مجلة الرسالة/العدد 589/الأستاذ سيد قطب

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 589/الأستاذ سيد قطب

ملاحظات: بتاريخ: 16 - 10 - 1944



بين تيمور ونجيب محفوظ

للأستاذ سيد صلاح ذهني

نشر الأستاذ الناقد سيد قطب مقالين عن القصة في مجلة الرسالة الغراء تحدث في أولهما عن أدب محمود تيمور، وعرض في الثانية لقصة الأستاذ نجيب محفوظ (كفاح طيبه)، وبقدر ما أثار مقاله الأول دهشتي؛ فإن مقاله الثاني قد خفف من هذه الدهشة أحالها إلى أسف عميق للوقت المضاع الذي صرفته في قراءة المقالين - وكلاهما عن القصة - متوقعا مرجو الفائدة من مقالين لناقد اشهد أني طالما قرأت له في النقد أبحاثا طيبة.

أما الدهشة فقد كان مبعثها حيرة ناقد يفهم في القصة أمام فن الأستاذ تيمور وأمام الطائفة (ولا أقول المدرسة فقد أوقع هذا اللفظ الأستاذ سيد قطب في سلسلة من الأخطاء) التي يمكن أن يوضع بين أفرادها.

أجل. لقد تملكت الحيرة الناقد سيد قطب ودار يطرق بفن محمود تيمور أبواب المذاهب الأدبية باحثا له عن مأوى يركن إليه فما وجد. فآب إلينا بعد رحلته ينادي بحيرته، ويقول أنه حائر بهذا الرجل (محمود تيمور) وبفنه.

دهشت كل الدهشة لأنني، ولست ناقداً، استطعت أن أضع تيموراً في مكانه منذ أقاصيصه الأولى، واستطاع العشرات ممن الكتاب أيضاً أن يضعوه في هذا المكان، فقلت وقالوا عنه أنه واحد من رواد المذهب الواقعي، واختلفت واختلفوا في أمر واحد، هو قدر تيمور بين رواد هذا المذهب. وهنا تشعبت الآراء واختلفت، وأحسب أن كاتبا من الكتاب غير تيمور لابد إذا وضع موضع الدراسة والتقدير أن يعاني نفس الاختلاف بين ناقد وناقد، لأن مذاهب الأدب ومدارسه، ليست كما يتصورها الأستاذ سيد قطب معسكر اعتقال تحكمه قوانين صارمة، وإنما هي في الواقع تسمى مدارس تجوزاً، حقيقة الأمر فيها أنها مجرد أبواب. أبواب مختلفة لمدرسة واحدة، لكل طائفة باب تسلك منه إلى داخلها، ولن تقوم القيامة حين يدخل كاتب من باب غير بابه، ولن يشنق الناقد إن سلك كاتباً في غير طائفته فلابد واجد في أدبه ما يصله بهذه الطائفة أو تلك أو غيرها.

لذلك دهشت ورثيت للأستاذ سيد قطب وهو يدور بتيمور فأتعب الرجل وأضنى نفسه.

ولو علم أنه وهو يطوف بتيمور أقحم ثلاثة غيره في غير أبوابهم فما قامت القيامة ولا أمسك إنسان بتلابيبه لأراح نفسه

ألم يضع توفيق الحكيم صاحب مذهب في القصة، وليس لتوفيق في القصة ناقة ولا جمل، وما كان فيها صاحب مدرسة؟

ألم يهمل توفيق الحكيم نفسه حين تكلم عن الرواية المصرية في مقاله الثاني عن رواية نجيب محفوظ (كفاح طيبة)؟ هنا حيث المجال طيب للمقارنة وسلك الكتاب في طائفتهم واجب. فكلاهما ولى وجهه شطر مصر القديمة، وكلاهما أخرج عملا مصريا يشيد بمجد مصر القديمة؟

ألم يقحم أستاذنا المازني في سلك كتاب القصة، ومع ما أكنه ويكنه الكثيرون للأستاذ المازني من تقدير؛ فما جرؤ واحد منا أن يقول عنه أنه صاحب مذهب في القصة؟

ثم ألم يمسك بيد القصصي البارع يوسف جوهر ليقوده إلى حرم جي دي موباسان حيث كل شئ غريب عليه، ولو أنه أمسك بيده الأخرى تيمور لأنقذ نفسه وصاحبه من الخجل، ولوجد بين يدي موباسان عذراً لزيارته الطارئة. أنه على الأقل كان يدخل بإنسان يعرف المكان؟

ومع ذلك فما حدث كان يسيراً، أربعة أخطاء يسيرة

وضع كاتب رواية بين كتاب القصة القصيرة

ووضع كاتب مقالة ممتاز في عداد القصصيين.

وأقحم يوسف جوهر في مدرسة موباسان دون مؤهلات، ولا حتى طلب التحاق. . .

ورابعة الأخطاء - وليست الأثافي - الوقوف بتيمور أمام الباب الذي يجب أن يدخل منه، باب الواقعية، باب موباسان العظيم. الوقوف ساعات ثم الانصراف بالحيرة والتبلبل، ولا ذنب لتيمور إلا أنه وقع بين ناقد فاضل لا يجيد قراءة اللافتات (اليُفط)!

وبعد!

أيجب أن أقول إن الناقد الفاضل سيد قطب، كما اخطأ في مقاييس النقد قد أخطأ في حق التاريخ - علم التاريخ - فزلت قدمه في مقاله الثاني بدفعة لعينة من تلك العقيدة التي تسيطر عليه من أن النقد لا يكون صحيحا إلا إذا كشف عن نقائض، أو ابتكر نقائض. . .

ذلك ما حدث في المقال الثاني الذي كتبه عن الرواية الرائعة (كفاح طيبه) للأستاذ نجيب محفوظ. فقد سرد ما في القصة من مزايا وما لها من قدر كعمل قومي، ولون من الكتابة بتطلبه الأدب المصري، وأثنى على الكاتب، ثم! ثم تذكر عقيدته في النقد فكشف عن بعض الهنات التي انطوى عليها الكتاب، فذكر من هذه الهنات أربعة أخطاء. أخطاء تاريخية!

الأولى أن المؤلف - نجيب محفوظ - قدر مدة حكم الرعاة (الهكسوس) في مصر بمائتي عام، والراجح (عند الأستاذ سيد قطب) أنها حوالي خمسمائة عام

والثانية أن كلمة (أحمس) أولها للمؤلف أنها مشتقة من الحماسة، وهذا خطأ في رأي سيد قطب، لأن هذا الاشتقاق في اللغة العربية، وأحمس مجرد اسم مصري قديم

والثالثة: أن نجيب محفوظ ذكر اسم (بلاد النوبة)، والواقع أن النوبة هي التسمية الحديثة لهذه البلاد

والرابعة: أن المؤلف ساق خلال الحوار جملة على لسان سكنن رع الملك المصري، يستنكر فيها أن يكون للرعاة من العجلات الحربية أضعاف ما للمصريين منها. ولا يعجب هو بهذا الاستنكار، لأن الهكسوس هم الذين أدخلوا العجلات الحربية إلى مصر

والحق أن المخطئ هو الأستاذ سيد قطب!

ذلك أن ما قاله نجيب محفوظ هو الحقيقة التاريخية الثابتة

فالهكسوس لم يمكثوا في مصر أكثر من مائتي عام، بل أقل من ذلك.

وليعد الأستاذ سيد قطب إلى المرجع العربي الذي يستطيع أن يحصل عليه ويقرأه بسهولة، وهو (المجمل في تاريخ مصر) الجزء الخاص بمصر القديمة من وضع الدكتور عبد المنعم أبو بكر

وبلاد النوبة هي نفسها بلاد النوبة القديمة، كما أن كلمة (نوب) معناها القديم هو الذهب، وكان المصريون يسمونها النوبة، لأنها بلاد الذهب، ويسمعون الإله (حوريس) (حوريس نوب)، أي حوريس الذهبي.

أما بلاد بنت التي يقول عنها فهي الصومال الحالية!

وأحمس اسم بمعناه يدل على الجرأة والإقدام في اللغة المصرية القديمة.

وأما قصة العجلات الحربية فالكلام الذي ورد في الحوار على لسان الملك سكنن رع حقيقة تاريخية

فهو يقول: (لم تكن العجلات من آلات الحرب لدي الرعاة، فكيف يكون لجيشهم أضعاف ما لجيشنا منها؟)

فالعجلات لم تكن من آلات الحرب لدى الرعاة، كانت آلتهم الحربية هي الحصان، وعندما مروا بفلسطين عرفوا العجلات واستخدموها، ونفس اشتقاق كلمة عجلة أو مركبة من الكلمة القديمة (عَجُلْتي) أو (مَركبوتْ) معناها العجلة أو المركبة عند سكان سوريا وفلسطين وهي نفس الكلمة التي أطلقها المصريون إذ ذاك. ولا يعنى ذلك أن المصريين لم يعرفوا العجلات، فقد عرفوها من قبل ورأوها قطعا في رحلاتهم وغزواتهم في عهد الدولة الوسطى والدولة القديمة، لكنهم لم يستعملوها ولم يأخذوا بها. فليس غريبا أن يستنكر الملك أن يكون لدى الهكسوس عدد كبير منها، بينما ليس يديه هو هذا القدر وهو صاحب مصر العليا، ولديه من الأيدي الصانعة أضعاف ما لدى ملك الهكسوس

هذه هي الهنات التي كشفها الأستاذ سيد قطب. إنما هي حقائق تاريخية لا تقبل الجدل. وكل ما كشف عنه الناقد هو حاجته للكثير من الاطلاع والتريث والصبر، الكثير الذي يجنبه حيرة هي أقرب شئ للجهل، ويجنبه أخطاء أن تكررت فقد تدعو الكثيرين من أمثالي ممن اعجبوا به في أبحاثه الماضية لإعادة النظر في كل ما رواه إذ ذاك على أنه حقائق

فإن لم يكن لديه الصبر فليعد إلى نقد الشعر، ولن يضيره شيئاً أن يقال أنه ناقد شعر فحسب

صلاح ذهني