مجلة الرسالة/العدد 135/السياحة في مصر

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 135/السياحة في مصر

ملاحظات: بتاريخ: 03 - 02 - 1936



ومتى تغدو موردا قوميا؟

بقلم سائح

مصر بلد الآثار الباقية والذكريات الخالدة؛ آثارها وذكرياتها ترجع إلى أقدم عصور الخليقة، وتراثها الأثري والفني منوع في عظمته، ممتد على كر العصور والمدنيات؛ ومنذ عصر الفراعنة، حيث يغيض التاريخ في ظلمات المجهول، ومنذ الحضارة المصرية اليونانية، والحضارة المصرية الرومانية، إلى الحضارة المصرية الإسلامية، تتكدس الآثار والذكريات الخالدة في أرض مصر صنوفاً متعاقباً، حتى غدا تراث مصر الأثري والفني في روعته وفي عراقته وتباين أعصره وصنوفه، أغنى وأثمن ما عرف من بقايا الحضارات الذاهبة القديمة والوسطى.

وقد كان حرياً ببلد كمصر يتمتع بمثل هذا التراث الثري الباهر إلى جانب ما يتمتع به أثناء الشتاء من طبيعة ساحرة وشمس وضاءة ودفء لذيذ، أن يغدو كعبة حقيقية للسياحة والسياح من سائر أنحاء الأرض، وأن يجعل من السياحة مورداً قومياً لا بأس به، وأن يستغل هذا المورد بوسائل وأساليب جذابة مجدية، وان يسيطر على مرافقه ونواحيه بطرق عملية شاملة، وألا يدخر وسعاً في الحرص عليه كمورد قومي ثابت، أو في السعي بتنميته بجميع الوسائل والنظم.

ولقد غدت السياحة في كثير من البلاد مورداً قومياً للكسب، وأضحت وسائل استغلاله وتنميته في بلاد كثيرة لا تتمتع بمثل تراثنا الأثري، ولا مثل جونا الساحر، صناعة حقيقية؛ لكن مصر ما زالت في المؤخرة من حيث دراسة هذه الصناعة المحدثة وفهمها والانتفاع بوسائلها. نعم أن في مصر موسماً للسياحة، وما زالت مقصد ألوف من السياح من مختلف البلاد في كل شتاء ولكن هذا الموسم لا يقوم على أسس ثابتة، بل يترك أمره للظروف والمصادفات الخارجية، وتكاد مصر تقف منه موقفاً سلبياً محضاً؛ فإذا كان الموسم حسناً مزدهراً، فأن ذلك يرجع عادة إلى ظروف خارجية لا دخل لمصر فيها، وإذا كان الموسم سيئاً مجدباً، كما هو الشأن منذ أعوام، فأن مصر لا تبذل من جانبها أية جهود عملية مجدية لاجتذاب السياح، والعمل على مقاومة العوامل والأسباب التي يمكن أن يرجع إليها مثل هذ الكساد.

على أن موسم السياحة المصري ليس في الواقع مصرياً إلا بالاسم، ومن الظلم أن يحسب على مصر بصورته الحالية، فليست مصر أو الهيئات المصرية هي التي تجني ثماره، وتستغل موارده بقدر ما يجنيها ويستثمرها الأجانب والهيئات الأجنبية؛ ذلك أن كل ما تجنيه مصر من هذا الموسم يكاد ينحصر في أجور السكك الحديدية ورسوم المتاحف والآثار وأجور التراجمة وأثمان بعض السلع والمنتوجات القليلة التي تعرض للبيع أثناء الموسم، وهذا كله قليل بالنسبة إلى ما تجنيه الوكالات والفنادق والمتاجر الأجنبية من الأرباح الطائلة؛ وهكذا يستغل موسم السياحة المصري باسم مصر، ومصر تقنع منه بالفتات الضئيل.

وهذه حقيقة مؤلمة؛ بيد أن أشد ما يؤلم فيها هو أن هذا الغبن الفادح الذي يلحق مصر في مورد من مواردها المشروعة ترجع التبعة فيه إلى مصر ذاتها، والى ما تبديه هيئاتنا الرسمية وغير الرسمية من قصور وتقصير في تنظيم الدعاية لمصر في الخارج، وفي تنظيم شؤون السياحة الداخلية بوسائل مجدية وطرق جذابة وفي توفير أسباب اليسر والراحة للسائحين؛ ومن الحقائق المعروفة في أوساط السياحة الخارجية أن نفقات السياحة في مصر تصل إلى حدود مرهقة، ولا يكاد يتحملها سوى كبار الأغنياء والموسرين، وأن السياح المتوسطي الحال يقاسون فيها من فداحة الأجور وعدم توفر أسباب الراحة؛ وهذه الحقيقة وحدها تبعد عن مصر عشرات الألوف من السياح الذين تسرهم زيارتها لو توفرت فيها أسباب الإقامة المعتدلة، كما هو الشأن في معظم مراكز السياحة في أنحاء العالم.

ولنبدأ بمسألة الدعاية، فنقول أن مصر ما زالت متأخرة في هذا الميدان بصورة يرثى لها؛ وما تنفقه مصر في هذا السبيل من الألوف العديدة يذهب هباء؛ إذ يغدق معظمه على بعض الصحف الأجنبية التي لا تفيد في الدعاية الحقيقية؛ والدعوى المنظمة هي روح السياحة الحديثة، ومصر مشهورة في الخارج بتراثها الفني ومزاياها الإقليمية، وميدان الدعوى إلى زيارتها خصب ممهد؛ على أن مما يؤسف له أن مصر لم تقم حتى اليوم بتنظيم هذه الدعاية بطرق عملية ناجعة، فليس لنا في الخارج مكاتب ولا وكالات مصرية للسياحة، وقنصلياتنا لا تبذل أي جهد في هذا السبيل؛ على حين أن جميع الأمم التي بها مراكز للسياحة تنظم دعايتها في جميع أنحاء العالم تنظيماً عملياً واسع النطاق، فتنشئ لها مكاتب للسياحة في الداخل والخارج، وتذيع عن آثارها ومزايا السياحة فيها كتباً ونشرات بديعة جذابة توزعها بالألوف من مكاتبها وقنصلياتها، ولا تدخر في ذلك مالاً ولا جهداً.

ولكن مصر تقنع في هذا الميدان بنشرات قليلة تذيعها في بعض الصحف الأجنبية، وبعض لوحات تعلقها في عربات السكك الحديدية؛ هذا إلى أنه هناك دعايات مغرضة تنظم ضد مصر من منافسيها في ميدان السياحة، ومصر لا تبذل أي جهد لدحض هذه الدعاية السيئة.

ولقد أنشئ بمصر أخيراً مكتب رسمي للسياحة، وبدأ أعماله في ظروف سيئة عاقته عن القيام بالمجهود الذي تقتضيه هذه الحالة؛ وأنّا نؤيد الفكرة في ذاتها، ونرجو أن تتاح الفرص الملائمة ليقوم هذا المكتب الجديد بمهمته في بث الدعاية لمصر وفي العمل على اجتذاب السياح إليها. بيد أن مهمة المكتب لا تقف عند هذه المهمة؛ وفي رأينا أن مهمة المكتب الحقيقية هي وجوب العمل على تمصير موسم السياحة وجعله جهد الاستطاعة مورداً قومياً يتاح للهيئات المصرية ولأبناء البلاد قبل غيرهم إجتناء فوائده وثماره؛ وهذا يتطلب من مكتب السياحة أن يعمل في دائرة واسعة متعددة النواحي.

وإذا كانت السياحة قد أضحت كما قدمنا في بلاد السياحة صناعة وفناً، فأنه يجب علينا في مصر أن نفهمها بهذا المعنى؛ وعلينا إذا شئنا أن نجتني مغانم هذا الموسم أن نعنى بإنشاء الفنادق الفخمة والمتوسطة، وإنشاء المطاعم والأبهاء الأنيقة، وتنظيم السياحة الداخلية، وترقية طائفة التراجمة والمرشدين، وتخفيض أجور السكك الحديدية ورسوم الآثار والمتاحف.

وإذا أريد حقاً أن يكون موسم السياحة في مصر مورداً قومياُ، فعلى هيئاتنا الرسمية وغير الرسمية أن تبادر قبل كل شيء إلى العناية بصناعة الفنادق، فهي عماد الموسم في جميع مراكز السياحة؛ ولا ندري لماذا لا يفكر الممولون المصريون في النزول إلى هذا الميدان الذي ما زال يستأثر به الأجانب في جميع عواصم القطر؟

ولماذا لا يتجه الشباب المصري إلى المساهمة في هذه الصناعة وهي لا تحتاج إلى مجهودات فنية صعبة؟ ولا ريب أن عدم توفر الفنادق الأنيقة المعتدلة الأجور من أهم عوامل الضعف في موسم السياحة المصري، لأن للفنادق الأجنبية الفخمة التي تستأثر الآن باستقبال السياح ترهقهم بفداحة أجورها ونفقاتها؛ وإذا تذكرنا الأرباح الطائلة التي توزعها شركة الفنادق المعروفة على حاملي أسهمها كل عام استطعنا أن نقدر إلى أي حد يرهق السياح النازلون في فنادقها؛ وهو إرهاق يترك أثراً سيئاً في نفوس ضيوفنا الأجانب حتى الأغنياء منهم.

ولا يسد هذا النقص سوى إنشاء فنادق مصرية أنيقة معتدلة الأجور؛ وهي صناعة رابحة يجب ألا يتوانى المصريون عن النزول إلى ميدانها. ولا ريب أن بنك مصر هو أقدر الهيئات المصرية الاقتصادية على فتح هذا الباب خصوصاً وهو يضم بعض الشركات والمرافق التي يتصل عملها بشؤون السياحة كشركة الملاحة وشركة الطيران ومكتب مصر للسياحة؛ وغزو هذه الصناعة التي يستأثر بها الأجانب وبجانبها المصريون بغير حق، يحقق لمصر غايتين: الأولى تمصير صناعة الفنادق واجتناء أرباحها، والثانية تيسير أسباب الإقامة للضيوف الأجانب وتشجيعهم بذلك على زيارة القطر المصري.

ونعتقد أن مكتب السياحة المصري مجالاً للعمل في هذا الباب من الناحية الحكومية؛ ذلك أن الحكومة المصرية لا يفوتها ما يترتب على إحياء صناعة الفنادق الأنيقة المعتدلة من توفير أسباب الراحة للسياح وتشجيعهم لا على زيارة القطر فقط، بل على إطالة مكثهم به أيضاً؛ ولا بأس من أن تتولى الحكومة نفسها أو إدارة السكة الحديدية، وهي من أوثق الإدارات الحكومية اتصالاً بشؤون السياحة، القيام بأول خطوة في هذا السبيل، وإنشاء فندق أو أكثر من طراز نموذجي يجمع بين الفخامة واعتدال الأجور.

بقيت مسألة نرجو أن يعنى بها مكتب السياحة عناية خاصة، وهي مسألة التأشيرات التي تمنحها القنصليات المصرية في الخارج لراغبي زيارة القطر. ومن المعروف أن نظام التأشيرات الحالي يكاد يقضي على كل اختصاص حقيقي لقناصلنا في هذا الشأن، ويجعل الاختصاص الحقيقي في منح التأشيرات ورفضها لقلم الجوازات التابع لإدارة الأمن العام (ورئيسه إنكليزي). وفي معظم الأحوال يضطر القناصل المصريون إلى مراجعة إدارة الأمن العام قبل المنح أو الرفض، وتستغرق هذه المخاطبات وقتاً ليس بالقصير، وإذا كانت تلغرافية فأنها تجري على حساب الطالب. وبذلك تمضي أسابيع وربما مضت أشهر قبل أن يبت في طلب الطالب، ولا تستطيع القنصليات أن تمنح تأشيرة دخول القطر من تلقاء نفسها إلا للكبراء والأشخاص المعروفين. فهذا النظام المعقد يزهد الكثيرين في زيارة مصر. ولا ريب أنه يحق للسلطات المصرية في الداخل أو الخارج أن تعمل لمنع العناصر الأجنبية السيئة وغير المرغوب فيها من دخول القطر، ولكن الحرص على هذه الغاية يجب ألا يكون عقبة في سبيل العناصر الشعبية الطيبة التي ترغب في الزيارة البريئة. وأملنا أن يوفق ولاة الأمر إلى وضع نظام جديد للتأشيرات يسهل مهمة القناصل المصريين وبذلك العقبات الحالية.

هذه خواطر وملاحظات في شؤون السياحة أملت بها أزمة الموسم الحالي، وما نقرأ من آن لآخر عن الدعايات المغرضة التي تذاع ضد مصر وأحوالها في الخارج تنفيراً للسياح من زيارتها؛ فإذا أرادت مصر أن يكون لها موسم للسياحة يتناسب مع مكانتها الأثرية والإقليمية، وإذا أرادت أن تجتني كسبه وثماره، فعليها أن تعنى قبل كل شيء بجعله موسماً قومياً يكون لمصر وللمصريين في استغلاله أوفر نصيب.

(سائح)