ونياته ومعاونة أمثاله، ولم يكن معاوية زاهدًا في الخلافة على عهد أبي بكر أو عمر أو عثمان، ولكن الخلافة كانت زاهدة فيه، فلما جاء عصر الملك طلب الملك والملك يطلبه. وهذه حالة لم تطرأ دفعة واحدة في أيام النزاع بين علي ومعاوية، بل ظهرت بوادرها في أيام الصديق، وازدادت ظهورًا في أيام الفاروق، وحدث كما أجملنا ذلك في كتاب ذي النورين أن الصديق «اتخذ الحيطة للفتنة، واستبقى عنده كبار الصحابة؛ ليجمع بين معونتهم له في الرأي وبين تجنيبهم الفتنة ومآزق الولاية، وكان يتذمر من ترخص1 بعض الصحابة في أمور تؤذن بما بعدها، فقال لعبد الرحمن بن عوف وهو على سرير الموت: ما لقيت منكم أيها المهاجرون … رأيتم الدنيا قد أقبلت ولم تقبل، وهي مقبلة حتى تتخذوا ستور الحرير ونضائد الديباج، وحتى يألم أحدكم بالاضطجاع على الصوف الأذربي،2 كما يألم أحدكم إذا نام على حسك السعدان.»3
وانقضى عهد الصديق ثم انقضى عهد الفاروق «والمجتمع الإسلامي مجتمعان: أحدهما ماضٍ ولما يمضِ بأجمعه، والآخر مقبل ولما يقبل بأجمعه، وأوشك عمر على قوته أن يحار في تدبيره، وقال الشعبي: إنه قضى وأوشكت قريش أن تمله لشدته ووقوفه لها، بحيث وقف حائلًا بينها وبين نزعاتها ومطامحها في دنياها الجديدة.»
وتتابعت السنون على أيام عثمان، وهذان المجتمعان يلجان في الافتراق حتى افترقا غاية افتراقهما في النزاع بين علي ومعاوية، فكان علي يكبح تيارًا جارفًا لا حيلة له في السير معه ولا في دفعه، وكان معاوية يركب ذلك التيار رخاء سخاء بغير مدافعة وغير حيرة، ويركبه معه من لا يدافعه ولا يحار فيه … وكأنما بقيت من التيسير هنا والتعسير هناك، فجاءت حصة علي حيث جاء الموالي4 من كل جنس يطلبون الحق الذي يطلبه كل مسلم ممن لا ينكر على أحد حقًّا من الحقوق، وخلت الحصة الأخرى من هؤلاء الموالي، وخلصت للعرب يوم كان العرب وحدهم قوام الدولة في دمشق بين القرشيين واليمانيين.