مجلة الرسالة/العدد 574/الطبيعة في الصيف

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 574/الطبيعة في الصيف

ملاحظات: بتاريخ: 03 - 07 - 1944



جلاد الضلال. . .

(الهجير)

(الجزيرة في هاجرة الصيف)

للأستاذ محمود حسن إسماعيل

دعوها على راحاته الخضر ترتمي ... فقد شفها برح الهجير المسمم

رمت فوقه أشجانها وتنفست ... إليه بشكوى عابر لمخيم

ولاذت به مفطورة، فظلالها ... أسارير وجه اليائس المتهجم

وأدواحها ركبانَ دور أحالهم ... ضلال الفلا أصنام دير مهدهم

تناجت بصمت أيقظت هجساته ... يمامات طهر صاحيات كنُوَّم

هَففنَ، وذرَّفنَ التغني صبابةً ... فخطَّفنَ إحساسَ الغصون المكتم

وأغفت على حضن من الموج نائم ... بَخيل الرُّؤَى إلا على كل ملهم

هو النيل رباها على الحب والهوى ... وعانق شطيها عناق المتيم

وطوق جنبيها فلاحت غريبة ... على ساعديه من أسى البين تحتمي

وتحكي له أشجانها، وحديثها ... يغني بلا عود، ويشكو بلا فم

تضوع غراما وانتظاراً وحيرة ... وشعراً إلى غير الهوى كم يُنغم

يمر على محرابها الناس غُفَّلاً ... كما مر بُوِذيٌّ على دار مُسلم

وتسرى حواليها السفائن خشعاً ... سُرَى تائب في كعبة الله مُحرم

نشق عباباً مات هسهاس موجه ... فلاح كمشتاق إلى نفسه ظمى

ولولا خطا تياره لحسبتها ... تماثيل طير في سراب مدوم

لها شرع بيض الحواشي متونها ... كأعلام جيش مستجير مُسلم

سكون ولكن في حنيات صدره ... بقايا لُهاث الشد في قلب مجرم

وأقعي على الأسوار قيظ رأيته ... يطل بوجه الحانق المتندم

يلوح كجلاد الطلال وهذه ... سياط اللظي منه طوال التضرم يكدنُ يحلن الَظل وهماً وغصنه ... تهافت مفزوع عميق التوهم

تشاكي من التعذيب فرع وطائر ... وعشب فكان الروض إيحاء مأتم

وأوقف نعش الريح لاَ كفُّ لاَحد ... ولا خطو بَكَّاءٍ كثير الترحم

تَعَّرى عن الأستار، فهو مكَّفنٌ ... بضوء على الأغصان حيران مُحجم

شواظ ولا نار، ونار ولا لظى ... ورؤيا لهيب في خيالي وفي دمي

وموقدُ عبَّادين مات لهيبهُ ... وشبت أغانيه سعيراً بأعظمي

وكنت أرى والنار لم تبد سجدة ... مجوسية قامت على كل مجثم

وركباً من التهيد تخفي وجوهه ... وتنظر من وجه الأثيم الملثم

وحائرة من عالم الزهر أطرقت ... حداداً على عطر الصباح الململم

مقيدة، ملهوفة، ذات آهة ... مقيدة تبدو كطيف مجسم

تمد يدها للغدير، وقلبه ... إلى عودها يجري بكوب محطم

أظمآي تنادي ظامئاً؟ من رآى الأسى ... يُغيثُ الأسى في الخاطر المتألم؟!

لقد بُحَّ صوت الجو برحاً ولهفة ... كما بَحَّ سر الغيث صوت المنجم

وهاجرةُ يشوي بها الظل مثلما ... يقلب في الأشواق قلب المتيم

لها وهوهات في الربى خلت أنها ... فحيح أفاع من زوايا جهنم

رميت بها حران أحكي حكاية ... عن الصيف لم أنبس ولم أتكلم

ولكني أروي عن الوحي كيفما ... روي لي بأطياف الخيال المهمهم

لنفسي أحكيها، ومن هول سحرها ... طلاسم سمعُ الغافلين المَختَّم. . .

رأيت جحيماً لم تُباركه فارس ... بعباد نار من بنيها مزمزم

ولم يرن طواف إلى قباسته ... بقلب من التسبيح شاد مرنم

ولا حدثت عنه الخرافات أهلها ... ولا خط عنه الوهم حرفاً بمرقم

له وهجُ يصلي الوجوه بحره ... ويفهق كاليحموم في مسرب الدم

وألسنة بيض لَهُنَّ رطانة ... بمثل لغاها كاهن لم يتمتم

كأن عفاريت الظهيرة طنبوا ... خياماً على هذا البساط المضرم

تنادوا بألفاظ صداها وساوس ... سمعت معانيها بآذان أعجم. . .

وجو غضوب الذر يكظم نقمة ... ويكتم غيظ الساخط المتبرم

شممت به ريح المعاصي سخينة ... محملة الأنفاس من كل مأثم

يفحُّ كجراع الشكوك هواجساً ... لهن دبيب السم في رأس أرقام

وألحد صوفي النخيل، فما أرى ... به هِزة كانت إلى النسك تنتمي

لقد كان رعاش الأيادي تبتلاً ... إلى الله لم يدنس، ولم يتأثم

ولم يجن ذنباً يبتغي عنه توبة ... مع الناس يدعوها بكف ومعصم

أما قام في الفجر الرطيب مؤذناً ... يصيح بتكبير على العقل مبهم

فما باله أصغي وأصغت ظلاله ... كمنتظر حكم القضاء المحتم!

وألقي على الأفق المصفد نظرةً ... كأصفاد عيسى والتفاتات مريم

وأزهق إحساس الطبيعة، فاغتدت ... كخزن على كتم الشكايات مرغم

كأن ثكالي مخرسات على الرُّبى ... شليلات همس الروح والجسم والفم

وقفن عليها ينتظرن معزياً ... وطرف المعزي عن طريق الأسى عمى

طرحن مناديل الظلال على الثرى ... وكاد بهن العود كالظل يرتمي

وأطرق فيها كل شيء فما بها ... سوى طيف مصلوب وإيماء مسقم

كأن القصور الشامخات بأرضها ... محاريب جن في مزار محرَّم

يطن حواليها الهجير كأنه ... تخافت عار حول عرض مَثَّلم

وينفخ كالحداد ناراً شرارها ... تناهش خزى في ضمير مذمم

مشيت بها حيران أشبه خاطراً ... بقلب ملول جازع اليأس مظلم

أفتش عن سحر الربيع وعطره ... كأني نقَّابُ بأحشاءِ منجم

لقد مات! واغتالت مغانيه بغتة ... كما اغتال عصف الشك أحلام مغرم

ألا أين هفهاف النسيم بأيكها ... وأين مزامير الضحى المبتسم؟

وأين أغاني الموج والموج شاعر ... وإن لم يُذِع شعراً ولم يترنم

وأين الهوى إني حملت ربيعهُ ... بقلب من الأشواق عات مدمدم

وهمت على صيف الجزيرة شارداً ... بحبي كسرٍ في حشاها مطلسم

أحب لياليها، وأهوى تُرابها ... وأهوى غروب الشمس في أفقها الظمى فقدت أليف الروح بين شعابها ... وعدت بحزن المستطار المتبم

كأني هجير تائه فوق أرضها ... يغني بناي من أسى النفس ملجم

محمود حسن إسماعيل