مجلة الرسالة/العدد 181/سوء تفاهم

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 181/سوء تفاهم

ملاحظات: بتاريخ: 21 - 12 - 1936



للأستاذ إبراهيم عبد القادر المازني

كانت الساعة العاشرة حين خرجت السيارتان إلى الطريق العام - أو صعدتا إليه إذا أردت الدقة فان الأرض هناك، في لبنان، قلما تكون مستوية - وكنت أقود إحداهما ومعي فيها زوجتي وأبنائي، وفي الثانية أقارب لنا يقضون الصيف في (ضهور الشوير) وقد مروا بنا في بكفيا - حيث كنا نقضي الصيف - ليرافقونا إلى (الشاغور) حيث دعينا إلى الغداء عند أسرة صديقة لنا من يافا. وتوكلنا على الله وأخذنا الطريق إلى بيروت وكله من بكفيا انحدار وبعضه أوعر من بعض، ولكني كنت قد ألفته وزايلني الخوف من التواءاته وتعاريجه الحادة التي يثب عندها القلب إلى الحلق. وكان اليوم مشرقاً والمناظر على الجانبين مما ترتاح العين إليه وينشرح الصدر له، والطريق أحسن ما يكون نعومة وملاسة وإن كان مما يدير الرأس أحياناً أن يصوب المرء عينه عن الجبل الأخضر من ناحية إلى الوادي العميق من الناحية الأخرى؛ وكان لا بد من العناية والحذر في السير لشدة الانحدار وكثرة المنعرجات وازدحام الطريق بالصاعدين والنازلين فيه بالسيارات الخفيفة والثقيلة والضخمة والصغيرة، فكان البطء الذي اضطرنا إليه الحذار من أسباب المتعة، فاستطعنا أن نتملى بالمناظر التي حولنا وأن نتحدث كما نشاء ونجنب الصمت الذي تدعو إليه السرعة والذي لا يكون إلا ثقيلاً على المسافرين

واحتجنا أن نتزود من (البنزين) ولم يكن معنا إلا ورق مصري، فقالت زوجتي وأنا أناول الرجل ورقة مصرية بجنيه وآخذ الباقي: (ماذا أعطاك؟)

ففتحت لها كفي على ما فيه فأخذته وعدَّته، ثم سألتني: (كم أعطوك؟. . إني لا أفهم!)

قلت: (الجنيه المصري يساوي 394 قرشاً سورياً، وقد أخذوا حقهم وأعطوني حقي وهو معك)

فقالت زوجتي والتفتت لأقاربنا (لست أفهم. . . لقد كان الجنيه يساوي 397 قرشاً)

فقلت: (ولكن الفرنك ارتفع وارتفعت تبعاً له العملة السورية)

فقالت مستغربة: (ولكن لماذا أهملت أن تستبدل النقود المصرية قبل أن يهبط)

قلت وأنا أبتسم: (إنه لم يهبط بل ارتفع) فقالت وهي تخلط: (كيف يكون ارتفع وهو قد هبط. . ألسنا نأخذ أقل)

فقالت قريبتنا: (تمام. . 394 أقل من 397)

فقلت: (دعيني أشرح لك الأمر. . تصوري أن الفرنكات التي في الدنيا كلها انقلبت تفاحاً)

فقالت زوجتي: (نعم)

قلت: (وتذهبين إلى السوق وتجدين التفاح كثيراً فتشترين الأقة بخمسة قروش)

قالت: (نعم)

قلت: (وفي أثناء الليل يرتفع التفاح)

فقالت قريبتنا: (كيف يرتفع)

قلت: (يقل. . هه. . يتعفن. . يسرق. . تصيبه آفة. . . يقل والسلام؛ فإذا ذهبت تشترين أخذت بالقروش الخمسة أقل من أقة)

فقالت قريبتنا: (يعني أنه يهبط)

قلت: (يصعد)

قالت: (كيف يصعد وهو أقل؟)

فقال زوجها: (اسمعي. . أنا أفهمك المسألة. . . تعرفين مقياس الحرارة)

قالت: (بالطبع. . ما له؟)

قال (لا شيء. . تنظرين إليه يوماً فتجدين أن الرقم الذي يشير إليه ثلاثون؟)

قالت: (نعم)

قال (وفي اليوم الثاني تنظرين إليه فإذا الرقم قد صار 28. . . ومعنى هذا أنها هبطت

قالت: (نعم)

قال: (أما الفرنك فان المعنى يكون العكس)

قالت: (نعم)

قال: (هذا كل ما هنالك)

فنظرت إليه كالمذهولة وكنا نحن نضحك؛ فقالت زوجتي وهي تجرها: اسمعي. . . إنهم يضحكون منا ويخيل إلي أن أسلم طريقة أن نقول إن الفرنك صعد كلما فهمنا أنه هبط)

واستأنفنا السير وكنا قد ملنا عن طريق بيروت إلى طريق (عالية) وفرغنا من الانحدار وبدأ الصعود والطريق في هذا الجبل أوسع وأرحب والتواؤه أقل حدة، فأطلقنا للسيارتين العنان، ولم تمنع السرعة زوجتي أن تتكلم فقالت: (إني أشعر أننا لن نجد زينب) تعني الصديقة التي دعتنا إلى الغداء. ففزعت وكادت عجلة القيادة تضطرب في يدي وقلت لها بصوت تشي لهجته بالقلق: (لماذا؟)

فلم تجب بل سألتني: (ماذا قلت لها بالتليفون. . بالضبط؟)

قلت: (قلنا كلاماً كثيراً. . وألححت عليها أن تجيء لتتغدى معنا في بكفيا ولكنها أصرت إصراراً شديداً على أن نذهب إلى الشاغور. . وأذكر تماماً وبغاية الوضوح أنها وصفت لي عين الماء التي هناك)

فأشارت إلي بكفها أن اسكت وقالت: (ماذا قلت لها بالضبط. هذا ما أريد أن أعرفه فلا تغرقه في طوفان من الوصف الذي لا يفيد شيئاً. . . وإذا كنت تريد أن تصف الشاغور فانتظر حتى تراه)

قلت: (ماذا قلت بالضبط. .؟ ياله من سؤال. . اتفقنا على اليوم. . وأؤكد لك أني لم اترك عندها أي شك فيه. . صرخت حتى بح صوتي. . قلته بالعربية. . وقلته بالفرنسية

فصاحت زوجتي

قالت: (بأعلى من هذا الصوت)

قالت: (هل قلت. هذا معناه السبت لا الأحد)

فتداركت الخطأ وقلت وأنا مضطرب (لا لا لا لا بل قلت

وجرى ببالي أني لا أزال أغلط في أسماء الأيام باللغة الفرنسية ولكني كافحت هذا الخاطر حتى نفيته وطردته وقلت لها: (وهبيني أخطأت فقد قلت لها بالإنجليزية ولا يمكن أن أغلط في هذا)

قالت: (سنرى)

فقلت وأنا محنق: (سنرى. . ألا يمكن أن أتكلم بالتليفون من غير أن تتهميني بالتخليط. . . هل هذا التليفون معجز. .؟ سبحان الله العظيم!)

قالت: (طيب اسكت بقى)

فسكت. ووصلنا الشاغور ودخلنا الفندق وسألنا عن السيدة وزوجها فقيل لنا إنها خرجت معه في الصباح الباكر وإنهما قالا إنهما سيرجعان بعد المغرب؛ فنظرت إليَّ زوجتي نظرة ذات معنى، ولم تكفها النظرة بل راحت تقص الحكاية على أقاربنا بأسلوب وكلام لا يدعان أي شك في أني حمار من أطول الحمير آذاناً وأنا ساكت، لأن كل شيء كان يثبت أنها هي الصادقة وأنا الكاذب أو على الأقل المخطئ. ولا أحتاج أن أقول إني اضطررت أن أطعم كل هذا الجيش على حسابي. ولكن اليوم كان على الرغم من هذه الخسارة الفادحة ممتعاً وكان أحلى ما فيه أننا نمنا على الأرض بعد الغداء الباهظ التكاليف بجانب الماء الذي يتدفق كالشلال من العين وهو يرغي ويزبد ثم يتحدر في أقنية ضيقة محفورة له تتخلل الحديقة الواسعة

ولما آن أن نعود تركت هذه الرقعة لصديقنا وزوجته:

(لا شك أن النسيان أرخص. ولكنه كلفني ما أخشى أن أحسبه، فقد جئنا إليكما من غير أن نفطر فنجوتما أنتما ووقعت أنا في الفخ؛ وصدق مرة أخرى أن من حفر بئراً لأخيه وقع فيها. على أن هذا هين وإنما الذي يضيق صدري به ولا أكاد أقوى على احتماله أن زوجتي تحملني التبعة عن هربكم، وإذا كنت لا أطمع في أن تردوا إلي ما أنفقته على إشباع هذه البطون الجائعة كلها، فأني أطمع أن تردوا ثقة الزوجة بي وذلك بأن تعترفوا بأنكم هربتم)

ولم نكد نبلغ بيتنا حتى وقفت الصانعة - كما يسمون الخادمة في لبنان - وقالت لنا: إن السيدة زينب وزوجها كانا هنا ودفعت إلي ورقة فيها هذه العبارة الوجيزة:

(لا بأس! لعلكم نسيتم. والآن يجب أن تجيئوا أنتم إلينا. ولن نهرب منكم كما هربتم منا)

قرأتها وهممت أن أدسها في جيبي ولكن زوجتي سألتني ماذا فيها؟ فقلت إنهما يعترفان بخطئهما، ودفعت إليها الرقعة وذهبت أعدو. . وكيف أقنعها بأن الذي وقع خطأ غير مقصود. . كلا.

لا فائدة. والهرب أحجى وأرشد. . . حتى تهدأ الفورة

إبراهيم عبد القادر المازني