مجلة المقتبس/العدد 4/مجلة المقتطف
مجلة المقتبس/العدد 4/مجلة المقتطف
قلما قام في هذه البلاد عمل مادي أو علمي أو غير ذلك أعواماً طويلة إلا وأصابه من خور عزيمة أربابه وتشتت أهوائهم أو قلة بضاعتهم ومناصبة الأحوال لهم ما تتداعى به أركانه وينحل كيانه. قال بعض العلماء أن حياة الإنسان ثلاثون سنة أي أنه يندر أن يعمل عملاً نافعاً طول حياته أكثر من هذه المدة أو ما يقرب منها وبعد ذلك إما أن يضعف أو يعوقه عائق. بيد أن مجلة المقتطف بلغت هذا السن في هذه الآونة والهمة في تحسينها تتجدد والفائدة الناتجة منها تعظم.
قلَّ في المشاريع ولاسيما العلمية منها ما سار به صاحبه على سنة الارتقاء الطبيعي ولذلك قلَّ في أربابها المفلحون. أما صاحب المقتطف فعملاً أولاً تحت نظارة أستاذ لهما عظيم الدكتور كرنيليوس فانديك الأمريكي ولم يخرجا عن حد الخطة التي رسمها لهما فكانت صفحاتهما بادئ بدء قليلة وكتابتهما لا تخلو من ضعف وموضوعاتهما بسيطة تتناولها أذهان الصبيان لأدنى نظر وعلى ما قام من المنشطين لعملهما في ذاك العهد من رجال البلاد لم يبلغ المقتطف الغاية التي كانت ترجى له من الانتشار وكثرة الانتصار.
ولقد خيف عليه السقوط أولاً خصوصاً عندما قام بعضهم في مناصبته. ومن العادة أن ينتقد بل أن يعادي كل من يكتب في الأبحاث الجديدة ويدعو إليها ولاسيما ما كان منها فيما لم تألفه عقول القوم من الفلسفة الطبيعية والمعارف المادية. فثارت مثارات النفوس لأول وهلة واستعظم بعضهم إقدام صاحبيه ولو لم يمزجا عملهما بشيء من التقية والمداراة ويهضما النفس في الأحايين لكانت أقل صعوبة يلقاها مثل هذا المشروع تكفي في إخفاق المسعى وانفضاض الناس من حوله. ولو ظل المقتطف يقبل المناقشة فيما يكتبه وينشره لانصرفت وجهته من الكليات إلى الجزئيات وضاع المقصود من إنشائه فقد نصح لهما أستاذهما بالعدول عن خطة المماحكات على ما أثبتا نصيحته في السنة الثامنة فلم يضيعا بعد الوقت في الجدال سدى. ومذ ذاك أخذت كتابة المقتطف وأبحاثه ترتقي مع الزمن بكثرة مران القائمين به.
وبعد فليس هذا ما هيأ الأسباب لقيام المقتطف بل هي الدروس التي أحسن صاحباه تلقيها في أول أمرهما ومرنا على الكتابة فيها والخبرة التي توفرت لهما بكثرة المعاناة والدرس وذاك النور الذي ما فتئا يقتبسانه من أستاذهما إلى آخر عمره. وقد عرف المقتطف بحسن التنسيق ولطف الأداء. . . وقلَّ في العهد الأخير من يدانيه في إجادة الترجمة والتعريب في العلميات المجردة وله بذلك ملكة خاصة لم يسم إليها غير أفراد من أهل العلم الكاتبين كما أنه عرف بحسن الاختيار وانتقاء الموضوعات المفيدة حتى يكاد يكون ذلك مزية خاصة به وجرى في توقع المناسبات على قدم المجلات الأميركية والإنكليزية من إعداد مقالات للنشر كل آن ومقالات لا تنشر إلا في أوقات خاصة. فقد نشر لي مقالة بعد ثلاث سنين من إرسالها إليه ونشر أخرى بالمناسبة بعد سنتين.
ويقول منشئ المقتطف أنه يؤلفه من مجلات كثيرة لأهل الأخصاء من علماء السكسونيين وما كل مطلب من مطالبه إلا وهو نتيجة أبحاث عقول كبيرة درسته حق دراسته. دع عنك ما في مكتبته من دوائر المعارف أو الموسوعات (الانسيكلوبيديات) والكتب العلمية الإفرنجية وخل عنك خبرة صاحبيه في معظم الفنون التي يكتبان فيها على ما صرحا بذلك في آخر السنة العشرين.
ومع أن للمقتطف مشرباً يصعب أن تقبله كل النفوس وأشياعاً يغالون في محبته وإجلال ما يصدر عنه نراه إلى اليوم يراعي أكثر الأذواق استحساناً. ومن مزج خدمة العلم بخدمة نفسه في الماديات فاتخذ العلم تجارة والتجارة باباً للعلم قد ينجح في الأعم من حالاته. من أجل هذا اضطر المقتطف في الربع الأخير من عمره أن يجاري بعض المجلات في نشر الأبحاث الأدبية فأجاد في بعض رواياته المترجمة ولم يجد في المختارات الأدبية فجاء من المقتطف صحيفة عامة تبحث في أمور كثيرة يصح أن يقتنيها أهل كل جيل وقبيل ولا مسحة عليها من صحف الاختصاصيين من الغربيين تلك الصحف التي تنصرف إلى علم أو عدة علوم لا تتعداها فتطيل فيها وتتوسع ما شاءت وشاء غرضها. وللمقتطف عذر في ذلك مادام أهل الأخصاء في الشرق لا يعيشون من أقلامهم وما عم العلم بيننا حتى يخص. ولكن كان الأجدر به أن يخص بعض من تفردوا بالآداب وذاقوها كل الذوق ليكتبوا فيه أمثال هذه الموضوعات ويحكموا على ما يرد منها من أقلام المراسلين.
وأقل ما تم على يد المقتطف من الحسنات أن أناساً ممن أعرفهم في مصر والشام علت بالمواظبة على الأخذ منه أفكارهم وأزال عنهم أدران الغباوة وفتح لهم باب البحث وإعمال الفكرة وغرس فيهم الميل إلى المطالعة والتأليف وأوقفهم على إجماليات من العلوم الحديثة فكانت هذه المجلة لهم أشبه بدائرة المعارف التي نشرها الخاصة من رجال الفرنسيين في القرن الثامن عشر فجعل الناس يختارون ما يروقهم من العلوم بعد أن ينظروا في معظمها نظرة عامة.
بقي أن أقول أن للمقتطف مغامز لا بأس بعرضها عليه ألا وهي ظهور الغرض أحياناً في مطاوي ما يكتب مدفوعاً إلى ذلك بعامل التربية والمنشأ أو بداعي قلة اختبار في أحوال المجتمع أو مراعاة لغرض تستدعيه المصلحة وما كان الأحرى به وهو يدعو إلى العلوم المادية أن يتجرد عن النزعات السياسية والدينية بتة. فالعلم مشاع لا مشرب له ولا دين. ولو خلا من التعريض ببعض الفرق لنجا من طعن الطاعنين عليه من مثل من أوغر صدورهم مثلاً بشرح مذهب داروين في النشوء والارتقاء وكان عليه أن يلخص في مثل هذه الموضوعات حقائقها من غير تحزب إلى ما قد يكون الجمهور على خلافه.
وقد يقع لهذه المجلة في بعض الأعداد أن تطرق موضوعاً تافهاً فيكون ذلك على غير قصد منها في الغالب خصوصاً ومنشئها يعني كل العناية أن لا يكرر ما سبقت له الكتابة فيه والناقل قد يسهو عما نقل وشتان بين الناقل والواضع.
ومن كان غرضه إرضاء قرائه كافة لابد أن يسقط ولو قليلاً فيما يدعوه الخاصة لغواً أو حشواً. ولعل ذلك هو السبب الذي دعا منشئه أن قال يوماً لأحد كتاب المجلات أنك يا هذا تملأ صحيفتك بالدسم فوق اللازم فالأشبه بك أن تضمنها ما تتحمض به النفوس ليشتد بها القرم إلى العلم.
وقد عتب فريق على هذه الصحيفة لتساهلها بنقل تراجم المشارقة وذكر نبذ من أعمالهم الخيرية وأرى لها بعض العذر في ذلك لأن المرء حر أن يسكت عمن لا يعلم عنه ما يكفي للحكم فيه أو لا تروقه حالته ولا يسف أن يكيله المديح كيلاً. فإن أغفلت مثلاً ترجمة جمال الدين الأفغاني وحسن الطويل وحسن توفيق وأمثالهم فقد ترجمت محمداً عبده وعبد الرحمن الكواكبي وبطرس البستاني ومن ضارعهم.
هذا وإني استحسن طبعه ووضعه ونسقه وحسبي حجة على أدب صاحبيه وإنهما أميل إلى الإنصاف من كثيرين من حملة الأقلام أن أذكر ما اقترحه علي أحدهما منذ سنين من انتقاد مجلتهما وبعد الاعتذار أشرت بالعدول عن بعض الموضوعات المطولة المملة مثل مقالات فتح المكسيك وأن تتوفر العناية بتصحيح المسودات من الأغلاط اللغوية والمطبعية لتكون صحيفتهما حجة في الأدب كما هي حجة في العلم المادي فطرحا ذاك الموضوع لقلة غنائه وأنشآ يعنيان بإصلاح الأغلاط وأقاما معهما كاتباً على إنشائه.
وهناك مسألة طالما خالجت فكري وذاكرت أحد صاحبيه بها ألا وهي أن منشئيه لم يربيا على منهجهما العلمي ناساً يخلفانهما وما أخال ذلك إلا ميسوراً لهما لو صحت عزيمتهما عليه لأن المدرسة التي تعلما فيها لا تزال تخرج كل سنة من لو ساعدتهم الأحوال وأخذ أرباب البصر بأيديهم لكانوا مثلهما. وما أدري لم لم تصف للمقتطف طبقة ممن ساعدوه من أول نشأته فساروا معه إلى آخر دور من أدواره فقد اتصل بعض مساعديه بأعمال أخرى فزهدوا في المثابرة على مساعدته أو سئموا ولم يثبتوا في حين أخذ المقتطف منذ بضع سنين يؤدي جوائز للكتاب كما كان يفعل صاحب الجوائب قديماً.
ومع أن للمقتطف أعواماً طويلة في خدمة القلم يحق له كما قال لي أحد رجال الأدب ممن خبروا المجلات الأميركية والإنكليزية أن ينشر ولو في الأحايين موضوعات هي من بنات أفكار كاتبيه ومن ثمرات مباحثهما الخاصة شأن غيره من المجلات الكبرى في بلاد الغرب ولكن المقتطف لا يرى إلا الأخذ عن الغربيين وعنده معظم ما هو من أصل شرقي مظنة للظن والريبة لا يعتد به في الغالب.
وفي الختام أثني على هذا الكتاب العلمي الدوري بما هو أهله لأنه كان خير واسطة علمية بين أفكار المغاربة والمشارقة وأرجو أن تطول أيام صاحبيه ليظلا يودعانه ما ينفع طلاب الحقائق على الدهر وآمل أن يكون في اشتراك كاتبيه هذه الأعوام الطويلة أحسن معلم للمشارقة وداع لهما إلى الاجتماع تذرعاً إلى إصلاح السعادتين.