط حكم بينته ، ولا يقضى بها له إن جاء بها بعد ذلك ,

وأما إن لم يعرف أن له بينة فاختار تحليف المطلوب فحلف , ثم وجد بينة , فإنه يقضى له بها. وقد روي عنه ، أنه قال : إن قال الطالب : إن له بينة بعيدة ولكن أحلفه لي الآن , ثم إن حضرت بينتي أتيت بها. فإنه يجاب إلى ذلك ويحلف له المطلوب , ثم يقضى له ببينته إذا أحضرها. وقد روي نحو هذا عن شريح. وقال بقولنا ابن أبي ليلى , وأبو عبيد , وأبو سليمان , وجميع أصحابنا.

قال أبو محمد : لا متعلق لأبي حنيفة , ومالك , والشافعي , وأحمد بشريح ; لأنهم قد خالفوه في تحليفه مقيم البينة مع بينته , ومن الباطل أن يكون قول شريح حجة في موضع وغير حجة في آخر.

وأما قول مالك فما نعلم أحدا قاله قبله في التفريق بين علم الطالب بأن له بينة وبين جهله بذلك وهو قول لم يأت به قرآن , ولا سنة , ولا قول متقدم , ولا قياس.

فإن قالوا : إذا علم أن له بينة ثم أحلفه فقد أسقط بينته. .

فقلنا : ما فعل ، ولا أخبر أنه أسقطها.

وكذلك أيضا إذا لم يعلم بأن له بينة فأحلف خصمه فقد أسقط بينته أيضا ، ولا فرق.

وأما قول أبي حنيفة , والشافعي , ومالك , وأحمد , في قضائهم بالبينة بعد يمين المنكر , فإن قولهم : البينة العادلة خير من اليمين الفاجرة , فقول صحيح لو أيقنا أن البينة عادلة عند الله عز وجل , وأن يمين الحالف فاجرة بلا شك ,

وأما إذا لم يوقن أن البينة صادقة , ولا أن اليمين فاجرة , فليست الشهادة أولى من اليمين , إذ الصدق في كليهما ممكن والكذب في كليهما ممكن , إلا بنص قرآن أو سنة تأمرنا بإنفاذ البينة ; وإن حلف المنكر [ لا يعتد به ] ، ولا يوجد في ذلك نص أصلا فسقط هذا القول بيقين , بل وجدنا النص بمثل قولنا والحمد لله رب العالمين.

كما روينا من طريق مسلم بن الحجاج ، حدثنا زهير بن حرب , وإسحاق بن إبراهيم ، هو ابن راهويه جميعا عن أبي الوليد الطيالسي ، حدثنا أبو عوانة عن عبد الملك بن عمير عن علقمة بن وائل بن حجر قال كنت عند رسول الله فأتاه رجلان يختصمان في أرض فذكر أن رسول الله قال للطالب : بينتك قال : ليس لي بينة , قال : يمينه قال : إذا يذهب بها يعني بما لي قال رسول الله  : ليس لك إلا ذلك " فنص عليه الصلاة والسلام على أنه ليس للطالب إلا بينته أو يمين المطلوب فصح يقينا : أنه ليس إلا أحدهما لا كلاهما وبطل أن يكون له كلا الأمرين بيقين

فإن قيل : فإنكم تحكمون للطالب بعد يمين المطلوب بالتواتر , وبعلم الحاكم وبإقراره.

قلنا : نعم , وكل هذا ليس ببينة , لكنه بيقين الحق , ويقين الحق فرض إنفاذه , وليست شهادة العدول كذلك , بل يمكن أن يكونوا كاذبين , أو مغفلين , ولولا النص بقبولهم وباليمين ما حكمنا بشيء من ذلك بخلاف يقين العلم وبالله تعالى التوفيق.

محلى ابن حزم - المجلد الرابع/كتاب الأقضية
كتاب الأقضية (مسأله 1778 - 1786) | كتاب الأقضية (مسأله 1787) | كتاب الأقضية (مسأله 1788)