مجلة الرسالة/العدد 231/مسكين

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 231/مسكين

ملاحظات: بتاريخ: 06 - 12 - 1937



بين إنجليزي ولبوته

أثر العادة والتدريب في الإنسان والحيوان

كنت قد أبصرت في بعض الصحف صورة شبل مع إنجليزي وطلَّتُه أو لَبْوتَه. . . وهما يشربان الشاي (أو الشاهي كما يقولون في الحجاز) والثلاثة: الرجل والرَّجلة وأبن الليث يتناظرون صامتين. وفي الصحيفة حديث أنس الوحش، فلم أتعجب إذ رأيت هذا المسكين (أعني الشبل) يقاعد إنجليزياً، ولم أنكر، ولم أقل: إن ذلك البريطاني قد تطبع بطبع الأسد الوحشي حتى ائتلفا واصطحبا لأن الإنجليزي إنسان من الاناسية والناس لا يحتاجون كما يعرف العارفون إلى تدرب على طبيعة من طبائع الضواري والكواسر أو الجوارح، فالقرابات كما حققت علوم كثيرة في هذا الزمان بين منتصبي القامات اليوم وبين الماشيات على أربع والطائرات والزحافات واشجات قريبات؛ ووراثة الأجداد البعيدة (بل القريبة) وهي التي يقال لها في اللسان الإفرنجي ' ما زايلتهم في حين، وما ضاع والحمد لله. . . منها شئ؛ وفي كل يوم ألوف ألوف من الأدلة المثبتة المسكتة، المخجلة المخزية. وابْل من شئت ممن تفخمهم تفخيماً وتبجلهم تبجيلاً وتحسبهم - وهم من البشر - ملائكة، فإنه (يكاد أفضلهم رأياً يردّه عن فضل رأيه الرضا والسخط، ويكاد أصلبهم عوداً تنكأه اللحظة، وتستحيله الكلمة الواحدة)

(والناس شجرةَ البغي)

(وجدت الناس إن قارضتهم قارضوك، وإن تركتهم لم يتركوك، وإن هربت منهم أدركوك)

(وجدت الناس أخبْر تَقْلِهْ):

يلقاك بالماء النمير الفتى ... وفي ضمير النفس نار تَقِدْ

يعطيك لفظاً ليّناً مسُّه ... ومثل حدّ السيف ما يعتقدْ

فالناس هم الناس، و (هم - كما قال عالم إفرنجي - لم يزالوا حتى اليوم في الأفق (الدور) القردي الشبنزي أو الشنبنزي) إنهم بعد لفي هذا الأفق وإن مشوا في الأرض متغطرسين متكابرين متبجحين على إخوانهم الأقربين (ذوات الأذيال. . .) بما سمّته لغاتهم تقدماً وارتقاء وإن أسمعك بعضهم - وأنت في القاهرة مقيماً - صوت الحبيبة في (نيويورك) وأراك صورة من تهوي في بلاد (النمسة):

من في العراق يراك في طرسوسا

فالناس هم الناس:

فلا تلزمن الناس غير طباعهم ... فتتعب من طول العتاب ويتعبوا

أعود إلى أول كلامي فأقول: لا، لا، لم أقل: إن ذلك الإنجليزي قد تخلق بنحيزة ضارٍ فألف كلُّ صاحبه؛ فالإنسان - كما أثبت علم العلماء وأثبت عمله هو - سبعي بالطبع، بل ازددت بعد تلاوة ذلك الحديث إيقاناً بأثر العادة والتعويد، وإيماناً بأن التدريب يقدر أن يذلل الضاري ويقتاده - كان الله في عونه - إلى ملابسة إنجليزي (أو غير إنجليزي) ولا شئ في الدنيا أصعب من مخالطة الناس.

وفي العربية أقوال كثيرة في العادة والمرون والتضرية والتدريب والتألف. وهذا خبر حسن بارع مجزئ عن كثير في هذا المعنى، وهو في الشرح الكبير (للنهج) لأبن أبي الحديد:

(إن لم تكن حليماً فتحلم، فأنه قل من تشبه بقوم إلا أوشك أن يكون منهم) صحيحٌ في مناهج الحكمة؛ لأن من تشبه بقوم وتكلف التخلق بأخلاقهم، والتأدب بآدابهم، واستمر على ذلك ومرن عليه الزمان الطويل، اكتسب رياضة قوية وملكة تامة وصار ذلك التكلف كالطبع له، وانتقل عن الخلق الأول. ألا ترى أن الأعرابي الجلف الجافي إذا دخل المدن والقرى وخالط أهلها، وطال مكثه فيهم انتقل عن خلق الأعراب الذي نشأ عليه وتلطف طبعه، وصار شبيهاً بساكني المدن، وكالأجنبي عن الوبر. وهذا قد وجدناه في حيوانات أخرى غير البشر كالبازي والصقر والفهد التي تراض حتى تذل وتأنس، وتترك طبعها القديم، بل قد شاهدناه في الأسد وهو أبعد الحيوان من الأنس. وذكر أبن الصابي (أبو اسحق) أن عضد الدولة بن بويه كانت له أسود يصطاد بها الصيد فتمسكه عليه حتى يدركه فيذكيه، وهذا من العجائب الطريفة).

(ق)