مجلة الرسالة/العدد 459/قبل اليوم المشهود

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 459/قبل اليوم المشهود

ملاحظات: بتاريخ: 20 - 04 - 1942


للدكتور زكي مبارك

قضى آدم في صحبة حواء ساعات وهو ينتظر اليوم المشهود في ساحة العدل، وهي ساعات كانت أطول من الدهر وأثقل من الجبال

وزاد في كروب تلك الساعات أن آدم لم يكن في حقيقته إلا خلقة فطريةُ يعوزها الصقل والتهذيب، فكان يبدي ويعيد في حكاية شجرة التين، بعبارات محمَّلة بُعنجهية الملامة وقظاظة التريث؛ وكانت حوّاء تصبر على أذاه في حين وتثور في أحايين، وكذلك كانت تلك الساعات أعنف وأفظع من الحساب المرتقَب في ساحة العدل

- آدم، هل وصلت إليك الأنباء الأخيرة؟

- أيّ أنباء؟

- لقد اختصم الأسود والقرود

- ثم؟

- ثم اختصم الملائكة المقرَّبون

- وفيم يختصم أولئك وهؤلاء؟

- في أمرنا بعد العصيان

- وما قيمة ذلك؟

- لقد فهمت مما سمعت أن الرأي العام يعطف على قضيتنا كل العطف

- الرأي العام كله؟ كل سكان الجنة ينظرون إلى قضيتنا برفق؟

- ليسوا جميعاً سواءً، وإنما عطف علينا الأكابر من أولئك السكان

- والأصاغر؟

- هم دائماً أصاغر، ولا قيمة لضجيجهم الصخّاب

- ليس في هذا ما يزيل مخاوفي، يا حواء، فما خشيت يوماً أن يصيبني أذىً من أكابر الخلائق، ولا جاز في وهمي أن تَصدُر كلمة الإفك عن مخلوق جمّله الله بالقوة أو بالعقل، وإنما الخوف كل الخوف من الأصاغر، فهم الذين يذيعون الصحيح والعليل من أخبار السوء، وهم الذين يطمسون محاسن الأكابر بالإفك والإرجاف، ليقال إن الوجود ليس ف فاضل ومفضول

- لا عليك من هؤلاء، فلن يسمع أحدٌ ما يأفكون. . . وهل ضعُفت العقول حتى تُسيغ أقاويل المرجفين؟

- لو كانت العقول تَنقُد كل ما تسمع، وفي كل وقت، لرجوتُ أن تسقط أراجيف الكاذبين، ولكن العقول لا تَنقُد كل ما تسمع، ولا تنصب ميزاناً لكل ما يقال، وسترين يا حواء أن أصحاب العقول أقلية ضئيلة، وهم مع ذلك لا يشغلون أنفسهم بإنصاف المظلومين، وليس فيهم من يترك أعماله ليرفع الشبهات المفترات من طريق المروَّعين بالبهتان

- ألم تسمع أن الأسود غضبت من تطاول القرود؟

- سمعتّ، ولكني أعتقد أنها غضبة وقتية، فستجد للأسود شواغل تصرفهم عن تأديب أولئك الأنذال

- وقد غضبت البلابل أيضاً

- أعرف ذلك، فقد سمعتها تقول إن آدم هو المخلوق الوحيد الذي يطرب لصوتها الرخيم، وأنه إن خرج من الجنة فلن تهشّ للتغريد. . . ولكن من يضمن أن يدوم هذا العطف؟ نحن شجّعنا البلابل والعنادل على الغناء، وأقمنا لهم دولة، ونبهّنا الخلائق إلى ما يملكون من جواهر السجع والرنين. فهل يذكرون هذا الفضل بعد أن نخرج من الفردوس؟ أنا أخشى أن تصفق لهم الضفادع فيرون النقيق من صور الثناء!

- هل بلغك ما قالت الببغاوات؟

- نعم سمعت أنها قالت (إن مخارج الحروف عند آدم سهلةٌ لينة، وأنها تحاكيه في النطق بلا عناء، فهو بذلك أجمل مخلوق) وأنا من هذا أخاف يا حواء

- وكيف؟

- ستستطيع الببغاوات أن تزعم أنها خلائف

- خلائفُ مَنْ؟

- خلائف الحيوان الناطق

- خلائف آدم؟

- إي، إي، أليست تنطق كما ينطق؟ - ولكنها لا تفقه شيئاً مما ننطق؟

- من حق الببغاوات أن تدّعي لأنفسها ما تشاء، حين يغيب أهل العقل والبيان

- ولكن أهل الجنة سيذكرون دائماً أنك وحدك الشاعر والخطيب

- أهل الجنة لن يذكروا شيئاً، وسوف تعلمين

- خبلتني، خبلتني!

- إن كنتِ في حاجة إلى تزيد من الخبال، أيتها المخبولة الحسناء. . . اسمعي

- إنك تُرعبني حين تقول اسمعي

- اسمعي يا حواء، ثم اسمعي، المجد يحتاج إلى حراسة، والأصدقاء يحتاجون إلى حراسة، وقد تكون رعاية الغنم أسهل من رعاية الأصدقاء، ولن يحفظ عهدنَا أحدٌ حين نغيب

- ولا الظبي الذي ربيناه منذ أسابيع؟

- سيجد ذئباً يرعاه، وسيأنس بالأنياب الحِداد، أضعافَ ما أنِس بالأنامل اللطاف

- هي أناملي، لا أنامِلُك

- حتى في أوقات الكرب الماحق لا تنسى المرأة أنها مخلوق لطيف!

- ترتاب في جمالي؟

- أستغفر الله!

- ولا تستغفر الحب؟

- وأستغفر الحب وأتوب إليه!

- صِدق، صِدق؟

- وهل كذبتُ عليك يوماً يا حواء؟

- أنا إذاً جميلة وأنت تحبني؟

- ما أحببُتك يوماً، ولا رأيتك جديرة بالحب، لأن عقلك أصغر من عقلي، والحب تفاهم بين عقلين، قبل أن يكون تلامساً بين جسمين، ولكن صوتاً يزعجني يا حواء

- وما ذلك الصوت المزعج؟

- هو الصوت الذي يصرخ بأن لابد لآدم من حواء

- تقول هذا وأنت الذي يُشغل عني بما في الفردوس من شجر ونبات وطير وحيوان؟ - أنا شُغلِتُ عنك بتلك الخلائق؟ هيهات ثم هيهات! كنت أتأمل الأشجار لأعانق الغصن الذي يشبه قدك النشوان، وكنت أداعب الأزهار لأرى فيها شمائل من خدك الوهاج، وكنت ألاعب الأطيار لأسمع سجعاً يذكّر بصوتك المقتول، وكنت أناغي فصائل الحيوان لأعرف أن لك صوراً في عيون الجآذر وأجياد الظباء. حبك يا حواء أذواني وأضناني وأبلاني، وستسمعون من أخباري ما تكرهين

- عَدَتْك العوادي، أيها الفارس الجميل!

- سأصبح فارساً بلا فَرَس

- أنت؟

- نعم، أنا، فقد حدثني أحد الملائكة أن الله لا يقيم وزناً لهفوات النساء، فإن القضاء الذي سيقام في ساحة العدل سيجعلني المدين

- وحدك؟

- وحدي!

- وإذن؟

- وإذن أهبط الأرض وتَبْقَيْنَ في الفردوس

- مع من؟

- مع جميع هذه الخلائق من شجر ونبات وطير وحيوان ومع نهر الكوثر، ومع الملائكة المقرَّبين

- أهذه خلائق؟

- بالتأكيد، وفيها الكفاية لمن يحتاج إلى أنيس

- وأصير كالدَّجاجة الحائرة عند غياب الديك؟

- كيف تحارين وأنت بين المهتدين؟

- هداية حواء في غيبة آدم هي أقبح صورة من صور الضلال

- سيقضي الله في أمرنا بما يشاء

- الله سيقضي بأن تعيش المرأة بلا رجل؟

- سيقضي الله بالعدل، فالرجل أذنب والمرأة لم تذنب، والعقاب لا يحق على غير المذنبين - تخرج من الجنة وأبقى وحدي بحجة أنك المذنب؟

- بالطبع!

- وهذا عدل؟

- هذا هو العدل.

- والله يريد ذلك؟

- يقال!

- آدم، سترى أنني أشجع منك، وأوفى منك!

- من السهل أن تكوني أشجع مني، ولكن من الصعب أن تكوني أوفى مني

- المرأة لا تعتصم بالدلال إلا في أوقات الصفاء، وهي عند الخطر فداء الرجل من جميع الأسواء. ألم تسمع حديث الصائد؟

- وما حديث الصائد؟

- إذا ساور الصائد أسداً ولَبُؤَة، كان عليه أن يقتل اللبؤة قبل أن يقتل الأسد

- ولماذا؟

- لأن الأسد ينسحب بعد إانصراع اللبؤة، أما اللبؤة فتقاتل بعد انصراع الأسد إلى أن تموت

- وأنا سأجادل الله يا آدم

- وتجادلينه يا حواء؟

- أنا أفصح من جميع المحامين، والمرأة تحارب بالدمع حين تعجز عن المحاربة باللسان

- ولكن الله أكبر من أن ينخدع بدمع المرأة ولسانها

- أنا أعرف الله أكثر مما تعرف

- كل شيء جائز إلا أن تصل المرأة إلى معرفة الله على الوجه الحق

- أنت لا تعرف خطر المرأة حين تصرخ وتولول

- أو ينزعج الله عزّ شأنه بالولولة والصراخ؟

- سترى كيف أصنع، سترى، سترى، سأقيم مناحة في ساحة العدل، وسيبكي معي جميع الإناث من الطير والحيوان - والنتيجة؟

- النتيجة معروفة منذ هذا الوقت، فسيصفح الله عنك، ليريح أهل الجنة من الولولة والصراخ

- ويقول التاريخ إن آدم نجا من العقاب لأن امرأته بكت في ساحة العدل؟

- ما قيمة التاريخ، وهو لفظٌ بلا مدلول، ولا يعتزُّ به غير الضعفاء؟

- وتقولين كلما اختصمنا إنك سبب نجاتي!

- هل يؤذيك أن تعترف بفضلي عليك؟

- تمنّين علي قبل أن يقع الفضل المزعوم؟ أنت السبب فيما أعاني من البلاء ومع هذا تطالبين بالثمن لدفع نكبةٍ جناها عقًلك المنخوب!

- أنا أعقل منك!

- لأنك أغريتني بالأكل من شجرة التين؟

- وهل في الجنة شيء اسمه شجرة التين؟

- تكذّبين الواقع الملموس؟

- واقع ملموس؟ ما هذا الكلام الأجوف؟

- شجرة التين، يا حواء، شجرة التين

- قلت لك إن الجنة ليس فيها شيء بهذا الاسم الغريب

- ولم نقع في العصيان؟

- أي عصيان؟

- العصيان الذي أوجب أن نفتضح، يا حواء

- وكيف افتضحنا، يا آدم؟

- بظهور السوءتين

- الطير والحيوان لا تعرف ستر السوأتين، فأرح نفسك من هذا العناء

- أترين أن أواجه الله بهذا القول؟

- واجِه اللهَ بما تشاء، ولا تخف غضبه عليك!

- وكيف؟ - لأنه لن يصنع بك اشد مما صنع

- ماذا؟ ماذا؟

- لقد خلق لك ضميراً، ثم خلق لك ضميراً، لتقضي حياتك في عذاب!

- وإذن؟

- وإذن تكفر بالله وتثور عليه

- لأصير. . .

- لتصير حيواناً سعيداً كسائر أصناف الحيوان

- الفضيحة الأبدية، ولا هذا المصير، يا حواء

- ماذا تريد بنفسك يا آدم؟

- أريد أن أكون أول مسئول أمام الله في هذا الوجود

- وما غنيمتُك من هذه المسئولية؟

- هي أن أتشرف بالثواب والعقاب

- الله قد يعاِقب ولا يُثيب

- يهمني أن أَعاقَب ولا يهمني أن أُثاب

- لأنك. . .

- لأني رجل، وسعادةُ الرجولة في احتمال التبعات

- وبهذه العقيدة ستلقَى الله في ساحة العدل؟

- نعم، نعم

- وإذن يكون من حقي أن أقول إني في صحبة رجل هو أشجع الرجال وأشرف الرجال!

(للحديث أفانين)

زكي مبارك