مجلة الرسالة/العدد 479/مهمة التعليم الجامعي

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 479/مهمة التعليم الجامعي

ملاحظات: بتاريخ: 07 - 09 - 1942



لمناسبة إنشاء جامعة فاروق الأول

للأستاذ عبد الله حسين

لعل من أمارات التوفيق أن يتاح لمصر إنشاء جامعة جديدة شاملة مختلف الكليات، وهي جامعة فاروق الأول في الإسكندرية التي ستفتتح في العام الدراسي الجامعي القريب. فقد حقق هذا أمنيةً طالما جاشت في الصدور؛ وسيكون من علائم التوفيق أيضاً أن يتاح لأبناء الصعيد جامعة في عاصمته (أسيوط)، وأن تتوالى بعدئذ الجامعات، فتصبح مصر موطناً صادقاً للثقافة في الشرق الأوسط، وتستعيد مصر حضارتها العلمية القديمة، حيث تخرج الأساتذة للعالم الشرقي العربي، وإن شئت للعالم كله

غير أن إنشاء الجامعات لا يحقق وحده هذه الأماني، متى كان الأمر مقصوراً على الصور والهياكل والأشكال. كما أن إنشاء البرلمانات وإقامة الدساتير ذات المواد الكثيرة، لا يحقق بذاته المعنى النيابي التمثيلي المنشود، مهما تتألف هذه البرلمانات من مجالس الشيوخ والنواب، بما تضمه من مكاتب ولجان؛ ومهما يكن للنواب من الحق في تقديم الأسئلة وتوجيه الاستجوابات وحق طرح الثقة، ما دام أن النواب لم يستطيعوا أو لا يستطيعون بالفعل، لا بعمل الدستور، أن يسقطوا الوزارات؛ بل إن من الوزارات ما يستطيع أن يسقط المجالس النيابية، ويلغي الدساتير، ويستبيح كل ما حرمته

ليس من شك في أن كل أمة تشغل بالعرض عن الجوهر، ويصرفها الشكل عن الموضوع - لن تظفر بما تبتغي من الأغراض، إذ أن هذه الأغراض ستظل أمنية وخيالاً بديعاً وحلماً جذاباً

من أجل هذا، نرجو أن يتاح لجامعة الإسكندرية ما لم تتحه الملابسات لجامعة القاهرة. فإن هذه الجامعة لا تزال جامعة شعبية أو في حقيقتها مجموعاً من المدارس العالية، غايتها عقد امتحانات وتوزيع شهادات، وانصراف حملتها بعدئذ إلى الوظيفة.

لم يتهيأ لجامعة القاهرة إلى اليوم أن ينصرف أساتذتها وطلبتها إلى البحث العلمي كغاية أولى للجامعة. ذلك أن نشأة الجامعة الأولى بجمع المدارس العالية التي كانت قائمة يومئذ تحت اسم الجامعة، والوقت السياسي، والتيار الحزبي الذي قامت فيه الجامعة، وفتر التحول من السيطرة الأجنبية على التعليم إلى الحكم التعليمي الوطني، وتشبع الكثيرين من رجال الجامعة وطلبتها بالطموح السياسي، والحفاوة بالأعمال الإدارية التي تطغي على القائمين بها لوناً من الجاه الحكومي؛ كل هذا قد صرف الأذهان كثيراً عن التجرد للبحث العلمي دون سواه من الغايات المادية والسياسية

وحسبنا أن نشير إلى ذلك العدد الكبير من رجال الجامعة الذين غادروا مقاعد التدريس إلى مناصب الدولة الأخرى، وتطلع من خلفوهم إلى هذه المناصب ذاتها

فإذا استطاعت الجامعة الوليدة، جامعة الإسكندرية الجديدة، أن تحقق المعنى الجامعي، بأن يقف أساتذتها وطلبتها جهدهم على المساهمة في البحوث العلمية، وأن يشاركوا في المجهود الذي تقوم به الجامعات الأخرى، حققنا الغاية من إنشاء الجامعة، على أن ندع لجامعة القاهرة مهمتها الشعبية من حيث تخرج حملة شهادات للتوظف، تاركين للزمان أن يهيئ لها تحولاً صادقاً إلى المعنى الجامعي الحقيقي.

كان المعنى الجامعي متحققاً في الأزهر في أشد الأزمات التي نزلت به، ذلك أنه كان هناك شيوخ وطلبة تجردوا عن المادة والجاه، للعلم الأزهري، يدرسونه في الأزهر والمسجد والدار وعلى قارعة الطريق وفي الأفراح والمآتم: كان الشيخ يتحدث إلى الناس في كل مكان جاعلاً علمه شائعاً لا يبغي من وراء ذلك جزاءً أو شكراً. أما إذا كان شيوخ الأزهر لم يوفقوا يومئذ في المساهمة العامة للبحث العلمي الإنساني، فإن مرجع هذا إلى الأحوال السياسية وفساد الحكم والحكام وعدم التشجيع.

فالتجرد للعلم والانصراف عن المادة أو توجيهها لخدمة البحث العلمي - هو العنصر الأول للجامعة لكي لا تكون اسماً أو رمزاً لا يدل على حقيقة

نريد علماء لا نشغلهم بالتقليب ولا يشغلون أنفسهم بالدرجات والرتب والأوسمة واتخاذ التدريس وسيلة إلى الجاه الحكومي على صورة من الصور. علماء يحج الناس من مختلف البقاع للتشرف بالاستمتاع إليهم والمباهاة بلقائهم واتخاذ مؤلفاتهم مصابيح للاهتداء ومراجع للاقتداء

وعندي أن هذا سيكون ميسوراً لجامعة الإسكندرية أكثر من جامعة القاهرة؛ حيث تتجمع فيها أندية السياسة والصحافة والأحزاب والألقاب وألوان الجاه، لن تفتأ تجلب إلى جاهها رجال الجامعة والتعليم. أما الإسكندرية فهي بمنجى عن هذا الجاه. في الإسكندرية الهدوء والصفاء وزرقة السماء والماء - الأمر الذي ينشده العلماء ولا يجدونه في القاهرة الصاخبة المتقلبة الضخمة

فعلى رجال الدولة - والأمر كما أوضحنا - أن يهيئوا الجامعة الإسكندرية ذلك الجو الجامعي، وتلك البيئة العلمية الحقة، لكي تستعيد مفاخر جامعة الإسكندرية القديمة

عبد الله حسين