مجلة الرسالة/العدد 167/نبوة المتنبي

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 167/نبوّة المتنّبي

ملاحظات: بتاريخ: 14 - 09 - 1936



للأستاذ محمود محمد شاكر

كتب الأخ سعيد الأفغاني كلمة عن (دين المتنبّي) في العددين من الرسالة (161و162) سنة 1936، وقد عرض فيها لنبوّة أبي الطيّب التي يزعمونها وقعت وكانت منه، ولم يجد مندوحةً عن القول (أو كما قال): (بأن تنبؤه في الأعراب أمر وقع حقيقة ولا سبيل إلى الشكّ فيه، تضافرت على ذلك كل المصادر الموثوقة حتى التي كانت تميل إليه كل الميل، فأنها لم تنف الأمر وإنما التمست له المعاذير) ثم علق على هذا فقال:

(قرأتُ أخيراً عدد المقتطف الذي كتبه الأستاذ شاكر عن المتنبيّ خاصّةً، فإذا به يذهبُ إلى نفي تنبؤ أبي الطيب الذي اتفقت عليه كل المصادر تقريباً. وقد أنعمت في تدبُّر الأسباب الحادية على النَّفْي فلم أجد فيها مقنعا به من القوة ما يقف لهذه الروايات الصحيحة!!

والتاريخ لا يثبت خبراً أو ينفيه تبعاً لميل مؤلّف أو رأيه، ولا بد فيه حال النفي من التعرض لجميع الأخبار المثبتة خبراً خبرا وهذا لم يصنعه الأستاذ شاكر!!

وأمر ادعاء المتنبي العلوية ليس فيه ما يهيج عليه الناس كل هذا، على رغم ذلك الخيال الجميل الذي لبس ادعاءه إياه في الكتاب المذكور!!

وإذا كان ما ذهب إليه الأستاذ صحيحاً، ففيم خجَلُ أبي الطيب وحياؤه كلما سئل عن أمر لقبه المتنبي؟ ولم كان يعمدُ إلى اشتقاقه من النبوة تارةً، ويعتذر بأنه شيء كان في الحداثة تارة، ويقول إنه يكره التلقّب به، وأنه (يناديه) به من يريد الغضّ منه؟ وعلى أي شيءٍ تقع كلمة كافور: (من ادعى النبوة بعد محمد أما يدّعي الملك مع كافور)؟ وكافور ليسَ من الذين يختلقون على شاعر، ولا ممن يروّج الاختلاق!!

وقد روى المعرّي - وهو الحجّة الثبت - أمر التنبُّؤ، وما حفّ به من حادث ومعجزات في رسالة الغفران. وأبو العلاء كان أحرى أن يشكَّ أو يكذب الخبر، لو أن في الأمر مجالاً للشكّ واحتمالاً للتكذيب، لأنه أشدُّ حبا للمتنبي، وعصبيّة له، وهو أنفذ بصيرة فيما يقال وأحكم نقداً للأخبار، مع قرب زمان، وصفاء ذهن، وقوة حجة، ومواتاة وسائل التحقيق إذ ذاك!!). انتهى. . . الرسالة سنة 1936 (العدد161 - ص1255).

وأنا قد قرأت هذا الكلام في موعده حين صدرت الرسالة وأدرتُ أن أردّه، ثم بدا لي أ أدَعه حيث هو، فإن الذي قرأ ما كتبت يعلمُ مقدار ما في هذا الكلام من الجودة وحسن الأداء وقوة الحجة وجلاء البيان وسعة الاضطلاع وبلاغة الفهم، ولكن بعض أصحابنا لم يزل بي حتى أخذ مني موثقاً أن أقول كلمتي فيه.

وهذا النقد الذي رماني به أخي الأستاذ سعيد ليس مما يثيرني ويغريني بحمل السلاح والاستعداد للمعركة. ولست أقول هذا استصغاراً لما يقول أخي أو استكباراً لما قلت، بل هو حكمي عليه مجرداً من كل ما يجعل الحكم قاصراً أو باغياً.

وهذا الذي كتبه الأخ سعيد ليس مما أعده عندي نقداً، وإنما هو اعتراض، والاعتراض شبهة، والشبهة يزيلها البيان. أما النقد فأمر آخر لم يسوّغ للأخ أن يظفَر بالقدرة عليه فيما كتب.

وقد أُتي الأخ سعيد في كلامه من قِبل أنه عدَّ الأخبار المروية عن نبوة المتنبيّ وغيرها أخباراً صحيحة ابتداء، وهذا أوّل الزلل في نقد الناقد. ولا بد لمن يريد أن ينقد ناقداً أو يكتب فيما يتناول الروايات والأخبار أن يتحقق بدءاً بمعرفة الأصول في علم الرواية، وأن يستيقن من قدرته على ضبط الفكرة حتى لا تنتشر عليه وتتفرق، ويقع فيها الاختلاف والتضارب والمناقضة. فلا بُدَّ لي هنا من أن أدل الأخ على الأصل في الأخبار حتى يعرف فرقَ ما بين الذي انتهينا إليه، والذي وقف عنده غيرنا، ثمّ نكشف له عن الشبهة التي جعلته يعترض الذي كتبناه بالذي رفضناه ورددناه وأسقطنا الثقة به والاعتماد عليه.

فالأخبار جميعاً تحتمل الصدق والكذب كما يقولون، ومعنى ذلك أنها على حالة من البراءة الأولى لا توصف بصِدقٍ ولا بكذبٍ. ولا يستحق الخبر صفة الصدق إلا بالدليل الذي يدلّ على صدقه، فإذا لم تجد الدليل على صدقه ذهبت عنه صفة الصدق وبقي موقوفا. فإذا اعترضتْه الشبهات من قِبَل روايته أو من قِبَل درايته مالت به الشبهة إلى ترجيح الكذب فيه، فلا يؤخذ به ولا يعتمد عليه، ويكون عمل الناقد بعد ذلك أن ينظر في هذا الخبر نظرة التدبر ليستخرج الحقيقة التي من أجلها تكذَّبه راويه، وبذلك يقع على حقائق مدفونة قد سترها الراوي بما كَذَب. وقد أشرنا إلى ذلك في كتابنا (المقتطف يناير سنة 1936 ص111) وإليك ما قلناه:

(اعلم أن أكثر ما يُروى في ترجمة هذا الرجل وغيره من الرجال، إنما كان من الأحاديث التي تتناقلها مجالس الأدباء، ولا يراد بها التحقيق، ولا ينظر فيها إلى صدق الرواية وسياق التاريخ وما إلى ذلك؛ بل إن كثيراً مما يروى في تراجم رجالنا كان مما يُراد به مضغُ الكلام في مجالس الأمراء أو في سامر الأدباء - هذا على أنها ربما حملت فيما تحمل أشياء لولا ورودها في هذه النصوص لافتقدنا من حلقات التاريخ حلقات لا ينتظم أمره إلا بها، ولا يستمر إلا عليها. فلمثل هذا كان لا بُدَّ لنا من النظر في النصوص وتمييزها، وردّ بعضها والأخذ ببعض، حتى لا تنقطع بنا السبل في الترجمة لهؤلاء الأعلام. فلا يفوتنك هذا إذا قرأت ما نكتب، أو أردت أن تقرأ أو تكتب).

وأنا حين أردت أن أكتب عن المتنبي نظرت في هذه الأخبار خبراً خبراً، فلم أجد دليلاً واحداً يجعلها تستحق عندي صفة الصدق فأبقيتها موقوفة، ثم عدت فنظرت فتناوشتها الشبهات واعتورتها الطعون، فلم أجد بداً من وسمها بالكذب، ثم عدت إليها فعارضتها بالعقل وشعر الرجل وحوادث التاريخ لأستخرج منها الحقائق التي يسترها الرواة والمتكذِّبون فوقعت لي أشياء هي التي جعلتها أصلاً فيما كتبت، وأنا على يقين من أن الأستاذ سعيد لم يتنبه إلى هذا الذي فعلناه، مع أنه هو الأصل في الكتابة والتحقيق، أما التسليم فليس يجدي شيئاً إلا التكرار والمتابعة، ثم الزلل والتورط فيما أراد الكذابون أن يحملوا الناس عليه ويوقعوهم فيه.

ويقيني أن الأخ سعيد لا يجد دليلاً على صحة هذه الروايات فيما يزعم إلا أنه قد رواها فلانٌ وفلانٌ، ورواها المعري - وهو الحجة الثبت - (وهو أشد منا حباً للمتنبي، وعصبية له، وهو أنفذ بصيرة وأحكم نقداً للأخبار مع قرب زمان وصفاء ذهنٍ وقوة حجة ومواتاة وسائل التحقيق إذ ذاك)، ونحن لا ننكر على المعرّي شيئاً من ذلك، ولكن الذي ننكره أن الذي كتبناه كان عصبيةً لأبي الطيب، أو حُباً له أو فيه. ليكن المعري صاحب عصبية، فذلك لا يجعلنا نحن من أهل العصبية حتى نبعث بالحقيقة، ونلعب بفن النقد من أجل أبي الطيب أو غيره من الرجال.

أما أن رواية المعري - وهو صاحب عصبية لأبي الطيب - مما يصحح هذه الأخبار أو يرجح الصدق فيها، فهو حكم خطأ لا يصح لأحد أن يتابع عليه، فإن أبا العلاء لم يُشهِد كتبه أنه لا يروي إلا الصحيح من الأخبار؛ وترك المعرّي الشك فيها أو تكذيبها ليس يقوم أيضاً دليلاً على صحتها، وليس المعري بمنزهٍ عن الخطأ والغفلة، وهو من هو، فذهاب وجه النقد عن المعري ليس يكون طعناً فيه، ولا يوجب نسبة الكذب إليه، ولا نفي صفة الصدق عنه.

وأحبُّ أن أقرب إلى الأخ حقيقة هذه الروايات. . . فهو يعلم أن الرواة قد رووا للرسول معجزاتٍ كثيرة؛ وكثير من الذي رووه لم يثبته أهل العلم بالحديث على طريقتهم؛ وقد رواها قومٌ على عهد الصحابة والتابعين، وهي كذبٌ مخترعٌ بشهادة أئمة هذا العلم، وقد بقيت هذه الآثار مروية إلى يوم الناس هذا، وهي عند المتأخرين شائعة معروفة متداولة مصدقة، وقد وردت في كتب كثير من الأئمة العلماء. أفيكون تداولها وذيوعها وتصديق العامة لها، وورودها في بعض كتب العلماء هو الدليل الذي لا دليل غيره على صحة هذه الأخبار؟! وأكثر من ذلك، أيكون ظهورها على عهد الصحابة والتابعين - على قرب زمن كما يقول الأستاذ - وتصديق بعض العامة لها في ذلك العصر، وسكوت بعض العلماء عن الكلام فيها مما يدل على صدقها؟!

ونحن قد أتينا في الذي كتبناه عن المتنبي بالشبهات التي ترجح الكذب في هذه الروايات التي يراد بها الوضع من قدر الرجل والتحقير له، والطعن في نسبه أو عقله أو خلقه أو أدبه. لا. . بل بينا أن ألفاظ هذه الروايات وحدها تحمل أكبر شبهة، كالذي روي عن هذا اللاذقي المسمى معاذ بن إسماعيل، وقد روي الخبر بطوله في كتب كثيرة، وأوردناه بتمامه في كتابنا ص 45 - 47 واختصره الأخ سعيد في كلامه في العدد (161) من الرسالة، ولا أدري لم اختصره، فإن الذي يقرؤه يجد فيه سمة الوضع والكذب مستعلنة كما لم تستعلن في حديث غيره. وقد بينا بعض وجوه نقده في كتابنا من ص 49 - 52. فكانت حجة الأستاذ سعيد في رد قولنا وإسقاطه أنه (لم يجد فيه مقنعاً به من القوة ما يقف لهذه الروايات الصحيحة)، وكان حقاً على الأستاذ أن يعلمني وجوه الضعف في قولي حتى أستبرئ منه، أما هذه الكلمة المجرّدة فليست بالتي تسقط كلامنا جملة واحدة حتى ولو كان هذا الكلام سقطاً محضاً.

أما ما اعترض به علينا فنحن نبين له وجه بُطلانِه. يقول: (وإذا كان ما ذهب إليه الأستاذ صحيحاً، ففيم كان خجل أبي الطيب كلما سئل عن أمر لقبه المتنبي. . .؟) إلى آخر قوله: فإن هذا الخجل الذي يزعمونه إنما هو من أباطيل الرواية، وقد أتى به القوم ليعضدوا قولهم في خرافة النبوة. وإذا كان أمر نبوته مشهوراً متعالماً أو كما يقول اللاذقي إن دعوته (قد عمت كل مدينة بالشام)، وقد بلغ من شهرتها أنه قبض عليه من أجلها بالشام أيضاً وحبس (دهراً طويلاً)، وأن له قرآناً أنزل عليه. . يزعم أبو علي بن حامد أن أهل الشام كانوا يحكون له سوراً منه كثيرة وأبو الطيب إذ ذاك بحلب، فكيف يُعقَل بعد هذه الشهرة أن يبتدر إليه هؤلاء فيسألونه عن حقيقة هذا اللَّقَب؟ إن السؤال عن (حقيقة اللقب) بعد هذه الشهرة التي يزعمونها ليدل دلالة قاطعة على وضع هذه الأحاديث المروية والأخبار المتداولة التي تهور كثير من الأدباء في التسليم بصحتها كما فعل الأخ سعيد. ولقد كان هؤلاء الذين يزعمون أنهم سألوا أبا الطيب عن حقيقة اللقب (المتنبي) يسألونه وهو بالشام، وفي الشام أظهر نبوته وفي الشام اشتهر أمره، وأكبر من ذلك أنهم يزعمون أنهم كتبوا عليه وثيقة أشهدوا عليه فيها ببطلان ما ادعاه ورجوعه إلى الإسلام وأنه تائب منه ولا يعاود مثله. فهلا كان الأولى بهم أن يظهروا على هذه الوثيقة ولما يمض عليها كثير دهر، وقد أخذها وال من الولاة فهي - ولا بد - محظوظة في ولايته. وكان أبو الطيب شجا في حلوق الأدباء والشعراء وكثير من أصحاب السلطان وهو في جوار سيف الدولة. وقد أوقعوا بينه وبين أميره بكل ما ملكوا من أسباب للوقيعة، أفتظن أنهم كانوا يحجمون عن إظهار هذه الوثيقة، وإحراجه بها، والعمل بها على تحقيره، ثم على المنافرة بينه وبين سيف الدولة!! كانت كل هذه النقائض بالشام، ومع ذلك لم يكن من أثرها إلا هذه الروايات الضعيفة التي تحمل ألفاظها الشكوك والريب.

وأسخف من هذه الرواية رواية من يروي أنه كان يعمد إلى التمويه على الناس بقوله: إن هذا اللقب (المتنبيّ) مشتقٌّ من النبوة، فليس يعقل أن أبا الطيب - وهو يعلم أن نبوته كانت مشهورة كما ذكر الرواة - يعمد إلى هذا التوجيه الضعيف الميت، وهو يعلم أنه كاذب، وأن الناس مكذبوه لأنهم يعلمون حقيقة الأمر.

واعتذاره بأنه يكره التلقب به، وأنه يدعوه به من يريد الغض منه فهو بسبيلٍ من ذلك في الضعف والسخف. على أنه مع ذلك لا يدلُّ دلالة ما على حدوث النبوة التي يزعمونها، بل على العكس من ذلك. . . إنه ليَدلُّ على أن هذا اللقب مفتعل موضوع للكيد لَهُ والغض منه، وأنهم كانوا قد وضعوه له ليغيظوه به. ومثل ذلك كثير في كل عصر ومكان. ولعل الأخ سعيد لا يعدم رجلاً في بلده قد نبزه الناس بنبزٍ يغيظونه به، ولا نشك أن هذا الرجل (يكره التلقب به، وإنما يدعوه به من يريد الغض منه).

وأما كلمة كافور فهي كلمة مفتعلة موضوعة، وإلاّ تكن كذلك، فليس فيها ما يدلّ على شيءٍ محققٍ كان قد حدث من أبي الطيب. وكافور كان قد سمع هذه الدعوى التي يزعمونها عن نبوة أبي الطيب وسلم بها، ثم تكلم، وليس تسليم كافور بها سنداً لها يحقق تاريخها، ويثبت وقوعها بعد الذي ذكرنا لك من ضعف الروايات.

هذا وقد أراد الأستاذ سعيد أن يعلمنا سبل التحقيق في التاريخ فقال: (والتاريخ لا يثبت خيراً أو ينفيه تبعاً لميل مؤلف أو رأيه. . . إلى آخر قوله) وهو قد فعل أكثر من ذلك وأكبر، وذلك أنه بعد اعتراضه قال: (وكافور ليس من الذين يختلقون على شاعر، ولا ممن يروج الاختلاق)، ولم يرد في كلامنا ذكر كافور واختلافه حتى يعقب الأستاذ هذا التعقيب. هذه واحدة، والأخرى أن الأستاذ قد حكم على كافور حكماً لم يرد له ذكر في كتاب، فهل يستطيع أن يؤيد هذا الحكم بالدليل التاريخي والبرهان العقلي أن كافوراً لم يكن يختلق على الناس، ولا يروج الاختلاق. .؟! لقد أتينا نحن بالروايات ونقضناها بالدليل - ضعيفاً كان أو قوياً - أما أستاذنا فقد حكم على رجل بغير دليل ولا بينة من التاريخ أو غيره.

ثم بقي اعتراض الأستاذ الذي يقول فيه: (وأمر ادعاء المتنبي العلوية ليس فيه ما يهيج عليه الناس كل هذا). وأنا لا أعلم ماذا يريد الأستاذ سعيد بقوله (كل هذا)، وإذا أرادني على أن أجيبه على ذلك فليبين لي صورة المبالغة في قوله (كل هذا)، فأنا لا أعلم من أمر هذه المسألة أكثر من أن الرجل قبض عليه بالشام وحبس. أما هياج الناس فلم يرد له ذكر في كلامنا ولا في كلام الرُّواة. وأما حبسه أو قتاله من أجل العلوية فليس ببدع في التاريخ، وكان لزاماً على الأستاذ قبل أن يكتب هذه الجملة ويصوغ هذا الاعتراض أن يرجع إلى كتب التاريخ ليعلم أن الذين قاتلوا أبا الطيب وحبسوه، كانوا قد قاتلوا من قبله قوماً أو حبسوهم من أجل ادعاء العلوية، وكذلك فعلوا مع العلويين الذين خرجوا عليهم في أرضهم وديارهم. فقتاله وحبسه ليسا يثبتان أن هذا الذي كان من أبي الطيب إنما كان إظهاره النبوة لا ادعاءه العلوية.

وبعد، فلو حمل الأخ سعيد نفسه على تدبر الذي كتبناه في المقتطف عن المتنبي لما وقع هذا الاعتراض الذي حاك في صدره، وقد أشرنا مرات في كتابنا إلى وجوب ذلك، فقد كنا نترجم للرجل ترجمة صحيحة يقرؤها القارئ ليتمثل صورة هذا الشاعر العبقري وفاء له وتقديراً بعد مرور ألف سنة على وفاته، فلم يكن سبيلنا أن نتعرض لأصول النقد وشرحها وتفصيلها، ولم نأخذ الروايات جميعها بالنقد مرة واحدة، فأن ذلك كان يقتضي منا وقتاً كثيراً وكتاباً كبيراً، ولكن من يطلع على الذي كتبناه منصفاً متدبراً عارفاً بطرف من أصول نقد الرواية يعلم يقيناً أننا لم نكتب حرفاً واحداً إلا بعد أن استوفينا عندنا نقد الأخبار (خبراً خبراً) كما يريد الأستاذ سعيد، وليس عسيراً على المتدبر أن يستخرج من الذي كتبناه الأصول التي نقدنا بها هذه الأخبار. ولعل الأستاذ قد قرأ كثيراً مما فاضت به الصحف والمجلات عن المتنبي، وقرأ في خلال ذلك كثيراً من نقد الأخبار التي رويت، ولعله رأى أيضاً أن هؤلاء قد اتخذوا كتابنا مصدراً استنبطوا منه أصول النقد التي وضعناها، وقاسوا عليها فأخطئوا وأصابوا، وليس هو بأقل منهم حتى يفوته ما أصاب غيره.

محمود محمد شاكر