مجلة الرسالة/العدد 56/من الفصول التي يجب أن تقرأ مرارا

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 56/من الفصول التي يجب أن تقرأ مرارا

مجلة الرسالة - العدد 56
من الفصول التي يجب أن تقرأ مرارا
ملاحظات: بتاريخ: 30 - 07 - 1934


ً

العاطفة في الأدب

لغوستاف لانسون الأستاذ بكلية الآداب في باريس

ترجمة الأستاذ محمد روحي فيصل

- 1 -

تعوق العقل عن التأمل والتفكير أمور شتى وعلل مختلفة، أهمها في نظرنا هذا الاعتقاد السائد أن نشاط الذهن يخمد العاطفة المشبوبة، ويقتل النزوة الحية، ويحبس القلب الخفاق، فلا أماني ترف، ولا أحلام تطيف، ولا ذكرى تلوح، ولا هوىً يبوح، وإنما العقل كله قد نأى عن ركدة الخمود، واستيقظ من نوم الجمود، رأى في أثر رأى، وخاطر يتلوه خاطر، ومقدمة تسوق إلى نتيجة، وتحليل يسلم إلى استنباط! إنه ليحسن بالأديب المبين أن يخنق صوت الفكر ويطمس معالمه، ثم لا ينطق سوى قلبه، ولا يترجم عن غير لبه. إذن لخلت لغته من ألوان الزينة المصطنعة، وصفا أسلوبه من أصباغ البهرجة الزائفة، ثم تراءت النفس على سجيتها الموهوبة من خلال السطور، وبرزت نقية رائعة من بين سواد المداد. .!!

هذه دعوى - على جمالها وروعتها - عاثرة خاسرة، ووجه الخطل فيها أن القلب لا يستغني عن العقل ولا يستطيع أن ينكره في حال من الأحوال. فإن قوى النفس متحدة مشتبكة، يتصل بعضها ببعض، وتتداخل إحداها في جارتها الأخرى، ويندس الضعيف منها في القوي، والكامن في البارز، والوديع في المتمرد. وإنما القلب الكبير تراه عند من له عقل كبير، والطلعة البصير يفطن إلى ألطف ما يضطرب في الفؤاد من الميول والنزعات، ويشعر بأدق العواطف وأهدأ الأحاسيس، وعلى قدر ما يكون العقل من الثراء والخصب، أو الفقر والجدب، يكون القلب عظيماً رفيعاً، أو وضيعاً خسيساً!! هؤلاء القديسون الصالحون ورجال البر والإحسان، هم أصحاب عقول نيرة تناهض عقول العباقرة والمفكرين، وقد يكون فيهم سذج غافلون فما يعني هذا أنهم حيوانات هائمة سائمة، وإن كانت محبة الله وبر عباده استجابة روحانية لنوازع القلب ومطالب الشعور، فإن تأسيس المدارس والأندية وبناء المستشفيات والملاجئ صورة من صور النطق المنظم، ومظهر من مظاهر الرأي والتدبير.

- 2 -

يستبد الهوى المبرح، ويجور الألم البالغ، ويطغى الهيجان الثائر، فتختبط النفس وتهتاج الأعصاب ويغلي الدم، ثم تنطلق من شفاه العاني همسة محزونة، أو صرخة يائسة، أو قولة قوية جليلة، تجري خالدة على وجه الدهر، وتذهب في الناس مثلاً سائراً وحكمة مضروبة! أما النقد الحديث فما يحفل بهذا النوع من الكلام البليغ الجامع، ولا يمنحه التعظيم والإجلال مثلما تمنحه الأمم والأجيال، وإنما يراه من عمل الراوي المؤرخ الذي سرده لزملائه المعاصرين ولمن يليهم إلى يومنا هذا، ويستنكر نسبته إلى القائل الحساس، والمؤرخ - بخلاف الصحافي - يملي على الحادث رأيه ومذهبه، ويسرد الرواية على نحوه وأسلوبه، ويسكب الكلم في قالبه ومثاله.

ويغضب الرجل فيحول باطنه، ويختل ظاهره، ويضطرب إحساسه، ثم تستبين طبيعته الصامتة كما خلقها الله، وكونتها الوراثة، ووجهتها البيئة!! يقذف الكلمة من فيه فإذا هي كالسيف مضاءً ونقاوة، وإذا هي جماع فطرته النائمة، وعادته الراسخة، وغريزته الكامنة. .!!

لغة القلب آهة أو أنة، أو نداء أو عويل، ولكنه يكف عن التوجع والحنين حين تجتاحه موجة من الحب القوي أو الألم المميت، وقد قيل أن الهوى يعمي ويصم! فمن يفرق بين القلب والعقل ثم يروز الأول ويهمل الثاني، لزمه الإيجاز في البيان، والاقتضاب في الكلام، ذلك بأن المبين إذ يسمي شكواه ويدل على بلواه، إنما يعلن كل ما يكنه فؤاده من الخلجات، ويذكر كل ما يحز نفسه من اللواعج، ثم لا يرى شيئاً يتخذه مادة للكتابة ومفتاحاً للتحدث والإفاضة! تمثل محباً ملأ الحب جوانحه، وتغلغل في حناياه وأحشائه، واختلط بلحمه ودمه، شاء أن يصور هيامه المستفيض في إسهاب وتفصيل، فلتجدنه أحرص الناس على الإيجاز في التصوير، وأقلهم تبسطاً في الحديث، فما يكاد يسجل هذه الجملة المألوفة المبتذلة: (إني أحبك) حتى يعيد لفظها ويكرر معناها. سطران لا غير يخطهما المحب، ثم يرمي القلم في انكماش ووجوم!! ونلاحظ أن النفس الراضية المطمئنة قد تلتوي على الكاتب، وتجهده عند الإعراب والتبيين، وتستهلك ملكاته النابهة، وأدواته القوية. أما الميول المصطدمة والأهواء المتعاكسة، فهي تظهر في يسر وسهولة، ولا تستلزم عبقرية عالية أو مبيناً كبيراً. ويرجع هذا إلى أن النفس الراضية المطمئنة، لا تتطلع لغير حاضرها ولا ترغب إلا في هدوئها وراحتها، وهي إنما تنطوي على مشاعر حلوة صافية لا سبيل إلى الخلوص إليها بلفظ أو كلام، وحسبها من ذاتها أن تستمتع بما تحس، وتتملى ما تشعر، وتذوق ما تحلم! ولكن الميول والأهواء إذ ترتطم وتتعاكس تثير ألف خاطرة ولاعجة، من ندامة على الماضي وأمل في المستقبل، وخوف من المصير، وكلها هواجس يفطن لها الكاتب الصغير، بله الألمعي القدير، ثم يبرزها مخطوطة واضحة على الطرس. . .

مظهر الألم صوت ملجلج، ووجه أغبر، ورعشة باليد، ودمعة في المحجر. فالإعراب عنه بلفظ قريب لا لبس فيه ولا غموض إنما يحتاج إلى عقل خصب يتأمل وجه الألم الذي يتحسسه ويدرك قيمته وأثره، ويعرف أين يتحد مع غيره من العواطف، ومتى يختلف ثم يعرضه تاماً صحيحاً غير منقوص ولا مشوه، وكلما كان التأمل العقلي كثيفاً نافذاً كان الألم أكثر وضوحاً وأبهر لوناً وأدق تعبيراً.

تلكم صفحات الألم الباكي فاقرأوها بإمعان، وفتشوا فيها عن القلب المنفطر، وتبينوا النفس المعذبة، ألستم توافقوننا على أن الأديب إنما اتخذ العقل مبضعاً يشق مطاوي القلب، ويسبر غور الضلوع، وينفذ إلى حقيقة البكاء ومصدر اللوعة؟!

ولقد حفظ التاريخ القديم فيما حفظ في ذاكرته الواعية رسائل طريفة انحدرت إلينا كاملة من شيشرون ومدام سيفينيه، وهي رسائل تفيض بالشكوى وتتنزى يأساً وألماً، كشف فيها الخطيب الروماني عن الحب الأبوي حين ماتت ابنته وذهبت إلى حيث لا رجعة لها، وأبانت المركيزة الفرنسية كيف تتوجع الأم الرؤوم حين تزوج ابنتها في الديار النائية والغربة الطويلة! وإن الآباء والأمهات ليبكون أبداً أولادهم وبناتهم عند الموت ووقت الفراق، ولكنهم لا يستطيعون وصف ما تكابد مهجهم من هموم وأشجان، وليس الذنب في ذلك ذنب قلوبهم المترعة المفعمة، وإنما هو ذنب عقولهم القاحلة، وألسنتهم البكيئة، وأقلامهم الجامدة.

والطريف في هذا الباب ما يزعمه هيجو من أن الشاعر مصلح عظيم ونبي كريم، أرسله الله لقومه هادياً إلى مواطن الحرية والجمال والحب؛ وقد دفع هيجو إلى هذا الرأي الأرستقراطي غروره المسلكي، وحماسه الوطني، وتطرفه المعهود، وخياله الواثب. والحق أن الشاعر رجل مثلي ومثلك، يرى ما نرى ويشعر بما نشعر، وإنما يمتاز بنوع من الامتياز لا ينهض به إلا صف المصلحين ولا يرفعه إلى مقام الأنبياء - يمتاز من غيره من الناس بهذا العقل الحاجي المسجل الذي يقدر على الإبانة عما يرى ويشعر، ويعرف كيف يصور ما يتجاذبه من المنازع والأهواء.

فالتأمل الذهني كما ترى ضرورة من ضرورات البيان، فلا تظهر الخلجة النفسية على النحو الذي قذفتها الفطرة ودفعها التطور واكتنفتها الحياة، إلا بالمراقبة الباطنية العميقة. والممعود إنما ينبغي أن يكون على شئ من العلم بمواقع الأعضاء حتى يصف للطبيب المرض الذي ينتابه والداء الذي ينهشه، ولكن الطفل إذ يتألم لا يفقه ألمه ولا يعلنه إلا في إبهام: يصرخ ويبكي، وهذا كل ما عنده من وسائل الإعلان وأدوات الإفصاح!!

إن الأدباء المحدثين ممن نقرأ لهم ونستمع لأحاديثهم في الصباح وفي المساء، يلتزمون البساطة في اللفظ وفي المعنى، ثم ينحدرون إلى النفس المتأخرة الابتدائية التي لم يصقلها العلم ولم تهذبها المدنية، فينتزعون منها الشعور الفطير والعاطفة الساذجة، وهم موقنون أن الإخلاص في الأدب أو الصدق في التعبير لا يكون إلا حيث يكون الطفل الصغير أو الجاهل الأمي موضوع الحديث ومدار البيان، ولست أعرف انحرافاً عن الحق وخللاً في المنطق يشبه ذاك الانحراف وهذا الخلل، فإن الثقافة العلمية لن تفسد النفس والشعور، ولن تمنعهما عن البوح والظهور.

وقد كان المؤلفون اليونان يستصرخون أبطال رواياتهم، ويستدرون عبرتهم، ويتعمدون إيلامهم، وكانوا يسهبون في وصف الألم، ويذكرون بواعثه ونتائجه، ويتغلغلون إلى كنهه وحقيقته. فهم فنانون حقاً يلتمسون مواطن الجمال المنسجم، وينشرون مواضع الحقيقة الفنية، أصحاء الذوق أقوياء الحواس، يجمعون إلى تبدل اللون وتقلص العضلات واختلال الحركات تدفق الألم الداخلي، وأفاعيله النفسية، وأثره في الرءوس والقلوب. وقد ترسم شكسبير خطاهم ونهج سبيلهم، فكان يصور أوضاع الجسد ثم ينفذ إلى الألم ذاته، ويربط بين اضطراب الحواس اللدنة، وهيجان النفس الباطنة.

وتحسب الآن إننا كشفنا عن الصلة المتينة بين القلب والعقل، ونبهنا إلى خطر التفريق بينهما، وإلى قلة الإبداع والإنتاج عند إمحال التأمل والتفكير، فإن كثيراً من الناس ليحسون أقوى الإحساس، ويشعرون بأشد الشعور، ولكنهم لا يعبرون عن إحساسهم وشعورهم، لأنهم ضعاف العقول ضئال التفكير، وأغلب الظن أن المبين لو راض عقله وصقل ذهنه بالتأمل الدائب الملح لوفق في رسالته أحسن التوفيق، ومضى إلى غايته كما يرجو ويرجو له النقاد والباحثون.

- 3 -

مادام الأديب أداة تطوير واعية مرهفة تلتقط ما يتساقط عليها من أشعة الوجود وألوان الطبيعة، وصور الحياة، فلن يحس بالفراغ يملأ ذاته ولا بالوحشة تحف نفسه وكيانه، وهو أبداً يرقب جيشان عاطفته، ويرصد خفوق قلبه. ثم يستمتع بهواه وشعوره، والاستمتاع هنا معناه إيقاف الحياة قبل أن تطوى، والإحساس بها إحساساً (مضاعفاً) قوياً. وفي النفس نزوات مبهمة خافتة، يبصرها الأديب الصناع ثم ينشرها عارية واضحة تكاد من فرط ظهورها تطفر لعين الرائي المشاهد.

ويعتقد الأستاذ إميل فاجيه أن التكلف في البيان أشر ما يبلى به الأديب الفنان من العلل والأدواء، وهذا حق لا ريب فيه، وإنما الريب في قول من قال إن مراقبة النفس تقتضي التصنع، وتؤدي إلى التكلف، لأنها إنما تقتل الطبع الموهوب والهمة الفتية، والقوة الدافقة. والحق إن المراقبة إذا كانت منظمة متصلة توسع إطار الإحساس، وتوضح بداءة الشعور، وتنهض بالقريحة الخابية الهامدة. . . فلقد تستكين العاطفة ويخمد أوارها، وتهدأ حدتها ويبرد لهبها، وليس هذا ما نسميه النضوب والإمحال، وإنما هو أثر من آثار الإعياء والنصب الشديد، كأنما العاطفة المكدودة تنام في جو مظلم ساكن، وكأنما القريحة المتعبة تقف عن الشعور فترة غافلة من الزمان! وفي هذه الحال لقد يأخذ الأديب نفسه بوصف منظر أو تبيان خلجة فيقف مكتوف اليدين متلبد الحس، جامد القلم.

فالمراقبة إنما توقظ العاطفة النائمة أو هي تهيجها كلما غفت، ومن العجب أن تكون سبيلاً إلى التكلف المرذول والتصنع الممقوت، وعهدنا بكبار الشعراء أمثال لافونتين ولامارتين أنهم على هيامهم بالتنقيح والمطالعة والتأمل، كانوا أطلق الشعراء لساناً، وأرقهم بياناً وأسلسهم لفظاً.

ومن الأدباء من لا يستوحي نفسه، ولا يترجم عن طبعه، وإنما يستقي من ذاكرته ومحفوظاته وقراءته، وهؤلاء يكتبون في غير جدوى ولا طائل، والمعروف المتداول أنهم يأتون غالباً بتشابيه مستعارة، وكنايات معادة، وصور مبتذلة لا تعبر عن (شخصية) ولا تنم عن جديد مبتدع. وإنما الرجوع إلى الطبع دون الذاكرة الحافظة هو مصدر الأدب الخالد والابتكار القويم، وليس من شك في أن التكلف يضمحل ويتزايل أثره، كلما رجع الفنان إلى نفسه وعول على طبعه واستقى من عبقريته. ولقد يجمل بالمبين أن يتناول ما تمده القريحة في الوهلة الأولى واللمحة الخفيفة، وألا يصطنع شعوراً لا يتردد في أطواء نفسه بل يأخذ ما جادت به العاطفة من غير جهد ولا عناء!!

وكلمة (أنا) ما يشتق منها قد تكون سبباً مباشراً من أسباب التكلف البياني، لأنها تتصف بالشمول وتجمع الشتات كأنما هي عنوان النفس ورمز العاطفة، والسبيل الذي ينبغي أن يسلكه الأدب الرفيع هو أن يحمل كل لفظ من ألفاظ اللغة جزءاً من النفس وقسماً من العاطفة، أما (أنا) فما ينبغي أن تكون إلا عيناً تتفجر منها الأفكار والمعاني، وتصدر عنها الأساليب واللغات، وتصب فيها فروع الكلام وأغراض البيان.

فإذا كان في هذا عسر ومشقة، فإن الرياضة والمران حقيقان بأن يذللا كل شئ، وكما يخلق اللاعب المرتاض لجسده الحواجز ليجتازها، والجبال ليتسلقها، والوديان ليهبط إليها، كذلك ليخلق المبين لنفسه طرائق ملتوية لممارسها، مهما تكن تلك الطرائق وهمية خيالية، مادامت الغاية محمودة تبرر الواسطة ثم تخضعها بالتجربة والعادة.

كانت العصور السالفة تقدم للمبين مواد التفكير الصحيح، وأسباب العاطفة الحية، وأدوات الكتابة الخالدة. وكانت الظروف والأحوال تنشئ المرء إنشاء جميلاً قوياً، وتعده لحياة شديدة فيها من الجد والنشاط، ومن الإبداع والإنتاج ما يزري بحياتنا الحاضرة الراكدة، ويستخف بعيشنا اللاهي الهازل. .!!

كان الطالب إذا نال الشهادة وخرج من المعهد لا يرى بضاعته من العلم إلا قليلة موجزة، ولا يعتقد في نفسه إلا القصور والجهل، فما يزال يقرأ في الكتب والأسفار، ويتلقى عمن هو أكبر منه سناً وأوسع تجربة، حتى يريش ويهرم، فهو أبداً في دراسة دائبة، واختبار متصل. ولم يكن مقياس النبوغ سعة القراءة والرواية، وإنما هو الفهم السليم والنظرة الصائبة. وكانت الآداب على اختلافها دروباً متشعبة تنحدر كلها به إلى النفس الإنسانية يطالع منها ما يطالع ثم يجمع المتشابه ويفرز المتشابك، ويستعمل النابه ويعنى بالضعيف الخامل. أما القصة فما كانت تتلى للتسلي والمفاكهة أو لتزجية الوقت والفراغ، وهي التي قد تبلغ عشرات المجلدات مخطوطة ومطبوعة، وتلاقي من الرواج والذيوع ما يستدعي الدهشة والإكبار! هذا إلى تراجم المؤرخين، وتأملات الحكماء، ومواعظ الزهاد والخطباء، مما يوقظ العاطفة والشعور ويربي ملكة الانتباه والتفكير. وفي حضرة المرأة والطفل الناشئ كانت تثار في غير تحرج ولا تقية أعوص مسائل الدين والأخلاق والسياسة والاقتصاد. وكان العرف الديني والاعتراف الكهنوتي، وحب الفضيلة يقلق المؤمن، ويقض مضجعه، ويضطره إلى مراقبة نفسه وإلى التعبير الدقيق عن خطراته ونياته.

ومن ثم كانت النساء اللواتي لم يتعلمن سوى الأدعية والصلوات، وكان الشبان الذين لم يفقهوا غير المبارزة والرقص - كان هؤلاء جميعاً يعبرون عن مرادهم تعبيراً حسناً، ويفكرون تفكيراً صحيحاً، فكانت الكتابة عندهم كالمحادثة والحوار، يمنحونهما الجهد والأناة، ويقصدونهما بقلوبهم وعقولهم مجتمعة متساندة.

أما اليوم فالذاكرة الحافظة هي غاية الغايات، يكدسون فيها ضروب العلوم والفنون على مدى ضيق من الزمن كما يكدسون في المركب أصناف البضائع على غير نظام ولا تؤدة لتقلها إلى المرفأ سالمة لا أكثر ولا أقل. والمرفأ هنا هو الفحص الذي ينتهي عنده الدرس، وينسى الطالب بعده ما اكتسب من العلوم. ذلك بأنه تعلم منفعلاً لا فاعلاً، تعلم كما تدور الآلة من غير وعي ولا تفهم، فالبرامج واسعة، والوقت قصير، والتمثيل منعدم، والهضم سيئ.

وجملة القول أن التربية الحديثة، لا تتلاءم مع شرائط الصحة العقلية، ولا تهيئ العاطفة للفن والكتابة. ومادام الخروج على البيئة مستحيلاً، فإن تهذيب الشعور وتنمية التفكير مطلبان جليلان ينبغي العناية بأمرهما والنهوض بهما.

حمص (سوريا) محمد روحي فيصل