مجلة الرسالة/العدد 16/بوفون
مجلة الرسالة/العدد 16/بوفون
تمخضالعالم عن شخصية (جورج لكلارك قونت بوفون) في مدينة (مونت بار) عام 1707. ولما يفع وترعرع دخل معهد الآباء اليسوعيين، ليحتلب من ضرعيه علوم القرن الثامن عشر؛ ولكن نفسه الجبارة، نزعت إلى الطبيعة الخلابة، فودع بقية العلوم في ذلك المعهد، وراح يضرب في أنحاء إيطاليا وإنجلترا، يتحرى قوانين الطبيعة فيأماكنها، ويدرس طبائع الحيوان والنبات عن كثب، شأنالبحاثة المدقق الذي لا يرضى بما لاح من صيد، ولا يعود من مغامرته بالقشور دون اللباب. فانكب على العلوم الطبيعية، يقتلها درساً وتحقيقاً، حتى ضرب فيها بسهم صائب، وبلغ منها ما أمل وما أراد؛ ولم يَدرُ مع الأرض حول الشمس 26 دورة حتى انتخب عضواً في (أكاديمية) العلوم. وبعد هذا التاريخ بست سنوات عين ناظراً عاماً (لبستان الملك) الذي يطلق عليه الفرنسيون اليوم اسم (بستان النبات). كان (بوفون) إذا أراد الكتابة، اعتزل الضوضاء في غرفة منزوية، وارتدى ثوبه ذا الأكمام الموشاة، والناطق باسم مقامه العإلى، وتقلد سيفه المحلى بحلي ثمينة، ثم جلس إلى مكتبه يتخيرلافكاره أشرف المباني، ولعواطفه أرق التعابير، وحينما ينتهي من كتابته يعيد قراءة ما دبجته براعته، بصوت مرتفع أجش، وجنان تتجاوب في إرجائه عواطف الحماسة والعظمة، حتى إذا ما هذَّب ونقح، وتلا ما كتبه ثالث مرة: غادر مكتبه وماء البشر يترقرق في وجهه، ونشوة السرور تدب في جسمه. اشتغل بوفون مدة خمسين عاماً في تأليف كتابه (التاريخ الطبيعي) جوهرة ألامس ودرة اليوم، ولكن المنية شعبته فحالت دون تدوين دراسته المستفيضة بكاملها، فظل الكتاب مبتورا تنقصه أبحاث مهمة كالأفاعي والأسماك، والحشرات والنبات، وقد سد هذه الثغرة في هذا الروض الاريض (لاسيد) تلميذ بوفون المخلص، وصديقه الحميم.
ومهما يكن من شيء فان شهرة (بوفون) مازالت تطوي المراحل وتجوب الأمصار، وسمعته ما نفكت تسير بذكرها الركبان، وتتجاوب بصداها المحافل. وقد عرف له مواطنوه نبوغه، فانتخبه المجمع العلمي الفرنسي عضوا فيه، وانعم عليه لويس الخامس عشر بلقب (قونت). ولم تحترمه يد المنون في عام 1788 حتى رأى تمثاله منتصباً في مدخل متحف التاريخ الطبيعى، وقد حفر عليه باللغتين الفرنسية والألمانية: (إن عظمة الطبيعة تساوى عبقريته) ولست لأعرض الآن لأدبه بالتحليل والنقد، فعساي أن أعود إليه في يوم آخر، ولكنى مترجم هنا آية من آياته الخالدة، في وصف الصحراء العربية.
صحراء جزيرة العرب
تصور بلاداً لا تتنفس عن اخضرار، ولا تترقرق في مآقيها المياه! شمسها تتقد اتقاداً، وسماؤها أشد جفافاً من الضرع الذاوي. تستر الرمال أدُمَ وديانها، وتسيطر جنود الجدب على جبالها!! تطل عليها الباصرة فيضل البصر فيها دون أن ينعم برؤية شيء تتجاوب فيه خطرات الحياة. أرض جر عليها الموت أذياله، قد عصفت فيها أعاصير حاصبة، نزعت عنها غلالتها الرملية، فلا يصطدم فيها نظرك العُقابي، إلابهياكل عظمية، وحصباء منتثرة، وصخور منتصبة، وأخرى مستلقية.
صحراء ليس بينها وبين وهج الشمس من حائل، فليس بمقدور المسافر أن يفيء إلى ظلال بليلة. هنالك لا صاحب فيؤنس وحشته، ولا شيئاً حياً فيذكره بالطبيعة الحية: عزلة مطلقة، وارفة الجناحين، ترعب أكثر من ألف مرة من عزلة الغابات، لأن الأشجار كائنات حية في نظر المنفرد المسكين الضال في هذه المهامه الخاوية، والمتمردة على سلطان الحدود. يتراءى للمسافر حيثما أشاح بوجهه، أن قبره منبوش في هذه الفيفاء: فيرى نور النهار الساطع، أكأب من حلوكة الليل الدامس، لأن هذا النور لا ينبعث الا لينير له عن خوره وارتخاء مفاصله، وإلا ليمثل له هول موقفه وحراجته، ذلك أنه ينأى عن عينيه حدود الخلاء. ويزيد في بسطة هوة الأتساع، تلك الهوة التي تفصله عن الأراضي الآهلة. رقعة واسعة تكفيه مؤونة التطواف، ففيها جوع كاسر للطرف، وفيها ظمأ عاصب للفم، وفيها حرارة قادحة للثقاب. هذه كلها تضغط على ما بقى لديه من لحظات تتردد بين اليأس والموت).
حلب ـ عبد الوهاب حومة