كتاب الزهرة/الباب الرابع والسبعون ذكر من أظهر الجزع من الفقر وقنع به وافتخر بالصبر

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة


الباب الرابع والسبعون ذكر من أظهر الجزع من الفقر وقنع به وافتخر بالصبر

قال حطَّان بن المعلَّى:

أنزلني الدَّهرُ علَى حكمهِ
من شاهقٍ عالٍ إلى خفضِ
وغالني الدَّهرُ بوفرِ الغِنَى
فليس لي مالٌ سوى عرضي
أبكاني الدَّهرُ ويا ربَّما
أضحكني الدَّهرُ بما يُرضي
لولا بنيَّاتٌ كزغبِ القطا
رُددنَ من بعضٍ إلى بعضِ
لكانَ لي مضطربٌ واسعٌ
في الأرض ذات الطولِ والعَرضِ
وإنما أولادنا بيننا
أكبادنا تمشي على الأرضِ

وأنشدنا أبو العباس أحمد بن يحيى النحوي:

والله لولا صبيةٌ صغار
وجوههمْ كأنَّها أقمار
تجمعهمْ من العتيك دارٌ
درادق ليس لهمْ دثار
باللَّيل إلاَّ أن تُشبّ نار
لما رآني ملكٌ جبَّار

ببابهِ ما سطع النَّهار

وقال آخر:

لولا أُميمةُ لم أجْزع من العدمِ
ولم أُقاسِ الدُّجَى في حِندس الظّلمِ
وزادني رغبةً في العيش معرفتي
ذلَّ اليتيمة يجْفوها ذوو الرَّحمِ
أحاذرُ الفقر يوماً أن يُلمّ بها
فيكشفَ السترَ عن لحم علَى وضمِ
تهوى حياتي وأهوَى موتها شغفاً
والموتُ أكرمُ نزَّالٍ علَى الحُرَمِ

وأنشدنا أحمد بن يحيى عن ابن الأعرابي:

إلى الله أشكو بالمدينة حاجةً
وبالشَّام أُخرى كيف تلتقيانِ
سأُعملُ نصّ العيس حتَّى يكُفني
غنَى المال يوماً أوْ غنَى الحدثانِ

وقال نهيك بن أُساف:

أَمّ نهيكٍ ارفعي الظنَّ صاعداً
ولا تيأسي أنْ يُثريَ اليومَ بائسُ
سيكفيك سيري في البلادِ وبُغيتي
وبعلُ الَّتي لم يحظ في البيتِ جالسُ
سأكسبُ ملاً أوْ تبيتنَّ ليلةً
لصدركَ من وجدٍ عليَّ وساوسُ
ومَن يكسبِ المالَ المُمنَّعَ بالقنا
يعشْ مثرياً أوْ يُودَ فيما يُمارسُ

وقال آخر:

فما طلب المعيشة بالتَّمنِّي
ولكنْ القِ دلوك في الدّلاءِ
تجيءُ بملئها يوماً ويوماً
تجيءُ بحمأةٍ وقليل ماءِ

وقال آخر:

فسرْ في بلادِ الله والتمسْ الغِنَى
تعشْ ذا يسار أوْ تموتَ فتُعذرا
ولا ترضَ من عيشٍ بدونٍ ولا تنمْ
وكيفَ ينامُ اللَّيل من كانَ مقترا

وأجود من هذه المعاني قول الآخر:

إذا ذهبت نفسي لدنيا أصبتُها
فقد ذهبتْ نفسي وقد ذهب الثَّمنْ
لها تُطلبُ الدُّنيا فإن أنا بعتُها
بشيءٍ من الدُّنيا فذلكمُ الغَبَنْ

قال محمود الوراق:

بَخلتُ وليس البخلُ منِّي سجيَّةً
ولكنْ رأيتُ الفقرَ شرَّ سبيلِ
لَموتُ الفَتَى خيرٌ من البخلِ للفتَى
وللبخلُ خيرٌ من سؤالِ بخيلِ

وأحسن من ذا قولاً وهو في ضدّ معناه الَّذي يقول:

إنَّ القناعةَ عزٌّ دائم وغنًى
والذُّلُّ والفقرُ في ذي الحرص والطَّمعِ
لا يمنعنكَ من عَودٍ بعارفةٍ
خوف الخصاصة أوْ كفران مُصطنعِ

فهؤلاء الذين وصفنا حالهم في صدر هذا الباب إنَّما دعاهم إلى بذل أنفسهم في طلب المال الخوف على عيالهم، ولم يريدوا بذلك مباهاة لغيرهم، ولا مكاثرة لهم بأموالهم فهم لعمري أعذر ممَّن بذل نفسه، واستعمل جاهه، وانصب جسمه في طلب ما لم تدفعه الضرورة إلى طلبه، ويكسب مالاً فقرنه إلى كسب كما قال امرؤ القيس، وهو من جيد كلامه، وهو من الأمثال السائرة من شعره وإن كان غير محمود المعنى في حقيقته:

فلو أن ما أسعى لأدنَى معيشةٍ
كفاني ولم أطلب قليلاً من المالِ
ولكنما أسعى لمجدٍ مؤثَّلٍ
وقد يُدرك المجدَ المؤثل أمثالي
وما المرءُ ما دامت حُشاشة نفسهِ
بمُدرك أطراف الخطوب ولا آلِ

وكما قال أيضاً:

بكى صاحبي لمَّا رأى الدربَ دونَهُ
وأيقنَ أنَّا لاحقان بقيصرا
فقلتُ لهُ لا تبكِ عينكَ إنَّما
نحاولُ مُلكاً أوْ نموتُ فنُعذرا

وكما قال يزيد بن خذاق:

ذريني أسير في البلادِ لعلَّني
أُصيبُ غنًى فيه لذي الحقّ مَحْملُ
فإن نحنُ لم نملك دفاعاً لحادثٍ
تلِمُّ به الأيَّام فالصَّبر أجملُ
أليسَ كثيراً أن تلمّ مُلمَّةٌ
وليسَ علينا في الحقوقِ مُعوَّلُ

وكما قال أبو نواس:

تقول الَّتي من بيتها خفَّ مركبي
يعزّ علينا أن نراكَ تَسيرُ
أما دون مصرٍ للفتَى متطلّبٌ
بلَى إن أسباب الغِنَى لكثيرُ
فقلتُ لها واستعجلتْها بوادرٌ
جرتْ فجرى في جَريهن عَبيرُ
ذريني أكثر حاسديك برحلةٍ
إلى بلدٍ فيه الخصيبُ أميرُ

وقال آخر:

سأبغي الغِنَى إما جليسَ خليفةٍ
نقومُ سواءً أوْ مخيفَ سبيلِ
لنخمسَ مالَ الله من كلِّ فاجرٍ
وذي بِطنةٍ للطيّبات أكولِ

وكما قال الأحمر بن سالم:

مقِلٌّ رأى الإقلالَ عاراً فلم يزلْ
يجوبُ بلادَ الله حتَّى تَمَوَّلا
ولم ينهَهُ عما أرادَ مهابة
ولكنْ مضى قُدماً وما كانَ مُبْسلا
فلمَّا أفادَ المالَ جادَ بفضلِهِ
علَى كلِّ مَن يرجو نداهُ مُؤمِّلا
فأعطى جزيلاً من أرادَ عطاءهُ
وذو البخل مذموم يرى البخلَ أفضلا

قال أبو بكر: وإن هذه الأشعار لفي غاية من جزالة اللفظ، وتوسط من جودة المعنى، ولم نُعب قائليها، لأنهم أساؤوا فيها، وإنَّما أردنا منهم أن تكون رغبتهم في بذلها للمكاسب تأميلاً للرفعة بها في العواقب، إذْ قد استسلفوا مذلَّة السؤال، وليسوا على ثقة ممَّا أمَّلوه من علوّ الحال، ونحن الآن نذكر إن شاء الله من أثر القناعة والصبر، وتجشم مضاضة الإقتار والفقر.

أنشدني بعض أهل الأدب عن الرياشي لعلي بن أبي طالب كرَّم الله وجهه:

دليلك أن الفقرَ خيرٌ من الغِنَى
وأن القليلَ المال خيرٌ من المثري
لقاؤك مخلوقاً عصَى الله بالغنَى
ولم ترَ مخلوقاً عصَى الله بالفقرِ

وأحسن الَّذي يقول:

ما اعتاضَ باذلُ وجههِ بسُؤالهِ
عِوضاً ولو نالَ الغِنَى بسؤالِ
وإذا النَّوالُ مع السؤالِ وزنْتَهُ
رجَحَ السؤالُ وخفَّ كلُّ نوالِ

وقال بشر الضبعي:

إذا قلَّ مالي لا ألومُ ذوي الغِنَى
ولا يتحنَّى للحوادثِ جانبي
ولستُ إذا ما أحدثَ الدَّهر نكبة
بأخضع ولاّج بيوت الأقاربِ

وقال أيضاً:

إذا قلَّ مالي أوْ أُصبتُ بنكبةٍ
قَدحتُ حياتي عفَّةً وتكرُّما
وأعرضُ عن ذي المال حتَّى يُقال لي
قد أحدث هذا نخوَةً وتبرُّما
وما بي جفاءٌ عن صديقٍ ولا أخٍ
ولكنَّها حالٌ إذا كنتُ مُعدما

وقال ابن أذينة:

لقد علمت لو أن العلم ينفعني
أن الَّذي هو رزقي سوف يأتيني
أسعَى له فيُعنِّيني تَطَلُّبُهُ
ولو قعدتُ أتاني لا يُغنيني

وقال آخر:

وإنْ صفحةُ المعروف ضنَّتْ بوجهه
بدا لك من معروفنا وجهُهُ السَّهْلُ
وما زالَ مُذ كنَّا ملوكاً وسُوقةً
يموت بنا جَوْرٌ ويحيا عَدْلُ

وقال آخر:

ملأتُ يَدي من الدُّنيا مراراً
فما طَمعَ العواذلُ في اقتصادِي
ولا وجبت عليَّ زكاةُ مالٍ
وهل تجبُ الزَّكاةُ علَى جَوادِ

وقال آخر:

لقد علمَ السَّاري طروقاً برحله
وباغي النَّدَى ما اللّؤم لي بقرينِ
ومُختبطٍ يسعى إليَّ برحله
فلم أفدْ منه صرمتي بيميني
فنفسك ولِّ اللومَ عاذل وانطحي
برأسك أركانَ الصَّفا وذريني

وقال آخر:

وإنِّي امرؤ ما تستفيقُ دراهمي
علَى الكفِّ إلاَّ عابرات سبيلِ
أحكّم فيها الحقّ حتَّى أذلّها
إذا ذاد عنه الحقّ كلُّ بخيلِ

وقال أبو دلف:

إن نفساً كريمة تألف الصَّب
ر إذا ما تغيَّرت حالاتي
لو دعتني إلى الدّناة حياتي
يا ابن عيسى هانتْ عليَّ حياتي
إنَّما يُحمّدُ السَّجايا من الأح
رار عند النَّوائب المُعضلاتِ
كلُّ حيٍّ يقوى علَى الصبر في السّ
رِّ وصبرُ الكريم في النَّائباتِ

وأنشدني بعض أهل الأدب:

لا تكثري لم أُقصِّر وَيْك في الطَّلب
أيّ البلاد وأيّ الأرض لم أجُبِ
هذا وفيَّ خِلالٌ كلُّها سببٌ
إلى الغِنَى غيرَ أن الرزقَ لم يُجبِ
لا أتهم الله في رزقي فما صَرَفت
عنِّي المكاسبَ إلاَّ حرفةُ الأدبِ

قال أبو العبر:

ليس لي مالٌ سوى كرمي
فيه أمنٌ لي من العَدَم
لا أقول الله يظلمني
كيف أشكو غير متَّهم
قَنعت نفسي بما رُزقتْ
وتمطَّت في العُلى هممي
ولبستُ الصبر سابغةً
فهي من قرني إلى قدمي
فإذا ما الدَّهر عاتبني
لم يجدني كافرَ النّعم

وقال آخر:

إذا سُدَّ بابٌ عنك من دون حاجةٍ
فدعْهُ لأُخرى ليّنٌ لك بابُها
فإن قرابَ البَطن يكفيك مِلؤُهُ
ويكفيك سوءاتِ الأمور اجتنابُها

وقال آخر:

الدَّهر لا يبقى علَى حالةٍ
لكنَّه يُقبلُ أوْ يُدبرُ
فإن تلقاك بمكروهةٍ
فاصْبر فإن الدَّهر لا يصبرُ

وقال بعض الكلابيين:

فإنِّي لصوانٌ لنفسي وإنَّني
علَى الهول أحياناً بها لرَجومُ
وفرَّق بين الحيِّ بلوي مُشتّتٌ
ومحتملٌ من ظاعن ومقيمُ
وأقحاط أقوام كأنَّ وليدها
وإنْ كانَ حي الوالدين يتيمُ

قال بعض الأعراب:

إذا مِتُّ فابكيني بثنتين لا يُقَلْ
كذبت وشرُّ الباكيات كذوبُها
بعفَّة نفسٍ حين يُذكر مَطمعٌ
وعزَّتها إنْ كانَ أمرٌ يُريبُها
وإن قلتِ سِمْحٌ في النَّدَى لا تكذبي
فأمَّا تُقى نفسي فربِّي حسيبُها

وأخبرني محمد بن الخطاب الكلابي أن فتى من الأعراب خطب ابنة عم له وكان معسراً، وأبى عمه أن يزوّجه فكتب إلى ابنة عمه هذه الأبيات:

يا هذه كم يكون اللّوم والفَندُ
لا تعذلي رجلاً أثوابُهُ قِدَدُ
إن يمسِ منفرداً فالبدرُ منفردٌ
واللَّيث منفردٌ والسَّيف منفردُ
أوْ كنتِ أنكرتِ طِمريه وقد خَلِقا
فالبحر من فوقه الأقذار والزَّبَدُ
إنْ كانَ صرفُ الليالي رثَّ بزّته
فبين ثوبيه منها ضيغم لُبَدُ

قال: فدخلت بالأبيات على أبيها فقال لها: ما أُريد لك صداقاً غيرها، فدعاه فزوَّجه إيَّاها.