مجلة المقتبس/العدد 37/الشعوبية

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة المقتبس/العدد 37/الشعوبية

ملاحظات: بتاريخ: 1 - 2 - 1909



يقوى تفاخر أهل كل عنصر بعنصرهم وأهل كل جنس بجنسهم كلما كانوا أقرب إلى الهمجية والعصبية الجاهلية. جاء الإسلام فكان من أعظم إصلاحه إسقاط دعوى الجنسيات والقضاء على التفاخر بالآباء والأجداد فساوى بين العربي والفارسي والأحمر والأصفر والأبيض والأسود وكانت قاعدته العامة لا فضل لعربي على عجمي إلا بالتقوى.

والظاهر أن دعوى الشعوبية أي عدم الاعتداد بالعرب وتفضيل العجم عليهم دخلت بدخول أجيال كثيرة من الفرس والترك والنبط في خدمة الدولة الإسلامية فنشأت منها العداوات بين العرب أهل الدولة وبين العجم كما كانت تنشأ في هذه البلاد بين تركي وعربي كلما اشتد الأول في إرهاق الثاني.

سألنا أستاذنا الشيخ طاهر الجزائري عن الشعوبية فكتب إلينا ما يأتي:

أما الزمن الذي ظهرت فيه الشعوبية فلا يحضرني فيه شيء. والوقوف على أوائل الأشياء من أصعب المسائل وأدقها إلا أن الذي ظهر لي أن ذلك حدث بعيد عصر الخلفاء الراشدين لوجود الداعي إلى ذلك وهو التفاخر بالجنس الذي هو من عادات الجاهلية التي أتى الدين بإبطالها. ومن نظر لمنزلة سلمان الفارسي وصهيب الرومي وبلال الحبشي في أوائل الأمة زال عنه الشك في هذه المسألة ولا يدخل في هذا الأمر بحث المؤرخ عن خصائص الأجناس مما يقصد به الوقوف على الحقائق فإن هذا نوع آخر إلا أن من بحث عن أحوال الأمم ووفى النظر حقه تبين له أن العرب في الجملة لا تساميهم أمة البتة.

وأظن أنه لا بد أن تؤلف بعد حين كتب في خصائص الأمم وكتب في خصائص البلاد كما أُلفت كتب في خصائص اللغات وتجعل من الفنون التي يعنى بها وتميز عن غيرها ولا نذكر بطريق العرض إلا أن فن خصائص الأمم تتيسر المشاغبة فيه والمغالطة أكثر من غيره إلا أن كل فن وضعت مقدماته ونقحت مسائله يبدو بسرعة عوار المغالط فيه. هذا وكما حدث بعد عصر الخلفاء أمر المفاضلة بين العرب والعجم حدث أمر المفاضلة بين العدنانية والقحطانية وهما الفريقان اللذان يجمعهما اسم العرب ونشأ بسبب ذلك من الفتن ما يعرفه المولع بالأخبار ولم يزل أثر ذلك باقياً في بعض الجهات إلى ما قبيل عصرنا وقد رأيت في بعض البلاد أناساً يقولون إلى الآن نحن قيسية وآخرين يقولون نحن يمانية.

هذا ما قاله أستاذنا وفيه من كشف الغامض ما لم نظفر في كتاب. والشعوبي بالضم محتقر أمر العرب. قال ابن منظور وقد غلبت الشعوب بلفظ الجمع على جيل العجم حتى قيل لمحتقر أمر العرب شعوبي أضافوا إلى الجمع لغلبته على الجيل الواحد كقولهم أنصاري وهم الشعوبية وهم فرقة لا تفضل العرب على العجم ولا ترى لهم فضلاً على غيرهم وأما الذي في حديث مسروق أن رجلاً من الشعوب أسلم فكانت تؤخذ منه الجزية فأمر عمر أن لا تؤخذ منه قال ابن الأثير الشعوب ههنا العجم ووجهه أن الشعب ما تشعب من قبائل العرب أو العجم فخص بأحدهما ويجوز أن يكون جمع الشعوبي كقولهم اليهود والمجوس في جمع اليهودي والمجوسي.

قال شارح المفصل في شرح قول الزمخشري الله أحمد على أن جعلني من علماء العربية وجبلني على الغضب للعرب وللعصبية وأبى لي أن أنفرد عن صميم أنصارهم وأمتاز وأنضوي إلى لفيف الشعوبية وأنحاز والشعوبية مصدر الشعوبي بضم الشين وهو الذي يصغر شأن العرب ولا يرى لهم على العجم فضلاً إذ الفضل بالتقوى وهو منسوب إلى قوله تعالى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم وقال ابن الحاجب في شرح المفصل أيضاً والشعوبية بضم الشين قوم متعصبون على العرب مفضلون عليهم العجم وإن كان الشعوب جيل العجم إلا أنه غلبت النسبة إليه لهذا القبيل ويقال أن منهم معمر بن المثنى وله كتاب في مثالب العرب وقد أنشد بعض الشعوبية للصاحب بن عباد يمدحه:

غنينا بالطبول عن الطلو ... وعن عنس عذافرة ذمول

فلست بتارك إيوان كسرى ... لتوضح أو لحومل فالدخول

وضب بالفلا ساع وذئب ... بها يعوي وليث وسط غيل

إذا نحروا فذلك يوم عيد ... وإن ذبحوا ففي عرس جليل

يسلان السيوف لرأس ضب ... هراشاً بالغداة وبالأصيل

بأية رتبة قدمتموها ... على ذي الأصل والشرف الأصيل

أما لو لم يكن للفرس إلا ... نجار صاحب العدل الجليل

لكان لهم بذلك خير عز ... وجيلهم بذلك خير جيل

فقال له الصاحب قدك ثم قال لبديع الزمان أجبه فأجابه مرتجلاً: أراك على شفا خطر مهول ... بما أودعت رأسك من فضول

طلبت على مكارمنا دليلاً ... متى احتاج النهار إلى دليل

السنا الضاربين جزي عليكم ... فإن الجزي أقعد بالذليل

متى قرع المنابر فارسي ... متى عرف الأغر من الحجول

متى علقت وأنت بها زعيم ... أكف الفرس أعراف الخيول

فخرت بملء ما ضغينتك فخراً ... على قحطان والبيت الأصيل

فخرت بأن مأكولاً ولبساً ... وذلك فخر ربات الحجول

تفاخرهن في خد أسيل ... وضرع من مفارقة رسيل

فقال الصاحب للشعوبي: كيف ترى فقال: لو سمعت ما صدقت ثم قال له: جائزتك جوازك إن وجدتك بعدها في مملكتي شربت عنقك.

وفد النعمان بن المنذر على كسرى فوجد عنده وفود الروم والهند والصين فذكروا من ملوكهم وبلادهم فافتخر النعمان بالعرب وفضلهم على جميع الأمم لا يستثني فارساً ولا غيرهم فقال كسرى وأخذته عزة الملك يا نعمان لقد فكرت في أمر العرب وغيرهم من الأمم فرأيت الروم كذا ووصف من حالهم وجعل يثني عليهم ورأيت الهند التي لها كذا وكذا ثم قال مثل ذلك في الترك والخزر والصين متى ذكر قبيلة أثنى عليها ووصف ما يفتخرون به ثم قال ولم أر للعرب شيئاً من خصال الخير وجعل يصف شأنهم وهو يحقرهم ويصغرهم فقال النعمان: أصلح الله الملك وجعل يثني عليه ثم قال: إلا أن عندي جواباً في كل ما نطق به الملك في غير رد عليه ولا تكذيب له فإن آمنني من غضبه نطقت به قال كسرى فأنت آمن فقال النعمان أما أمتك أيها الملك فليست تنازع في الفضل لموضعها الذي هي به في عقولها وأحلامها وبسطة محلها وبحبوحة عزها وما أكرمها الله به من ولاية آبائك وولايتك وأما الأمم التي ذكرت فأي أمة تقرنها بالعرب إلا فضلتها قال كسرى: بماذا قال النعمان بعزها ومنعتها وحسن وجوهها وينها وبأسها وسخائها وحكمة ألسنها وشدة عقولها وأنفتها ووفائها فأما عزها ومنعتها فإنها لم تزل مجاورة لآبائك الذين دوخوا البلاد ووطدوا الملك وقادوا الجنود لم يطمع فيهم طامع ولم ينلهم نائل حصونهم ظهور خيولهم مهادهم الأرض وسقفهم السماء وجنتهم السيوف وعدتهم الصبر إذ غيرها من الأمم إنما عزها الحجارة والطين وجزائر البحور.

وأما حسن وجوهها وألوانها فقد تعرف فضلهم في ذلك على غيرهم من الهند المتحرقة والصين المحنتمة والترك المشوهة والروم المقشوة وأما أحسابها وأنسابها فليست أمة من الأمم إلا وقد جهلت آباءها وأصولها وكثيراً من أولها وآخرها حتى أن أحدهم يسأل عما وراء أبيه دنياً فلا ينسبه ولا يعرفه وليس أحد من العرب إلا يسمي آباءه أباً أباً حفظوا بذلك أحسابهم وضبطوا أنسابهم فلا يدخل رجل في غير قومه ولا ينتسب إلى غير نسبه ولا يدعي إلى غير أبيه وأما سخاؤها فإن أدناهم رجلاً الذي يكون عنده البكرة أو الناب عليها بلاغة في حمولته وشبعه وريه فيطرقه الطارق الذي يكتفي بالفلذة ويجتزي بالشربة فيعقرها له ويرضى أن يخرج له من دنياه كلها فيما يكسبه حسن الأحدوثة وطيب الثناء.

وأما حكمة ألسنتها فإن الله أعطاهم في أشعارهم ورونق كلامهم وحسنه ووزنه وقوافيه مع معرفتهم بالإشارة وضرب الأمثال وإبلاغهم في الصفات ما ليس لشيءٍ من ألسنة الأجناس ثم خليهم أفضل الخيول ونساؤهم أعف النساء ولباسهم أفضل اللباس ومعادنهم الذهب والفضة والحجارة جبالهم الجزع ومطاياهم التي لا يبعد عن مثلها سفر ولا يقطع بمثلها بلد قفر.

وأما دينها وشريعتها فإنهم متمسكون بها حتى يبلغ أحدهم من تمسكه بدينه أن لهم أشهراً حرماً وبلداً حراماً وبيتاً محجوباً ينسكون فيه مناسكهم ويذبحون ذبائحهم فيلقى الرجل قاتل أبيه أو أخيه وهو قادر على أخذ ثأره وإدراك دمه فيحجزه كرمه ويمنعه دينه عن تناوله بالأذى وأما وفاؤها فإن أحدهم يلحظ اللحظة ويومي الإيماء فهي اللب وعقد لا يحلها إلا خروج نفسه وإن أحدهم ليرفع عدداً من الأرض فيكون رهناً بدينه فلا يغلق رهنه ولا تخفر ذمته وإن أحدهم ليبلغه أن رجلاً استجار به وعسى أن يكون نائياً عن داره فيصاب فلا يرضى حتى تفنى تلك القبيلة التي أصابته أو تفنى قبيلته لما أخفر من جواره وأنها ليلجأ إليهم المجرم المحروب من غير معرفة ولا قرابة لتكون أنفسهم دون نفسه وأموالهم دون ماله وأما قولك أيها الملك أنهم يئدون أولادهم من الحاجة فإنما يفعله من يفعله منهم بالإناث أنفة من العار وغيرة من الأزواج وأما تحاربهم وأكل بعضهم بعضاً وتركهم الانقياد لرجل يسوسهم ويجمعهم فإنما يفعل ذلك من يفعله من الأمم إذا آنست من نفسها ضعفاً وتخوفت نهوض عدوها إليها بالزحف وإنه إنما يكون في المملكة العظيمة أهل بيت واحد يعرف فضلهم على سائرهم فيلقون إليهم أمورهم وينقادون إليهم بأزمتهم.

فأما العرب فإن ذلك كثير فيهم حتى لقد حاولوا أن يكونوا ملوكاً أجمعين مع أنفتهم من أداء الخراج والوطء والعسف فعجب كسرى مما أجابه النعمان به وقال: إنك لأهل لموضعك من الرياسة في إقليمك ولما هو أفضل ثم كساه من كسوته وسرحه إلى موضعه من الحيرة فلما قدم النعمان الحيرة وفي نفسه ما فيها مما سمع من كسرى من تنقيص العرب وتهجين أمرهم بعث إلى أكثم بن صيفي وحاجب بن زرارة وجماعة من رؤوس العرب سماهم فلما قدموا عليه في الخورنق قال لهم: قد عرفتم حال هذه الأعاجم وقرب جوار العرب منهم وقد سمعت من كسرى مقالة أتخوف أن يكون لها غدر واقتص عليهم مقالة كسرى وما رد علبه فقالوا: وفقك الله أيها الملك ما أحسن ما رددت عليه وأبلغ ما حجته به فمرنا بأمرك وادعنا إلى ما شئت قال النعمان: إنما أنا رجل منكم وإنما ملكت وعززت بمكانكم وبما يتخوف من ناحيتكم وليس شيءٌ أحب إلي مما سدد الله به أمركم وأصلح به شأنكم والرأي أن تسيروا بجماعتكم أيها الرهط وتنطقوا بكتابي هذا إلى باب كسرى فإذا دخلتم عليه نطق كل واحد منكم بما حضره ليعلم أن العرب على غير ما ظن أو حدثته به نفسه ووصاهم بوصايا فذهبوا وقد ساق القصة صاحب العقد وأوردها أبو الحجاج يوسف بن محمد البلوي في كتاب ألف باء.

ومن حجة الشعوبية على العرب أن قالت أنا ذهبنا إلى العدل والتسوية وأن الناس كلهم من طينة واحدة وسلالة رجل واحد واحتججنا بقول النبي عليه الصلاة والسلام: المؤمنين أخوة لتكافأ دماؤهم ويسعى أدناهم وهم يد على من سواهم. وقوله في حجة الوداع وهي خطبته التي ودع فيها أمته وختم نبوته: أيها الناس إن الله أذهب عنكم نخوة الجاهلية وفخرها بالآباء كلكم لآدم وآدم من تراب ليس لعربي على عجمي فضلٌ إلا بالتقوى. وهذا القول من النبي عليه الصلاة والسلام موافق لقول الله تعالى (إن أكرمكم عند الله أتقاكم) فأبيتم إلا فخراً وقلتم لا تساوينا وإن تقدمتنا إلى الإسلام ثم صليت حتى تصير كالحني وصمت حتى تصير كأوتار ونحن نسامحكم ونجيبكم إلى الفخر بالآباء الذي نهاكم عنه نبيكم إذا أبيتم إلا خلافه وإنما نجيبكم إلى ذلك لاتباع حديثه وما أمر به فنرد عليكم حجتكم في المفاخرة ونقول: أخبرونا إن قالت لكم العجم هل تعدون الفخر كله أن يكون ملكاً أو نبوة فإن زعمتم أنه ملك قالت لكم: وإن لنا ملوك الأرض كلها من الفراعنة والنماردة والعمالقة والأكاسرة والقياصرة وهل ينبغي لأحد أن يكون له مثل ملك سليمان الذي سخرت له الأنس والجن والطير والريح وإنما هو رجل منا أم هل كان لأحد مثل ملك الإسكندر الذي ملك الأرض كلها وبلغ مطلع الشمس ومغربها وبنى ردماً من حديد ساوى به بين الصدفين وسجن وراءه خلقاً من الناس تربي على خلق الأرض كلها كثرة لقول الله عز وجل (حتى إذا فتحت يأجوج ومأجوج وهم من كل حدب ينسلون) فليس شيء أدل على كثرة عددهم من هذا أو ليس لأحد من ولد آدم مثل آثاره في الأرض ولو لم يكن له إلا منارة الإسكندرية التي أسسها في قعر البحر وجعل في رأسها مرآة يظهر البحر كله في زجاجتها وكيف ومنا ملوك الهند الذين كتب أحدهم إلى عمر بن عبد العزيز: من ملك الأملاك الذي هو ابن ألف ملك والذي تحته بنت ألف ملك والذي في مربطه ألف فيل والذي له نهران ينبتان العود والفوة والجوز والكافور والذي يوجد ريحه على اثني عشر ميلاً إلى ملك العرب الذي لا يشرك بالله شيئاً أما بعد فإني أردت أن تبعث إليّ رجلاً يعلمني الإسلام ويوفقني على حدوده والسلام. وإن زعمتم أنه لا يكون الفخر إلا بنبوة فإن منا الأنبياء والمرسلين قاطبة من لدن آدم ما خلا أربعة هوداً وصالحاً واسماعيل ومحمداً ومنا المصطفون من العالمين آدم ونوح وهما العنصران اللذان تفرع منهما البشر فنحن الأصل وأنتم الفرع وإنما أنتم غصن من أغصاننا فقولوا بعد هذا ما شئتم وادعوا.

ولم تزل للأمم كلها من الأعاجم فيكل شق من الأرض ملوك تجمعها ومدائن تضمها وأحكام تدين بها وفلسفة تنتجها وبدائع تفتقها في الأدوات والصناعات مثل صنعة الديباج وهي أبدع صنعة ولعب الشطرنج وهي أشرف لعبة ورمانة القبان التي يوزن بها رطل واحد ومائة رطل ومثل فلسفة الروم في ذات الخلق والقانون والإسطرلاب الذي يعدل به النجوم ويدرك به علم الأبعاد ودوران الأفلاك وعلم الكسوف لم يكن للعب ملك يجمع سوادها ويضم قواصيها ويقمع ظالمها وينهى سفيهها ولا كان لها قط نتيجة في صناعة ولا أثر في فلسفة إلا ما كان من الشعر وقد شاركتها فيه العجم وذلك إن للروم أشعاراً عجيبة قائمة الوزن والعروض فما الذي تفخر به العرب على العجم فإنما هي كالذئاب العادية والوحوش النافرة يأكل بعضها بعضاً ويغير بعضها على بعضٍ فرجالها موثوقون في حلق الأسر ونساؤها سبايا مردفات على حقائب الإبل فإذا أدركهن الصريخ استنقذن بالعشي. قال بجير يعير العرب باختلافها في النسب واستلحاقها للأدعياء:

زعمتم بأن الهند أولاد خندف ... وبينكم قربى وبين البرابر

وديلم من نسل ابن ضبة ناسل ... وبرجان من أولاد عمر وبن عامر

فقد صار كل الناس أولاد واحد ... وصاروا سواء في أصول العناصر

بنو الأصفر الأملاك أكرم منكم ... وأولى بقربانا ملوك الأكاسر

أتطمع في صهري دعياً مجاهراً ... ولم تر ستراً من دعي مجاهر

وتشتم لؤماً رهطه وقبيله ... وتمدح جهلاً طاهراً وابن طاهر

وقال الحسن بن هانئ على مذهب الشعوبية:

وجاورت قوماً ليس بيني وبينهم ... أواصر إلا دعوة وبطون

إذا ما دعا باسمي العريف أجبته ... إلى دعوة مما عليَّ يهون

لا زد عمان بن المهلب نزوة ... إذا افتخر الأقوام ثم تلين

وبكر يرى أن النبوة أنزلت ... على مسمع في البطن وهو جنين

وقالت تميم لا نرى أنا واحداً ... كأحنفا حتى الممات يكون

فلا لمت قيساً بعدها في قتيبة ... إذا افتخروا أن الحديث شجون

قال ابن قتيبة في كتاب تفضيل العرب: وأما أهل التسوية فإن منهم قوماً أخذوا ظاهر بعض الكتاب والحديث فقضوا به ولم يفتشوا عن معناه فذهبوا إلى قوله عز وجل: إن أكرمكم عند الله أتقاكم. وقوله: إنما المؤمنون أخوة فأصلحوا بين أخويكم. وإلى قول النبي عليه الصلاة والسلام في خطبته في حجة الوداع أيها الناس إن الله قد أذهب عنكم نخوة الجاهلية وتفاخرها بالآباء ليس لعربي على عجمي فخر إلا بالتقوى كلكم لآدم وآدم من تراب. وقوله المؤمنون تتكافأ دماؤهم ويسعى بذمتهم أدناهم وهم يد على من سواهم وإنما المعنى في هذا أن الناس كلهم من المؤمنين سواءٌ في طريق الأحكام والمنزلة عند الله عز وجل والدار الآخرة لو كان الناس كلهم سواء في أمور الدنيا ليس لأحد فضل إلا بأمر الآخرة لم يكن في الدنيا شريف ولا مشروف ولا فاضل ولا مفضول فما معنى قوله إذا أتاكم كريم قومٍ فأكرموه وقوله أقيلوا ذوي الهيئات عثراتهم وقوله في قيس بن عاصم هذا سيد الوبر. وكانت العرب تقول لا يزال الناس بخير ما تباينوا فإذا تساووا هلكوا. تقول لا يزالون بخير ما كان فيهم أشراف وأخيار فإذا حملوا كلهم جملة واحدة هلكوا أو إذا ذمت العرب قوماً قالوا: سواسية كأسنان الحمار وكيف يستوي الناس في فضائلهم والرجل الواحد لا تستوي في نفسه أعضاؤه ولا تتكافأ مفاصله ولكن لبعضها الفضل على بعض وللرأس الفضل على جميع البدن بالعقل والحواس الخمس وقالوا القلب أمير الجسد ومن الأعضاء خادمةٌ ومنها مخدومةٌ.

قال ابن قتيبة: ومن أعظم ما ادعت الشعوبية فخرهم على العرب بآدم عليه السلام وبقول النبي عليه الصلاة والسلام لا تفضلوني عليه فإنما أنا حسنةٌ من حسناته ثم فخرهم بالأنبياء أجمعين وأنهم من العجم غير أربعة هود وصالح واسماعيل ومحمد عليهم الصلاة والسلام واحتجبوا بقول الله عز وجل إن الله اصطفى آدم ونوحاً وآل إبراهيم وآل عمران على العالمين ذرية بعضها من بعض والله سميع عليم ثم فخروا بإسحق بن إبراهيم وأنه لسارة وأنا إسماعيل لأمة تسمى هاجر قال شاعرهم:

في بلدة لم تصل عكن بها طنباً ... ولا خباء ولا عك وهمدان

ولا لجرم ولانهد بها وطن ... لكنها لبني الأحرار أوطان

أرض تبنى بها كسرى مساكنه ... فما بها من بني اللخناء إنسان

فبنو الأحرار عندهم العجم وبنو اللخناء عندهم العرب لأنهم من ولد هاجر وهي أمة وقد غلطوا في هذا التأويل وليس كل أمة يقال لها اللخناء من الإمام الممتهنة في دعي الإبل وسقيها وجمع الحطب وإنما أخذ من اللخن وهو نتن الريح يقلل لخن السقاء إذا تغير ريحه فأما مثل هاجر التي طهرها الله من كل دنس وارتضاها للخليل فراشاً وللطيبين إسماعيل ومحمد أماً وجعلهما سلالة فهل يجوز لملحد فضلاً عن مسلم أن يسميها اللخناء.

قال بعض من يرى رأي الشعوبية فيما يرد به على ابن قتيبة في تباين الناس وتفاضلهم والسيد منهم والمسود إننا نحن لا ننكر تباين الناس ولا تفاشلم ولا السيد منهم والمسود والشريف والمشروف ولكننا نزعم أن تفاضل الناس فيما بينهم ليس بآبائهم ولا بأحسابهم ولكنه بأفعالهم وأخلاقهم وشرف أنفسهم وبعد هممهم ألا ترى أنه من كان دنيء الهمة ساقط المروءة لم يشرف وإن كان من بني هاشم في ذؤابتها ومن أمية في أرومتها ومن قيس في أشرف بطن منها إنما الكريم من كرمت أفعاله والشريف من شرفت همته وهو معنى حديث النبي عليه الصلاة والسلام إذا أتاكم كريم قوم فأكرموه وقوله في قيس بن عاصم هذا سيد أهل الوبر إنما قال فيه لسؤدده في قومه بالذب عن حريمهم وبذله رفده لهم ألا ترى أن عامر بن الطفيل كان في أشرف بطن في قيس يقول:

وإني وإن كنت ابن سيد عامر ... وفارسها المشهور في كل مركب

فما سودتني عامر عن وراثة ... أبى الله أن أسمو بأم ولا أب

ولكنني أحمي حماها وأتقي ... أذاها وأرمي من رماها بمنكب

وقال آخر:

أنا وإن كرمت أوائلنا ... لسنا على الأحساب ننكل

نبني كما كانت أوائلنا ... تبني ونفعل مثل ما فعلوا

وقال قس بن ساعدة لأقضين بين العرب بقضية لم يقض بها أحد قبلي ولا يردها أحد بعدي أيما رجل رمى رجلاً بملامة دونها كرم فلا لوم وأيما رجل ادعى كرماً دونه لؤم فلا كرم له. ومثله قول عائشة أم المؤمنين كل كرم دونه لؤم فاللؤم أولى به وكل لؤم دونه كرم فالكرم أولى به. تعني بقولها أن أولى الأشياء بالإنسان طبائع نفسه وخصالها فإذا كرمت فلا يضره لؤم أوليته وإن لؤمت فلا ينفعه كرم أوليته.

وقال الشاعر:

نفس عصام سودت عصاما ... وعلمته الكر والإقداما=وجعلته ملكاً هماما

وقال آخر:

ما لي عقلي وهمتي حسبي ... ما أنا مولى ولا أنا عربي

إن انتمى منتم إلى أحد ... فإنني منتم إلى أدبي

روى أبو العيناء الهاشمي عن الفخذمي عن شبيب بن شبة قال كنا وقوفاً بالمربد موضع بالبصرة وكان المربد مألف الأشراف إذ أقبل ابن المقفع فبششنا به وبدأناه بالسلام فرد علينا السلام ثم قال: لو ملتم إلى دار نيروز وظلها الظليل وسورها المديد ونسميها العجيب فعودتم أبدانكم تمهيد الأرض وأرحتم دوابكم من جهد الثقل فإن الذي تطلبونه لم تفلتوه ومهما قضى الله لكم من شيءٍ تنالوه. فقبلنا وملنا فلما استقر بنا المكان قال لنا: أي الأمم أعقل فنظر بعضنا إلى بعض فقلنا: لعله أراد أصله من فارس فقلنا: فارس فقال: ليسوا بذلك إنهم ملكوا كثيراً من الأرض ووجدوا عظيماً من الملك وغلبوا على كثير من الحق ولبث فيهم عقد الأمر فما استنبطوا شيئاً لعقولهم ولا ابتدعوا باقي حكم في نفوسهم قلنا: فالروم قال: أصحاب صنعة قلنا: فالصين قال: أصحاب طرفة قلنا فالهند قال: أصحاب فلسفة قلنا السودان قال: شر خلق الله قلنا: الخزر قال: بقر سائمة قلنا: فقل قال: العرب قال: فضحكنا قال: أما أني ما أردت موافقتكم ولكن إذ فاتني حظي من النسبة فلا يفوتني حظي من المعرفة أن العرب حكمت على غير مثال مثل لها ولا آثار أثرت أصحاب إبل وغنم وسكان شعر وأدم يجود أحدهم بقوته ويتفضل بمجهوده ويشارك في ميسوره ومعسوره ويصف الشيء بعقله فيكون قدوة ويفعله فيصير حجة ويحسن ما شاء فيحسن ويقبح ما شاء فيقبح أدبتهم أنفسهم ورفعتهم هممهم وأعلتهم قلوبهم وألسنتهم فلم يزل حياء الله فيهم وحياؤهم في أنفسهم حتى رفع لهم الفخر وبلغ بهم أشرف الذكر وختم لهم بملكهم الدنيا على الدهر وافتتح دينه وخلافته بهم إلى الحشر على الخير فيهم ولهم فقال سبحانه أن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين فمن وضع حقهم خسر ومن أنكر فضلهم خصم ودفع الحق باللسان أكبت للجنان أهم.

أما عناية الإسلام بإسقاط الجنسية فتراه ماثلاً من حسن معاملتهم للموالي فقد ولى رسول الله جيش موتة زبداً مولاه وقال إن قتل فأميركم جعفر وأمر رسول اله أسامة بن زيد فبلغه أن قوماً قد طعنوا في إمارته وكان أمره على جيش فيه جلة المهاجرين والأنصار فقال عليه السلام إن طعنتم في إمارته لقد طعنتم في إمارة أبيه قبله ولقد كان أهلاً وإن أسامة لها لأهل. وقالت عائشة لو كان زيد حياً ما استخلف رسول الله غيره وقال عبد الله بن عمر لأبيه: لم فضلت أسامة عليّ وأنا وهو سيان فقال: كان أبوه أحب إلى رسول الله من أبيك وكان أحب إلى رسول الله منك أوصى رسول الله بعض أزواجه لتميط عن أسامة أذى من مخاط أو لعاب فكأنها تكرهته فتولى منه ذلك رسول الله بيده وقال لو يوماً ولم يكن أسامة من أجمل الناس لو كنت جارية لنحلناك وحليناك حتى يرغب الرجال فيك وفي بعض الحديث أنه قال أسامة من أحب الناس إليَّ. وكان أدى إلى بني قريظة مكاتبه سلمان منا أهل البيت ويروى أن المهدي نظر إليه ويد عمارة بن حمزة في يده فقال له رجل: من هذا يا أمير المؤمنين فقال: أخي وابن عمي عمارة بن حمزة فلما ولى الرجل ذكر ذلك المهدي كالممازح لعمارة فقال له عمارة انتظرت أنه يقول: ومولاي فانفض والله يدك من يدي فتبسم أمير المؤمنين المهدي ولم يكن الأكرام للموالي في جفاة العرب.

زعم الليثي أنه كانت بين جعفر بن سليمان وبين مسمع بن كردين منازعة وبين يدي مسمع مولى له بهاء ورواء ولسن فوجه جعفر إلى مسمع له لينازعه ومجلس مسمع حافل فقال أن أنصفني والله جعفر أنصفته وإن حضر حضرت معه وإن عند عن الحق عندت عنه وإن وجه إليَّ مولى مثل هذا وأومأ إلى مولى جعفر فقال مولى مثل هذا عاضاً لما يكره وجهت إليه وأومأ إلى مولاه فعجب أهل المجلس من وضعه مولاه ذلك الموضع الذي تباهي بمثله العرب وقد قيل الرجل لأبيه والمولى من مواليه. وفي بعض الأحاديث أن المعتق من فضل طينة المعتق. ويروى أن سلمان أخذ من بين يدي رسول الله تمرة من تمر الصدقة فوضعها في فيه فانتزعها منه رسول الله فقال: يا أبا عبد الله إنما يحل لك من هذا ما يحل لنا. ويروى أن رجلاً من موالي بني مازن يقال له عبد الله بن سليمان وكان من جلة الرجال نازع عمرو بن هداب المازني وهو في ذلك الوقت سيد بني تميم قاطبة فظهر عليه المولى حتى أذن له في هدم داره فأدخل الفعلة دار عمرو فلما قلع من سطحه سافاً كف عنه ثم قل يا عمرو قد أريتك القدرة وسأريك العفو وقد كان في قريش من فيه جفوة ونبوة.

كان نافع بن جبير أحد بني نوفل بن عبد مناف إذا مر عليه الجنازة سأل عنها فإن قيل قرشي قال واقوماه وإن قيل عربي قال وامادتاه وإن قيل مولى أو عجمي قال اللهم هم عبادك تأخذ منهم من شئت وتدع من شئت. ويروى أن ناسكاً من بني الهجيم بن عمور بن تميم كان يقول في فصصه اللهم اغفر للعرب خاصة وللموالي عامة فأما العجم فهم عبيدك والأمر إليك.

ومثل ذلك ما كان بعضهم يقولونه لا يقطع الصلاة إلا ثلاثة حمار أو كلب أو مولى وكانوا لا يكنونهم بالكنى ولا يدعونهم إلا بالأسماء والألقاب ولا يمشون في الصف معهم ولا يتقدمونهم في الموكب وإن حضروا طعاماً قاموا على رؤوسهم وإن أطعموا المولى لسنه وفضله وعمله أجلسوه في طريق الخبار لئلا يخفى على الناظر أنه ليس من العرب ولا يدعونهم يصلون على الجنائز إذا حضر أحد من العرب وإن كان الذي يحضر عزيزاً وكان الخاطب المرأة منهم إلى أبيها ولا إلى أخيها وإنما يخطبها إلى مواليها فإن رضي زوج وإلا رد فإن زوج الأب والأخ بغير رأي موليه فسخ النكاح وإن كان قد دخل بها كان سفاحاً غير نكاح.

وذكر عمرو بن بحر الجاحظ في كتاب الموالي والعرب أن الحجاج لما خرج عليه ابن الأشعث وعبد الله بن الجارود ولقي ما لقي من قراء أهل العراق وكان أكثر من قاتله وخلعه وخرج عليه الفقهاء والمقاتلة والموالي من أهل البصرة فلما علم أنهم الجمهور الأكبر والسواد الأعظم أحب أن يسقط ديوانهم ويفرق جماعتهم حتى لا يتألفوا ولا يتعاقدوا فأقبل على الموالي وقال أنتم علوج وعجم وقراؤكم أولى بكم ففرقهم وفض جمعهم كيف أحب وصيرهم كيف شاء ونقش على يد كل رجل منهم اسم البلدة التي وجهه إليها وكان الذي تولى ذلك منهم رجل من بني سعد بن عجل بن لجين يقال له حراش وقال شاعرهم:

وأنت من نقش العجلي راحته ... توفر شيحك حتى عاد الحكم

يريد الحكم بن أيوب التميمي عامل الحجاج على البصرة.

ولد أورد ابن بسام في الذخيرة في ترجمة الأديب أبي جعفر أحمد الدودين البلنسي رسالة ابن غرسية يخاطب بها أبا جعفر بن الجزار في فضل الشعوبية وذم العرب ابتدأها بقوله:

يا ابن الأعارب ما علينا بأس ... لم نجك إلا ما حكاه الناس

ولم أشتم لكم حسباً ولكن ... حدوث بحيث يستمع الحداء

وقال فيها في وصف العجم:

هم ملكوا شرق البلاد وغربها ... وهم منحوكم بعد ذلك سؤددا

حلم وعلم ذوو الآراء الفلسفية الأرضية والعلوم المنطقية الرياضية حملة الأسترلوميقا والجومطريقا والعلمة بالأرتماطيقا والأنولوطيقا والقومة بالموسيقى والطوبيا والنهضة بعلوم الشرائع والطبائع والنفرة في علوم الأديان والأبدان ما شئت من تحقيق وترفيق حبسوا أنفسهم على العلوم الدينية والبدنية لا على وصف الناقة العدنية فعلهم ليس بالسفاف كفعل نائلة وإساف أصغر بشأنكم إذ بزق خمر باع الكعبة أبو غسانكم وإذا أبو رغالكم قاد فيل الحبشة إلى حرم الله لاستئصالكم.

والرسالة كلها على هذا النسق استغرقت مع الردود عليها سبع عشرة ورقة من الذخيرة ولولا غلبة التحريف الكثير عليها لأوردناها برمتها وقد رد عليها كثيرون من أدباء الأندلس في عصر كاتبها ومن جملتهم المخاطلب بها أبو جعفر وردودهم كلها إلى السفاهة والبذاءة أقرب وكتابة ابن غرسية أمتن وحججه أوضح.

وكنا نود أن نشبع الكلام على الشعوبية أكثر مما أشبعناه واكتفينا الآن بمالدينا من النقول الصحيحة ولعل أحد مؤازرينا يكتب في هذا الموضوع ليجلوه أكثر مما جلوناه وفوق كل ذي علم عليم.