صفحة:معاوية بن أبي سفيان.pdf/14

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة
تم التّحقّق من هذه الصفحة.
تقدير وتصدير

ونحن نفهم تاريخ معاوية، ونفهم معه تواريخ الكثيرين من بناة الدول إذا صححنا الموازين، وعرفنا ما يعرض لها من الانحراف عن قصد أو عن شعور غير مقصود …

ولكننا لا نعرف تاريخ معاوية ولا تواريخ غيره إذا أخذنا بظواهر الأقوال، ولم ننقب وراءها عن بواطن الأهواء والبواعث الخفية، ولا بد منها في هذه المرحلة بذاتها: مرحلة الدولة الأموية الأولى على التخصيص.

لقد كان قيام الدولة الأموية بعد عصر الحلافة حادثًا جللًا بالغ الخطر في تاريخ الإسلام، وتاريخ العالم.

 

وما كان أحد ليطمع في بقاء عصر الخلافة على سنة الصديق والفاروق أبد الآبدين ودهر الداهرين؛ لأن اطراد النسق من ولاة الأمر على هذه الطبقة العليا من الخلق والتقوى أمر تنوء به طاقة بني الإنسان.

فما كان دوام الخلافة الصديقية أو الفاروقية بمستطاع على طول الزمن، وما كان قيام الملك بعد الخلافة بالأمر الذي يؤجَّل إلى زمن بعيد.

ولكن الملك بعد الخلافة كان على مفترق طريقين: كان في الوسع أن يسير على مشابه الخلافة ملكًا بارًّا نقيًّا مصونًا من بذخ الهرقلية والكسروية، وسائر ضروب الملك في عصوره الخالية.

وكان في الوسع أن يسير على مشابه الملك في العصور الخالية بذخًا ومتاعًا، وزينة وخيلاء كخيلاء العواهل من القياصرة والشواهين.

كان في الوسع أن يبتدئ الملك في تاريخ العالم على النهج الصديقي أو الفاروقي، وإن لم يبلغ هذا المدى من النزاهة والصلاح، وكان هذا النهج خليقًا أن يظل إمامًا للرعية يتوارثونه، ويقتدون به ويحميهم نكسة الأخلاق والآداب قرونًا وراء قرون من بقايا الوثنية وأوشاب1 المادية، وما شابهها من آداب تدور على النفع العاجل، وتقبل المعاذير منه في أخطر الأمور …

كان في الوسع هذا، وكان في الوسع ذاك.

ونشأة الدولة الأموية على مفترق هذين الطريقين هي الحادث الجلل في صدر الإسلام، وهي الحادث الجلل الذي يقرر تبعتها في التاريخ الإسلامي، بل في التاريخ العالمي كله.


  1. أوشاب: عيوب.
١٣