مجلة الرسالة/العدد 169/ميلاد. . .!

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 169/ميلاد. . .!

ملاحظات: بتاريخ: 28 - 09 - 1936



للأديب محمد طه الحاجري

لم يكد الفجر يستفيض من وراء الأفق، كما يستفيض الأمل الباسم من وراء الضلوع، حتى استيقظ أهل ذلك البيت الصغير من إغفاءتهم، ونفضوا عنهم بقايا أحلامهم، واستقبلوا نور الفجر الساحر فأشرقت به قلوبهم، وانبسطت له وجوههم، ثم لم يلبثوا حتى كانوا يحفون بفتاة لم تتجاوز السادسة عشرة من عمرها، تئن أنيناً خافتاً لا يكاد يتجاوز نطاق صدرها، وقد نطقت حركاتها وأسارير وجهها بما يعتلج في أحشائها من ألم، وما تبذله لقاءه من جهد؛ فكانت تنحني إلى أمامها - من ذلك الألم الممض - فتعتمد على يديها، ثم ترفع كفها لتخفي دموعاً تترقرق في عينيها، والسيدتان الجالستان إلى سريرها تحاولان التسرية عنها، وتخفيفَ همّها، وطردَ الأشباح المفزعة التي كانت تساور خيالها، وتضاعف من آلامها؛ ولم يمنعهما وقار السنّ من أن يصطنعا في الحديث شيئاً من الفكاهة والمرح، يبدد وجوم الموقف. . . ويبعد شياطين الوساوس.

أما ذلك الرجل الفاضل الذي كان ينظر إليها، وإن وجهه ليعبر عن شتى العواطف من الألم والعطف والإشفاق والرجاء، فإنه لم يلبث أن غلبته عواطفه، فقام من مكانه، وذهب إلى غرفة أخرى، وأخذ يدعو الله ويضرع إليه أن يكون في عون هذه المسكينة التي تعاني - للمرة الأولى في حياتها - ما تعانيه كل امرأة مثلها خلقت لتكون وسيلة امتداد النوع الإنساني.

ترى ماذا كان يجول في خاطر ذلك الرجل الذي لبث زماناً لا يحس بعاطفة الأبوة إلاّ حنيناً إليها، ورغبة قوية حافزة في الاشتمال عليها، وهاهو ذا الآن يوشك أن يكون أباً كما صار أنداده من قبل، وهاهي ذي رجولته توشك أن تستوي وتأخذ كمالها بهذا القادم المنتظر؟؟

سبحانك اللهم! جعلت في الإيثار كمال الرجولة، فاتسمت الأثرة بالطفولة، ثم جعلت الرجولة درجات بعضها فوق بعض: هذا زوج يكد لنفسه ولغيره، وهذا أب يرى خير بنيه فوق خيره، وهذا عميد أسرة يتولى أمرها ويكدح لمجدها وينافح من دونها، وهذا زعيم أمة قد اضطلع بشؤونها، وسهر على شجونها، وباع ماله ونفسه في سبيلها، فبل الذروة في الرجولة، وأشرف على أقصى غايات الكمال الإنسان أيقولون إن الإنسان أنانيّ بطبعه؟ فما الذي يدفع بالرجل الكامل لأن يكون زوجاً يشرك امرأته في أسباب حياته، وأبا يخلط بين غيره وذاته، وقائداً يضحي بنفسه في سبيل أمته، ومصلحاً ينير لغيره فيطفئ من ذبالته؟ إنما هي غريزة التكمل، فإذا ضعفت تلك الغريزة، فرغب الشبان عن الزيجة، وانصرفوا عن بناء الجماعة، واحتفلوا بخيرهم الذاتي وحده، فقد رجعوا على أعقابهم، ونكسوا على رؤوسهم، وانعكست سنة الخليقة فيهم، فعادوا أطفالاً، وكان من الطبيعي أن يكونوا رجالاً.

تُرى ماذا كان يجول في نفس ذلك الشاب الذي نيّف على الثلاثين، وقد جلس يتمتم بالدعاء، ويرفع يديه إلى السماء، في زي شرقي أنيق، ومحيا مشرق وضئ، لولا ما يرتسم عليه من خطوط فيها من معنى الألم قسط موفور؟

إنما هي مشاعر مبهمة لا تكاد تبين أو تتعين، مترادفة ينسخ لاحقها سابقها، مختلطة بين الماضي والحاضر والمستقبل، لا تكاد تستقر على عهد من العهود الماضية، حتى تحط على آخر في حدود الغيب المحجوب؛ ولا يكاد يألم لما تعانيه زوجه من ألم المخاض، حتى تنسخ هذه الغاشية موجة من النور البهي الساطع المنتشر من عالم الغيب على نفسه الحائرة بين عالم الغيب وعالم الشهود.

أما تلك المرأة الصغيرة فلعل خواطرها كانت حزينة مبتئسة، أكثر منها فرحة مستبشرة، ملتفتة إلى الوراء أكثر من اتجاهها إلى الأمام؛ تنظر إلى الماضي الماثل أمام قلبها، فتغرورق عيناها بالدموع، فتحاول إخفاءها عمن جلس حولها؛ ثم يعروها الألم فتئن وتتوجع وتنحني انحناءة تستل كل ما في النفس من معاني الإشفاق والعطف والرحمة، وتبعث في القلب كل مشاعر الأسى والوجيعة؛ ثم تنظر حولها فتعود بها الذاكرة إلى الفقيدة العزيزة التي فقدتها منذ بضعة من الشهور قليلة، فلا تزال صورتها تلقاءها، متألقة بنور الحب، محفوفة بمعاني الدموع. . . أمها التي لم تكن تشعر بعطف غير عطفها، ولم يكن لها من القلوب غير قلبها، ولم تكن تدري من صور الحب غير صورة حبها. كانت تلك الفتاة وحيدتها، فكانت تستأثر بعطفها وحنانها. ثم ضرب القدر ضربته الصارمة القاضية، وانتزعها انتزاعة عنيفة قاسية، حين كانت ترجو وترقب أن تستمع بحفيدها وامتداد وجودها.

إيه يا روح الأم المرفرفة على سرير فتاتها! امسحي على قلب هذه المسكينة بيدك الروحية الطاهرة، وانشري عليها من ذلك الضوء الذي يغمر ذاتك المجردة، وابعثي في قلبها الطمأنينة التي تسود عالم الروح الأسمى، وانقليه في شفقة الأم الرحيمة، ورقة الروح الكريمة، من الماضي القريب الزاخر بمعاني الأحزان والآلام، إلى المستقبل الزاهر بورود الآمال والأحلام. .!

مضى الزوج إلى مصلاه، يلتمس الروح والطمأنينة في جوار ربه، ويعوذ به من القلق الذي جعل يعبث بقلبه، ويستروح نفحات الملأ الأعلى التي تتأرج فيه. ثم عاد إلى بيته فإذا هو يتلألأ بمعاني الفرح الطروب، كأن الحياة قد أفرغت في هذه البقعة الصغيرة كل ما تدخره من السرور والبهجة. لشتان ما بين هذه الساعة والتي قبلها في رأي قلبه! فقد امتلأ الفراغ الذي كان يشعر به بين جنبيه، والذي كان يشعره أن حياته فارغة لا قيمة لها، والذي كان لا يملؤه إلا الهم والابتئاس حين يرى رجلاً يداعب طفله ويدلله، فتثور غريزته المحرومة، وتضطرب في صدره أيما اضطراب. . . لقد ابتدأ منذ اليوم حياة الأبوة المجيدة والرجولة الصحيحة، وأصبح يشعر لوجوده بكيانين: أما أحدهما فقد بلغ الذروة، وأما الثاني فلا يزال في سفح الحياة يحبو ويتشبث. . . فأي سعادة تغمر قلبه! وأي صورة من الفرح والغبطة ترتسم على وجهه! لقد ظفر اليوم لنفسه بالحياة في أنضر صورها، فما كهذا اليوم في حياته كلها.

وأما الأم فقد تنزلت عليها رحمة ربها، فنسخت تلك المعاني الحزينة من قلبها، وأقبلت عليها الحياة الجديدة المنبعثة من وليدها، فمسحت كل ما أبقى الموت من أثر في نفسها، وقد استغرقت كل عواطفها في تلك الفلذة المشتقة منها.

إيه أيها الوليد الملقى في مهده في جو من الغموض والإبهام وفي هالة من الحب والرعاية والإعظام! ما هو ذلك الشأن الذي جعلك مناط الأمل ومعقد الرجاء، وقد تكون سبب الشقوة ومستقر العناء؟ وما هي تلك الخطورة التي جعلت مقدمك بين التهليل والتكبير، وجعلت استهلالك مقروناً بهتاف الفرح وصوت البشير؟ وما أنت في ذلك الوجود الزاخر إلا ذرة أو أقل من ذرة في عباب المحيط الواسع! ألأنك تمثل الحياة في شتى أشكالها؟ ألأنك تحمل بين جنبيك ميراث الإنسانية جميعها؟ ألأنك الوحدة التي يقوم عليها بناء الكون بما يضم من أشتات ويجمع من مفارقات؟ قد يكون كل ذلك صحيحاً لا ريب فيه. ولكن سنن الوجود ونواميس الخليقة قد طبعت على التحتيم الذي لا مفر منه، والجبر الذي لا اختيار فيه، حتى ليعد من العبث الذي يهيم به العقل أحيناً أن يحول تعليلها، أو يجتهد في تأويلها. فأنت أنت كما أراد الله أن تكون؛ وهذا الاحتفال الذي يحف موكبك العظيم هو جزء من النواميس التي قدرها الله لنظام الوجود، ولا مبدل لكلمات الله.

محمد طه الحاجري