مجلة الرسالة/العدد 22/ليلى الاخيلية

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 22/ليلى الاخيلية

ملاحظات: بتاريخ: 04 - 12 - 1933



آخر منظر من حياتها

للآنسة سهير القلماوي. ليسانسيه في الآداب.

الصحراء هادئة نائمة لا يحرك رمالها إلا ريح خفيفة ناعمة تهب بين آونة وأخرى. والليل ساكن صاف، والسماء سوداء قائمة لولا نجوم تضيء هنا وهناك: وأقبل المسافران يتهاديان على جمليهما، وعلى مسافة منهما سار قومهما. وكأنما كان هذان المسافران رسولي حركة وحياة لهذا السكون المهيب، فقد هبت بقدومهما رياح عنيفة شيئا، فأزعجت رمال الصحراء المستكينة الهادئة.

ولو أن ليلى الاخيلية سلمت ... عليّ ودوني جندل وصفائح

لسلمت تسليم البشاشة أو زقى ... إليها صدى من جانب القبر صائح

المسافران أمراءه وزوجها، والتفت الرجل إلى المرأة وكأنما وجد في هذه الرياح الجديدة سببا يقطع به هذا الصمت الذي لازمهما منذ بدء رحلتهما. ولكن المرأة كانت ساهمة ذاهلة فلم يقو على الكلام. لقد كانت تشع منها قوة عجيبه تضطره بل تضطر كل شيء حولهما إلى السكون والهدوء احتراما لتفكيرها وحزنها. ورفعت المرأة رأسها في هدوء، واتسعت عيناها متجهتين نحو نقطة صغيرة لاحت لها في الأفق القاتم من بعيد. وظلت عيناها عالقتين بهذه النقطة وكأنما ربطتا إليها ربطا. ثم اتضحت هذه النقطة شيئا فشيئافإذا بها أكمة صغيرة. هذه هي الأكمة التي كانت تفكر فيها، هذه هي الأكمة التي كانت تتحرق شوقا للوصول إليها ورنت الأبيات للمرة المائة في إذنيها بصوت عميق هادئ. ترى أيجيب حقا؟ لقد كان صادقا لم تعرف له كذبة قط ولكن من سمع بميت يجيب حياً. .؟ توبة.! لقد مات! نعم مات فبكيته ورثيته. . أأكون حالمة؟ وهل أفيق من حلمي فوق هذه الأكمة؟ نعم سأفيق، سيجيبني، سأخلص من هذا العذاب الذي يحرق أعصابي حرقا. . ولو أن ليلى الأخيلية سلمت. . لسلمت تسليم البشاشة. .

ظلت ليلى تردد الأبيات مفكرة وعيناها عالقتان بالأكمة التي لاحت الآن واضحة ظاهرة، ورأى الزوج الأكمة فعبس وقال لنفسه لن تمر ليلى بهذه الأكمة حتى تصعد إلى قبر توبة. وثارت في نفسه ثورة الغيرة وأخذ يتساءل ساخطا حانقا: أيمكن أن يكون حب كهذا؟ لقد أحبته فتاة، ولكنه تزوج غيرها وتزوجت غيره فلم يضعف هذا الحب، وهاهو ذا الآن قد مات ودفن ويلي جسمه ولكنها مازالت تحبه، لم أقو أنا على محو ذكراه، لم أقو أنا على ملء فراغ تركه بموته، نعم لم أستطع إزاء هذا الحب شيئا. .

ظل يغلي في ثورته، وظلت هي في تفكيرها الحزين المؤلم، حتى وصلا إلى الأكمة، فاتجهت إليها صاعدة، ولكن زوجها صاح بها حانقا ثائرا. .

- ليلى! إرجعي لن تصعدي

ولكنها أجابته بصوت حزين وكأنها لم تلحظ ثورته

- أتمر ليلى بقبر توبة فلا تجيبه؟ وصاح بها ثانية!

- ليلى! بربك لا تصعدي، لقد مات توبة ولن تجديه تحيتك شيئا.

وصدمتها كلماته صدمة عنيفة. لقد مات توبة ولن تجديه تحيتي! كلا كلا توبة لم يمت! إن روحه حية، إن صوته مازال يرن في إذنيها، فلو أن ليلى الاخيلية سلمت لسلمت. . نعم سيسلم علي، سيجيب.

لم تجبه واستمرت في طريقها صاعدة، ناداها، فلم تجب، وتوسل إليها فلم تسمع، وهددها فلم تحفل له، إن توبة يدعوها من فوق الأكمة ولن يصدها عن دعوة توبة أحد.

وقفت جانب القبر خاشعة حزينة مضطربة تنصت لدقات قلبها وقد خيل إليها أن صداها يملأ السهل، لم تكن تحس الا أن توبة هنا، فهذا قبره حيث رقد من زمن. إن روحه تملأ المكان وصورته تملأ عينيها، وصوته يرن في إذنيها، ستناديه

وسيجيب، ولكن لم تقو على فتح فمها. . تجلدت قليلا قليلا ثم استطاعت أن تفتح فاها، وأخيرا أن تقول همساً:

- السلام عليك يا توبة.!

وأنصتت الإذن وظلت هكذا مرهفة، كل ما فيها يترقب، لقد أحست أنها معلقة من علو شاهق ستهبط منه بعد حين. ولكن الصمت طال وبدأت تعود إلى نفسها رويدا، بدأت تحس أن دبيباً موجعاً هو دبيب اليأس. توبة لم يجب! أخذت شفتاها تلفظان دون أي صوت: توبة لم يجب. . ثم التفتت إلى القوم في صوت يائس مخزون وكأنها تحدث نفسها:

- والله ما عرف له كذبة قط قبل هذه! ألم يقل: ولو أن ليلى الاخيلية سلمت ... عليّ ودوني جندل وصفائح

لسلمت تسليم البشاشة أو زقى ... إليها صدى من جانب القبر صائح

فما باله لا يسلم عليه كما قال؟

وأحس امجمل بوجود ليلى ووجوم القوم معهما فاضطرب واضطرب الهودج معه. ولكن ليلى لم تحس شيئا، لقد كانت تنتظر في أيمان صادق قوي جوابا من القبر، ولم تستطع الحقيقة أن تقتلع هذا الإيمان بعد. . فهي مازالت منتظرة. . توبة لم يسلم عليها ولكنه لن يتركها هكذا. .

وكانت إلى جانب القبر بومة كامنة، فلما رأت الهودج واضطرابه فزعت وطارت في وجه الجمل فنفر فرمى ليلى على رأسها فماتت من وقتها فدفنت إلى جنبه

أن توبة لم يكذب في حياته، فكيف يكذب في مماته؟