كتاب الأم/إحياء الموات/من قال: لا حمى إلا حمى من الأرض الموات وما يملك به الأرض وما لا يملك وكيف يكون الحمى
[قال الشافعي]: رحمه الله: أخبرنا سفيان عن الزهري عن عبيد الله بن عبد الله عن ابن عباس عن الصعب بن جثامة أن رسول الله ﷺ قال: (لا حمى إلا لله ورسوله) [وحدثنا] غير واحد من أهل العلم (أن رسول الله ﷺ حمى النقيع).
[قال الشافعي]: كان الرجل العزيز من العرب إذا انتجع بلدا مخصبا أوفى بكلب على جبل إن كان به، أو نشز إن لم يكن جبل ثم استعواه ووقف له من يسمع منتهى صوته بالعواء فحيث بلغ صوته حماه من كل ناحية فيرعى مع العامة فيما سواه ويمنع هذا من غيره لضعفاء سائمته وما أراد قرنه معها فيرعى معها فنرى أن قول رسول الله ﷺ والله أعلم " (لا حمى إلا لله ورسوله) لا حمى على هذا المعنى الخاص وأن قوله لله كل محمي وغيره ورسوله أن رسول الله ﷺ إنما كان يحمي لصلاح عامة المسلمين لا لما يحمي له غيره من خاصة نفسه وذلك أنه ﷺ لا يملك إلا ما لا غناء به وبعياله عنه ومصلحتهم حتى يصير ما ملكه الله من خمس الخمس مردودا في مصلحتهم، وكذلك ماله إذا حبس فوق سنته مردودا في مصلحتهم في الكراع والسلاح عدة في سبيل الله وأن ماله ونفسه كان مفرغا لطاعة الله تعالى فj وجزاه أفضل ما جزى به نبيا عن أمته.
[قال الشافعي]: والحمى ليس بإحياء موات فيكون لمن أحياه بقول رسول الله ﷺ وقول رسول الله ﷺ (لا حمى إلا لله ورسوله) يحتمل معنيين أحدهما أن لا يكون لأحد أن يحمي للمسلمين غير ما حماه رسول الله ﷺ ومن ذهب هذا المذهب قال: يحمي الوالي كما حمى رسول الله ﷺ من البلاد لجماعة المسلمين على ما حماها رسول الله ﷺ ولا يكون لوال إن رأى صلاحا لعامة من حمى أن يحمي بحال شيئا من بلاد المسلمين والمعنى الثاني أن قوله (لا حمى إلا لله ورسوله) يحتمل لا حمى إلا على مثل ما حمى عليه رسول الله ﷺ ومن ذهب هذا المذهب قال: للخليفة خاصة دون الولاة أن يحمي على مثل ما حمى عليه رسول الله ﷺ قال: والذي عرفناه نصا ودلالة فيما حمى رسول الله ﷺ أنه حمى لنقيع والنقيع بلد ليس بالواسع الذي إذا حمي ضاقت البلاد بأهل المواشي حوله حتى يدخل ذلك الضرر على مواشيهم، أو أنفسهم كانوا يجدون فيما سواه من البلاد سعة لأنفسهم ومواشيهم وأن ما سواه مما لا يحمى أوسع منه وأن النجع يمكنهم فيه وأنه لو ترك فكان أوسع عليهم لا يقع موقع ضرر بين عليهم؛ لأنه قليل من كثير غير مجاوز القدر، وفيه صلاح لعامة المسلمين بأن تكون الخيل المعدة لسبيل الله وما فضل من سهمان أهل الصدقات وما فضل من النعم التي تؤخذ من أهل الجزية ترعى فيه فأما الخيل فقوة لجميع المسلمين، وأما نعم الجزية فقوة لأهل الفيء من المسلمين ومسلك سبل الخير أنها لأهل الفيء المحامين المجاهدين قال: وأما الإبل التي تفضل عن سهمان أهل الصدقة فيعاد بها على أهل سهمان الصدقة لا يبقى مسلم إلا دخل عليه من هذا صلاح في دينه ونفسه ومن يلزمه أمره من قريب، أو عامة من مستحقي المسلمين فكان ما حمي عن خاصتهم أعظم منفعة لعامتهم من أهل دينهم وقوة على من خالف دين الله من عدوهم وحمى القليل الذي حمى عن عامة المسلمين وخواص قراباتهم الذين فرض الله لهم الحق في أموالهم، ولم يحم عنهم شيئا ملكوه بحال.
[قال الشافعي]: وقد حمى من حمى على هذا المعنى وأمر أن يدخل الحمى ماشية من ضعف عن النجعة ممن حول الحمى ويمنع ماشية من قوي على النجعة فيكون الحمى مع قلة ضرره أعم منفعة من أكثر منه مما لم يحم، وقد حمى بعد رسول الله ﷺ عمر رضي الله عنه أرضا لم نعلم رسول الله ﷺ حماها وأمر فيها بنحو مما وصفت من أنه ينبغي لمن حمى أن يأمر به. [أخبرنا] عبد العزيز بن محمد عن زيد بن أسلم عن أبيه أن عمر استعمل مولى له يقال هني على الحمى فقال له يا هني ضم جناحك للناس واتق دعوة المظلوم، فإن دعوة المظلوم مجابة وأدخل رب الصريمة ورب الغنيمة وإياي ونعم ابن عفان ونعم ابن عوف فإنهما إن تهلك ماشيتهما يرجعان إلى نخل وزرع، وإن رب الغنيمة والصريمة يأتي بعياله فيقول يا أمير المؤمنين أفتاركهم أنا لا أبا لك فالماء والكلا أهون علي من الدراهم والدنانير وايم الله لعلى ذلك إنهم ليرون أني قد ظلمتهم إنها لبلادهم قاتلوا عليها في الجاهلية وأسلموا عليها في الإسلام، ولولا المال الذي أحمل عليه في سبيل الله ما حميت على المسلمين من بلادهم شبرا ".
[قال الشافعي]: في معنى قول عمر " إنهم يروني أني قد ظلمتهم إنها لبلادهم قاتلوا عليها في الجاهلية، وأسلموا عليها في الإسلام إنهم يقولون إن منعت لأحد من أحد من قاتل عليها وأسلم أولى أن تمنع له "، وهذا كما قال: لو كانت تمنع لخاصة فلما كان لعامة لم يكن في هذا إن شاء الله مظلمة. وقول عمر " لولا المال الذي أحمل عليه في سبيل الله ما حميت على المسلمين من بلادهم شبرا إني لم أحمها لنفسي، ولا لخاصتي وإني حميتها لمال الله الذي أحمل عليه في سبيل الله وكانت من أكثر ما عنده مما يحتاج إلى الحمى فنسب الحمى إليها لكثرتها، وقد أدخل الحمى خيل الغزاة في سبيل الله " فلم يكن ما حمى ليحمل عليه أولى بما عنده من الحمى مما تركه أهله ويحملون عليها في سبيل الله؛ لأن كلا لتعزير الإسلام، وأدخل فيها إبل الضوال؛ لأنها قليل لعوام من أهل البلدان وأدخل فيها ما فضل من سهمان أهل الصدقة من إبل الصدقة وهم عوام من المسلمين يحتاجون إلى ما جعل مع إدخاله من ضعف عن النجعة ممن قل ماله، وفي تماسك أموالهم عليهم غنى عن أن يدخلوا على أهل الفيء من المسلمين وكل هذا وجه عام النفع للمسلمين.
[قال الشافعي]: أخبرني عمي محمد بن علي عن الثقة أحسبه محمد بن علي بن حسين، أو غيره عن مولى لعثمان بن عفان رضي الله عنه قال: بينا أنا مع عثمان في ماله بالعالية في يوم صائف إذ رأى رجلا يسوق بكرين وعلى الأرض مثل الفراش من الحر فقال: ما على هذا لو أقام بالمدينة حتى يبرد ثم يروح ثم دنا الرجل فقال: انظر من هذا فقلت أنا رجلا معمما بردائه يسوق بكرين ثم دنا الرجل فقال: انظر فنظرت، فإذا عمر بن الخطاب فقلت هذا أمير المؤمنين فقام عثمان فأخرج رأسه من الباب فأداه لفح السموم فأعاد رأسه حتى حاذاه فقال: ما أخرجك هذه الساعة؟ فقال: بكران من إبل الصدقة تخلفا، وقد مضى بإبل الصدقة فأردت أن ألحقهما بالحمى وخشيت أن يضيعا فيسألني الله عنهما فقال عثمان يا أمير المؤمنين هلم إلى السماء والظل وتكفيك فقال: عد إلى ظلك فقلت عندنا من يكفيك فقال: عد إلى ظلك فمضى فقال عثمان " من أحب أن ينظر إلى القوي الأمين فلينظر إلى هذا " فعاد إلينا فألقى نفسه.
[قال الشافعي]: في حكاية قول عمر لعثمان في البكرين اللذين تخلفا وقول عثمان " من أحب أن ينظر إلى القوي الأمين فلينظر إلى هذا " [أخبرنا] مالك عن ابن شهاب يعني بما حكاه عن عمر وعثمان.
[قال الشافعي]: وإن كان للخليفة مال يحمل عليه في سبيل الله من إبل وخيل فلا بأس أن يدخلها الحمى، وإن كان منها مال لنفسه فلا يدخلها الحمى فإنه إن يفعل ظلم؛ لأنه منع منه وأدخل لنفسه، وهو من أهل القوة.
[قال الشافعي]: وهكذا من كان له مال يحمل عليه في سبيل الله دون الخليفة قال: ومن سأل الوالي أن يقطعه في الحمى موضعا يعمره فإن كان حمى النبي ﷺ لم يكن إلا منعه إياه وأن عمر أبطل عمارته وكان كمن عمر فيما ليس له أن يعمر فيه، وإن كان حمى أحدث بعده فكان يرى الحمى حقا كان له منعه ذلك، وإن أراد العمارة كان له منعه العمارة، وإن سبق فعمر لم يبن لي أن تبطل عمارته والله تعالى أعلم. ويحتمل إذا جعل الحمى حقا وكان هو في معنى ما حمى رسول الله ﷺ؛ لأنه حمى لمثل ما حماه له أن يبطل عمارته، وإن أذن له الوالي بعمارة لم يكن له إبطال عمارته؛ لأن إذنه له إخراج له من الحمى، وقد يجوز أن يخرج ما أحدث حماه من الحمى ويحمي غيره إذا كان غير ضرر على من حماه عليه، وليس للوالي بحال أن يحمي من الأرض إلا أقلها، وقد يوسع الحمى حتى يقع موقعا ويبين ضرره على من حمى عليه، وما أحدث من حمى فرعاه أحد لم يكن عليه في رعيته شيء أكثر من أن يمنع رعيته، فأما غرم، أو عقوبة فلا أعلمه عليه.