ورأس الدولة الأموية، معاوية بن أبي سفيان، هو صاحب هذه التبعة التي يجب أن تتقرر بأمانتها العظمى في ميزان لا تلعب به المنافع المقصودة، أو المنافع التي هي أخطر منها على الحقيقة، وهي منافع الطبائع المستسلمة لأيسر المعاذير، يشق عليها الصعود إلى المثل الأعلى، ولو بالأمل وحسن المظنة، ويطيب لها أن تسترسل على هينة1 مع مألوفاتها في كل يوم …
والصفحات التالية تتناول النظر في سيرة معاوية من هذه الوجهة، فليست هي سردًا لتاريخه ولا سجلًا لأعماله ولا معرضًا لحوادث عصره، ولكنها تقدير له وإنصاف للحقيقة التاريخية والحقيقة الإنسانية كما يراها المجتهد في طلبها وتمحيصها، ونكاد نقول كما يراها من لا يجتهد في البعد عنها وإخفاء معالمها، والتوفيق بينها وبين دخيلة هواه من حيث يريد أو لا يريد، وبعض المؤرخين بعد العصر الأموي إلى زماننا هذا يفعلون ذلك حين ينظرون إلى هذه الفترة، فلا تخطئهم من أسلوبهم ولا من حرصهم على مطاوعة أهوائهم، كأنهم صنائع الدولة في إبان سلطانها وبين عطاياها المغدقة، ونكاياتها المرهوبة، ورجالها الذين تنعقد بينهم وبين معاصريهم أواصر المودة، والنسب وأواصر المشايعة في المطالب والمعاذير.
ولولا أننا نأبى أن نضرب الأمثلة بالأسماء لذكرنا من هؤلاء المؤرخين المعاصرين من يتكلم في هذا التاريخ كلامًا ينضح بالغرض، ويشف عن المحاباة بغير حجة، فمنهم من ينكر الخلاف بين هاشم وأمية في الجاهلية، ومنهم من يحسب من همة معاوية أنه تصدی للخلافة مع علي، ويحسب من المآخذ على غيره أنهم تصدوا للخلافة مع يزيد، ومنهم من يشيد بفضل أبي سفيان على العرب؛ لأنه كان تاجرًا يعرف الكتابة والحساب ويعلمهما من يستخدمهم في تجارته، ومنهم من يلوم أهل المدينة؛ لأنهم نكبوا في أرواحهم وأعراضهم على أيدي المسلطين عليهم من جند يزيد، ولا تكاد تسمع منه لومًا لأولئك المسلطين، بل تكاد تسمعه يعذرهم ولا يدري ما يصنعون غير ما صنعوه.
ولو أننا ذكرنا أسماء هؤلاء المؤرخين المعاصرين لكان تمام البيان عن منهجهم أن
نشفعه2 بأطراف من تراجمهم، وألوان من مسالكهم في طلب المنفعة واللياذ بالقادرين