مجلة الرسالة/العدد 108/جندي الأدب المجهول

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 108/جندي الأدب المجهول

ملاحظات: بتاريخ: 29 - 07 - 1935



للأستاذ عبد الوهاب النجار

أقول جندي فقط لأنه لم يكن ضابطاً كريماً ولا ضابطاً عظيماً ولا ضابطاً صغيراً، بل كان جنديا. وكفى

والذي أتحدث إلى حضرات الأدباء عنه، أعتقد أن أحداً منهم لا يعرف عنه شيئاً. وهو المرحوم الشيخ المعمر محمد أفندي التميمي بن المرحوم احمد التميمي مفتي الديار المصرية

وكان والده المرحوم الشيخ أحمد التميمي من أهل مدينة الخليل بفلسطين ومن علمائها ومن ذرية تميم الداري. وقد آتى به إلى الديار المصرية ساكن الجنان إبراهيم باشا جد مولانا الملك فؤاد، وعين مفتياً للديار المصرية. وظل بتلك بالوظيفة إلى ان عزل بالمرحوم الشيخ محمد العباسي الحفني المهدي - (وقد تولى الشيخ المهدي إفتاء الديار المصرية وهو طالب بالأزهر)

مات المرحوم الشيخ احمد التميمي عن ولديه عبد الرحمن أفندي ومحمد افدي؛ فإما عبد الرحمن فأسرع في تركة والده إسراعا شديداً، فانشأ له ذهبية في النيل وجعل مقابض مداريها من الذهب، والجزء الذي يغرز في الطين من الفظة، وجعل نعال خيله من الفضة! وكان أخوه محمد لا يعصي له أمراً، فكلما أراد بيع عمارة أو بيت أمضى محمد مع أخيه عبد الرحمن واعترف بقبض ثمن حصته، وهو في الواقع لا يناله من ذلك سوى النزر اليسير

فلما فرغت الراحة عمد محمد أفندي إلى اسطنبول ليجد واسطة من أصدقاء والده ليعين في وظيفة. ولست اعلم إن كان أخوه عبد الرحمن أفندي سافر إلى اسطنبول أولا

وآخر عهدي بعبد الرحمن أفندي أنه كان مأمور مركز؛ وكانت له ورشة نجارة بطنطا، لأنه أتقن فن النجارة أيام أن كان مهيمناً على عمارات والده

وأما محمد أفندي وهو أديبنا المجهول، فلما عاد بالوصية عين موظفاً بتفتيش السنطة والهياتم التابع لدائرة ثالثة زوجات المرحوم إسماعيل باشا

كان المرحوم محمد أفندي التميمي مغرماً بالتدخين في النرجيلة (الشيشة)، فلما كان ف اسطنبول خرج إلى متنزه اسمه (الكاغد خانه) ومعه النرجيلة يدخن فيها، وجاءت السيدات والأوانس من كل صوب وحدب إلى ذلك المكان النزه. ونظر فوجد بقربه سيدة جميلة رشيقة قد جلست ومعها سيدة أخرى. وحانت من السيدة التركية التفاتة فرأت ذلك الرجل الذي يلبس جبة وقفطاناً وعمة خليلية منهمكاً في كتابة شيء، فحزرت أنه يكتب عنها، فأرسلت السيدة الأخرى إليه وكانت تحذق العربية فسألته عما يكتب، فناولها ما كتبه فقرأت:

ظل قلبي في غزال ... من بنات الترك يُفكرْ

رمت منها الوصل قالت ... سن صقللي هيدا سكتَر

أي أنت ملتح، هلم فأذهب! فأسرعت إلى السيدة التركية وأرتها ما كتبه وترجمت لها بالتركية ما في الكتابة من ألفاظ عربية فسرها ما سمعت، وحلفت بالمحرجات من الأيمان إلا ما حل عندها ضيفاً الليلة

ولما كان بتفتيش السنطة ومركزه القرشية عين ناظراً لورشة التصليحات التي أنشأها المرحوم إسماعيل باشا لإصلاح الآلات المكانيكية، وكان بناؤها سنة بضع وسبعين ومائتين وألف هجرية؛ فمر التميمي بالحدادين يحمون الحديد إلى درجة الاحمرار ثم يفطحونه بمطارقهم. فقال موالياً أوله:

لان الحديد للمعلم والحبيب ما لان

وقد ند عن ذاكرتي باقيه

وله لطيفة وهو بالورشة، فأن المرحوم خلف الله باشا عين مفتشاً لتفتيش السنطة والهياتم؛ فلما استقر به المقام طلب إحصاء بالعمال الذين بالورشة ومرتب كل واحد منهم أو يوميته، فلما نظر في ذلك الإحصاء وجد (خوجة لتعليم العمال القراءة والكتابة وإرشادهم في أمر دينهم، ومرتبه جنيه في الشهر) فقال: هذا الخوجة لا لزوم له. فقال التميمي: إني فكرت فيما فكر فيه سعادة الباشا وأردت رفته ولكني وجدت الرجل يصلي بالناس الصلوات الخمس بالمسجد مجاناً، ويخطب الناس يوم الجمعة والأعياد بلا مقابل، فقلت أتركه الآن حتى يأتي (أبن الحلال) الذي يكون قطع رزق هذا الرجل على يده. والحمد لله سعادتكم، شرفتم ويمكنكم أن تعملوا ما لم أعمله. فقال خلف الباشا: والله لا أكون ابن الـ. . . الذي يقطع رزق هذا الرجل على يده. وبقى الرجل في هذه الوظيفة عشرات من السنين إلى أن توفى

وكان له صديق مثر من المال، علم أن التميمي اعتزم الزواج، وما بينهما من المودة يقضي عليه بتقديم المساعدة و (النقوط)، فاحدث غضباً لا أصل له، وفطن التميمي فكتب إليه:

إن قوماً أبغضونا ... خيفة من قول هاتِ

قل لهم في يوم عرسي ... نقوطنا بالسكاتِ

والأمثال لا تغير

ولما نقل المرحوم إبراهيم أدهم باشا من تفتيش السنطة والهياتم وعين مديراً للغربية، طلب أحد العمد، فخشي العمدة أن يعتريه الباشا المدير بسوء، وجاء إلى التميمي ليكتب إلى الباشا خطاب عناية به فكتب:

قد ظن هذا رجائي عندكم فأتى ... مستشفعاً بيَ فعلَ الطامع الراجي

قد ظن عكساً وقصدي من سعادتكم ... أن تضربوه جزاءً ألفَ كرباج

وأخذ الرجل الكتاب بعد أن ألصق جوانبه بالبرشام وهو يكاد يطير من الفرح، وقدم على الباشا وناوله إياه، فأغرق الباشا في الضحك وعفا عنه

وله رجز في الفلاح حين واتاه القطن في نحو سنة 1280 عقب حرب أمريكا، واقتنى الجواري البيض والعبيد، وتأنق في المأكل والملبس، أحفظ منه:

من بعدَ خضْرَا صار يَقْني كلفدان ... وطعامه قلدر وخادمه أمان

ولكم مصاغ علقه بعضهم ... من فوق زوجته الكئيبة ستهم

تلقاه يرمي اللفظ كالجالوس ... ويقول عندي نسخة الجاموس

وفي أيام اختفاء عبد الله أفندي النديم بالقرشية عند المرحوم أحمد باشا المنشاوي، وكان يسمي نفسه السيد علي الإدريسي اليمني، كان النديم يجالسه كل ليلة ولا يدري حقيقته. وكان المجلس يمتد بهما إلى ما بعد نصف الليل. ففي ليلة سأل المنشاوي باشا جليسيه عن أرباب الجرائد، فكان عبد الله النديم يسرع ويجيب ويسبق التميمي إلى الجواب، فقال المنشاوي باشا وما تقولان في صاحب الطائف؟ فسكت النديم أو السيد علي الإدريسي اليمنى وتكلم التميمي، وقد رابه شأن النديم ولم يقم من المجلس إلا وهو موقن بأن جليسه في هذه السنوات هو عبد الله النديم

فلما رجع إلى بيته كتب إليه

يأيها الحبر الذي ... كالبحر يبعد ساحله

من كان مثله فاضلاً ... نمت عليه فضائله

وأرسل البيتين مع الخادم؛ فلما قرأهما النديم ارتاع وخشى على نفسه. فلما جن الليل وجاء محمد أفندي التميمي على عادته لقيه بالعناق، وكتم التميمي أمره إلى أن أعلنه الذي قال إنه علم بالنديم بالجميزة، وكان الواقع إن النديم أعلن نفسه لذلك المخبر بعد أن مضى على الحكم عشر سنوات شمسية وأحد عشر يوماً

وللتميمي قصائد لا احفضها ولا أجد من يقفني عليها الآن؛ وهو أول من أبرز رواية بالعربية وسماها أم حكيم، وقد مضى على إبرازها أكثر من خمسين سنة

وقولي انه معمر سببه أن التميمي كان قد تولى عمارة مسجد وضريح سيدي فخر الدين ببلدة طوخ مزيد في عهد المرحوم إسماعيل باشا، وكانت العمارة ينفق عليها من دائرة ثالثة أزواج الخديو إسماعيل، وأحيلت الكتابة على والدي رحمه الله وكانا قريبين في العمر. وكنت إذا سألت كلا منهما عن الآسن منهما اتهم كل منهما الأخر بأنه أسن منه، وقد توفي والدي سنة 1919 عن نحو مائة سنة، وعاش محمد أفندي التميمي بعده من أربع إلى خمس سنوات، واعتقادي انه أربى على المائة

فهذا الرجل في نظري هو جندي الأدب المجهول

عبد الوهاب النجار