مجلة الرسالة/العدد 7/صور من التاريخ الإسلامي

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 7/صور من التاريخ الإسلامي

ملاحظات: بتاريخ: 15 - 04 - 1933



زرياب المغني

للأستاذ عبد الحميد العبادي

- 2 -

إذا قدر للأندلس أن يكتب تأريخها الفني والاجتماعي، فلا شك أن أنضر صفحة في ذلك التاريخ المجيد وأعجبها تكون صفحة أبي الحسن علي بن نافع المغني الملقب بزرياب. فهو رجل استطاع وحده أن ينقل أمة بأسرها من حال البداوة إلى حال الحضارة، وذلك بشيئين اثنين: تحبيب الموسيقى إليها، وتنظيم حياتها اليومية.

فتح المسلمون الأندلس في العقد الأخير من القرن الأول الهجري، وانتشرت قبائلهم العربية والبربرية في بسائطها وحزونها ولكنهم ظلوا حتى أواخر القرن الثاني بداة جفاة كلما اجتمعت كلمتهم لم يلبثوا أن تفرق بينهم الإحن والعداوات المنبعثة عن العصبية القبلية، فكأنهم لا يزالون ضاربين في هضاب نجد وسهول تهامة ومفاوز إفريقية. ثم أخذت شؤونهم السياسية تستقر وتتسق بفضل مجهودات المتقدمين من أمراء الدولة الأموية الأندلسية: عبد الرحمن الداخل، وهشام، والحكم، وعبد الرحمن الأوسط. أما الأحوال الاجتماعية فظلت على ما كانت عليه فسادا واضطرابا.

وعلى العكس من ذلك كان المشرق الإسلامي في ذلك الزمان فقد إستبحر فيه العمران وبلغت المدنية الإسلامية فيه غايتها، وتعلق فيه ذوو الدعة واليسار بأسباب الكمال من شؤون الحياة، بعد أن استكملوا الضروري، والحاجي منها على حد تعبير ابن خلدون. وقد ساعفهم في ذلك عامل الدين وعامل التاريخ معا. فأما المعتدلون منهم فكانوا يستندون إلى أن الدين الإسلامي دين يسر يحب من المؤمن أن يكون هينا لينا موفور الحظ من الظرف والكياسة غير فظ ولا غليظ القلب، ولا ناسٍ نصيبه من الدنيا. وأما المتطرفون فوجدوا في تقاليد الفرس والروم الاجتماعية ما جعلهم يؤثرون العاجلة ويحرصون على لذة الحياة الدنيا ومتعها، أياً كانت الطرق الموصلة إليها.

وقد تألفت من هؤلاء طبقة أرستقراطية، مرهفة الأذواق، رقيقة الطباع، ترى في الموسيقى، ومجالس الأنس والطرب، وحفلات السمر خير ما ينقعون به غلة تلك الأذواق المرهفة والطباع المترفة. هذا هو السبب المباشر في تقدم صناعة الغناء في ذلك الزمان، وبلوغها الغاية على أيدي إبراهيم المهدي، وإبراهيم الموصلي، وأبنه إسحاق. وهذا هو السبب كذلك في استفاضة مجالس الأنس والطرب لذلك العهد في مدن الشرق الإسلامي عامة وبغداد خاصة، وفي بلوغ هذه المجالسدرجة من التأنق يمكن تصورها إذا عرفنا أنهم وضعوا لها آدابا كانوا يأخذون بها من الندماء، والجلساء، والسمار.

من ذلك أن يكون الغناء قوامها، وأن يحتفل لها بلبس الثياب المصبغة الأنيقة، وأن يزين المجلس بالأزهار والرياحين، وألا يحضرها إلا من كان مهذباً، خفيف الروح، حاضر البديهية، قادراً على قول الشعر وارتجاله، فضلا عن تذوقه وروايته عندما يقتضي المقام ذلك.

إلى هذا المشرق اتجه أمراء بني أمية الأندلسيون، وهم أبناء خلائف دمشق ورصافتها، يستهدونه فنانين ومعلمين يهذبون ما غلظ من طباع العرب والبربر والمولدين، وينظمونها جميعاً في نسق واحد. وقد أهدى المشرق إلى المغرب غير واحد من المغنين أمثال علون، وزرقون، ولكن زرياباً كان أعظم هؤلاء جميعاً وأبعدهم أثراً.

كان أبو الحسن علي بن نافع مولى للخليفة المهدي العباسي، ولسواد لونه، وحلاوة شمائله لقبوه بزرياب تشبيها له بطائرأسود غريد يعرف عندهم بهذا الاسم. وقد تكاملت لزرياب كل أسباب النبوغ والتفوق موهوبها ومكسوبها، فكان شديد الذكاء، لطيف الحس عارفا بالنجوم والجغرافية، شاعراً فصيح اللسان، غير أنه كان إلى الغناء أميل وبه أشغف، وقد درسه علماً في كتب الأقدمين من حكماء اليونان، وعملاً على أستاذه اسحق الموصلي زعيم المغنيين في ذلك الوقت، ولشدة افتتان زرياب بالموسيقى كان تفكيره فيها لا يكاد ينقطع حتى أنه ليلهم النوبة والصوت وهو نائم، فيهب من نومه مسرعاً، ويقيد ما وقع له أو يلقيه على جاريتيه غزلان وهنيدة، ثم يعود إلى مضجعه عجلا، ومن ثم قيل انه كان يأخذ ألحانه عن الجن كما قيل في إبراهيم الموصلي نفسه. قالوا وكان يحفظ عشرة آلاف مقطوعة من الأغاني بألحانها. ولم يأل زرياب جهداً في أن يأخذ نفسه بالأدب الرفيع والسلوك العالي المصطلح عليه في البيئة التي كان يعيش فيها ببغداد، بيئة البلاط وقصور الأمراء ورؤساء الدولة العباسية.

ويذكرون أن السبب في هجرة زرياب من المشرق إلى المغرب، انه غنى يوما في حضرة هارون الرشيد، فأخذ الخليفة بصناعته وظرفه وطلب إلى اسحق أن يعنى به حتى يفرغ لسماعه. ولكن اسحق لم يلبث أن تحركت في صدره عوامل الغيرة والحسد والحقد على تلميذه، فخلا به وخيره بين الموت والحياة، بين أن يقيم ببغداد فيعرض حياته للهلاك ومهجته للتلف، وبين أن يذهب في أرض الله العريضة فينجو بحياته، ووعده إذا هو اختار ثاني الأمرين أن يعينه على الرحيل بما شاء من المال، وغير المال. فأختار زرياب الرحيل عن المشرق بأسره، ووفى له اسحق بما وعده من المعونة.

وتذكره الرشيد بعد أن فرغ من شغله الذي كان منهمكاً فيه وطلب إلى اسحق إحضاره فقال (ومن لي به يا أمير المؤمنين؟ ذاك غلام مجنون يزعم أن الجن تكلمه وتطارحه ما يزهي به من غنائه، فما يرى في الدنيا من يعدله، وما هو إلا أن أبطأت عليه جائزة أمير المؤمنين، وترك استعادته، فقدر التقصير به والتهوين لصناعته، فرحل مغاضبا ذاهبا على وجهه مستخفياً عني، وقد صنع الله تعالى في ذلك لأمير المؤمنين فأنه كان به لمم يغشاه ويفرط خبطه، فيفزع من رآه). يقول المقري (فسكن الرشيد إلى قول اسحق وقال على ما كان به (فقد فاتنا منه سرور كثير).

خرج زرياب يؤم المغرب، فلما كان بأفريقيا أتصل بصاحبها زيادة الله الأغلى. ولكنه لم يطب له المقام بها فرحل عنها إلى المغرب الأقصى، وهنا كتب إلى الحكم بن هشام، أمير الأندلس المعروف بحبه للموسيقى، يستأذنه في دخول الأندلس والصيرورة إليه، فأذن له الأمير في كل ذلك من فوره. وعبر زرياب البحر إلى عدوة الأندلس، وبينما هو يتأهب للرحيل إلى قرطبة إذ سمع بوفاة الحكم فهم أن يعود أدراجه إلى المغرب لولا أن كتب إليه الأمير الجديد، عبد الرحمن الأوسط، يستقدمه ويعده أن ينيله كل ما تصبو إليه نفسه من مال وجاه. فقدم عليه زرياب، ويروون أن عبد الرحمنأحتفل لمقدمه أعظم احتفال إذ خرج بنفسه من قرطبة لتلقيه. وما هو إلا أن سمعغناءه وحديثه حتى شغف به فغمره بفضله وإنعامه وأجرى عليه من الرواتب والأرزاق الشيء الكثير، حتى لقد كان يركب وبين يديه مائة مملوك. وقدمه الأمير على سائر المغنين وبلغ من شدة شغفه به أن جعل في قصره باباً خاصاً يستدعيه منه كلما أحب سماع غناءه الرائع وحديثه العذب الطريف.

وقد لقي زرياب النعمة بمثلها وجزى المعروف بالمعروف، ولكنه قصد إلى ذلك من طريق غير مباشر، قصد إليه من طريق النصح والإخلاص للأندلس التي أصبحت له وطناً، وأهل الأندلس الذين أصبحوا أهلا له ومعشراً. فعكف على رفع مستوى الموسيقى الأندلسية وعلى النهوض بالمجتمع الأندلسي حتى يداني المجتمع الشرقي ببغداد وقد وفق فيما قصد إليه كل التوفيق.

يمكن القول إن زريابا نهض بالموسيقى الشرقية نهضة جديدة مطبوعة بطابعه وذلك بما أدخله على العود من إصلاح وتحسين، وبما استن من طرق جديدة في إلقاء الغناء وتعليمه. فقد أتخذ لنفسه وهو بالمشرق عوداً جعله على الثلث من وزن العود القديم، وصنع أوتاره من حرير لم يغزل بماء ساخن يكسبها أناثة ورخاوة، وأتخذ بمها ومثلثها من مصران شبل أسد (فلها في الترنم والصفاء والجهارة والحدة أضعاف ما لغيرها من مصران سائر الحيوان، ولها من قوة الصبر على تأثير وقع المضارب المتعاورة بها ما ليس لغيرها). فلما كان بالأندلس زاد أوتار العود الأربعة المقابلة للطبائع الأربع وتراً خامساً يقوم مقام النفس من الجسد، فأكتسب به عوده ألطف معنى وأكمل فائدة كما يروي المقري. وأتخذ مضراب العود من قوادم النسر بدلا من مرهب الخشب (وذلك للطف قشر الريشة ونقاءه وخفته على الأصابع وطول سلامة الوتر على كثرة ملازمته إياه). وأما من حيث إلقاء الغناء فقد رسم زرياب أن يبدأ في الإلقاء بالنشيد بأي نقر كان، ثم يؤتي في أثره بالبسيط ويختتم بالمحركات والأهزاج. أما مذهبه في تعليم الغناء فيقول المقري (وكان إذا تناول الإلقاء على تلميذ يعلمه أَمرَه بالقعود على الوساد المدور المعروف بالمسورة، وأن يشد صوته جدا إذا كان قوي الصوت، فأن كان لينه أمره أن يشد على بطنه عمامة فأن ذلك مما يقوي الصوت ولا يجد متسعا في الجوف عند الخروج على الفم فان كان ألص الأضراس لا يقدر على أن يفتح فاه، أو كانت عادته زم أسنانه عند النطق، راضه بأن يدخل في فيه قطعة خشب عرضها ثلاثة أصابع، يبيتها في فمه لليالي حتى ينفرج فكاه. وكان إذا أراد أن يختبر المطبوع الصوت المراد تعليمه من غير المطبوع أمره أن يصيح بأقوى صوته يا حجام! أو يصيح آه! ويمد بها صوته، فأن سمع صوته بها صافياً ندياً قوياً مؤدياً لا تعتريه غنة ولا حبسة ولا ضيق نفس، عرف انه سوف يَنجُبْ وأشار بتعليمه، وأن وجد خلاف ذلك أبعده). هذه العبارة تشير في صراحة إلى أن زرياباً انشأ بالأندلس في أوائل القرن الثالث عشر الهجري ما يصح أن نسميه بلغة الوقت الحاضر معهداً لتعليم الموسيقى الشرقية.

ولم يكن زرياب أقل ابتكاراً في شؤون الحياة اليومية منه في مجال الموسيقى والفن، وهذا محل العجب من سيرته. فقد ابتكر لأهل الأندلس ألوانا من الطعام فاستطابوه ونسبوا بعضها إليه، وعلمهم أن يشربوا من آنية الزجاج الرقيق بدلاً من آنية المعدن، وهو أول من اجتنى لهم البقلة الشهية المعروفة بالهليون وكانوا لا يعرفونها من قبل. وعلمهم أن يبسطوا فوق ملاحف الكتان أنطاع الأديم اللين، وأن يبسطوا سفر الأديم فوق الموائد الخشبية فذلك أنظف لها وآنق لمنظرها. وعلمهم أن يلائموا بين ما يلبسون وبين فصول السنة الأربعة، فيتدجوا من الخفيف الأبيض صيفاً إلى الثقيل الملون شتاء، ولفتهم إلى أنواع من الطيب والعطر لم يلبثوا أن أقبلوا عليها وفضلوها على ما كانوا يتعطرون به من قبل، كما علمهم كيف ينظمون شعورهم تصفيفاً وتدويراً وإرسالاً.

لا ندري بالدقة متى توفى زرياب والغالب أن وفاته كانت في إمارة الأمير محمد عبد الرحمن الأوسط (238 - 273هـ) وكما رزق زرياب الحظوة عند أهل الأندلس في حياته فقد رزقتها ذكراه عندهم بعد مماته. ذلك بأن مذهبه في الغناء وما رسمه لهم من أسلوب المعيشة ظل باقياً متوارثاً فيهم حتى آخر أيامهم. فلما انتهى أمر الأندلس وخرج من تبقى من أهلها إلى بلدان أفريقيا الشمالية أنتقل إليها بانتقالهم مقدار غير قليل من صناعة زرياب وآدابه. يقول ابن خلدون عند ذكره زرياباً (فأورث بالأندلس من صناعة الغناء ما تناقلوه إلى أزمان الطوائف وطمأ منها بإشبيلية بحر زاخر وتناقل منها بعد ذهاب غضارتها إلى بلاد العدوة بأفريقية والمغرب وانقسم على أمصارها وبها الآن منها صبابة على تراجع عمرانها وتناقص دولها) ويقول المقري (وكان زرياب قد جمع إلى خصاله هذه الاشتراك في كثير من ضروب الظرف وفنون الآداب ولطف المعاشرة وحوى من آداب المجالسة وطيب المحادثة ومهارة الخدمة الملوكية ما لم يجده أحد من أهل صناعته حتى اتخذه ملوك أهل الأندلس وخواصهم قدوة فيما سنه لهم من آدابه واستحسنه من أطعمته فصار إلى آخر أيام أهل الأندلس منسوباً إليه معلوما به).

كان أهل رومية على عهد نيرون يلقبون سريا من سراتهم اسمه بطرونيوس برب الظرف وسلامة الذوق لأنه كان عندهم مضرب المثل في ذلك. أما أهل الأندلس فقد وصفوا زرياباً بأنه (معلم الناس المروءة) وهو لاشك أجمل وصف يوصف به وأحقه بأن يحفظه عليه التاريخ ويذكره به.