مجلة الرسالة/العدد 589/حول مقال. . .

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 589/حول مقال. . .

ملاحظات: بتاريخ: 16 - 10 - 1944



للدكتور سيد نوفل

كتبت مقالا في مجلة (الثقافة) عن الشوامخ سلكت فيه طريق الناقد المعنى بتبيان الحقائق، وعرض المآخذ، في أسلوب علمي يورد الحجة، وينأى عن التجريح

أوردت ملاحظاتي على أبواب الكتاب، وبينت ما يشيع فيه من الاضطراب والاستطراد، وما يرد من أقوال عامة، يقع فيها أكثر الذين يأخذون العلم عن الصحف وحدها، تتناقض حيناً، ولا تثبت للبحث دائماً

وانتهيت إلى (أن هذه الصفحات المائة تتحدث عن الأدب العربي من امرئ القيس إلى مطران، وإن المؤلف كان حريصا على إيراد كل علمه فيها، فران عليها الاضطراب والاستطراد، وأنها لا تعدو الإيراد المقتضب والنظرات العجلى)

ثم لم أغمط المؤلف حقه فقلت: (لكنها في الحق من قبيل التعبير القريب الهين عن إعجاب قارئ بشاعر اطلع على بعض شعره، وطائفة من أقوال الناس فيه. ومن هنا فهي حقيقة بالحمد من مؤلف يعتبر نفسه مؤرخا سياسياً)

لكن الدكتور المؤرخ، هاج وماج على طريقته، ونقم على حظه العاثر، وتبين نفسه في موضعها القلق من هذا العالم الظالم العاتي، وبلغ التشاؤم منه مبلغه، فضاق بالدنيا وبكل ما فيها من معان ومن فيها من ناس. . .

ومن حسن الحظ أن عقل الإنسان، أو بعض بني الإنسان، يجد لصاحبه مخارج من المآزق دائماً، فهدى الدكتور عقله الكبير إلى أن له أسوة، ويا لها من أسوة! فيما أصاب شوقي، وما أصاب البحتري وفكتور هوجو من قبله. . . قد تعرضوا لهجمات النقاد وقد صبروا، وما أجدره أن يصبر، وألا يحمل نفسه ولا أهله مكروها. ولهذا اطمأن واستراح

هذه خلاصة دقيقة لمقال الدكتور الذي صاغ مادته، وأعتذر للقراء من إيراد بعض ألفاظه، من (البقر) و (الحمير) و (النطح) و (الدجل) و (الجهالة) و (الشذوذ) و (الفوضى)، وما إليها من مسارح ندع الدكتور الأديب المؤرخ يجول فيها ويصول، ونمر باللغو كراما

وأبرئ نفسي من مناقشته الحساب في هذا، فنحن لم نتعلم هذا اللون من القول، ولم نصطنعه فيما مارسناه من نقد سنين طويلة. وأختتم حديثي بنقد الكلمة التي اعتبرها المؤلف بيت القصيد في كتابه، وأوردها حكما بيني وبينه:

لقد جعل أولها قوله: (وليس لأحد من المتقدمين والمتأخرين تحليقاته في أفق الطبيعة الواسع)

سبحانك اللهم وبحمدك! هذا دليل لنا يورده المؤلف ذاته، ومصداق لما أخذناه عليه من الأحكام العامة القاطعة. التي لا يستطيع أحد أن يحمل تبعة الدفاع عنها، ولا يثبت أكثرها في العلم بله الأدب

هل أتاه حديث الشعر الذي سبق امرأ القيس والشعر الذي عاصره في الطبيعة؟!

وهل علم المحاولات التي أعقبته، وحديث النهضات المترامية في الشام والمشرق والأندلس ومصر بعده بقرون؟!

وهل درس حركة (الرومنتسزم الغربية) وسيادة شعر الطبيعة فيها، وقابل بين الخطوط الكبيرة لهذا الشعر الغربي، والخطوط الكبيرة لشعر امرئ القيس، ثم انتهى إلى ما قرر؟!

إن هذا اللون من الأحكام العامة منكر في باب البحث العلمي

ثم يقول: (وله في لمعان البرق واختلاجه في السماء آيات لا هي من الوصف الحسي، ولا هي من الوصف الخيالي، وإنما هي تصوير فقط)

ما معنى هذا؟ لقد طلبت المعونة من الله والناس على حل الغاز هذه العبارة، فلم يجب دعائي، ثم نظرت فتبينت الإحالة على أتمها: الحسي يقابله المعنوي لا الخيالي، فهذا يقابله الحقيقي أو الواقعي. والوصف الحسي تصوير والوصف المعنوي تصوير، وإذاً فلا تقوم هذه المقابلة العجيبة بين الوصفين وبين التصوير، وما نعلم أن تصوير الشيء يخرج عن أن يكون وصفا حسيا أو معنويا له!

ودع عنك الألفاظ البراقة التي استعملها والتي لا تجمل في باب الدرس والتحليل إلا إذا كان من ورائها معان مقررة ودلائل بينة

أما الأبيات التي أوردها، والتي تعتبر أقل شعر امرئ القيس دلالة في باب الطبيعة فهي ناطقة بأنها وصف حسي واقعي اللهم إلا إذا كان البصر بالعين غير حسي، وكان تصوير الحركات والأمكنة غير واقعي وكان الشاعر حريصا على الواقعية حين اكتفى بالتشبيه ولم يستعر وهذه هي الأبيات:

قال:

أصاح ترى برقاً أريك وميضه ... كلمع اليدين في حبي مكلل

وقال:

أعني على برق أراه وميض ... يضيء حبيباً في شماريخ بيض

ويهدأ تارات سناه وتارة ... ينوء كتعتاب الكسير المهيض

وتخرج منه لامعات كأنها ... أكف تلقى الفوز عند المفيض

وبعد، فإن النقد الذي وجهته إلى الكتاب لا يزال قائما لم يتناوله المؤلف بالرد، وإنما دعمه بالتجائه إلى الشتائم وبالقطعة التي أوردها

فهل له أن يأخذ بطريق العلم والعقل؟!

أنا لمنتظرون!

دكتور

سيد نوفل