قصة أهل البصرة من المسجديين

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

قصة أهل البصرة من المسجديين

قال أصحابنا منة المسجديين: اجتمع ناس في المسجد ممن ينتحل الاقتصاد في النفقة والتنمية للمال من أصحاب الجمع والمنع.

وقد كان هذا المذهب صار عندهم كالنسب الذي يجمع على التحاب وكان الذي يجمع على التناصر.

وكانوا إذا التقوا في حلقهم تذاكروا هذا الباب وتطارحوة وتدارسوه.

فقال شيخ منهم: ماء بئرنا - كما قد علمتم - ملح أجاج لا يقربه الحمار ولا تسيغه الإبل وتموت عليه النخل.

والنهر منا بعيد.

وفي تكلف العذب علينا مؤنة.

فكنا نمزج منه للحمار فاعتل عنه وانتفض علينا من أجله.

فصرنا بعد ذلك نسقيه العذب صرفاً.

وكنت أنا والنعجة كثيراً ما نغتسل بالعذب مخافة أن يعتري جلودنا منه مثل ما اعترى جوف الحمار.

فكان ذلك الماء العذب الصافي يذهب باطلاً.

ثم انفتح لي باب من الإصلاح فعمدت إلى ذلك المتوضأ فجعلت في ناحية منه حفرة وصهرجتها وملستها حتى صارت كأنها صخرة منقورة.

وصوبت إليها المسيل.

فنحن الآن إذا اغتسلنا صار الماء إليها صافياً لم يخالطه شيء.

والحمار أيضاً لا تقزز له منه.

وليس علينا حرج في سقيه منه.

وما علمنا أن كتاباً حرمه ولا سنة نهت عنه.

فربحنا هذه منذ أيام وأسقطنا مؤنة عن النفس والمال مال القوم.

وهذا بتوفيق الله ومنه.

فأقبل عليهم شيخ فقال: هل شعرتم بموت مريم الصناع فإنها كانت من ذوات الاقتصاد وصاحبة إصلاح.

قالوا: فحدثنا عنها.

قال: نوادرها كثيرة وحديثها طويل.

ولكني أخبركم عن واحدة فيها كفاية.

قالوا: وما هي قال: زوجت ابنتها وهي بنت اثنتي عشرة فحلتها الذهب والفضة وكستها المروى والوشي والقز والخز وعلقت المعصفر ودقت الطيب وعظمت أمرها من قدرها عند الأحماء.

فقال لها زوجها: أنى هذا يا مريم قالت: هو من عند الله.

قال: دعي عنك الجملة وهاتي التفسير.

والله ما كنت ذات مال قديماً ولا ورثته حديثاً.

وما أنت بخائنة في نفسك ولا في مال بعلك.

إلا أن تكوني قد وقعت على كنز! وكيف دار الأمر فقد أسقطت عني مؤنة وكفيتني هذه النائبة.

قالت: اعلم أني منذ يوم ولدتها إلى أن زوجتها كنت أرفع من دقيق كل عجنة حفنة.

وكنا - كما قد علمت - نخبز في كل يوم مرة.

فإذا اجتمع من ذلك مكوك بعته.

قال زوجها: ثبت الله رأيك وأرشدك! ولقد أسعد الله من كنت له سكناً وبارك لمن جعلت له إلفاً! ولهذا وشبهه قال رسول الله : من الذود إلى الذود إبل.

وإني لأرجو أن يخرج ولدك على عرقك الصالح وعلى مذهبك المحمود.

فنهض القوم بأجمعهم إلى جنازتها وصلوا عليها.

ثم انكفؤا إلى زوجها فعزوه على مصيبته وشاركوه في حزنه.

ثم اندفع شيخ منهم فقال: يا قوم لا تحقروا صغار الأمور فإن كل كبير صغير.

ومتى شاء الله أن يعظم صغيراً عظمه وأن يكثر قليلاً كثره.

وهل بيوت الأموال إلا درهم إلى درهم وهم الذهب إلا قيراط إلى جنب قيراط وليس كذلك رمل عالج وماء البحر وهل اجتمعت أموال بيوت إلا بدرهم من هاهنا ودرهم من هاهنا فقد رأيت صاحب سفط قد اعتقد مائة جريب في أرض العرب ولربما رأيته يبيع الفلفل بقيراط الحمص بقيراط فأعلم أنه لم يربح في ذلك الفلفل إلا الحبة والحبتين من خشب الفلفل.

فلم يزل يجمع من الصغار الكبار حتى اجتمع ما اشترى به مائة جريب!.

ثم قال: اشتكيت أياماً صدري من سعال كان أصابني فأمرني قوم بالفانيذ السكري.

وأشار على آخرون بالحريرة تتخذ من النشاستج والسكر ودهن اللوز وأشباه ذلك.

فاستثقلت المؤنة وكرهت الكلفة ورجوت العافية.

فبينا أنا أدافع اِلأيام إذ قال لي بعض الموفقين: عليك بماء النخالة فاحسه حاراً.

فحسوت فإذا هو طيب جداً وإذا هو يعصم: فما جعت ولا اشتهيت الغذاء في ذلك اليوم إلى الظهر.

ثم ما فرعت من غدائي وغسل يدي حتى فقلت للعجوز: لم لا تطبخين لعيالنا في كل غداة نخالة فإن ماءها جلاء للصدر وقوتها غذاء وعصمة ثم تجففين بعد النخالة فتعود كما كانت.

فتبيعين إذا الجميع بمثل الثمن الأول ونكون قد ربحنا فضل ما بين الحالين! قالت: أرجو أن يكون الله قد جمع بهذا السعال مصالح كثيرة لما فتح الله لك بهذه النخالة التي فيها صلاح بدنك معاشك! وما أشك أن تلك المشهورة كانت من التوفيق! قال القوم: صدقت مثل هذا لا يكتسب بالرأي ولا يكون إلا سماويا.

! ثم أقبل عليهم شيخ فقال: كنا نلقي من الحراق والقداحة جهداً لأن الحجارة كانت إذا انكسرت حروفها واستدارت كلت ولم تقدح قدح خير وأصلدت فلم تور وربما أعجلنا المطر والوكف.

وقد كان الحجر أيضاً يأخذ من حروف القداحة حتى يدعها كالقوس.

فكنت أشتري المرقشيتا بالغلاء والقداحة الغليظة بالثمن الموجع.

وكان علينا أيضاً في صنعة الحراق وفي معالجة القطنة مؤنة وله ريح كريهة.

والحراق لا يجيء من الحرق المصبوغة ولا من الحرق الوسخة ولا من الكتان ولا من الخلقان.

فكنا نشتريه بأغلى الثمن.

فتذاكرنا منذ أيام أهل البدو والأعراب وقدحهم النار بالمرخ والعفار.

فزعم لنا صديقنا الثوري وهو - ما علمت - أحد المرشدين أن عراجين الأعذاق تنوب عن ذلك أجمع.

وعلمني كيف تعالج.

ونحن نؤتى بها من أرضنا بلا كلفة.

فالخادم اليوم لا تقدح ولا توري إلا بالعرجون.

قال القوم: قد مرت بنا اليوم فوائد كثيرة.

ولهذا قال الأول: مذاكرة الرجال تلقح الألباب.

ثم اندفع شيخ منهم فقال: لم أرى في وضع الأمور في مواضعها وفي توفيتها غاية حقوقها كمعاذة العنبرية.

قالوا: وما شان معاذة هذه قال: أهدى إليها العام ابن عم لها أضحية.

فرأيتها كئيبة حزينة مفكرة مطرقة.

فقلت لها: مالك يا معاذة قالت: أنا امرأة أرملة وليس لي قيم.

ولا عهد لي بتدبير لحم الأضاحي.

وقد ذهب الذين كانوا يدبرونه ويقومون بحقه.

وقد خفت أن يضيع بعض هذه الشاة.

ولست أعرف وضع جميع أجزائها في أماكنها.

وقد علمت أن الله لم يخلق فيها ولا غيرها شيئاً لا منفعة فيه.

ولكن المرء يعجز لا محالة.

ولست أخاف من تضييع القليل إلا أنه يجر تضييع الكثير.

أما القرن فالوجه فيه معروف وهو أن يجعل كالخطاف ويسمر في جذع من جذوع السقف فيعلق عليه الزبل والكيران وكل ما خيف عليه من الفأر والنمل والسنانير وبنات وردان والحيات وغير ذلك.

وأما المصران فإنه لأوتار المندفة.

وبنا إلى ذلك أعظم الحاجة.

وأما قحف الرأس واللحيان وسائر العظام فسبيله أن يكسر بعد أن يعرق ثم يطبخ.

فما ارتفع من الدسم كان للمصباح وللإدام وللعصيدة ولغير ذلك.

ثم تؤخذ تلك العظام فيوقد بها.

فلم يرى الناس وقوداً قط أصفى ولا أحسن لهباً منها.

وإذا كانت كذلك فهي أسرع في القدر لقلة ما يخالطها من الدخان.

وأما الإهاب فالجلد نفسه حراب.

وللصوف وجوه لا تدفع.

وأما الفرث والبعر فحطب إذا جفف عجيب.

ثم قالت: بقي الآن علينا الانتفاع بالدم.

وقد علمت أن الله عز وجل لم يحرم من الدم المسفوح إلا أكله وشربه وأن له مواضع يجوز فيها ولا يمنع منها.

وإن أنا لم أقع على علم ذلك حتى يوضع موضع الانتفاع به صار كية في قلبي وقدي في عيني وهما لا يزال يعاودني.

فلم ألبث أن رأيتها قد تطلقت وتبسمت.

فقلت: ينبغي أن يكون قد انفتح لك باب الرأي في الدم.

قالت: أجل ذكرت أن عندي قدوراً شامية جدداً.

وقد زعموا أنه ليس شيء أدبغ ولا أزيد في قوتها من التلطيخ بالدم الحار الدسم.

وقد استرحت الآن إذ وقع كل شيء موقعه! قال: ثم لقيتها بعد ستة أشهر فقلت لها: كيف كان قديد تلك الشاة قالت: بأبي أنت! لم يجيء وقت القديد بعد! لنا في الشحم والألية والجنوب والعظم المعروق وغير ذلك معاش! ولكل شيء إبان! فقبض صاحب الحمار والماء العذب قبضة من حصى ثم ضرب بها الأرض.

ثم قال: لا تعلم قصة زبيدة بن حميد: وأما زبيدة بن حميد الصيرفي فإنه استلف من بقال كان على باب داره درهمين وقيراطاً.

فلما قضاه بعد ستة أشهر قضاه درهمين وثلاث حبات شعير.

فاغتاظ البقال فقال: سبحان الله! أنت رب مائة ألف دينار وأنا بقال لا أملك مائة فلس وإنما أعيش بكدي وباستفضال الحبة والحبتين.

صاح على بابك حمال والمال لم يحضرك وغاب وكيلك فنقدت عنك درهمين وأربع شعيرات.

فقضيتني بعد ستة أشهر درهمين وثلاث شعيرات.

فقال زبيدة: يا مجنون! أسلفتني في الصيف فقضيتك في الشتاء.

وثلاث شعيرات شتوية ندية أرزن من أربع شعيرات يابسة صيفية.

وما أشك أن معك فضلاً! وحدثني أبو الأصبغ بن ربعي قال: دخلت عليه بعد أن ضرب غلمانه بيوم فقلت له: ما هذا الضرب المبرح وهذا الخلق السيء هؤلاء غلمان ولهم حرمة وكفاية وتربية.

وإنما هم ولد.

هؤلاء كانوا إلى غير هذا أحوج.

قال: إنك لست تدري أنهم أكلوا كل جوارشن كان عندي! قال أبو الأصبغ: فخرجت إلى رئيس غلمانه فقلت: ويلك! مالك وللجوارشن وما رغبتك فيه قال: جعلت فداك! ما أقدر أن أكلمك من الجوع إلا وأنا متكئ! الجوارشن! ما أصنع به هو نفسه ليس يشبع ولا نحتاج إلى الجوارشن ونحن الذين إنما نسمع بالشبع سماعاً من أفواه الناس! ما نصنع بالجوارشن واشتد على غلمانه في تصفية الماء وفي تبريده وتزميله لأصحابه وزواره.

فقال له غازي أبو مجاهد: جعلت فداك! مر بتزميل الخبز وتكثيره فإن الطعام قبل الشراب.

وقال مرة: يا غلام هات خوان النرد وهو يريد تحت النرد فقال له غازي: نحن إلى خوان الخبز أحوج.

وسكر زبيدة ليلة فكسا صديقاً له قميصاً.

فلما صار القميص على النديم خاف البدوات وعلم أن ذلك من هفوات السكر.

فمضى من ساعته إلى منزله فجعله بركاناً لامرأته.

فلما أصبح سأل عن القميص وتفقده فقيل له: إنك قد كسوته فلاناً.

فبعث إليه ثم أقبل عليه فقال: ما علمت أن هبة السكران وشراءه وبيعه وصدقته وطلاقه لا يجوز وبعد فإني أكره ألا يكون لي حمد وأن يوجه الناس هذا مني السكر.

فرده علي حتى أهبه لك صاحياً عن طيب نفس فإني أكره أن يذهب شيء من مالي باطلاً.

فلما رآه قد صمم أقبل عليه فقال: يا هناه! إن الناس يمزحون ويلعبون ولا يؤاخذون بشيء من ذلك.

فرد القميص عافاك الله! قال له الرجل: إني والله قد خفت هذا بعينه فلم أضع جنبي إلى الأرض حتى جيبته لامرأتي.

وقد زدت في الكمين وحذفت المقاديم.

فإن أردت بعد هذا كله أن تأخذه فخذه.

فقال: نعم آخذه لأنه يصلح لامرأتي كما يصلح لامرأتك.

قال: فإنه عند الصباغ.

قال: فهاته.

قال: ليس أنا أسلمته إليه.

فلما علم أنه قد وقع قال: بأبي وأمي رسول الله حيث يقول: جمع السر كله في بيت عليه فكان مفتاحه السكر.

قصة ليلى الناعطية: وأما ليلى الناعطية صاحبة الغالية من الشيعة فإنها ما زالت ترقع قميصاً لها وتلبسه حتى صار القميص الرقاع وذهب القميص الأول.

ورفت كساءها ولبسته حتى صارت لا تلبس إلا الرفو وذهب جميع الكساء.

وسمعت قول الشاعر: البس قميصك ما اهتديت لجيبه فإذا أضلك جيبه فاستبدل فقالت: إني إذا الخرقاء! أنا والله أحوص الفتق وأرقع الخرق وخرق الخرق! ومضيت أنا وأبو إسحاق النظام وعمرو بن نهيوي نريد الحديث في الجبان ولنتناظر في شيء فلما جاوزنا الخندق جلسنا في فناء حائطه.

وله ظل شديد السواد بارد ناعم.

وذلك لثخن الساتر واكتناز الأجزاء ولبعد مسقط الشمس من أصل حائطه.

فطال بنا الحديث فجرينا في ضروب من الكلام.

فما شعرنا إلا والنهار قد انتصف ونحن في يوم قائظ.

فلما صرنا في الرجوع ووجدت مس الشمس وقعها على الرأس أيقنت بالبرسام.

فقلت لأبي إسحاق والوليد إلى جنبي يسمع كلامي: الباطنة منا بعيدة وهذا يوم منكر ونحن في ساعة تذيب كل شيء.

والرأي أن نميل إلى منزل الوليد فنقيل فيه ونأكل ما حضر فإنه يوم تخفيف.

فإذا أبردنا تفرقنا وإلا فهو الموت ليس دونه شيء.

قال الوليد رافعاً صوته: أما على هذا الوجه الذي أنكرته علينا - رحمك الله هل ها هنا إلا الحاجة والضرورة قال: إنك أخرجته مخرج الهزء.

وقلت: وكيف أخرجه مخرج الهزء وحياتي في يدك مع معرفتي بك فغضب ونتر يده من أيدينا وفارقنا.

ولا والله ما اعتذر إلينا مما ركبنا به إلى الساعة.

ولم أر من يجعل الأسى حجة في المنع إلا هو وإلا من أبي مازن إلى جبل الغمر.

وكان جبل خرج ليلاً من موضع كان فيه فخاف الطائف ولم يأمن المستقفي فقال: لو دققت الباب على أبي مازن فبت عنده في أدنى بيت أو في دهليزه ولم ألزمه من مؤنتي شيئاً.

حتى إذا انصدع عمود الصبح خرجت في أوائل المدلجين.

فدق عليه الباب دق واثق ودق مدل ودق من يخاف أن يدركه الطائف أو يقفوه المستقفي وفي قلبه عز الكفاية والثقة بإسقاط المؤنة.

فلم يشك أبو مازن أنه دق صاحب هدية.

فنزل سريعاً.

فلما فتح الباب وبصر بجبل بصر بملك الموت! فلما رآه جبل واجماً لا يحير كلمة قال له: إني خفت معرة الطائف وعجلة المستقفي فملت إليك لأبيت عندك.

فتساكر أبو مازن وأراه أن وجومه إنما كان بسبب السكر.

فخلع جوارحه وخبل لسانه وقال: سكران والله أنا والله سكران! قال له جبل: كن كيف شئت.

نحن في أيام الفصل لا شتاء ولا صيف.

ولست أحتاج إلى سطح فأغم عيالك بالحر ولست أحتاج إلى لحاف فأكلفك أن تؤثرني بالدثار.

وأنا كما ترى ثمل من الشراب شبعان من الطعام.

ومن منزل فلان خرجت وهو أخصب الناس دخلاً.

وإنما أريد أن تدعني أغفي في دهليزك إغفاءة واحدة ثم أقوم في أوائل المبكرين.

قال أبو مازن وأرخى عينيه وفكيه ولسانه ثم قال: سكران والله! أنا سكران! لا والله ما أعقل أين أنا! والله إن أفهم ما تقول! ثم أغلق الباب في وجهه ودخل لا يشك أن عذره قد وضح وأنه قد ألطف النظر حتى وقع على هذه الحيلة! وإن وجدتم في هذا الكتاب لحناً أو كلاماً غير معرب ولفظاً معدولاً عن جهته فاعلموا أنا إنما تركنا ذلك لأن الإعراب يبغض هذا الباب ويخرجه من حده.

إلا أن أحكي كلاماً من كلام متعاقلي البخلاء وأشحاء العلماء كسهل بن هارون وأشباهه.

قصة أحمد بن خلف: ومن طياب البخلاء أحمد بن خلف اليزيدي.

ترك أبوه في منزله يوم مات ألفي ألف درهم وستمائة ألف درهم وأربعين ومائة ألف دينار.

فاقتسمها هو وأخوه حاتم قبل دفنه.

وأخذ أحمد وحده ألف ألف وثلثمائة ألف درهم وسبعين ألف دينار ذهباً عيناً مثاقيل وازنة جياداً سوى العروض.

فقلت له وقد ورث هذا المال كله: ما أبطأ بك الليلة قال لا والله إلا أني تعيشت البارحة في البيت! فقلت لأصحابنا: لولا أنه بعيد العهد بالأكل في بيته وأن ذلك غريب منه لما احتاج إلى هذا الاستثناء وإلى هذه الشريطة.

وأين يتعشى الناس إلا في منازلهم وإنما يقول الرجل عند مثل هذه المسألة: لا والله إلا أن فلاناً حبسني ولا والله إلا أن فلاناً عزم علي.

فأما ما يستثنى ويشترط فهذا ما لا يكون إلا على ما ذكرناه قبل.

وقال لي مبتدئاً مرة عن غير مشورة وعن غير سبب جرى: انظر أن تتخذ لعيالك في الشتاء من هذه المثلثة فإنها عظيمة البركة كثيرة النزل.

وهي تنوب عن الغداء.

ولها نفخة تغني عن العشاء.

وكل شيء من الأحساء فهو يغني عن طلب النبيذ وشرب الماء.

ومن تحسى الحار عرق.

والعرق يبيض الجلد ويخرج من الجوف.

وهي تملأ النفس وتمنع من التشهي.

وهي أيضاً تدفئ فتقوم لك في أجوافهم مقام فحم الكانون من خارج.

وحسو طار يغني عن الوقود وعن لبس الحشو.

والوقود يسود كل شيء وييبسه.

وهو سريع في الهضم وصاحبه معرض للحريق ويذهب في ثمنه المال العظيم.

وشر شيء فيه أن من تعوده لم يدفئه شيء سواه.

فعليك يا أبا عثمان بالمثلثة! واعلم أنها لا تكون إلا في منازل المشيخة وأصحاب التجربة.

فخذها من حكيم مجرب ومن ناصح مشفق.

وكان لا يفارق منازل إخوانه.

وإخوانه مخاصيب مناويب أصحاب نفح وترف.

وكانوا يتحفونه ويدللونه ويفكهونه ويحكمونه.

ولم يشكوا أنه سيدعوهم مرة وأن يجعلوا بيته نزهة ونشوة.

فلما طال تغافله وطالت مدافعته وعرضوا له بذلك فتغافل صرحوا له.

فلما امتنع قالوا: اجعلها دعوة ليس لها أخت.

فلما أكلوا وغسلوا أيديهم أقبل عليهم فقال: أسألكم بالله الذي لا شيء أعظم منه أنا الساعة أيسر وأغنى أو قبل أن تأكلوا طعامي قالوا: ما نشك أنك حين كنت والطعام في ملكك أغنى وأيسر.

قال: فأنا الساعة أقرب إلى الفقر أم تلك الساعة قالوا: بل أنت الساعة أقرب إلى الفقر.

قال: فمن يلومني على ترك دعوة قوم قربوني من الفقر وباعدوني من الغنى وكلما دعوتهم أكثر كنت من الفقر أقرب ومن الغنى أبعد وفي قياسه هذا أن من رأيه أن يهجر كل من استسقاه شربة ماء أو تناول من حائطه لبنة ومن خليط دابته عوداً.

ومر بأصحاب الجداء وذلك في زمان التوليد.

فأطعمه الزمان في الرخص وتحركت شهوته على قدر إمكانه عنده.

فبعث غلاماً له يقال له ثقف وهو معروف ليشتري له جدياً.

فوقف غير بعيد.

فلم يلبث أن رجع الغلام يحضر وهو يشير بيده ويومئ برأسه: أن اذهب ولا تقف.

فلم يبرح.

فلما دنا منه قال: ويلك تهزأ بي كأني مطلوب! قال: هذا أطرفه! الجدي بعشرة! أنت من ذي البابة مر الآن مرمر! فإذا غلامه يرى أن من المنكر أن يشتري جدي بعشرة دراهم! والجدي بعشرة إنما ينكر عندنا بالبصرة لكثرة الخير ورخص السعر.

فأما في العساكر فإن أنكر ذلك منكر فإنما ينكره من ولا تقولوا الآن: قد والله أساء أبو عثمان إلى صديقه بل تناوله بالسوء حتى بدأ بنفسه.

ومن كانت هذه صفته وهذا مذهبه فغير مأمون على جليسه.

وأي الرجال المهذب هذا والله الشيوع والتبوع والبذاء وقلة الوفاء.

اعلموا أني لم ألتمس بهذه الأحاديث عنه إلا موافقته وطلب رضاه ومحبته.

ولقد خفت أن أكون عند كثير من الناس دسيساً من قبله وكميناً من كمائنه.

وذلك أن أحب الأصحاب إله أبلغهم قولاً في إياس الناس مما قبله وأجودهم حسماً لأسباب الطمع في ماله.

على أني إن أحسنت بجهدي فسيجعل شكري موقوفاً.

وإن جاوز كتابي هذا حدود العراق شكر وإلا أمسك.

لأن شهرته بالقبيح عند نفسه في هذا الإقليم قد أغنته عن التنويه والتنبيه على مذهبه.

وكيف وهو يرى أن سهل بن هارون وإسماعيل بن غزوان كانا من المسرفين وأن الثوري والكندي يستوجبان الحجر.

وبلغني أنه قال: لو لم تعرفوا من كرامة الملائكة على الله إلا أنه لم يبتلهم بالنفقة ولا بقول العيال: هات لعرفتم حالهم ومنزلتهم.

وحدثني صاحب لي قال: دخلت على فلان بن فلان وإذا المائدة موضوعة بعد وإذا القوم قد أكلوا ورفعوا أيديهم.

فمددت يدي لآكل فقال: أجهز على الجرحى ولا تتعرض للأصحاء! يقول: اعرض للدجاجة التي قد نيل منها وللفرخ المنزوع الفخذ.

فأما الصحيح فلا تتعرض له.

وكذلك الرغيف الذي قد نيل منها وللفرخ المنزوع الفخذ.

فأما الصحيح فلا تتعرض له.

وكذلك الرغيف الذي قد نيل منه وأصابه بعض المرق.

وقال لي الرجل: أكلنا عنده يوماً وأبوه حاضر وبني له يجيئ ويذهب.

فاختلف مراراً.

كل ذلك يرانا نأكل.

فقال الصبي: كم تأكلون لا أطعم الله بطونكم! فقال أبوه وهو جد الصبي: ابني ورب الكعبة! وحدثني صاحب مسلحة باب الكرخ قال: قال لي صاحب الحمام: ألا أعجبك من صالح بن عفان كان يجئ كل سحر فيدخل الحمام.

فإذا غبت عن إجانة النورة مسح أرفاغه.

ثم يتستر بالمئزر.

ثم يقوم فيغسله في غمار الناس.

ثم يجئ بعد في مثل تلك الساعة فيطلي ساقيه وبعض فخذيه.

ثم يجلس ويتزر بالمئزر.

فإذا وجد غفلة غسله.

ثم يعود في مثل ذلك الوقت فيمسح قطعة أخرى من جسده.

فلا يزال يطلي في كل سحر حتى ذهب مني بطلية.

قال: ولقد رأيته وإن في زيق سراويله نورة.

وكان لا يرى الطبخ في القدور الشامية ولا تبريد الماء في الجرار المذارية لأن هذه ترشح وتلك تنشف.

حدثني أبو الجهجاه النوشرواني قال: حدثني أبو الأحوص الشاعر قال: كنا نفطر عند الباسياني.

فكان يرفع يديه قبلنا ويستلقي على فراشه ويقول: {إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاء وَلَا شُكُورًا}.

حديث خالد بن يزيد: وهذا خالد بن يزيد مولى المهالبة.

هو خالويه المكدى.

وكان قد بلغ في البخل والتكدية وفي كثرة المال المبالغ التي لم يبلغها أحد.

وكان ينزل في شق بني تميم فلم يعرفوه.

فوقف عليه ذات يوم سال وهو في مجلس من مجالسهم.

فأدخل يده في الكيس ليخرج فلساً وفلوس البصرة كبار.

فغلط بدرهم بغلى.

فلم يفطن حتى وضعه في يد السائل.

فلما فطن استرده وأعطاه الفلس.

فقيل له: هذا لا نظنه يحل.

وهو بهد قبيح! قال: قبيح عند من إني لم أجمع هذا المال بعقولكم فأفرقه بعقولكم! ليس هذا من مساكين الدراهم.

هذا من مساكين الفلوس! والله ما أعرفه إلا بالفراسة.

قالوا: وإنك لتعرف المكدين قال: وكيف لا أعرفهم! لم يبق في الأرض مخطراني ولا مستعرض الأقفية ولا شحاذ ولا كاغاني ولا بانوان ولا قرسي ولا عواء ولا مشعب ولا مزيدي ولا إسطيل إلا وقد كان تحت يدي.

ولقد أكلت الزكوري ثلاثين سنة.

ولم يبق في الأرض كعبي ولا مكد إلا وقد أخذت العرافة عليه.

وإنما أراد بهذا أن يؤيسهم من ماله حين عرف حرصهم وجشعهم وسوء جوارهم.

وكان قاصاً متكلماً بليغاً داهياً.

وكان أبو سليمان الأعور وأبو سعيد المدائني القاصان من غلمانه.

وهو الذي قال لابنه عند موته: إني قد تركت لك ما تأكله إن حفظته وما لا تأكله إن ضيعته.

ولما ورثتك من العرف الصالح وأشهدتك من صواب التدبير وعودتك من عيش المقتصدين خير لك معين من هذا المال.

وقد دفعت إليك آلة لحفظ المال عليك بكل حيلة.

ثم إن لم يكن لك معين من نفسك ما انتفعت بشيء من ذلك.

بل يعود ذلك النهي كله إغراء لك وذلك المنع تهجينا لطاعتك.

قد بلغت في البر منقطع التراب وفي البحر أقصى مبلغ السفن.

فلا عليك ألا ترى ذا القرنين.

ودع عنك مذاهب ابن شرية فإنه لا يعرف إلا ظاهر الخبر.

ولو رآني تميم الداري لأخذ عني صفة الروم.

ولا أنا أهدى من القطا ومن دعيميص ومن رافع المخش.

إني قد بت بالقفز مع الغول وتزوجت السعلاة وجاوبت الهاتف ورغت عن الجن إلى الجن واصطدت الشق وجاوبت النسناس وصحبني الرئي.

وعرفت خدع الكاهن وتدسيس العراف وإلام يذهب الخطاط والعياف وما يقول أصحاب الأكتاف.

وعرفت التنجيم والزجر والطرق والفكر.

إن هذا المال لم أجمعه من القصص والتكدية ومن احتيال النهار ومكابدة الليل.

ولا يجمع مثله أبداً إلا من معاناة ركوب البحر ومن عمل السلطان أو من كيمياء الذهب والفضة.

قد عرفت الرأس حق معرفته وفهمت كسر الإكسير على حقيقته.

ولولا علمي بضيق صدرك ولولا أن أكون سبباً لتلف نفسك لعلمتك الساعة الشيء الذي بلغ بقارون وبه تبنكت خاتون.

والله ما يتسع صدرك عندي لسر صديق فكيف ما لا يحتمله عزم ولا يتسع له صدر وحرز سر الحديث وحبس كنوز الجواهر أهون من خزن العلم.

ولو كنت عندي مأموناً على نفسك لأجريت الأرواح في الأجساد وأنت تبصر ما كنت لا تفهمه بالوصف ولا تحقه بالذكر.

ولكني سألقي عليك علم الإدراك وسبك الرخام وصنعة الفسيفساء وأسرار السيوف القلعية وعقاقير السيوف اليمانية وعمل الفرعوني وصنعة التلطيف على وجهه إن أقامني الله من صرعتي هذه.

ولست أرضاك وإن كنت فوق البنين ولا أثق بك وإن كنت لاحقاً بالآباء لأني لم أبالغ في محبتك.

ني قد لابست السلاطين والمساكين وخدمت الخلفاء والمكدين وخالطت النساك والفتاك وعمرت السجون كما عمرت مجالس الذكر وحلبت الدهر أشطره وصادفت دهراً كثير الأعاجيب.

فلولا أني دخلت من كل باب وجريت مع كل ريح وعرفت السراء والضراء حتى مثلت لي التجارب عواقب الأمور وقربتني من غوامض التدبير لما أمكنني جمع ما أخلفه لك ولا حفظ ما حبسته عليك.

ولم أحمد نفسي على جمعه كما حمدتها على حفظه لأن بعض هذا المال لم أنله بالحزم والكيس.

قد حفظته عليك من فتنة الأبناء ومن فتنة النساء ومن فتنة الثناء ومن فتنة الرياء ومن أيدي الوكلاء فإنهم الداء العياء.

ولست أوصيك بحفظه لفضل حبي لك ولكن لفضل بغضي للقاضي: إن الله - جل ذكره - لم يسلط القضاة على أموال الأولاد إلا عقوبة للأولاد لأن أباه إن كان غنياً قادراً أحب أن يريه غناه وقدرته وإن كان فقيراً عاجزاً أحب أن يستريح من شينه ومن حمل مؤنته.

وإن كان فلا هم شكروا من جمع لهم وكفاهم ووقاهم وغرسهم ولا هم صبروا على من أوجب الله حقه عليهم.

والحق لا يوصف عاجله بالحلاوة كما لا يوصف عاجل الباطل بالمرارة.

فإن كنت فالقاضي لك.

وإن لم تكن منهم فالله لك.

فإن سلكت سبيلي صار مال غيرك وديعةً عندك وصرت الحافظ على غيرك.

وإن خالفت سبيلي صار مالك وديعةً عند غيرك وصار غيرك الحافظ.

وإنك يوم تطمع أن تضيع مالك ويحفظه غيرك لجشع الطمع مخذول الأمل.

احتال الآباء في حبس الأموال على أولادهم بالوقف فاحتالت القضاة على أولادهم بالإستحجار.

ما أسرعهم إلى إطلاق الحجر وإلى إيناس الرشد إذا أرادوا الشراء منهم! وأبطأهم عنهم إذا أرادوا أن تكون أموالهم جائزة لصنائعهم! يا بن الخبيثة! إنك وإن كنت فوق أبناء هذا الزمان فإن الكفاية قد مسختك ومعرفتك بكثرة ما أخلف قد أفسدتك.

وزاد في ذلك أن كنت بكرى وعجزة أمك.

أنا لو ذهب مالي لجلست قاصاً أو طفت في الآفاق - كما كنت - مكدياً: اللحية وافرة بيضاء والحلق جهير طل والسمت حسن والقبول على واقع! إن سألت عيني الدمع أجابت.

والقليل من رحمة الناس خير من المال الكثير.

وصرت محتالاً بالنهار واستعملت صناعة سل عني صعاليك الجبل وزواقيل الشام وزط الآجام ورؤس الأكراد ومردة الأعراب وفتاك نهر بط ولصوص القفص! وسل عني القيقانية والقطرية.

وسل عني المتشبهة وذباجي الجزيرة: كيف بطشي ساعة البطش وكيف حيلتي ساعة الحيلة وكيف أنا عند الجولة وكيف ثبات جناني عند رؤية الطليعة وكيف يقظتي إذا كنت ربيئة وكيف كلامي عند السلطان إذا أخذت وكيف صبري إذا جلدت وكيف قلة ضجري إذا حبست وكيف رسفاني.

في القيد إذا أثقلت! فكم من ديماس قد نقبته وكم من مطبق قد أفضيته وكم من سجن قد كابدته.

وأنت غلام لسانك فوق عقلك وذكاؤك فوق حزمك.

لم تعجمك الضراء ولم تزل في السراء.

والمال واسع وذرعك ضيق.

وليس شيء أخوف عليك عندي من حسن الظن بالناس فإنهم شمالك على يمينك وسمعك على بصرك.

وخف عباد الله على حسب ما ترجو الله فأول ما وقع في روعي أن مالي محفوظ علي وأن النماء لازم لي وأن الله سيحفظ عقبي من بعدي.

إني لما غلبتني يوماً شهوتي وأخرجت يوماً درهماً لقضاء وطري ووقعت عني على سكت وعلى اسم الله المكتوب عليه قلت في نفسي: إني إذاً لمن الخاسرين الضالين: لئن أنا أخرجت من يدي ومن بيتي شيئاً عليه لا إله إلا الله أخذت بدله شيئاً ليس عليه شيء! والله إن المؤمن لينزع خاتمه للأمر يريده وعليه حسبي الله أو توكلت على الله فيظن أنه قد خرج من كنف الله - جل ذكره - حتى يرد الخاتم في موضعه! وإنما هو خاتم واحد.

وأنا أريد أن أخرج في كل يوم درهماً عليه الإسلام كما هو! إن هذا لعظيم!.

ومات من ساعته.

وكفنه ابنه ببعض خلقانه وغسله بماء البئر ودفنه من غير أن يصرخ له أو يلحد له ورجع.

فلما صار في المنزل نظر إلى جرة خضراء معلقة.

قال: أي شيء في هذه الجرة قالوا: ليس اليوم فيها شيء.

قال: فأي شيء فيها قبل اليوم قالوا: سمن.

قال: وما كان يصنه به قالوا: كنا في الشتاء نلقي له في البرمة شيئاً من دقيق نعمله له فكان ربما برقه بشيء من سمن.

قال: تقولون ولا تفعلون! السمن أخو العسل.

وهل أفسد الناس أموالهم إلا في السمن والعسل والله إني لولا أن للجرة ثمناً لما كسرتها إلا على قبره! قالوا: فخرج فوق أبيه وما كنا نظن أن فوقه مزيداً! المخطراني الذي يأتيك في زي ناسك ويريك أن بابك قد قور لسانه من أصله لأنه كان مؤذناً هناك.

ثم يفتح فاه كما يصنع من تثاءب فلا ترى له لساناً البتة! ولسانه في الحقيقة كلسان الثور! وأنا أحد من خدع بذلك.

ولابد للمخطراني أن يكون معه واحد يعبر عنه أو لوح أو والكاغاني الذي يتجنن ويتصارع ويزبد حتى لا يشك أنه مجنون لا دواء له لشدة ما ينزل بنفسه وحتى يتعجب من بقاء مثله على مثل علته.

والبانوان الذي يقف على الباب ويسل الغلق ويقول: بانوا! وتفسير ذلك بالعربية: يا مولاي! والقرسي الذي يعصب ساقه وذراعه عصباً شديداً ويبيت على ذلك ليلة.

فإذا تورم واختنق الدم مسحه بشيء من صابون ودم الأخوين وقطر عليه شيئاً من سمن وأطبق عليه خرقة وكشف بعضه.

فلا يشك من رآه أن به الإكلة أو بلية شبه الإكلة.

والمشعب الذي يحتال للصبي حين يولد: بأن يعميه أو يجعله أعسم أو أعضد ليسأل الناس به أهله.

وربما جاءت به أمه وأبوه ليتولى ذلك منه بالغرم الثقيل.

لأنه يصير حينئذ عقدة وغلة: فإما أن يكتسبا به وإما أن يكرياه بكراء معلوم.

وربما أكروا أولادهم ممن يمضي إلى إفريقية فيسأل بهم الطريق أجمع بالمال العظيم.

فإن كان ثقة مليئاً وإلا أقام بالأولاد والأجرة كفيلاً.

والعواء الذي يسأل بين المغرب والعشاء.

وربما طرب إن كان له صوت حسن وحلق شجي.

والإسطيل هو المتعامي: إن شاء أراك أنه منخسف العينين وإن شاء أراك أن بهما ماء وإن شاء أراك أنه لا يبصر للخسف ولريح السبل.

والمزيدي الذي يعارضك وهو ذو هيئة وفي ثياب صالحة.

وكأنه قد هاب من الحياء والمعدس الذي يقف على الميت يسأل في كفنه ويقف في طريق مكة على الحمار الميت والبعير الميت يدعى أنه كان له ويزعم أنه قد أحصر وقد تعلم لغة الخراسانية واليمانية والإفريقية وتعرف تلك المدن والسكك والرجال.

وهو متى شاء كان من إفريقية ومتى شاء كان من أهل فرغانة ومتى شاء كان من أي مخاليف اليمن شاء! والمكدى صاحب الكداء.

والكعبي أضيف إلى أبي كعب الموصلي وكان عريفهم بعد خالويه سنة على ماء.

والزكوري هو خبز الصدقة كان على سجني أو على سائل.

هذا تفسير ما ذكر خالويه فقط.

وهم أضعاف ما ذكرنا في العدد.

ولم يكن يجوز أن نتكلف شيئاً ليس من الكتاب في شيء.

رفع يحيى بن عبد الله بن خالد بن أمية بن عبد الله بن خالد بن أسيد رغيفاً من خوانه بيده ثم رطله والقوم يأكلون.

ثم قال: يزعمون أن خبزي صغار.

أي ابن.

.

.

يأكل من هذا الخبز رغيفين وكنت أنا وأبو إسحاق إبراهيم بن سيار النظام وقطرب النحوي وأبو الفتح مؤدب منصور ابن زياد على خوان فلان بن فلان.

والخوان من جزعة.

والغضار صيني ملمع أو خلنجية كيماكية.

والألوان طيبة شهية وغذية قدية.

وكل رغيف في بياض الفضة كأنه البدر وكأنه مرآة مجلوة.

ولكنه على قدر عدد الرءوس.

فأكل كل إنسان رغيفه إلا كسرة.

ولم يشبعوا فيرفعوا أيديهم.

ولم يغدوا بشيء فيتموا أكلهم.

والأيدي معلقة.

وإنما هم في تنقير وتنتيف! فلما طال ذلك عليهم أقبل الرجل على أبي الفتح وتحت القصعة رقاقة فقال: يا أبا الفتح خذ ذلك الرغيف فقطعه وقسمه على أصحابنا.

فتغافل أبو الفتح.

فلما أعاد عليه القول الرابعة قال: مالك - ويلك! - لا تقطعه بينهم قطع الله أوصالك! قال: يبتلي على يدي غيري أصلحك الله! فخجلناه مرة وضحكنا مرة وما ضحكنا صاحبنا ولا خجل.

وزرته أنا والمكي.

وكنت أنا على حمار مكار والمكي على حمار مستعار.

فصار الحمار إلى أسوأ من حال المذود! فكلم المكي غلمانه فقال: لا أريد منكم التبن فما فوقه.

اسقوه ماء فقط.

فسقوه ماء بئر فلم يشربه الحمار وقد مات عطشاً.

فأقبل المكي عليه فقال: أصلحك الله! إنهم يسقون حماري ماء بئر ومنزل صاحب الحمار على شارع دجلة فهو لا يعرف إلا العذب.

قال: فامزجوه له يا غلام! فمزجوه فلم يشربه.

فأعاد المسألة فأمكنه من أذن من لا يسمع إلا ما يشتهي.

وقال لي مرة: يا أخي إن ناساً من الناس يغمسون اللقمة إلى أصبارها في المري.

فأقول: هؤلاء قوم يحبون الملوحة ولا يحبون الحامض! فما ألبث أن أرى أحدهم يأخذ حرف الجردقة فيغمسها في الخل الحاذق ويغرقها فيه! وربما رأيت أحدهم يمسكها في الخل بعد التغريق ساعة فأقول: هؤلاء قوم يجمعون حب الحموضة إلى حب الملوحة.

ثم لا ألبث أنة أراهم يصنعون مثل ذلك بالخردل والخردل لا يرام! قل لي: أي شيء طبائع هؤلاء وأي ضرب هم وما دواؤهم وأي شيء علاجهم فلما رأيت مذهبه وحمقه وغلبة البخل عليه وقهره له قلت: ما لهم عندي علاج هو أنجع فيهم من أن يمنعوا الصباغ كله! لا والله إن هو غيره! وصديق كنا قد ابتلينا بمؤاكلته.

وقد كان ظن أنا قد عرفناه بالبخل على الطعام.

وهجس ذلك في نفسه وتوهم أنا قد تذاكرناه أمره.

فكان يتزيد في تكثير الطعام وفي إظهار الحرص على أن يؤكل.

حتى قال: من رفع يده قبل القوم غرمناه ديناراً.

فترى بغضه إن غرمناه ديناراً.

وظاهر لا ئمته محتمل في رضا قلبه وما يرجو من نفع ذلك له.

ولقد خبرني خباز لبعض أصحابنا أنه جلده على إنضاج الخبز وأنه قال له: أنضج خبزي الذي يوضع بين يدي واجعل خبز من يأكل معي على مقدار بين المقدارين.

وأما خبز العيال والضيف فلا تقربنه من النار إلا بقدر ما يصير العجين رغيفاً وبقدر ما يتماسك فقط! فكلفه العويص.

فلما أعجزه ذلك جلده حد الزاني الحر! فحدثت بهذا الحديث عبد الله العروضي فقال: ألم تعرف شأن الجدي ضرب الشواء ثمانين سوطاً لمكان الإنضاج! وذلك أنه قال له: ضع الجدي في التنور حين تضع الخوان حتى أستبطئك أنا في إنضاجه.

وتقول أنت: بقي قليل! ثم تجيئنا به وكأني قد أعجلتك! فإذا وضع بين أيديهم غير منضج احتسبت عليهم بإحضار الجدي.

فإذا لم يأكلوه أعدته إلى التنور ثم أحضرتناه الغد بارداً.

فيقوم الجدي الواحد مقام جديين! فجاء به الشواء يوماً نضيجاً فعمل فيه القوم.

فجلده ثمانين جلدة جلد القاذف الحر! وحدثني أحمد بن المثنى عن صديق لي وله ضخم البدن كثير العلم فاشي الغلة عظيم الولايات أنه إذا دعا على مائدته بفضل دجاجة أو بفضل رقاق أو غير ذلك رد الخادم مع الخباز إلى القهرمان حتى يصك له بذلك إلى صاحب المطبخ! ولقد رأيته مرة وقد تناول دجاجة فشقها نصفين فألقى نصفها إلى الذي عن يمينه ونصفها إلى الذي عن شماله.

ثم قال: يا غلام! جئني بواحدة رخصة فإن هذه كانت عضلة جداً.

فحسبت أن أقل ما عند الرجلين ألا يعودا إلى مائدته أبداً.

فوجدتهما قد فخرا علي بما وكانوا ربما خصوه فوضعوه بين يديه الدراجة السمينة والدجاجة الرخصة.

فانطفأت الشمعة في ليلة من تلك الليالي.

فأغار على الأسواري على بعض ما بين يديه واغتنم الظلمة.

وعمل على أن الليل أخفى للويل! ففطن له وما هو بالفطن إلا في هذا الباب.

وقال: كذلك الملوك كانت لا تأكل مع السوقة! وحثني أحمد بن المثنى أنهم كانوا يعمدون إلى الجرادق التي ترفع عن مائدته: فما كان منها ملطخاً دلك دلكاً شديداً وما كان منها قد ذهب جانب منه قطع بسكين من ترابيع الرغيف مثل ذلك لئلا يشك من رآه أنهم قد تعمدوا ذلك.

وما كان من الأنصاف والأرباع جعل بعضه للثريد وقطع بعضه كالأصابع وجعل مع بعض القلايا.

ولقد رأيت رجلاً ضخماً فخم اللفظ فخم المعاني تربية في ظل ملك مع علوهم ولسان عضب ومعرفة بالغامض من العيوب والدقيق من المحاسن مع شدة تسرع إلى أعراض الناس وضيق صدر بما تعرف من عيوبهم.

وإن ثريدته لبلقاء إلا أن بياضها ناصع ولونها الآخر أصهب! ما رأيت ذلك مرة ولا مرتين.

وكنت قد هممت قبل ذلك لأن أعاتبه على الشيء يستأثر به ويختص به وأن أحتمل ثقل تلك النصيحة وبشاعتها في حظه وفي النظر له.

ورأيت أن ذلك لا يكون إلا من حاق الإخلاص ومن فرط الإخاء من الإخوان.

فلما رأيت البلقة هان علي التحجيل والغرة.

ورأيت أن ترك الكلام أفضل وأن الموعظة لغو.

وقد زعم أبو الحسن المدائني أن ثريدة مالك بن المنذر كانت بلقاء.

ولعل ذلك أن يكون باطلاً.

وأما أنا فقد رأيت بعيني من هذا الرجل ما لا أخبرك به وهو شيء لم أره إلا فيه ولا سمعت به في غيره.

ولسنا من تسمية الأصحاب المتهتكين ولا غيرهم من المستورين في شيء.

أما الصاحب فإنا لا نسميه لحرمته وواجب حقه.

والآخر لا نسميه ليستر الله عليه ولما يجب لمن كان في مثل حاله.

وإنما نسمي من خرج من هاتين الحالتين.

ولربما سمينا الصاحب إذا كان ممن يمازج بهذا ورأيناه يتظرف ويحمل ذلك الظرف سلماً إلى منع شينه.

قصة أبي جعفر: ولم أر مثل أبي جعفر الطرسوسي: زار قوماً فأكرموه وطيبوه وجعلوا في شاربه وسبلته غالية.

فحكته شفته العليا فأدخل إصبعه فحكها من باطن الشفة مخافة أن تأخذ إصبعه من الغالية شيئاً إذا حكها من فوق! وهذا وشبهه إنما يطيب جداً إذا رأيت الحكاية بعينك لأن الكتاب لا يصور لك كل شيء ولا يأتي لك على كنهه وعلى حدوده وحقائقه.

قصة الحزامي: وأما أبو محمد الحزامي عبد الله بن كاسب كاتب مويس وكاتب داود بن أبي داود فإنه كان أبخل من برأ الله وأطيب من برأ الله.

وكان له في البخل كلام.

وهو أحد من ينصره ويفضله ويحتج له ويدعو إليه.

وإنه رآني مرة في تشرين الأول وقد بكر البرد شيئاً.

فلبست كساء لي قومسياً خفيفاً قد نيل منه.

فقال لي: ما أقبح السرف بالعاقل وأسمج الجهل بالحكيم! ما ضننت أن إهمال النفس وسوء السياسة بلغ بك ما أرى! قلت: وأي شيء أنكرت منا مذ اليوم وما كان هذا قولك فينا بالأمس.

فقال: لبسك هذا الكساء قبل أوانه.

قلت: قد حدث من البرد بمقداره.

ولو كان هذا البرد الحادث في تموز وآب لكان إباناً لهذا الكساء.

قال: إن كان ذلك كذلك فاجعل بدل هذه المبطنة جبة محشوة فإنها تقوم هذا المقام وتكون قد خرجت من الخطأ.

فأما لبس الصوف اليوم فهو اليوم غير جائز.

قلت: ولم قال: لأن غبار آخر الصيف يتداخله ويسكن في خلله.

فإذا أمطر الناس وندى الهواء وابتل كل شيء ابتل ذلك الغبار.

وإنما الغبار تراب إلا أنه لباب التراب.

وهو مالح ويتقبض عند ذلك عليه الكساء ويتكرش لأنه صوف فينضم أجزاؤه عليه فيأكله أكل القادح ويعمل فيه عمل السوس.

ولهو أسرع فيه من الأرضة في الجذوع النجرانية! ولكن أخر لبسه حتى إذا أمطر الناس وسكن الغبار وتلبد التراب وحط المطر ما كان في الهواء من الغبار وغسله وصفاه فالبسه حينئذ على بركة الله! وكان يقع إلى عياله بالكوفة كل سنة مرة فيشتري لهم من الحب مقدار طبيخهم وقوت سنتهم.

فإذا نظر إلى حب هذا وإلى حب هذا وقام على سعر اكتال من كل واحد منها كيلة معلومة ثم وزنها بالميزان واشترى أثقلها وزناً.

وكان لا يختار على البلدي والموصلي شيئاً إلا أن يتقارب السعر.

وكان على كل حال يفر من الميساني إلا أن يضطر إليه ويقول: هو ناعم ضعيف ونار المعدة شيطان! فإنما ينبغي لنا أن نطعم الحجر وما أشبه الحجر! وقلت له مرة: أعلمت أن خبز البلدي ينبت عليه شيء شبيه بالطين والتراب والغبار المتراكم قال: حبذا ذلك من خبز! وليته قد أشبه الأرض بأكثر من هذا المقدار! وكان إذا كان جديد القميص ومغسوله ثم أتوه بكل بخور في الأرض لم يتبخر مخافة أن يسود دخان العود بياض قميصه.

فإن اتسخ فأتى بالبخور لم يرض بالتبخر واستقصاء ما في العود من القتار حتى يدعو بدهن فيمسح به صدره وبطنه وداخلة إزاره.

ثم يتبخر ليكون أعلق للبخور! وكان يقول: حبذا الشتاء فإنه يحفظ عليك رائحة البخور ولا يحمض فيه النبيذ إن ترك مفتوحاً ولا يفسد فيه مرق إن بقي أياماً.

وكان لا يتبخر إلا في منازل أصحابه.

فإذا كان في الصيف دعا بثيابه فلبسها على قميصه لكيلا يضيع من البخور شيء.

وقال مرة: إن للشيب سهكة.

وبياض الشعر هو موته وسواده حياته: ألا ترى أن موضع دبرة الحمار الأسود لا ينبت إلا أبيض! والناس لا يرضون منا في هذا العسكر إلا بالعناق واللثام والطيب غال وعادته رديئة! وينبغي لمن كان أيضاً عنده أن يحرسه ويحفظه من عياله.

وإن العطار ليختمه على أخص غلمانه به.

فلست أرى شيئاً هو خير من اتخاذ مشط صندل فإن ريحه طيبة.

والشعر سريع القبول منه! وأقل ما يصنع أن ينفي سهك الشيب.

فصرنا في حال لنا ولا علينا.

واستلف منه على الأسواري مائة درهم.

فجاءني وهو حزين منكسر.

فقلت له: إنما يحزن من لا يجد بداً من إسلاف الصديق مخافة ألا يرجع إليه ماله ولا يعد ذلك هبة منه أو رجل يخاف الشكية فهو إن لم يسلف كرماً أسلف خوفاً.

وهذا باب الشهرة فيه قرة عينك.

وأنا واثق باعتزامك وتصميمك وبقلة المبالاة بتخيل الناس لك.

فما وجه انكسارك واغتمامك قال: اللهم غفراً! ليس ذاك بي.

إنما في أني قد كنت أظن أن أطماع الناس قد صارت بمعزل عني وآيسة مني وأني قد أحكمت هذا الباب وأتقنته وأودعت قلوبهم اليأس وقطعت أسباب الخواطر.

فأراني واحداً منهم! إن من أسباب إفلاس المرء طمع الناس فيه لأنهم إذا طمعوا فيه احتالوا له الحيل ونصبوا له الشرك.

وإذا يئسوا منه فقد أمن.

وهذا المذهب من على استضعاف شديد.

وما أشك أني عنده غمر وأني كبعض من يأكل ماله وهو مع هذا خليط وعشير.

وإذا كان مثله لم يعرفني ولم يتقرر عنده مذهبي فما ظنك بالجيران بل ما ظنك بالمعارف أراني أنفخ في غير فحم وأقدح بزند مصلد! ما أخوفني أن أكون قد قصد إلي بقول! ما أخوفني أن يكون الله في سمائه قد قصد إلى أن يفقرني! قال: ويقولون: ثوبك على صاحبك أحسن منه عليك! فما يقولون إن كان أقصر مني أليس يتخيل في قميصي وإن كان طويلاً جداً وأنا قصير جداً فلبسه أليس يصير آية للسابلين فمن أسوأ أثراً على صديقه ممن جعله ضحكة للناس ما ينبغي لي أن أكسوه حتى أعلم أنه فيه مثلي.

ومتى يتفق هذا وإلى ذلك محيى وممات.

وكان يقول: أشتهي اللحم الذي قد تهرأ وأشتهي أيضاً الذي فيه بعض الصلابة.

وقلت له مرة: ما أشبهك بالذي قال: أشتهي لحم دجاجتين.

قال: وما تصنع بذلك القائل هو ذا أنا أشتهي لحم دجاجتين واحدة خلاسية مسمنة وأخرى خوامزكه رخصة.

وقلت له مرة: قد رضيت بأن يقال: عبد الله بخيل قال: لا أعدمني الله هذا الاسم! قلت: وكيف قال: لا يقال: فلان بخيل إلا وهو ذو مال.

فسلم إلى المال وادعني بأي اسم شئت! قلت: ولا يقال أيضاً: فلا سخي إلا وهو ذو مال.

فقد جمع هذا الاسم الحمد والمال واسم البخل يجمع المال والذم.

فقد أخذت أخسهما وأوضعهما.

قال: وبينهما فرق.

قلت: فهاته.

قال: في قولهم: بخيل تثبيت لإقامة المال في ملكه.

وفي قولهم: سخي إخبار عن خروج المال من ملكه.

واسم البخيل اسم فيه حفظ وذم واسم السخي اسم فيه تضييع وحمد.

والمال زاهر نافع مكرم لأهله معز.

والحمد ريح وسخرية واستماعك له ضعف وفسولة.

وما أقل غناء الحمد والله عنه إذا جاع وكنا عند داود بن أبي داود بواسط أيام ولايته كسكر! فأتته من البصرة هدايا فيها زقاق دبس.

فقسمها بيننا.

فكل ما أخذ منها الحزامى أعطى غيره.

فأنكرت ذلك من مذهبه ولم أعرف جهة تدبيره.

فقلت للمكي: قد علمت أن الحزامى إنما يجزع من الإعطاء وهو عدو.

فأما الأخذ فهو ضالته وأمنيته! وإنه لو أعطى أفاعى سجستان وثعابين مصر وحيات الأهواز لأخذها إذا كان اسم الأخذ واقعاً عليها! فعساه أراد التفضيل في القسمة.

قال: أنا كاتبه وصداقتي أقدم.

وما ذلك به.

هاهنا أمرا ما نقع عليه.

فلم يلبث أن دخل علينا.

فسألته عن ذلك.

فتعصر قليلاً.

ثم باح بسره.

قال: وضيعته أضعاف ربحه.

وأخذه عندي من أسباب الإدبار.

قلت: أول وضائعه احتمال السكر.

قال: هذا لم يخطر لي قط على بال.

قلت: فهات إذا ما عندك.

قال: أول ذلك كراء الحمال.

ثم هو على خطر حتى يصير إلى المنزل.

فإذا صار إلى المنزل صار سبباً لطلب العصيدة والأرز والبستندود.

فإن بعته فراراً من هذا صيرتموني شهرة وتركتموني عنده آية.

وإن أنا حبسته ذهب في العصائد وأشباه العصائد.

وجذب ذلك شراء السمن ثم جذب السمن غيره وصار هذا الدبس أضر علينا من العيال.

وإن أنا جعلته نبيذاً احتجت إلى كراء القدور وإلى شراء الحب وإلى شراء الماء وإلى كراء من يوقد تحته وإلى التفرغ له.

فإن وليت ذلك الخادم اسود ثوبها وغرمنا ثمن الأشنان والصابون وازدادت في الطمع على قدر الزيادة في العمل.

فإن فسد ذهبت النفقة باطلاً ولم نستخلف منها عوضاً بوجه من جميع الوجوه.

لأن خل الداذي يخضب اللحم ويغير الطعم ويسود المرق ولا يصلح إلا للاصطباغ.

وهذا إذا استحال خلاً.

وأكثر ذلك أن يحول عن النبيذ ولا يصير إلى الخل.

وإن سليم - وأعوذ بالله! - وجاد وصفا لم نجد بداً من شربه ولم تطب أنفسنا بتركه.

فإن قعدت في البيت أشرب منه لم يمكن إلا بترك سلاف الفارسي المعسل والدجاج المسمن وجداء كسكر وفاكهة الجبل والنقل الهش والريحان الغض عند من لا يغيض ماله ولا تنقطع مادته وعند من لا أبالي على أي قطرية سقط مع فوت الحديث المؤنس والسماع الحسن.

وعلى أني إن جلست في البيت أشربه لم يكن لي بد من واحد.

وذلك الواحد لابد له من دريهم لحم ومن طسوج نقل وقيراط ريحان ومن أبزار للقدر ومن حطب للوقود.

وهذا كله غرم.

وهو بعد هذا شؤم وحرفة وخروج من العادة الحسنة.

فإن كان ذلك النديم غير موافق فأهل الحبس أحسن حالاً مني.

وإن كان - وأعوذ بالله! - موافقاً فقد فتح الله على مالي باباً من التلف لأنه حينئذ يسير في مالي كسيري في مال من هو وإذا علم الصديق أن عندي داذياً أو نبيذاً دق الباب دق المدل.

فإن حجبناه فبلاء وإن أدخلناه فشقاء.

وإن بدا لي في استحسان حديث الناس كما يستحسن مني من أكون عنده فقد شاركت المسرفين وفارقت إخواني من المصلحين وصرت من ألوان الشياطين.

فإذا صرت كذلك فقد ذهب كسبي من مال غيري وصار غيري يكتسب مني.

وأنا لو ابتليت بأحدهما لم أقم له فكيف إذا ابتليت بأن أعطي ولا آخذ! أعوذ بالله من الخذلان بعد العصمة ومن الحور بعد الكور! لو كان هذا في الحداثة كان أهون.

هذا الدوشاب دسيس من الحرفة وكيد من الشيطان وخدعة من الحسود! وهو الحلاوة التي تعقب المرارة! ما أخوفني أن يكون أبو سليمان قد مل منادمتي فهو يحتال لي الحيل! وكنا مرة في موضع حشمة وفي جماعة كثيرة والقوم سكوت والمجلس كبير وهو بعيد المكان مني.

وأقبل على المكي وقال والقوم يسمعون فقال: يا أبا عثمان من أبخل أصحابنا قلت: أبو الهذيل.

قال: ثم من قلت: صاحب لنا لا أسميه.

قال الحزامي من بعيد: إنما يعنيني! ثم قال: حسدتم للمقتصدين تدبيرهم ونماء أموالهم ودوام نعمتهم.

فالتمستم تهجينهم بهذا اللقب وأدخلتم المكر عليهم بهذا النبز.

تظلمون المتلف لماله باسم الجود إدارة له عن شينه وتظلمون المصلح لماله باسم البخل حسدا منكم لنعمته.

فلا المفسد ينجو ولا المصلح يسلم.

فتكلم يوماً فما زال يدخل كلاماً في كلام حتى أدخل الاعتذار من ذلك في عرض كلامه.

فكان مما احتج به في شدة رؤية الأكيل عليه وفي نفوره منه أن قال: نظر خالد المهزول في الجاهلية يوماً إلى ناس يأكلون وإلى إبل تجتر.

فقال لأصحابه: أتروني بمثل هذه العين التي أرى بها الناس والإبل قالوا: نعم.

فحلف بإلهه ألا يأكل بقلاً وإن مات هزالاً.

وكان يغتذى اللبن ويصيب من الشراب.

فأضمره ذلك وأيبسه.

فلما دق جسمه واشتد هزاله سمي المهزول.

ثم قال خالد: هأنذا مبتلي بالمضغ ومحمول على تحريك اللحيين ومضطر إلى مناسبة البهائم ومحتمل ما في ذلك من السخف والعجز.

ما أبالي! احتمله فيمن ليس لي منه بد ولي عنه مذهب.

ليأكل كل امرئ في منزله وفي موضع أمنه وأنسه ودون ستره وبابه.

هذا ما بلغنا عن خالد بن عبد الله القسري واحتجاجه.

فأما خالد المهزول فهو أحد الخالدين.

وهما سيدا بني أسد.

وفيه وفي خالد بن نضلة يقول الأسود بن يعفر: وقبلك مات الخالدان كلاهما.

عميد بني جحوان وابن المضلل.

وقيل الحارثي بالأمس: والله إنك لتضع الطعام فتجيده وتعظم عليك النفقة وتكثر منه.

وإنك لتغالي بالخباز والطباخ والشواء والخباص ثم أنت مع هذا كله لا تشهده عدوا لتغمه ولا ولياً فتسره ولا جاهلاً لتعرفه ولا زائر لتعظمه ولا شاكراً لتثبته.

وأنت تعلم أنه حين يتنحى من بين يديك ويغيب عن عينيك فقد صار نهباً مقسماً ومتوزعاً مستهلكاً.

فلو أحضرته من ينفع شكره ويبقي على الأيام ذكره ومن يمتعك بالحديث الحسن والاستماع ومن يمتد به الأكل ويقصر به الدهر - لكان ذلك أولى بك وأشبه بالذي قدمته يدك.

وبعد فلم تبيح مصون الطعام لمن لا يحمدك ومن إن حمدك لم يحسن أن يحمدك ومن لا يفضل بين الشهي الغذى وبين الغليظ الزهم قال: يمنعني من ذلك ما قال أبو الفاتك.

قالوا: ومن أبو الفاتك قال: قاضي الفتيان.

وإني لم آكل مع أحد قط إلا رأيت منه بعض ماذمه وبعض ما شنعه وقبحه.

فشيء يقبح بالشطار فما ظنك به إذا كان في أصحابه المروءات وأهل البيوتات قالوا: فما قال أبو الفاتك قال: قال أبو فاتك: الفتى لا يكون نشافاً ولا نشالاً ولا مرسالاً ولا لكاماً ولا مصاصاً ولا نفاضاً ولا دلاكاً ولا مقوراً ولا مغربلاً ولا محلقما ولا مسوغاً ولا مبلعماً ولا مخضراً.

والله إني لأفضل الدهاقين حين عابوا الحسو وتقززوا من التعرق وبهرجوا صاحب التمشيش وحين أكلوا بالبارجين وقطعوا بالسكين ولزموا عند الطعام السكتة وتركوا الخوض واختاروا الزمزمة.

أنا والله أحتمل الضيف والضيفن ولا أحتمل اللعموظ ولا الجردبيل.

والواغل أهون على من الراشن.

ومن يشك أن الوحدة خير من جليس السوء وأن جليس السوء خير من أكيل السوء لأن كل أكيل جليس وليس كل جليس أكيلاً.

فإن كان لابد من المؤاكلة ولابد من المشاركة فمع من لا يستأثر علي بالمخ ولا ينتهز بيضة البقيلة ولا يلتهم كبد الدجاجة ولا يبادر إلى دماغ رأس السلاءة ولا يختطف كلية الجدي ولا يزدرد قانصة الكركي ولا ينتزع شاكلة الحمل ولا يقتطع سرة الشصر ولا بعرض لعيون الرءوس ولا يستولي على صدور الدجاج ولا يسابق إلى أسقاط الفراخ ولا يتناول إلا ما بين يديه ولا يلاحظ ما بين يدي غيره ولا يتشهى الغرائب ولا يمتحن الإخوان بالأمور الثمينة ولا يهتك أستار الناس: بأن يتشهى ما عسى ألا يكون موجوداً.

وكيف تصلح الدنيا وكيف يطيب العيش مع من إذا رأى جزورية التقط الأكباد والأسنمة وإذا عاين بقرية استولى على العرق والقطنة وإن أتوا بجنب شواء اكتسح كل شيء عليه لا يرحم ذا سن لضعفه ولا يرق على حدث لحدة شهوته ولا ينظر للعيال ولا يبالي كيف دارت بهم الحال - وإن كان لابد من ذلك فمع من لا يجعل نصيبه في مالي أكثر من نصيبي.

وأشد من كل ما وصفنا وأخبث من كل ما عددنا أن الطباخ ربما أتى باللون الطريف وربما قدم الشيء الغريب والعادة في مثل ذلك اللون أن يكون لطيف الشخص صغير الحجم وليس كالطفيشلية ولا كالهريسة ولا كالفجلية ولا كالكرنبية.

وربما عجل عليه فقدمه حاراً ممتنعاً.

وربما كان من جوهر بطيء الفطور وأصحابي في سهولة ازدراد الحار عليهم في طباع النعام وأنا في شدة الحار على في طباع السباع.

فإن انتظرت إلى أن يمكن أتوا على آخره.

وإن بدرت مخافة الفوت وأردت أن أشاركهم في بعضه لم آمن ضرره.

والحار ربما قتل وربما أعقم وربما أبال الدم.

ثم قال: هذا علي الأسواري أكل مع عيسى بن سلمان بن علي.

فوضعت قدامكم سمكة عجيبة فائقة السمن.

فحاط بطنها لحظة فإذا هو يكتنز شحماً وقد كان غص بلقمة وهو لمستسق ففرغ من الشراب وقد غرف من بطنها كل إنسان منهم بلقمته غرفة.

وكان عيسى ينتخب الأكلة ويختار منهم كل منهوم فيه ومفتون به.

فلما خاف على الأسواري الإخفاق وأشفق من الفوت وكان أقربهم إليه عيسى استلب من يده اللقمة بأسرع من خطفة البازي وانحدار العقاب من غير أن يكون أكل عنده قبل مرته.

فقيل له: ويحك! استلبت لقمة الأمير من يده وقد رفعها غليه وشحا لها فاه من غير مؤانسة ولا ممازحة سالفة!.

قال: لم يكن الأمر كذلك.

وكذب من قال ذلك! ولكنا أهوينا أيدينا معاً فوقعت يدي في مقدم الشحمة ووقعت يده في مؤخر الشحمة معاً والشحم ملتبس بالأمعاء.

فلما رفعنا أيدينا معاً كنت أنا أسرع حركة وكانت الأمعاء متصلة غير متباينة.

فتحول كل شيء كلن في لقمته بتلك الجذبة إلى لقمتي لاتصال الجنس والجوهر بالجوهر.

وأنا كيف أؤاكل أقواماً يصنعون هذا الصنيع ثم يحتجون له بمثل هذه الحجج ثم قال: إنكم تشيرون علي بملابسة شرار الخلق وأنذال الناس وبكل عياب متعتب ووثاب على أعراض الناس متسرع.

وهؤلاء لم يرضوا إلا أن يدعوهم الناس ولا يدعوا الناس وأن يأكلوا ولا يطعموا وأن يتحدثوا عن غيرهم ولا يبالون أن يتحدث عنهم وهم شرار الناس.

ثم قال: أجلس معاوية وهو في مرتبة الحلافة وفي السطح من قريش وفي نبل الهمة وإصابة الرأي وجودة البيان وكمال الجسم وفي تمام النفس عند الجولة وعند تقصف الرماح وتقطع السيوف - رجلاً على مائدته مجهول الدار غير معروف النسب ولا مذكور بيوم صالح.

فأبصر في لقمته شعرة فقال: خذ الشعرة من لقمتك.

ولا وجه لهذا القول إلا محض النصيحة والشفقة.

فقال الرجل: وإنك لتراعيني مراعاة من يبصر معها الشعرة! لا جلست لك على مائدة ما حييت ولا حكيتها عنك ما بقيت! فلم يدر الناس أي أمري معاوية كان أحسن وأجمل: تغافله عنه أم شفقته عليه فكان هذا جزاءه منه وشكره له.

ثم قال: وكيف أطعم من إن رأيته يقصر في الأكل فقلت له: كل ولا تقصر في الأكل قال: يفطن لفضل ما بين التقصير وغيره! وإن قصر فلم أنشطه ولم أحثه قال: لولا أنه وافق هواه! ثم قال: ومد رجل من بني تميم يده إلى صاحب الشراب يستسقيه وهو على خوان المهلب فلم يره الساقي فلم يفطن له.

ففعل ذلك مراراً والمهلب يراه وقد أمسك عن الأكل إلى أن يسيغ لقمته بالشراب.

فلما طال ذلك على المهلب قال: اسقه يا غلام ما أحب من الشراب.

فلما سقاه استقله وطلب الزيادة منه.

وكان المهلب أوصاهم بالإقلال من الماء والإكثار من الخبز.

قال التميمي: إنك لسريع إلى السقي سريع إلى الزيادة! وحبس يده عن الطعام.

فقال المهلب: أله عن هذا إليها الرجل فإن هذا لا ينفعك ولا يضرنا! أردنا أمراً وأردت خلافه.

ثم قال: وفي الجارود بن أبي سبرة لكم واعظ وفي أبي الحارث جمين زاجر فقد كانا يدعيان إلى الطعام وإلى الإكرام لظرفهما وحلاوتهما وحسن حديثهما وقصر يومهما.

وكانا يتشهيان الغرائب ويقترحان الطرائف ويكلفان الناس المؤن الثقال ويمتحنان ما عندهم بالكلف الشداد.

فكان جزاؤهم من إحسانهم ما قد علمتم.

قال: ومن ذلك أن بلال بن أبي بردة كان رجلاً عياباً وكان إلى أعراض الأشراف متسرعاً.

فقال للجارود: كيف طعام عبد الله بن أبي عثمان قال: يعرف وينكر.

قال: فكيف هو عليه قال يلاحظ اللقم وينتهر السائل.

قال: فكيف طعام سلم بن قتيبة قال: طعام ثلاثة وإن كانوا أربعة جاعوا.

قال: فكيف طعام تسنيم بن الحواري قال: نقط العروس.

قال: فكيف طعام المنجاب بن أبي عيينة قال: يقول: لا خير في ثلاث أصابع في صفحة - حتى أتى على عامة أهل البصرة وعلى من كان يؤثره بالدعوة وبالأنسة والخاصة ويحكمه في ماله.

فلم ينج منه إلا من كان يبعده كما لم يبتل به إلا من كان يقربه! وهذا أبو شعيب القلال في تقريب موبس له وأنسه به وفي إحسانه إليه مع سخائه على المأكول وغض طرفه عن الأكيل وقلة مبالاته بالحفظ وقلة احتفاله بجمع الكثير - سئل عنه أبو شعيب فزعم أنه لم ير قط أشح منه على الطعام.

قيل: وكيف قال: يدلك على ذلك أنه يصنعه صنعة ويهيئه تهيئة من لا يريد أن يمس فضلاً على غير ذلك! وكيف يجترئ الضرس على إفساد ذلك الحسن ونقض ذلك النظم وعلى تفريق ذلك التأليف! وقد علم أن حسنه يحشم وأن جماله يهيب منه.

فلو كان سخياً لم يمنع منه بهذا السلاح ولم يجعل دونه الجنن.

فحول إحسانه إساءة وبذله منعاً واستدعاءه إليه نهياً.

قال: ثم قيل لأبي الحارث جمين: كيف وجه محمد بن يحيى على غدائه قال: أما عيناه فعينا مجنون! وقال فيه أيضاً: لو كان في كفه كر خردل ثم لعب الأبلى بالأكرة لما سقطت من بين أصابعه حبة واحدة! وقيل له أيضاً: فكيف سخاؤه على الخبز خاصة قال: والله لو ألقي إليه من الطعام بقدر ما إذا حبس نزف السحاب ما تجافي عن الرغيف! وكان أبو نواس يرتعي على خوان إسماعيل بن نيبخت كما ترتعي الإبل في الحمض بعد طول الخلة! ثم كان جزاؤه منه أنه قال: خبز إسماعيل كالوش ي إذا ما شق يرفي وقال: وكان أبو الشمقمق يعيب في طعام جعفر بن أبي زهير وكان له ضيفاً.

وهو مع ذلك يقول: رأيت الخبز عز لديك حتى حسبت الخبز في جو السحاب.

وما روحتنا لتذب عنا ولكن خفت مرزئة الذباب.

وقيل للجماز: رأيناك في دهليز فلان وبين يديك قصعة وأنت تأكل.

فمن أي شيء كانت القصعة وأي شيء كان فيها قال: قيء كلب في قحف خنزير! وقيل لرجل من العرب قد نزلت بجميع الفبائل فكيف رأيت خذاعة قال: جوع وأحاديث.

ونزل عمرو بن معد يكرب برجل من بني المغيرة وهم أكثر قريش طعاماً.

فأتاه بما حضر.

وقد كان فيما أتاه به فضل.

فقال لعمر بن الخطاب وهم أخواله: لئام بني المغيرة يا أمير المؤمنين! قال: وكيف قال نزلت بهم فما قروني غير قرنين وكعب ثور.

قال عمر: إن ذلك لشبعة.

وكم رأينا من الأعراب من نزل برب صرمة فأتاه بلبن وتمر وحيس وخبز وسمن سلاء.

فبات ليلته ثم أصبح يهجوه: كيف لم ينحر له - وهو لا يعرف - بعيراً من ذوده أو من صرمته! ولو نحر هذا البأس لكل كلب مر به بعيراً من مخافة لسانه لما دار الأسبوع إلا وهو يتعرض للسابلة يتكفف الناس ويسألهم العلق! وسأل زياد عن رجل من أصحابه فقيل: إنه لملازم وما يغب غداء الأمير.

فقال زياد: فليغبه فإن ذلك مما يضر بالعيال.

فألزموه الغب.

فعابوا زياداً بذلك.

وزعموا أنه استثقل حضوره في كل يوم وأراد أن يزجر به غيره فيسقط عن نفسه وعن ماله مؤنة عظيمة.

وإنما كان ذلك من زياد على جهة النظر للعيالات وكما ينظر الراعي للرعية وعلى مذهب عمر بن الخطاب رضي الله عنه.

" وقد قال الحسن: تشبه زياد بعمر فأفرط وتشبه الحجاج بزياد فأهلك الناس " - فجعلتم ذلك عنتاً منه.

وقال يوسف بن عمر لقوام موائده: أعظموا الثريدة فإنها لقمة الدرداء: فقد يحضر طعامكم الشيخ الذي قد ذهب فمه والصبي الذي لم ينبت فمه.

وأطعموه ما تعرقون فإنه أنجع وأشفى للقوم.

فقلتم: إنما أراد العجلة والراحة بسرعة الفراغ وأن يكيدهم بالثريد ويملأ صدورهم بالعراق.

وقد قال رسول الله : سيد الطعام الثريد ومثل عائشة في النساء مثل الثريد في الطعام وليعظم صنعة الثريد في أعين قريش سموا عمرو بن عبد مناف حتى غلب عليه الاسم المشتق له من ذلك.

وقال عوف بن القعقاع لمولاه: اتخذ لنا طعاماً يشبع فضله أهل الموسم.

قلتم: فلما رأى الخبز الرقاق والغلاظ والشواء والألوان واستطراف الناس للون بعد اللون ودوام أكلهم لدوام الطرف وأن ذلك لو كان لوناً واحداً لكان اقل لأكلهم قال: فهلا فعلته طعام يد ولم تجعله طعام يدين! فقلتم: اتسع ثم ضاق حين أراد إطعامهم الثريد والحيس وكل ما يؤكل بيد دون يدين.

والقعقاع عربي كره لمولاه أن يرغب عن طعام العرب إلى طعام العجم.

وأراد دوام قومه على مثل ما كانوا عليه وعلى أن الثروة تفنخهم وتفسدهم وأن الذي فتح عليهم من باب الترفه أشد عليهم مما غلق عليهم من باب فضول اللذة.

وقد فعل عمر من جهة التأدب أكثر من ذلك حين دعى إلى عرس فرأى قدراً صفراء وأخرى حمراء وواحدة مرة وأخرى حلوة وواحدة محمضة.

فكازها كلها في قدر عظيمة وقال إن العرب إذا أكلت هذا قتل بعضها بعضاً.

تفسير كلام أبي فاتك: أما قوله: الفتى لا يكون نشالاً فالنشال عنده الذي يتناول من القدر ويأكل قبل النضج وقبل أن تنزل القدر ويتتام القوم.

والنشاف: الذي يأخذ حرف الجردقة فيفتحه ثم يغمسه في رأس القدر ويشربه الدسم يستأثر بذلك دون أصحابه.

والمرسال: رجلان: أحدهما إذا وضع في لقمة هريسة أو ثريدة أو حيسة أو أرزة أرسلها في جوف حلقه إرسالاً.

والرجل الآخر: هو الذي إذا مشى في أشب من فسيل أو شجر قبض على رأسه السعفة أو على راس الغصن لينحيها عن وجهه.

وإذا قضى وطره أرسلها من يده.

فهي لا محالة تصك وجه صاحبه الذي يتلوه لا يحفل بذلك ولا يعرف ما فيه.

وأما اللكام: فالذي في فيه اللقمة ثم يلكمها بأخرى قبل إجادة مضغها أو ابتلاعها.

والمصاص الذي بمص جوف قصبة العظم بعد أن استخرج مخه واستأثر به دون أصحابه.

وأما النفاض: فالذي إذا فرغ من غسل يده في الطست نفض يديه من الماء فنضح على أصحابه.

وأما الدلاك: فالذي لا يجيد تنقية يديه بالأشنان ويجيد دلكهما بالمنديل.

وله أيضاً تفسير آخر - وليس هو الذي نظنه - وهو مليح.

وسيقع في موضعه إن شاء الله.

والمقور: الذي يقور الجرادق.

والمغربل: الذي يأخذ وعاء الملح فيديره غدارة الغربال ليجمع أبازيره يستأثر به دون والمحلقم: الذي يتكلم واللقمة قد بلغت حلقومه.

نقول لهذا: قبيح! دع الكلام إلى وقت إمكانه.

والمسوغ: الذي يعظم اللقم فلا يزال قد غص ولا يزال يسيغه بالماء.

والمبلعم: الذي يأخذ حروف الرغيف أو يغمز ظهر التمرة بإبهامه ليحملا له من الزبد والسمن ومن اللبإ واللبن ومن البيض النيم برشت أكثر.

والمخضر: الذي يدلك يده بالأشنان من الغمر والودك حتى إذا اخضر وأسود من الدرن دلك به شفته.

هذا تفسير ما ذكر الحارثي من كلام أبي فاتك.

فأما ما ذكره هو فإن اللطاع: معروف وهو الذي يلطع إصبعه ثم يعيدها في مرق القوم أو لبنهم أو سويقهم وما أشبه ذلك.

والقطاع: الذي يعض على اللقمة فيقطع نصفها ثم يغمس النصف الآخر في الصباغ.

والنهاش: وهو معروف.

وهو الذي ينهش اللحم كما ينهش السبع.

والمداد: الذي ربما عض على العصب التي لم تنضج وهو يمدها بفيه ويده توترها له.

فربما قطعها بنترة فيكون لها انتضاح على ثوب المؤاكل.

وهو الذي إذا أكل مع أصحابه الرطب أو والدفاع: الذي إذا وقع في القصعة عظم فصار مما يليه نحاه بلقمته من الخبز حتى تصير مكانه قطعة من لحم وهو في ذلك كأنه يطلب بلقمته تشريب المرق دون إراغة اللحم.

والمحول: هو الذي إذا رأى كثرة النوى بين يديه احتال له حتى يخلطه بنوى صاحه.

وأما ما ذكره من الضيف والضيفن فإن الضيفن ضيف الضيف.

وأنشد أبو زيد: إذا جاء ضيف جاء للضيف ضيفن فأودى بما يقرى الضيوف الضيافن وأما قوله: الواغل أهون علي من الراشن فإنه يزعم أن طفيلي الشراب أهون علي من طفيلي الطعام.

وقول الناس: فلا طفيلي ليس من أصول كلام العرب: ليس كالرأشن واللعموظ.

وأهل مكة يسمونه البرقي.

وكان بالكوفة رجل من بني عبد الله بن غطفان يسمى طفيلاً.

كان أبعد الناس نجعة في طلب الولائم والأعراس.

فقيل له لذلك: طفيل العرائس وصار ذلك نبزاً له ولقباً لا يعرف بغيره.

فصار كل من كانت تلك طعمته يقال له: طفيلي.

هذا من قول أبي اليقظان.

ثم قال الحارثي: وأعجب من كل عجب وأطرف من كل طريف أنكم تشيرون علي بإطعام الأكلة ودفعي إلى الناس مالي وأنتم أترك لهذا مني.

فإن زعمتم أني أكثر مالاً وأعد عدة فليس من حالي وحالكم في التقارب أن أطعم أبداً وأنتم تأكلون أبداً.

فإذا أتيتم في أموالكم من البدل والإطعام على قدر احتمالكم عرفت بذلك أن الخير أردتم وإلى تربيي ذهبتم.

وإلا فإنكم إنما تحلبون حلباً لكم شطره.

بل أنتم كما قال الشاعر: يحب الخور من مال الندامى ويكره أن يفارقه الفلوس ثم قال: والله إني لو لم أترك مؤاكلة الناس وإطعامهم إلا لسوء رعة على الأسواري لتركته.

وما ظنكم برجل نهش بضعة لحم تعرقاً فبلغ ضرسه وهو لا يعلم! فعل ذلك عند إبراهيم بن الخطاب مولى سليمان.

وكان إذا أكل ذهب عقله وجحظت عينه وسكر وسدر وانبهر وتربد وجهه وعصب ولم يسمع ولم يبصر! فلما رأيت ما يعتريه وما يعتري الطعام منه صرت لا آذن له إلا ونحن نأكل التمر والجوز والباقلى.

ولم يفجأني قط وأنا آكل تمراً إلا استفه سفاً وحساه حسواً وذرابه ذرواً ولا وجده كثيراً إلا تناول القصعة كجمجمة الثور ثم يأخذ بحضنيها ويقلها من الأرض! ثم لا يزال ينهشها طولاً وعرضاً ورفعاً وخفضاً حتى يأتي عليها جميعاً! ثم لا يقع غضبه إلا على الأنصاف والأتلاف! ولم يفصل تمرة قط من تمرة.

وكان صاحب جمل ولم يكن يرضى بالتفاريق ولا رمى بنواة قط ولا نزع قمعاً ولا نفى عنه قشراً ولا نتشه مخافة السوس والدود! ثم ما رأيته قط إلا وكأنه طالب ثأر وشحشحان صاحب طائلة! وكأنه عاشق مغتلم أو جائع مقرور! والله يا إخوتي لو رأيت رجلاً يفسد طين الردغة ويضيع ماء البحر لصرفت عنه وجهي! فإذا كان أصحاب النظر وأهل الديانة والفلسفة هذه سيرتهم وهكذا أدبهم فما ظنكم بمن لا يعد ما يعدون ولا يبلغ من الأدب حيث يبلغون! قصة الكندي: حدثني عمرو بن نهيوي قال: كان الكندي لا يزال يقول للساكن وربما قال للجار: إن في الدار امرأة حمل.

والوحمى ربما أسقطت من ريح القدر الطيبة! فإذا طبختم فردوا شهوتها ولو بغرفة أو لعقة فإن النفس يردها اليسير! فإن لم تفعل ذلك بعد إعلامي إياك فكفارتك - إن قال: فكان ربما يوافى إلى منزله من قصاع السكان والجيران ما يكفيه الأيام وإن كان أكثرهم يفطن ويتغافل.

وكان الكندي يقول لعياله: أنتم أحسن حالاً من أرباب هذه الضياع: إنما لكل بيت منهم لون واحد.

وعندكم ألوان! قال: وكنت أتغدى عنده يوماً إذ دخل عليه جار له.

وكان الجار لي صديقاً.

فلم يعرض عليه الغداء.

فاستحييت أنا منه.

فقلت: لو أصبت معنا مما نأكل! قال: قد والله فعلت.

قال الكندي: ما بعد الله شيء! قال: فكتفه والله - يا أبا عثمان - كتفاً لا يستطيع معه قبضاً ولا بسطاً وتركه! ولو أكل لشهد عليه بالكفر ولكان عنده قد جعل مع الله شيئاً! قال عمرو: بينا أنا ذات يوم عنده إذ سمع صوت انقلاب جرة من الدار الأخرى.

فصاح: أي قصاف! فقالت مجيبة له: بئر وحياتك! فكانت الجارية في الذكاء أكثر منه في الاستقصاء.

قال معبد: نزلنا دار الكندي أكثر من سنة نروج له الكراء ونقضي له الحوائج ونفى له بالشرط.

قلت: قد فهمت ترويج الكراء وقضاء الحوائج فما معنى الوفاء بالشرط قال: في شرطه على السكان أن يكون له روث الدابة وبعر الشاة ونشوار العلوفة وألا يخرجوا عظماً ولا يخرجوا كساحة وأن يكون له نوى التمر وقشور الرمان والغرفة من كل قدر تطبخ للحبلى وكان في ذلك يتنزل عليهم.

فكانوا لطيبه وإفراط بخله وحسن حديثه يحتملون ذلك.

قال معبد: فبينا أنا كذلك إذ قدم ابن عم لي ومعه ابن له إذا رقعة منه قد جاءتني: " إن كان مقام هذين القادمين ليلة أو ليلتين احتملنا ذلك وإن كان إطماع السكان في الليلة الواحدة يجر علينا الطمع في الليالي الكثيرة ".

فكتبت إليه: " ليس مقامهما عندنا إلا شهراً أو نحوه ".

فكتب إلى: " إن دارك بثلاثين درهماً.

وأنتم ستة لكل رأس خمسة.

فإذ قد زدت رجلين فلابد من زيادة خمستين.

فالدار عليك من يومك هذا بأربعين! ".

فكتبت إليه: " وما يضرك من مقامهما وثقل أبدانهما على الأرض التي تحمل الجبال وثقل مؤنتهما على دونك فاكتب إلي بعذرك لأعرفه ".

ولم أدر أني أهجم على ما هجمت وأني أقع منه فيما وقعت! فكتب إلي: " الخصال التي تدعوا إلى ذلك كثيرة.

وهي قائمة معروفة: من ذلك سرعة امتلاء البالوعة وما تنقيتها من شدة المؤنة.

ومن ذلك أن الأقدام إذا كثرت كثر المشي على ظهور السطوح الطينة وعلى أرض البيوت المجصصة والصعود على الدرج الكثيرة: فينقشر لذلك الطين وينقلع الجص وينكسر العتب مع انثناء الأجذاع لكثرة الوطء وتكسرها لفرط " وإذا كثر الدخول والخروج والفتح والإغلاق والإقفال وجذب الأقفال تهشمت الأبواب وتقلعت الرزات ".

" وإذا كثر الصبيان وتضاعف البوش نزعت مسامير الأبواب وقلعت كل ضبة ونزعت كل رزة وكسرت كل جوزة وحفر فيها آبار الددن وهشموا بلاطها بالمداحي.

هذا مع تخريب الحيطان بالأوتاد وخشب الرفوف ".

" وإذا كثر العيال والزوار والضيفان والندماء احتيج من صب الماء واتخاذ الحببة القاطرة والجرار الراشحة إلى أضعاف ما كانوا عليه.

فكم من حائط قد تأكل أسفله وتناثر أعلاه واسترخى أساسه وتداعى بنيانه من قطر حب ورشح جر ومن فضل ماء البئر ومن سوء التدبير ".

" وعلى قدر كثرتهم يحتاجون من الخبيز والطبيخ ومن الوقود والتسخين.

والنار لا تبقي ولا تذر.

وإنما الدور حطب لها.

وكل شيء فيها من متاع فهو أكل لها.

فكم من حريق قد أتى على أصل الغلة فكلفتم أهلها أغلظ النفقة.

وربما كان ذلك عند غاية العسرة وشدة الحال.

وربما تعدت تلك الجناية إلى دور الجيران وإلى مجاورة الأبدان والأموال ".

" فلو ترك الناس حينئذ رب الدار وقدر بليته ومقدار مصيبته لكان عسى ذلك أن يكون " نعم ثم يتخذون المطابخ في العلالي على ظهور السطوح وإن كان في أرض الدار فضل وفي صحنها متسع مع ما في ذلك من الخطار بالأنفس والتغرير بالأموال وتعرض الحرم ليلة الحريق لأهل الفساد وهجومهم مع ذلك على سر مكتوم وخبئ مستور من ضيف مستخف ورب دار متوار ومن شراب مكروه ومن كتاب متهم ومن مال جم أريد دفنه فأعجل الحريق أهله عن ذلك فيه ومن حالات كثيرة وأمور لا يحب الناس أن يعرفوا بها ".

" ثم لا ينصبون التنانير ولا يمكنون للقدور إلا على متن السطح حيث ليس بينها وبين القصب والخشب إلا الطين الرقيق والشيء لا يقي.

هذا مع خفة المؤنة في أحكامها وأمن القلوب من المتالف بسببها ".

" فإن كنتم تقدمون على ذلك منا ومنكم وأنتم ذاكرون فهذا عجب! وإن كنتم لم تحفلوا بما عليكم في أموالنا ونسيتم ما عليكم في أموالكم فهذا أعجب! ".

" ثم إن كثيراً منكم يدافع بالكراء ويماطل بالأداء.

حتى إذا جمعت أشهر عليه فر وخلى أربابها جياعاً يتندمون على ما كان من حسن تقاضيهم وإحسانهم.

فكان جزاؤهم وشكرهم اقتطاع حقوقهم والذهاب بأقواتهم ".

" ويسكنها الساكن حين يسكنها وقد كسحناها ونظفناها لتحسن في عين المستأجر وليرغب " ثم لا يدع مترساً إلا سرقه ولا سلماً إلا حمله ولا نقصاً إلا أخذه ولا برادة إلا مضى بها معه.

ولا يدع دق الثوب والدق في الهاون والميجان في أرض الدار ".

" ويدق على الأجذاع والحواضن والرواشن ".

" وإن كانت الدار مقرمدة أبو بالأجر مفروشة وقد كان صاحبها جعل في ناحية منها صخرة ليكون الدق عليها ولتكون واقية دونها دعاهم التهاون والقسوة والغش والفسولة إلى أن يدقوا حيث جلسوا وإلى ألا يحفلوا بما أفسدوا! لم يعط قط لذلك أرشاً ولا استحل صاحب الدار ولا استغفر الله منه في السر! " " ثم يستكثر من نفسه في السنة إخراج عشرة دراهم ولا يستكثر من رب الدار ألف دينار في الشراء.

يذكر ما يصير إلينا مع قلته ولا يذكر ما يصير إليه مع كثرته! " " هذا والأيام التي تنقض المبرم وتبلى الجدة وتفرق الجميع المجتمع عاملة في الدور كما تعمل في الصخور وتأخذ من المنازل كما تأخذ من كل رطب ويابس وكما تجعل الرطب يابساً هشيماً والهشيم مضمحلاً ".

" ولا نهدام المنازل غاية قريبة ومدة قصيرة.

والساكن فيها هو كان المتمتع بها والمنتفع بمرافقها.

وهو الذي أبلى جدتها وتحلاها.

وبه هرمت وذهب عمرها لسوء تدبيره ".

" فإذا قسمنا الغرم عند انهدامها بإعادتها وبعد ابتنائها وغرم ما بين ذلك من مرمتها وإصلاحها ثم قابلنا بذلك ما أخذنا من غلاتها وارتفقنا به من إكرائها خرج على المسكن من الخسران بقدر ما حصل للساكن من الربح.

إلا أن الدراهم التي أخرجناها من النفقة كانت جملة والتي أخذناها على جهة الغلة جاءت مقطعة ".

" وهذا مع سوء القضاء والإحواج إلى طول الاقتضاء ومع بغض الساكن للمسكن وحب المسكن للساكن لأن المسكن يحب صحة بدن الساكن ونفاق سوقه إن كان تاجراً وتحرك صناعته إن كان صانعاً ومحبة الساكن أن يشغل الله عنه المسكن كيف شاء: إن شاء شغله بعينه وإن شاء بزمانه وإن شاء بحبس وإن شاء بموت! " " ومدار مناه أن يشغل عنه.

ثم لا يبالي كيف كان ذلك الشغل! إلا أنه كلما كان أشد كان أحب إليه وكان أجدر أن يأمن وأخلق لأن يسكن.

وعلى أنه إن فترت سوقه أو كسدت صناعته ألح في طلب التخفيف من أصل الغلة والحطيطة مما حصل عليه من الأجرة.

وعلى أنه إن أتاه الله بالأرباح في تجارته والنفاق في صناعته لم ير أن يزيد قيراطاً في ضريبته ولا أن يعجل فلساً قبل وقته ".

" ثم إن كانت الغلة صحاحاً دفع أكثرها مقطعة.

وإن كانت أنصافاً وأرباعاً دفعها قراضة مفتتة.

ثم لا يدع مزأبقاً ولا مكحلاً ولا زائفاً ولا ديناراً بهرجاً إلا دسه فيه ودلسه عليه واحتال بكل حيلة وتأتي له بكل سبب.

فإن ردوا عليه بعد ذلك شيئاً حلف بالغموس إنه ليس من دراهمه ولا من ماله ولا رآه قط ولا كان في ملكه ".

" فإن كان الرسول جارية رب الدار أفسدها.

وإن كان غلاماً خدعه.

هذا مع الإشراف على الجيران والتعرض للجارات ومع اصطياد طيورهم وتعريضنا لشكايتهم! " " وربما استضعف عقولهم وطمع في فسادهم وغبنهم.

فلا يزال يضرب لهم بالأسلاف ويغريهم بالشهوات ويفتح لهم أبواباً من النفقات ليغبنهم ويربح عليهم.

حتى إذا استوثق منهم أعجلهم وحزق بهم حتى يتقوه ببيع بعض الدار أو باسترهان الجميع ليربح مع الذهاب بالأصل السلامة - مع طول مقامه - من الكراء.

وربما جعله بيعاً في الظاهر ورهناً في الباطن.

فحينئذ يفظ بهم دون المهلة ويدعيها قبل الوقت! " " وربما بلغ من استضعافه واستثقاله لأداء الكراء أن يدعي أن له شقيصاً وأن له يداً ليصير خصماً من الخصوم ومنازعاً غير غاصب ".

" وربما اكترى المنزل وفيه مرمة فاشترى بعض ما يصلحها.

ثم يتوخى عاملاً جيد الكسوة وجيراناً آنية وآلة.

فإذا شغل العامل وغفل اشتمل على كل ما قدر عليه وتركهم يتسكعون! " " وربما استأجر إلى جنبسجن لينقب أهله إليه وإلى جنب صراف لينقب عليه طلباً لطول المهلة والستر ولطول المدة والأمن ".

وربما جنى الساكن ما يدعو إلى هدم دار المسكن: بأن يقتل قتيلاً أو يجرح شريفاً.

فيأتي السلطان الدار وأربابها إما غيب وإما أيتام وإما ضعفاء فلا يصنع شيئاً دون أن يسويها بالأرض! " " وبعد فالدور ملقاة وأربابها منكوبون وملقون.

وهم أشد الناس اغتراراً بالناس وأبعدهم غاية من سلامة الصدور.

وذلك أن من دفع داره ونقضها وساجها وأبوابها مع حديدها وذهب سقوفها إلى مجهول لا يعرف فقد وضعها في مواضع الغرر وعلى أعظم الخطر.

وقد صار في معنى المودع وصار المكتري في موضع المودع.

ثم ليست الخيانة وسوء الولاية إلى شيء من الودائع أسرع منها إلى الدور ".

" وأيضاً إن أصلح السكان حالاً من إذا وجد في الدار مرمة ففوضوا إليه النفقة وأن يكون ذلك محسوباً له عند الأهلة يشفف في البناء ويزيد في الحساب ".

" فما ظنك بقزم هؤلاء أصلحهم وهم خيارهم! " " وأنتم أيضاً إنما اكتريتم مستغلات غيرنا بأكثر مما اكتريتموها مناً.

فسيروا فينا كسيرتكم فيهم " وربما بنيتم في الأرض.

فإذا صار البناء بنيانكم وإن كانت الأرض لغيركم ادعيتم الشركة وجعلتموه كالإجارة وحتى تصيروه كتلاد مال أو موروث سلف ".

" وجرم آخر: وهو أنكم أهلكتم أصول أموالنا وأخربتم غلاتنا وحططتم بسوء معاملتكم أثمان دورنا ومستغلاتنا حتى سقطت غلات الدور من أعين المياسير وأهل الثروة ومن أعين العوام والحشوة وحتى يدافعوكم بكل حيلة وصرفوا أموالهم في كل وجه وحتى قال عبيد الله بن الحسن قولاً أرسله مثلاً وعاد علينا حجة وضرراً.

وذلك أنه قال: غلة الدار مسكة وغلة النخل كفاف.

وإنما الغلة غلة الزرع والنسولتين ".

" وإنما جر ذلك علينا حسن اقتضائنا وصبرنا على سوء قضائكم وأنتم تقطعونها علينا وهي عليكم مجملة وتلووننا بها وهي عليكم حالة.

فصارت لذلك غلات الدور - وإن كانت أكثر ثمناً ودخلاً - أقل ثمناً وأخبث أصلاً من سائر الغلات ".

" وأنتم شر علينا من الهند والروم ومن الترك والديلم إذ كنتم أحضر أذى وأدوم شراً ".

" ثم كانت هذه صفتكم وحليتكم ومعاملتكم في شيء لابد لكم منه فكيف كنتم لو امتحنكم بما لكم عنه مندوحة والوجوه لكم فيه معرضة وأنتم فيها بالخيار وليس عليكم طريق الاضطرار " " وهذا مع قولكم: إن نزول دور الكراء أصوب من نزول دور الشراء.

وقلتم: لأن صاحب الشراء قد أغلق رهنه وأشرط نفسه وصار بها ممتحناً وبثمنها مرتهناً ".

" ومن اتخذ داراً فقد أقام كفيلاً لا يخفر وزعيماً لا يغرم.

وإن غاب عنها حن إليها.

وإن أقام فيها ألزمته المؤن وعرضته للفتن إن أساءوا جواره وأنكر مكانه وبعد مصلاه ومات عنه سوقه وتفاوتت حوائجه ورأى أنه قد أخطأ في اختيارها على سواها وأنه لم يوفق لرشده حين آثرها على غيرها.

وإن من كان كذلك فهو عبد داره وخول جاره ".

" وإن صاحب الكراء الخيار في يده والأمر إليه: فكل دار هي له متنزه إن شاء ومتجر إن شاء ومسكن إن شاء.

لم يحتمل فيها اليسير من الذل ولا القليل من الضيم ولا يعرف الهوان ولا يسام الخسف ولا يحترس من الحساد ولا يداري المتعللين ".

" وصاحب الشراء يجرع المرار ويسقى بكأس الغيظ ويكد لطلب الحوائج ويحتمل الذلة وإن كان ذا أنفة.

إن عفا عفا على كظم.

ولا يوجه ذلك منه إلا إلى العجز.

وإن رام المكافأة تعرض لأكثر مما أنكره.

قال رسول الله : (الجار قبل الدار والرفيق قبل الطريق ).

" وزعمتم أن تسقط الكراء أهون إذ كان شيئاً بعد شيء وأن الشدائد إذا وقعت جملة " ومال الشراء يخرج جملة وثلمته في المال واسعة وطعنته نافذة.

ليس كل خرق يرقع ولا كل خارج يرجع ".

" وأنه قد أمن من الحرق والغرق وميل أسطون وانقصاف سهم واسترخاء أساس وسقوط سترة وسوء جوار وحسد مشاكل ".

" وإنه إما لا يزال في بلاء وإما أن يكون متوقعاً لبلاء ".

" وقلتم: إن كان تاجراً فتصريف ثمن الدار في وجوه التجارات أربح وتحويله في أصناف البياعات أكيس.

وإن لم يكن تاجراً ففيما وصفناه له ناه وفيما عددنا له زاجر ".

" فلم يمنعكم حرمة المساكنة وحق المجاورة والحاجة إلى السكنى وموافقة المنزل أن أشرتم على الناس بترك الشراء! وفي كساد الدور فساد لأثمان الدور وجراءة للمستأجر واستحطاط من الغلة وخسران في أصل المال ".

" وزعمتم أنكم قد أحسنتم إلينا حين حثثتم الناس على الكراء لما في ذلك من الرخاء والنماء! فأنتم لم تريدوا نفعنا بترغيبهم في الكراء بل إنما أردتم أن تضرونا بتزهيدكم في الشراء! " " وليس ينبغي أن يحكم على كل قوم إلا بسبيلهم وبالذي يغلب عليهم من أعمالهم.

فهذه الخصال المذمومة كلها فيكم وكلها حجة عليكم وكلها داعية تهمتكم وأخذ الحذر منكم.

وليست لكم خصلة محمودة ولا خلة فيما بيننا وبينكم مرضية! " " وقد أريناكم أن كم النازلين كحكم المقيمين وأن كل زيادة فلها نصيب من الغلة ".

" ولو تغافلت لك - يا أخا أهل البصرة - عن زيادة رجلين لم أبعدك - على قدر ما رأيت منك - أن تلزمني ذلك - فيما يتبين - حتى يصير كراء الواحد ككراء الألف وتصير الإقامة كالظعن والتفريغ كالشغل! " " وعلى أني لو كنت أمسكت عن تقاضيك وتغافلت عن تعريفك ما عليك لذهب الإحسان إليك باطلاً إذ كنت لا ترى للزيادة قدراً ".

" وقد قال الأول: والكفر مخبثة لنفس المنعم.

وقال الآخر: تبدلت بالمعروف نكراً وربما تنكر للمعروف من كان يكفر ".

" أنت تطالبني ببغض المعتزلة للشيعة وبما بين أهل الكوفة والبصرة وبالعداوة التي بين أسد وكندة وبما في قلب الساكن من استثقال المسكن! وسيعين الله عليك.

والسلام ".

قال إسماعيل بن غزوان: لله در الكندي! ما كان أحكمه وأحضر حجته وأنصح جيبه وأدوم طريقته! رأيته وقد أقبل على جماعة ما فيها إلا مفسد أو من يزين الفساد لأهله: من شاعر بوده أن الناس كلهم قد جازوا حد المسرفين إلى حدود المجانين! ومن صاحب تنقيع واستئكال ومن ملاق متقرب.

فقال: تسمون من منع المال من وجوده الخطأ وحصنه خوفاً من الغيلة وحفظه إشفاقاً من الذلة بخيلاً! تريدون بذلك ذمه وشينه! وتسمون من جهل فضل الغني ولم يعرف ذلة الفقر وأعطى في السرف وتهاون بالخطأ وابتذل النعمة وأهان نفسه بإكرام غيره جواداً! تريدون بذلك حمده ومدحه! فاتهموا على أنفسكم من قدمكم على نفسه فإن من أخطأ على نفسه فهو أجدر أن يخطئ على غيره ومن أخطأ في ظاهر دنياه وفيما يوجد في العين كان أجدر أن يخطئ في باطن دينه وفيما يوجد بالعقل.

فمدحتم من جمع صنوف الخطإ وذممتم من جمع صنوف الصواب! فاحذروهم كل الحذر ولا تأمنوهم على حال! قال إسماعيل: وسمعت الكندي يقول: إنما المال لمن حفظه وإنما الغني لمن تمسك به.

ولحفظ المال بنيت الحيطان وغلقت الأبواب واتخذت الصناديق وعملت الأقفال ونقشت الرسوم فلم تتخذون هذه الوقايات دون المال وأنتم آفته وأنتم سوسه وقادحه وقد قال الأول: احرس أخاك إلا من نفسه.

ولكن احسب أنك قد أخذته في الجواسق وأودعته الصخور ولم يشعر به صديق ولا رسول ولا معين من لك بألا تكون أشد عليه من السارق وأعدى عليه من الغاصب واجعلك قد حصنته من كل يد لا تملكه كيف لك من أن تحصنه من اليد التي تملكه وهي عليه أقدر ودواعيها أكثر وقد علمنا أن حفظ المال أشد من جمعه.

وهل أتى الناس إلا من أنفسهم ثم ثقاتهم والمال لمن حفظه والحسرة لمن أتلفه.

وإنفاقه هو إتلافه وإن حسنتموه بهذا الاسم وزينتموه بهذا اللقب! وزعمتم أنما سمينا البخل صلاحاً والشح اقتصاداً كما سمى قوم الهزيمة انحيازاً والبذاء عارضة والعزل عن الولاية صرفاً والجائر على أهل الخراج مستقصياً! بل أنتم الذين سميتم السرف جوداً والنفج أريحية وسوء نظر المرء لنفسه ولعقبه كرماً! قال رسول الله : ) ابدأ بمن تعول (

وأنت تريد أن تغني عيال غيرك بإفقار عيالك وتسعد الغريب بشقوة القريب وتنفصل على من لا يعدل عنك ومن لو أعطيته أبداً قد علمتم ما قال صاحبنا لأخي تغلب فإنه قال: " يا أخا تغلب إني والله كنت أجري ما جرى هذا الغيل وأجري وقد انقطع النيل.

إني والله لو أعطيتك لما وصلت إليك حتى أتجاوز من هو أحق بذلك منك.

إني لو أمكنت الناس من مالي لنزعوا داري طوبة طوبة! إنه والله ما بقي معي منه إلا ما منعته الناس ".

ولكني أقول: والله إن لو أمكنت الناس من نفسي لادعوا رقي بعد سلب نعمتي.

قال إسماعيل: وسمعته يقول: عجبت لمن قلت دراهمه كيف ينام! ولكن لا يستوي من لم ينم سروراً ومن لم ينم غماً.

ثم قال: قال رسول الله في وصية المرء يوم فقره وحاجته وقبل أن يغرغر: ) الثلث والثلث كثير (.

- فاستحسنت الفقهاء وتمنى الصالحون أن ننقص من الثلث شيئاً لاستكثار رسول الله الثلث ولقوله: ) إنك إن تدع عيالك أغنياء خير من أن تدعهم عالة يتكففون الناس(.

ورسول الله لم يرحم عيالنا إلا بفضل رحمته لنا.

فكيف تأمروني أن أوثر أنفسكم على نفسي وأقدم عيالكم على عيالي وأن أعتقد الثناء بدلاً من الغنى وأن أكنز الريح وأصطنع السراب بدلاً من الذهب والفضة! قال إسماعيل: وسمعته يقول لعياله وأصحابه: اصبروا عن الرطب عند ابتدائه وأوائله وعن باكورات الفاكهة فإن للنفس عند كل طارف نزوة وعند كل هاجم نزوة.

وللقادم حلاوة وفرحة وللجديد بشاشة وغرة فإنك متى رددتها ارتدت ومتى ردعتها ارتدعت.

والنفس عزوف ونفور ألوف.

وما حملتها احتملت وإن أهملتها فسدت.

فإن تكف جميع دواعيها وتحسم جميع خواطرها في أول ردة صارت أقل عدداً وأضعف قوة.

فإذا أثر ذلك فيها فعظها في تلك الباكورة بالغلاء والقلة فإن ذكر الغلاء والقلة حجة صحيحة وعلة عاملة في الطبيعة.

فإذا أجابتك في الباكورة فسمها مثل ذلك في أوائل كثرتها واضرب نقصان الشهوة ونقصان قوة الغلبة بمقدار ما حدث لها من الرخص والكثرة.

فلست تلقى على هذا الحساب من معالجة الشهوة عندك إلا مثل ما لقيت منها في نومك حتى تنقضي أيام الفاكهة وأنت على مثل ابتداء حالك وعلى أول مجاهدتك لشهوتك! ومتى لم تعد أيضاً الشهوة فتنة والهوى عدواً اغتررت بهما وضعفت عنهما وأتمنتهما على نفسك.

وهما أحضر عدو وشر دخيل.

فاضمنوا لي النزوة الأولى أضمن لكم تمام الصبر وعاقبة اليسر وثبات العز في قلوبكم والغنى في أعقابكم ودوام تعظيم الناس لكم فإنه لو لم يكن من منفعة الغني إلا أنك لا تزال معظماً عند من لم ينل منك قط درهماً لكان الفضل في ذلك بيتاً والربح ظاهراً.

ولو لم يكن من بركة الثروة ومن منفعة اليسر إلا أن رب المال الكثير لو اتصل بملك كبير في جلسائه من هو أوجب حرمة وأقدم صحبة وأصدق محبة وأمتع إمتاعاً وأكثر فائدة وصواباً إلا أنه خفيف الحال قليل ذات اليد ثم أراد ذلك الملك أن يقسم مالاً أو يوزع بينهم طرفاً لجعل حظ الموسر أكثر وإن كان في كل شيء دون أصحابه وحظ المخفف أقل وإن كان في كل شيء فوق أصحابه.

قد ذكرنا رسالة سهل بن هارون ومذهب الحزامى وقصص الكندي وأحاديث الحارثي واحتجاجهم وطرائف نحلهم وبدائع حيلهم.

قصة محمد بن أبي المؤمل: قلت لمحمد بن أبي المؤمل: أراك تطعم الطعام وتتخذه وتنفق المال وتجود به.

وليس بين قلة الخبز وكثرته كثير ربح.

والناس يبخلون من قل عدد خبزه ورأوا أرض خوانه.

وعلى أني أرى وأنت لو لم تتكلف ولم تحمل على مالك بإجادته والتكثير منه ثم أكلت وحدك لم يلمك الناس ولم يكثروا لذلك منك ولم يقضوا عليك بالبخل ولا بالسخاء وعشت سليماً موفوراً وكنت كواحد من عرض الناس.

وأنت لم تنفق الحرائب وتبذل المصون إلا وأنت راغب في الذكر والشكر وإلا لتخزن الأجر.

فقد صرنا لقلة عدد خبزك من بين الأشياء نرضى لك من الغنيمة بالإياب ومن غنم الحمد والشكر بالسلامة من الذم واللوم! فزد في عدد خبزك شيئاً فإن بتلك الزيادة القليلة ينقلب ذلك اللوم شكراً وذلك الذم حمداً.

أعلمت أنك لست تخرج من هذا الأمر بعد الكلفة العظيمة سالماً لا لك ولا عليك فانظر في هذا الأمر رحمك الله! قال: يا أبا عثمان أنت تخطئ وخطأ العاقل أبداً يكون عظيماً وإن كان في العذر قليلاً لأنه إذا أخطأ أخطأ بتفقه وإحكام.

فعلى قدر التفكر والتكلف يبعد من الرشاد ويذهب عن سبيل الصواب.

وما أشك أنك قد نصحت بمبلغ الرأي منك.

ولكن خف ما خوفتك وإنه مخوف! بل الذي أصنع أدل على سخاء النفس بالمأكول وأدل على الاحتيال ليبالغوا لأن الخبر إذا كثر على الموائد ورث ذلك النفس صدوداً ولأن كل شيء من المأكول وغير المأكول إذا ملأ العين ملا الصدر.

وفي ذلك موت الشهوة وتسكين الحركة! ولو أن رجلاً جلس على بيدر تمر فائق وعلى كدس كمثرى منعوت وعلى مائة قنو موز موصوف لم يكن أكله إلا قدر استطرافه ولم يكن أكله إلا على قدر أكله إذا أتي بذلك في طبق نظيف مع خادم نظيف عليه منديل نظيف.

وبعد فأصحابنا آنسون واثقون مسترسلون يعلمون أن الطعام لهم اتخذ وأن أكلهم له أوفق من تمزيق الخدم والأتباع له.

ولو احتاجوا لدعوا به ولم يحتشموا منه ولكان الأقل منهم أن يجربوا ذلك المرة والمرتين وألا يقضوا علينا بالبخل دون أن يروه.

فإن كانوا محتشمين وقد بسطناهم وساء ظنهم بنا مع ما يرون من الكلفة لهم فهؤلاء أصحاب تجن وتسرع.

وليس في طاقتي إعتاب المتجني ولا رد المتسرع.

قلت له: إني قد رأيت أكلهم في منازلهم وعند إخوانهم وفي حالات كثيرة ومواضع مختلفة.

ورأيت أكلهم عندك فرأيت شيئاً متفاوتاً وأمراً متفاقماً.

فاحسب أن البخل عليهم غالب وان الضعف لهم شامل وأن سوء الظن يسرع إليهم خاصة.

ثم لا تداوي هذا الأمر بما لا مؤنة فيه وبالشيء الذي لا قدر له أو تدع دعاءهم والإرسال إليهم والحرص على إجابتهم.

والقوم ليس يلقون أنفسهم عليك.

وإنما يجيئونك بالاستحباب منك.

فإن أحببت أن تمتحن ما قال: فإن الخبز إذا كثر على الخوان فالفاضل مما يأكلون لا يسلم من التلطخ والتغمير.

والجردقة الغمرة والرقاقة المتلطخة لا أقدر أن أنظر إليها.

وأستحيي أيضاً من إعادتها.

فيذهب ذلك الفضل باطلاً.

والله لا يحب الباطل! قلت: فإن ناساً يأمرون بمسحه ويجعلون الثريدة منه.

فلو أخذت بزيهم وسلكت سبيلهم أتى ذلك لك على ما تريد ونريد.

قال: أفلست أعلم كيف الثريد ومن أي شيء هي - وكيف أمنع نفسي التوهم وأحول بينها وبين التذكير ولعل القوم الحواري المتلطخ مقام الخشكار النظيف.

وعلى أن المسح والدلك يأتي على ما تعلق به الدسم.

قال: عيالي - يرحمك الله! - عيالان: واحد أعظمه عن هذا وأرفعه عنه وىخر لم يبلغ عندي أن يترف بالحواري! قلت: فاجعل إذاً جميع خبزك الخشكار فإن فضل ما بينه وبين الحواري في الحسن والطيب لا يقوم بفضل ما بين الحمد والذم.

قال: فهاهنا رأي هو أعدل الأمور وأقصدها: وهو أنا نحضر هذه الزيادة من الخبز على طبق ويكون قريباً حيث تناله اليد فلا يحتاج أحد مع قربه منه إلى أن يدعو به ويكون قربه من يده قلت: فالمانع من طلبه هو المانع من تحويله.

فأطعني وأخرج هذه الزيادة من مالك كيف شئت.

واعلم أن هذه المقايسة وطول هذه المذاكرة أضر علينا مما نهيتك عنه وأردتك على خلافه.

فلما حضر وقت الغداء صوت بغلامه - وكان ضخماً جهير الصوت صاحب تقعير وتفخيم وتشديق وهمز وجزم: يا مبشر! هات من الخبز تمام عدد الرءوس! قلت: ومن فرض لهم هذه الفريضة ومن جزم عليهم هذا الجزم أرأيت إن لم يشبع أحدهم رغيفه أليس لا بد له من أن يعول على رغيف صاحبه أو يتنحى وعليه بقية أو يعلق يده منتظراً للعادة فقد عاد الأمر وبطل ما تناظرنا فيه.

قال: لا أعلم إلا ترك الطعام البتة أهون علينا من هذه الخصومة! قلت: هذا ما لا شك فيه.

وقد علمت عندي بالصواب وأخذت لنفسك بالثقة إن وفيت بهذا القول.

وكان أكثر ما يقول: يا غلام هات شيئاً من قليلة وأقل منها وأعد لنا ماء بارداً وأكثر منه! وكان يقول: قد تغير كل شيء من أمر الدنيا وحال عن أمره وتبدل حتى المؤاكلة.

قاتل الله رجالاً كنا نؤاكلهم: ما رأيت قصعة قط رفعت من بين أيديهم إلا وفيها فضل! وكانوا يعلمون أن إحضار الجدي إنما هو شيء من آيين الموائد الرفعية وإنما جعل كالعاقبة والخاتمة وكالعلامة للبسر والفراغ وأنه لم يحضر للتمزيق والتخريب وأن أهله لو أرادوا به السوء لقدموه قبل كل شيء لتقع الحدة به.

بل ما أكل منه إذا جيء به إلا العابث وإلا الذي لو لم يره لقد كان يرفع يده ولم ينتظر غيره! ولذلك قال أبو الحارث جمين حين رآه لا يمس: هذا المدفوع عنه! ولولا أنه على ذلك شاهد الناس لما قال ما قال.

ولقد كانوا يتحامون بيضة البقيلة ويدعها كل واحد منهم لصاحبه حتى إن القصعة لقد كنت وإن البيض خاصة لعلي حاله.

وأنت اليوم إذا أردت أن تمتع عينك بنظرة واحدة منها ومن بيض السلاءة لم تقدر على ذلك! لا جرم لقد كان تركه ناس كثير ما بهم إلا أن يكونوا شركاء من ساءت رعته.

وكان يقول: الآدام أعداء للخبز وأعداها له المالح.

فلولا أن الله انتقم منه وأعان عليه بطلب صاحبه الماء وإكثاره منه لظننت أنه سيأتي على الحرث والنسل! وكان مع هذا يقول: لو شرب الناس الماء على الطعام ما اتخموا.

وأقلهم عليه شرباً أكثرهم عنه تخماً.

وذلك أن الرجل لا يعرف مقدار ما أكل حتى ينال من الماء.

وربما كان شبعان وهو لا يدري.

فإذا ازداد على مقدار الحاجة بشم.

وإذا نال من الماء شيئاً بعد شيء عرفه ذلك مقدار الحاجات فلم يزد إلا بقدر المصلحة.

والأطباء يعلمون ما أقول حقاً.

ولكنهم يعلمون أنهم لو أخذوا بهذا الرأي لتعطلوا ولذهب المكسب! وما حاجة الناس إلى المعالجين إذا صحت أبدانهم وفي قول جميع الناس: إن ماء دجلة أمرأ من الفرات وإن ماء مهران أمرأ من ماء نهر بلخ وفي قول العرب: هذا ماء نمير يصلح عليه المال دليل على أن الماء يمرئ حتى قالوا: إن الماء الذي يكون عليه النفاطات أمرأ من الماء الذي يكون عليه القيارات.

فعليكم بشرب الماء على الغداء فإن ذلك أمرأ.

وكان يقول: ما بال الرجل إذا قال: يا غلام أسقني ماء أو أسق فلاناً ماء أتاه بقلة على قدر الري فإذا قال: أطعمني شيئاً أو قال: هات لفلان طعاماً أتاه من الخبز بما يفضل عن الجماعة والطعام والشراب أخوان متحالفان ومتآزران وكان يقول: لولا رخص الماء وغلاء الخبز لما كلبوا على الخبز وزهدوا في الماء.

والناس أشد شيء تعظيماً للمأكول إذا كثر ثمنه أو كان قليلاً في أصل منبته وموضع عنصره.

هذا الجزر الصافي وهذا الباقلى الأخضر العباسي أطيب من كمثرى خراسان ومن الموز البستاني! ولكنهم لقصر همتهم لا يتشهون إلا على قدر الثمن ولا يحنون إلى الشيء إلا على قدر القلة.

وهذه العوام في شهوات الأطعمة إنما تذهب مع التقليد أو مع العادة أو على قدر ما يعظم وأنا لست أطعم الجزر المسلوق بالخل والزيت والمري دون الكمأة بالزبد والفلفل لمكان الرخص أو لموضع الاستفضال ولكن لمكان طيبه في الحقيقة ولأنه مالح الطبيعة علم ذلك من علم وجهل ذلك من جهل! وكان في منزله فربما دخل عليه الصديق له وقد كان تقدمه الزائر أو الزائران - وكان يستعمل على خوانه من الخدع والمكايد والتدبير ما لم يبلغ بعضه قيس بن زهير والمهلب ابن أبي صفرة وخازم بن أبي خزيمة وهرثمة بن أعين.

وكان عنده فيه من الاحتيال ما لا يعرفه عمرو بن العاص ولا المغيرة بن شعبة.

وكان كثيراً ما يمسك الخلال بيده ليؤيس الداخل عليه من غدائه! - فإذا دخل عليه الصديق له وقد عزم على إطعام الزائر والزائرين قبله وضاق صدره بالثالث وإن كان قد دعاه وطلب إليه - أراد أن يحتال له أو الرابع إن ابتلي كل واحد منهما بصاحبه.

فيقول عند أول دخوله وخلع نعله وهو رافع صوته بالتنويه وبالتشنيع: هات يا مبشر لفلان شيئاًيطعم منه! هات له شيئاً ينال منه! هات له شيئاً! اتكالاً! على خجله أو غضبه أو أنفته وطمعاً في أن يقول: قد فعلت! فإن أخطأ ذلك الشقي وضعف قلبه وحصر وقال: قد فعلت وعلم أنه قد أحرزه وحصله وألقاه وراء ظهره لم يرض أيضاً بذلك حتى يقول: بأي شيء تغذيت فلا بد له من أن يكذب أو ينتحل المعاريض.

فإذا استوثق منه رباطاً وتركه لا يستطيع أن يترمرم لم يرض بذلك حتى قول في حديث له: كنا عند فلان فدخل عليه فلان فدعاه إلى غدائه فامتنع.

ثم بدا له فقال: في طعامكم بقيلة أنتم تجيدونها ثم تناول فلا يزال في وثاقه وفي سد الأبواب عليه وفي منعه البدوات.

حتى إذاً بلغ الغاية قال: يا مبشر أما إذ تغدى فلان واكتفى فهات لنا شيئاً نبعث به فإذا وضعوا الطعام أقبل على أشهدهم حياء أو على أكلاً فسأله عن حديث حسن أو عن خبر طويل! ولا يسأله إلا عن حديث يحتاج فيه إلى الإشارة باليد أو الرأس! كل ذلك ليشغله! فإذا هم أكلوا صدراً أظهر الفتور والتشاغل والتنقر كالشعبان الممتلئ وهو في ذلك غير رافع يده ولا قاطع أكله! إنما هو النتف بعد النتف وتعليق اليد في خلل ذلك فلا بد من أن ينقبض بعضهم ويرفع يده.

وربما شمل ذلك جماعتهم.

فإذا علم أنه قد أحرزهم واحتال لهم حتى يقلعهم من مواضعهم من حوال الخوان ويعيدهم إلى مواضع من مجالسهم وقال: إنما الأكل تارات والشرب تارات.

وكان كثيراً ما يقول لأصحابه إذا بكروا عليه: لم لا نشرب أقداحاً على الريق فإنها تقتل الديدان وتحفش لأنفسنا قليلاً فإنها تأتي على جمبع الفضول وتشتهي الطعام بعد ساعة وسكره أطيب من سكر الكظة.

والشراب على المليلة بلاء.

وهو بعد ذلك دليل على أن نبيذي خالص.

ومن لم يشرب على الريق فهو نكس في الفتوة ودعى في أصحاب النبيذ! وإنما يخاف على كبده من سورة الشراب على الريق من بعد عهده باللحم.

وهذه الصبحة تغسل عنكم الأوضار وتنفي التخم.

وليس دواء الخمار إلا الشرب بالكبار.

والأعشى كان أعلم به حيث يقول: وكأس شريت على لذة وأخرى تداويت منها بها وهذا - حفظك الله - هو اليوم الذي كانوا لا يعاينون فيه لقمة واحدة ولا يدخل أجوافهم من النقل ما يزن خردلة! وهو يوم سروره التام لأنه قد ربح المرزئة وتمتع بالمنادمة! واشترى مرة شبوطة وهو ببغداد وأخذها فائقة عظيمة.

وغالى بها وارتفع في ثمنها.

وكان قد بعد عهده بأكل السمك وهو بصري لا يصبر عنه.

فكان قد أكبر أمر هذه السمكة لكثرة ثمنها ولسمنها وعظمها ولشدة شهوته لها! فحين ظن عند نفسه أنه قد خلا بها وتفرد بأطايبها وحسر عن ذراعيه وصمد صمدها هجمت عليه ومعي السدري! فلما رآه رأى الموت الأحمر والطاعون الجارف ورأى الحتم المقضي ورأى قاصمة الظهر وأيقن بالشر وعلم أنه قد ابتلي بالتنين! فلم يلبثه السدري حتى قور السرة بالمبال! فاقبل علي فقال لي: يا أبا عثمان السدري يعجبه السرر! فما فصلت الكلمة من فيه حتى قبض على القفا فانتزع الجانبين جميعاً! فأقبل علي فقال: والسدري يعجبه الأقفاء! فما فرغ من كلامه إلا والسدري قد اجترف المتن كله! فقال: يا أبا عثمان والسدري يعجبه المتون! ولم يظن أن السدري يعرف فضيلة ذنب الشبوط وعذوبة لحمه.

وظن أنه سيسلم له.

وظن معرفة ذلك من الغامض.

فلم يدر إلا والسدري قد اكتسح ما على الوجهين جميعاً! ولولا أن السدري أبطره وأثقله وأكمده وملأ صدره وملاه غيظاً لقد كان أدرك معه طرفاً لأنه كان من الأكلة.

ولكن الغيظ كان من أعوان السدري عليه.

فلما أكل السدري جميع أطايبها وبقي هو في النظارة ولم يبق في يده مما كان يأمله في تلك السمكة إلا الغيظ الشديد والغرم الثقيل ظن أن في سائر السمكة ما يشبعه ويشفي من كرمه.

فبذلك كان عزاؤه.

وذلك هو الذي كان يمسك بأرماقه وحشاشات نفسه! فتولد الغيظ في جوفه وأقلقته الرعدة فخبثت نفسه.

فما زال يقئ ويسلح! ثم ركبته الحمى! وصحت توبته وثم عزمه في ألا يؤاكل رغيباً أبداً ولا زهيداً ولا يشتري سمكة أبداً رخيصة ولا غالية وإن أهدوها إليه ألا يقبلها وإن وجدها مطروحة لا يمسها.

فهذا ما كان حضرني من حديث ابن أبي المؤمل.

وقد مات.

عفا الله عنا وعنه!