مجلة الرسالة/العدد 666/إلى مشيخة الأزهر ووزارة المعارف:

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 666/إلى مشيخة الأزهر ووزارة المعارف:

ملاحظات: بتاريخ: 08 - 04 - 1946


حل حاسم لمشكلة الأزهر

غاية الأزهر التي أتجه إليها منذ أكتمل أمره أن يفقه الناس في الدين وفيما تفرع عن أصوله من شتى العلوم؛ وسبيله إلى هذه الغاية أن يعلم اللغة وما أتصل بآدابها من مختلف الفنون؛ فالدين واللغة إذن هما علة وجوده وجوهر علمه وثمرة عمله. ومن مزية الإسلام أن يمرن مع الزمن ويتجدد بالعلم ليلائم كل عصر ويعالج كل حالة. ومن طبيعة العربية أن تتطور مع الجماعة وتتسع بالحضارة لتعبر عن كل معنى وتدل على كل ذات. وكان من ثمر هذه المرونة في الدين هذا الفقه العالمي العجيب، ومن أثر هذا التطور في اللغة هذا الأدب الإنساني الخصيب. فلما تدفقت الخطوب على حواظر الإسلام والعروبة فمال الميزان ودال السلطان وأنتقض الأمر وعجز العقل، جهل المسلمون مرونة دينهم فأغلقوا باب الاجتهاد، وأنكر العرب تطور لغتهم فصدوا عن سبيل الأدب. وتقدم الغرب وتأخر الشرق، وسيطر العلم وتعطل الإسلام، وتطور التعليم وجمد الأزهر، وولى المصريون وجوههم شطر أوربا يأخذون عنها ما كانت أخذته عنهم، ثم استأنفوا السير في ركب الحياة. ولكن الأزهر ظل في موقفه فلم يسر، وأخذته الصيحة من كل مكان فلم ينتبه، وسألوه أن يمدهم بشيوخ الدين ورجال العربية وهما غايته ووسيلته فلم يستطع. حينئذ اضطر أولوا الأمر إلى إنشاء (دار العلوم) لتعليم اللغة، ثم إلى إنشاء (مدرسة القضاء) لتطبيق الشريعة، وتركوا الأزهر المعمور متحفاً لآثار غير ثمينة من الكتب القديمة والآراء العقيمة؛ يتعبد بألفاظها قوم من فارغي القلوب قد اطمأنوا إلى الخمول، ورضوا بالدون، وعاشوا على فضل الناس، حتى دخلت النهضة المصرية في أوائل ربيعها المزهر، فهب كل وسنان وأنتعش كل ذابل. وتيقظ الأزهريون من رقادهم الطويل فإذا هم عراة من حلل الثقافة الحديثة؛ فطفقوا يخصفون على سوءاتهم مما تناثر حول الأزهر من ورق الربيع؛ ولكنهم ظلوا متميزين من سائر المصريين بهذا الورق الذي لا يدفئ ولا يستر، فنزعوا بأنفسهم عن معرة التخلف، وتنافسوا في اقتباس المعرفة، وأرادوا الدين للدنيا، وطلبوا العلم للحياة، وهتفوا وهتفنا معهم بالإصلاح. ولكن بقايا الراقدين على حطام الماضي يفزعون من هذا الإصلاح لأنه يجرفهم كما يجرف السيل الهشيم! فهم يلقون بأجسادهم إلقاءً في طريق الشباب ليعوقوهم عن بلوغ الأمد المحتوم، والأمد المحتوم الذي سيبلغه الشباب الأزهريون ولا شك هو أن يتعلموا ليعيشوا ما دام الإسلام لا يتبنى الرهبان ولا يتبنى الأديرة. وقد أخذوا، منذ نقل الأستاذ المراغي طيب الله ذكره صورة النظام الجامعي إلى الأزهر، يفكرون في مصيرهم بعد العالمية والتخصص، وفي موقفهم من دار العلوم وكلية الآداب، ويقولون لا نفسهم حينا وللناس حينا آخر: نحن خمسة عشر ألفاً من شباب الأمة أو نزيد، فينا مواهب وعلينا تكاليف ولنا مستقبل؛ فلم نتعلم إذا قضي علينا ألا نعمل؟ وكيف تنفق أموال الدولة على معاهد قصارى أمرها أن تخرج في كل عام قوما متبطلين لا هم لأنفسهم ولا لله ولا للوطن؟ وإذا كان تعليمنا على هذا المنهج الخاص لا يؤهلنا لاكتساب الرزق إلا من تعليم الدين واللغة في المدارس، فما غاية الحكومة إذن من قيام هذه المعاهد التي تنافسنا في الحرفة وتخاصمنا على القوت؟ وإذا كان تخلف الأزهر في عهد إسماعيل قد اضطر على مبارك باشا إلى إنشاء (دار العلوم) فما الضرورة الملجئة اليوم إلى بقائها والأزهر جامعة والدرس مستقصى والمدرس مختص؟ ولكن الدرعميين والجامعيين في الجهة الأخرى يجيبون على هذه النجوى أو الشكوى بأن الإعداد مختلف والتحصيل متفاوت، وما تستوي الفوضى والنظام ولا النقص والتمام ولا التقليد والأصالة. ووقف الفريقان يتلاحيان، رأياً إزاء رأي، واضطراباً وراء اضطراب، واحتجاجا اثر احتجاج، ومن هنا نشأت المشكلة بين المعاهد وأعضلت. وجهدت مشيخة الأزهر ووزارة المعارف جهدهما أن تعالجها بالدواء المسكن لا بالطباب الحاسم، فكانت كالثوب المتداعي كلما رتق من جانب تفتق من جانب آخر.

لذلك نتقدم اليوم إلى هاتين الجهتين باقتراح نرجو إذا خلصت النيات

وصدقت العزائم، أن يكون مقطع الحق في فض الخلاف وإصلاح

الأزهر.

ذلك الاقتراح هو:

1 - أن يلغي التعليم الابتدائي من جميع المعاهد الدينية ليلقي بمقاليده إلى وزارة المعارف، تلزمه وتقسمه وتعممه على الوجه الذي تراه. وذلك بدء الوحدة الثقافية بين أبناء الأمة

2 - أن تجعل المعاهد الدينية في القاهرة وفي الأقاليم مدارس ثانوية يدخلها حاملو الشهادة الابتدائية العامة، وتعلم فيها اللغات والآداب والعلوم على منهج وزارة المعارف. وفي أول السنة الثالثة منها يتوجه طلابها اتجاهين على حسب مرادهم واستعدادهم: إما اتجاها إلى الدين وعلومه، وإما اتجاها إلى اللغة وفنونها. فإذا انقضت السنوات الدراسية الخمس تقدم طلاب الشعبتين إلى امتحان الشهادة الثانوية مع سائر إخوانهم من جميع المدارس، يمتحنون معهم فيما يتفقون فيه، وينفردون انفراد شعب التوجيهية فيما اختصوا به. والناجحون في هذا الامتحان سيجدون أمامهم طريقين هم بالخيار في سلوك إحداهما: طريق الوظيفة الوسط، وطريق الدراسة الأزهرية العليا. فإذا اختاروا طريق الوظيفة عينوا كتبة في المعاهد الدينية، أو في المحاكم الشرعية، أو في المجالس الحسبية، أو في بعض الأقسام من وزارات الأوقاف والمعارف والشؤون، أو عينوا موثقين شرعيين في المدائن والقرى. ذلك إلى أن لهم الحق بحكم شهادتهم أن يسابقوا في الامتحان إلى أي وظيفة من وظائف الدولة. وإذا اختاروا طريق الدراسة العليا دخلوا القسم الجامعي بالأزهر

3 - أن يقتصر في التعليم الجامعي في الأزهر على كليتين اثنتين: كلية الدين وتندمج فيها كلية الشريعة وكلية أصول الدين. وكلية اللغة وتندمج فيها كلية اللغة العربية ودار العلوم وقسم اللغة العربية من كلية الآداب بجامعتي فؤاد وفاروق. ويشترك الكليتان في الدراسة العميقة للغتين العربية والأوربية، وتنفرد كلية اللغة بتاريخ الآداب العربية والأجنبية، كما تنفرد كلية الدين بتاريخ الأديان السماوية والأرضية. وذلك بالطبع فوق ما تختص به كلتا الكليتين من علوم الدين، أو من فنون اللغة. وما يتصل بهذه أو بتلك من العلوم الحديثة. ومدة الدراسة في الكليتين أربع سنين للعالمية أو الليسانس، وست سنين للتخصص أو الدكتوراه. ومن يرد من طلاب الكليتين الاستعداد للتعليم قضى في معهد التربية سنتين بعد الليسانس لمن يريد التعليم في الثانويات، ومثلهما بعد الدكتوراه لمن يريد التعليم في الكليات. والمتخرجون في كلية اللغة يزاولون تعليم اللغة والأدب في المعاهد الدينية، وفي جميع مدارس الدولة ابتدائية وثانوية وعالية، فضلا عن مزاولتهم الترجمة والتحرير والصحافة. وأما المتخرجون في كلية الدين فيزاولون القضاء، والمحماة، والإمامة، والوعظ، والخبرة، والتفتيش في المساجد والمعاهد، وتدريس الدين والشريعة في كل مكان يدرسان فيه.

بهذا النظام يحتفظ الأزهر بقديمه ويشارك في جديد الناس، وبهذا النظام تمحى الفروق المعنوية والمادية بين طلابه وسائر الطلاب، وبهذا النظام تتحقق وحدة الثقافة وتنقطع أسباب الفرقة ويساهم الأزهر في شركة المدينة. فأن أردتم الإصلاح فهذه سبيله واضحة؛ وان أبيتم إلا التخدير والتجبير والتقية، فأضيفوا من فضلكم كلية للدين إلى جامعة فؤاد ثم أغلقوا الأزهر!

أحمد حسن الزيات