مجلة المقتبس/العدد 26/وقفة في الأجداث

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة المقتبس/العدد 26/وقفة في الأجداث

ملاحظات: بتاريخ: 1 - 3 - 1908



حاطت بليل اليأس مني غياهب ... تضيءُ من الآمال فيها كواكب

وجاءت أخيراً من همومي سحائب ... فحجبت الآمال تلك السحائب

فما بان لي إلاّ شبحاً متكاثف ... ولا لاح لي إلاّ دجلاً متراكب

فيا لك من ليل هناك حالكٍ ... بأهواله ضاقت عليّ المذاهب

وطال إلى أن لاح لي في سمائه ... على الأفق فجرٌ من رجائي كاذب

قول لعيني حين جفت دموعها ... أأمسكت لما أفجعتنا النوائب

لقد غاب من تهوين مرأى وجوههم ... كأنهم زهر النجوم الغوارب

وما كان ظني أنه بعد ساعة ... تجف كذا منك الدموع السواكب

جمودك يا عيني وقد وقع النوى ... على غير ما وعدٍ لهم لا يناسب

وأني على هذا الجمود وطوله ... ألومك يا عيني وإني عاتب

فلست براض عنك يا عين بعدهم ... لأنكِ ما أديتِ ما هو واجب

وللقلب مني بعد أن كرّ راجعاً ... وقد رحلت أظعانهم والركائب

عهدتك تمشي أيها القلب خلفهم ... فقل لي لماذا أنت يا قلب آيب

سألتك يا قلبي عن السبب الذي ... رجعت له إني لعودك عاجب

فما لك تجثو راجفاً متغيراً ... وما لك ترنو ساكتاً لا تجاوب

أجئت تعزيني لأني آسفٌ ... وإني مفجوعٌ وإني خائب

فقال بصوت هزَّ أوتاره الأسى ... فرنت رنيناً أكبرته المصائب

تبعتهم حتى ثووا في حفائر ... وحجبهم عني من الترب حاجب

وقفت على الأجداث حيث تغيبوا ... وصحت فما ردَّ الجواب مجاوب

فجئتك كيما أخبر الحال أنها ... شجتني فمرني بالذي أنت طالب

ورأيي أن نسعى معاً لقبورهم ... فقلت له يا قلب رأيك صائب

أصبت نعم يا قلب فيما رأيته ... فلي بني هاتيك القبور مآرب

تقدَّم أمامي ماشياً لتدلني ... عليهم فسرنا والحنين مصاحب

فلما وصلنا ساء عيني أن ترى=هنالك أجداثاً عفاهن حاصب

سطور قبور في العراء تناسقت ... كما نمق العنوان في الطرس كاتب قبورٌ بها نامت أوانس خرَّدٌ ... ونامت بها في جنبهن الذوائب

فجاشت هناك النفس من لاعج الجوى ... وقلت لهاتيك القبور أخاطب

هنا فيك قد غابت حسان كواعب ... فما فعلت تلك الحسان الكواعب

وما فعلت تلك السوالف في الثرى ... وما فعلت في الترب تلك الترائب

إلى من تشير اليوم فيك عيونها ... وفوق العيون النجل تلك الحواجب

نجوم جمالٍ أمعنت في غروبها ... وأنت لهاتيك النجوم المغارب

وكانت مشيدات القصور بروجها ... فمن أين جاءتها تصيب المعاطب

لقد كنّ أما ودهن فحاضرٌ ... قريبٌ وأما صدهن فعازب

وفي كل يوم كان للزي مطلبٌ ... لهن تجلى منه فيما يناسب

ولكنكما اليوم انتهت لتعاستي ... بثوب الأكفان تلك المطالب

وكنَّ كأزهار الربيع مبادياً ... أهذي لهاتيك المبادي عواقب

قد انتزعتها من حياتي يبد الردى ... كما ينهب العقد المفصل ناهب

هنالك جادت أعيني بدموعها ... فهن على الخدين مني سوارب

هنالك من نفسي وصدق طويتي ... تمنيت لو أن المنون تقارب

نظرت إلى قلبي وكان بجانبي ... إذا هو من فرط الكآبة ذائب

فلملمت ذوب القلب ثم سكبته ... على جدث فيه حبيبي غائب

وألفيت في نفسي العزاء كمعبدٍ ... قد انهدَّ منه جانب ثم جانب

وفارقني لبي لهيبة مصرعي ... فأبعد عني في الفلا وهو هارب

وجدت على الأيام والطب والغنى ... وقلت لهم إني عليكم عاتب

وأوحشت الدنيا كأن بيوتها ... بعيني وإن كانت قصوراً خرائب

مكثت إلى أن أقبل الليل زاحفاً ... وأظلم منه في عيوني الجوانب

فأبت لي داري وفي شعب الحشى ... لهيبٌ من الحزن المبرّح لاهب

وليس معي في أوبتي لا نهىً ولا ... عزاءٌ ولا قلب لشخصي صاحب

سوى نفس في الصدر مني مردد ... فذلك طول الليل آت وذاهب

ستبسم في وجهي المنون كأنّها ... محب يسي أو صديق يراقب وتدركني قبل الصباح ونهضه ... فأنجو من الهمّ الذي هو ناصب

بغداد

ج. ص