مجلة الرسالة/العدد 721/إلكيا الهراس

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 721/إِلْكِيا الهرَّاس

ملاحظات: بتاريخ: 28 - 04 - 1947



للأستاذ برهان الدين محمد الداغستاني

450 - 504هـ

اسمه ونسبته:

هو عماد الدين شمس الإسلام أبو الحسن علي بن محمد بن علي الطبري المعروف بالكيا الهراس، وإلْكِيا بهمزة مكسورة بعدها لام ساكنة ثم كاف مكسورة بعدها ياء مثناة من تحت كلمة أعجمية معناها: الكبير القدر المقدم بين الناس. والهراس بتشديد الراء لا تعلم نسبته لأي شيء.

مولده ونشأته الأولى في طبرستان:

ولد إلكيا في طبرستان خامس ذي القعدة سنة خمسين وأربعمائة من الهجرة ونشأ فيها نشأته الأولى حتى بلغ الثامنة عشرة. ويقول مترجموه إنه تفقه في بلده قبل الخروج إلى نيسابور. وليس فيما لدينا من المراجع ما يكشف عن حاله في بلدته مدة ثماني عشرة سنة التي قضاها فيها سوى هذه النبذة القصيرة ولا تذكر شيئاً بعد ذلك عن أبيه وعائلته وبيئته كما أنها لا تذكر شيئاً عن شيخه أو شيوخه الذين تفقه عليهم، وعلى كل حال فدراسته الفقهية التي تلقاها في بلدته قد أعدته وهيأته لتلقي دروس شيخ الشافعية في عصره إمام الحرمين الجويني في نيسابور والاستفادة منها بل جعلته في مقدمة تلامذته ومعيدي درسه. ونستطيع أن نفهم من هذا أن دراسته الأولى كانت في مستوى علمي متوسط - على الأقل - إن لم نقل في مستوى عال وإلا لما تهيأ له أن يستفيد من دروس إمام الحرمين من يوم وصوله إلى نيسابور.

في نيسابور:

لابد أن الكيا - وهو يطلب العلم في بلده - بلغته شهرة إمام الحرمين عبد الملك بن عبد الله بن يوسف الجويني رئيس الشافعية في عصره وتطلعت نفسه المتعطشة إلى العلم إلى لقيا هذا الإمام الجليل والأخذ عنه فارتحل وهو في الثامنة عشرة إلى نيسابور.

يقول ابن عساكر في تبيين كذب المفترى: (ورد نيسابور في شبابه وكان قد تفقه فحص طريقة إمام الحرمين وتخرج به فيها وصار من وجوه الأصحاب ورؤوس المعيدين في الدرس، وكان يعيد الدرس على جماعة حتى تخرجوا به، وكان مواظباً على الإفادة والاستفادة. ونقل السبكي في طبقات الشافعية الكبرى عن الكيا نفسه قوله: كانت في مدرسة سرهنك بنيسابور قناة لها سبعون درجة وكنت إذا حفظت الدرس أنزل القناة وأعيد الدرس في كل درجة في الصعود والنزول وقال: وكذا كنت أفعل في كل درس حفظته ثم يقول السبكي: وفي بعض الكتب أنه كان يكرر الدرس على كل مرقاة من مراقي درجة المدرسة النظامية بنيسابور سبع مرات وأن المراقي كانت سبعين مرقاة.

وهذا الذي نقلناه يدلنا على أن الكيا في نيسابور كان طالباً مجداً بكل ما تحتمله كلمة من مجد من معنى، وأنه ظل على جده واجتهاده في طلب العلم حتى أصبح من كبار تلامذة إمام الحرمين وحتى إنه كان يقوم بإعادة دروس شيخه على كثير من زملائه الطلبة حتى تخرجوا عليه، وعلى هذا النحو بقى في نيسابور إلى أن توفي شيخه الجويني سنة ثمان وسبعين وأربعمائة فارتحل عنها إلى بيهق.

في بيهق:

خرج إلكيا من نيسابور إلى بيهق وقد استكمل علماً فقد علمنا أنه كان من كبار تلامذة إمام الحرمين وانه حصل طريقته في إلقائه الدروس والبحث العلمي؛ ونرى أن الوقت كان ملائماً كل الملاءمة لهذا الطارق على بيهق ليظهر علمه ونبوغه. ولا شك أنه فعل ذلك حتى عظم قدره عند ولاة الأمور هناك. ولكن المصادر التي بأيدينا لا تتكلم عن هذه الفترة من حياته من سنة 478 التي مات فيها إمام الحرمين إلى 492 التي دخل فيها بغداد إلا قليلا، فابن خلكان يقول: ثم خرج من نيسابور إلى بيهق ودرس بها مدة ثم خرج إلى العراق. وأكثرها يهمل هذه المدة الطويلة من حياته فلا يذكرها بخير أو بشر. إلا أن ابن خلكان كشف عن هذا الغموض قليلا حين نقل عن عبد الغافر الفارسي صاحب تاريخ نيسابور قوله: (ثم اتصل بخدمة مجد الملك بر كيارق ابن ملكشاه السلجوقي وحظى عنده بالمال والجاه وارتفع شأنه وتولى القضاء بتلك الدولة).

وفي حوادث سنة اثنتين وتسعين وأربعمائة من الكامل لابن الأثير ما يأتي: في هذه السنة في شعبان وصل إلكيا أبو الحسن علي بن محمد الطبري المعروف بالهراس الفقيه الشافعي ولقبه عماد الدين شمس الإسلام، برسالة من السلطان بر كيارق إلى الخليفة الخ.

ومن هذا نرى أن الكيا قد عظم شأنه وأنه بعد أن درس مدة في بيهق اختير قاضياً في سلطنة بركيارق السلجوقي وعظمت صلته بالسلطان وثقة السلطان به حتى اختاره للسفارة بينه وبين الخليفة في بغداد.

في بغداد:

قلنا إن الكيا وصل بغداد في شعبان سنة اثنتين وتسعين وأربعمائة يحمل رسالة إلى الخليفة. ويقول ابن الأثير: واعتني بأمره مجد الملك البلاساني وقام له الوزير عميد الدولة ابن جهير لما دخل عليه ثم لا نعلم شيئاً عن حياته في بغداد إلى ذي الحجة سنة ثلاث وتسعين وأربعمائة لما ولي التدريس بالمدرسة النظامية في بغداد يقول ابن شهبة في طبقات الشافعية: وتولى النظامية في ذي الحجة سنة ثلاث وتسعين وأربعمائة واستمر بها عظيم الجاه رفيع المحل يتخرج عليه الطلبة إلى أن توفي في المحرم سنة أربع وخمسمائة.

شيوخه وتلامذته:

لا نعلم شيئاً عن شيوخ الكيا الهراس إلا أنه تفقه في نيسابور على إمام الحرمين وأخذ عنه طريقته في الفقه والأصول والخلاف وأنه لازمه حتى مات، ويذكر السبكي في الطبقات أن الكيا حدث عن إمام الحرمين وأبي علي الحسن بن محمد الصفار وغيرهما ولكنه لم يذكر غيرهما من شيوخه كما أن كل من رجعت إليهم من المؤرخين لم يذكروا من شيوخه إلا إمام الحرمين وأبا علي الحسن بن محمد الصفار، وعلى الرغم من أنه تولى التدريس زمناً طويلا في بيهق وإنما تقتصر على بعض من تلقى عنه في نظامية بغداد مثل الحافظ الكبير السلفي، والمحدث الرحالة سعد الخير بن محمد الأنصاري الأندلسي البلنسي، وأبي إسحاق إبراهيم بن عثمان الغزي الشاعر المشهور.

ومهما يكن من شيء فإن الكيا الهراس - وقد قضى أكثر عمره في الاستفادة والإفادة - لا شك أنه خدم العلوم الإسلامية وخاصة الفقه والأصول خدمة جليلة حتى دعي شيخ الشافعية في بغداد وتطلعت إليه العيون من كل صوب ولا شك أن الكثير من فقهاء الشافعية في أواخر القرن الخامس وأوائل السادس تخرج عليه واستفاد منه وخصوصاً أيام توليه التدريس في نظامية بغداد من ذي الحجة سنة ثلاث وتسعين وأربعمائة إلى وفاته سنة أربع وخمسمائة من الهجرة.

الثناء عليه:

يقول الشيخ محمد الأنصاري البهنسي في الكافي: أنه تفقه ببلده وقصد إمام الحرمين بنيسابور فلازمه حتى برع في الفقه والأصول وكان هو والغزالي والخوافي أكبر تلامذته ومعيدي درسه. وكان إماماً نظاراً، قوي البحث، دقيق الفكر ذكياً فصيحاً جهوري الصوت. وقال أبو طاره السلفي: سمعت الفقهاء ببغداد يقولون: كان أبو المعالي الجويني يقول في تلامذته إذا ناظروا: التحقيق للخوافي، والجريان للغزالي، والبيان لإلكيا.

وصفه السبكي في الطبقات: بأنه أحد فحول العلماء ورؤوس الأئمة فقهاً وأصولا وجدلا وحفظاً لمتون أحاديث الأحكام. وكان ثاني الغزالي بل أملح وأطيب في النظر والصوت، وأبين في العبارة والتقرير منه؛ وإن كان الغزالي أحد وأصوب خاطراً وأسرع بياناً وعبارة منه. وكان يحفظ الحديث ويناظر فيه وهو القائل: إذا جالت فرسان الأحاديث في ميادين الكفاح، طارت رؤوس المقاييس في مهاب الرياح.

وقال فيه ابن شهبة في طبقات الشافعية: إنه كان إماماً نظاراً قوي البحث دقيق الفكر ذكياً فصيحاً جهوري الصوت حسن الوجه جداً، قدم بغداد وتولى النظامية في ذي الحجة سنة ثلاث وتسعين وأربعمائة واستمر مدرساً بها عظيم الجاه رفيع المحل يتخرج عليه الطلبة إلى أن توفى. وقال ابن خلكان: وكان حسن الوجه جهوري الصوت فصيح العبارة حلو الكلام. ويقول ابن عساكر في تبيين كذب المفترى: كتب إلى الشيخ أبو الحسن عبد الغافر بن إسماعيل قال: إنه ورد نيسابور في شبابه وقد تفقه وكان حسن الوجه مطابق الصوت للنظر، مليح الكلام، فحصل طريقة إمام الحرمين وتخرج به فيها وصار من وجوه الأصحاب ورؤوس المعيدين في الدرس، وكان ثاني الغزالي بل أملح وأطيب في النظر والصوت وأبين في العبارة والتقرير منه، وهذا كان يعيد الدرس على جماعة حتى تخرجوا به وكان مواظباً على الإفادة والاستفادة.

(له بقية) برهان الدين محمد الداغستاني