مجلة الرسالة/العدد 625/بقية حديث في فرنسا. . .

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 625/بقية حديث في فرنسا. . .

ملاحظات: بتاريخ: 25 - 06 - 1945



(إلى الأستاذ توفيق الحكيم)

للأستاذ عبد المنعم محمد خلاف

قد يذكر القراء أني كتبت غداة انهيار فرنسا وسقوط باريس في قبضة الألمان سنة 1940 في عددي 12 - 8 - 1940 و 2 - 9 - 1940 من هذه المجلة مقالين أندد فيهما بذلك الموقف الشاذ الذي وقفه بعض كتاب مصر والشرق العربي يبكون فرنسا بدمع غزير وعاطفة حارة ناسين أن فرنسا أشد أمم الاستعمار تعصباً على العرب والمسلمين ونكاية بمن وقع منهم في يدها وتحت سلطانها، وأنها كانت أعظم عائق في طريق المفاوضين المصريين في مؤتمر (مونترو) لإلغاء الامتيازات الأجنبية في مصر، وأنها كانت آخر دولة تنازلت عن دفع فوائد الدين المصري بالذهب في الأزمة التي وقعت بهذا الخصوص، وأنها كانت أشد الأمم احتياطاً وتشدداً في ضمان الحرية للمعاهد الأجنبية في مصر.

وقد يذكرون أيضاً أن هذين المقالين كانا سبباً في أن يمنع ممثل فرنسا في سوريا ولبنان في ذلك الوقت دخول (الرسالة) إلى هذين القطرين الشقيقين برغم أن الرسالة أفسحت صدرها لمن ردوا على رأيي منتصرين لفرنسا ومدافعين عن ميراثها الثقافي وروحها كما تراءى لهم. وكان منهم الدكتور زكي مبارك.

وقد بعثت إلى الرسالة بمقالين آخرين لم ينشروا حينذاك تمهيداً لعقد هدنة بين ممثل فرنسا ولبنان وبين الرسالة.

وقد ضاع المقالان ولم يبقى لدى مهما إلا مسودات سأحاول الآن جمع ما تفرق من المعاني فيهما لأن الظروف قد صدقت رأيي في فرنسا، وجلبت عليها عداوة كثير من أقلام عربية وغير عربية من جراء تخبط سياستها ورجالها، ومن جراء تلك الروح الوحشية البربرية الرجعية الحمقاء التي تزاول بها سياستها مع شعوب العالم العربي، ومن جراء ذلك التخلف الذهني يبلغ درجة الانحطاط عن مستوى الروح العالمي الإنساني الذي يغمر قلوب بعض الأوصياء على الحضارة، على الأقل في مظاهر الخداع والإرضاء ومحاولة الوصول إلى الأهداف من طرق ملتوية ولكنها سليمة.

وما أظن أحداً من أذناب فرنسا في مصر يستطيع أن يرفع رأسه ويحرك قلمه الآن للدفاع عن فرنسا إلا بجذر وتمويه ولذعات خفية وظهور بمظهر الغيرة على موقف مصر بموازية موقف إنجلترا منها بموقف فرنسا في سوريا ولبنان وشمال أفريقية، كما يفعل الأستاذ توفيق الحكيم في (الأهرام) بين آونة وأخرى مع أنه ظل ساكتاً لا يعلن سخطاً ولا نكيراً على سلوك فرنسا الأخير في سوريا، ومع أنه ربما يكون لاستنكار أمثاله من ربيبي فرنسا الأوفياء شيء ولو قليلاً من الاعتبار. حتى إذا ما تحركت إنجلترا بإيقاف تلك (المذبحة الكبرى) تحرك قلمه يغمز ويلمز في مظهر الغيرة على الوطنية المصرية. وهو موقف مكشوف ظاهره الوطنية وباطنه تبرير موقف فرنسا بمقارنتها صنيعها بصنيع إنجلترا في مصر. وما كان أولاه أن يتحرك قبل الآن ليثير الغبار والشرر والنار في وجه الفرنسيين المعتدين الغاشمين على أبناء قومه في المشرق والمغرب، إن كان يدين بالقومية العربية التي يعيش من الكتابة بلغتها. . . أو ليغمز الإنجليز كما يشاء

وأنا بعد أم لمست أخيراً حماسته لفرنسا حماسة نسي فيها أدب الحديث والمناقشة مع بعض الجالسين في إحدى جلسات ندوة لجنة التأليف والترجمة والنشر، ينبغي ألا أصانعه، بل ينبغي أن أكشفه وأكشف أمثاله للعالم العربي ليعرف في ساعة العسرة والأزمات هؤلاء الذين يعيشون معه بأجسامهم فقط. . .

وإني أدعو الأستاذ سيد قطب أن يكشف عن هذا الأثيم الذي جادله في أمر الشرق العربي وفظائع فرنسا فيه، وقال تلك المقالة المنكرة (إذا لم يكن بد للإنسانية من أن تفقد فرنسا أو أن تفقد هذا الشرق العربي فليذهب الشرق العربي إلى الجحيم!) فما ينبغي لنا بعد اليوم أن نبقى على صداقات تنكر الصداقة الأولى التي يعرفها الحيوان قبل الإنسان وهي صداقة الوطن والجنس، فعليه أن يكشف هذا الدخيل الجاهل وهو معافى من قيود الأخلاق في مثل هذه الحال.

المقال الأول

مما لم ينشر في سنة 1940

إلى ممثل فرنسا في سوريا ولبنان

كتب الدكتور زكي مبارك إلى جنابكم كتاباً مفتوحاً نشر في العدد من (الرسالة) حاول فيه أن يبرئ الرسالة من جرائر المقالتين اللتين أنحيتُ فيهما باللائمة الشديدة والسخط البالغ على أساليب فرنسا الاستعمارية التي لا تفرق فيها بين الشخصية السياسية للمحكومين لها وبين شخصيتهم الإنسانية والأدبية التي تتطلب غذاء لأرواحهم وعقولهم في هذا العصر الذي تسمونه عصر العلم والنور وارتفاع قيمة المعاني الإنسانية، وقد أدى عدم التفريق هذا إلى تخلف العرب والبربر المحكومين بكم عن قافلة الحياة الإنسانية بمائة سنة على الأقل تقدير. وفي هذا جناية عظيمة على الحضارة بحرمانها من جهود أمة من أذكى أمم الأرض وأعرقها مدنية، وجناية على المبادئ السامية التي زعمتم أنكم أول من أعلنها في ثورتكم الكبرى.

وقد طلبتُ من الباكين على فرنسا في محنتها الحاضرة أن يذكروا محنة بني قومهم بكم قبل أن يذكروا محنتكم بالألمان؛ وأن يكفُّوا عن افتتانهم بحضارتكم فتنة العمى عن عيوبكم وجناياتكم على الإنسان بحرمانه من خبز الروح وخبز البدن. . . مما لم ير العالم له مثيلاً إلا في عصور البربرية والهمجية.

وطلب من هؤلاء الباكين أيضاً أنهم إذا ذكروا (باستور) وفضله على الإنسان كما ذكره الدكتور زكي فليذكروا أنكم الآن تحكمون البشر أقل من حكم البقر والغنم التي كانت في حظائر (باستور) ليجري عليها تجاربه وأبحاثه؛ فقد كان يسمنها ويربيها ويداويها ويبقى على حياتها ويفكر لإنقاذها من الأمراض ويعدها للغاية التي خلقت لها. وإذا أحيا (باستور) ملايين الأجسام فقد أمات قومه ملايين الأرواح والأجسام موتاً مادياً وأدبياً أخف منه الموت بالطاعون والأوجاع الثقيلة التي تقتضي على الإنسان مرة واحدة ولا تهدر دمه وترخص روحه.

وإذا ذكروا (شمبوليون) وفضله على مدينة أجداد المصريين كما ذكره الدكتور زكي فيذكروا أنه جاء مصر غازياً في حملة نابليون الذي نكل بالمصريين تنكيلاً فظيعاً، فإذا احتفل الأول بأحجار قدماء المصريين فقد أباح الثاني لجنوده أن يتخذوا من الأزهر - صاحب الفضل الأول على الدكتور زكي مبارك! - اصطبلاً لخيلهم، وأن يحرقوا أحفاد صانعي الأحجار التي فتن بها (شمبوليون) بالنفط ويضربوا نطاقاً من المواد الملتهبة حول القاهرة وحواضر الأقاليم. وكتب نابليون إلى أحد قواده يأمره بقطع خمسة رؤوس كل يوم من أعياد البلاد كما يقطع هو كل يوم عشرة رؤوس منهم!

وإذا ذكروا (السوربون) وفضله على الأدب والعلم فليذكروا الأزهر الذي اتخذته جنودكم اصطبلاً للخيول ولم يرعوا العلم والدين حرمة.

وإذا ذكروا انتفاعهم بعلومكم وفنونكم، فليذكروا أنكم كنتم أشد الأمم إصراراً على الاستمرار في إهدار الكرامة المصرية وكنتم الشوكة الوحيدة في حلوق المفاوضين المصريين في مؤتمر (مونترو) لإلغاء الامتيازات الأجنبية، التي كانت تجعل من السنغالي التابع لكم شخصاً له امتياز على المصريين في ديارهم. وأنكم كنتم آخر دولة وقعت على محضر إلغاء صندوق الدين: رمز الذل الاقتصادي الذي أصاب مصر، فلم توقعوا إلا بعد هزيمتكم ونكبتكم، وأنكم كنتم الوحيدين الذين أصروا على دفع فوائد ديونهم في مصر ذهباً لا ورقاً، وأنكم وحدكم الذين عنيتم بفرض ضمانات شديدة لاحتلالنا بثقافتكم.

وإذا ذكروا التماثيل والأنصاب التي تجمل مدنكم، فليذكروا أن أشرف نُصُب فيها وهو ضريح الجندي المجهول في باريس يثير في نفوس العارفين ذكرى أكبر مخزاة ومظلمة ونكران للجميل! فقد ذكر سكرتير مسيو (كلمنصو) في مذكراته أن حكومتكم لما فرغت من إقامة بناء ذلك النصب التي تحته قبر الجندي المجهول في باريس أرادوا أن يضعوا فيه جثة جندي فرنسي، فذهبوا إلى ميدان موقعه (المارن) الشهيرة، وصاروا ينبشون لإخراج جثة. وشاء الله أن يسجل على فرنسا لعنة أبدية حيث أرادوا لها فخراً. فكانوا كلما نبشوا عن جثة وجدوها جثة قتيل من جنود شمال أفريقية فيردمون عليها، وهكذا يهتدوا لجثة جندي فرنسي (أبيض) إلا بعد عثورهم على ثلاثة عشر جثة للمغاربة! ومع هذا لم ينصفوا قوم هؤلاء القتلى الذين ذهب ملايين منهم ضحايا في سبيل فرنسا أي إنصاف، ولم يمكنوهم من اقل الحقوق الإنسانية وهي حق الحياة والعلم، وأبو أن يضعوا جثة أحدهم مكان جثة فرنسي قح. . .

وإذا ذكر الباكون أنهم عاشوا بباريس في رحاب الشراب والحب والغزل والأنس، فليذكروا أن بطلاً كريماً هو المجاهد محمد عبد الكريم الخطابي بطل ثورة الريف في مراكش الذي تفخر به قوميتهم أعظم من فخرها بأي قلم تافه لأحدهم. . . قد مضى عليه خمسة عشر عاماً (الآن مضى عليه عشرون عاماً) وهو ملقى في أصفاده على صخور جزيرة مدغشقر، وأنه لم يسلم نفسه لفرنسا إلا بعد عهد قطعة على نفسها ثم نكثت به وخانت شرف اسمها، وأن هذه الأمة الفرنسية التي لا يزال قلبها يتنزى ألماً وحسرة على نهاية بطلها نابليون لا تشعر أي شعور إنساني نحو أمثاله من الذين نهضوا يذودون عن حرية قومهم ومجدهم.

فيا جناب ممثل فرنسا! أظن أنك رجل تغار على قوميتك وتدافع عنها! فدعنا نفعل ذلك دائماً

وأظنك ترى معي أن كل من يضفي على فرنسا حنان قلبه ويغسلها بدموع عينه من المصريين إنما هو أحد رجلين: رجل جاهل بجرائركم على أمته وكرامة قومه، قد استسلم للفتنة بما عندكم، وهذا لا يليق به أن يتصدى لقيادة الشباب بقلمه مهما كان له من الحسنات في مجال (الترف العقلي) ولا يجوز لكم أن تعتبروه معبراً عن هذه الأمة المصرية حين يرسل لمصرع أمتكم دموعاً تشهد عليه أنه غير سليم الموقف ولا صحيح الطبع، وإنما هو ذو مزاج مؤوف ورأي منكوس.

وإما رجل يعرف هذه الجرائر ولكنه يطويها عن الناس في نفسه ولا يذكرهم بها ليبين لشباب قومه المفتون جوهر نفوسكم وحقيقة حضارتكم، لأنه صريع الخيانة أو مأجور القلم. وهذا لا شك رجل تافه الصداقة تافه العداوة؛ فليس فيه نفع لكم لأنه لم ينفع قومه. وهو جدير أن ينقلب عليكم حين تفوته المنفعة، ولأنه لم يعشق روحكم التي يزعمها روح أحرار، فلو عشقها حقاً لكان أول من حاكمكم إليها حين رآكم تحيدون عنها وخصوصاً مع بني قومه

وإذا كان فيما مضى كتاب خادعون أو مخدوعون فتنوا بمظاهر حياتكم فتنة العمى عن حياة قومهم المعذبين بكم، وصالحوكم ولم يذيقوكم مرارة العداوة والثأر من سمعتكم، لإخوانهم، فإن الزمن الآتي لن يسمح لأمثالهم أن يسيطروا على عقول الشباب العربي، بعد أن نطقت حوادث الزمان أنكم قوم لا تصلحون لوصاية على أحد أنكم أنتم محتاجون في الواقع إلى أوصياء يهدونكم سبيل الرشد.

عبد المنعم محمد خلاف