غابة الحق (1881)/التمدن

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة


الفصل الخامس

التمدن

قال الفيلسوف: إن التمدن في اللغة: الدخول في المدينة، وفي الاصطلاح: ناموسٌ يرشد الإنسان إلى تجويد أحواله الطبيعية والأدبية، وهذا الناموس يُبنَى على خمس دعائم، وهي أولًا: تهذيب تهذيب السياسة، ثانيًا: تثقيف العقل، ثالثًا: تحسين العادات والأخلاق، رابعًا: إصلاح المدينة، خامسًا: المحبة.

الدعامة الأولى: تهذيب السياسة

إنه لما كان نظام العالم الإنساني لا يمكن قيامه محفوظًا من كل خلل إلا بسياسته، كانت هذه الشريعة تقتضي تمام الالتفات إلى تهذيبها وتحسينها لكونها محورًا يدور عليه عالم كبير يستحق كل الالتفات إلى نظامه، ولا يوجد لهذا التهذيب أساس آخر سوى توطيد الحق وتحسين الهيئة؛ لأنهما المركز الأول الذي يتوقف عليه مدار السياسة العامة. ومتى طرأ على الأساس خللٌ ما لحق ذلك الخلل بكل ما بُنِيَ عليه، ولا يمكن استمرار ذلك الأساس وطيدًا إلا تحت جملة أحوال وهي: أولًا: حالة الشخص الذي يتعاطى السياسة؛ فهو يجب أن يكون رجلًا من أصل كريم وموسر؛ لأنه متى كان هكذا يوجد ذا تربية حسنة وصالحة، فيكون ذا صفات حميدة وأخلاق راضية حسبما يستلزم حسن التربية ويقتضي صلاح الأحكام. ثم يجب أن يكون مروضًا بالعلوم الرياضية والأدبية ومثقفًا بمعرفة واجبات الشرائع والقوانين؛ لأنه إذا كان جاهلًا هذه الأمور لا يكون قادرًا على تتميم خدمته ويعود حينئذٍ مضطرًّا إلى الاسترشاد من الأجانب أو تحكُّمهم، وهم ربما يضلونه أو يخونونه لأغراض ذاتية لهم؛ فتصير كل أحكامه عبثًا ويقع في نتائج اشمئزاز الجمهور. ثم ينبغي أن يكون فطِنًا نبيهًا لأنه إذا كان خاملًا لا تجد دقائق السياسة محلًّا في عقله فيضيع الحق وتضطرب الأحكام، ويروح المحقوق غالبًا والمحق مغلوبًا. ثم يقتضي أن يكون عادلًا؛ لأن العدل يثبت الحكم ويوطده ويجعل الحاكم محبوبًا من جميع الناس ممدوحًا من الأخيار مهابًا ومخافًا من الأشرار الذين لا لجام لجماح شرهم سوى هيبة الحاكم. وخلاف ذلك الظلم لكونه يهدم بناء السياسة ويعارض اتجاهات الحق ويلقي المقت والكراهية في قلوب الشعب، وينهج سبيلًا رحبًا لهجوم العصاة وتمزيق الهيبة، ثم يجب أن يكون قنوعًا؛ لأن الطمع نتيجة التوالع بالمال، وحيثما وُجِدَ الولع بالأموال يوجد الاحتشاد والارتشاد وهما الصفتان اللتان متى باشرتا قلب الحاكم أراغتاه عن الحق وجعلتا بينه وبين الصالح العام حجابًا كثيفًا، ثم أن يكون ذا أناة لأن الأناة هي الآلة الوحيدة لاستقصاء الحقائق من صدور الدعاوى حيث يقوم العلاج، أما العجلة فعليها يسافر الصواب. ثم ينبغي أن لا يكون سكيرًا؛ على أنه لا يوجد أعظم طارد للرشد والنباهة من مداناة الدن ومخامرة الخمر، فمتى ذهب رشد الحاكم فسدت الحكومة وبطل الحق.

ثم من الواجب أن يكون شجاعًا؛ لأن الشجاعة درع للرؤساء ودرع للمرءوسين، ولا عار أعظم من جبانة الرئيس؛ لأنها تُبقيه عاجزًا عن اقتحام صعوبات الرياسة وتصيِّره ريشة ترتجف لدى هبوب كل ريح.

ثم من الضرورة أن يكون غير ممازح؛ لأنه متى لازم المزاح سخرت به الناس واستهجنته، وربما استقلت بعقله فلا يعود أحد يعتبر أحكامه مهما كان حازمًا.

ولا شك أن وجود صفات كهذه في الشخص الذي يتناول زمام الحكومة قد يستلزم وجود نتائجها ما بين تبعته وحواشيه، وهو الأمر الذي له دخل كبير في واجبات السياسة. أما العكس فبالعكس، وذلك كالمركز الذي تتوقف استقامة أقطاره على استقامة وضعه، فبمقدار كونه مستقيمًا تستقيم، وبمقدار كونه منحرفًا تنحرف.

ثانيًا: حالة الاستواء؛ إن أعظم المقومات لصحة السياسة وإقامة الحق هو مجرى شرائعها متساوية على كل أبنائها بدون أدنى امتياز بين الأشخاص أو تفريق بين الأحوال. فلا يجب الأخذ بيد الكبير ودفع الصغير، ولا الالتفات إلى الغني والإعراض عن الفقير، ولا مؤازرة القوي ومواراة الضعيف، بل يجب معاملة الجميع على حَدٍّ سواء كي لا يقع خلل في نظام الحق؛ لأن كل فئة من الناس لها منزلة في طريق السياسة تستدعي النظر إليها، فكما أن العظماء والأغنياء هم القوة الواصلة، كذلك الصغار والفقراء هم الآلة الموصِّلة، فلولا يد الصغير لم يَطُل ساعد الكبير، ولولا تعب ذوي الفاقة لم تسهل متاجر أرباب الغنى ولم تحرس أموالهم ولم تقم قصورهم العالية وسرادقهم المشيدة. لعل ذلك الغني عندما يأتي من محل ملاهيه ومراسحه إلى مسكنه الوسيع، ويضجع على فراشه المصنوع من ريش النعام، وينظر إلى رقوش حجرته ونقوشها، لا يفكر في ذاك المسكين الذي بعد أن يكدَّ ويكدح طول النهار مقاسيًا حر صيفه، ومتكبدًا برد شتائه لأجل تشييد ذاك المسكن وتنميق تلك الحجرة، يذهب إلى كوخه الحقير ويأكل خبزته اليابسة مع أولاده العراة الجائعين، ثم يضجع على طراحته المنخرقة تحت لحاف الإعياء والوصب، فهل كل هذا التباين لا يكفيه حتى يرغب إيقاعه أيضًا في موقف الحق الذي يستوي عنده الجميع؟ وهل يسوغ لأرباب السياسة أن يقبلوا وقوع هذا التباين ويجحفوا بذلك المسكين الذي بدونه لا تصل قوتهم إلى مواقعها فلا يخافون من وثوب التسعة والتسعين وفرط عقد الجمعية؟ ولماذا يوجد حق لأصوات الأغنياء فترنُّ في قاعات السياسة، ولا يوجد هذا الحق لأصوات بقية الشعب الذين هم الجانب الأكبر والأهم، والذين بواسطتهم تقوم سطوة الممالك وقوات الملوك، وعليهم يتوقف مدار السياسات؟ فلا شك لسان السياسة نفسه ينادي بوجوب حالة الاستواء ويصرح ضد الضد.

ثالثًا: حالة المطابقة؛ إن منزلة السياسة من الهيئة الاجتماعية هي كمنزلة الدم من الجسد، فكما أن هذا السائل يقوم بتغذية الجسد وبدونه لا تثبت الحياة، هكذا السياسة تقوم بعول تلك الهيئة، وبدونها لا يثبت النظام. وكما أن الدم يجب أن يكون مطابقًا في مقداره ونسب أجزائه لما يحتاجه الجهاز العضوي بحيث إذا لم تحصل هذه المطابقة بزيادة أو نقصان أن لا تلبث الأعضاء على صحتها، وتقع في حالة الاضطراب الوظيفي. هكذا ينبغي أن تكون السياسة مطابقة بقوانينها وشرائعها لما يقتضيه واقع الحال بدون زيادة ولا نقصان، ومتى عدمت تلك المطابقة زاغت الهيئة عن واجباتها واضطرب كل نظامها، وكما أن السائل الدموي يستلزم التنقيص عند زيادته استدراكًا لوقوع الأمراض الالتهابية والزيادة عند نقصانه دفعًا لنهوض العاهات الافتقارية، هكذا يجب أن تعامل الأحكام السياسة في محكوماتها حذرًا من وقوع البلبال؛ فلا يستعمل الصرامة والقساوة والجور والانتقام مكان الرفق والشفقة والحلم والإغضاء، وبالعكس. بل يجب توقيع كلٍّ في محله مطابقًا؛ بحيث إذا زاد أو نقص يجب تعديله لإخلاله بالواجب السياسي. ولما كانت حوادث الهيئة الاجتماعية تختلف جرمًا وموقعًا كان لكلٍّ منها شأن يستوجب حكمًا يلائمه ويطابقه، ولكل حكم قوانين تناسبه وتشاكله. وهكذا تكون الأحكام وقوانينها مختلفة اختلاف الحوادث الجارية، فمتى استعمل الواحد محل الآخر نشأ خلل عظيم في نظام السياسة يستدعي خلل الهيئة جميعها؛ فلا يسوغ تنزيل واجبات الكبائر منزلة واجبات الصغائر، ولا يجوز إيقاع الحوادث العظيمة موقع الحوادث الحقيرة، بل يجب إعطاء كلٍّ حكمه ليستوفي كل حقه.

وبما أن الأحكام والقوانين تعتبر كأجزاء تؤلف جسم الشريعة في عالم السياسة، وجب أن يكون كلٌّ من هذه الأجزاء ثابتًا على نقطة وضعه؛ وبِناءً على ذلك نرى أنه متى زاغ أحدها عن الوضع المعين له، يقع حالًا في حركة الاضطراب ويستفز البقية إلى مشاركته في تلك الحركة، ولم يرجع إلى سكونه ويسترجع ما لم ينقطع تأثير الفاعل؛ بحيث إذا دام متواصلًا ينهدم بناء ذلك الجسم ويتشتت شمل أجزائه حسبما يتم في الأجسام الرنانة.

ثم ولا يستعمل الحرب مكان السلامة ولا السلامة مكان الحرب؛ لأن الواحد يبدد والآخر يجمع، ومتى نزل أحدهما منزلة الآخر تزعزعت أساسات الهيئة.

رابعًا: حالة الصالح العام؛ إن أهم دواعي السياسة وأعظم بواعثها هو النظر الدائم إلى الصالح العام وتواصل السهر عليه، بحيث مهما أتقنت السياسة نظامها وأحكمته ولم تلتفت إلى هذا الصالح أو تغافلت عنه، فلا تعتبر إلا كمساعد على نثر عقد الهيئة الاجتماعية الذي لا يمكن دوامه منظومًا ما لم تكن الملاحظة السياسة عاصمة له؛ إذ إن إهمال ما يسبب العمار هو تسبيب لوقوع الخراب، وهذه الملاحظة تنحصر جميعها في توقيع ما يَئول نفعه إلى العامة إجمالًا وإفرادًا، ودفع ما يقضي إلى الضرر. وذلك يستريح على خمسة أركان؛ وهي: تمهيد سبل العلوم، وتسهيل طرائق التجارة، وتقوية وسائط الصنائع والأشغال، ومساعدة الزراعة والفلاحة، وقطع أسباب التعدي.

أما الركن الأول: الذي يناط بتمهيد سبل العلوم: فهو يتضمن المساعدة على تشييد المدارس وتسهيل الدخول فيها لأجل كل من يرغب، وترقية الناجحين بالدراسة على قدر الاستحقاق.

وأما الركن الثاني: الذي يلاحظ تسهيل طرائق التجارة: فهو يتوقف أولًا: على تقريب أبعاد الأسفار بواسطة إصلاح الطرقات. ثانيًا: على إزالة مخاوف ومعاثر الطريق وإيقاع الأمان والسهولة. ثالثًا: على وضع حدود ونظامات تجري على كل أرباب هذه الحرفة؛ بحيث لا يمكن أحدًا تجاوزُها، رابعًا وهو الأخير: على منع كل الصعوبات التي يمكنها صدم تقدم التجارة وإبطال كل عائق لسيرها.

والركن الثالث: الذي يخص تقوية وسائط الصنائع والأشغال: فهو يتأسس أولًا: على إثارة هم ذوي الاختراعات بتعظيم جوائزهم ورفع شأنهم وتثبيت ما به يمكنهم اقتطاف ثمرات أتعابهم، ثانيًا: على توسيع دوائر الأدوات الصناعية وتضييق مساحة التلف والمصاريف، ثالثًا: على رفع كل ما يوقف الخطوات عن الهجوم إلى معاناة الأشغال، أخيرًا: على المساعدة في تكثير المعامل وتسهيل مجراها.

وأما الركن الرابع: الذي يتعلق بمساعدة الزراعة والفلاحة: فهو يقوم برفع الجور عن الفلاح وفتح الطريق للزُّرَّاع، وتعجيل خطوات الحصاد ومنع حشر العشار واحتشاد الخزان، وبملاشاة كل موانع البدار وتسديد جميع مطاليب الأرض.

وأما الركن الخامس: الذي يشمل رفع أسباب التعدي: فهو يستوي على ثلاث قضايا فقط، وهي: حماية المتاع، وصيانة الاعتبار، ووقاية الأرواح.

الدعامة الثانية: تثقيف العقل

إنه إذا فُحص الجوهر الإنساني من حيث فطرته الأولى وأصله الطبيعي، إنما يشاهَد لامعًا بكل الصفات الساذجة والخصال البسيطة حسبما يتبين ذلك من كل إنسان يتربى منفردًا عن ازدحامات عالم المخالطة. ولما كان عظم لطافة هذا الجوهر وشدة احتياجه إلى وقاية نفسه سببًا فعالًا لقبوله التأثُّر بكل صورة تلوح له، والتخلق بكل سمة يحافظ بها على ذاته؛ كان انضمامه في سلك الجمعية إذ ذاك موجبًا لانطباع صور الحوادث الاجتماعية والوقائع الأدبية على ستائر قلبه وتطبُّعه بأخلاق وطباع بها يمكنه أن يعارك ويزاحم أمواج العالم البشري تحت لواء حوادثه.

غير أن كثرة تقلُّبات الأحوال والأجيال تأدت به إلى أن يفقد كل أطوار تلك الفطرة الأولى، ويصير من أَشَرِّ المخلوقات وأوحشها؛ ومن ثَمَّ لم يَعُدِ الإنسان قادرًا على الدخول في دائرة التمدن الذي يطلب سذاجة الصفات وسلامة الطباع إلا إذا كان متزينًا بتثقيف العقل الذي يعتبر كآلة عظيمة بها يمكن لكلٍّ من البشر أن يسترجع إلى طبيعته ما أفقدها التوحش.

ولا يتم هذا التثقيف إلا بالتروُّض في العلوم والفنون ودراسة المعارف الطبيعية والأدبية. ومن المعلوم أن العلم يخلق في الإنسان قلبًا نقيًّا وروحًا مستقيمة، ويجعله ظافرًا بكل الصفات الصافية ونافرًا عن كل ما يشين الجوهر الإنساني، ولا يترك له سبيلًا إلى التفكُّر في الأمور الدنيَّة والأميال المنحرفة؛ وهو الأمر الذي تشتق منه كل أفعال الشر، وعليه تُبنى كل دعائم التوحش. فكيف يفكر الإنسان مثلًا في دناءة السلوك عندما يكون الفلك طائرًا به إلى أعالي الإجرام السماوية حيثما يرى ألوف ألوف وربوات ربوات من النجوم التي هي شموس هائلة الحجم، وكلٌّ منها جالس على عرش الفضاء ثابت في مركزه، وتدور حوله كواكب سيارة مختلفة الأبعاد والأشكال، وجميع ذلك له من السموِّ والعظمة ما يخبر بعظم أعمال الله. وكيف يأخذ بذهنه الهتك بالقريب بينما تكون الطبيعة هاتكة له أسرارها ومبدية لديه غوامضها؛ فإذا نظر إلى الأرض يراها تدعوه إلى تمييز تراكيب طبقاتها وتعديد مفردات عناصرها ومعرفة نسبة كلٍّ من موادها إلى غيره. وإذا تأمل في الحيوان يراه باسطًا أنواعه لدى حكمه وطالبًا منه فصل كلٍّ عن الآخر، وإذا لحظ النباتات يراها كأنها تدعوه إلى معاينة عجائب نموِّها وماهية جوهرها وكيفية تغذيتها وعملية إنتاجها وتأثير خاصياتها، وكأنها تكلفه إحصاء كلٍّ من أنواعها وتحديده تكليفًا فوق وسعه.

وكيف يرتضي بعمل المنكرات حينما تكون الكيمياء مقدمةً له مشكلاتها وطارحةً عليه مسائل غوامضها، فما ينتهي من معرفة صفات عنصر منها وإدراك نسبة اتحاده بغيره وكيفية قوامه إلا ويبرز لديه عنصر آخر ويدعوه إلى تفنيده فيذهب خابطًا في عباب المشكلات حيثما يقابله مولِّد الحوامض بإيقاده وإنارته، ويطارحه مولِّد الماء برشاقته ولهيبه، ويناقشه حامل الأنوار بلمعانه وإضاءته، ويدهشه الذهب بثباته، وتذهله الفضة بوضاءتها ونقاوتها، ويلطمه الحديد بكثافته وصدئه، ويحيره الزئبق بفراره ونفاره.

وكيف يسمح لأمياله أن تسرح في عالم الشرور والمعاصي حيثما تكون الجغرافية سارحة به على ظهر هذه الكرة الأرضية المملوءة من عجائب الخليقة وغرائب الحوادث. فتارة تطير به إلى قمم الجبال العالية فيرى ما بها من الأودية العميقة والسلاسل المستطيلة والينابيع الجارية؛ فيفكر فيما سبَّب المرتفعات وما أحدث المنخفضات وما جمع المياه. وأحيانًا تمر به على السهول الواسعة والبحار الشاسعة والأنهار المتدفقة؛ فيقف متفكرًا فيما جمَّد اليابسة وجمع السوائل إلى مكان واحد. وأوقاتًا تسيح به في الأقاليم والأقطار فيستوقفه اختلاف العرض والطول في ميدان التأمل لتباين المناخات والأهوية، وطورًا تترحل به إلى بلاد لا عدد لها وأماكن لا تُحصى، وجميعها تختلف باختلاف المواقع والوقائع؛ فيقف متحيرًا بما تحويه الأرض من الأمم والقبائل المختلفة بالمذاهب والمشارب والهيئات. ومندهشًا لما يراه من أحوال البلدان والسياسات والشرائع، وممعنًا فيما يعاينه من الصنائع المتنوعة الأشكال والتجارات المتشكلة الأحوال، وهكذا يطوف به هذا العلم إلى أقاصي العالم بدون أن يترك له سبيلًا للجَوَلان في عالم المآثم وهو جالس على وسادته غير مبارِح صديقًا ولا مفارق حبيبًا.

وكيف لا يبدل الأعمال الرديئة بالصالحة عندما يكشف له التاريخ حجب الأجيال الغابرة ويطلعه على كثيرين من البشر الذين كانت أعمالهم سببًا لأحوالهم إن رديئة فرديئة أو صالحة فصالحة. ويظهر له كثير من الناس الذين بواسطة سموِّ أفعالهم قد بلغوا أسمى المراتب وأعلى المنازل، وكم وكم من الناس الذين بواسطة دناءة أفعالهم قد هبطوا إلى الحضيض، لا بل يظهر له أن كثيرًا من الممالك العظيمة القوة والراسخة الأركان قد أفضت بها قبائح السلوك إلى الاضمحلال والملاشاة، وكثيرًا من الولايات الصغيرة قد آلت بها قوة الأطوار الحميدة إلى الاتِّساع والامتداد ورفعتها إلى سماء المجد والكرامة، وخاصة يظهر له أن أفعال الخشونة والتوحُّش ليس كانت تبدُّد الممالك وتستأصل الملوك فقط، بل كانت أيضًا تشتت العباد وتهدم البلاد مهما كانت حصينة وغنية. أفلا يشعر بحركة غامضة في أعماق قلبه تدعوه إلى احتقار العظمات الإنسانية والفخفخات١ الكاذبة وتجذبه إلى الاتصاف بالصفات السليمة والتخلُّق بالأخلاق الحميدة؛ وذلك حينما تمتطي تأملاته السرية خيول التاريخ، وتجري في برية سوريَّا مثلًا حيثما يشاهد أن عظمة ذلك الإقليم القديم العهد والكريم التربة والأصل قد استحالت بفعل الأجيال الخشنة إلى دمارٍ مهول؛ حيث لا يرى سوى خرابات تلقي الكآبة على الأبصار، وعدد قليل من الشعوب المفتقرة بدل تلك العظمات السابقة والمجد الزاهر والغنى الوافر. أفلا يطرق تأسفًا إذ يرى صور مدينة الفينيقيين التي كانت مركز تجارة العالم ومحطَّ رحال الآمال قد صارت نسيًا منسيًّا ولم يبقَ فيها سوى شباك الصيادين؟ أفلا يرتعد لدى سطوة الحدثان حينما يرى أورشليم مدينة داود ومحل عظمة سليمان قد أصبحت قريةً لا يُذكر منها سوى المحلات التي لم يحفظها سوى يد القداسة؟ أفلا يضطرب مخافة من بوائق الزمان عندما يرى أنطاكية مدينة الله العظمى ذات الأسوار العالية والحصون المنيعة قد أضحت رمَّةً مضجعة في قبر أنوبال؟ أفلا يرتجف لدى هيبة الأيام إذ يرى مدينة تدمر التي كانت مبنية بالصفاح والعمد قد صارت أطلالًا دارسةً ورسومًا بالية حتى لا يشاهد فيها سوى عواميد هابطة وعضايد ساقطة وهياكل مهدومة؟ أفلا يهجس كربًا إذ يعاين أن منبج ذات الصيت الرنان قد غدت كالسمك الذي لا صوت له؟ أفلا يقف متحيرًا عندما يصعد على رأس سمعان ويرى أن جميع ما كان يحويه من المدن العظيمة والقرى الخصبة والمزارع الناضرة والأديرة العامرة والكنائس الرحبة قد صار خرابًا تامًّا ودمارًا لا مزيد عليه بحيث لم يبقَ سوى بعض رسوم وأشكال؟ وبعد هذا فلا تسحقه صواعق الاشمئزاز عندما يتأكد أن جميع هذا الخراب هو نتيجة الجهل والتوحش؟

فبالإجمال نقول إن العلم هو الفاعل الأعظم لتثقيف العقل والمروِّض الأكبر لجماح الطبائع، والسبب الأهم لتشييد التمدُّن والعمار إذ هو يرفع أفكار الإنسان إلى الحقائق السامية فلا تعود دائرةً على مستحقرات الأشياء، ويرسم في مرآة ذهنه صور الكائنات الدقيقة فلا يعود هاذيًا بخزعبلات الأمور فتنطفي من قلبه توقُّدات الحسد بنظره إلى زوال المحسودات، ويطرد من صدره ضواغط الطمع بإدراكهِ حقيقة المطموعات، وتتلاشى من روحه بقية الأطوار المنتجة رجسه الخراب كالقساوة التي غرَّقت مراكب مصر، والالتطاخ الذي هدم قصور آثور، والتغفُّل الذي كسف شمس فارس، والطمع الذي كسر صولجان مكدونية، والضغينة التي مزقت أحشاء فلسطين، والكبرياء التي ثلَّت عرش الروم، والخيانة التي قلبت ممالك الرومانيين، والبغض الذي شتت شمل لبنان وزعزع أركان دمشق.

ثم تنمو به الصفات الداعية إلى جلالة العمار كالشجاعة والنباهة والمحبة والاتِّضاع والدعة والإحسان والوفاء والأمنية؛ إذ يعود خبيرًا بغوائل تلك الأطوار الطالحة، وعليمًا بنتائج هذه الصفات الصالحة.

فبدون تثقيف العقل إذنْ لا يعدُّ الإنسان إلَّا مع البهائم التي لا عقل لها ولا يمكن أن يدعى متمدنًا قط.

الدعامة الثالثة: تحسين العوائد والأخلاق

إن النظر إلى عوائد البشر وأخلاقهم يعتبر كأعظم دليل على حالة تمدُّنهم ومقامه، فكلما كانت هذه العوائد والأخلاق جيدةً كان تمدُّن أربابها جيدًا وعاليًا، وكلما كانت قبيحةً كان قبيحًا؛ ولذلك يجب على الشعب الداخل في دائرة التمدُّن أن يبذل الاعتناء كثيرًا في تحسين عاداته وأخلاقه كي لا يكون تمدُّنه من باب الدعوى لا الحقيقة كما يشاهد ذلك في كثير من الأمم، ولما كانت العوائد والأخلاق تارة تعتبر في الخصوص وأخرى في العموم وجب أن يكون كلامنا عليها خاصًّا وعامًّا.

أولًا «الخاص»: إن المراد هنا هو النظر إلى تحسين العادات والأخلاق الشخصية؛ أي التي تخص الشخص المفرد، وهي إما طبيعية أو أدبية؛ فالطبيعية تدعى مَلَكات، والأدبية عادات. وجميعها يرجع إلى التطبع لأنه الأصل لجميع هذا الباب؛ ولذلك يجب عليه أن يكون المدار. فنقول إن الإنسان حينما يولد على الأرض يكون خاليًا من جميع العوائد والأخلاق جيدة كانت أو رديئة، ولا يوجد فيه شيء سوى الاستعداد إلى التطبُّع، فإذا كان استعداده جيدًا مالَ إلى قبول الجيد، وإذا كان رديئًا مال إلى قبول الرديء. فلا يوجد لتحسين العادات والأخلاق الشخصية أهم من إخضاع الاستعداد الإنساني منذ نعومة الأظفار إلى التطبع بالطبائع الحسنة والتخلُّق بالأخلاق الجيدة. على أنه في هذه المدة من الحياة تكون الطبيعة شديدة الخضوع لقبول التأثيرات والانفعالات؛ فلذلك كل عادة وُجدت في الحداثة ولم تستدرك طبعت أثرها على الفطرة وكانت مَلَكة عند الكبر لا تسمح باستئصالها إلا تحت مشاقِّ التعب الزائد وهكذا كل خلق. ومتى حصل الانتقال إلى سن البلوغ فصاعدًا صار التطبُّع صعبًا جدًّا على الطبيعة ولا يعود للمَلَكة سلطان عليها، بل تصير خاضعة لغلبة العادة التي ليس لإزالتها صعوبة. أما كيفية ذلك الإخضاع للاستعداد الإنساني، فهي تتم بإمالة الأميال عن التطبعات بالعوائد والأخلاق المنكرة وإلحاقها بالمقبولة، ولا يمكن التسليم بكون الشخص متمدنًا ما دامت عوائده وأخلاقه غير موافِقة لما يقتضيه التمدن من التعود والتخلق.

فلا يتفق التمدُّن مع مَلَكة السكر؛ لأن ذاك يطلب تقوية أفعال العقل بتصحيح التصور وإصلاح الحكم وتنشيط الذكر، وهذه تقتضي إضعاف الأفعال العقلية بإيقاع الخمول وإفساد الأحكام وإلقاء الهذيان. ذاك يستلزم حسن الصفات كالأناسة واللطافة وعزة النفس، وهذه تستدعي قبح الأوصاف كالتوحش والكثافة والدناءة. ذاك يطلب الالتفات إلى الأعمال والأشغال والنشاط، وهذه تطلب البطالة والتواني والكسل. ذاك يستميل إلى المحافظة على الصحة ورفع أسباب الأمراض، وهذه تطرد كل قانون صحي وتفتح سبيلًا عظيمًا لنهوض كل مرض عضال كالحدار والتيبُّس وسوء الهضم والاستحالات الآلية ونحو ذلك.

ولا يتفق التمدن مع عادة النهم؛ لأن ذاك يطلب الاقتصار على كفاية الطبيعة طبق إنسانيتها، وهذه تطلب تحميلها فوق طاقتها فتُكسيها الأخلاق البهيمية. ذاك يطلب الترتيب في المعيشة حذرًا من وثوب الاحتياج، وهذه تقتضي كثرة الانهماك فتكون داعية إلى الحاجة.

ولا يتفق التمدن مع ملَكة الفجور؛ لأن ذاك يستلزم الطهارة والعفة، وهذه تستجوب الدنس والشهوة. ذاك يلتمس الدعة والتعقل، وهذه تبغي الشراسة والحمق. ذاك يطلب الاستحياء والأدب، وهذه تقتضي الوقاحة والعهارة.

ولا يتفق التمدُّن مع خلق الكذب؛ لأن ذاك يطلب الاستقامة والحقيقة، وهذا يقتضي الاعوجاج والتزوير. ذاك يستلزم الأمانة والثقة، وهذا يستدعي الخيانة والنكث. ذاك يدعو إلى النصيحة والتحريض، وهذا يستميل إلى الخديعة والغش. ذاك يجعل الإنسان مكرمًا محبوبًا، وهذا يصيره مهانًا مبغوضًا. ذاك ينهج بصاحبه طرق السعادة والغنى، وهذا يطرحه في وهاد النحس والفقر.

ولا يتفق التمدُّن مع عادة النميمة؛ لأن ذاك ينادي بقبح الكشف عن الأعمال السرية للبشر، وهذه تصرخ بإعلانها لدى الآفاق. ذاك يسدل ستارة الخفاء على كل النقائص والعيوب، وهذه مهتمَّة بخرق كل ستارة. ذاك يفتح صدر الإنسان لدخول الأسرار فيه، وهذه تغلقه وتجعل صاحبها مجتنبًا من جميع الناس وممقوتًا.

ولا يتفق التمدن مع خلق الغضب؛ لأن ذاك يطلب الهدوَّ والتأني في الأمور، وهذا يطلب الضوضاء والعجلة. ذاك يطلب إرضاء الناس واستمالتهم، وهذا يستلزم إسخاطهم وتنفيرهم. ذاك يقتضي البشاشة والطلاقة، وهذا ينتج الوجوم1 والقنوط. ذاك يجذب بركات الجماعة إلى وجه صاحبه، وهذا يسبب اللعنات. ولا يتفق التمدُّن مع الجبن؛ لأن ذاك يطلب الثبات والصبر على الأهوال والمصايب، وهذا يطلب التقلقل لدى كل حادثة. ذاك يقتضي الإقدام على تشتيت المخاوف والمزعجات، وهذا يقتضي الفرار من كل شيء. ذاك يستوجب استصغار المستكبرات، وهذا يقتضي استكبار المستصغرات.

فجميع هذه العادات والأخلاق الشخصية وأشباهها ممَّا لم يُذكر لا يمكن اتفاقها مع قوانين التمدن؛ ولذلك يجب استئصالها من الناس وتربيتهم على أضدادها ولو دعا الأمر إلى صعوبة قصوى، وبهذا يقوم التحسين المطلوب هنا في الكلام الخاص.

ثانيًا «العام»: إن كرور أزمنة الجهالة على بعض البشر وتقلبات الظروف فيما بينهم قد أحدثت فيهم كثيرًا من العوائد والأخلاق التي تنكَر عليهم إذا دخلوا في نظام التمدن؛ ولذلك يجب أن يجتهدوا كثيرًا في إزالتها ويستبدلوها بما يناسب روح العصر. فلا يعتبر أولئك المدَّعون بالتمدن إذا كانت بيوتهم مشحونة بالأثاث العقيم كالفضة والنُّحاس وأنواع الخزف والأقمشة، ولم يوجد فيها كتاب أو مُياومة ولا أدنى آلة للعلم. لكنَّما اعتبارهم يقوم إذا كانوا يعلمون أن زينة العقل تفوق زينة المسكن، وأن هذه نتيجة الأجيال المظلمة التي كانت تنطبق على الفخفخات والعظمات الفارغة، وتلك نتيجة الجيل المتنوِّر الذي لا يقبل ما لا نفع فيه.

ولا تُعتدُّ بهؤلاء المتظاهرين بالتمدُّن إذا كانت رءوس نسائهم تتشعشع بأنوار الأحجار الكريمة ذات الثمن الوافر والعديمة الثمرة، ولم يكن في تلك الرءوس أدنى شعاع للعقل والآداب، بل يُعتدُّ بهم إذا رفعوا جميع تلك الظواهر الخيالية وأثبتوها للنفقة على تعليم نسائهم وتهذيبهن، كما أنهم لا يعتبرون أصلًا مهما ضيقوا أثوابهم وأطالوا خيزراناتهم وهرولوا مسرعين إذا لم يوسعوا أفكارهم ويقيدوا جماح أميالهم المنحرفة.

ولا اعتبار لأولئك الذين ينفقون المبالغ الوافرة على تجهيز المآدب الفاخرة والولائم الحافلة في أيام المواسم والأعياد. ولا يدفعون فلسًا واحدًا لعمل الخير، لكنهم يُعتبرون إذا جعلوا ذلك الإنفاق مخصوصًا للأعمال الخيرية وعلموا أن عظمات المآدب والولائم إنما كانت معتبرة في هياكل الوثنيين عند تقديم الضحايا لآلهتهم يوم الموسم أو العيد.

ولا يُعدُّ مع المتمدنين أولئك الذين يتسابقون مسرعين إلى منازل بعضهم في الأيام الموسومة عندهم بالرسمية خابطين تحت شمس الصيف وغباره، وخائضين في أمطار الشتاء وأوحاله. ولا يوجِّه أحد منهم خطوة واحدة إلى فعل الجميل، وإذا وُجد منهم من يقصد ذلك الفعل سَدَّ الآخرون طريقه بحجارة الملامة، كما يرجمونه بها لو تأخر في مسابقتهم إلى قضاء تلك الرسوم الباطلة.

ولا يقبل التمدن مَن تثور في أعراسهم صيحات زغاريت النساء وصراخات جوقات الرجال، خصوصًا حينما يكون صدوح آلات الطرب داعيًا إلى الهُدوِّ والسكوت، فهم يجمعون بين المتضادات؛ إذ يتركون الآذان مصدوحة ومرتاحة معًا فلا يشتَمُّون رائحة التمدن ما داموا معتنقين هذه العادة الخشنة.

ولا ينخرط في سلك المتمدنين كل أولئك الذين متى دخلت المنية بيت أحدهم نهضت ضوضاء الولاول وطارت صراخاتها الذريعة إلى قبة السماء؛ بحيث تَقْشَعِرُّ الأبدان انفعالًا منها ويستولي الكمود والانزعاج على كل سامعيها. ولكن قد يضمون إلى عقد التمدن بشرط أن يُبطلوا هذه العادة القبيحة ويعلموا أنها موروثة من أزمنة عرب الجاهلية الذين كانوا يكلفون الطبيعة الإنسانية في هذا الأمر ما تستعمله بعض الحيوانات، ويتحققوا أن إنسانيتهم تكون ساقطة سقوطًا حقيقيًّا حتى إنها لم ترث من أولئك القبائل سوى تلك العادة المستقبحة، وتركت كل ملائحهم الجليلة مثل الكرم والنخوة والحماسة وحماية الجار وقبول الضيف وهلم جرًّا.

وهكذا لا يُدعَون متمدنين كل الذين يجعلون الحزن شريعة ظالمة إلى حد أنها لا تسمح قط لمن يدخل تحت لوائها أن يستعمل أدنى شيءٍ من لوازم الطبيعة إلا بعد بضع سنين؛ فلا يمكنه أن يخفِّف عنه حرارة الصيف بلبس الثياب البيض ولو اقتضى ذلك إلى الإضرار بصحته، ولا يقدر على تنقية جسمه من الأوساخ وتنشيط وظيفة التبخير في ذهابه إلى الحمام ولو افترس القمل جلده وأهلكه الاستقساء، ولا يستطيع الخروج إلى البستان لأجل استنشاق الهواء النظيف ولو تسرطن جميع دمه، ولا يؤذن له بسماع آلات الطرب أو أصوات الغناء ولو أوقعته الأكدار في داء المراق، ولا يسوغ له أن يصنع في بيته شيئًا من المأكولات الطيبة عند إحساسه بقبولها حذرًا من قول الناس عنه إنه قليل الحس، ولكنهم قد يُحسبون من أرباب التمدن متى علموا أن الحزن شريعة تطلب عكس ما ينسبون إليها، وأنه انفعال كلما حدث في النفس لا يكف عن استنهاض ضده إيقاعًا لرد الفعل، وكلما كان وقوع الفعل شديدًا أو سريعًا كان رده شديدًا أو سريعًا.

وهيهات أن يُحسبوا متمدنين كل أولئك الذين يشرعون إذلال النساء وتحقيرهن وإهانتهن وربما ضربهن أيضًا؛ بِناءً على أن هذا الجنس ساقط ولا يستحق أدنى اعتبار، مع أن الأمر على خلاف ما يظنونه؛ فإن الجنس النسائي جوهر لطيف للغاية وأهلٌ لكل كرامة ويستحق كل الالتفات إليه، والطبيعة نفسها تدعو إلى إكرامه ومُداراته؛ إذ إنه الجزء الأهم في الإنسانية، والمساعد العظيم لقيام الجنس البشري والينبوع الأول لتغذية الحياة ومواساتها في زمن قصورها.

ولا يُحسب متمدنًا ذلك الرجل الذي يزعم أن الإفراط في معاشرة النساء ومخالطتهنَّ من واجبات التمدن غير عالِم أن كثرة التهافت على المرأة تجعل الرجل ذليلًا لديها، وكلما عز نفسًا ارتفع عندها مقامًا.

ولا تخلو سيماء التمدن على أولئك الذين عندما يتكلمون أو يتخاصمون يفغرون أفواههم ويرفعون أصواتهم إلى درجة تمزيق أوتار حناجرهم، حتى يكادوا يشاركون الجمل بجعجعته والثور بعجعجته والحمار بنهيقه. مع أن غاية التمدن هي نزع كل سمة بهيمية عن الإنسان. ولا تَحسن ثياب التمدن على كل أولئك الذين يُنزلون الخرافات منزلة الحقائق وينذرون بها على الآفاق غير عالِمين أنه لا شيء يدنس تلك الثياب النقية ويلطخها نظير اعتناق الأكاذيب والأباطيل وإشاعتها. فهم تارةً ينسبون إلى بعض الحيوانات خاصياتٍ لو أمكن وجودها لكان الإنسان خليقًا بها، وكذلك كنباح الكلب دلالة على حدوث مصيبة، ونعق البوم إشارة إلى وقوع خراب، وهروب الطيور علامة على قدوم وباء. وتارة يتهمون الأفلاك بما تفعله الظروف والأقدار؛ إذ ينسبون إليها كل الحوادث التي تتم على الأرض عمومًا وخصوصًا؛ فيعطون الحرب للمريخ والسعد للمشتري والنحس لزحل والذكاء لعطارد وخفة الروح للزهرة والصقاعة للقمر وطبخ المعادن للشمس. هذا عدا أمور لا تُعد ولا تحصى ينسبونها إلى كلٍّ من هذه الأجرام التي تقسم بذواتها إنها لا تعرفهم، ولم تطرح عليهم قط لا حربًا ولا سلامة ولا سعدًا ولا نحسًا ولا غير ذلك فضلًا عمَّا ينسبونه إلى العين من التأثيرات وإلى الأحلام من التفسيرات.

فلا يمكن لأحد أن يحسن عوائده وأخلاقه التمدنية إلا إذا رفع من فكره الاعتقاد بمثل هذه الأكاذيب عالمًا أنها واصلة إليه من خرافات اليونانيين الذين كانت عباداتهم ورسومهم تسمح لهم أن يعتقدوا بمثل هذه الأضاليل.

وبالإجمال نقول: إنه يوجد شوارد شتى مما يقتضيه مقام هذا الكلام العام قد عدلنا عن جمعها حبًّا في الاختصار، إلا أنا نختم سياقنا هذا قائلين: إنه لا يمكن للتمدن أن يقبل في نظامه أدنى عادة قبيحة أو خلق رديء، ولا يقدر أحد على الدخول تحت ألويته ما لم يحسن عاداته وأخلاقه.

الدعامة الرابعة: صحة المدينة

إن أول شيء يُستدل به على تمدن أمة ما أو توحُّشها هو النظر إلى حالة مدينتها، فكلما كانت المدينة صحيحة كان التمدن صحيحًا، وكلما كانت سقيمة كان سقيمًا، أما كيفية هذه الصحة المدنية فهي تقوم تحت جملة أحوال، وأخَصها ثلاث: أولًا «النظافة»: إنه لا مناص للمتمدنين من بذل مزيد من الاجتهاد والاعتناء بتنظيف أسواقهم ومنازلهم تسديدًا لطلب الطبيعة نفسها؛ لأن المراد من ذلك ليس نوال الغاية الأدبية وحدها، بل الغاية الطبيعية أيضًا وهي إراحة الطبيعة الحيوية ممَّا يقلق نظامها ويزعج وظائفها، ولا يوجد خطْب أشدُّ تأثيرًا على هذه الطبيعة من دخول المواد الغريبة عنها إليها لا سيما إذا كانت مفسودة، فكما أن بعض الجواهر المعدنية لغرابة تركيبه يزعزع أركان البناء العضوي للجهاز الحيواني ويسلب مجموع حياته متى دخل إليه؛ هكذا تفعل الانبعاثات الفاسدة بالأوخام والأقذار عندما يحملها الهواء ويدفعها إلى عضو التنفس حيثما يتناولها الدم ويمر بها إلى مواقع التغذية. فكم تقاسي الطبيعة من الاضطرابات المرضية المميتة؟ وكم تلتمس الإنقاذ بلسان حال الانزعاج الوظائفي عندما تمازجها هذه المواد الغريبة؟ فهي السبب الأعظم لتهييج الحميات الخبيثة كأنواع التيفوس والتيفوئد، كما أنها سبب قوي لتمهيد طريق الوافدات الوبائية المهلكة كأنواع الطاعون والهواء الهندي. وبالإجمال نقول: إن الغاية الوحيدة للطبيعة هي قبول ما يناسبها لقيام حياتها ودفع ما يستنزل عليها صاعقة الموت بمغايرته لها ولو كان صادرًا عن ذات فعلها. ألا ترى كيف أنها تجتهد في طرد التراكيب الصديدية التابعة لالتهاب ما عضويٍّ إلى الخارج بواسطة النفث أو الغائط أو الاستطراق من المركز الانفعالي إلى بعض جهات المحيط البدني، حتى إذا لم يمكنها تتميم هذه العملية ودخل الصديد الفاسد إلى التيار الدموي ألقى عليها رعدة الاضطراب بإفساد جميع كتلة الدم وأماتها بعد نزاع شديد.

فإذا كانت الطبيعة لا تقبل ما يغرب عنها ولو كان آخذًا صدوره من ذات أجزائها لعدم نفعه لها، فكيف تقبل ما يكون غريبًا وأجنبيًّا معًا، ومن حيث إن الأقذار والأوساخ لها أشد الأفعال السمية كما سبق. فلا يسوغ — والحالة هذه — تغافُل أرباب التمدن عن ملاشاتها، ويجب الاعتناء الوافر بحفظ النظافة العامة للأسواق والشوارع، والخاصة للبيوت والمساكن فرارًا من تلك التأثيرات الرديئة ومراعاةً لحق المدينة. ولا شك إذا نظرنا إلى العمل البديهي الذي تصنعه الحيوانات بتنظيف ذواتها نأخذه دليلًا على ضرر القذارة ووجوب النظافة ومثالًا يقتدي به كل متغافل؛ إذ إن الحيوان لا يفعل إلا ما ترشده الطبيعة إليه طلبًا لما يصلح شأنها ودفعًا لما يفجع بها.

ثانيًا «تمهيد الشوارع والأزقة»: إنه ممَّا يستدل أيضًا على الحالة التمدنية لقومٍ ما هو ملاحظة كيفية الشوارع والأزقة، فمن أهم الواجبات للداخلين في التمدن إذن إفراغ الهمة في تحسين هذه الكيفية وإتقانها، على أنه لا يسمح لهم التمدن قط بترك الشوارع والأزقة ضنكة معوجة رديئة التبليط والتخطيط، بل يطلب منهم دائمًا أن تكون مستقيمة عريضة ممهدة البلاط والخط؛ وذلك لأن الشارع أو الزقاق إذا كان ضنكًا يمنع سهولة تجدُّد الهواء ويعوق امتداد النور إلى مخادع الناس أو حوانيتهم؛ فيجلهم مستعدين للآفات الليمفاوية والدرنية كالسرطان والخنازير والسل والأورام الباردة والحدار واكمداد البشرة ونحو ذلك. وإذا كان معوجًّا فإنه يعسر انطلاق خطوات الناس فتتعثر أرجلهم وتتلاطم صدورهم وتتقارع جباههم؛ وحينئذٍ يكون السير في الزقاق عراكًا لا انتقالًا، وإذا كان وعرًا مستويًا فإنه يصدع أقدام الماشين ويسبب سقطات البهائم تحت أحمالها الثقيلة؛ فتتهشم حوافرها وتتكسر أرساغها، وذلك ينافي ما تطلبه الشفقة على البهائم التي لا نطق لها لتشكو مصابها وتندب عذابها، هذا ما خلا المؤيدات التي يجدها الشتاء هناك لأن يصنع بحيرات من الأوحال والأطيان بحيث يعود الناس ملتزمين لقوارب يخوضون بها ولا يبقى سبيل لسلوك العميان. ثالثًا «ترميم الأبنية»: وممَّا يتخذ دليلًا على تمدن المدينة أو خشونتها هو ملاحظة أمر أبنيتها؛ ولذلك يقتضي لقاصدي التمدن وُفور الاهتمام في إصلاح شأن الأبنية والمشيدات، وهذا يتوقف على فحصها كل مدة لاستعمال حالة متانتها وثباتها فرارًا من حدوث الأخطار؛ لأنه متى ترك الناس جسرًا لعبور السنين بدون ملاحظة أمره أحدثت فيه طول الزمان تقلقلًا ووهنًا فيعود خطر هبوطه قريبًا، وخصوصًا في أيام الشتاء عندما يصبح عُرضة لصدم الرياح واندفاق الأمطار فإن سقوطه إذ ذاك يكون عظيمًا. ولما كان تعرض الناس إلى اقتبال هذا الخطر كثيرًا وجب على جميعهم تواصل التدقيق على حالة الأبنية من الداخل والخارج لكي يمنعوا بذلك أخطارًا عظيمة تنهددهم على ممر الدقائق ويدخلوا إلى منازلهم بسلام آمنين.

الدعامة الخامسة: المحبة

هو ذا رنين صوت الكون العالي يدوِّي في أعماق العالم العقلي ليستفز سكون الأرواح الفكرية إلى التطايُر بأجنحة التخيُّلات السرية على دوح الوجود العام، حيثما يمكنها اختطاف تصورات تدعو القوة الحاكمة إلى أن تحكم بأن الناموس الذي جعلته حكمة العناية ضابطًا لمجموع نظام الخليقة هو المحبة نفسها التي يختلف اسمها باختلاف موقعها. فها هي هذه المحبة قد صعدت على منبر ذلك النظام العظيم، وشرعت تنادي بصوت الغوامض هكذا: اسمعي أيتها السماء فأتكلم وأنصتي أيتها الأرض. أنا التي قد جمعت شمل الذرات الأولية فكانت أجرامًا تتلامع في قبة السماء، فلماذا دُعيتُ التصاقًا؟ أنا التي قد أوثقت هذه الأجرام برباط الانضمام فكانت أفلاكًا تدور حول بعضها، فلماذا سُمِّيتُ تجاذبًا؟ أنا التي قد ألفت بين العناصر المختلفة فكانت مملكات تزهو بمجد الارتباط، فلماذا لُقِّبْتُ تماسكًا؟ أنا التي قد فتحت في أجناس الحياة مسالك الميل إلى أن تحافظ على أنواعها، فلماذا دُعيتُ تناسُلًا؟ أنا التي قد جمعت أشتات البشر إلى هيئة واحدة فكانوا متعاضدين في حروب الحوادث فلماذا سُميتُ اغتصابًا؟ أنا التي قد قفلت مصارع البحر وأتخمت كبرياء لُججه، فلماذا أُدعَى جزرًا ومدًّا؟ أنا التي حيثما نزلت عمرت وحيثما رحلت خربت، فلماذا لا يُكترث بأمري؟ أنا التي لا تغتني الطبيعة عني ولو طاردتني فلتات الأقدار، فلماذا ينكرني البعض؟ أنا التي اتَّخذني التمدُّن دعامة قوية له وبدوني لا يثبت له بناء، فهل يهدمني إلا كل متوحش؟

ها قد عظمت دعوى المحبة وتفاقمت إلى الغاية؛ لأنها قد جعلت لنفسها ربط العالم بأسره، وجعلت جميع الأسماء المستعملة في التعبير عن القوة المؤلفة مترادفة على معناها، حتى كأنها تَوَدُّ أن تشرح بذاتها معنى تلك المحبة الجوهرية التي قد أنشأها الباري بذاته أزليًّا، وأصدرها كلمة لتدبير الأكوان التي بها كانت وبغيرها لم يكن وبغيرها لم يكن شيء مما كون.

مهلًا مهلًا، فلا عاد يقدر هذا الكلام على إتمام سيره؛ فقد حاولت الاستطراق إليه أشواط المنتقدين، وها غبار أغراضهم بدأ يتصاعد عن بُعد، وكلٌّ منهم فاغر أتون فاه ليقذف دخان التفنيد، فالبعض يعبسون وجوههم ويقولون هو ذا يستنتج من هنا ألوهية حركة الموجودات، وآخرون يرفعون أنوفهم ويقولون: ها. ها. إنما يستفاد من هذا الكلام كون الكلمة ممتزجة ماديًّا في عموم الموجودات. وغيرهم يحملقون بأعينهم ويصيحون: هذا تعليم الماديين نفسه. وهذا فضلًا عمن سيبسط عثنونه ويقول: كيف يسوغ لمن لم يسلم على عتبة مدرسة أن يتكلم عن اللاهوتيات بشيء لم يسعه إدراكه؟ وعلى أي قاعدة أثبت حكم القوة الفاعلة للقوة المنفعلة وضعضع الروحيات بالماديات؟ ثم يشهر المدرسية سيوف الشتائم مجردة من أغماد شهادات مزورة، ولكن ليأخذ حذره من انتقام الشبل عن الأسد.

أما لسان الصواب فيقول لذوي الدقة في التأمُّل هكذا: إن المراد من دعوى المحبة العامة ليس أن تكون هي نفس الذات الإلهية منبثَّة في جزيئات الخليقة، بل إنها هي القوة التي جعلها الله لتحريك الخلائق وتدبير الكائنات تحت أشكال مختلفة تدعى الناموس العام، وإذ ذاك فيكون المراد هو الإشارة إلى أن الإنسان إذا كان يحب نفسه فهو ملزوم تبعًا لهذه المحبة أن يحب شبيهه بالإنسانية تسديدًا لحق كماله الطبيعي؛ وذلك اقتداء بخالقه الذي عندما رأى ذاته ملء الكمال أحب ذاته وبمحبته هذه خلق العالم محبوبًا منه وجعل يدبر هيئة نظامه بما لم تدركه أفكار الطبيعيين؛ فأعطوا لكل حركة اسمًا مبهمًا. فينتج إذن أنه بالمحبة قد قام العالم جميعه، وبالمحبة تتحرك جميع الأشياء، وبالمحبة يثبت كلٌّ من المخلوقات على حدته، وبالمحبة يحافظ الكل على أجزائه وهكذا. فبدون المحبة بين البشر المطبوعين على فطرة الله لا يمكن قيام نظامهم الاجتماعي على الوجه المطلوب؛ إذ إن المحبة هي القوة الوحيدة للتأليف بين أفرادهم المتفرقة على وجه الأرض، والضابط الأول لنظام عالم تمدُّنهم، بخلاف البعض الذي ينزل منزلة القوة الدافعة بين الأجسام فيبعدهم عن بعضهم ويشتت شمل هيئتهم ويسلبهم راحة الحياة المحبوبة لهم بالظفرة الأصلية.

فلا يخطئ من يسمِّي المحبة إلهة الهيئة الاجتماعية بِناءً على ما يصدر عنها من المفاعيل الغريبة والتأثيرات العجيبة بين البشر، فلو أقيم لها وثن في هيكل الذهن لكان على شكل غادةٍ كلها جميلة وليس فيها معاب إذ تجمع من الصفات ما يتقرر في هذه الأبيات:

على وجهها نور الصلاح يلوحُ
ومن ثغرها عطر الفلاح يروحُ
وبرق الهدى من لحظها متألقٌ
ومبسمها بالطيبات يفوحُ
وفي خدها ورد المسرة ينجلي
لنا وبه قطر الهناء صريحُ
وقدٌّ لها يهتز عن طرب كذا
على غصنه طير السلام صدوحُ
رعى الله قلبًا فيه قد صاح صوتها
وقاتل قلبًا فيه ليس تصيحُ
هي الأصل في الأكوان فهي مثابة
لكل قلوب العالمين تريحُ
بها تحسن الدنيا بها تفضل الورى
بها كل شيء صالح ومليحُ
لدى وجهها تجثو القبائل كلها
وكل سجود لا يعاب صحيحُ
بها كافة الأجيال غنت وقد أتى
لها من جميع المنذرين مديحُ
هي الكوكب السيار في فلك الدُّنا
به السعد يغدو والنحوس تروحُ

فلا يسمح التمدن بالدخول تحت لوائه لأحد ما لم ينصب في هيكل قلبه تمثال المحبة مقدمًا بخور الأفكار الطيبة والعواطف الجيدة وصارخًا بلسان الروح هكذا: ها هنا يجلس التمدن على عرش الكمال فتتخذق أمامه بيارق الخشونة ويمزق التوحش ثوبه. هنا تخب بلابل السكون على منابر شجر السلامة فيصمت صياح القلق ويخفي الإضراب صوته، هنا ترن صنوح الأفراح وتضرب طبول البشائر فتخرس صرخات الأكدار ويتلاشى ذويُّ المصائب. هنا يشرق صباح الأعضاء ويتلامع شعاع التغاضي فيغور ديجور الضغينة وتنجاب الظلمة عن الحق، هنا يتبدد دخان الانتقام ويتقشع ضباب الغضب فيتضح أثير الصفح ويتلألأ ضوء الرِّضا، هنا تنفطر صخور القساوة وتمور جبال الجفاء فيجري سلسبيل الشفقة وتتمهد سهول الوفاء، هنا ثغر الابتسام ويضحك محيا الندى فيجم جبين الاكتئاب ويبكي وجه القتار، هنا يفرع غرس التمني، هنا يثمر غصن الرجاء، هنا تدور الهيئة على مركز التمام والكمال، هنا ينثل عرش العبودية وترفع الحرية بيارقها.

فإذا كان يوجد للمحبة أثمار طيبة المخبر وشهية المنظر كهذه الثمرات، فكيف لا تُحسب إذن دعامة راسخة للتمدن؟ نعم إن التمدن لا يستغني عن هذه الدعامة أصلًا، ولا يمكن ثباته بدونها كما لا يمكن وقوف قناطر الهيئة إلا عليها، وبعد ذلك فلا بد من وجوب حد للمحبة لا تتجاوزه لئلا تجانس ضدها في النتائج القبيحة، على أنه ولو كانت المحبة تحسب روح الانتظام البشري وحياته، لكن يوجد للإفراط فيها كثير من النتائج المضرة؛ وذلك كمعارضة السلامة مثلًا لمشروعات الحرب حيثما تكون هذه المشروعات واجبة لإصلاح حالة ما أدبية. وكالمعاملة بالشفقة إذ تكون الصرامة واجبة وكإيقاع الأعضاء والصفح موقع الانتقام الذي ربما يوجد لازمًا للتعليم، وكالإسفار عن الرِّضا بينما تكون لوائح الغضب مطلوبة للتهديد.

هذه عدا ما ينتج عن إفراط المحبة الخصوصية في قلب شخص خصوصي لمحبوبٍ ما فإنه وإن كان أصلًا تتفرع عنه جملة غصون صالحة لتمدن صاحبه كتلطيف الروح وتهذيب الطبع وترفيع العقل والذوق وحسن المعاشرة، إلا أنه إذا بلغ أشده يترك وراءه جملة آفات تنكد عيش المعترى به وتسلبه كل راحته كقهر الحرية الذاتية مثلًا، والاضطرار إلى البطالة، وإهانه الدراهم التي يدعوها البعض إله العيشة، وتسليم النفس إلى تأثير ثوائر الانفعالات الشاقة وتعاقُبها؛ كالحزن فالفرح، والخوف فالجراءة، والتعب فالراحة. وهذا ما خلا التأثيرات الكثيرة التي تفترسه على مَمَرِّ الأوقات، فلا يبرح قلبه في حضرة المعشوق هدفًا لنبال العيون وموقد الجمرات الخدود وموقعًا لرمح القوام وقِدرًا لغليان ماء المُحيَّا. ولا تزال روحه في الغيبة أتونًا لارتفاع لهيب الأشواق والأتواق، ومحلًّا لتناثر شرر الأفكار والتصورات، وميدانًا لمسابقة خيول الأميال والعواطف؛ فيجيء الليل سهرًا وأرقًا، ويقضي النهار تعبًا وقلقًا؛ إذ يرى ذاته ضاربًا في أودية الوحدة والانفراد حيثما يشاهد قلبه طائرًا على أجنحة شياطين الوساوس والأوهام، خائضًا في بحور الآمال والمطامع، وهكذا يرى العالم بأسره كأنه مرسح للغرام ويخال الكائنات جميعها تصوِّر لديه ملعب الهوى وتتنفس بأماراته وخواطره؛ فيظن الشمس ممثلة لديه أشعة جمال الحبيب، ويحسب القمر رسم وجهه مطبوعًا في مرآة الفلك ويخال الأهلة قلامات من ظفره، ويزعم الكواكب أعينًا ترشق نظرات الرقيب، ويفترض الجبال منطوية على معنى أثقال الجوى، أو يظنها أوتاد التمكين خيمة السماء على عالم الهوى، ويرى السحاب سارقًا دموعه والضباب ممثلًا ولوعه. لا بل يرى طوفان نوح كعَبرته ونار الخليل كزفرته، ويتخذ الريح رسولًا لتبليغ الأشواق، ويرى الماء مقلدًا له أنين العشاق، ويعاين الأغصان مترنحة بأعطاف المحبوب، والأطيار شاكية لوعة فراقه، والأزهار نافحة بعطر نفثاته، والغزلان تغزل بنظراته وتفك طلاسم لفتاته ونفراته. وهاك هذا القصيد شرحًا للعشق العنيد:

ماذا ترى في العشق ماذا تزعمُ
يا أيها الصَّبُّ الكئيب المغرمُ
هل فيه غير المؤلمات فدونه
مُقَل تسيل وأكبُدٌ تتضرمُ
إني نفقت العمرَ في سوق الهوى
بَخسًا ولم أربح سوى ما يؤلِمُ
كم ليلةٍ قضَّيتها وظُبَا الجوى
تُدمي الحشى فيسيل من عيني الدمُ
وكأنَّ صوت خفوق قلبي مزعجٌ
صمتَ الظلام فيدلهمُّ ويدهمُ
أصبو إلى برق الربوع إذا بدا
وأضجُّ ما لمعت لديَّ الأنجمُ
أبكي لدى خطرات كل تذكُّر
والأفق يعبِسُ والكواكب تبسِمُ
والليل بحرٌ هاج في عمق السما
فغدا به زبَد المجرة ينجمُ
والشرق يُلقي الشُّهْب في جوف الدجى
والغرب يبتلع الجميع ويهضمُ
وأنا أحير كأنني ضبٌّ وفي
دوح الحشى طير الهوى يترنمُ
في كل جارحة تدبُّ صبابة
وبكل عضو للغرام بدا فمُ
يا أيها الحب الذي تخفى لدى
أصواته كل الحواس وتبلمُ
كم راح يخبط فيك يا وادي البكا
قلبٌ وكم سحقت بسيلك أعظمُ
ما أنت إلا دولة غزت الورى
وبظلمها كلُّ امرئ يتظلمُ
أي السعادة في الغرام لربه
وسحابة البلوى عليه تغيمُ
فحياته مسلوبة ودموعه
مسكوبة وفؤاده متكلمُ
أيرق ربَّ الحب نقطة لذة
وعليه بحر المؤلمات عرمرمُ
إني أرى وقت النعيم كخُلَّبٍ
يمضي وأوقات الشقاق تخيمُ
يا ويح مَن للحب عرَّض نفسه
جهلًا فسوف يذوب فيه ويعدمُ
سلني أيا باغي الهوى أُخبرْك عن
أحواله فأنا به متقدمُ
إني علقت بذات حسنٍ ما بدت
إلا وعنها البدر راح يترجمُ
خودٌ إذا نَضَتِ اللثامَ بدا لنا
قمر بليلِ ذوائبٍ متلثمُ
قد كلَّمتْ أحشايَ بالمقل التي
فيها الجمال مسلِّم ومكلِّمُ
مُقَلٌ لعيني نرجس أو أكؤسٌ
لكنْ لقلبي أَسْيُفٌ أو أسهمُ
من وجهها نور الحياة لأعيني
يجلي ونار فنًا لقلبي تضرمُ
لم ألقَ نفسي مفردًا أو مصحبًا
إلا وشوقي نحوها مستلزمُ
شوقٌ يمثلها لطرفي كلما
غابت فينعم حيثما لا يغنمُ
فهي النسيم تطيب كيف سَرَتْ ولا
عينٌ ترى خطراتها إذ تُقدمُ
ماذا على عيني فؤادي قد جنى
حتى تعاقبه عقابًا يعظمُ
طبعت عليه خيالَ غالبة النهى
فأحاطه لهبٌ ودمعٌ يسحمُ
فأنا بروح الحب مسكونٌ فلِم
للنار أو للماء رحتُ أسلمُ
من لي بها غيداء فوق جبينها
نور المحاسن والتعقُّل يرسمُ
وبسيف صاعقةِ الهوى ألحاظها
قامت تحاربني فأنَّي أسلمُ
أنا لست أنعم في الحياة ولا أرى
حظًّا سوى معها ففيها أنعمُ
وكذاك لا أهنأْ بكل تكلُّم
إن لم أكن معها بها أتكلمُ
فإذا نأت عني أعود على لظًى
وأروح في خرس وعقلي يعقمُ
أترقَّب الطرقات علِّي ألتقي
معها وإن لمع التلاقي أبكمُ
ترنو إليَّ كذاك أرنو نحوها
والوجد في نظراتنا متبسمُ
ونصافح الأيدي وألسنة الهوى
تروي أحاديث اللِّقا وتترجمُ
تمضي فأرقب خطوها ونواظرى
تجثو لدى أقدامها إذ تقدمُ
وأعود في كبدٍ تذوب ومقلةٍ
عَبْرَى وما عندي لسانٌ أو فمُ
أقضي الدجى وأنا أحنُّ إلى غد
وكذا يجيء غدٌ وعمري يصرمُ
يا أيها الغدُ كم غليت دمي على
نار الرَّجا وإلى متى أتتيَّمُ
ولَكَم أحاطت بي تباريح الجوى
وغدا يساعدها القضاء المبرمُ
فهرعت نحو الروض معدوم القوى
أبكي وأفواه الأزاهر تبسمُ
أترقب البلوى وقلبي راقب
عددًا من الآمال لا يترقمُ
قلبٌ به استهوى الهوى عنفًا
إلى وادي العنا فغدا يهيم ويلطمُ

وهاك هذه الأبيات الأُخَر تبيانًا لما ينجم عن الهوى وما يعانيه أخو الجوى:

إلامَ ذاوت الخدر يجذبن أميالي
وحتَّامَ أهوى من تدافع آمالي
عيون المها بالله كفِّي فلم تذر
لكن بقلبي موقعًا ربة الخالِ
ويا ظبيات الأنس نفرًا عن الذي
يحب التي من حبه قلبها خالي
صريع بأدبار التي هدرت دمي
فلا حظَّ لي منكنَّ قط بإقبالِ
مهفهفة تدنو الغصون لقدها
ويعنو لسامي وجهها القمر العالي
ولما تلاقينا معًا بعد هجعةٍ
من البَيْنِ أورث في الحشى كل تشعالِ
لبثنا وكلٌّ مطرق دهشة اللِّقا
وصوت خفوق القلب مستنطق البالِ
وما بيننا الأشواق تلعب في الخفا
وتعرب عن الحال الهوى ألسن الحال
يودُّ التقاء العين بالعين شوقنا
ويمنعُه دمعٌ لأعيننا مالي
فوا عجبًا من عاشق رغب اللِّقا
ومُذ ناله لم يغتنم غير بلبالِ
ولكنني لما تنهدت حسرة
وحاولت إطلاقي لتيار أقوالي
تحرك في أحشائها ساكن الولا
فألقت عليَّ نظرة تنعش البالي
وقالت بصوتٍ أرجفته يد الهوى
ولفظٍ كدرٍّ زان مبسمها الحالي
لك الله من صبٍّ حوى الصبرَ كلَّهُ
فليتك لي أبقيت وزنة مثقالِ
فليس يليق الصبر إلا بمغرمٍ إلى
غير ما يهواه ليس بميالِ
أقلتَ الهوى عند السوى فلك الهنا
ولو مضنى فالقصد بسطك يا قالي
فقلت يمين الله لم أذكر السوى
وحسبك تبريرًا شواهد أفعالي
أنا لست ممن ينشئ الهجر والقلى
ولكنما أنتِ المقيلة إيصالي
غزوتِ جميع العقل مني والقوى
فلم يبقَ لي نطقٌ لأشرح أحوالي
فقد سكنت دون الهوى ألسن النهى
كما حُطَّ عن إدراكه الزكن العالي
أراك فيعروني جمود وبهتةٌ
ولا عجبٌ فالسِّحرُ في وجهك العالي
على عدد الأنفاس ذكركِ في فمي
وشخصكِ في قلبي وعهدكِ في بالي
أبِاتُ الليالي والشئون سواكبٌ
على ما أقاسي من شجونٍ وأهوالِ
على فرط أتواقي على عِظْم لوعتي
على طول أشواقي على سوء إقبالي
كذا يحكم العشق الظلوم بأهله
ويفتنهم فلْيحذرِ الرجلُ الخالي

فينبغي استعمال المحبة إذن على قدر الواجب وحسب الظروف التي تدعو إليها بدون زيادة ولا نقصان، أما ترى كيف أن الرئتين اللتين هما عضوا التنفُّس لا يتناولان من الهواء الذي به تقوم الحياة إلا ما يكفي لقيام هذه الحياة وما لا يؤثر عليهما ضررًا بحيث لو عرضتا بأجمعهما إليه لفتك بهما وبكل الأعضاء عمومًا؛ فلمنع هذا الفتك الشديد تحفظتا منه ضمن حجاب متين وأخذتا تفتكان به رويدًا رويدًا.

فهكذا كل إنسان يجب عليه اعتناق المحبة عامة وخاصة وتحريكها حسب الاقتضاء بدون تسليم ذاته لجميع قوَّاتها حذرًا من فتكها به وتمزيقها جلباب راحته؛ وبذلك تقوم هذه الدعامة الخامسة للتمدُّن أو السلك الذي به تنضم فرائد البشر بعضهم إلى بعض.

وبعد أن ختم الفيلسوف مقالته هذه أثبت عينيه في الأرض قليلًا كأنه يقصد إراحة فمه من كثرة التكلم، وجعل يخط في الثرى. ثم نظر إلى الذي كانت سحنته مرآة ترتسم عليها علامات صغيه وارتياح نفسه، وقال له: هاك دعائم التمدن، فإذا كان الإنسان قد خلق كاملًا في الإنسانية متخلقًا بصفات خلقته ومشبهًا بكمالاته لا يكون عندنا شك إذ ذاك في كون هذه الدعائم مرتكزةً في قلبه حاملة اسم الناموس الطبيعي حسب تعليم الأيتيكا (الفلسفة الأدبية)، ولا يعود لنا ريب بكون تقلُّبات الظروف وكرور الأزمان قد قلقلت تلك الدعامات وأفسدت ذلك الناموس؛ وبِناءً عليه لا يكون عسِرًا تثبيت قلقلة الثابت وإصلاح فساد الصالح، ولا يحتاج هذه الأمر إلى مُضي أجيال وقرون.

فتنحنح القائد ونظر إلى الفيلسوف بدعة وقال له: إن جميع ما شرحته عن التمدُّن وكيفية أصوله وواجباته أعلمه جيدًا، وطالما أتعبت ذاتي في نشره بين الآفاق ورفع رايته، ومع ذلك أشكر فضلك على توضيحك إياه لي، ولكنني لا أزال أرى انتشاره بين شعوب مملكة العبودية عسِرًا وشاقًّا إلى الغاية ولو كانت دعائمه مرتكزةً على قلب الإنسان الطبيعي. ومن المعلوم أن الفساد إذا أخذ سعته في محل ما ومكن ذاته خاصةً تحت مجرى سنين كثيرة فلا يعد إصلاحه إلا ضربًا من العبث، كيف تنصلح الخمر إذا صارت خلًّا؟ كيف يحيا العضو إذا تغنغر (أي أصابته الميتوتة)؟ كيف يرجع الحديد إذا صار صدئًا؟

إن الخمر تنصلح باقتلاع الاستحالة الخلِّيَّة منها بواسطة شيء من القلويات، ويحيا العضو المتغنغر بإرسال المنبهات والمنقيات إليه كأملاح النوشادر والكلس، ويرجع الحديد بتصعيد العنصر الهوائي منه.

وبينما كان الفيلسوف يجاوب القائد على قواعد فن الكيمياء؛ لمع جمهور يتسرب إلى جهة المحفل النوراني، وهو يتشكل بكتلته ويسرع تارة ويبطئ أخرى حسب أهواء عوارض الشجر، وكان يأتي منه صوت صليل حديد، ولم يزل متقربًا حتى نفذ في المرسح الملوكي واستقبل بوجهه طفحات الأشعة، وهناك توقف عن التقرب، وعندما أجلت فيه طرفي وجدته مركبًا من تسعة أشخاص مقيدين من أرجلهم بسلسلة حديد وزنجيين يجرانها من كل جهة، وجملة أشخاص لم أعلم شأنهم، ونظرت رجلًا يتقدم الجمع وهو يعجل بخطواته ويستعجل.

ثم رأيت هذا المتقدِّم قد انفرد عن الجمهور وسار يطلب جهة العرشين، وإذ وصل جثَا على ركبتيه خطفًا ثم نهض وحناها منه بوقار ويداه مضجعتان على جنبيه. فأمعنت النظر فيه وإذا هو وزير محبة السلام، وإذ رآه الملك قال له: هؤلاء جمهور المردة. فأمال الوزير رأسه وأجاب بصوت منتصر: نعم، حُلَّ وثاقهم واجعلهم أمامي صفًّا. فنكص الوزير إلى الوراء ثم التفت للزنجيين وأشار إليهما بحل الوثاق ففعلا، وبينما كان الصف يتركب والأشخاص اللاحقون يبعدون إلى الخلف انحدر القائد والفيلسوف وجلسا حذاء عرش الملكة.


  1. قوله الوجوم: أي العبوس كما في القاموس ا.ه.