مجلة الرسالة/العدد 319/كتاب مستقبل الثقافة في مصر

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 319/كتاب مستقبل الثقافة في مصر

ملاحظات: بتاريخ: 14 - 08 - 1939



الثقافة العامة

وتعليم اللاتينية واليونانية

للأستاذ أبي خلدون ساطع الحصري بك

عندما نبحث عن الأسباب التي تدعو إلى استمرار بعض البلاد الغربية على فرض تعليم اللاتينية ولو في بعض الفروع من الدراسة الثانوية، يجب علينا إلا نسهو عن تذكر هذا العهد الذي كانت تسيطر فيه اللاتينية على حياة العلم والتعليم في جميع مرافقها سيطرة تامة. . .

كان من الطبيعي إلا تستمر هذه السيطرة المطلقة على طول الزمن، كما كان من الطبيعي أيضاً إلا تزول هذه السيطرة المطلقة دون إن تترك أثراً عميقاً. . .

كان من الطبيعي أن ترتفع أصوات الاعتراض والاحتجاج على هذه السيطرة، مع بزوغ عصر النهضة؛ وكان من الطبيعي أن تقوى الأصوات المطالبة بتخفيف وطأة هذا (النير اللاتيني) - حسب تعبير (لابرويير) الشهير -؛ وكان من الطبيعي أن تصل هذه الأصوات - أخيراً - إلى درجة الدعوة إلى الثورة ضد اللاتينية للتخلص من سلطتها المطلقة. . .

إن الخروج على سلطة اللغة اللاتينية بدأ أولا على شكل (انقلاب ديني) عندما طالب لوثير بترجمة الإنجيل إلى اللغات القومية، ودعا إلى إقامة الصلوات باللغات التي يتكلم بها الناس.

ثم جاء دور الانقلابات الأدبية، فخرجت الآداب - في الممالك الأوربية المختلفة - على سلطة اللغة اللاتينية المطلقة عندما تهذبت وتقدمت اللغات العامية، وأنتجت من الآثار الهامة ما رفعها إلى مصاف اللغات الأدبية.

وأخيراً جاء دور تخلص (العلم والتعليم) من سيطرة اللاتينية، فأخذت هذه اللغة تفقد سلطتها المطلقة في هذا الميدان أيضاً شيئاً فشيئاً.

إن الانقلاب الأخير لم يتم إلا بتدرج غريب، وبطأ عظيم؛ فمثلا اللغة الفرنسية لم تتمكن من دخول المدارس إلا باجتياز مراحل عديدة تتلخص فيما يلي: أولا إفساح المج بها في أوقات الفرص. ثانياً: تسويغ استعمالها لتفهيم العقائد الدينية للصغار. ثالثاً: تخصيص ساعات لتعليمها كدرس خاص. رابعاً: تحميلها مهمة تعليم بعض الموضوعات الدراسية. وأخيراً زيادة هذه الموضوعات بصورة تدريجية.

كما أن (التاريخ) أيضاً لم يدخل المدارس إلا مجتازاً مراحل عديدة: أولاً على شكل (التاريخ المقدس) مرتبطاً بدروس الدين. ثانياً: على شكل (تاريخ اليونان) و (تاريخ الرومان) مرتبطاً بدروس اللاتينية واليونانية.

أنني لا أرى داعياً لاستعراض جميع التطورات التي طرأت على المناهج الأساسية في المدارس المذكورة، حتى أواسط القرن التاسع عشر. غير أنني أود أن ألخصها بكلمة مختصرة، وهي: إفساح المجال للعلوم المختلفة شيئاً فشيئاً، بجانب اللاتينية واليونانية، دون إخراج هاتين اللغتين من نطاق الدروس الإجبارية.

كان بعض المفكرين والمربين يدعون إلى أحداث انقلاب أساسي في مناهج التعليم من حين إلى حين. كانوا يظهرون ارتيابهم في فوائد تعليم اللغات القديمة، حتى انهم كانوا يصلون بانتقاداتهم هذه إلى درجة القول بضررها؛ غير أن هذه الآراء قلما كانت تجد آذاناً صاغية، فلم تستطيع أن توجد تيارات فكرية قوية تؤثر على الحالة الراهنة.

مع هذا اشتدت الحملات على اللاتينية في أواخر القرن الثامن عشر وأوائل التاسع عشر، أخذت الانتقادات تتغلغل في محافل المفكرين، من جراء انتشار روح الثورة واشتداد نزعة الإصلاح والتجديد من جهة، ومن جراء تقدم العلوم وتعقد الحياة الاجتماعية من جهة أخرى.

فازداد تساؤل المفكرين والمربين يوماً عن يوم: هل من ضرورة تدعو إلى الاستمرار على تعليم اللغات القديمة في المدارس الثانوية؟ ألم يكن هذا التعليم من آثار النظم البالية التي توارثتها المدارس المذكورة من عهد القرون الوسطى؟ ما الفائدة من تعليم هذه اللغات بعد أن لم يبق على وجه الأرض من يتكلم بها؟ وإذا قيل أنها لا تخلو من فوائد، فهل تعادل هذه الفوائد الجهود العظيمة والأوقات الثمينة التي تصرف وتبذل في هذا السبيل؟ ألا يمكن الوصول إلى الفوائد المذكورة من طرق أخرى بوسائط اقل عمقاً من تعليم اللغات الميتة؟

أن هذه الأسئلة فتحت ميداناً فسيحاً للأبحاث والمناقشات التربوية. وهذه الأبحاث والمناقشات، تناولت مسألة (التعليم الثانوي) من وجوهها العديدة، حتى أنها أثارت مسألة (التدريس التثقيفي) من أسسها العميقة. . .

انشطر المفكرون والمربون حيال مسالة اللغتين اللاتينية واليونانية إلى معسكرين متخاصمين: معسكر الذين يقولون بوجوب المحافظة على هاتين اللغتين القديمتين في المدارس الثانوية، ومعسكر الذين يعتقدون بوجوب تخليص المدارس المذكورة منهما.

بدأت المناقشات بين المعارضين والمدافعين منذ قرن تقريباً؛ وهي تشتد أحياناً وتفتر أحياناً؛ وتضطر الحكومات إلى اتخاذ قرارات عملية جديدة، تحت ضغط هذه المناقشات، من حين إلى حين.

إن النزاع حول هذه المسألة صار أشد عنفاً واعمق أثراً في فرنسا مما كان في البلاد الأخرى. . . ولهذا السبب، أرى من الموافق أن نلقي نظرة عامة على الآراء التي استند إليها المعارضون والمدافعون، في المملكة المذكورة بوجه خاص:

يقول أنصار اللغات القديمة: إن في تعليم هذه اللغات فوائد عظيمة - مباشرة وغير مباشرة، قريبة وبعيدة، عملية ونظرية، تعليمية وتثقيفية - لا تضاهيها الفوائد التي يمكن الحصول عليها من تعليم أية لغة من اللغات الحية، وأي فرع من فروع الدراسة الأخرى. . .

وأما أنواع هذه الفوائد، فتتلخص في الأمور التالية:

(ا) إن اللاتينية أم اللغة الفرنسية ومصدر مفرداتها؛ فإتقان اللغة الفرنسية اتقاناً يضمن الأخذ بناصيتها، لا يمكن إن يتم بدون معرفة اللغة اللاتينية. . .

(ب) إن الآداب الفرنسية تأثرت بالآداب اللاتينية واليونانية تأثراً كبيراً. فمعرفة الآداب الفرنسية معرفة عميقة يتوقف على درس الآداب اللاتينية واليونانية دراسة كافية.

(ج) إن خزائن الأدب اللاتيني واليوناني مملوءة بالآثار الخالدة التي تصور أسمى نزعات الإنسان بأجمل الأساليب؛ فالاطلاع على هذه الآثار الخالدة من الأمور الضرورية لتكوين الثقافة السامية.

(د) إن الحقوق الفرنسية مؤسسة على الحقوق الرومانية، والتعمق في هذه الحقوق يتطلب معرفة مصادرها، وفهم هذه المصادر يتوقف على معرفة اللاتينية.

(هـ) لقد أصبحت اللاتينية واليونانية مصدر الاصطلاحات العلمية ولا سيما ما يتعلق منها بالتاريخ الطبيعي والطب والكيمياء وأنواع المخترعات الحديثة، ومعرفة معاني هذه الاصطلاحات العلمية - وصوغ أمثالها عند الحاجة - مما يتطلب معرفة هاتين اللغتين.

(و) إن تعليم اليونانية واللاتينية من احسن وأنجع الوسائل التثقيفية؛ فأن هذا التعليم يلعب دوراً هاماً في تكوين العقل وتقويمه وتعويده على التفكير الصحيح المستقيم ولا يوجد موضوع دراسي يضاهي هذا التعليم من وجهة هذا العمل التثقيفي. ولذلك يجب أن نعتبر تعليم اللاتينية واليونانية بمثابة حجر الزاوية في صرح التثقيف.

إن جميع العظماء الذين نعرفهم ونفتخر بهم - من أساطين الأدب إلى جهابذة الفقه والعلم - قد تثقفوا بهذه الثقافة واستفادوا منها فلا يجوز لنا أن نهملها. . . ويجب أن نعلم حق العلم أن إهمال هذه الثقافة التي أثبتت جدارتها بالثمرات الثمينة التي آتتها للامة الفرنسية يكون بمثابة تعريض مستقبل هذه الأمة إلى خطر عظيم، خطر انحطاط الثقافة العامة التي تفتخر بها: وخطر الدراس جيل أعاظم الأدباء والعلماء الذين نعجب بهم.

هكذا كان يقول أنصار اللاتينية واليونانية.

وأما معارضو هؤلاء فيقولون: أن اللاتينية واليونانية من اللغات الميتة التي ترجع إلى العهود البائدة؛ وإن الحضارات والثقافات التي تتمثل في هاتين اللغتين أصبحت مدفونة في أغوار التاريخ ولو كانت سامية وباهرة أبان حياتها. فليس من المعقول أن نصرف - في هذا العصر الذي نعيش فيه - كل هذه الأوقات، ونستنفد كل هذه الجهود في سبيل تعلم وتعليم مثل هذه اللغات البائدة. . .

وأما الفوائد الآنفة الذكر فيفندها المعارضون واحدة فواحدة كما يلي:

(أ) لا شك في أن اللاتينية هي أم الفرنسية ومصدرها الأصلي؛ غير أن ذلك لا يدل على أن إتقان الفرنسية يتطلب معرفة اللاتينية. فالفرنسية اليوم، أصبحت لغة مستقلة عن اللاتينية استقلالا تاماً؛ فيجب أن تدرس درساً مباشراً، حسب معانيها وقواعدها وأساليبها الخاصة بها، بقطع النظر عن مصادرها الأصلية وتطوراتها التاريخية. وأما درس تلك المصادر، وتتبع تلك التطورات، فمما يجب أن يختص به العلماء الذين يودون أن يتبحروا في فقه اللغة ويتعمقوا في تاريخها؛ ولم يكن من الأمور التي يجب أن تعتبر من أسس دراسة الفرنسية دراسة عامة، حتى ولا من أسس دراستها دراسة أدبية.

(ب) إن الأدب الفرنسي أدب قائم بنفسه، وإن كان قد نشأ في أحضان الأدب اللاتيني وتأثر بالأدب اليوناني. إنه اتخذ أسلوباً خاصاً، فاكتسب كياناً مستقلاً. فدرس هذا الأدب وإتقانه لا يتطلبان الرجوع إلى منابعه بوجه من الوجوه.

ومن أوضح البراهين على ذلك هذه الحقائق الواقعة: (أننا نعرف عدداً لا يحصى من المستنيرين الذين درسوا اللاتينية واليونانية، ومع هذا لم يصبحوا من الكتاب المجيدين في الفرنسية. ومقابل ذلك نعرف عدداً غير قليل من الأدباء الذين أحرزوا مكانة عظمى في تاريخ الأدب الفرنسي، مع أنهم لم يتعلموا اللاتينية، ولم يتثقفوا بآدابها. . .).

(إن لاروشفوكو، ووورنياك، وآلكساندر دوماس، وجورج صان. . . من جملة الأدباء الذين يذكرون في هذا الصدد. . .)

(ج) إن الآثار الخالدة المكتوبة باليونانية واللاتينية قد ترجمها إلى الفرنسية كبار الأقلام، فيمكن الاطلاع عليها من تلك الترجمات الجيدة، دون إضاعة الأوقات والجهود، في تعلم اللغات التي كتبت بها.

هذا. ومما يجب إلا يعزب عن البال أن معرفة اللاتينية واليونانية التي يمكن الحصول عليها خلال الحياة المدرسية لا تستطيع أن ترفع الطالب إلى درجة تمكنه من تذوق مضامين تلك الآثار الفكرية والأدبية ومزاياها - في لغاتها الأصلية - ولذلك نستطيع أن نقول: إن درس الآثار المذكورة في ترجماتها الجيدة اكثر ضماناً لتذوق مزاياها تذوقاً حقيقياً. . .

وزد على ذلك أن اللغات الحية الراقية أيضاً أوجدت آثاراً خالدة لا تقل أهمية وسحراً عن الآثار التي يشير إليها دعاة اللاتينية واليونانية، إن لم نقل بأنها تفوقها في هذا المضمار، على الأقل من وجهة قربها إلى حياتنا العصرية. . . فلا يحسن بالثقافة الإنسانية العالية أن تبقى تحت سلطان اللاتينية واليونانية القديمة؛ بل الأجدر بها أن تستفيد من الآثار الخالدة التي أنتجتها اللغات الحية في العصور الحديثة. . .

إن تعلم اللغات الحية - عوضاً عن اللاتينية الميتة واليونانية القديمة - يأتي بفوائد عظيمة، من هذه الوجهة أيضاً.

(د) لا ينكر أن الحقوق الفرنسية مستمدة من الحقوق الرومانية، والحقوق الرومانية مدونة باللغة اللاتينية. غير أن النصوص اللاتينية المتعلقة بالحقوق والقوانين - قد ترجمت بأجمعها إلى اللغة الفرنسية على يد اقدر العلماء والمتخصصين. فاصبح في استطاعة كل فرنسي أن يدرس الحقوق الرومانية دون أن يتعلم اللاتينية.

هذا، ويجب إلا يغرب عن البال أن الحقوق والقوانين العصرية لم تبق تحت سيطرة الحقوق الرومانية، وإن كانت قد استمدت - فيما مضى - أصولها منها. فأهمية الحقوق الرومانية في الثقافة الحقوقية آخذة في التضاؤل يوماً عن يوم، وسائرة نحو مطاوي التاريخ بخطوات سريعة.

ولهذا كله لا مجال لتبرير تعليم اللاتينية - بصورة منطقية - بحجة ضرورة ذلك لفهم الحقوق الرومانية.

(هـ) وأما مسألة الاصطلاحات العلمية الحديثة فأنها ليست من الأهمية بدرجة تستلزم صرف الجهود الشاقة لتعلم اللاتينية واليونانية، فان مصادر هذه الاصطلاحات وأساليبها محدودة، فليس من الصعب تعليمها مباشرة - مع ذكر وجوه اشتقاقها - دون التعمق في أغوار اللغتين القديمتين المذكورتين.

فضلاً عن أن المعاني الاصطلاحية قلما تنطبق على المعاني اللغوية؛ فمعرفة المعاني الأصلية قلما تساعد على فهم المعاني الاصطلاحية. ويمكننا أن نقول: إن عدم ضرورة التقيد بالمعاني الأصلية في الكلمات والتعبيرات المستخرجة من اللغات الميتة، كان من أهم العوامل التي سهلت وضع هذه الاصطلاحات الحديثة، ونشرها بين جميع الأمم العصرية (وذلك بجانب العامل الآخر، وهو ملاءمة عواطف الأمم التي لا تقبل عادة الاصطلاحات التي تستمد عناصرها من لغات الأمم المعاصرة لها). ولا نغالي إذا قلنا: إن هذه الاصطلاحات إنما أدخلت على اليونانية واللاتينية إدخالا، فلو أنها عرضت على أبناء اللاتينية أو آباء اليونانية في حياتهم، لما فهموا منها شيئاً، أو فهموا منها أشياء أخرى.

وعلى كل حال نستطيع أن نقول: إن معرفة المعاني الأصلية ليست ضرورية لفهم المعاني الاصطلاحية، كما أنها ليست مفيدة لها في اكثر الأحيان.

فمحاولة تبرير تعليم اللاتينية واليونانية بحجة ضرورة هاتين اللغتين لفهم الاصطلاحات العلمية الحديثة، مما لا يتفق مع العقل والمنطق بوجه من الوجوه.

(يتبع)

أبو خلدون