عيون الأنباء في طبقات الأطباء/الباب الأول/كيفية وجود صناعة الطب وأول حدوثها/القسم الثالث

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة
ملاحظات: كيفية وجود صناعة الطب وأول حدوثها - القسم الثالث


أن يكون قد حصل لهم شيء منها أيضًا بالاتفاق والمصادفة، مثل المعرفة التي حصلت لاندروماخس الثاني في إلقائه لحوم الأفاعي في الترياق، والذي نشطه لذلك وأفرد ذهنه لتأليفه، ثلاثة أسباب جرت على غير قصد، وهذا كلامه، قال أما التجربة الأولى، فإنه كان يعمل عندي في بعض ضياعي في الموضع المعروف ببورنوس، حراثون يحرثون الأرض للزرع، وكان بيني وبين الموضع نحو فرسخين، وكنت أبكر إليهم لأنظر ما يعملون، وأرجع إذا فرغوا، وكنت أحمل لهم معي على الدابة التي تحت الغلام زادًا وشرابًا لتطيب أنفسهم، ويتجلدوا على العمل، فما زلت كذلك إلى أن حملت الغداء في بعض الأيام، وكنت قد أخرجت إليهم بستوقة خضراء، وفيها خمر، مطينة الرأس لم تفتح، مع زاد، فلما أكلوا الزاد قدموا البستوقة وفتحوها، فلما أدخل أحدهم يده مع كوز ليغرف منها الشراب وجد فيها أفعى قد تهرأ، فأمسكوا عن الشراب، وقالوا إن هاهنا في هذه القرية رجلًا مجذومًا يتمنى الموت من شدة ما به، فنسقيه من ذلك الشراب ليموت، ويكون لنا في ذلك أجر إذ نريحه من وصبه، فمضوا إليه بزاد وسقوه من ذلك الشراب، متيقنين أنه لا يعيش يومه ذلك، فلما كان قريب الليل انتفخ جسمه نفخًا عظيمًا وبقي إلى الغداة ثم سقط عنه الجلد الخارج، وظهر الجلد الداخل الأحمر، ولم يزل حتى صلب جلده وبرأ وعاش دهرًا طويلًا من غير أن يشكو علة، حتى مات الموت الطبيعي الذي هو فناء الحرارة الغريزية، فهذا دليل على أن لحوم الأفاعي تنفع من الأوصاب الشديدة والأمراض العتيقة في الأبدان. وأما التجربة الثانية فإن أخي أبولونيوس كان ماسحًا من قبل الملك على الضياع، وكان كثيرًا ما يخرج إليها في الأوقات الوعرة الرديئة في الصيف والشتاء، فخرج ذات يوم إلى بعض القرى على سبعة فراسخ، فنزل يستريح عند أصل شجرة، وكان الزمان شديد الحر، وأنه نام فاجتازته أفعى فنهشته في يده، وكان قد ألقى يده على الأرض من شدة تعبه، فانتبه بفزع وعلم أن الآفة قد لحقته، ولم يكن به على القيام طاقة ليقتل الأفعى، وأخذه الكرب والغشي فكتب وصية وضمنها اسمه ونسبه، وموضع منزله وصفته، وعلق ذلك على الشجرة، كي إذا مات واجتاز به إنسان، ورأى الرقعة يأخذها ويقرأها ويعلم أهله، ثم استسلم للموت، وكان بالقرب منه ماء قد حصل منه فضلة يسيرة، في جوبة في أصل تلك الشجرة التي علق عليها الرقعة، وكان قد غلبه العطش، فشرب من ذلك الماء شربًا كثيرًا فلم يلبث الماء في جوفه حتى سكن ألمه وما كان يجده من ضربة الأفعى ثم برأ فبقي متعجبًا ولم يعلم ما كان في الماء، فقطع عودًا من الشجرة وأقبل يفتش به الماء، لأنه كره أن يفتشه بيده لئلا يكون فيه أيضًا شيء يؤذيه، فوجد فيه أفعيين قد اقتتلا ووقعا جميعًا في الماء وتهرءا، فأقبل أخي إلى منزلنا صحيحًا سالمًا أيام حياته، وترك ذلك العمل الذي كان فيه، واقتصر بملازمتي، وكان هذا أيضًا دليلًا على أن لحوم الأفاعي تنفع من نهش الأفاعي والحيات والسباع الضارية، وأما التجربة الثالثة فإنه كان للملك يبولوس غلام، وكان شريرًا غمازًا خمانًا فيه كل بلاء، وكان كبيرًا عند الملك يحبه لذلك، وكان قد آذى أكثر الناس، فاجتمع الوزراء والقواد والرؤساء على قتله، فلم يتهيأ لهم ذلك لمكانته عند الملك، فاحتال بعضهم وقال اذهبوا فاسحقوا وزن درهمين أفيونًا وأطعموه أياه في طعامه، أو اسقوه في شرابه، فإن الموت السريع يلحق الناس كثيراً، فإذا مات حملتموه إلى الملك، وليس به جراحة ولا قلبه، فدعوه إلى بعض البساتين، فلم يتهيأ لهم أن يفعلوا ذلك في الطعام فسقوه في الشراب، فلم يلبث إلا قليلًا أن مات، فقالوا نتركه في بعض البيوت ونختم عليه، ونوكل الفعلة بباب البيت، حتى نمضي إلى الملك نعلمه أنه قد مات فجأة ليبعث ثقاته ينظرونه، فلما صاروا بأجمعهم إلى الملك نظر الفعلة إلى أفعى قد خرج من بين الحجر، ودخل إلى البيت الذي فيه الغلام، فلم يتهيأ لهم أن يدخلوا خلفه ويقتلوه لأن الباب كان مختومًا فلم يلبثوا إلا ساعة والغلام يصيح بهم لم قفلتم علي الباب؟ أعينوني قد لسعتني أفعى ومد الباب من داخل وأعانه قوَّام البستان من خارج فكسروه فخرج وليس به قُلْبه، وكان هذا أيضًا دليلًا على أن لحوم الأفاعي تنفع من شرب الأدوية القتالة المهلكة، هذا جملة ما ذكره أندروماخس، ومثل هذا أيضاً، أعني ما حصل بالاتفاق والمصادفة، أنه كان بعض المرضى بالبصرة، وكان قد استسقى ويئس أهله من حياته وداووه بوصفات كثيرة من أدوية الأطباء، فيئسوا منه وقالوا لا حيلة في برئه، فسمع ذلك من أهله، فقال لهم دعوني الآن اتزود من الدنيا وآكل كل ما عن لي ولا تقتلوني بالحمية، فقالوا له كل ما تريد فكان يجلس بباب الدار فمهما جاز اشترى منه وأكل، فمر به رجل يبيع جرادًا مطبوخًا فاشترى منه كثيراً، فلما أكله انسهل بطنه من الماء الأصفر في ثلاثة أيام ما كاد به أن يتلف لإفراطه، ثم أنه عندما انقطع القيام زال كل ما كان في جوفه من المرض، وثابت قوته فبرأ، وخرج يتصرف في حوائجه، فرآه بعض الأطباء فعجب من أمره، وسأله عن الخبر فعرفه، فقال أن الجراد ليس من طبعه أن يفعل هذا، فدلني على بائع الجراد فدله عليه، فقال له من أين تصطاد هذا الجراد؟ فخرج به إلى المكان، فوجد الجراد في أرض أكثر نباتها المازريون، وهو من دواء الاستسقاء، وإذا دفع إلى مريض منه وزن درهم أسهل إسهالاًذريعًا لا يكاد أن يضبط والعلاج به خطر، ولذلك ما تكاد تصفه الأطباء، فلما وقع الجراد عى هذه الحشيشة، ونضجت في جوفه، ثم طبخ الجراد، ضعف فعلها، وأكل الجراد فعوفي بسببها. ومثل هذا أيضاً، أي مما حصل من طريق المصادفة والاتفاق، أنه كان بافلوللن من سليلة اسقليبيوس ورم حار في ذراعه، مؤلم ألمًا شديداً، فلما أشفى منه ارتاحت نفسه إلى الخروج إلى شاطئ نهر كان عليه النبات المسمي حي العالم، وأنه وضعها عليه تبردًا به فخف بذلك ألمه، فاستطال وضع يده عليه، وأصبح من غد فعمل مثل ذلك فبرأ برءًا تاماً، فلما رأى الناس سرعة برئه علموا أنه إنما كان بهذا الدواء وهو على ما قيل أول ما عرف من الأدوية، وأشباه هذه الأمثلة التي قد ذكرنا كثيرة.

عيون الأنباء في طبقات الأطباء - الباب الأول
كيفية وجود صناعة الطب وأول حدوثها | كيفية وجود صناعة الطب وأول حدوثها:القسم الأول | كيفية وجود صناعة الطب وأول حدوثها:القسم الثاني | كيفية وجود صناعة الطب وأول حدوثها:القسم الثالث | كيفية وجود صناعة الطب وأول حدوثها:القسم الرابع | كيفية وجود صناعة الطب وأول حدوثها:القسم الخامس