مجلة الرسالة/العدد 490/الدبابات أمام المدن

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 490/الدبابات أمام المدن

ملاحظات: بتاريخ: 23 - 11 - 1942



للأستاذ (ذ. ص)

بعد أن تنتهي هذه الحرب تدخل في سجل التاريخ ونكون قد نسيناها أو تناسينا ما مر بنا من أهوال، سيقبل علينا أطفال الجيل الجديد يسألون ويلحفون في السؤال، فنحيلهم على كتبهم المدرسية حيث الأحداث قد صبت في كلمات وجمل تعجز عن تصوير ما خيم على العالم من خوف وهلع، ولا نقدم لهم إلا الأيام والشهور والأسماء والأرقام.

والأرقام والتواريخ كما كانت وكما ستكون، ثقيلة على الذاكرة، عسرة على اللسان، فلذلك ستبرز الأسماء إلى الأمام وتكون موضع التذاكر والنقاش، وخاصة ما دل منها على المعارك انتسبت حيناً إلى بقاع مترامية الأطراف كفرنسا والاطلنطي، ولم تحمل حيناً آخر إلا اسم مدينة أو بلدة، لا تحتل من خرائطهم إلا مقدار الثقب الصغير.

اتسعت رقعة المعارك قدماً مع نمو الجيوش، حتى إنها شغلت في الحرب الماضية مقاطعات شاسعة أو امتدت بطول بعض الأنهار، أما المدن فلم يكن لها كبير شأن إلا في أحوال خاصة، إذ كانت قلاعاً قوية منعزلة كلييج ونامور، أو نقط ارتكاز لخط دفاعي طويل كفردون.

وبدأت هذه الحرب وسمعنا بمعركة بولندا ثم النرويج، بل أن بلاداً فسيحة كالدنمرك ذهبت في ليلة لم يعقبها نهار، ثم البلاد الواطئة والفلندر وفرنسا. وفجأة ظهرت أسماء من نوع هو علينا جديد، احتلت مكانة خاصة، بل واعتبرها البعض من نقط التحول الهامة في تيار الحوادث، ومن هذه يكفيني أن أذكر على سبيل المثال: سمولنسك واستالنجراد.

كانت المدن في قديم الزمان حصوناً تصمد للأعداء شهوراً بل سنين، تغنى بحوادثها الشعراء وخلدت أسماؤها في تاريخ الحروب؛ فمن ذا الذي ينسى طروادة وحصانها الخشبي، وسقوط القسطنطينية أمام عبقرية محمد الفاتح، وارتداد نابليون تحت أسوار عكا وهو كظيم؛ ولكن الحروب ظلت تتطور ووسائلها تتعدد؛ حتى أصبحت مدافع الحصار أكملها استعداداً واشدها فتكاً، ولم تعد المدن - كما رأينا في الحرب الماضية - إلا مصايد للموت، فلم يرتد إليها المتقهقرون، بداخلها يحتمون، بل فضلوا الأرض الفضاء، ينبطحون خلف ثناياها، ويحتفرون في سطحها الخنادق ويمدون بجوفها السرادي ولما قامت الحرب الإسبانية حولها الألمان إلى معمل تجارب لقيادتهم العسكرية، فيها يحللون ومنها يستنبطون، يلقون فيها بالسلاح الجديد يبلونه؛ ويقحمون نظرياتهم في تكتيكات فرنكو يختبرونها. واستمرت الحرب بين مد وجزر؛ وكان الجمهوريون كلما اكتسحتهم الدبابات ذعروا، وارتدوا إلى الوراء، والتجئوا إلى مدنهم يحتمون بها بعد أن كانوا حماتها؛ وكم دهشوا حين لم تخذلهم هذه كما خذلوها

لم تقف المدن في وجه الدبابات سداً منيعاً كما كانوا يأملون (وهم في قرارة نفوسهم من ذلك يائسون)، بل ظهرت لهم بمظهر جديد، لا تتمنع للداخلين بل تغريهم وترحب بهم، فإذا أصبحوا وسطها وخبروها، وجدوها الهوة التي ليس لها قرار، تجتذب الأجساد إلى الأعماق ولا تلفظ إلا الأرواح

استدعى ذلك الحال من الألمان لفتة أو لفتين، ولكنهم لم يعلقوا به كبير اهتمام، بل ظنوا الأمر طارئاً أسبابه ظرفية أكثر من أن تكون فطرية، فهذه حرب ليست ككل الحروب، هي حرب أهلية بين أفراد جنس واحد، انحدر من فرع لاتيني (وكم كان التتون يحتقرون اللاتين!)، وهذه الخطط هي من عصارة عقولهم، هم الجرمان، فهذا الأمر إذن لا يحتمل أدنى شك ولا يقبل أي جدال: كل نجاح هو إذن وليد خططهم ونظرياتهم، أما كل نقيصة أو كل خذلان فهو راجع لا محالة إلى طرق اللاتين في التنفيذ

اندلعت الحرب في سبتمبر سنة 1939، وتدفقت جيوش الألمان على بولندا، جارفة ما في طريقها من رجال وعتاد وحصون وقلاع، ولكن. . . ما هذا؟ رينهارت يصد؟. . . رينهارت الفذ يصل إلى غرضه ثم يرتد. . .؟، تخطى الجنرال رينهارت حدود بروسيا الشرقية على رأس جيشه المدرع أول أيام الحرب متجهاً صوب (وارسو)، ولكنه ما وصل إلى شوارع العاصمة البولندية حتى دفع إلى الخلف، وهجم الألمان ثانية ثم ثالثة، ولكنه في كل مرة كان على أعقابه يُرد.

تمزقت بولندا شر ممزق وقُطعت أوصالها تقطيعاً، وهرست أرضها هرساً، ووارسو لا تزال صامدة. نحن في أول أيام الحرب وكل قائد ألماني متعطش إلى إحراز السبق في النصر، ليسمع من زعيمه كلمة الثناء الموعودة، وينجز لبلاده ما ألقت عليه من أعباء؛ هذا فون بوك قد هصر الممر البولندي هصراً وهبط كالصاعقة من الشمال الغربي، وهذا فون رنشتيد قد اخترق حصون المنطقة الصناعية عند (كراكاو)، والتف هاجماً من الجنوب الغربي. يتململ رينهارت ويرغي ويزيد، وينقض على وارسو يدكها دكا، ويطلق طائراته عليها: بالقنابل تقذفها وبالأرض تسويها، ثم تعود دباباته إليها تقتحمها، وتنساب في أزقتها، وتنعطف في منحنياتها وتضرب يميناً وشمالا. ولكن قليلاً قليلاً يهبط عليها نفس الشعور القلق ويكتنفها نفس الإحساس المبهم اللذان حلا بها في الهجمات السابقة، فتشلها الحيرة ويخنقها الارتباك؛ عدوها لا يزال مراوغاً غير مرئي. أين هو وأين يختفي؟. . . تجحظ عيون الألمان من فتحات الفولاذ الضيقة باحثة منقبة، ولكنها لا ترى إلا طريقاً خلواً طويلاً، منثنياً متعرجاً بين ديار وإن تكن قد خربت، ومنازل وإن تكن أجنابها قد صدعت، إلا إنها، هذه وتلك، لا تزال تؤوي مئات الجنود وآلاف السكان - هؤلاء الزاحفون داخل الفولاذ، مجال الرؤية أمامهم محدود، في حين أنهم ظاهرون بكل جلاء، واضحون وضوح الشمس والنهار - ينصب المدفع خلف أحد الأبواب، وبمجرد ظهور الدبابة أول الشارع يعد المدفع ويجهز، بينما لا تراه هذه حتى تكون بحذائه، وفي لمح البصر تصيبها الصدمة، فتمزق أجنابها وتهشم أفرادها، وتقذف أشلاءهم متشابكة مع فولاذها المتناثرة، متعلقة بأجزائها المتطايرة هنا وهناك. وهذه أخرى أوقفتها المتاريس لحظة فتساقطت عليها فجأة زجاجات البترول المندلعة، تشعل فيها النار وتشوى رجالها شياً، فتتعالى صيحاتهم المروعة، متجاوبة في آذان زملائهم المتقدمين خلفهم. . . فبالله عليك ماذا تنتظر من هؤلاء وقد رأوا عدوهم الخفي لا يظهر إلا ليضرب الضربة الصائبة، وإذا قضوا عليه آخر الأمر، فهناك غيره مئات بل آلاف، الموت لهم بالمرصاد، جاثم متربص في كل منعطف وفي كل ركن، وفي كل نافذة وفي كل قبو

ولم يكتو أحد بهذه الحوادث مثلما اكتوت به الجيوش الألمانية، وصممت ألا تقع في مثلها ثانية، وساعدها على ذلك غفلة العدو عن التقاط خبرة الغير والانتفاع بدروسها، ولذا رأينا الألمان يقذفون المدن الهولندية قذفاً ويمحقونها محقاً، واختصت روتردام بأكبر نصيب، ثم أسقطوا عليها الآلاف من جنود المظلات، يئدون المقاومة في مهدها، ويستحوذون أول الأمر بثمن بخس ومجهود ضئيل على تلك المراكز التي ربما تحولت آخر الأمر - إن هم تركوها إلى أوكار للدفاع - تستنزف من المجهود ما ضخم، بل ما استعصى: من توتر في أعصاب القواد شديد، وثمن في سوق الأرواح مرتفع

وفصلت جيوش الشمال فكانت (دنكرك)، ودار الهاجمون نحو الجنوب. . . صوب باريس، وكانت القيادة الألمانية تعلم بتفكك الروح المعنوية في فرنسا، وما وصل إليه الأفراد فيها من أثرة وأنانية، فقررت الامتناع عن ضرب باريس، ذلك الضرب الذي ربما أحيا ما مات فيهم من شعور، فلم يخب ظنهم بل فتحت لهم الأبواب دون قيد أو شرط

أما الروس فكانوا هم وحدهم الذين تفتحت أذهانهم لمقتضيات الظروف، وحولوا مدنهم إلى مراكز دفاع قوية، سلح فيها المدنيون قبل العسكريين، فأمسك الزاحفون عن دخولها خشية التعرض لاستنزاف قواهم في شوارعها، ولم يجسروا على تركها خلفهم خشية التعرض لتقطيع خطوط مواصلاتهم، حول ضواحيها، بل فضلوا على كره وقف زحفهم الدقيق التوقيت مترقبين بقلوب قلقة جازعة وصول مدفعيتهم الضخمة الجاهدة وسط الأوحال على طرق وعرة حفت بها عصابات الأعداء، ثم ينصبونها إما وصلت، لتقوم بالدك والتحطيم أمداً من الزمان، وأخيراً يتبعونها بجنودهم الراجلة لاقتحام المباني منزلا بعد منزل ثم غرفة بعد غرفة

أصبحت المدن العائق الأكبر للجيوش المدرعة، فهذه تعتمد على السرعة أكبر اعتماد، مزيتها الأولى هي سرعة الاندفاع من مكان إلى مكان، وتلك تعمل على العرقلة والتعطيل، واجتذاب العدو وربطه بالمكان

لم يصب الجيش الألماني في جميع معاركه بخسائر تذكر بجانب ما حاق به في سمولنسك وسبستبول وستالنجراد وسائر المدن الروسية الكبرى، بل أن أكواخ بيتر حكيم القليلة العدد ذات القوالب الطينية، كلفتهم ما يفوق خسارة اليابانيين أمام رنجون؛ فالأولى أحسن الحلفاء استعمالها، أما الثانية فقد بادروا فيها إلى الإخلاء، ولم تساعدهم روح أهاليها المعنوية على إعداد الدفاع.

(ذ. ص)