مجلة الرسالة/العدد 267/التاريخ في سير أبطاله

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 267/التاريخ في سير أبطاله

مجلة الرسالة - العدد 267
التاريخ في سير أبطاله
ملاحظات: بتاريخ: 15 - 08 - 1938



ابراهام لنكولن

هدية الأحراج إلى عالم المدنية

للأستاذ محمود الخفيف

يا شباب الوادي! خذوا معاني العظمة في نسقها الأعلى من

سيرة هذا العصامي العظيم. . . . . .

- 20 -

وجاء يوم الرحيل وآن لفتى الأحراج أن يؤدي رسالته. . . آن لابن النجار أن يأخذ بيديه أزمة الحكم في قومه؛ وتأهب ليواجه العاصفة، وإنه ليراها اليوم عاصفة دونها تلك العواصف التي طالما هبت في الغابة هوجاء عاتية، فزعزعت باسقات الدوح وشعثت كثيفات الألفاف وأفزعت الرجال والدواب. . . إنه يراها اليوم عاصفة من عمل الإنسان لا من عمل الطبيعة، وما أهول ما يفعل بنو الإنسان حين ينسون إنسانيتهم فتستيقظ فيهم غرائزهم التي دبت فيهم أول ما دبوا على هذه الأرض. . .

عول على الرحيل (الرجل القادم من الغرب) كما اعتاد أن يسميه أهل العاصمة وغيرهم من أهل المدن الشرقية السابقة في المدنية. . . وتقدم الربان ليقود السفينة ودوى الأنواء في مسمعيه

ذهب مساء اليوم السالف ليوم رحيله إلى مقر عمله في المحاماة فجمع طائفة من الكتب والأوراق فلفها وربطها بيده وحملها معه ثم أوصى أن تظل الرقعة التي تحمل اسمه واسم زميله هرندن حيث هي على الباب قائلاً: إنه عائد - إن مد في أجله بعد انقضاء مدته في الرياسة - إلى عمله في المحاماة كأن لم يكن هناك شيء

وكان قد حزم متاعه وأعد كل شيء ليكون على أهبة إذا تنفس الصبح، وأعد فيما أعد خطاباً يذيعه في الناس ساعة الاحتفال بتسلمه مقاليد الأمور، ولقد احتفل لهذا الخطاب وكانت معانيه محتبسة في نفسه زمناً تهدر كالسيل وتجيش وتجتمع وأسفر الصبح فركب وجماعة من أصدقائه مركبة أقلتهم إلى المحطة وقد تلاقى هناك نفر من أهل المدينة جاءوا يحيونه فما رآهم حتى وقف على سلم العربة وأطل عليهم وقد شحب لونه وتندت عيناه فقال: (أي أصدقائي؛ لن يستطيع أي رجل لم يكن في مثل موقفي هذا أن يدرك ما يخالجني من الحزن لدى هذا الرحيل. إني مدين بكل شيء لهذا البلد ولكرم أهله؛ ولقد لبثت فيه من عمري ربع قرن وتدرجت فيه من شباب إلى رجل مسن. . . هنا ولد أبنائي وهنا دفن واحد منهم؛ وهأنذا أرحل ولست أدري ما إذا كنت عائداً إليكم بعد اليوم. . . أرحل وأمامي عمل هو أعظم من ذلك الذي ألقى على كاهل وشنجطون، ولا نجاح لي ما لم أصب معونة الله الذي كان معه أبداً. . . ولئن ظفرت بهذه المعونة فلن أخيب. فلنأمل في حسن المنقلب مخلصين واثقين في الله الذي هو معي ومعكم والذي يكون منه الخير في كل مكان، وإني حين أكلكم إلى عنايته كما آمل أن تكلوني إليها في صلواتكم أقرئكم وداعاً حارَّا. . .)

وانطلق به القطار وقطرات المطر تنزل على رؤوسهم الحاسرة كأنها دموع منصبة من السماء، ولكم التقت ساعتئذ تلك القطرات بما فاض من المآقي. . . ورحل أبراهام ليعود بعد جهاد شديد ومراس فإذا هو شهيد تمزق الجراح جثته

وقضى في رحيله إلى العاصمة اثني عشر يوما. وعلم الناس بهذا الرحيل، فكانوا يلقونه في المدن التي يمر بها مرحبين، وقد تلاقت جموعهم على نحو لم تشهده البلاد من قبل، فما في الناس إلا من ملكه حب الاستطلاع؛ وكثير منهم كانت تدفعهم المحبة إلى هذا اللقاء

وكان قد عقد النية أن يظل صامتاً إلا ما يكون من تحية يرد بها على ما كان يلقاه من تحيات؛ ولكن إصرار الناس في كل مكان على أن يسمعوا حديثه جعله يتحلل مما اعتزم؛ ثم إنه - دون أن يعرف التظاهر أو الغرور - رأي أن هذه كانت آخر فرصة يتحدث فيها إلى عامة الناس، وهم الذين يعول عليهم ويطمع أن يتخذ منهم ظهيراً فيما هو مقدم عليه من كفاح

وكانت له في خطبه أثناء ذلك المسير خطة رشيدة؛ فقليلاً ما كان يبرم أمراً أو يقطع في المسائل القائمة برأي؛ وإنما كان يشرح الأمور حتى تستبين، ثم يتساءل عن أوجه الصواب تاركاً الناس يتدبرون حتى تأتيهم البينة، تتمثل ذلك في مثل قوله في أنديا نابولس: (أي مواطني، لست بمبرم أمراً، إنما أنا ألقي عليكم أسئلة لتتدبروها. . .)

ولقد تكلم في هذه المدينة فأشار إلى ما كان يجري على الألسن يومئذ حول حق الاتحاد في رد الولايات الخارجة عليه بالقوة؛ ولقد عد أنصار الجنوب ذلك العمل عدواناً؛ فتساءل الرئيس هل يكون في الأمر عدوان إذا لجأت حكومة الاتحاد إلى المحافظة على ما تملك هناك من عقار، أو إذا حافظت على سبل مواصلاتها وحرصت على جباية المال المقرر على البضائع الواردة؟

واستقبل إبراهام في سنسناتي استقبالا لم تر هذه المدينة لأحد من قبل نظيراً له؛ وتزاحم الناس عليه يريدون رؤيته وباتت المدينة في مثل فرحة العيد، ففيها الأنوار الوضاءة والأناشيد الصداحة والجموع الغفيرة المستبشرة، وفيها ما هو أعلى من سمات العيد هذه ألا وهو الحب الصادق تفيض به القلوب

ومر بحدود كنتوكي وهي ولاية من ولايات العبيد تشتد فيها الدعوة إلى الانسحاب من الاتحاد فقال يوجه الكلام إلى أهلها مشيراً إلى ما اعتاد أن يخاطب به أهل الجنوب من قبل: (أي مواطني أهل كنتوكي، هل لي أن أدعوكم بمثل ما أدعو؟ إني في موقفي الجديد، لا أجد حادثاً ولا أحس ميلا يدعوني أن أغير كلمة من هذا، فإذا لم تنته الأمور إلى الخير فثقوا أن الخطأ ذلك لا يكون خطئي. . .)

وفي بتسبرج أفصح عن سروره أن كان استقباله هناك استقبالاً شعبياً لا أثر للحزبية فيه ثم قال: (إذا لم تجتمع كلمتنا الآن لننجي سفينة الاتحاد القديمة الطيبة في رحلتها هذه، فلن يكون ثمة من فرصة بعدها لقيادتها إلى رحلة غيرها)

وفي محطة من المحطات الصغيرة وقف لنكولن بعد أن قرت حماسة المستقبلين فقال إنه يذكر أن خطاباً جاءه من فتاة هذه بلدتها تسأله فيه أن يطلق لحيته، ولقد فعل كما أشارت فهو ذو لحية اليوم كما يراه الناس، ثم عبر عن رغبته في رؤية تلك الفتاة إن كانت حاضرة، فبرزت من الجموع تلك الفتاة ومشت على استحياء حتى وصلت إلى الرئيس، فقبلها قبلة على جبينها، والناس بذلك معجبون فرحون!

وفي ألبني عاصمة ولاية نيويورك العظيمة كانت حفاوة الناس به شديدة؛ وكذلك كأن شأنه في مدينة نيويورك التي سبق أن زارها لأول مرة من قبل ليخطب الناس فأصاب من النجاح ما سلفت الإشارة إليه

ووقف في ترنتن على مقربة من ميادين القتال التي سالت فيها دماء الثورة غداة حرب الاستقلال، فأخذه جلال الموقف وهزته روعة الذكرى فجري لسانه بما اختلج في نفسه قال (إني لأرجو أن تسامحوني إذا ذكرت في هذه المناسبة أني في أيام طفولتي وفي مستهل عهدي بالقراءة قد تناولت كتاباً صغيراً يدعى حياة وشنجطون تأليف ويمز؛ وإني أتذكر كل ما جاء فيه عن ميادين القتال وعن مواقف النضال من أجل الحريات في هذه البلاد، ولكن ما من حادثة تركت في نفسي من أثر مثل ما تركه موقف النضال هنا في ترنتن نيوجرسي). . . وبعد أن أشار إلى بعض الحوادث قال. . . (وإني لأذكر الآن أني فكرت يومئذ ولما أزل غلاماً صغيراً أنه لا بد أن يكون أمراً غير عادي ذلك الذي كافح من أجله هؤلاء الناس؛ وإني لأحس رغبة ملحة قوية أن هذا الذي كافحوا من أجله وشيئاً آخر هو أعظم من الاستقلال القومي: شيئاً ينطوي على وعد يوعد به الناس جميعاً في هذا العالم في كل ما هو آت من العصور. . . أقول أني شديد التطلع أن أرى الوحدة والدستور وحريات الناس بحيث تصبح أبدية وهي مقرونة بتلك الفكرة الأصلية التي من أجلها قام الكفاح. ولسوف أكون جد سعيد إذا أصبحت الآلة المتواضعة في يد القوى العلي وأيدي هؤلاء الذين يكادون أن يكونوا شعبه المصطفى للعمل على أن يدوم ذلك الذي انبعث من أجله ذلكم النضال العظيم)

وكان الكتاب الذي يشير إليه لنكولن في هذه الذكرى هو بعينه ذلك الكتاب الذي أعاره إياه أحد معارفه والذي بللته قطرات المطر فأصابته ببعض العطب، وتركت الصبي الفقير في حال شديدة من الغم حتى لقد سار يحمله إلى صاحبه وهو شديد الحيرة، فلما جاءه عرض عليه أن يعمل عنده بما يساوي ثمنه. . . ذلك هو الكتاب الذي قرأ فيه النجار الغلام حياة وشنجطون العظيم، ولم يكن يدور بخلده أنه سيجلس يوماً حيث كان يجلس وشنجطون ويسدي إلى بني قومه وإلى الإنسانية جميعاً من صنيعه ما لو شهده ذلك البطل الكبير لطمع أن يكون ما تقدم يداه فوق ما قدمت

واستأنف الرئيس لنكولن ومن معه سيرهم إلى العاصمة حتى وصلوا فيلادليفيا؛ وهناك علم أن فريقاً من بني جنسه يأتمرون به ليقتلوه!. . . سمع إبراهام أن أمامه الخطر يوشك أن يحدق به؛ وما كان إبراهام بدعاً من العظماء، فكم من أماثل خلوا من قبله لاقوا مثلما يلاقي اليوم من عنت، ودبر لهم مثلما يدبر له، فما وهنوا ولا اصرفوا عن وجهتهم حتى أدركوا الغاية أو أدركهم الموت. . .

وارتاب لنكولن أول الأمر، فما كان يظن أن أحداً تحدثه نفسه بإتيان هذا العمل، ولكن جاءه رسول من عند صديقه سيوارد ينبئه أن قائد الجيش حدثه أن هناك مكيدة تدبر له وأن عليه أن يحذر حتى لا يكون ضحية للغادرين. . . فلما سمع لنكولن هذا لم يعد يرتاب وبات على حذر وإن لم تأخذه خيفة

وكانت لفيلادليفيا وهي المدينة التي كتب الثوار فيها وثيقة الاستقلال وصاحوا صيحة الحرية منزلة عظيمة في نفسه وفي نفس كل أمريكي من أنصار الحرية، وكان أبراهام قد وافق أن يخطب الناس في تلك القاعة التاريخية التي ولدت في ساحتها الحرية، وكأنما توافقت الذكريات لتزيد في جلال الموقف فلقد تصادف أن كان ذلك اليوم هو عيد ميلاد الزعيم وشنجطون؛ ورغب الناس أن يرفع العلم على رأس القاعة الزعيم لنكولن. . . ووافق لنكولن على ذلك مغتبطاً مرحباً كما وافق أن يخطب الناس مساء ذلك اليوم في مدينة هرسبرج وكانت تقع غير بعيد من فيلادليفيا. . .

وخشي أصحاب أبراهام أن يفتك به المجرمون في زحمة الناس في ذلك اليوم المشهود في أي من المدينتين وأشاروا عليه أن يقتصد في الاتصال بالناس فيفوت على الغادرين قصدهم، ولكنه أبى إلا أن يفي بوعده ولو كان في ذلك هلاكه. . .

ورفع أبراهام العلم في فيلادليفيا وكان في ذلك موفقاً، فإنه صعد في ثبات إلى حيث ينتصب العمود الذي يثبت فيه العلم فشد الحبل فانبسط العلم ورف، وخفق الناس واستبشروا وهم ساعتئذ جموع خلفها جموع إلى آخر ما يذهب فيهم البصر. . . وكلهم يحيون الرئيس في حماسة وغبطة

وخطب في القاعة التاريخية فأفصح عن شيء من سياسته على خلاف ما جرى عليه في خطبه السالفة؛ قال: (كثيراً ما سألت نفسي ما ذلك المبدأ أو ما تلك الفكرة التي حفظت الاتحاد هذا الزمن الطويل؛ إنها لم تكن مجرد انفصال المستعمرات عن الأرض الأصلية، ولكنها كانت تلك العاطفة التي منحت الحرية لا لهذه الأمة فحسب، بل للناس جميعاً في كل عصر مقبل كما أرجو؛ إنها كانت تلك التي بشرت أنه متى حان الوقت المناسب رفع العبء عن كواهل الناس جميعاً ومنح كل امرئ فرصة على قدر ما يمنح أخوه. . . تلك هي العاطفة التي انطوى عليها إعلان الاستقلال. والآن أسائلكم يا أصدقائي هل يتسنى خلاص هذه البلاد على هذا الأساس؟. . . إذا أمكن ذلك فإني إن استطعت أن أساعد على خلاصها أعد نفسي من أسعد الناس في هذا العالم. أما إن كان من المستحيل خلاصها إلا أن يضحي هذا المبدأ، فإني أفضل أن أغتال في هذا المكان على أن أضحي به. والآن أرى من شواهد الحال القائمة أنه ليس ثمة من ضرورة إلى سفك الدماء والحرب. ليست ثمة ضرورة إليها؛ وإني لا أميل إلى اتجاه كهذا؛ وأضيف إلى ذلك أنه لن تقوم حرب إلا إذا أجبرت الحكومة عليها؛ ولن تلجأ الحكومة إلى القوة إلا إذا أشهر في وجهها سلاح القوة. . . أي أصدقائي! هذه كلمات جاءت على غير ترتيب سابق ألبتة؛ فأنا لم لأكن أتوقع قبل وصولي أن أدعى إلى الكلام هنا؛ لم أكن أحسب إلا أني سأرفع العلم فحسب؛ وعلى ذلك فربما كانت كلمتي هذه خلواً من الحرص ولكني لم أقل إلا ما أريد أن أعيش به وما أريد - إذا كانت تلك مشيئة الله - أن أموت به. . .)

وذهب لنكولن في المساء إلى هرمسبرج وخطب الناس كما وعد؛ وكانت بلتيمور هي المدينة التي اعتزم المجرمون أن يقتلوه فيها وهي في طريقه إلى العاصمة؛ فعاد لنكولن إلى فيلادليفيا قبل الموعد المضروب، وركب ومن معه قطاراً عادياً كان قد استبقي بناء على إشارة قادمة ليحمل (طرداً) هاماً إلى وشنجطون وترك لنكولن القطار الخاص الذي كان معداً لسفره، فمر ببلتيمور قبل الموعد المعروف ففوت بذلك على الكائدين كيدهم فكانوا هم المكيدين. . .

وفي الساعة من صباح اليوم التالي وصل (الرجل القادم من الغرب) ومن معه إلى وشنجطون، فدخل المدينة على حين غفلة من أهلها؛ اللهم خلا سيوارد ورجل آخر كانا على علم بمقدمه فلقياه. . . وركب لنكولن إلى فندق لينتظر بضعة أيام حتى يحتفل بتسليمه أزمة الحكم. . . دخل الزعيم لنكولن عاصمة البلاد في مثل تلك الساعة المبكرة وفي مثل تلك الحال المتواضعة ليجلس في كرسي الرياسة الذي جلس فيه من قبل وشنجطون، دخل ليحمل العبء وليبدأ في حياته مرحلة من الجهاد والجلاد دونها كل ما سلف من جهاد وجلاد. . .

(يتبع)

الخفيف