مجلة الرسالة/العدد 485/مشاركة الأدب الإنجليزي في الدراسات العربية

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 485/مشاركة الأدب الإنجليزي في الدراسات العربية

مجلة الرسالة - العدد 485
مشاركة الأدب الإنجليزي في الدراسات العربية
ملاحظات: بتاريخ: 19 - 10 - 1942



نقلاً عن (برنارد لويس)

للأستاذ عبد الوهاب الأمين

3 - القرن التاسع عشر

تقدمت الدراسات العربية في القرن التاسع عشر تقدماً عظيماً في جميع الأقطار المهمة في أوربا. ولقد كان من نتائج حملة نابليون في مصر أن أصبح الشرق الأدنى العربي في مقدمة الأمور السياسية الأوربية، وأن استعيد الاتصال بين العرب والفرنك بعد انقطاع دام قروناً عديدة، فشرع الكثيرون من الرحالين الأوربيين يزورون الشرق، ودخل عدد كثير من الطلاب المصريين في جامعات أوربا الغربية لدراسة ثقافة الغرب وفنه، واستثارة اهتمام جديد بالثقافة العربية بين الغربيين

وقد بدأ العلماء الفرنسيون الذين رافقوا نابليون الحركة العلمية الجديدة في الاستشراق الأوربي. والعلماء الفرنسيون هم من أبرز المشتغلين باللغة العربية في مطلع القرن التاسع عشر. وقد أنشأ المستشرق الفرنسي العظيم (سلفستر دي ساسي) جيلاً كاملاً من العلماء من جميع الجنسيات

وكذلك نجد في إنكلترا مجموعة منظمة ذات شأن من المشتغلين بالعربية، فكان إنشاء كرسي جديد للغة العربية في جامعة لندن - وكانت قد أنشأت حديثاً - وتكوين (الجمعية الآسيوية الملكية)، وهي مجمع مستشرقي الإنكليز، مما أثر في الاندفاع الجديد نحو الأبحاث الاستشراقية. وأصبح العلماء الإنكليز في الهند وهم الذين يدرسون لغة الإسلام ومدنيته للهنود يجدون أنفسهم ملزمين بدراسة اللغة العربية التي هي مصدر جميع الثقافات الإسلامية في كل اللغات. واكتسبت آثار المشتغلين بالعربية في القرن التاسع عشر ميزة وفائدة جديدتين نتيجة للتقدم الحاصل عند العرب أنفسهم. ففي خلال القرن التاسع عشر دخلت الشعوب التي تنطق بالعربية في دور بعث ثقافي وطني. وقد كابدوا في بداية الأمر مشقة من جراء قلة الكتب العربية المطبوعة، وقلة المطابع أيضاً، ولذلك كانت الطبعات الأنيقة العديدة للمؤلفات العربية الخالدة التي نشرت في أوربا - وقسم كبير منه - ذات فائدة عظمى للجيل العربي الجديد من القراء، ومكنتهم من الحصول على مادة لم يكن الحصول عليها ممكناً من غير ذلك المصدر. وفي آخر الأمر، عندما أنشئت المطابع في الشرق وبدئ بطبع الكتب محلياً، كانت الكتب تطبع وفق النصوص العربية، وبذلك قام المستشرقون بدور مهم في إعادة ثقافة العرب إليهم، وقضوا دين عرب القرون الوسطى الذين نقلوا كتب الإغريق إلى الغرب

وليس في وسعنا في هذا المجال أكثر من أن نذكر بعض الشخصيات البارزة من بين المشتغلين بالعربية من الإنكليز. ونقتصر على أشخاص مثل (ج. هـ. هندلي) وهو أحد العلماء البارعين في الفارسية والعربية، ومن جملة مؤلفاته ترجمة ودراسة - في الإنجليزية - عن الشاعر العربي أبي الطيب المتنبي. و (م. لمسدن) الذي كان أستاذ اللغتين العربية والفارسية في كلية (قلعة وليم) في الهند. وقد ألف أجرومية عربية كانت كثيرة التداول في القرن التاسع عشر في أوربا والهند كليهما. ومما يجب ذكره أن أولى المحاولات الإنجليزية لتنظيم التعليم في الهند كانت تشمل اشتراط دراسة اللغة العربية من مسلمي الهند، وكان (لمسدن) أحد الإنكليز الكثيرين الذين ساعدوا على إنجاز هذا الأمر، وكان في كلية (قلعة وليم) - وهي أولى الكليات الإنجليزية في الهند - كرسيان للغتين العربية والفارسية.

وكان أعظم الشخصيات الإنجليزية - بل الأوربية أيضاَ - بلا مراء في مطلع القرن التاسع عشر هو المستر إدورد وليم لين (1801 - 1876).

اهتم (لين) مزيد الاهتمام بالدراسات الاستشراقية منذ فجر شبابه وعلى الأخص بمصر، وسافر في يوليه سنة 1825 إلى الإسكندرية في زيارته الأولى لمصر، وكان السفر في البحر الأبيض المتوسط وقتئذ لا يزال كبير الخطر، ولم تخل رحلته تلك من مخاطر، فقد أصاب السفينة إعصار، وعجز قائدها عن إدارة دفتها، ولم يكن على ظهرها من يحسن القيادة، وبالرغم من أن (لين) لم يركب سفينة قط في حياته، فإنه أخذ الدفة بيده، واستطاع أن ينقذ السفينة من التحطيم بفضل معلوماته الرياضية. وحدث بعد ذلك أيضاً أن قامت في السفينة ثورة كادت تودي بحياته. وبعد سفر شهرين وصل (لين) إلى مصر حيث بقى إلى خريف سنة 1828 وقضى معظم الوقت في القاهرة. ومع أن رغبته الأصيلة كانت دراسة المصريين القدماء، فإنه سرعان ما وجد أحفادهم المحدثين أحق منهم بالدراسة بكثير، فشرع تو إقامته، في دراسة واسعة للغة العربية فحذقها حذقاً تاماً كتابة ولفظاً. وقد أفادته تلك الرحلة إلى الشرق - وهي الرحلة التي كان يتحرق شوقاً إليها - خبرة معنوية عظيمة. وقد قال في مذكراته:

عندما نزلت إلى الأرض لأول مرة داخلني شعور طاغ يشبه شعور عريس على أهبة رفع القناع عن وجه عروسه التي لم يرها من قبل. ولقد كان تأثره بعد ذلك بما رأى عميقاً، وامتلأ إعجاباً عظيماً بكل ما يمت إلى الإسلام بصلة

وعندما عاد إلى إنجلترا، كان قد درس مصر وشعبها ولغته دراسة عميقة، وكتب وصفاً مسهباً مخطوطاً عن الحياة في مصر. فلما طلب إليه أن يقوم بنشره أصر على الرجوع ثانية إلى مصر قبل طبع الكتاب استجابة لولوعه بالدقة العلمية التي كانت إحدى ميزات آثاره، فخصص رحلته الثانية في سنة 1833 - 35 لدراسة دقيقة عن الحياة في القاهرة. وكان من عادته في مصر أن يرتدي اللباس الذي يرتديه المصريون، وأن يقتصر في علاقاته على المصريين المسلمين. وقد اتخذ لنفسه داراً في القاهرة وعاش العيشة المعتادة التي يحياها أديب مصري من جميع الوجوه. وكانت هذه الأمور، مضافاً إليها طلاقة نطقه العربي وصحته، وشيء من السمة الشرقية في تقاطيعه، قد مكنته من أن يعيش كمصري بين المصريين، وأن يختلط بالمجتمع القاهري اختلاط الصديق والند. وكان يعرف في مصر باسم (منصور أفندي)

وعند عودته للمرة الثانية إلى إنجلترا نشر كتابه المشهور (وصف شمائل وعادات المصريين المحدثين) في جزءين فقوبل في الحال كأثر خالد، ونفدت الطبعة الأولى منه في أسبوعين، ولحقتها أخريات عديدات، كما أنه طبع في ألمانيا وأميركا واعتبر من مخلدات الأدب الإنجليزي، وهو يحتوي على وصف الحياة القاهرية وعاداتها، قبل أن يحل بها هذا التغيير الذي جعل منها مدنية حديثة. ولذلك فإنه سجل صحيح لعصر يكاد يكون غابراً، بدقة في الوصف فائقة، وهو مستند تاريخي ذو أهمية عليا لا يستغني عنه جميع الطلاب في مصر حتى الآن.

(للموضوع بقية)

عبد الوهاب أمين